المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌التمهيد: في تعريف المسجد وبيان أهميته ومكانته وفضل عمارته تعريف المسجد: المسجد لغة: - القول الأحمد في أحكام في حرمة المسجد

[عبد الله السهلي]

الفصل: ‌ ‌التمهيد: في تعريف المسجد وبيان أهميته ومكانته وفضل عمارته تعريف المسجد: المسجد لغة:

‌التمهيد:

في تعريف المسجد وبيان أهميته ومكانته وفضل عمارته

تعريف المسجد:

المسجد لغة: هو مفعل بالكسر اسم لمكان السجود.

والفتح اسم للمصدر.

والمَسْجَدُ بالفتح: جبهة الرجل حيث يصيبه ندب السجود1.

والمسجد شرعاً:

هو كل موضع من الأرض لقوله صلى الله عليه وسلم: “جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً” 2.

وهذا من خصائص هذه الأمة قال القاضي عياض:

“لأن من كان قبلنا، كانوا لا يصلون إلا في موضع يتيقنون طهارته، ونحن خصصنا بجواز الصلاة في جميع الأرض إلا ما تيقنا نجاسته”3.

وقال القرطبي: “هذا ما خص الله به نبيه، وكانت الأنبياء قبله إنما أبيحت لهم الصلوات في مواضع مخصوصة كالبّيع والكنائس” 4.

قال الزركشي: ولما كان السجود أشرف أفعال الصلاة لقرب العبد من ربه اشتق اسم المكان منه فقيل مسجد، ولم يقولوا مركع.

1 انظر لسان العرب 3/204، المصباح المنير 1/316، تاج العروس 2/371، الصحاح 2/483.

2 أخرجه البخاري 1/86 في كتاب التيمم في أول كتاب التيمم. ومسلم 1/371 في كتاب المساجد ومواضيع الصلاة في أوله.

3 انظر شرح صحيح مسلم 5/4، إعلام الساجد بأحكام المساجد 27.

4 انظر الجامع لأحكام القرآن 2/78، إعلام الساجد بأحكام المساجد 27.

ص: 367

ثم إن العرف خصص المسجد بالمكان المهيأ للصلوات الخمس حتى يخرج المصلى المجتمع فيه للأعياد ونحوها فلا يعطى حكمه1.

أهمية المسجد ومكانته وفضل عمارته:

المسجد بيت الله وأحب البقاع إليه ولقد وضع الله للناس أول بيت من بيوته في الأرض وأشرفها، وهو المسجد الحرام ليقام فيه دينه، كما قال تعالى {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} 2.

قال ابن كثير، رحمه الله: يخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس، أي لعموم الناس لعبادتهم ونسكهم، يطوفون به ويصلون إليه، ويعتكفون عنده {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} يعني الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل عليه السلام3.

ومما يدل على مكانة المسجد وعظم منزلته عند الله أنه سبحانه هو الذي فضل المساجد، ورغب في بنائها وعمارتها، حساً ومعنى، وجعل أصل وظائفها ذكره، وإقام الصلاة له، وهي أهم أركان عبادته بعد الشهادتين، اللتين هما عبادته وذكره، كما قال تعالى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} 4.

والله سبحانه وتعالى، هو مالك كل شيء نسب المساجد إليه، فليست هي لأحد سواه، كما أن العبادة التي كلف الله عباده إياها لا يجوز أن تصرف

1 انظر إعلام الساجد بأحكام المساجد 28، تحفة الراكع والساجد 12، معجم لغة الفقهاء 428.

2 آية 96 من سورة آل عمران.

3 انظر تفسير القرآن العظيم 2/63.

4 آية 26، 27 من سورة النور.

ص: 368

لسواه، كما قال تعالى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 1.

على القول بأن المراد بالمساجد في الآية أماكن الصلاة2.

