المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وقد رجح في الفتوحات أن قوله: {إِلا بِالْحَقِّ} مفعول مطلق، - أطيب النشر في تفسير الوصايا العشر - ٦٩ - ٧٠

[مرزوق بن هياس الزهراني]

الفصل: وقد رجح في الفتوحات أن قوله: {إِلا بِالْحَقِّ} مفعول مطلق،

وقد رجح في الفتوحات أن قوله: {إِلا بِالْحَقِّ} مفعول مطلق، أي إلا القتل المتلبس بالحق1.

قوله: {ذَلِكُمْ} إشارة إلى الوصايا المتقدمة. والكاف والميم: للخطاب، ولا حظّ لهما من الإعراب.

قوله: {النَّفْسَ} أي جنس نفس الإنسان، فالألف واللام لتعريف الجنس، كقولهم:

أهلك الناس حب الدرهم والدنيا. والله عز وجل يقول: {إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} 2 فالمراد الجنس.

الضمير في قوله: {وَصَّاكُمْ} محله النصب، لأنه ضمير موضوع لمخاطبة الجمع.

وفى وصى ضمير تقديره: هو، فاعل يعود على لفظ الجلالة أي: وصىّ الله تعالى عباده بذلك.

ب- المفردات:

الحق: واحد الحقوق، هو ضد الباطل3.

تعقلون: من العقل، والمراد في الآية العلم4 الذي يستفيده الإنسان من التأمل في هذه الوصايا.

1 انظر (الإرشاد 3/ 199، والفتوحات 2/ 09 1) .

2 الآية (19) من المعارج.

3 انظر (الصحاح 1/ 281 واللسان 0 1/ 49. والمفردات ص 341)

4 انظر (الآية 98 من البقرة) .

ص: 52

‌الإيضاح:

إن المتأمل للآية الكريمة يجد أن قتل النفس المحرمة من جملة الفواحش، وقد أفرده رب العزة فهو من باب ذكر الخاص بعد العام، وقد أجاب العلماء رحمهم الله عن هذا منهم الإمام الرازي رحمه الله قال: اعلم أن هذا داخل في جملة الفواحش، إلا أنه أفرده تعالى بالذكر، لفائدتين:

1-

أن الإفراد بالذكر يدل على التعظيم، والتفخيم كقوله تعالى:{وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} 5.

2-

أن الفواحش لا يستثنى منها فلا يقال: لا تقربوا الفواحش إلا بالحق. وهو وارد في القتل فجاء إفراده لفرض الاستثناء أيضا6 وإذا تدبر الإنسان كتاب الله عز وجل يجد

1 انظر (ترتيب القاموس 3/ 277. والمفردات ص 341)

2 الرازي 13/233.

ص: 52

بكثرة ورود النهي عن هذه المنكرات الثلاث متتابعاً، النهي عن الشرك، والنهي عن الزنا، والنهي عن قتل النفس ولعل في هذا توجيهاً للأنظار إلى أن هذه الأمور الثلاثة تشترك في صفة القتل، فإذا نظرنا إلى جريمة الشرك نجد أنها قتل للقلوب وإماتة للفطرة التي فطر الله الناس عليها. فالقلوب التي لا تعيش على التوحيد قلوب ميتة، قد قضي على ما فيها من فطرة يؤيد هذا الفهم قوله تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} 1 الآية. فليس المراد موت الأجساد بخروج الأرواح منها، بل المراد موت القلوب بخلوها من نور الحق، وبرهان الشرع، والشرع لا يقوم إلا على اعتقاد سليم وبرهان قويم. وجريمة الزنا قتل للجماعة حساً ومعنىً، فالجماعة التي تشيع فيها الفاحش جماعة ميتة معنوياً من حيث عدم وجود الغيرة التي من أعظم الأسباب في حماية المجتمع من هذا الوباء القاتل ولذلك وصف بها النبي ربه عز وجل فقال:"ما من أحد أغير من الله عز وجل" 2 فإذا قتلت الغيرة في الجماعة استشرى الخطر، وعم البلاء، أما قتلها حساً فإن مصيرها إلى الفناء والدمار لا محالة لاندفاعها خلف هذه الشهوة المحرمة حتى بلغت مستوى الدواب بل هم أضل سبيلا. وقد جاء في بلاغات الإمام مالك عن ابن عباس أنه قال: "

