المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصلفي تحريم الإفتاء في دين الله بالرأي المتضمن لمخالفة النصوص - أعلام الموقعين عن رب العالمين - ط عطاءات العلم - جـ ١

[ابن القيم]

الفصل: ‌فصلفي تحريم الإفتاء في دين الله بالرأي المتضمن لمخالفة النصوص

وقال علي بن شَقيق: قيل لابن المبارك: متى يفتي الرجل؟ قال: إذا كان عالمًا بالأثر، بصيرًا بالرأي

(1)

.

وقيل ليحيى بن أكثم: متى تحبُّ

(2)

للرجل أن يفتي؟ فقال: إذا كان بصيرًا بالرأي، بصيرًا بالأثر

(3)

.

قلت: يريدان

(4)

بالرأي القياس الصحيح والمعاني والعلل الصحيحة التي علَّق الشارع بها الأحكام، وجعَلهَا مؤثِّرةً فيها طردًا وعكسًا.

‌فصل

في تحريم الإفتاء في دين الله بالرأي المتضمِّن لمخالفة النصوص

، والرأيِ الذي لم تشهد له النصوصُ بالقبول

قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]. فقسَّم الأمر إلى أمرين لا ثالث لهما: إما الاستجابة لله والرسول وما جاء به، وإما اتباع الهوى؛ فكلُّ ما لم يأتِ به الرسولُ فهو من الهوى

(5)

.

(1)

"الفقيه والمتفقه"(2/ 332). ورواه البيهقي في "المدخل"(187)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(1532) وسنده صحيح.

(2)

ع، ف:"يجب"، وكذا في النسخ المطبوعة، وهو تصحيف.

(3)

رواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه"(2/ 333).

(4)

س، ع، ف:"يريد".

(5)

سيأتي نحوه مرة أخرى. وانظر: "الصواعق"(4/ 1526) و"روضة المحبين"(ص 548).

ص: 98

وقال تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]. فقسَّم سبحانه طريقَ الحكم بين الناس إلى الحقِّ وهو الوحي الذي أنزله الله على رسوله

(1)

، وإلى الهوى وهو ما خالفه.

وقال تعالى لنبيِّه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18 - 19]. فقسَّم الأمر بين الشريعة التي جعله هو

(2)

سبحانه عليها، وأوحى إليه العملَ بها، وأمَر الأمَّة [25/ب] بها؛ وبين اتباع أهواء الذين لا يعلمون. فأمر بالأول، ونهى عن الثاني.

وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3]. فأمَر باتباع المُنْزَل منه خاصَّة، وأعلَمَ أنَّ من اتبع غيرَه فقد اتبع من دونه أولياء

(3)

.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل إعلامًا بأنَّ

(1)

س، ع:"رسله".

(2)

ت، ع:"جعله الله".

(3)

انظر نحوه في "الرسالة التبوكية"(ص 51)، وسيستدل بالآية أكثر من مرة في هذا الكتاب.

ص: 99

طاعة الرسول تجب استقلالًا من غير عرضِ ما يأمر

(1)

به على الكتاب. بل إذا أمَر وجبت طاعته مطلقًا، سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنه أُوتي الكتابَ ومثلَه معه. ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالًا، بل حذَف الفعلَ، وجعَل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول إيذانًا بأنهم إنما يطاعون تبعًا لطاعة الرسول

(2)

. فمَن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته. ومَن أمر منهم بخلاف ما جاء به الرسول، فلا سمعَ له ولا طاعة، كما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"

(3)

، وقال:"إنما الطاعة في المعروف"

(4)

، وقال في ولاة الأمور:"من أمركم منهم بمعصية الله فلا سمع له ولا طاعة"

(5)

.

(1)

في النسخ المطبوعة: "أمر".

(2)

انظر مثل هذا الكلام في "الرسالة التبوكية"(ص 43 - 44).

(3)

رواه البزار (1988) من حديث ابن مسعود بسند ضعيف. ورواه الطبراني (18/ 170) بسند ضعيف عن الحسن، عن عمران بن حصين مرفوعا، والمحفوظ عن الحسن روايتُه الحديثَ مرسلا، كما رواه من طريقه ابن أبي شيبة (34406)، والخلال في "السنة"(58). وله طريق أخرى عن عمران مرفوعا عند الحسن بن أحمد المخلدي في "الفوائد المنتخبة"(125)، وأبي سعيد النقاش في "ثلاثة مجالس من أماليه"(11)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(873). ورواه البغوي في "شرح السنة"(2455) من حديث النواس بن سمعان مرفوعا، وسنده ضعيف. وللحديث طرقٌ وشواهدُ كثيرة تدلّ على صحة معناه ليس هذا مجال سردها.

(4)

جزء من حديث علي بن أبي طالب، أخرجه البخاري (4340) ومسلم (1840) ..

(5)

رواه بمعناه أحمد (11639)، وابن ماجه (2863)، وابن خزيمة في "السياسة"[من صحيحه](كما في "إتحاف المهرة" 5/ 373)، وابن حبان (4185)، والحاكم (كما في "إتحاف المهرة")، وصحّحه أيضا البوصيري في "مصباح الزجاجة"(3/ 176)، والسند حسن إن شاء الله، وله شواهد في الصحيحين وغيرهما.

ص: 100

وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن الذين أرادوا دخولَ النار لمَّا أمرَهم أميرُهم بدخولها أنهم لو دخلوا لما خرجوا منها

(1)

، مع أنهم إنما كانوا يدخلونها طاعةً لأميرهم، وظنًّا أن ذلك واجب عليهم. ولكن لما قصَّروا في الاجتهاد، وبادروا [26/أ] إلى طاعته

(2)

في معصية الله

(3)

، وحمَّلوا عمومَ الأمر بالطاعة ما

(4)

لم يُرِده الآمر صلى الله عليه وسلم وما قد عُلِم من دينه إرادةُ

(5)

خلافه، فقصَّروا في الاجتهاد، وأقدموا على تعذيب أنفسهم وإهلاكها من غير تثبُّت وتبيُّن هل ذلك طاعة لله ورسوله أم لا. فما الظنُّ بمن أطاع غيرَه في صريح

(6)

مخالفة ما بعث الله به رسولَه؟ ثم أمر تعالى بردِّ ما تنازع فيه المؤمنون إلى الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأخبرهم أن ذلك خيرٌ لهم في العاجل، وأحسنُ تأويلًا في العاقبة.

وقد تضمَّن هذا أمورًا. منها: أن أهل الإيمان قد يتنازعون في بعض الأحكام، ولا يخرجون بذلك عن الإيمان. وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام، وهم سادات المؤمنين وأكملُ الأمة إيمانًا، ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل

(1)

جزء من حديث علي السابق.

(2)

يعني: "طاعة الأمير".

(3)

ع: "طاعة من في

". وفي النسخ المطبوعة: "طاعةِ مَن أمر بمعصية الله"، وكأنه تصرف من بعض الناشرين.

(4)

ع: "مما"، وفي النسخ المطبوعة:"بما".

(5)

لفظ "إرادة" ساقط من ع.

(6)

"صريح" ساقط من ت.

ص: 101

كلُّهم على إثبات

(1)

ما نطق به الكتاب والسنة كلمةً واحدةً، من أولهم إلى آخرهم. لم يسوموها تأويلًا، ولم يحرِّفوها عن مواضعها تبديلًا، ولم يبدُوا لشيء منها إبطالًا

(2)

، ولا ضربوا لها أمثالًا، ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها، ولم يقل أحد منهم: يجب صرفُها عن حقائقها وحملُها على مجازها. بل تلقَّوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، وجعلوا الأمر فيها كلِّها أمرًا واحدًا، وأجرَوها على سَنَن واحد. ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع حيث جعلوها عِضين، وأقرُّوا بعضها

(3)

وأنكروا بعضها من غير فرقان مبين، مع أن اللازم لهم فيما أنكروه كاللازم فيما أقرُّوا به وأثبتوه.

[26/ب] والمقصود: أن أهل الإيمان لا يُخرجهم تنازعُهم في بعض مسائل الأحكام عن حقيقة الإيمان، إذا ردُّوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، كما شرَطه الله عليهم بقوله:{فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]. ولا ريب أنَّ الحكم المعلَّق على شرط ينتفي عند انتفائه

(4)

.

ومنها: أن قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} نكرة في سياق الشرط تعُمُّ كلَّ ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين: دِقَّه وجِلَّه، جليَّه وخفيَّه. ولو لم يكن

(1)

"إثبات" ساقط من ت.

(2)

في حاشية ح كتب بعضهم: "إشكالًا"، كأنه اقتراح منه.

(3)

ع، ف:"ببعضها"، وكذا في النسخ المطبوعة. وكان في ح كما أثبت، فزاد بعضهم باء الجر في أوله.

(4)

وانظر: "الرسالة التبوكية"(ص 47).

ص: 102

في كتاب الله وسنة رسوله

(1)

بيانُ حكمِ ما تنازعوا فيه ولم يكن كافيًا لم يأمر بالرِّد إليه، إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرَّدِّ عند النزاع

(2)

إلى من لا يوجد عنده فصلُ النزاع.

ومنها: أنَّ الناس أجمعوا أنَّ

(3)

الردَّ إلى الله سبحانه هو الردُّ إلى كتابه، والردَّ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الردُّ إليه نفسِه في حياته، وإلى سنَّته بعد وفاته

(4)

.

ومنها: أنه جعل هذا الردَّ من موجِبات الإيمان ولوازمه، فإذا انتفى هذا الردُّ انتفى الإيمان ضرورةَ انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه؛ ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين، فكلٌّ

(5)

منهما ينتفي بانتفاء الآخر. ثم أخبرهم أنَّ هذا الردَّ

(6)

خير لهم، وأنَّ عاقبته أحسن عاقبة.

ثم أخبر سبحانه أنَّ مَن تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسولُ فقد حكَّم الطاغوتَ وتحاكم إليه. والطاغوت: كلُّ ما تجاوز به العبدُ حدَّه من معبود أو متبوع أو مطاع. فطاغوتُ كلِّ قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله. فهذه طواغيت العالم [27/أ] إذا تأمَّلتَها وتأمَّلتَ أحوالَ الناس معها رأيت أكثرهم ممَّن أعرض عن عبادة الله إلى

(1)

ما عدا س، ت:"كتاب الله ورسوله"، وكذا في النسخ المطبوعة.

(2)

ع: "التنازع".

(3)

س، ع:"على أن".

(4)

انظر: "الرسالة التبوكية"(ص 47). و"تفسير الطبري"(8/ 504 - 505 شاكر).

(5)

ع: "وكلٌّ".

(6)

"الرد" ساقط من ع.

ص: 103

عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله وإلى رسوله

(1)

إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته. وهؤلاء لم يسلكوا طريقَ الناجين الفائزين من هذه الأمة ــ وهم الصحابة ومن تبعهم ــ ولا قصدوا قصدَهم، بل خالفوهم

(2)

في الطريق والقصد معًا.

ثم أخبر تعالى عن هؤلاء بأنهم إذا قيل لهم: تعالَوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول أعرضوا عن ذلك، ولم يستجيبوا للداعي، ورضُوا بحكم غيره.

ثم توعَّدهم بأنهم إذا أصابتهم مصيبة في عقولهم وأديانهم وبصائرهم وأبدانهم وأموالهم، بسبب إعراضهم عما جاء به الرسول وتحكيمِ غيره والتحاكُمِ إليه، كما قال تعالى:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة: 49] اعتذروا بأنهم إنما قصدوا الإحسان والتوفيق، أي بفعل ما يُرضي الفريقين ويوفِّق بينهما، كما يفعله من يَرُوم التوفيقَ بين ما جاء به الرسول وبين ما خالفه، ويزعُم أنه بذلك محسِن قاصِد للإصلاح

(3)

والتوفيق. والإيمانُ إنما يقتضي إلقاء الحرب بين ما جاء به الرسول وبين كلِّ ما خالفه من طريقة وحقيقة وعقيدة وسياسة ورأي. فمَحْضُ الإيمانِ في هذا الحرب، لا في التوفيق؛ وبالله التوفيق.

ثم أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يحكِّموا رسولَه في كلِّ ما شجَر بينهم من الدقيق والجليل. ولم يكتفِ في إيمانهم بهذا

(1)

س: "وإلى الرسول". وفي ع: "ورسوله".

(2)

ت: "خالفوا".

(3)

ع: "الإصلاح"، وكذا في النسخ المطبوعة.

ص: 104

التحكيم بمجرَّده حتى ينتفي [27/ب] عن صدورهم الحرجُ والضيقُ عن قضائه وحكمه، ولم يكتفِ منهم أيضًا بذلك حتى يسلِّموا تسليمًا، وينقادوا انقيادًا

(1)

.

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. فأخبر سبحانه أنه ليس لمؤمن أن يختار بعد قضائه وقضاء رسوله، ومن يختَرْ

(2)

بعد ذلك فقد ضلَّ ضلالًا مبينًا

(3)

.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]. أي لا تقولوا حتى يقول، ولا تأمروا حتى يأمر، ولا تُفتوا حتى يُفتي، ولا تقطعوا أمرًا حتى يكون هو الذي يحكُم فيه ويمضيه

(4)

. روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة

(5)

. وروى العوفي عنه قال: نُهُوا أن يتكلَّموا بين يدي كلامه

(6)

.

والقول الجامع في معنى الآية: لا تعجلوا بقول أو فعل

(7)

قبل أن يقول

(1)

انظر نحوه في "الصواعق"(3/ 828) و"زاد المعاد"(1/ 39).

(2)

س، ت:"تخيّر"، وكذا في النسخ المطبوعة.

(3)

انظر نحوه في "الرسالة التبوكية"(ص 40) و"الزاد"(1/ 40) و"المدارج"(2/ 185).

(4)

وانظر: "إغاثة اللهفان"(1/ 11) و"الصواعق"(3/ 997) و"المدارج"(2/ 367).

(5)

رواه محمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة"(715)، وابن جرير في "جامع البيان"(21/ 335)، وأبو نعيم في "الحلية"(10/ 398)، وأبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام"(266).

(6)

رواه ابن جرير في "جامع البيان"(21/ 336).

(7)

ع: "ولا فعل"، وكذا في النسخ المطبوعة.

ص: 105

رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يفعل.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]. فإذا كان رفعُ أصواتهم فوق صوته سببًا لحبوط أعمالهم، فكيف تقديمُ آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياساتهم ومعارفهم على ما جاء به، ورفعُها عليه؟ أوَ ليس هذا أولى أن يكون مُحبِطًا لأعمالهم

(1)

؟

وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62]. فإذا جعَل من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهبًا

(2)

إذا كانوا معه إلا باستئذانه، فأولى أن يكون من لوازمه أن لا [28/أ] يذهبوا إلى قول ولا مذهب علمي إلا بعد استئذانه. وإذنُه يُعرَف بدلالة ما جاء به على أنّه أذِن فيه

(3)

.

وفي "صحيح البخاري"

(4)

من حديث أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال: حجَّ علينا عبد الله بن عمرو بن العاص، فسمعته يقول: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا ينزِع العلمَ بعد إذ أعطاكموه انتزاعًا، ولكن ينزِعه معَ قبضِ

(5)

العلماء بعلمهم، فيبقى ناسٌ جُهَّالٌ يُستفتَون، فيُفْتُون برأيهم،

(1)

وانظر: "الوابل الصيب"(ص 20 - 21) و"الصواعق"(3/ 997).

(2)

بعده في ت: "حتى يستأذنوه"، وهو مقحم.