ويُؤخذ من كون المساجد لله، انه تعالى هو الذي يشرع فيها ما يريد، سواء كان ذلك يتعلق ببنائها وكيفيته أم يتعلق بما يجب فيها، وما يندب، وما يباح، وما يكره وما يحرم، فليس لأحد من الخلق أن يتدخل في شؤون المساجد إلا بما أذن الله، ومن تدخل فيها بما لم يأذن به الله، فقد تعدى حدوده.

ومما يدل على مكانة المسجد عند الله أن عمّاره مادياً ومعنوياً هم صفوة خلقه من الأنبياء والمرسلين، وأتباعهم من عباده المؤمنين، فقد كان باني الكعبة أبو الأنبياء إبراهيم وابنه إسماعيل. كما قال تعالى {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 3.

وقال تعالى في عمار سائر المساجد {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} 4.

ووعد الله سبحانه وتعالى من بنى له بيتاً في الأرض ـ أي بنى مسجداً لله تعالى ـ أن يبني له بيتاً في الجنة، كما في حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “من بنى لله مسجداً بنى الله له كهيئته في الجنة” 5.

1 آية 18 من سورة الجن.

2 انظر الجامع لأحكام القرآن 19/20.

3 آية 127، 128 من سورة البقرة.

4 آية 18 من سورة التوبة.

5 أخرجه البخاري 1/116 في كتاب الصلاة باب من بنى مسجداً، ومسلم 1/378 في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب فضل بناء المساجد والحث عليها.

ص: 369

ومما يدل على مكانتها شهود الملائكة للصلاة فيها واستماعهم للذكر، جاء في فضل الجمعة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “.... فإذا حضر الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر” 1.

إن مكانة المسجد في المجتمع المسلم تظهر بجلاء من كون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستقر به المقام عندما وصل إلى حي بني عمرو بن عوف في قباء حتى بدأ ببناء مسجد قباء، وهو أول مسجد بني في المدينة وأول مسجد بني لعموم الناس 2.

وكذلك عندما واصل سيره صلى الله عليه وسلم إلى قلب المدينة كان أول ما قام به تخصيص أرض لبناء مسجده، ثم الشروع في بنائه.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً في سفر أو حرب، وبقى فيه مدة اتخذ فيه مسجداً يصلي فيه أصحابه، رضي الله عنهم، كما فعل في خيبر وفي غزوة الخندق3.

وكان صلى الله عليه وسلم يصلي لذوي الأعذار في بيوتهم في مكان منها ليتخذوه مسجداً، كما في قصة عتبان بن مالك الأنصاري4 رضي الله عنه كل ذلك يدل على مكانة المسجد وعدم استغناء المسلم عنه في أي مكان حل، وأنه لا تخلو منه الأحياء والدور والمنازل في سفر ولا حضر.

من المسجد ينطلق صوت المؤذن في اليوم والليلة خمس مرات في كل أرجاء المعمورة، فيستجيب له ملايين الناس، تاركين كل شيء وراءهم، ليقووا

1 أخرجه البخاري 2/223 في كتاب الجمعه باب الاستماع إلى الخطبة يوم الجمعة.

2 انظر تفسير القرآن العظيم 4/150.

3 انظر وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى 3/1028، 1204.

4 أخرجه مسلم 1/455 في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب الرخصة عن التخلف عن الجماعة بعذر.

ص: 370

صلتهم بربِهم ويؤدوا له ما فرض عليهم في بيوته التي أذن أن ترفع ويذكر فيها اسمه.

فالمسجد هو مقر إقامة الصلاة المفروضة، والذي يتخلف عنه يسم نفسه بسمة النفاق وهذا ما فهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يتخلف عن صلاة الجماعة بدون عذر إلا منافق معلوم النفاق.

وللمسلمين عيد أسبوعي يجتمع فيه أهل كل حي في أكبر مساجدهم في غاية النظافة، وبأجمل اللباس، وبأطيب الروائح، أفضلهم أجراً من جاء مبكراً إلى المسجد، وذلك لحضور صلاة الجمعة، والإنصات لخطبتها قبل الصلاة، وليس هناك خطبة يجب الإنصات لها دون لغو ولا عبث كخطبتي الجمعة.

