الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: في دخول المشرك المسجد
اختلف الفقهاء في دخول المشرك المسجد على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يجوز للمشرك دخول المساجد كلها إلا المسجد الحرام.
وبه قال الشافعية والحنابلة في رواية والظاهرية إلَاّ أن الشافعية والحنابلة قيدوا الدخول بإذن الإمام أو من يقوم مقامه1.
القول الثاني: لا يجوز للمشرك دخول المساجد مطلقاً.
وبه قال المالكية وبعض الشافعية والحنابلة في رواية هي المذهب وللحنابلة رواية في التفريق بين أهل الذمة وغيرهم2.
القول الثالث: يجوز للمشرك دخول المساجد كلها حتى المسجد الحرام.
وبه قال أبو حنيفة وأحمد في رواية3.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بالكتاب والسنة والمعقول.
1 انظر الحاوي 2/268، المهذب 2/231، روضة الطالبين 10/231، مغني المحتاج 4/247، المغني 13/245، المبدع 3/425، كشاف القناع 34/137، الإنصاف 4/239، المحلى 4/243.
2 انظر قوانين الأحكام الشرعية 64، حاشية الدسوقي 1/139، الجامع لأحكام القرآن 8/104، المتقي 7/192، الحاوي 2/268، روضة الطالبين 10/310، مغني المحتاج 4/247، المغني13/245، المبدع 3/245، الأنصاف 4/241- 242.
3 انظر بدائع الصنائع 1/64، شرح فتح القدير 5/271، أحكام القرآن 3/88، 89، عمدة القارئ 4/199- 200، الإنصاف 4/242.
فمن الكتاب:
قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} .
وجه الدلالة من الآية:
أنها نص صريح في منع المشركين من دخول المسجد الحرام لأن لا ناهية والنهي يفيد التحريم، وفيها دلالة على أن غير المسجد الحرام مخالف له في الحكم المعلق به1.
واعترض على هذا الاستدلال من وجهين:
1) إما أن يكون النهي خاصاً بالمشركين الذين كانوا ممنوعين من دخول مكة وسائر المساجد، لأنهم لم تكن لهم ذمة، وكان لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف وهم مشركو العرب.
2) أو أن يكون المراد منعهم من دخول مكة للحج والعمرة2.
وقد يعترض على هذا الاعتراض:
بأن الآية صريحة الدلالة في منع المشركين من قربان المسجد الحرام3.
ومن السنة:
أـ حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد. فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال. سيد أهل اليمامة. فربطوه بسارية من سواري المسجد. فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “ماذا عندك؟ يا ثمامة! ” فقال: عندي يا محمد خير. إن تقتل تقتل ذا دم. وإن تنعم تنعم على
1 انظر الجامع لأحكام القرآن 8/104، محاسن التأويل 8/3078.
2 انظر أحكام القرآن للجصاص 3/88،89.
3 انظر الحاوي 2/268.
شاكر. وإن كنت تريد المال فسل تُعط منه ما شئت. فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان من الغد. فقال: “ماذا عندك؟ يا ثمامة! “ فقال عندي: ما قلت لك. إن تُنْعِم تُنعِم على شاكر. وإن تقتل تقتل ذا دم. وإن كنت تريد المال فسل تُعط منه ما شئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أطلقوا ثمامة “ فانطلق إلى نخل قريب من المسجد. فاغتسل. ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلَاّ الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله1
…
“ الحديث.
وجه الدلالة من الحديث:
أن الحديث صريح الدلالة في جواز دخول المشرك المسجد فقد أدخل ثمامة المسجد وربط بسارية من سواريه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه كلما جاء يصلي ويكلمه ثم أكرمه الله بالإسلام بعد ذلك.
ب ـ حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وفيه ـ بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله، ثم قال لهم أيكم محمد والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم فقلنا هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال له الرجل ابن عبد المطلب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد على في نفسك فقال سل عما بدا لك2.... “ الحديث.