(3)

وانظر: "المدارج"(2/ 368).

(4)

برقم (100، 7307). وأخرجه مسلم (2673).

(5)

ت: "بقبض".

ص: 106

فيَضِلُّون ويُضِلُّون".

وقال وكيع: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينزِع الله العلمَ من صدور الرجال، ولكن ينزع العلمَ بموت العلماء، فإذا لم يُبْقِ عالِمًا اتخذ الناسُ رؤساءَ جُهَّالًا، فقالوا بالرأي، فضلُّوا وأضلُّوا"

(1)

.

وفي "الصحيحين"

(2)

من حديث عروة بن الزبير قال: قالت لي

(3)

عائشة: يا ابن أختي بلغني أنَّ عبد الله بن عمرو مارٌّ بنا إلى الحج، فَالْقَه، فاسأله، فإنه قد حمَل عن النبي صلى الله عليه وسلم علمًا كثيرًا. قال: فلقيتُه، فسألته عن أشياء يذكرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عروة: فكان فيما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله لا ينزِع العلم من الناس انتزاعًا، ولكن يقبِض العلماءَ، فيرفع العلمَ معهم، ويبقى في الناس رؤوس جهال يُفتونهم بغير علم، فيَضِلُّون ويُضِلُّون". قال عروة: فلما حدَّثتُ عائشةَ بذلك أعظمَتْ ذلك وأنكرَته، قالت: أحدَّثك أنه سمع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم[28/ب] يقول هذا؟ قال عروة: نعم. حتَّى إذا كان عامٌ قابلٌ قالت لي

(4)

: إن ابن عمرو قد قدِمَ، فَالْقَه، ثم فاتِحْه حتى تسأله عن

(1)

رواه ابن حزم في "الإحكام"(6/ 39) من طريق أبي ثور الكلبي، عن وكيع به. وقد أغرب أبو ثور الفقيه بإدراج لفظتَيْ "فقالوا بالرأي" في هذا الحديث، وإنما هما مشهورتان في طريق آخر منكر، أصلُه مرسَلٌ، رواه ابن ماجه (56) وغيره، فالظاهر أنه دخل عليه حديثٌ في حديث.

(2)

البخاري (7307) ومسلم (2673) واللفظ له.

(3)

"لي" ساقط من النسخ المطبوعة.

(4)

"لي" ساقط من ت.

ص: 107

الحديث الذي ذكره لك في العلم. قال: فلقيتُه، فسألتُه، فذكره لي نحوَ ما حدَّثني به في المرَّة الأولى. قال عروة: فلما أخبرتُها بذلك قالت: ما أحسبه إلا قد صدَق، أراه لم يزِد فيه شيئًا ولم ينقص.

وقال البخاري

(1)

في بعض طرقه: "فيفتون برأيهم، فيَضِلُّون ويُضِلُّون". وقال: فقالت عائشة: والله لقد حفِظ عبد الله.

وقال نُعَيم بن حماد: ثنا ابن المبارك، ثنا عيسى بن يونس، عن حَرِيز بن عثمان الرَّحَبي

(2)

، ثنا عبد الرحمن بن جُبير بن نُفَير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقةً، أعظمُها فتنةً قومٌ يقيسون الدين برأيهم، يحرِّمون به ما أحلَّ الله ويُحِلُّون ما حرَّم الله"

(3)

.

(1)

عقب الحديث (7307).

(2)

في ع يشبه "الزنجي"، ولكن بإهمال أحرفه.

(3)

كذا رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(1996، 1997)، وابن حزم في "الإحكام"(8/ 25)، من رواية نعيم، عن ابن المبارك، عن عيسى.

وقد رواه أبو زرعة الدمشقي في "التاريخ"(1/ 622)، والبزار (2755)، والخلال في "العلل"(79 - المنتخب منه)، والطبراني في "الكبير"(18/ 50)، وفي "مسند الشاميين"(1072)، وابن عدي في "الكامل"(8/ 253)، وابن بطة في "الإبانة"(272، 813)، والحاكم في "المستدرك"(3/ 547، 429) وصحّحه، وأبو سعيد النقاش في "فوائد العراقيين"(30)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(1673)، والبيهقي في "المدخل"(207)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(1/ 450)، وأبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام"(253)، من طرق عن نعيم، عن عيسى به.

قال ابن عبد البر: "هذا عند أهل العلم بالحديث حديثٌ غير صحيح، حملوا فيه على نعيم بن حماد، وقال أحمد بن حنبل ويحيى بن معين: حديث عوف بن مالك هذا لا أصل له". وقال البيهقي: "تفرّد به نعيم بن حماد، وسرقه منه جماعة من الضعفاء، وهو منكر". ويُنظَر: "التاريخ" لأبي زرعة الدمشقي (1/ 622)، و"تاريخ مدينة السلام" للخطيب (15/ 420 - 425).

ص: 108

قال أبو عمر بن عبد البر

(1)

: "هذا هو القياس على غير أصل، والكلام في الدين بالخرص والظن. ألا ترى إلى قوله في الحديث: "يُحِلُّون الحرام ويُحرِّمون الحلال"، ومعلوم أنَّ الحلال: ما في كتاب الله وسنة رسوله تحليلُه، والحرام: ما في كتاب الله وسنة رسوله تحريمُه. فمَن جهِل ذلك، وقال فيما سئل عنه بغير علم، وقاس برأيه ما خرج به

(2)

عن السنة= فهذا هو الذي قاس الأمورَ برأيه، فضلَّ وأضلَّ. ومَن ردَّ الفروع إلى أصولها فلم يقُل برأيه".

وقالت طائفة من أهل العلم

(3)

: من أدَّاه اجتهاده إلى رأي رآه، ولم يقُم عليه حجة فيه بعدُ

(4)

فليس مذمومًا، بل هو معذور، خالفًا كان أو سالفًا. ومن قامت عليه الحجة، فعاند، وتمادى [29/أ] على الفتيا برأي إنسان بعينه= فهو الذي يلحقه الوعيد.

وقد رُوِّينا في "مسند عبد بن حميد": ثنا عبد الرزاق، ثنا سفيان الثوري،

(1)

في "جامع بيان العلم"(2/ 1039) بعد إيراد الحديث السابق.

(2)

"به" من ع. وفي غيرها: "منه"، ولعله تصحيف "فيه". والذي في "جامع بيان العلم":"وقاس برأيه حرَّم ما أحلَّ الله بجهله، وأحلَّ ما حرَّم الله من حيث لم يعلم". فهل هكذا كان في نسخة الكتاب التي نقل منها المصنف أو تصرَّف في كلام ابن عبد البر؟

(3)

وهو قول ابن حزم، نقله بنصِّه بتصرف يسير في آخره. انظر:"الصادع"(ص 583).

(4)

"بعد" لم يرد في ح، وقد أضافه بعضهم فوق السطر.

ص: 109

عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرآن برأيه فليتبوَّأْ مقعدَه من النار"

(1)

.

فصل

فيما روي عن صدِّيق الأمة وأعلَمِها من إنكار الرأي

رُوِّينا عن عبد بن حميد: ثنا أبو أسامة

(2)

، عن نافع بن عمر

(3)

الجُمَحي، عن ابن أبي مُليكة قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: أيُّ أرضٍ تُقِلُّني، وأيُّ سماءٍ تُظِلُّني إن قلتُ في آية من كتاب الله برأيي، أو بما لا أعلم

(4)

.

وذكر الحسن بن علي الحُلْواني، ثنا عارم، ثنا حماد

(5)

بن زيد، عن

(1)

"الصادع"(296). ورواه أبو داود (رواية ابن العبد، كما في "تحفة الأشراف" للمزي (4/ 423)، و"المغني" للعراقي (1/ 29)، والترمذي (2951) ــ وقال:"حديث حسن"، والنسائي في "الكبرى"(8030، 8031)، وفي سنده عبد الأعلى بن عامر الثعلبي، وهو ضعيف. ومما قد يدلّ على عدم ضبطه إيّاه أن ابن أبي شيبة رواه (30725) عن وكيع عنه به موقوفا. ويُنظر:"جامع البيان" لابن جرير (1/ 72). وأغرب ابن القطان، فصحّحه في "بيان الوهم"(5/ 253، 831).

(2)

ع: "أبو أمامة"، تصحيف.

(3)

في جميع النسخ المطبوعة: "نافع عن عمر"، وهو غلط.

(4)

"الصادع"(297). ورواه مالك (2079 ــ رواية أبي مصعب)، وسعيد بن منصور في "السنن"(39 - فضائل القرآن)، وأبو عبيد في "فضائل القرآن"(687)، وابن أبي شيبة (30727، 30731)، وابن شبّة في "أخبار المدينة"(1/ 336)، والبزّار (18/ 236)، وأبو عوانة (1978)، وابن جرير في "جامع البيان"(1/ 72).

(5)

ع: "عارم بن حماد"، وهو خطأ.

ص: 110

سعيد بن أبي صدَقة، عن ابن سيرين قال: لم يكن أحدٌ أهيَبَ لما

(1)

لا يعلم من أبي بكر رضي الله عنه. ولم يكن أحدٌ بعد أبي بكر أهيَبَ لما لا يعلم من عمر رضي الله عنه. وأن أبا بكر نزلت به قضيةٌ فلم يجد في كتاب الله منها أصلًا ولا في السنَّة أثرًا، فاجتهد برأيه، ثم قال: هذا رأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمنِّي، وأستغفر الله

(2)

.

فصل

في المنقول من ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه

قال ابن وهب: ثنا يونس بن يزيد عن ابن شهاب أنَّ عمر بن الخطاب قال وهو على المنبر: يا أيها الناس إنَّ الرأي إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبًا، إنَّ الله كان يُرِيه، وإنما هو منَّا الظنُّ والتكلُّف

(3)

.

قلتُ: مراد عمر رضي الله عنه قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] فلم يكن له رأيٌ غير ما أراه الله إياه. وأمَّا رأيُ غيرِه

(4)

فظنٌّ وتكلُّف.

(1)

في النسخ المطبوعة هنا وفيما يأتي: "بما"، والصواب ما أثبت.

(2)

"جامع بيان العلم"(2/ 830)، وعنه في "الصادع"(299). وأخرجه ابن سعد في "الطبقات"(3/ 162 - 163)، وابن عساكر في "التاريخ"(30/ 326 - 327، 327)، وسنده إلى ابن سيرين صحيح.

(3)

ع: "وإنما هو الظن"، أسقط كلمتين. وقول عمر رواه أبو داود (3586)، وسنده ظاهر الانقطاع؛ فإن الزهري وُلد بعد استشهاد عمر رضي الله عنه بدهر طويل. وانظر:"جامع بيان العلم"(2/ 1040) و"الصادع"(301).

(4)

في النسخ المطبوعة: "وأما ما رأى غيرُه".

ص: 111

[29/ب] قال سفيان الثوري: ثنا أبو إسحاق الشيباني، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: كتب كاتبٌ

(1)

لعمر بن الخطاب: "هذا ما رأى الله ورأى عمرُ" فقال: بئسَ ما قلتَ! قل: هذا ما رأى عمر، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمن عمر

(2)

.

وقال ابن وهب: أخبرني ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: السُّنَّةُ ما سنَّه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. لا تجعلوا خطأَ الرأي سنّةً للأمة

(3)

.

قال ابن وهب: وأخبرني ابن لهيعة، عن ابن الهاد

(4)

عن محمد بن إبراهيم التَّيمي أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أصبح أهلُ الرأي أعداءَ السُّنن، أعيَتْهم أن يَعُوها، وتفلَّتت منهم أن يَرْوُوها، فاشتقُّوها

(5)

بالرأي

(6)

.

(1)

ت، ع:"كنت كاتبًا"، تصحيف.

(2)

تقدَّم تخريجه، وانظر:"الصادع" لابن حزم (305).

(3)

رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(2014) وعنه ابن حزم في "الصادع"(306) و"الإحكام"(2/ 51)، ورجال سنده ثقات ولكنه منقطع بين عبيد الله بن أبي جعفر وعمر.

(4)

في النسخ الخطية والمطبوعة. "أبي الزناد"، وهو تحريف، صوابه من مصادر التخريج. والمؤلف صادر من "الإحكام" لابن حزم (6/ 43).

(5)

في مطبوع "الإحكام" لابن حزم (6/ 36) و"أخبار المدينة": "فاستقوها". وفي "جامع بيان العلم" و"الصادع" والنسخ المطبوعة: "فاستبقوها".

(6)

من هذا الطريق رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(2001)، وابن حزم في "الصادع"(304) و"الإحكام"(6/ 43). ورواه عمر بن شبة في "أخبار المدينة"(3/ 801) من طريق ابن وهب، عن حيوة، عن ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم به بنحوه. ورواه ابن عبد البر في "الجامع"(2005) ــ وعنه ابن حزم في "الإحكام"(6/ 42 - 43) ــ من طريق نافع بن يزيد، عن ابن الهاد به.

ص: 112

قال ابن وهب: وأخبرني عبد الله بن عيَّاش، عن محمد بن عجلان، عن عبيد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال: اتّقُوا الرأيَ في دينكم

(1)

.

وذكر ابن عجلان عن صدقة بن أبي عبد الله أن عمر بن الخطاب كان يقول: أصحابُ الرأي أعداءُ السُّنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلَّتت منهم أن يعُوها، واستَحْيَوا حين سئلوا أن يقولوا: لا نعلم؛ فعارضَوا السُّننَ برأيهم، فإياكم وإياهم

(2)

.

وذكر ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم التيمي قال: قال عمر بن الخطاب: إياكم والرأي، فإنَّ أصحابَ الرأي أعداءُ السنن، أعيتهم الأحاديث أن يَعُوها، وتفلَّتت منهم أن يحفظوها، فقالوا في الدين برأيهم

(3)

.

(1)

"جامع بيان العلم"(2002)، ومن طريق ابن وهب أخرجه ابن حزم في "الإحكام"(6/ 42). ورواه البيهقي في "المدخل"(ص 189) عَقِب الأثر (210) من طريق ابن وهب به، لكن وقع في المطبوع "عبد الله بن سليمان" بدل "عبد الله بن عياش"، وهو خطأ، وابن وهب لم يسمع من ابن سليمان، بل روى عمّن روى عنه. والخبر ضعيفٌ معضلٌ.

(2)

رواه ابن وهب ــ ومن طريقه ابن أبي زمنين في "أصول السنة"(8)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(2003) ــ، وفي سنده جهالة وإعضال. وله طريق آخر رواه أبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام"(260)، وعنه قوام السنة الأصبهاني في "الحجة"(1/ 221)، وسنده ظاهر الضعف والإعضال.

(3)

رواه عمر بن شبة في "أخبار المدينة"(3/ 801)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(2005)، وابن حزم في "الإحكام"(6/ 42 - 43) من طرق عن ابن الهاد به، وهو منقطع، محمد بن إبراهيم التيمي لم يُدرك عمر رضي الله عنه.

ص: 113

وقال الشعبي: عن عمرو بن حُرَيث قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إياكم وأصحابَ الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي، فضلُّوا وأضلُّوا

(1)

.

وأسانيد هذه الآثار عن عمر في غاية الصحة

(2)

.