ولا فشا الزنا في قوم قط إلا كثر فيهم المَوت

"3 قال ابن عبد البر: "قد رويناه متصلاً عنه، ومثله لا يقال بالرأي"4. ويؤيد قوله هذا أن ابن ماجة قال: حدثنا محمود بن خالد الدمشقي5، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن أبو أيوب6، عن ابن أبي مالك7 عن أبيه8 عن عطاء بن أبي رباح9، عن عبد الله بن عمر قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع، التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا

" 10 الحديث. وله شاهد من حديث ميمونة أخرجه الإمام أحمد رحمه الله11. وفي نظري أن هذا الخبر لا يقل

1 الآية (122) من الأنعام.

2 الصحيح مع الفتح 13/383، وصحيح مسلم 4/2113.

3 الموطأ 2/460.

4 قاله محمد فؤاد تعليقاً على المصدر السابق. ولا أراه إلا في التمهيد. ولم أقف عليه.

5 ثقة، مات سنة سبع وأربعين ومائتين.

6 صدوق يخطئ من رجال البخاري مات سنة ثلاث وثلاثين ومائتين.

7 خالد بن يزيد بن عبد الرحمن ضعيف، مع كونه فقيهاً، قد اتهمه ابن معين، مات سنة خمس وثمانين.

8 يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك، صدوق ربما وهم، مات سنة ثلاثين ومائة أو بعدها.

9 ثقة، كثير الإرسال، مات سنة أربع عشرة ومائة.

10 ابن ماجه 2/ 1332.

11 المسند 6/ 333.

ص: 53

عن درجة الحسن لغيره وأنه كما قال ابن عبد البر رحمه الله: "مثله لا يقال بالرأي"، والواقع يؤيده بعد مضي أكثر من ألف وأربعمائة سنة، يظهر الوباء الذي لم يعهد من قبل، ويهدد العالم الذي فشا فيه الزنا ولا ريب أنه الموت الذي ذكره ابن عباس وهوا لطاعون الذي ذكره ابن عمر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو العقاب الذي ذكره الإمام أحمد من حديث ميمونة رضي الله عنها، وهو (الإيدز) 1 كما يسميه عالم الحضارة اليوم، فهل آن الأوان لأبناء الإسلام أن يرجعوا إلى حمى الإسلام فيحتموا به من قتل القلوب والمجتمعات. وجاء النهي الثالث يحرم الاعتداء على جنس النفس البشرية يجعل قتلها بغير حق فاحشة عظيمة وكبيرة، يعاقب الله عليها بأشد العقاب، ولذلك أجمع المسلمون على تحريم القتل بغير حق اعتمادا على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل يخاطب عباده في هذه الوصية بأن لا تقتلوا النفس التي حرم قتلها بالإسلام، أو عقد الذمة، أو العهد، أو الاستئمان، فيدخل في عموم النفس كل أحد إلا الحربي، ففي هذه الوصية حرم قتل النفس عامة. وكذلك في قوله تعالى:{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} 2. وأكد على النفس المؤمنة تكريماً لها وتنويها بشأنها وإلا فهي داخلة في العموم قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطَأً} 3 الآية وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} 4. كما نصت السنة المطهرة على تحريم قتل المعاهد، تنويهاً بمبادئ الإسلام، وتربية لأمة الإسلام على حفظ العهود والمواثيق والعهد يشمل الأمرين السابقين، عقد الذمة، والاستَئمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما"5. وأخرج الترمذي بسنده من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا من قتل نفسا معاهداً له ذمة الله وذمة رسوله، فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا". قال: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح"6. وهذا غيض من فيض.

1 وباء هذا العصر نتيجة الخروج عن الآداب الإسلامية. والإنسانية والانحطاط إلى مستوى الحيوان بل أدنى من ذلك وقد نشرت جريدة الشرق الأوسط في عددها 3413 الصادر في يوم السبَت 08/8/1408 هـ أن عدد الإصابات بهذا الوباء والذي تم إبلاغ منظمة الصحة العالمية بها وصل إلى 85273 إصابة في العالم. وما خفي أعظم.