وجه الدلالة من الحديث:
قال السبكي: الحديث يدل على جواز دخول الكافر المسجد إذا كانت له فيه حاجة3.
1 أخرجه البخاري 1/120 في كتاب الصلاة باب دخول المشرك المسجد، ومسلم 2/1386 واللفظ له في كتاب الجهاد باب ربط الأسير وحبسه.
2 أخرجه البخاري 1/23 في كتاب العلم باب ما جاء في العلم.
3 انظر المنهل العذب المورود 4/109.
واعترض على دخول المشرك في الحديثين للمسجد: بأن ذلك كان متقدماً على نزول الآية أو أن كلاً منهما واقعة عين فلا ينبغي أن تدفع بها الأدلة وقد يمكن أن يقال أنه إنما ربط ثمامة في المسجد لينظر حسن صلاة المسلمين واجتماعهم عليها، وحسن آدابهم في المسجد فيستأنس بذلك ويسلم وكذلك كان1.
واعترض على هذا الاعتراض:
بأن الحديثين صريحا الدلالة في جواز دخول الكافر المسجد وما اعترض به عليهما لا دليل عليه2.
ج ـ حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم فاشترطوا أن لا يحشروا ولا يعشروا ولا يجبوا3 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ لكم أن لا تحشروا ولا تعشروا ولا خير في دين ليس فيه ركوع “ 4.
وجه الدلالة من الحديث:
أنه واضح الدلالة على جواز دخول الكافر للمسجد يقول الامام الخطابي “وفي هذا الحديث من العلم أن الكافر يجوز له دخول المسجد لحاجة له فيه أو
1 انظر الجامع لأحكام القرآن 8/105.
2 انظر الحاوي 2/268.
3 قوله ((لا تحشروا)) معناه: الحشر في الجهاد والنفير له، وقوله ((وأن لايعشروا)) معناه: الصدقة أي لا يؤخذ عشر أموالهم. وقوله ((أن لا يجبوا)) معناه: لا يصلوا، وأصل التجبية أن يكب الإنسان على مقدمه ويرفع مؤخره " انظر معالم السنن 3/421.
4 أخرجه أبو داود 3/421 في كتاب الإمارة والخراج باب ما جاء في خبر الطائف، وابن ماجه 1/559 في كتاب الصلاة باب فيمن أسلم في شهر رمضان، وابن خزيمة 2/285 في أبواب الأفعال المباحة في الصلاة، والبيهقي 2/444 في كتاب الصلاة باب المشرك يدخل المسجد وصححه ابن خزيمة.
للمسلم إليه”1.
د ـ حديث أبي هريرة صلى الله عليه وسلم قال: “أتى اليهود النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه فقالوا: يا أبا القاسم في رجل وامرأة زنيا”2.
وجه الدلالة من الحديث:
أن الحديث قد دل على جواز دخول الكافر المسجد لأن اليهود دخلوا على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فلم ينكر عليهم ولم يمنعهم من الدخول ولو كان ذلك غير جائز لمنعهم.
واعترض على الاستدلال بهذين الحديثين:
بأن ذلك كان قبل نزول الآية.. ولأنه كان بالمسلمين حاجة إليهم، وأنهم كانوا يخاطبون الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد سمعوا الدعوة منه ـ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليخرج لكل من قصده من الكفار3.
واعترض على هذا الاعتراض:
بأن ذلك كان قبل نزول الآية أو بعدها لافرق لأن الآية خاصة بالمسجد الحرام فلا تتعداه إلى غيره من المساجد4.
ومن المعقول:
1 انظر معالم السنن 3/421.
2 أخرجه البخاري مطولاً 8/30 في كتاب الحدود باب أحكام الذمة وإحصائهم إذا زنوا ورفعوا إلى الإمام، ومسلم 2/1326 في كتاب الحدود باب رجم اليهود في الزنا، وأبو داود 1/328 في كتاب الصلاة باب ما جاء في المشرك يدخل المسجد وهذا اللفظ المختصر له.
3 انظر أحكام القرآن لابن العربي 2/914، مطالب أولي النهى 2/617.