[30/أ] وقال محمد بن عبد السلام الخُشَني: ثنا محمد بن بشار، ثنا يونس بن عبيد [الله] العُمَيري

(3)

ثنا مبارك بن فَضالة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر بن الخطاب أنه قال: أيها الناس، اتَّهِمُوا الرأيَ في الدين، فلقد رأيتُني وإني لَأرُدُّ أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيي، فأجتهد ولا آلو، وذلك يومَ أبي جندل، والكتابُ يُكتَب، وقال:"اكتبوا: بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال

(4)

: نكتُب: "باسمك اللهم"، فرضي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأبيتُ،

(1)

رواه الدارقطني في "السنن"(4280) ــ ومن طريقه البيهقي في "المدخل"(213) ــ، واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد"(201)، وابن عبد البر في "الجامع"(2004) ــ وعنه ابن حزم في "الإحكام"(6/ 42) ــ والخطيب في "الفقيه"(1/ 452)، وفي سند الأثر عبد الرحمن بن شريك النخعي، ووالدُه، ومجالدُ بن سعيد؛ كلّهم ضعفاء، ليسوا بأقوياء. وقد أشار البيهقي في "المدخل"(214) إلى إعلاله، وأن المحفوظ ما رواه عَقِبَه (215) من كلام الشعبي بمعناه.

(2)

كذا قال رحمه الله: "في غاية الصحة"! وقال ذلك ابن حزم أيضًا في "الصادع"(ص 592) ولكن في الأثر السابق عن مسروق فقط.

(3)

في النسخ: "عبيد العمري". وكذا في مطبوعة "الإحكام" لابن حزم. وفي "الصادع": "عبيد اليعمري". والصواب ما أثبت.

(4)

يعني سهيل بن عمرو.

ص: 114

فقال: "يا عمر تراني قد رضيتُ، وتأبى؟ "

(1)

.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة

(2)

:

حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مَعْمَر بن أبي حبيبة مولى بنت صفوان، عن عبيد بن رفاعة، عن أبيه رفاعة بن رافع قال: بينما أنا عند

(1)

رواه ابن حزم في "الإحكام"(6/ 46) و"الصادع"(300). ورواه أبو يعلى [كما في "مسند الفاروق" لابن كثير وحسَّنه وجوّده (2/ 351)، و"المقصد العلي" للهيثمي (64)، و"إتحاف الخيرة المهرة" للبوصيري (1/ 155 - 156)]ــ ومن طريقه الضياء في "المختارة" وقوّاه (219) ــ، والبزار في "المسند"(148)، وابن المنذر في "الأوسط"(6/ 336 - 337)، والطحاوي في "بيان المشكل"(13/ 37)، والطبراني في "المعجم الكبير"(82)، والبيهقي في "المدخل"(217)، وصححه ابن حزم في "المحلّى"(1/ 61).

(2)

في "المصنف"(952) وعنه عبد الله بن أحمد في زياداته على المسند (21097). وأخرجه الإمام أحمد في "المسند"(21096)، والبزار في "المسند"(3730) مختصرًا، والطحاوي في "شرح معاني الآثار"(1/ 58)، وفي "بيان المشكل"(5/ 117). وابن حزم في "الصادع"(307) ويبدو أن النقل منه.

ورواه الطحاوي في "شرح المعاني"(1/ 58)، وفي "بيان المشكل"(5/ 174) من طريق ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن معمر بن أبي حيية، عن عبيد بن رفاعة (ولم يذكر أباه رفاعة في السند). أما الليث بن سعد؛ فاختُلِف عليه في سياق سنده؛ فليُوازَن ما في المطالب العالية لابن حجر 1/ 69، و"إتحاف الخيرة المهرة" للبوصيري (1/ 373، ح: 658/ 2) بما عند الطحاوي في "شرح المعاني"(1/ 59)، و"بيان المشكل"(5/ 174)، و"المعجم الكبير" للطبراني (4536).

ويُنظر: "الإمام" لابن دقيق العيد (3/ 22 - 25)، و"إتحاف المهرة"(4/ 517، 11/ 381، 563، 17/ 98)، و"المطالب العالية"(1/ 69 - 70) كلاهما لابن حجر.

ص: 115

عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذ دخل عليه رجل فقال: يا أميرَ المؤمنين هذا زيد بن ثابت يفتي الناس في المسجد برأيه في الغسل من الجنابة. فقال عمر: عليَّ به. فجاء زيد، فلما رآه عمر فقال عمر: أيْ عدوَّ نفِسه قد بلغتَ أن تفتي الناس برأيك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، والله ما فعلتُ، ولكن سمعتُ من أعمامي حديثًا، فحدَّثتُ به: من أبي أيوب، ومن أبي بن كعب، ومن رفاعة بن رافع. فقال عمر: عليَّ برفاعة بن رافع، فقال: قد كنتم تفعلون ذلك إذا أصاب أحدُكم المرأةَ فأكسَلَ، لم يغتسل

(1)

؟ قال: قد كنَّا نفعل ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يأتنا فيه عن الله تحريم، ولم يكن فيه من

(2)

رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء

(3)

. فقال عمر: ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك؟ قال: ما أدري. فأمر عمرُ بجمع

(4)

المهاجرين والأنصار، [30/ب] فجُمِعوا، فشاورَهم فأشار الناسُ أن لا غسلَ؛ إلا ما كان من معاذ وعلي، فإنهما قالا: إذا جاوز الختانُ الختانَ وجب الغسل. فقال عمر: هذا وأنتم أصحابُ بدر قد اختلفتم، فمَن بعدكم أشدُّ اختلافًا. فقال علي: يا أمير المؤمنين إنه ليس أحدٌ أعلمَ بهذا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه. فأرسَلَ إلى حفصة فقالت: لا علم لي بهذا، فأرسَلَ إلى عائشة فقالت: إذا جاوز الختانُ الختانَ فقد وجب الغسلُ. فقال: لا أسمع برجلٍ فعَلَ ذلك إلا أوجعتُه ضربًا.

(1)

في جميع النسخ الخطية والمطبوعة: "أن يغتسل"، والظاهر أن "أن" تحريف "لم" لوصل أسفل الهمزة بالنون. والصواب ما أثبت من "المصنَّف" و"الصادع" ومنه النقل.

(2)

ع: "عن". وكذا في النسخ المطبوعة.

(3)

ساقط من ت. وفي "المصنَّف" و"الصادع": "نهي"، فلا يبعد أن يكون ما في النسخ محرَّفًا عنه.

(4)

ما عدا س، ت:"بجميع".

ص: 116

قول عبد الله بن مسعود:

قال البخاري

(1)

: حدثنا سُنيد، ثنا يحيى بن زكريا، عن مجالد

(2)

، عن الشعبي، عن مسروق، عن عبد الله قال: لا يأتي عليكم عام إلا وهو شرٌّ من الذي قبله. أمَا، إنِّي لا أقول: أمير خير من أمير، ولا عام أخصَبُ من عام، ولكن فقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلَفًا، ويجيء قوم يقيسون الأمور

(3)

برأيهم.

وقال ابن وهب: ثنا سفيان

(4)

عن مجالد به، وقال: ولكن ذهابُ خياركم وعلمائكم، ثم يحدُث قومٌ يقيسون الأمور برأيهم، فينهدم الإسلام، ويُثْلَم

(5)

.

(1)

كذا عزاه إلى البخاري. وقد رأى في "جامع بيان العلم"(2007) وهو المصدر هنا: "

نا محمد بن إسماعيل، نا سُنَيد" فظنّ أنّه البخاري، وإنما المقصود: محمد بن إسماعيل بن سالم الصائغ المكي. وسيأتي لهذا الوهم نظائر.

وقد رواه الدارمي (194)، وابن وضاح في "البدع"(78، 232) ــ ومن طريقه ابن أبي زمنين في "أصول السنة"(10) ــ، والطبراني في "المعجم الكبير"(8551)، وأبو عمرو الداني في "السنن الواردة في الفتن"(210، 211)، والبيهقي في "المدخل"(205)، وابن عبد البر في "الجامع"(2005 - 2010)، وابن حزم في "الإحكام"(8/ 29)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(1/ 456)، وأبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام"(280)؛ من طرق عن مجالد به، ومجالد هذا ليس بالقوي.

(2)

في النسخ الخطية: "مجاهد"، تصحيف.

(3)

ع: "الأمر".

(4)

يعني: ابن عيينة كما في "الإحكام". وفي جميع النسخ الخطية والمطبوعة: "شقيق"، تصحيف.

(5)

رواه ابن عبد البر في "الجامع"(2008)، وابن حزم في "الإحكام"(8/ 29) من طريق ابن وهب به.

ص: 117

وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا أبو خالد الأحمر، عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق قال: قال عبد الله بن مسعود: علماؤكم يذهبون، ويتخذ الناس رؤوسًا جهالًا يقيسون الأمور برأيهم

(1)

.

وقال سُنيد

(2)

بن داود: ثنا محمد بن فضيل

(3)

، عن سالم بن أبي حفصة، عن منذر الثوري، عن الربيع بن خُثَيم أنه قال: قال عبد الله

(4)

: ما علَّمك الله في كتابه من علمٍ فاحمَدِ الله، وما استأثر به عليك من علمٍ فَكِلْه إلى عالمه. ولا تتكلَّف، فإنَّ الله عز وجل يقول لنبيه:{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ [31/أ] عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]

(5)

.

(1)

رواه ابن عبد البر في "الجامع"(2010) من طريق ابن أبي شيبة به.

(2)

ح: "أسيد"، تحريف.

(3)

في النسخ الخطية والمطبوعة: "فضل"، والصواب ما أثبت. وهو محمد بن فضيل بن غزوان.

(4)

كذا في جميع النسخ الخطية والمطبوعة. والذي في "جامع بيان العلم" ــ وهو مصدر النقل ــ والمصادر الأخرى: "أنه قال: يا عبدَ الله"، يعني المخاطب. أما عبد الله بن مسعود فلم أقف على رواية هذا الأثر عنه. وأخشى أن يكون ما جاء هنا تحريفًا لما في المصادر.

(5)

رواه ابن عبد البر في "الجامع"(2011) من طريق سُنَيْد به، وقد تُوبِع سُنَيْد عليه، فقد رواه ابن سعد في "الطبقات"(8/ 304) عن ابن فضيل، عن سالم به.

وسالم فيه لينٌ، مع غلوّه في التشيع، لكن بعض جُمَله قد صحّت عند ابن المبارك في "الزهد"(32)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(35992، 36701)، وأحمد في "الزهد"(2018)، وابن سعد في "الطبقات"(8/ 305)، وهناد في "الزهد"(915)، ويعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ"(2/ 564)، وأبي نعيم في "الحلية"(2/ 108)، وأبي إسماعيل الهروي في ذم الكلام (557، 558).

ص: 118

يروى هذا عن الربيع بن خُثَيم وعن عبد الله

(1)

.

وقال سعيد بن منصور: ثنا خلَف بن خليفة، ثنا أبو يزيد

(2)

عن الشعبي قال: قال ابن مسعود: إياكم وأرأيت، أرأيت؛ فإنما هلك من كان قبلكم بأرأيتَ، أرأيت. ولا تقيسوا شيئًا، فتزِلَّ قدمٌ بعد ثبوتها. وإذا سئل أحدكم عما لا يعلم فليقل: لا أعلم، فإنه ثلث العلم

(3)

.

وصح عنه في المفوضة

(4)

أنه قال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمنِّي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريء

(5)

.

(1)

انظر ما علَّقت آنفًا.

(2)

في النسخ: "أبو زيد"، والصواب ما أثبت من المصادر.

(3)

رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(8550)، وأبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام"(286) من طريق سعيد بن منصور به، وأبو يزيد كنية جابر الجعفي، وهو واهٍ متروك. وقد رواه الطبراني (9081) من طريق يحيى الحماني، عن قيس (وهو ابن الربيع)، عن جابر (وهو الجعفي)، عن الشعبي، عن مسروق، عن ابن مسعود مختصرا، وهذا أوهى من الذي قبله. وقد يكون من تلوّن الجعفي واضطرابه، ووازِن بـ"الحلية" لأبي نعيم (4/ 319)، و"الفقيه والمتفقه" للخطيب (1/ 458).

(4)

بكسر الواو وفتحها، وهي التي زوجت بلا مهر، وسيأتي رأي ابن مسعود في المفوضة مرّات أخرى.

(5)

رواه أحمد (4099، 4276، 18460)، وأبو داود (2116)؛ من حديث عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن مسعود، وله طريق أخرى عند النسائي في "السنن الكبرى"(5494)، و"المجتبى"(3358)، والأثر صحيح، صحّحه جماعة من الحفاظ، منهم: ابن الأخرم، وتلميذه الحاكم في "المستدرك"(2/ 181)، والبيهقي في "السنن الكبير" (7/ 246). ويُنظر للفائدة:"العلل" للدارقطني (14/ 47 - 52).

ص: 119

قول عثمان بن عفان رضي الله عنه:

قال محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير

(1)

، عن عبد الله بن الزبير قال: أنا والله مع عثمان بن عفان بالجُحْفة إذ قال عثمان، وذُكِر

(2)

له التمتُّع بالعمرة إلى الحج: أتِمُّوا الحجَّ، وأخلصوه في أشهر الحج، فلو أخَّرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زَورتَين كان أفضل، فإنَّ الله قد أوسعَ في الخير. فقال له علي: عمدتَ إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورخصةٍ رخَّص الله للعباد بها

(3)

في كتابه، تضيِّقُ عليهم فيها، وتنهى عنها، وكانت لذي الحاجة والنائي الدار

(4)

؟ ثم أهلَّ عليٌّ بعمرة وحجٍّ معًا. فأقبل عثمان بن عفان رضي الله عنه على الناس فقال: أنهيتُ عنها؟ إنِّي لم أنهَ عنها. إنما كان رأيًا أشرتُ به، فمن شاء أخذه ومن شاء تركه

(5)

.

فهذا عثمان يُخبر عن رأيه أنه ليس بلازم للأمة الأخذُ به، بل من شاء أخذ به ومن شاء تركه، بخلاف سنَّة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يسع أحدًا تركُها

(1)

"بن عبد الله بن الزبير" ساقط من ع والنسخ المطبوعة. وفي مصادر التخريج كما أثبت من غيرها.

(2)

ت: "وقد ذكر".

(3)

ع: "فيها".

(4)

في النسخ المطبوعة و"الجامع" و"الإحكام": "ولنائي الدار"، وفي "الصادع" كما أثبت من النسخ.

(5)

رواه الحافظ يعقوب بن شيبة كما في "جامع بيان العلم" لابن عبد البر (1427)، وعنه في "الإحكام" لابن حزم (6/ 49 - 50) و"الصادع"(309). والظاهر أن يحيى بن عباد لم يسمع من جدّه. وهذا الاختلاف بينهما ثابت بسياق آخر عند البخاري (1563، 1569) ومسلم (1223).

ص: 120

لقول أحدٍ كائنًا من كان.

قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

[31/ب] قال أبو داود

(1)

: حدثنا أبو كُريب محمد بن العلاء، ثنا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي إسحاق السَّبِيعي، عن عبد خير، عن علي رضي الله عنه أنه قال: لو كان الدينُ بالرأي لكان أسفلُ الخفِّ أولى بالمسح من أعلاه.

قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:

قال ابن وهب: أخبرني بِشْر بن بكر، عن الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لُبابة، عن ابن عباس أنه قال: مَن أحدَثَ رأيًا ليس في كتاب الله، ولم تَمْضِ به سنةٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يدرِ على ما هو منه إذا لقيَ اللهَ عز وجل

(2)

.