وهناك صلوات النوافل التي تسن إقامتها في المسجد، منها تحية المسجد عند دخوله. وكذلك صلاة ركعتين بين الأذان والإقامة من كل صلاة ولا مانع من أداء النوافل الراتبة قبل الصلاة وبعدها في المسجد وإن كان الأفضل أداؤها في المنازل.

وكذلك صلاة العيدين، يجوز أداؤها في المسجد، وإن كان الأفضل أن تقام في الصحراء، وكذلك صلاة الاستغاثة، وفي المسجد تقام صلاة الكسوف لكسوف الشمس وصلاة الخسوف لخسوف القمر ومع كل تلك الصلوات يسن أن يخطب الإمام الناس خطبة فيها تناسب المقام وكذلك الصلاة على الجنائز التي اعتادها المسلمون لكثرة المصلين، ويرجى من الخير للميت مع وجود الكثرة ما لا يرجى مع القلة في الغالب.

ومن الأعمال الصالحة التي تؤدى في المسجد قراءة القرآن بتدبر وخشوع وحفظه والاجتماع لتدارسه، كما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه

"وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة

ص: 371

وذكرهم الله فيمن عنده" 1.

ومن ذلك ذكر الله سبحانه: ما كان مقيداً منه بعدد ووقت، كالذكر أدبار الصلوات من تسبيح وتحميد وتهليل، وما كان غير مقيد كالذكر المطلق الذي شرع الله الإكثار منه وكالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرها.

ومنها الاعتكاف المشروع ـ وهو المكث في المسجد مدة معينة من الزمن تطول أو تقصر ليصلي ويدعو ويقرأ القرآن، ويذكر الله تعالى ويتأمل حاله وحال المسلمين ويحاسب نفسه ويخلو مع خالقه ويبكي على خطيئته ويجدد توبته ويتعرض لنفحات الله بعد أن تعلق قلبه بربه في أحب البقاع إليه يرجو أن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله....” وذكر منهم: “رجل معلق قلبه في المساجد، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه” 2.

والمسجد مدرسة للعلم والتعليم، ومنبت التربية والتثقيف منه يتخرج العلماء والأبطال والقادة والمفكرون وفيه يلتقي المسلمون على مائدة القرآن والسنة.

وهو مركز دعوة ومنبر توجيه، فكم نور قلوباً وعمر أفئدة وأزال عنها أوحال الجاهلية وغبش الضلال، وجعلها مؤمنة تقية نقية، مجاهدة قانتة مطيعة عمرت الأرض بالطاعة والإصلاح ونشرت في أنحاء واسعة من المعمورة، فكانت قرآنا يمشي على الأرض ينير للناس مناهج الحق ويهديهم سبيل الرشاد.

1 أخرجه مسلم 3/2074 في كتاب الذكر باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر.

2 أخرجه البخاري 1/161 في كتاب الأذان باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد، ومسلم 1/715 في كتاب الزكاة باب فضل إخفاء الصدقة.

ص: 372

ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يفعل في المساجد ما لم تبن له فنهى عن البيع والشراء في المسجد وعن إنشاد الضالة وعن إيذاء المصلين والملائكة برائحة كريهة كأكل ثوم أو بصل أو كراث أو نحوها1، وحث ورغب في صيانة المساجد وتنزيهها عن القذى والأذى والحدث وعن اللغو والفحش واللغط والعبث وعن كل ما فيه انتهاك لحرمتها ورتب الجزاء الأوفى على تعاهد نظافة المساجد وصيانتها.

والخلاصة: أن للمساجد مكانة عظيمة في الإسلام فهي متعددة الأغراض متشعبة المهام ينبغي على المسلمين أن يهتموا بها ويحرصوا على عمارتها حسياً ومعنوياً، ويصونوها عن كل ما يدنسها أو ينتهك حرمتها أو يلغي من وظائفها أو اعتباراتها أو يتلف شيئاً من أدواتها.

1 سيأتي بيان ذلك والاستدلال له.

ص: 373