2 الآية 33 من الإسراء.

3 الآية (92، 93) من النساء.

4 الآية (92، 93) من النساء.

5 الصحيح مع الفتح 12/259.

6 الجامع 4/ 20.

ص: 54

قوله: {إِلا بِالْحَقِّ} .

المراد به ما يبيح قتل النفس التي حرم الله قتلها شرعاً. ومنه المذكور في الأسباب الآتية:

1-

النفس بالنفس قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} 1 الآية وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 2.

2-

الوقوع في الزنا بعد الإحصان. وقد جاء في كتاب الله عز وجل مما بقي حكمه ونسخت تلاوته "الشيخ والشيخة فَأرجموهما البتة"3 يعني إذا زنيا فذاك عقابهما وجاء في الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل دم إمرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث، الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة"4.

3-

المرتد عن الدين، التارك لجماعة المسلمين. كما ورد في الحديث آنفا.

4-

المحاربون لشرع الله الذين يسعون بالفساد في الأرض. ومنهم قطاع الطرق، وما يسمون بالإرهابيين اليوم، والساطون على أعراض الناس، ودمائهم، وأموالهم. قال تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} 5 الآية.

ثم إنه تعالى لما بين أحوال هذه الوصايا الخمس أتبع ذلك اللفظ الذي يقرب إلى القلوب القبول فقال: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} لما فيه من الشمول للأمر والنهي، ولما فيه من اللطف والرأفة، كل ذلك ليكون القلب أقرب إلى القبول، ثم أتبعه عز وجل بقوله:{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ولعل هنا ليست على بابها، أي لكي تعقلوا فوائد هذه الوصايا في الدين والدنيا. ومن تأمل قوله:{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} يجد أن استخدام اسم الإشارة للبعيد له دلالة تنبئ عن عظمة هذه الوصايا وبعد ما ترمي إليه من إصلاح الدين والدنيا، وما فيها من الحكم والأحكام الإلهية التي تضمنت الكمال المطلق في الهداية والتوجيه، وإصلاح الإنسانية في كل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

1 الآية (45) من المائدة.

2 الآية (179) من البقرة.

3 انظر (الموطأ 2/ 824) .

4 انظر (الصحيح مع الفتح 12/ 201 وصحيح مسلم 3 / 1302) .

5 الآية (33) من المائدة. ولتمام الفائدة انظر (الرازي 13/233) .

ص: 55

ولما كانت الوصية الخامسة تنهى عن القتل بغير حق فإنه يحسن الكلام عن القتل وأقسامه.

إن الدارس لهذه القضية يجد أن الأكثرين من العلماء يرون القتل أقساماً ثلاثة:

1-

العمد 2- شبه العمد 3- الخطأ.

وممن يرى هذا التقسيم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ولهما فيه قضاء1 وبه قال الشعبي، والنخعي، وقتادة، والثوري، والإمام الشافعي، ِ والإمام أحمد، وأهل العراق، وأصحاب الرأي رحم الله الجميع، ونقل عن الإمام مالك رحمه الله أنه أنكر شبه العمد وقال:"ليس في كتاب الله عز وجل إلا العمد، والخَطأ"، فهو لا يعمل بشبه العمد، وجعله من قسم العمد. وحكى عنه مثل قول الجماعة2.

ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور ما أخرجه أبو داود وقال: حدثنا سليمان بن حرب3ومسدد4 قالا: حدثنا حماد5، عن خالد6، عن القاسم بن ربيعة7، عن عقبة بن أوس8، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "

ألا إن دية الخطأ شبه العمد، ما كان بالسوط والعصا، مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها"9. وهذا الحديث الذي لا يقل عن درجة الحسن نص يصد ما نقل عن الإمام مالك رحمه الله من إنكاره شبه العمد، وقد زاد أبو الخطاب قسماًَ رابعاًَ، وسماه (ما أجري مجرى الخطأ) نحو أن ينقلب نائم على شخص فيقتله، أو يقع عليه من علو، ومنه القتل بالسبب، كحفر البئر، ونصل السكين، ومنه قتل غير المكلف، فقد أجري مجرى الخطأ، وإن كان عمداً، لكن هذه الصورة التي ذكرها أبو الخطاب رحمه الله هي عن الأكثرين من قسم الخطأ، لأن صاحبها ليس من أهل القصد الصحيح، ولذلك أعطوه حكم الخطأ لأنه خطأ في الواقع. ويحسن في هذه العجالة إعطاء فكرة مبسطة عن كل قسم.