وقال عفان

(3)

بن مسلم الصفَّار: ثنا عبد الرحمن بن زياد، ثنا الحسن بن عمرو الفُقَيمي، عن أبي فزارة قال: قال ابن عباس: إنما هو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن قال بعد ذلك برأيه، فلا أدري أفي حسناته يجِدُ

(1)

برقم (162، 164)، وصحّحه عبد الغني المقدسي [كما في "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 338)] وابن حجر في "التلخيص الحبير"(1/ 282)، على أنه اقتصر في "بلوغ المرام" (60) على تحسينه. ويُنظر للفائدة:"السنن الكبرى" للنسائي (118، 119)، و"العلل" للدارقطني (4/ 44 - 54). وهو في "الإحكام"(6/ 43) و"الصادع"(310) ولعل النقل منه.

(2)

رواه ابن حزم في "الإحكام"(6/ 46) و"الصادع"(313). ورواه الدارمي (160) ــ ومن طريقه أبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام"(272) ـ، وابن وضاح في "البدع"(94)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(1/ 458) من طرق عن الأوزاعي به.

(3)

ع، ف:"عثمان"، تصحيف.

ص: 121

ذلك أم في سيئاته

(1)

.

وقال عبد بن حميد

(2)

: حدثنا حسين بن علي الجُعفي، عن زائدة، عن ليث، عن بكر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار

(3)

.

قول سهل بن حنيف رضي الله عنه:

قال البخاري

(4)

: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن أبي وائل قال: قال سهل بن حُنيَف: أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم. لقد رأيتُني يومَ أبي جندل، ولو أستطيع أن أرُدَّ أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددتُه.

(1)

رواه أبو بكر الذكواني في اثني عشر مجلسًا من أماليه (116)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(1402 و، 2013)، من حديث عفان، لكن سُمِّيَ شيخُه عند ابن عبد البر (عبد الرحمن)، وسُمِّيَ عند الذكواني (عبد الواحد)، وهو الأشبه بالصواب؛ إذ عبد الواحد هو المعروف بالرواية عن الفقيمي، وبرواية عفان عنه، دون عبد الرحمن بن زياد الرصاصي (وليس هو الإفريقي كما ظنّه بعضُ الفضلاء).

وأبو فزارة لم يسمع من ابن عباس.

(2)

ح: "عبد الله بن حميد".

(3)

رواه ابن حزم في "الإحكام"(6/ 46) و"الصادع"(312). ورواه ابن جرير في "جامع البيان"(1/ 72)، وليث (وهو ابن أبي سليم) ضعيف. ورواه ابن جرير (1/ 72) من طريق عبد الأعلى عن سعيد به، وعبد الأعلى هو ابن عامر الثعلبي، وهو ضعيف، وقد اختُلف عليه في رفعه ووقفه.

(4)

في "الصحيح"(7308). ورواه ابن حزم في "الإحكام"(6/ 45) و"الصادع"(311) بسنده عن الفربري عن البخاري.

ص: 122

قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه:

قال ابنُ وهب: أخبرني عمرو بن الحارث أن عمرو بن دينار قال: أخبرني طاوس عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا لم يجد في الأمر يُسأَلُ عنه شيئًا قال: إن شئتم أخبرتُكم بالظنِّ

(1)

.

وقال البخاري

(2)

: [32/أ] قال لي صدقة، عن الفضل

(3)

بن موسى، عن موسى بن عقبة، عن الضحاك، عن جابر بن زيد قال: لقيني ابنُ عمر فقال: يا جابر، إنك من فقهاء البصرة وتُستفتَى فلا تُفْتِيَنَّ إلا بكتاب ناطق أو سنة ماضية.

وقال مالك عن نافع عنه: العلم ثلاث: كتاب الله الناطق، وسنة ماضية،

(1)

رواه ابن حزم في "الإحكام"(6/ 49)، قال:"وهذا سندٌ في غاية الصحة"، ونحوه في "الصادع"(600). وعلّقه ابن عبد البر في "الجامع"(1443) عن ابن وهب به.

(2)

في "التاريخ الكبير"(2/ 204)، ومن طريقه ابن حزم في "الإحكام"(8/ 30)، و"الصادع" (363) ووقع فيها:(ابن عقبة) غيرَ مُسمًّى. وقد رواه الدارمي (166) ــ ومن طريقه أبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام"(274، 322) ــ عن عصمة بن الفضل، عن زيد بن الحباب ح ورواه أبو العباس السراج ــ ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية"(3/ 86) ــ، والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(2/ 344)، من رواية محمود بن غيلان، عن الفضل بن موسى وزيد بن حباب؛ قالا: نا يزيد بن عقبة، عن الضحاك: فذكره. ورواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه"(1/ 457، 2/ 344) من طريق آخر عن الفضل بن موسى، عن يزيد بن عقبة، عن الضحاك الضبي به. وهذا هو الأشبه بالصواب؛ إذ يزيد هو المعروف بالرواية عن الضحاك الضبي، وبرواية الفضل بن موسى عنه. وليُنظر:"الثقات" لابن حبان (7/ 626 - 627).

(3)

ما عدا ع: "ابن الفضل"، وهو خطأ.

ص: 123

ولا أدري

(1)

.

قول زيد بن ثابت رضي الله عنه:

قال البخاري

(2)

: ثنا سُنَيد بن داود، ثنا يحيى بن زكريا ــ هو

(3)

ابن أبي زائدة ــ عن إسماعيل بن [أبي]

(4)

خالد عن الشعبي، قال: أتى زيدَ بنَ ثابت قومٌ، فسألوه عن أشياء، فأخبرهم بها، فكتبوها. ثم قالوا: لو أخبرناه. قال: فأَتَوه، فأخبَروه، فقال: أغَدْرًا؟

(5)

لعل كلَّ شيء حدَّثتُكم خطأ! إنما اجتهدتُ

(1)

رواه ابن حزم في "الإحكام"(8/ 30) و"الصادع"(364) ــ وعنه الحميدي في "جذوة المقتبس"(ص 247)، ورواه من طريقه أيضًا أبو جعفر الضبي في "بغية الملتمس"(ص 355) ــ، والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(2/ 366). ورواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(1001)، لكن وقع عنده:(عمر بن الحصين)، والمحفوظ عن إبراهيم بن المنذر الحزامي روايته إياه عن عمر بن عصام، وهو رجل فاضل مستور الحال، وثّقه أبو الحسن طاهر بن عبد العزيز الرعيني، لكن روايتُه هذه عن مالك بهذا السند مما يُستغرب جدّا، ولم يُتابعه من يُوثق به، وليُنظَر:"جامع بيان العلم" لابن عبد البر (1387).

(2)

كذا عزاه إلى البخاري، وهو وهمٌ سبق مثله قريبًا. في "جامع بيان العلم" (2069) ــ ومثله في "الإحكام" (6/ 52) و"الصادع" (317) ــ: "

محمد بن إسماعيل، نا سُنيد"، فظنَّ أن محمدًا هو البخاري. وإنما هو محمد بن إسماعيل بن سالم الصائغ المكي. وسُنيدٌ فيه لينٌ، والأشبه أن الشعبي لم يسمع من زيد بن ثابت.

(3)

في النسخ الخطية والمطبوعة: "مولى"، تحريف. والتصحيح من "الإحكام" ــ مصدر النقل ــ وكتب الرجال.

(4)

ما بين الحاصرتين ساقط من النسخ الخطية، والتصحيح من المصدر المذكور وغيره.

(5)

ع: "أعذرًا". وكذا في النسخ المطبوعة. وفي "جامع بيان العلم": "عذرًا"، وكلاهما تصحيف.

ص: 124

لكم رأيي.

قول معاذ بن جبل رضي الله عنه:

قال حمّاد بن سلمة: ثنا أيوب السَّختياني، عن أبي قِلابة، عن يزيد بن أبي عمرة

(1)

، عن معاذ بن جبل قال: تكون فِتَنٌ، فيكثُر فيها المال. ويُفتَح القرآنُ حتَّى يقرأه الرجل والمرأة والصغير والكبير والمنافق والمؤمن. فيقرؤه الرجلُ فلا يُتَّبع. فيقول: والله لأقرأنَّه علانيةً، فيقرؤه علانيةً فلا يُتَّبع. فيتَّخذ مسجدًا، ويبتدع كلامًا ليس من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإيَّاكم وإيَّاه، فإنه بدعة وضلالة

(2)

. قاله معاذ ثلاث مرات

(3)

.

(1)

كذا في النسخ الخطية، والصواب: يزيد بن عَمِيرة، كما في مصادر التخريج. وقد تحرَّف عميرة من قبل إلى "عمير".

(2)

كذا في النسخ الخطية والمطبوعة و"الصادع" ومنه النقل. وفي "الإحكام" لابن حزم وغيره من المصادر: "بدعةُ ضلالة".

(3)

رواه ابن وضاح في "البدع"(63)، والطبراني في "المعجم الكبير"(20/ 114)، والحاكم في "المستدرك"(4/ 466) وصحّحه، وابن حزم في "الإحكام"(8/ 31) و"الصادع"(319)؛ من طرق عن حماد بن سلمة به. وتابعه محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عند أبي إسماعيل الهروي في "ذم الكلام"(751). وخالفهما حماد بن زيد، فرواه عن أيوب، عن أبي قلابة، عن معاذ، ولم يذكر (يزيد بن عميرة)، كذا أخرجه الطبراني في "السنة" ــ ومن طريقه قوام السنة الأصبهاني في "الحجة"(1/ 330) ــ، واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد"(117)، وأبو عمرو الداني في "السنن الواردة في الفتن"(27، 252)؛ من طرق عن حماد بن زيد به. وتابعه على إرساله: عبيدالله بن عمرو الرقي عند الداني (284). لكن للأثر طريق آخر صحيح إلى يزيد بن عميرة عند أبي داود في "السنن"(4611)، وصحّحه الحاكم (4/ 460)، وطريق آخر منقطع عند الدارمي (205).

ص: 125

قول أبي موسى الأشعري رضي الله عنه:

قال البغوي: ثنا الحجّاج بن المِنهال، ثنا حماد بن سلمة، عن حُمَيد، عن أبي رَجاء العُطاردي قال: قال أبو موسى الأشعري: من كان عنده علمٌ فَلْيعلِّمه الناسَ. وإن

(1)

لم يعلَم فلا يقولَنَّ ما ليس له به عِلْم، فيكونَ من المتكلِّفين، ويمرُقَ من الدين

(2)

.

قول [32/ب] معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه:

قال البخاري

(3)

: نا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري قال: كان محمد بن جُبير بن مُطعِم يحدِّث أنه كان عند معاوية في وفد من قريش، فقام معاوية، فحمِد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإنه قد بلغني أنَّ رجالًا فيكم يتحدَّثون بأحاديث ليست في كتاب الله، ولا تُؤثَر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأولئك

(4)

جُهَّالكم.

(1)

ت: "فإن".

(2)

رواه ابن حزم في "الصادع"(308). ورواه ابن سعد في "الطبقات"(4/ 102) والدارمي (180) وابن المنذر في "الأوسط"(10/ 463) من طرق عن حميد، عن أبي رجاء، عن أبي المهلب، عن أبي موسى به. وأغرب الكديمي (فيما رواه أبو نعيم الأصبهاني عن أحمد بن يوسف بن خلاد في جزء من حديثه عنه [21]) فرواه عن عبيد الله بن معاذ (وهو العنبري)، عن أبيه، عن حميد الطويل به. وفي كون أبي رجاءٍ هو العطاردي نظر، وليُنظر:"تاريخ دمشق" لابن عساكر (21/ 479، 485).

(3)

في "الصحيح"(3500). ورواه ابن حزم في "الإحكام"(8/ 31) و"الصادع"(318)، ومنه النقل.

(4)

في المطبوع: "فأولئكم".

ص: 126

فهؤلاء من الصحابة: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وسهل بن حُنَيف، ومعاذ بن جبل، ومعاوية خال المؤمنين، وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم = يُخْرِجون الرأيَ عن العلم، ويذمُّونه، ويحذِّرون منه، وينهون عن الفتيا به. ومَن اضطُّر منهم إليه أخبَرَ أنه ظنٌّ، وأنه ليس على ثقة منه، وأنه يجوز أن يكون منه ومن الشيطان، وأنَّ الله ورسوله بريء منه، وأنَّ غايته أن يسوغ الأخذُ به عند الضرورة من غير لزوم لاتِّباعه ولا العمل به. فهل تجد عن أحد منهم قطٌّ

(1)

أنه جعَلَ رأيَ رجلٍ بعينه دينًا تُتْرَك له السُّننُ الثابتةُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُبدَّع ويُضلَّل مَن خالفه إلى اتباع السُّنن؟

فهؤلاء يَزَكُ

(2)

الإسلام، وعِصابة الإيمان، وأئمة الهدى، ومصابيح الدُّجى، وأنصَحُ الأئمة للأمة، وأعلَمُهم بالأحكام وأدلَّتها، وأفقَهُهم في دين الله، وأعمَقُهم علمًا، وأقلُّهم تكلفًا. وعليهم دارت الفتيا، وعنهم انتشر العلم، وأصحابهم هم فقهاء الأمة. ومنهم من كان مقيمًا بالكوفة كعلي وابن [33/أ] مسعود، وبالمدينة كعمر بن الخطاب وابنه وزيد بن ثابت، وبالبصرة كأبي موسى الأشعري، وبالشام كمعاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان، وبمكة

(1)

استعمل "قط" لغير الزمان الماضي، وهو لحن قديم. انظر:"درة الغواص" للحريري مع شرح الخفاجي ــ طبعة أبو ظبي (ص 110). وانظر ما علَّقت على "طريق الهجرتين"(1/ 431).

(2)

كذا في جميع النسخ، وهو الصواب، وقد تقدَّم تفسيره في أول الكتاب. وفي النسخ المطبوعة:"برك". وهو تصحيف.

ص: 127

كعبد الله بن عباس، وبمصر كعبد الله بن عمرو بن العاص؛ وعن هذه الأمصار انتشر العلم في الآفاق. وأكثرُ مَن رُوِي عنه التحذيرُ من الرأي مَن كان بالكوفة إرهاصًا بين يدي ما علِم الله سبحانه أنه يحدُث فيها بعدهم.

فصل

قال أهل الرأي: وهؤلاء الصحابة ومَن بعدهم من التابعين والأئمة، وإن ذمُّوا الرأي، وحذَّروا منه، ونَهَوا عن الفتيا والقضاء به، وأخرجوه من جملة العلم؛ فقد رُوي عن كثير منهم الفتيا والقضاءُ به، والدلالةُ عليه، والاستدلالُ به، كقول عبد الله بن مسعود في المفوِّضة: أقول فيها برأيي، وقولِ عمر بن الخطاب لكاتبه: قل هذا ما رأى عمر بن الخطاب، وقولِ عثمان بن عفان في الأمر بإفراد العمرة عن الحج: إنما هو رأيٌ رأيتُه

(1)

، وقولِ علي في أمهات الأولاد: اتفق رأيي ورأيُ عمر على أن لا يُبَعْنَ

(2)

.

وفي كتاب عمر بن الخطاب إلى شُرَيح: إذا وجدتَ شيئًا في كتاب الله فاقضِ به، ولا تلتفت إلى غيره. وإن أتاك شيء ليس في كتاب الله فاقضِ بما

(1)

سبق تخريج هذه الآثار قريبًا.

(2)

رواه عبد الرزاق في "المصنف"(13224)، وسعيد بن منصور في "السنن"(2048)، وعمر بن شبة في "أخبار المدينة"(2/ 729)، ويعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ"(2/ 442) ــ ومن طريقه البيهقي في "المدخل"(86)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(2/ 124) ــ، وابن أبي خيثمة في "التاريخ"(4176 - السفر الثالث) ــ ومن طريقه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(1616) ــ، والبيهقي "السنن الكبير"(10/ 348)، وفي "معرفة السنن"(7/ 563)، وجوّده ابن النحوي في "البدر المنير"(9/ 761)، وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير" (4/ 403):"وهذا الإسناد معدودٌ في أصح الأسانيد". ونحوُه في كتابه "الدراية"(2/ 88).