4 انظر أحكام القرآن لابن العربي.
أن الأصل في دخول الكافر المسجد هو الجواز ما لم يخش الأذى منه، ولم يرد في الشرع ما يخالف هذا الأصل إلَاّ في المسجد الحرام فيبقى على وفق الأصل1.
أدلة أصحاب القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني بالكتاب والسنة والمعقول.
فمن الكتاب:
1-
وجه الدلالة من الآية:
أن الآية عامة في منع المشركين من دخول سائر المساجد، وقد دلت على المنع من دخول المسجد الحرام نصاً، والمنع من دخول المساجد الأخرى تنيهاً على التعليل بالشرك أو النجاسة أو العلتين جميعا. قال تعالى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} فسماه الله تعالى نجساً فلا يخلو أن يكون نجس العين أو نجس الذات، وأي ذلك كان فمنعه من المسجد واجب لأن العلة موجودة فيه وهي النجاسة، والحرمة موجودة في المسجد3.
وقد يُعترض على هذا الاستدلال:
أن الآية خاصة بالمسجد الحرام، ولا تتعداه إلى غيره فقد نصت عليه فتقصر عليه4.
1 انظر التفسير الكبير 16/26.
2 آية 28 سورة التوبة.
3 انظر الجامع لأحكام القرآن 8/105، أحكام القرآن لابن العربي 2/913ـ914.
4 انظر معالم التنزيل 2/281، تفسير القرآن العظيم 4/73.
2-
وجه الدلالة من الآية:
أن المسلم السكران وكذلك الجنب يمنعان من قربان الصلاة، والنهي عن قربان الصلاة نهي عن قربان موضعها وهو المسجد فمنع الكافر من باب أولى2.
وقد يعترض على هذا الاستدلال.
بأن الآية واردة في شأن الحائض والجنب وليست في شأن الكافر وليس في الآية ما يدل على منع الكافر من دخول المسجد.
3-
وجه الدلالة من الآية:
أن الكافر ليس له أن يدخل المسجد بحال4.
أعترض على هذا الاستدلال:
بأن الآية نزلت في مشركي مكة، وأراد بالمساجد المسجد الحرام منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من حجه والصلاة فيه عام الحديبيه، وإذا منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يعمره بذكر الله فقد سعوا في خرابها. أولئك ما كان
1 آية 43 سورة النساء.
2 انظر تحفة الراكع والساجد ص 198.
3 آية 114 من سورة البقرة.
4 انظر الجامع لأحكام 2/78.
لهم أن يدخلوها إلَاّ خائفين، يعني: أهلَه مكة1.
ومن السنة:
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في شأن الأعرابي الذي بال في المسجد وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا ولا القذر وإنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن “ 2.
وجه الدلالة من الحديث:
أن الكافر نجس ولا يخلو عن هذه القاذورات التي لا تصلح أن تكون في المسجد، وأيضاً المساجد لذكر الله عز وجل، وإقامة الصلاة ن وقراءة القرآن، والكافر لا يفعل شيئاً من ذلك فيمنع من دخول المساجد3.
واعترض على هذا الاستدلال:
بأن الحديث لا يدل على ما ذهبوا إليه وغاية ما يدل عليه هو وجوب تنظيف المساجد وتطهيرها من الأوساخ والقاذورات ولهذا ذكره الإمام مسلم رحمه الله تحت باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد4.
ومن المعقول:
أن حدث الحيض والنفاس والجنابة يمنع المقام في المسجد فحدث الشرك
1 انظر معالم التنزيل 1/107.
2 أخرجه البخاري 1/62 في كتاب الوضوء باب يهريق الماء على البول، ومسلم 1/237 في كتاب الطهارة باب وجوب غسل البول واللفظ له.
3 انظر الجامع لأحكام القرآن 8/104.
4 انظر صحيح مسلم 1/237 كتاب الطهارة باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد.
أولى1.