1 انظر سنن أبي داود 4 /685.

2 المغني مع الشرح الكبير 9 / 322.

3 البصري، إمام حافظ ثقة، مات سنة أربع وعشرين ومائتين.

4 ابن مسرهد، البصري، ثقة، حافظ، أول من صنف المسند مات سنة ثمان وعشرين ومائتين.

5 ابن زيد، البصري، ثقة، ثبت فقيه، مات سنة تسع وسبعين ومائة.

6 ابن مهران، الحذاء، ثقة، يرسل، من كبار الخامسة.

7 ابن جوشن، البصري، ثقة، من الثالثة.

8 البصري، صدوق من الرابعة.

9 أبو داود 4/ 711-712.

ص: 56

1-

العمد: هو أن يقصد شخص قتل آخر بما يراه قاتلا في العادة كالسيف، والخنجر، والطلقات النارية وغيرها من الأمور القاتلة. وهذا القسم ثبت بكتاب الله عز وجل قال الله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} 1 الآية.

2-

شبه العمد: هو أن يقصد شخص ضرب آخر بما لا يقتل غالباً، إما لقصد العدوان عليه، أو لقصد التأديب له فيسرف فيه، ويتجاوز الحد المعقول في ذلك، كالضرب بالسوط، والعصا، والحجر الصغير ونحو ذلك.

وهذا القسم ثبت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد ذكرنا آنفاً حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن دية الخطأ شبه العمد، ما كان بالسوط، والعصا، مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها"2. وقد قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أخرج الإمام البَخاري بسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة، عبد أو وليدة، وقضى أن دية المرأة على العاقلة"3. فاعتبره صلى الله عليه وسلم شبه عمد إذ أوجب الدية على العاقلة، ولو اعتبره عمداً لما حملت العاقلة الدية، لأنها لا تحمل العمد. وقال أبو داود: حدثنا محمد بن يحي بن فارس4، حدثنا محمد بن بكار بن بلال العاملي5، أخبرنا محمد- يعنى ابن راشد6- عن سليمان- يعني ابن موسى7- عن عمر وبن شعيب8، عن أبيه9، عن جده10، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"عقل شبه العمد مغلظ، مثل عقل العمد، ولا يقتل صاحبه"11. فهذه نصوص من السنة صحيحة تثبت شبه العمد، خلافاًَ لما نقل عن الإمام مالك رحمه الله.

3-

الخطأ: هو أنٍ يفعل الشخص فعلاً لا يريد به الاعتداء علىِ أحد من البشرِ فيخطئ هدفه ويصيب إنساناً فيقتله، مثاله. أن يرمي صيداً فيصيب إنساناًَ، أو يلقي شيئاًَ

1 الآية (93) من النساء.

2 أخرجه أبو داود 4/ 711-712.

3 الحديث متفق عليه وهذا لفظ البخاري (الصحيح مع الفتح 12/ 252) .

4 الذهلي، ثقة، حافظ، جليل، مات سنة ثمان وخمسين ومائتين.

5 صدوق، مات سنة ست عشرة ومائتين.

6 المكحولى، صدوق يهم، مات بعد ستين ومائة.

7 الأموي، الأسدق، صدوق فقيه، في حديثه بعض لين، من الخامسة.

8 ابن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، صدوق، مات سنة ثمان عشرة ومائة.

9 شعيب بن محمد، صدوق، من الثامنة.

10 عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.

11 سنن أبي داود 4/ 694.

ص: 57

فيقع على مارٍ، أو يقود سيارة فيعترضه شخص فيدهسه ونحو ذلك.

والخطأ على قسمين أيضاً:

1-

أن يفعل الشخص ما يجوز له فعله مما سبقت الإشارة إليه ونحو، فيؤل ذلك إلى إتلاف إنسان حر، مسلماً كان أو كافراً.