ص: 128

سنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يسُنَّ فيه

(1)

رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما أجمعَ عليه الناس. وإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولا سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتكلَّم فيه أحدٌ قبلك؛ فإن شئتَ أن تجتهد رأيَك فتقدَّمْ، وإن شئتَ أن تتأخَّر فتأخَّرْ، وما أرى التأخُّرَ إلا خيرًا لك.

ذكره سفيان [33/ب] الثوري عن الشيباني، عن الشعبي، عن شُرَيح أنَّ عمر كتب إليه

(2)

.

وقال أبو عبيد في "كتاب القضاء"

(3)

: ثنا كَثِير بن هشام عن جعفر بن

(1)

"فيه" ساقط من النسخ المطبوعة.

(2)

رواه النسائي في "المجتبى"(5399)، وفي "الكبرى"(5911)؛ من طريق أبي عامر (وهو العقدي)، عن الثوري به. واختاره الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"(133، 134). ويَحْسُنُ الموازنة بما في "جامع بيان العلم"(1595) مع التأمل في تعقيب ابن عبد البر على رواية داود الظاهري. ورواه سعيد بن منصور ــ ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبير"(10/ 110) ــ، والحميدي ــ ومن طريقه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 492) ــ: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق الشيباني، عن الشعبي:(فذكره). وسفيان هذا هو ابن عيينة. ورواه ابن أبي خيثمة في "التاريخ"(4217 - السفر الثالث) ــ ومن طريقه ابن عبد البر في "الجامع"(1596) ــ من طريق عبد الواحد بن زياد، عن الشيباني به. ورواه الدارمي (169) من طريق علي بن مسهر، عن أبي إسحاق (وهو الشيباني)، عن الشعبي، عن شريح به. ورواه البيهقي (10/ 115) من طريق معاوية بن حفص، عن علي بن مسهر وابن فضيل وأسباط

عن الشيباني، عن الشعبي، عن شريح (كذا جوّدوه كما صنع العقدي). وجزم ابن حجر بصحة سنده في "موافقة الخبر الخبر"(1/ 120).

(3)

سمّاه الحافظ ابن حجر في "المعجم المفهرس": "كتاب القضاء وآداب الحكَّام". وذُكر في الفهرست ــ طبعة مؤسسة الفرقان ــ (1/ 216) والكتب الناقلة عنه باسم "أدب القاضي".

ص: 129

بُرْقان عن ميمون بن مِهران قال: كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكمٌ نظَرَ في كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه ما يقضي به قضَى به. وإن لم يجد في كتاب الله نظَر في سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن وجد فيها ما يقضي به قضَى به. فإذا

(1)

أعياه ذلك سأل الناسَ: هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضَى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القومُ، فيقولون: قضَى فيه بكذا وكذا. فإن لم يجد سنّةً سنَّها النبيُّ صلى الله عليه وسلم جمَع رؤساءَ الناس، فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به. وكان عمر يفعل ذلك، فإذا أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنَّة سأل: هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء؟ فإن كان لأبي بكر قضاءٌ قضى به، وإلا جمَع علماءَ الناس، واستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به

(2)

.

وقال أبو عبيد: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عُمارة بن عُمَير، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود قال: أكثرَوا عليه ذاتَ يوم فقال: إنه قد أتى علينا زمانٌ ولسنا نقضي، ولسنا هناك؛ ثم إنَّ الله بلَّغنا ما ترون. فمَن عُرِض عليه قضاءٌ بعد اليوم فليقضِ بما في كتاب الله. فإن جاءه أمرٌ ليس في كتاب الله ولا قضَى به نبيُّه صلى الله عليه وسلم، فليقضِ بما قضَى به الصالحون. فإن جاءه أمرٌ ليس في كتاب الله، ولا قضى به نبيُّه صلى الله عليه وسلم، ولا قضى به الصالحون؛ فليجتهِدْ رأيَه، ولا يقل: إني أرى، وإني أخاف؛ فإنَّ [34/أ] الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبين ذلك مشتبهات، فدَعْ ما يَريبك إلى ما لا يريبك

(3)

.

(1)

في النسخ المطبوعة: "فإن".

(2)

رواه الدارمي (163)، والإسماعيلي في "المعجم"(1/ 417 - 418)، والبيهقي في "السنن الكبير"(10/ 114)؛ من طرق عن جعفر به. وميمون بن مهران لم يُدرك أبا بكر رضي الله عنه.

(3)

رواه النسائي في "المجتبى"(5397)، وقال:"هذا الحديث جيد جيد". وفي سند الأثر اختلافٌ على الأعمش في تعيين شيخ عمارة بن عمير، لكنه اختلافٌ لا يضرّ؛ فليُنظر:"المسند" للدارمي (171، 172)، و"المجتبى" للنسائي (5398)، و"العلل" للدارقطني (5/ 210 - 211)، و"تحفة الأشراف" للمزي (7/ 18)، و"موافقة الخُبر الخَبر" لابن حجر (1/ 119).

ص: 130

وقال محمد بن جرير الطبري: حدثني يعقوب بن إبراهيم، أنا هُشَيم، أنا سيَّار، عن الشعبي قال: لما بعث عمرُ شريحًا على قضاء الكوفة قال له: انظر ما يتبيَّن

(1)

لك في كتاب الله، فلا تسأل عنه أحدًا. وما لم يتبيَّن لك في كتاب الله فاتَّبِع فيه سنّةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما لم يتبيَّن لك فيه السنّة فاجتهِدْ فيه رأيَك

(2)

.

وفي كتاب عمر إلى أبي موسى: اعرِفِ الأشباهَ والأمثالَ، وقِسْ الأمورَ

(3)

.

(1)

كذا في النسخ، ولا يستبعد أن يكون الأصل:"تبيَّن" كما في "جامع بيان العلم". وسيأتي الأثر بلفظ آخر.

(2)

رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(1598) من طريق ابن جرير. ورواه سعيد بن منصور ومن طريقه ابن حزم في "الإحكام"(6/ 29)، والبيهقي في "السنن الكبير"(10/ 110)، ووكيع القاضي في "أخبار القضاة"(2/ 189)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 491). ويُنظر:"تاريخ مدينة دمشق" لابن عساكر (23/ 19 - 21).

(3)

"جامع بيان العلم"(2/ 871). ورواه عمر بن شبة في "أخبار المدينة"(2/ 775 - 776)، وابن حزم في "الإحكام"(7/ 146).

وله طرق أخرى عند البلاذري في "أنساب الأشراف"(10/ 389)، والدارقطني في "السنن"(4471)، وابن حزم في "الإحكام"(7/ 146 - 147)، والبيهقي في "السنن الكبير"(10/ 115، 150)، وفي "السنن الصغير"(3259)، وفي "معرفة السنن والآثار"(7/ 366 - 367)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(1/ 492)، ومجموع طرقه ــ مع شهرته وانتشاره ــ يدلّ على أن له أصلًا، خاصة مع اعتضاده بوجادة سعيد بن أبي بردة، وليُنظر:"مسند الفاروق" لابن كثير (2/ 437)، و"إرواء الغليل" للألباني (8/ 241 - 242).

ص: 131

وقايس عليَّ بن أبي طالب زيدُ

(1)

بن ثابت في المُكاتَب

(2)

. وقايسَه في الجدِّ والإخوة، فشبَّهه عليٌّ بسيلٍ انشعبت منه شعبة، ثم انشعبت من الشعبة شعبتان. وقاسه

(3)

زيدٌ على شجرةٍ انشعب منها غصنٌ، وانشعب من الغصن غصنان

(4)

. وقولهما في الجَدِّ: إنه لا يحجب الإخوة

(5)

.

وقاس ابن عباس الأضراسَ بالأصابع، وقال: اعتَبِروها

(6)

بها

(7)

.

وسئل عليٌّ عن مسيره إلى صِفِّين: هل كان بعهدٍ عهِده إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أم رأيٌ رآه؟ قال: بل رأيٌ رأيتُه

(8)

.

(1)

في النسخ المطبوعة: "وزيد" بواو العطف، والصواب ما أثبت من النسخ، وكذا في "جامع بيان العلم"(2/ 872) وهو مصدر النقل.

(2)

يُنظر: "التمهيد"(22/ 176)، و"جامع بيان العلم"(2/ 969).

(3)

في النسخ المطبوعة: "وقايسه"، والصواب ما اتفقت عليه نسخنا و"جامع بيان العلم".

(4)

سيأتي تخريجه.

(5)

يُنظر: "السنن الكبير" للبيهقي (6/ 246، 247، 248).

(6)

سيأتي بهذا اللفظ مرة أخرى. وفي النسخ المطبوعة: "اعتبرها".

(7)

رواه الإمام مالك في "الموطأ"(3203)، وعنه الإمام الشافعي في "الأم"(7/ 308)، وعبد الرزاق في "المصنف"(17495)، ومصعب الزبيري في حديثه (214)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(27515)، وسنده جيد قوي.

(8)

رواه أبو داود في "السنن"(4666) بسند صحيح، وقد اختاره الضياء المقدسي في كتابه "الأحاديث المختارة"(704).

ص: 132

وقال عبد الله بن مسعود ــ وقد سئل عن المفوِّضة ــ: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمنِّي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريء

(1)

.

وقال ابن أبي خَيْثَمة: ثنا أبي، ثنا محمد بن خازم، عن الأعمش، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: من عرض له منكم قضاءٌ فَلْيقضِ بما في كتاب الله. فإن لم يكن في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيُّه صلى الله عليه وسلم. فإن جاءه أمرٌ ليس في كتاب الله ولم يقضِ فيه

(2)

نبيُّه صلى الله عليه وسلم فليقضِ بما قضى به الصالحون. فإن جاءه أمر ليس في كتاب [34/ب] الله، ولم يقضِ به نبيُّه، ولم يقض به الصالحون؛ فليجتهد رأيَه. فإن لم يُحسِنْ فليقُمْ ولا يَسْتَحْيِ

(3)

.

وذكر سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: سمعتُ ابنَ عباس إذا سئل عن شيء، فإن كان في كتاب الله قال به. وإن لم يكن في كتاب الله وكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال به. فإن لم يكن في كتاب الله، ولا عن

(1)

تقدَّم تخريجه قريبًا.

(2)

ت، ف:"به".

(3)

"جامع بيان العلم"(1599). ورواه الدارمي (173) من طريق جرير عن الأعمش، لكنه لم يَسُقْ لفظَه. ورواه ابن حزم في "الإحكام"(6/ 28) من طريق ابن أبي شيبة، عن ابن أبي زائدة، عن الأعمش به. وقد قصّر به المسعودي، فرواه عن القاسم بن عبد الرحمن، عن ابن مسعود، رواه عبد الرزاق في "المصنف"(15295)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(1/ 494)؛ من طرق عن المسعودي به.

ص: 133

رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عن أبي بكر وعمر= قال به. فإن لم يكن في كتاب الله، ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أبي بكر وعمر= اجتهَد رأيه

(1)

.

وقال ابن أبي خَيثمة: حدَّثني أبي، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن عبد الملك بن أبجَر، عن الشعبي، عن مسروق قال: سألتُ أُبَيَّ بن كعب عن شيء، فقال: أكان هذا؟ قلت: لا. قال: فأجِمَّنا

(2)

حتى يكون، فإذا كان اجتهَدنا لك رأيَنا

(3)

.

قال أبو عمر بن عبد البر

(4)

: ورُوِّينا عن ابن عباس أنه أرسل إلى زيد بن

(1)

"جامع بيان العلم"(1600). ورواه ابن وهب في "المسند"(112) ــ ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبير"(10/ 115) ــ، وابن أبي عمر العدني في "المسند"[كما في "إتحاف الخيرة المهرة" (5/ 388)]، والدارمي (168)، وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة ــ ومن طريقهما ابن حزم في "الإحكام"(6/ 28، 28 - 29) ــ، والحاكم في "المستدرك" (1/ 127) ــ وقال:"صحيح على شرط الشيخين" ــ، والبيهقي في "المدخل"(73)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(1/ 497، 498). ونقل الزيلعي في "نصب الراية"(4/ 64) عن البيهقي قولَه: "إسناده صحيح".

(2)

من الإجمام. أي أرِحنا حتى يقع.

(3)

رواه أبو خيثمة في كتاب "العلم"(76) ــ ومن طريقه ابن عبد البر في "الجامع"(1604)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(2/ 14)، وابن عساكر في "التاريخ"(7/ 344) ــ، وابن سعد في "الطبقات"(3/ 464)، والدارمي (152)، وابن بطة في "الإبانة"(315)، والسند صحيح.

(4)

في "جامع بيان العلم". وقد رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(31714) عن عبدة، عن الأعمش، عنه، وهو ظاهر الانقطاع. ورواه الدارمي (2917)، من طريق الحكم، عن عكرمة، ورواه ابن أبي شيبة (31710)، والبيهقي في "السنن الكبير"(6/ 228) من طريق آخر عن عكرمة بمعناه.

ص: 134

ثابت: أفي كتاب الله ثلثُ ما بقي

(1)

؟ فقال: أنا أقول برأيي، وتقول برأيك.

وعن ابن عمر أنه سئل عن شيء فعَلَه: أرأيتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فعَل هذا، أو شيءٌ رأيتَه؟ قال: بل شيءٌ رأيتُه

(2)

.

وعن أبي هريرة أنه كان إذا قال في شيء برأيه قال: هذه من كيسي. ذكره ابنُ وهب، عن سليمان بن بلال، عن كَثير بن زيد، عن وليد بن رَباح، عن أبي هريرة

(3)

.

وكان أبو الدرداء يقول: إيّاكم وفراسةَ العلماء. احذروا أن يشهدوا عليكم شهادةً تكُبُّكم على وجوهكم في النار. فوالله، إنَّه لَلحقُّ يقذفه الله [35/أ] في قلوبهم

(4)

.

(1)

يعني: للأمّ في مسألتي العمريتين كما سيأتي.

(2)

علّقه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله"(1606).

(3)

علّقه ابن عبد البر في "الجامع"(1607) عن ابن وهب به، وسنده يحتمل التحسين، خاصة أنه موقوف، وورد ما يشهد لأصل معناه.

(4)

علّقه ابن عبد البر في "الجامع"(1609). وقد رواه العسكري في "الأمثال" من طريق ابن المبارك، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن عمير بن هانئ، عن أبي الدرداء بنحوه (كما في "المقاصد الحسنة" للسخاوي ص 59)، ولا يصح البتة، بل هو منكر جدّا بهذا الإسناد. والأشبه بالصواب ما رواه اللالكائي في "كرامات الأولياء"(101) من طريق غيلان الفزاري، عن أبي قتيلة أنه كان يقول: اتقوا فراسة العلماء؛ فإنه حقٌّ يجعله الله تعالى على أبصارهم، وفي قلوبهم. وذكر أبو الدرداء ــ يومًا ــ الفتنة

(فذكر قصّةً). والظاهر أن الأمر التبس على بعض الرواة، فلم يُميِّز بين الخبرين، بل لفّق، ودخل عليه خبر في آخر، والله أعلم. وغيلان هو ابن معشر المقرائي، وأبو قتيلة هو مرثد بن وداعة.

ص: 135

قلتُ: وأصل هذا في الترمذي

(1)

مرفوعًا: "اتقوا فراسةَ المؤمن، فإنه ينظر بنور الله"، ثم قرأ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75].