ولأن الكافر أسوأ من الحائض والجنب فإنه نجس بنص القرآن {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} 2 بخلاف الحائض والجنب فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم “المؤمن لا ينجس “ 3 ومع هذا لا يجوز لهم دخول المسجد والكافر من باب أولى. وقد انضم إلى حدث جنابته شركه فتغلظ المنع4.
ومن القياس:
قياس سائر المساجد على المسجد الحرام بجامع أنها كلها بيوت الله كبيت الله الحرام فيمنعون من دخولها كما يمنعون من دخول بيت الله الحرام5.
واعترض على هذا:
أن هذه الأدلة العقلية لا تقوى على معارضة ومقاومة النصوص الواردة في إباحة الدخول. أما قياس سائر المساجد على المسجد الحرام بجامع أنها كلها بيوت الله فلاشك أن المساجد كلها بيوت الله، لكن المسجد الحرام ليس كغيره من بيوت الله، فله خصائص وميزات ينفرد بها عن غيره6 فمن أجل ذلك يمنع الكافر من دخوله.
1 انظر المغني 13/247.
2 آية 28 من سورة التوبة.
3 أخرجه البخاري 1/75 في كتاب الغسل باب عرق الجنب وأن المؤمن لاينجس، ومسلم 1/282 في كتاب الحيض باب الدليل على أن المسلم لا ينجس، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4 انظر مطالب أولي النهي 2/617.
5 انظر المسائل الفقهية من كتاب 2/386 الروايتين والوجهين.
6 انظر أحكام أهل الذمة 1 /188.
أدلة أصحاب القول الثالث:
أدلة جواز دخول المشرك المسجد الحرام:
قاسوا جواز دخولهم المسجد الحرام على جواز دخول المشرك المسجد النبوي وغيره من المساجد إذ إن المسجد الحرام له حكم سائر المساجد في الأصل إلَاّ ما خصه الدليل ولم يأت دليل يخص هذا1.
والآية سبق بيان المراد بها2.
بالنسبة لجواز دخول المشرك سائر المساجد غير المسجد الحرام فاستدلوا بأدلة أصحاب القول الأول وقد سبق الكلام عليها3.
وقد أجيب عن هذا الاستدلال بما يأتي:
1) أنه قياس فاسد وباطل لأنه في مقابل النص الوارد في تحريم دخول المشركين المسجد الحرام وهو قوله تعالى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} 4.
2) أن للمسجد الحرام خصائص وأحكاماً تخالف غيره من المساجد، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله ولا يصح هذا القياس فإن لحرم مكة أحكاماً يخالف بها المدينة5.
الراجح بعد عرض أقوال الفقهاء وما ورد عليها من اعتراضات:
يتضح أن الراجح في المسألة هو أن المشرك لا يجوز له دخول المسجد
1 انظر أحكام القرآن للجصاص 3/88.
2 انظر ص 404-405.
3 انظر ص 404-410.
4 آية 28 من سورة التوبة.
5 انظر أحكام أهل الذمة 1/188.
الحرام لأن قول الله عز وجل {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} . نص صريح في منعهم لا يقبل التأويل ولأن ما ذكر من تأويل للآية تأويل باطل وغير صحيح.
ولأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مكَّن مشركاً من دخول المسجد الحرام ولاعن الصحابة من بعده.
ولأن تطهير المسجد الحرام من الكافرين ومن أقذارهم واجب ولا يكون إلَاّ بمنعهم من قربانه أو دخوله.
أما بقية المساجد فيجوز للمشرك دخولها ولكن دخوله مقيد بإذن الإمام أو من يقوم مقامه ومقيد بعدم خرابها أو العبث بها أو توسيخها وذلك لصراحة الأدلة الدالة على ذلك كحديث ثمامة وحديث اليهوديين اللذين زنيا، وحديث وفد ثقيف وغيرها من الأحاديث ولا يتصور إدخالهم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَاّ بإذنه أو بأمر منه.
ولأن دخولهم المساجد لسماع كلام الله أو مشاهدة أداء فروضه قد يكون سبباً في إسلامهم وهدايتهم.