2-

أن يكون في أرض العدو فيقتل من يظنه كافرا. فيصبح المقتول مسلماً. فهذا قسم من الخطأ وإن كانت الصورة صورة عمد لعدم قصد قتل المسلم. وقد ثبت القتل الخطأ بكتاب الله عز وجل قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} 1 الآية. وهذه التقسيمات مستفادة من المغني والشرح الكبير2.

5-

الامتناع عن أداء حق واجب الأداء من حقوق الله عز وجل ومنه الزكاة مثلاً فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يتردد في قتال مانعي الزكاة، بل أخذ ذلك بحزم وشدة، أخرج الإمام البخاري بسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:"لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكَان أبو بكر رضي الله عنه3، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر رضي الله عنه4: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله". فقال5:"والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم على منعها، قال عمر رضي الله عنه: فو الله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه، فعرفت أنه الحق"6. وهذا مما سنه أبو بكر رضي الله عنه ووافقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسرعان ما شرح الله صدر عمر رضي الله عنه وعرف أنه الحق، ونحن مأمورون بإتباع الخلفاء الراشدين قال أبو داود رحمه الله: حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ثور بن يزيد7 قال: حدثني خالد بن معدان8 قال: حدثني عبد

1 الآية (92) من النساء.

2 9/ 338.

3 يعني خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

4 مخاطباً أبا بكر رضي الله عنه لما أمر بقتال المرتدين والمانعين للزكاة.

5 أبو بكر رضي الله عنه،

6 انظر (الصحيح مع الفتح 3/ 262، 322، 2 1/ 275، 13/ 250،) غير أنه قال (عقالا) ولمزيد الفائدة انظر (البداية والنهاية 6/ 311) .

7 أبو خالد، الحمصي، ثقة.

8 أبو عبد الله، الحمصي، ثقة، يرسل كثيرا.

ص: 58

الرحمن بن عمرو السلمي1، وحجر بن حجر2 قالا: أتينا العرباض بن سارية3، وهو ممن نزل فيه {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} 4 فسلمنا وقلنا:"أتيناك زائرين، وعائدين، ومقتبسين"، فقال العرباض:"صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون.." فذكر الحديث وفيه "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ.."5.

6-

قد يجب قتال غير من سلف ذكرهم. وذلك في أحوال كمن قصد قتل رجل، أو أخذ ماله، أو الاعتداء على عرضه، فيجوز قتله على سبيل الدفاع عن النفس والمال والعرض يؤيد هذا ما أخرجه الإمام البخاري بسنده من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قتل دون ماله فهو شهيد" 6 وأخرجه الإمام الترمذي وزاد في رواية: "ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد" قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"7. قال النووي رحمه الله: "فيه جواز قتل من قصد أخذ المال بغير حق، سواء كان المال قليلاً أو كثيراً، وهو قول الجمهور، وشذ من أوجبه"، قال ابن المنذر: والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع إذا أريد ظلماً، بغير تفصيل، إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره، وترك القيام عليه. قال ابن بطال: "إنما أدخل البخاري هذه الترجمة في هذه الأبواب ليبين أن للإنسان أن يدفع عن نفسه، وماله ولاشيء عليه، فإنه إذا كان شهيداً إذا قتل في ذلك فلا قود عليه، ولا دية إذا كان هو القاتل"8. ويؤيد هذه الأقوال ما أخرجه الإمام مسلم بسنده من حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: "أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تعطه مالك" قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله" قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت

1كلاهما مقبول، وتابعهما يحي بن أبي المطاع وهو صدوق، أخرج حديثه ابن ماجة 1 /15 وهو عند الترمذي من طريق السلمي وحده (الجامع 5/ 44) .

2كلاهما مقبول، وتابعهما يحي بن أبي المطاع وهو صدوق، أخرج حديثه ابن ماجة 1 /15 وهو عند الترمذي من طريق السلمي وحده (الجامع 5/ 44) .

3 صحابي من أهل الصفة.

4 الآية (92) من التوبة.

5 أبو داود 5 /13-15.

6 الصحيح مع الفتح 5 /123 وأخرجه الإمام مسلم 1 /125.

7 الجامع 4 /29-30 وأخرجه أبو داود 5 /128وهو عند النسائي وأبن ماجة.

8 ذكر هذه النقول الحافظ في الفتح5 /124.

ص: 59