وقال أبو عمر

(2)

: ثنا عبد الوارث بن سفيان، ثنا قاسم بن أصبَغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخُشَني، ثنا إبراهيم بن أبي الفيّاض البَرْقي الشيخ الصالح، ثنا سليمان بن بَزِيع الإسكندراني، ثنا مالك بن أنس، عن يحيى بن

(1)

في "الجامع"(3127) من حديث مصعب بن سلام، عن عمرو بن قيس، عن عطية، عن أبي سعيد مرفوعا، وقال: هذا حديثٌ غريبٌ اهـ. وعطية شيعي ضعيف مدلّس، لكن الآفة من مصعب بن سلام، وهو ضعيف واهٍ، يقلب الحديث، وقد خلّط في هذا الحديث، ولا عبرة بمن تابعه من الضعفاء على روايته من هذا الوجه؛ فإن المحفوظ ما رواه العقيلي في "الضعفاء"(5/ 376) من طريق ابن وهب، عن سفيان، عن عمرو بن قيس الملائي قال: كان يُقال: اتقوا فراسة المؤمن

قال العقيلي: وهذا أولى اهـ. وجزم الخطيب أيضًا أنه الصواب، وليُنظر ما دبّجه يراعُه في "التاريخ"(4/ 313). وبالغ ابن الجوزي؛ فساقَه في "الموضوعات"، والصحيح أنه منكر ــ على كثرة طرقه ــ، لكنه لا يبلغ حدّ الوضع.

(2)

في "جامع بيان العلم"(1611، 1612) وعنه ابن حزم في "الإحكام"(6/ 27). وأخرجه الدارقطني في "غرائب مالك"، والخطيب في "الرواة عن مالك"، وفي "الفقيه والمتفقه"(1/ 476، 2/ 391)؛ من طرق عن ابن أبي الفياض به، وضعّفوه كلّهم. ويحسن النظر في "جامع بيان العلم"(1612)، و"لسان الميزان" لابن حجر (4/ 133)، و"سلسلة الأحاديث الضعيفة" للألباني (4854). ولا ريب في نكارته وغرابته الشديدة من طريق مالك. أما الرواية التي صحّحها السيوطي في "الجامع الكبير" مما خرّجه الطبراني في "الأوسط"(1618) من طريق الوليد بن صالح، عن محمد ابن الحنفية، عن أبيه علي رضي الله عنه؛ فلا تصح البتة، بل هي منكرةٌ، تفرّد بها الوليد هذا، وهو مجهول.

ص: 136

سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب، عن عليٍّ، قال: قلتُ: يا رسول الله، الأمرُ ينزِل بنا لم ينزِل فيه القرآنُ، ولم تمضِ فيه منك سنَّة. قال:"اجمعوا له العالِمين ــ أو قال: "العابدين" ــ من المؤمنين، فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضُوا فيه برأي واحد". وهذا غريب جدًّا من حديث مالك. وإبراهيمُ البَرْقي وسليمان ليسا ممن يُحتجُّ بهما.

وقال عمر لعلي وزيد: لولا رأيُكما لاجتمعَ رأيي ورأيُ أبي بكر، كيف يكون ابني ولا أكون أباه؟ يعني الجدَّ

(1)

.

وعن عمر أنه لقي رجلًا فقال: ما صنعتَ؟ قال: قضى عليٌّ وزيدٌ بكذا. قال: لو كنتُ أنا لَقضيتُ بكذا. قال: فما منَعك، والأمرُ إليك؟ قال: لو كنتُ أرُدُّك إلى كتاب الله أو إلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لفعلتُ، ولكنِّي أردُّك إلى رأيي، والرأيُ مشترك. فلم ينقُضْ ما قال علي وزيد

(2)

.

وذكر الإمام أحمد

(3)

عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إنَّ الله اطلع في

(1)

"جامع بيان العلم"(1613). ورواه البيهقي في "السنن الكبير"(6/ 246) من طريق الشعبي، وقال:"هذا مرسلٌ، الشعبي لم يُدرك أيام عمر، غير أنه مرسلٌ جيدٌ".

(2)

"جامع بيان العلم"(1614). ورواه عمر بن شبة في "أخبار المدينة"(2/ 693) عن هارون بن معروف، عن ضمرة بن ربيعة، عن حفص بن عمر، وهذا معضل، والظاهر أن حفص بن عمر هو السكوني الشامي، مجهول الحال، ترجمته في "التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 366)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (3/ 178)، و"تاريخ مدينة دمشق" لابن عساكر (14/ 431 - 432).

(3)

في "المسند"(3600) عن أبي بكر (وهو ابن عياش)، عن عاصم، عن زرّ، عن ابن مسعود، وصححه الحاكم في "المستدرك"(3/ 79)، وقال ابن حجر في "الأمالي المطلقة" (ص 65):"هذا حديثٌ حسنٌ". ورواه الطيالسي (243)، وابن وهب في "المسند"(125)، وابن الأعرابي في "المعجم"(862)، والطبراني في "المعجم الكبير"(8583)، من حديث المسعودي، عن عاصم، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، ورواه الطبراني في "الأوسط"(3602) من طريق عبد السلام بن حرب، عن الأعمش، عن أبي وائل به. ويُنظر:"المسند" للبزار (1816)، و"العلل" للدارقطني (5/ 66)، و"الأمالي المطلقة" لابن حجر (ص 65 - 66)، ويُراجَع "شرح العلل" لابن رجب (2/ 788)؛ فقد تناول مسألة اضطراب عاصم فيما يرويه عن زرّ وأبي وائل.

ص: 137

قلوب العباد، فرأى قلبَ محمد صلى الله عليه وسلم خيرَ قلوب [35/ب] العباد، فاختاره لرسالته. ثم اطلع في قلوب العباد بعده، فرأى قلوبَ أصحابه

(1)

خيرَ قلوب العباد، فاختارهم لصحبته. فما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون قبيحًا فهو عند الله قبيح

(2)

.

وقال ابن وهب عن ابن لهيعة: إنَّ عمر بن عبد العزيز استعمل عروةَ بن محمد السَّعْدي على اليمن، وكان من صالحي

(3)

عُمَّال عمر، وإنه كتب إلى عمر يسأله عن شيء من أمر القضاء، فكتب إليه عمر: لَعَمْري ما أنا بالنشيط على الفتيا ما وجدتُ منها بدًّا، وما جعلتُك إلا لتكفيني، وقد حمَّلتُك ذلك، فاقضِ فيه برأيك

(4)

.

(1)

ت: "الصحابة".

(2)

سيأتي الأثر مرة أخرى برواية أبي داود الطيالسي.

(3)

ح: "صالح".

(4)

علّقه ابن عبد البر في "الجامع"(1617) عن ابن وهب، ووصله ابن عساكر في "التاريخ"(40/ 291) من طريق ابن وهب به، لكن ساقه مختصرًا ليس فيه محلّ الشاهد. وروى أبو عمر محمد بن يوسف الكندي في كتاب "القضاة"(ص 242) من طريق ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن توبة بن نمر، قصةً شبيهةً بهذه، وقعت لقاضي مصر عياض بن عبيد الله مع عمر بن عبد العزيز.

ص: 138

وقال محمد بن سعد

(1)

: أخبرني رَوح

(2)

بن عُبادة، ثنا حمَّاد بن سلَمة، عن الجُرَيري أنَّ أبا سَلَمة بن عبد الرحمن قال للحسن: أرأيتَ ما تُفتي به الناسَ، أشيء سمعتَه أم برأيك؟ فقال الحسن: لا والله ما كلُّ ما نفتي به سمعناه، ولكن رأيُنا لهم خيرٌ من رأيهم لأنفسهم.

وقال محمد بن الحسن: من كان عالمًا بالكتاب والسنّة، وبقول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما استحسنَ فقهاءُ المسلمين= وَسِعَه أن يجتهد رأيَه فيما ابتُلِيَ

(3)

به، ويَقضِيَ به، ويُمضِيَه في صلاته وصيامه وحجِّه وجميع ما أُمِر به ونُهِي عنه. فإذا اجتهَدَ، ونظَر، وقاسَ على ما أشبَه، ولم يألُ= وَسِعَه العملُ بذلك، وإن أخطأ الذي ينبغي أن يقول به

(4)

.

فصل

ولا تعارُضَ بحمد الله بين هذه الآثار عن السادة الأخيار، بل كلُّها حقٌّ، وكلٌّ منها له وجهٌ. وهذا إنَّما يتبيَّن بالفرق بين الرأي الباطل الذي ليس من

(1)

في "الطبقات"(9/ 166). وخُولِف حماد بن سلمة في سنده ولفظه، فليُنظر:"المسند"(المعروف بالسنن) للدارمي (165)، و"الإحكام" لابن حزم (6/ 54)، و"ذم الكلام" لأبي إسماعيل الهروي (328)، ويحسن التأمل في "التاريخ" لابن عساكر (29/ 305 - 306).

(2)

ت: "عن روح".

(3)

في المطبوع: "يُبتلى"، وفي "الجامع" كما أثبت من النسخ.

(4)

علّقه عنه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(1622).

ص: 139

الدين، [36/أ] والرأيِ الحقِّ الذي لا مندوحةَ عنه لأحد من المجتهدين، فنقول وبالله المستعان:

الرأي في الأصل: مصدرُ رأى الشيءَ يراه رأيًا. ثم غلب استعماله على المرئيِّ نفسِه، من باب استعمال المصدر في المفعول، كالهوَى في الأصل مصدرُ هوِيَه يهواه هوًى، ثم استُعمِل في الشيء الذي يُهْوَى؛ فيقال: هذا هَوَى فلانٍ.

والعربُ تفرِّق بين مصادر فعل الرؤية بحسب محالِّها

(1)

فتقول: رأى كذا في النوم رُؤْيا، ورآه في اليقظة رؤيةً، ورأى كذا ــ لما يُعلَم بالقلب ولا يُرَى بالعين ــ رأيًا. ولكنهم خصُّوه بما يراه القلبُ بعد فكرٍ وتأمُّلٍ وطلبٍ لمعرفة وجه الصواب مما تتعارض فيه الأمارات. فلا يقال لمن رأى بقلبه أمرًا غائبًا عنه مما يُحَسُّ به: إنه رأيه

(2)

. ولا يقال أيضًا للأمر المعقول الذي لا تختلف فيه العقول ولا تتعارض فيه الأمارات: إنه رأيٌ، وإن احتاج إلى فكرٍ وتأمُّلٍ كدقائق الحساب ونحوها.

وإذا عُرِف هذا فالرأي ثلاثة أقسام: رأي باطل بلا ريب، ورأي صحيح، ورأي هو موضع الاشتباه. والأقسام الثلاثة قد أشار إليها السلف، فاستعملوا الرأي الصحيح، وعمِلُوا به، وأفتوا به، وسوَّغوا القولَ به. وذمُّوا الباطل، ومنعوا من العمل والفتيا والقضاء به، وأطلقوا ألسنتهم بذمِّه وذمِّ أهله.

والقسم الثالث سوَّغوا العملَ والفتيا والقضاء به عند الاضطرار إليه

(1)

في المطبوع: "محلِّها". وفي الطبعات السابقة كما أثبت من النسخ.

(2)

في المطبوع: "رأي". وفي الطبعات السابقة كما أثبت من النسخ.

ص: 140

حيث لا يوجد منه بدٌّ، ولم يُلزموا أحدًا العملَ [36/ب] به، ولم يحرِّموا مخالفته، ولا جعلوا مخالِفَه مخالِفًا للدين؛ بل غايتُه أنهم خَيَّروا بين قبوله وردِّه. فهو بمنزلة ما أبيح للمضطرِّ من الطعام والشراب الذي يحرُم عند عدم الضرورة إليه، كما قال الإمام أحمد: سألتُ الشافعيَّ عن القياس، فقال لي: عند الضرورة

(1)

.

وكان استعمالهم لهذا النوع بقدر الضرورة: لم يُفْرطوا فيه ويفرِّعوه ويولِّدوه ويوسِّعوه، كما صنع المتأخرون بحيث اعتاضوا به عن النصوص والآثار، وكان أسهل عليهم من حفظها؛ كما يوجد كثيرٌ من الناس يضبط قواعد للإفتاء

(2)

، لصعوبة النقل عليه وتعسُّر حفظه. فلم يتعدَّوا في استعماله قدرَ الضرورة، ولم يبغُوا العدولَ

(3)

إليه مع تمكُّنهم من النصوص والآثار؛ كما قال تعالى في المضطرِّ إلى الطعام المحرَّم: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] فالباغي: الذي يبتغي الميتةَ مع قدرته على التوصُّل إلى الذَّكيِّ

(4)

! والعادي: الذي يتعدَّى قدرَ الحاجة بأكلها.

(1)

نقله المصنف من قبل من "كتاب الخلال". وسينقله مرة أخرى من "المدخل" للبيهقي (248). وقد رواه في "معرفة السنن"(1/ 187) أيضًا، وسنده صحيح.

(2)

س، ت، ع:"الإفتاء"، وكذا في النسخ المطبوعة.

(3)

في جميع النسخ: "بالعدول" ولكن المثبت من النسخ المطبوعة هو الموافق لما يأتي من تفسير الآية عند المؤلف.

(4)

كذا في جميع النسخ، وسيأتي مثله. وفي النسخ المطبوعة:"المذكَّى"، وهما بمعنًى.

ص: 141

فالرأي الباطل أنواع:

أحدها: الرأي المخالف للنص. وهذا مما يُعلَم بالاضطرار من دين الإسلام فسادُه وبطلانُه، ولا تحِلُّ الفتيا به ولا القضاء، وإن وقع فيه مَن وقع بنوع تأويل وتقليد.

النوع

(1)

الثاني: هو الكلام في الدين بالخَرْص والظن، مع التفريط والتقصير في معرفة النصوص وفهمها واستنباط الأحكام منها. فإنَّ مَن جهِلها وقاس برأيه فيما سئل عنه بغير علم، بل لمجرَّدِ قدرٍ جامعٍ بين الشيئين ألحَق أحدَهما بالآخر، أو لمجرَّدِ قدرٍ فارقٍ يراه بينهما يفرِّق بينهما في الحكم، من غير نظرٍ إلى النصوص والآثار= فقد وقع في الرأي المذموم الباطل، فضلَّ، وأضلَّ

(2)

.

النوع الثالث: الرأي المتضمِّن لتعطيل

(3)

أسماء الربِّ وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهلُ البدع والضلال من الجهمية والمعتزلة والقدرية ومن ضاهاهم، حيث استعمل أهله قياساتهم الفاسدة وآراءهم الباطلة وشُبَهَهم الداحضة في ردِّ النصوص الصحيحة الصريحة؛ فردُّوا

(1)

"النوع" ساقط من ت.

(2)

في ع: "فصل وأصل" بالصاد المهملة فيهما. ويظهر أن هذا التصحيف قد وقع في النسخة المعتمدة في بعض الطبعات القديمة. فلما قرؤوه متصلًا بما بعده: "فصل وأصل النوع الثالث" حذفوا "وأصل" إلا في نشرة الوكيل، إذ لا معنى له هنا، وهكذا سقط:"فضلَّ وأضلَّ" من المتن، ووجد فيه فصل جديد! أما طبعة دار ابن الجوزي فاستدركت الساقط بين حاصرتين، ثم أثبتت لفظ "فصل" أيضًا!

(3)

كذا في جميع النسخ. وفي النسخ المطبوعة: "تعطيل". ولعله تصرف من بعض النساخ أو الناشرين.

ص: 142

لأجلها ألفاظَ النصوص التي وجدوا السبيل إلى تكذيب رُواتها وتخطئتهم، ومعانيَ النصوص التي لم يجدوا إلى ردِّ ألفاظها سبيلًا، فقابلوا النوعَ الأولَ بالتكذيب، والنوعَ الثانيَ بالتحريف والتأويل.

فأنكروا لذلك رؤيةَ المؤمنين ربَّهم في الآخرة، وأنكروا كلامَه وتكليمَه لعباده، وأنكروا مباينتَه للعالم، واستواءَه على عرشه، وعلوَّه على المخلوقات، وعمومَ قدرته على كلِّ شيء. بل أخرجوا أفعال عباده من الملائكة والأنبياء والجنِّ والإنس عن تعلُّق قدرته ومشيئته وتكوينه بها

(1)

، ونفَوا لأجلها حقائقَ ما أخبَر به عن نفسه وأخبر به رسولُه من صفات كماله ونعوت جلاله. وحرَّفوا لأجلها النصوصَ عن مواضعها، وأخرجوها عن معانيها وحقائقها بالرأي المجرَّد الذي حقيقتُه أنه زُبالةُ الأذهان، ونُحاتة

(2)

الأفكار، وعُصارة

(3)

الآراء ووساوس الصدور. فملؤوا به الأوراق سوادًا،

(1)

في النسخ المطبوعة: "لها"، تصحيف.

(2)

كذا في جميع النسخ. وقد جمع المؤلف بينها وبين الزبالة في قوله في النونية:

طوبى لهم لم يعبؤوا بنُحاتة الْـ

أفكار أو بزُبالة الأذهانِ

وقال فيها أيضًا:

جاؤوكم بالوحي لكن جئتمُ

بنحاتة الأفكار والأذهان

وانظر: "إغاثة اللهفان"(1/ 206) و"اجتماع الجيوش"(2/ 58). وفي النسخ المطبوعة: "نخالة"، وكذا وقع في "اجتماع الجيوش"(2/ 54) و"الصواعق"(2/ 433)، وأخشى أن يكون تصحيفًا مع صحة معناه.

(3)

ع: "عقارة"، وفي غيرها:"عفارة"، وكذا في النسخ المطبوعة، ولا معنى لها بالفاء ولا بالقاف. والكلمات التي استعملها المؤلف في هذا السياق: النُّفاية، والكناسة، مع الزبالة، والنحاتة. ولعل الصواب ما أثبت. وكذا في بعض النسخ المعتمدة في المطبوع.

ص: 143

والقلوبَ شكوكًا، والعالمَ فسادًا.

وكلُّ من له مُسكةٌ من عقل يعلم أنَّ فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل. وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكُه، [37/ب] ولا في أمَّةٍ إلا وفسد أمرُها أتمَّ فساد. فلا إله إلا الله، كم نُفِي بهذه الآراء من حقٍّ، وأُثبِتَ بها من باطل، وأُمِيت بها من هُدًى، وأُحْيِيَ بها من ضلالة! وكم هُدِم بها من معقِلٍ للإيمان

(1)

، وعُمِر بها من دَيْرٍ

(2)

للشيطان

(3)

! وأكثرُ أصحاب الجحيم هم أهلُ هذه الآراء الذين لا سمع لهم ولا عقل، بل هم شرٌّ من الحُمُر، وهم الذين يقولون يوم القيامة:{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10].

النوع الرابع: الرأي الذي أُحدثت به البدعُ، وغُيِّرت به السُّنن، وعَمَّ به البلاء، وتربَّى عليه الصغير، وهَرِم فيه الكبير.

فهذه الأنواع الأربعة من الرأي الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمِّه وإخراجه من الدين.

النوع الخامس: ما ذكره أبو عمر بن عبد البر

(4)

عن "جمهور أهل العلم أنَّ الرأي المذموم في هذه الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه

(5)

(1)

س، ع:"الإيمان"، وكذا في النسخ المطبوعة.

(2)

في ع ما يشبه "دين"، وكذا في النسخ المطبوعة، وهو تصحيف.

(3)

ع: "الشيطان"، وكذا في النسخ المطبوعة.

(4)

في "جامع بيان العلم"(2/ 1054).

(5)

ح: "الصحابة".

ص: 144

والتابعين رضي الله عنهم، أنه القولُ في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون، والاشتغالُ بحفظ المعضِلات والأغلوطات، وردُّ الفروع

(1)

بعضها على بعض قياسًا، دون ردِّها على أصولها والنظرِ في عللها واعتبارها؛ فاستُعمِل فيها الرأيُ قبل أن تنزل، وفُرِّعت وشُقَّتْ

(2)

قبل أن تقع، وتُكُلِّم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظن. قالوا: وفي الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيلُ السنن، والبعثُ على جهلها، وتركُ الوقوف على ما يلزم الوقوفُ عليه منها ومن كتاب الله عز وجل ومعانيه. واحتجُّوا على ما ذهبوا إليه بأشياء".

ثم ذكر

(3)

من طريق أسد بن موسى، ثنا شريك، [38/أ] عن ليث، عن طاوس، عن ابن عمر قال: لا تسألوا عمَّا لم يكُن؛ فإنِّي سمعتُ عمرَ يلعن مَن يسأل عمَّا لم يكن.

ثم ذكر

(4)

من طريق أبي داود، ثنا إبراهيم بن موسى الرازي، ثنا

(1)

في "الجامع": "الفروع والنوازل".

(2)

في النسخ المطبوعة: "شقِّقت"، وكذا من "الجامع".

(3)

برقم (2036) من طريق أسد به، ورواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه"(2/ 21) من طريق مسروق بن المرزبان، عن شريك، عن ليث، عن نافع، عن ابن عمر. وخالفه جرير بن عبد الحميد، فرواه عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر، أخرجه عنه أبو خيثمة في كتاب "العلم"(144) ــ ومن طريقه ابن عبد البر في "الجامع"(2067)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(2/ 13) ــ. وهذا أشبه، على أن ليثًا ــ وهو ابن أبي سُليم ــ ضعيف شديد التخليط. ورواه الدارمي (123) عن مسلم بن إبراهيم، عن حماد بن يزيد المنقري، عن أبيه، عن ابن عمر. وهذا سند فيه جهالة.

(4)

برقم (2037). ورواه الإمام أحمد (23688)، وأبو داود في "السنن"(3656)، وعبد الله بن سعد مجهول. ويُنظر:"المسند" لأحمد (23687)، و"العلل" للدارقطني (7/ 67).

ص: 145

عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن عبد الله بن سعد، عن الصُّنابِحي، عن معاوية أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم: نهَى عن الأُغلُوطات.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي بإسناده مثله

(1)

.

وقال

(2)

: فسَّره الأوزاعي: يعني: صعابَ المسائل

(3)

.

وقال الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن عبد الله بن سعد، عن عُبادة بن نسي، عن الصُّنابحي

(4)

عن معاوية بن أبي سفيان أنهم ذكروا المسائل عنده، فقال: أتعلمون

(5)

أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن عُضَل المسائل؟

(6)

.

(1)

رواه ابن عبد البر في "الجامع"(2038) من طريق ابن أبي شيبة به. ووقع في "المسند" لابن أبي شيبة (973): عن الصنابحي، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يقولون: هو معاوية هذا الرجل اهـ. ويَحْسُنُ تأمّل ما في "إتحاف الخيرة المهرة" للبوصيري (1/ 236).

(2)

يعني ابن عبد البر.

(3)

رواه الإمام أحمد (23687)، وفيه:"شداد المسائل وصعابها". وانظر: "غريب الحديث" للخطابي (1/ 354).

(4)

في النسخ: "عبادة بن قيس الصنابحي"، وهو تحريف وخلط. والتصحيح من "جامع بيان العلم"(2039).

(5)

في "الجامع": "أما تعلمون".

(6)

كذا رواه ابن عبد البر في "الجامع"(2039)، ووقع عنده ذكر الصنابحي بين عبادة بن نسي ومعاوية. ورواه الطبراني في "المعجم الكبير"(19/ 368)، وفي "مسند الشاميين"(2233)، ولم يقع عنده ذكر الصنابحي، مع أن الطبراني وابن عبد البر روياه من حديث علي بن عبد العزيز البغوي، عن سليمان الواسطي، عن الوليد. ولم يَرِدْ عند الدارقطني أيضًا حين ساق هذا الوجه في "العلل"(7/ 67). والحاصل أن ذكر الصنابحي من هذا الوجه مُدرجٌ، لا وجه له، إلا أن يكون من تخليط سليمان الواسطي وتلوُّنه؛ فهو مُتّهمٌ قد نزكوه. ويُضْعِفُ هذا الاحتمالَ أن مداره على الحافظ الشهير علي بن عبد العزيز البغوي.

ص: 146

وقال أبو عمر

(1)

: واحتجُّوا أيضًا بحديث سهلٍ وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره المسائل وعابها، وبأنه صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله يَكرَه لكم قِيلَ وقال، وكثرةَ السؤال"

(2)

.

وقال ابن أبي خَيثمة: ثنا أبي، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا مالك عن الزهري، عن سهل بن سعد قال: لعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسائلَ، وعابَها

(3)

.

قال أبو عمر: هكذا ذكره أحمد بن زهير بهذا الإسناد، وهو خلاف لفظ "الموطأ".

قال أبو عمر

(4)

: وفي سماع أشهب: سئل مالك عن قول رسول الله

(1)

في "الجامع"(2/ 1057) والكلام متصل.

(2)

تقدَّم تخريجه.

(3)

رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(2042) من طريق ابن أبي خيثمة به. والمحفوظ ما في "الموطأ"(2092)، و"العلم" لأبي خيثمة (77)، و"صحيح البخاري"(5259، 5308)، و"صحيح مسلم" (1492) بلفظ:(كره)، وليس (لعن). ويُنظر أيضًا:"الفقيه والمتفقه" للخطيب (2/ 11)، و"ذم الكلام" لأبي إسماعيل الهروي (523).

(4)

في "جامع بيان العلم"(2047).

ص: 147

- صلى الله عليه وسلم: "أنهاكم عن قيل وقال، وكثرة السؤال"، فقال: أما كثرةُ السؤال، فلا أدري أهو ما أنتم فيه ممَّا أنهاكم عنه من كثرة المسائل؛ فقد كرِه رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائلَ وعابَها. وقال الله عز وجل [38/ب]:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] فلا أدري أهو هذا، أم السؤال في مسألة الناس في الاستعطاء.

وقال الأوزاعي: عن عَبْدة بن أبي لُبابة: وددتُ أنَّ حظِّي من أهل هذا الزمان أن لا أسألهم عن شيء ولا يسألوني. يتكاثرون بالمسائل، كما يتكاثر أهلُ الدراهم بالدراهم

(1)

.

قال

(2)

: واحتجُّوا أيضًا بما رواه ابنُ شهاب، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أباه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعظمُ المسلمين في المسلمين جُرْمًا مَن سأل عن شيءٍ لم يُحرَّم على المسلمين، فحُرِّم عليهم

(1)

كذا رواه ابن عبد البر في "الجامع"(2045) من طريقٍ غريبةٍ جدًّا عن ضمرة، عن الأوزاعي، عن عبدة. والمحفوظ عن ضمرة (وهو ابن ربيعة) أنه يرويه عن رجاء بن أبي سلمة، عن عبدة، رواه ابن أبي خيثمة في "التاريخ"(4308 - السفر الثالث)، وأبو زرعة الدمشقي في "التاريخ"(1/ 355) ــ ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية"(6/ 114)، وابن عساكر في "التاريخ" (37/ 387) ــ من طريقين عن ضمرة به. وتابع ضمرة عليه: زيد بن الحباب، رواه الدارمي (207) ــ ومن طريقه ابن عساكر في "التاريخ"(37/ 387 - 388)، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 114)، وأبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام"(300) من طرق عن زيد بن الحباب به.

والأثر صحيح.

(2)

يعني ابن عبد البر في "الجامع"(2048).

ص: 148

من أجل مسألته"

(1)

.

وروى ابن وهب أيضًا

(2)

قال: حدَّثني ابن لهيعة، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ذروني ما تركتُكم، فإنما أهلكَ من كان قبلكم كثرةُ سؤالهم، واختلافُهم على أنبيائهم. فإذا نهيتُكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتُكم بشيءٍ فخذوا منه ما استطعتم"

(3)

.

وقال سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن طاوس قال: قال عمر بن الخطاب وهو على المنبر: أُحرِّج بالله على كلِّ امرئ سأل عن شيء لم يكن، فإنَّ الله قد بيَّن ما هو كائن

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري (7289) ومسلم (2358).

(2)

هذا لفظ ابن عبد البر، لقوله في الحديث السابق:"رواه عن ابن شهاب: معمر، وابن عيينة، ويونس بن يزيد، وغيرهم. وهذا لفظ حديث يونس بن يزيد من رواية ابن وهب عنه".

(3)

رواه ابن عبد البر في "الجامع"(2049) من طريق ابن وهب به، وابن لهيعة وإن كان فيه لينٌ، لكن قد تابعه أبو الزناد عند البخاري (7288)، ومسلم (1337)، وللحديث طرق أخرى كثيرة في الصحيحين وغيرهما ليس هذا مجال سردها.

(4)

"جامع بيان العلم"(2051، 2052). ورواه الدارمي (126)، وعمر بن شبة في "أخبار المدينة"(2/ 771)، والبيهقي في "المدخل"(293)، من طرق عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، به. وتابعه عبد الله بن طاوس عند أبي خيثمة في كتاب "العلم"(125)، وسُنيدِ بن داود ــ ومن طريقه ابن عبد البر في "الجامع"(2056) ــ، والبيهقي في "المدخل"(292). وطاوس لم يُدرك عمر رضي الله عنه. وله شاهدٌ رواه الخطيب في "الجامع"(2/ 12) من طريق عمرو بن مرة، عن عمر، وهو ظاهر الانقطاع.

ص: 149

قال أبو عمر

(1)

: وروى جرير بن عبد الحميد ومحمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ما رأيتُ قومًا خيرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ما سألوه إلا عن ثلاثَ عشرةَ مسألةً حتى قُبِض صلى الله عليه وسلم، كلُّهن في القرآن:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217]، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة: 220]. ما كانوا يسألونه إلا عمَّا ينفعهم.

قال أبو عمر: ليس في الحديث من الثلاثَ عشرةَ مسألةً إلا ثلاثٌ.

قلت: [39/أ] ومراد ابن عباس بقول

(2)

: "ما سألوه إلا عن ثلاثَ عشرة مسألةً": المسائل التي حكاها الله في القرآن عنهم، وإلا فالمسائلُ التي سألوه عنها وبيَّن لهم أحكامَها بالسنَّة لا تكاد تُحصَى، ولكن إنما كانوا يسألون

(3)

عما ينفعهم من الواقعات، ولم يكونوا يسألونه عن المقدَّرات والأغلوطات وعُضَل المسائل، ولم يكونوا يشتغلون بتفريع المسائل وتوليدها، بل كانت هممُهم مقصورةً على تنفيذ ما أمرهم به. فإذا وقع بهم أمرٌ سألوا

(4)

عنه، فأجابهم.

(1)

في "الجامع"(2053). ورواه الدارمي (127)، والبزار في "المسند"(5065)، وأبو يعلى في "المسند الكبير"(كما في "إتحاف الخيرة المهرة" للبوصيري (1/ 236)، و"المطالب العالية" لابن حجر 14/ 608)، والطبراني في "المعجم الكبير"(12288)، وابن بطة في "الإبانة"(296)، وعطاء بن السائب كان قد اختلط.

(2)

ف: "بقوله"، وكذا في المطبوع.

(3)

ع، ف:"يسألونه".

(4)

ت: "سألوه".

ص: 150

وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة: 101 - 102].

وقد اختُلِف في هذه الأشياء المسؤول عنها: هل هي أحكام قدرية أو أحكام شرعية

(1)

؟ على قولين:

فقيل: إنها أحكام شرعية عفا الله عنها، أي سكت عن تحريمها، فيكون سؤالُهم عنها سببَ تحريمها، ولو لم يسألوا لكانت عفوًا. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم، وقد سئل عن الحجِّ أفي كلِّ عام؟ فقال:"لو قلتُ نعم لَوجبَتْ، ذروني ما تركتُكم، فإنما أهلك الذين قبلكم كثرةُ مسائلهم واختلافُهم على أنبيائهم"

(2)

.

ويدل على هذا التأويل حديث أبي ثعلبة

(3)

المذكور: "إنَّ من أعظمِ

(4)

المسلمين في المسلمين جُرْمًا" الحديث.

ومنه الحديث الآخر: "إنَّ الله فرضَ فرائضَ فلا تضيِّعوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدُوها، وحرَّم أشياءَ فلا تنتهكوها. وسكتَ عن أشياء رحمةً من غير نسيان، فلا تبحثوا عنها"

(5)

.

(1)

ت: "أحكام شرعية أو

قدرية".

(2)

متفق عليه. وقد تقدم تخريجه قريبًا.

(3)

كذا وقع في النسخ الخطية والمطبوعة. وحديث أبي ثعلبة سيأتي عَقِبَه، أما هذا فهو من حديث سعد بن أبي وقاص، وقد تقدَّم قريبًا.

(4)

في النسخ المطبوعة: "إن أعظم".

(5)

رواه مسدد في "المسند"، وابن أبي شيبة في "المسند"[كما في "إتحاف الخيرة المهرة" للبوصيري (1/ 423)، و"المطالب العالية" لابن حجر (12/ 416)]، وسُنيد ــ ومن طريقه ابن عبد البر في "الجامع"(2012)، وابن حزم في "الإحكام"(8/ 24 - 25) ــ، والطبراني في "المعجم الكبير"(22/ 221)، وفي "مسند الشاميين"(3492)، وابن المقرئ في "المعجم"(471)، والدارقطني في "السنن"(4396)، وابن بطة في "الإبانة"(314)، وابن منده في "مجلس من أماليه"(9)، والحاكم في "المستدرك"(4/ 115)، وأبو نعيم في "الحلية"(9/ 17)، وابن حزم في "الإحكام"(8/ 24)، والبيهقي في "السنن الكبير"(10/ 12)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(2/ 16)، وابن عساكر في "معجمه"(2/ 965)، وقال:"هذا حديث غريب، ومكحول لم يسمع من أبي ثعلبة". وأغرب البوصيري فقال: "هذا إسنادٌ صحيح"! والصواب قول شيخِه ابن حجر في "المطالب": "رجاله ثقات، إلا أنه منقطع". ويُنظر: "العلل" للدارقطني (6/ 334)، و"جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 150 - 152).

ص: 151

وفُسِّرت بسؤالهم عن [39/ب] أشياء من الأحكام القدرية، كقول عبد الله بن حُذَافة: مَنْ أبي يا رسول الله؟

(1)

.

وقول الآخر

(2)

: أين أبي

(3)

يا رسول الله؟ قال: "في النار"

(4)

.

والتحقيق: أن الآية تعُمُّ النهيَ عن النوعين. وعلى هذا فقوله تعالى: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} إمّا في أحكام الخلق والقدر، فإنه يسوءهم أن يبدو لهم

(1)

أخرجه البخاري (93) ومسلم (2359) من حديث أنس.

(2)

في النسخ المطبوعة: "آخر".

(3)

كذا في ع، وهو الصواب في هذا الحديث. وفي غيرها:"أنا"، وهو حديث آخر عن جابر قال: قال رجل: أين أنا يا رسول الله إن قُتِلتُ؟ قال: "في الجنة". أخرجه البخاري (4046) ومسلم (1899).

(4)

أخرجه مسلم من حديث أنس (203).

ص: 152

ما يكرهونه مما سألوا عنه، وإما في أحكام التكليف، فإنه يسوءهم أن يبدو لهم ما يشقُّ عليهم تكليفُه مما سألوا عنه.

وقوله تعالى: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} فيه قولان:

أحدهما: أن القرآن إذا نزل بها ابتداءً بغير سؤال، فسألتم عن تفصيلها وعلمِها أبدى لكم وبيَّن لكم. والمراد بحين النزول زمنه المتصل به، لا الوقت المقارن

(1)

للنزول. وكأنَّ في هذا إذنًا

(2)

لهم في السؤال عن تفصيل المنزَّل ومعرفته بعد إنزاله، ففيه رفعٌ لتوهم المنع من السؤال عن تلك

(3)

الأشياء مطلقًا.

والقول الثاني: أنه من باب التهديد والتحذير، أي إن سألتم عنها في وقت نزول الوحي جاءكم بيانُ ما سألتم عنه ولا بُدَّ، وبدا لكم ما يسوءكم، لأنه وقتُ وحي، فاحذروا أن يوحي الله إلى رسوله في بيان ما سألتم عنه ما يسوءكم. والمعنى لا تتعرَّضوا للسؤال عما يسوءكم بيانُه، وإن تعرَّضتم له في زمن الوحي أُبديَ لكم.

وقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} أي عن بيانها خبرًا وأمرًا، بل طَوَى بيانهَا عنكم رحمةً ومغفرةً وحلمًا، والله غفور حليم. فعلى القول الأول، عفا الله عن التكليف بها توسعةً عليكم. وعلى القول الثاني، عفا الله عن بيانها لئلا يسوءكم بيانها.

(1)

في هامش ح بخط بعض القراء: "المقدر" وفوقه "صح". وفي هامش ف أشير إلى أن في نسخة: "المقدر".

(2)

ت، ع:"إذن".

(3)

"تلك" ساقط من ع والنسخ المطبوعة.

ص: 153

وقوله: [40/أ]{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} أراد نوع تلك المسائل، لا أعيانها. أي قد تعرَّض قومٌ من قبلكم لأمثال هذه المسائل، فلما بُيِّنت لهم كفروا بها، فاحذروا مشابهتَهم والتعرُّضَ لما تعرَّضوا له.

ولم ينقطع حكمُ هذه الآية، بل لا ينبغي للعبد أن يتعرض للسؤال عما إن بدا له ساءه، بل يستعفي ما أمكنه، ويأخذ بعفو الله.

ومن هاهنا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يا صاحب الميزاب

(1)

، لا

(1)

ت: "المقرات"، كذا بالتاء المفتوحة، والصواب: المِقْراة وهي أولى بالإثبات في المتن، وإن لم أرها في رواية، بل الوارد:"يا صاحبَ الحوض"، فإن المقراة بمعنى الحوض. وقد جاءت في حديث آخر أخرجه الدارقطني في "السنن" (34) عن ابن عمر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فسار ليلًا، فمرُّوا على رجلٍ جالسٍ عند مِقراةٍ له، فقال عمر: يا صاحبَ المقراة، أوَلَغَتِ السباعُ الليلةَ في مِقراتك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"يا صاحبَ المقراة لا تُخبِرْه، هذا تكلُّف. لها ما حملت في بطونها، ولنا ما بقي شرابٌ وطهورٌ".

وكأنَّ "الميزاب" في النسخ تصحيف "المقرات" الوارد في ت. ولكنَّ المشكل ما ورد في "إغاثة اللهفان" للمصنف (1/ 280). قال: "مرّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا، فسقط عليه شيء من ميزاب، ومعه صاحب له. فقال: "يا صاحبَ الميزاب، ماؤك طاهر أو نجس؟ فقال عمر: يا صاحبَ الميزاب، لا تُخبرنا، ومضى. ذكره أحمد".

وقد ورد نحوه في "مجموع الفتاوى"(21/ 57، 521، 607)، (22/ 184)، وفي الموضع الأخير: "وقد ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مرَّ هو وصاحب له بمكان، فسقط على صاحبه ماء من ميزابٍ

".

وقال ابن مفلح في "الفروع"(2/ 243 - 244): "

لحديث عمر رضي الله عنه في الميزاب".

فهل هذا أثر آخر ثبت عن عمر كما قال شيخ الإسلام؟ وذكره أحمد كما قال المصنف؟ فإن الأثر الذي أخرجه الإمام مالك وغيره فيه ورودُ عمر بن الخطاب وصاحبه عمرو بن العاص حوضًا، وسؤالُ عمرٍو صاحبَ الحوض: هل ترد حوضك السباع؟ ثم هو منقطع كما ترى في تخريجه الآتي. أما "أثر الميزاب" ففيه أن ماءً منه قَطَر على صاحب عمر، فنادى صاحبَ الميزاب. فهما أثران مختلفان في المعنى، ولكن لم أقف على "أثر الميزاب" هذا. وأخشى أن يكون استدلال الإمام أحمد في مسألة الميزاب بأثر الحوض قد أدَّى بعد خلط وتصحيف إلى هذه الصورة الجديدة له، والله أعلم.

ص: 154

تُخْبِرْنا" لما سأله رفيقُه عن مائه: أطاهرٌ أم لا

(1)

؟

وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربَّه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه وستَره، فلعله يسوءه إن أبدي له. فالسؤالُ عن جميع ذلك تعرُّضٌ لما يكرهه الله، فإنه سبحانه يكره إبداءَها، ولذلك سكتَ عنها. والله أعلم.

فصل

قالوا

(2)

: ومن تدبَّر الآثارَ المرويَّة في ذمِّ الرأي وجدها لا تخرج عن

(1)

رواه مالك في "الموطأ"(62)، وعبد الرزاق في "المصنف"(250)، وابن المنذر في "الأوسط"(1/ 422)، والدارقطني في "السنن"(62)، والبيهقي في "السنن الكبير"(1/ 250)، وفي "معرفة السنن"(1/ 324 - 325)، وفي "الخلافيات"(927)، وسنده ضعيف؛ لانقطاعه.

(2)

في ت كُتب في حوض لام "فصل": "قال أبو عمر"، يعني أن "ومن تدبر الآثار

" قول ابن عبد البر. فقد استطرد المصنف إلى شرح قول ابن عباس عن الصحابة: "ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض صلى الله عليه وسلم" ثم تفسير قوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} الآية، ثم رجع إلى كتاب ابن عبد البر (2/ 1062) فنقل هذه الجملة بتصرف.

ص: 155

هذه الأنواع المذمومة. ونحن نذكر آثار التابعين ومَن بعدهم بذلك ليتبيَّن مرادُهم:

قال الخُشَني: ثنا محمد بن بشَّار، ثنا يحيى بن سعيد القطَّان، عن مجالد، عن الشعبي قال: لعن الله أرأيت

(1)

!

قال يحيى بن سعيد: وثنا صالح بن مسلم قال: سألتُ الشعبيَّ عن مسألة من النكاح، فقال: إن أخبرتُك برأيي فَبُلْ عليه!

(2)

.

قالوا

(3)

: فهذا قول الشعبي في رأيه، وهو من كبار التابعين، وقد لقي مائة وعشرين من الصحابة، وأخذ عن جمهورهم.

وقال الطحاوي: ثنا سليمان بن شعيب، ثنا عبد الرحمن بن خالد، ثنا مالك بن مِغْوَل، عن الشعبي قال: ما جاءكم به هؤلاء عن أصحاب [40/ب] رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوه، وما كان من رأيهم فاطرَحُوه في الحُشِّ

(4)

.

(1)

رواه ابن حزم في "الصادع"(322) و"الإحكام"(6/ 49). ورواه أيضًا أبو نعيم في "الحلية"(4/ 320). ومجالد فيه لينٌ.

(2)

رواه ابن حزم في "الصادع"(323) و"الإحكام"(6/ 52). ورواه أبو نعيم في "الحلية"(4/ 319)، من طريقين عن صالح بن مسلم (وهو البكري) به، وقد تابعه محمد بن جحادة عند ابن سعد في "الطبقات"(8/ 368)، والأثر صحيح بلا ريب.

(3)

وهو قول ابن حزم بنصِّه في "الصادع"(605).

(4)

رواه ابن حزم في "الصادع"(324) ــ ما نقله المحقق من نسخة غوطا ــ و"الإحكام"(6/ 54 - 55) من طريق الطحاوي به، ووقع عنده (خالد بن عبد الرحمن)، وكذا رواه ابن عساكر في "التاريخ"(25/ 370) من طريق خالد بن عبد الرحمن به. ورواه الدارمي (206)، وعبد الله ابن الإمام أحمد في "العلل ومعرفة الرجال"(454)، وابن بطة في "الإبانة"(607، 608)، والخطيب في "الجامع"(1575)، وابن عساكر في "التاريخ"(25/ 370 - 371)؛ من طرق عن مالك بن مغول به. وله شاهد عند عبد الرزاق في "المصنف"(20476)، والبيهقي في "المدخل"(814)، وابن عبد البر في "الجامع"(1438)، وشاهد آخر عند ابن سعد في "الطبقات"(8/ 370)، ويعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ"(2/ 592). والأثر صحيح مستفيض.

ص: 156

وقال البخاري

(1)

: حدثنا سُنَيد بن داود، ثنا حمَّاد بن زيد، عن عمرو بن دينار قال: قيل لجابر بن زيد: إنهم يكتبون ما يسمعون منك. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، يكتبونه وأنا أرجع عنه غدًا!

قال إسحاق بن راهويه: قال سفيان بن عيينة: اجتهادُ الرأي هو مشاورة أهل العلم، لا أن يقول هو برأيه

(2)

.

وقال ابن أبي خَيثَمة

(3)

: ثنا الحَوطي، ثنا إسماعيل بن عياش، عن

(1)

كذا في النسخ الخطية والمطبوعة. ومرةً ثالثةً توهَّم المصنف أن محمد بن إسماعيل الراوي عن سنيد في الأثر المذكور هو البخاري، فأثبت "البخاري" مكان "محمد بن إسماعيل". وهو محمدُ بن إسماعيل بن سالم الصائغ المكي، ومن طريقه أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2070)، وعنه ابن حزم في "الصادع"(325) و"الإحكام"(6/ 52). وسُنيدٌ فيه لينٌ، لكنه تُوبِع؛ فقد رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى 9/ 180 عن عفان وعارم، عن حماد بن زيد به.

(2)

رواه ابن حزم في "الصادع" ــ بعد الأثر السابق كما في نسخة غوطا منه، وقد أثبته المحقق في الحاشية ــ و"الإحكام"(6/ 36).

(3)

في "التاريخ"(4697 - السفر الثالث)، ومن طريقه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(1456)، وعنه ابن حزم في "الصادع"(326) و"الإحكام"(6/ 53).

ورواه محمد بن نصر المروزي في "السنة"(94)، وفي "تعظيم قدر الصلاة"(746)، والآجري في "الشريعة"(107)، وابن بطة في "الإبانة"(100)، وأبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام"(393، 821)، وفي سنده خلاف على عبد الوهاب بن نجدة الحوطي في تعيين شيخه

وليس هذا مجال شرح ذلك، على أن للأثر طريقًا أخرى عند الخطيب في "الفقيه والمتفقه"(1/ 508) تشدّ من عضده وتُقوِّي دعامته.

ص: 157

سَوادة بن زياد وعمرو بن مهاجر، عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى الناس أنه: لا رأيَ لأحدٍ مع سنَّةٍ سنَّها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.

قال أبو نَضْرة: سمعتُ أبا سلَمة بن عبد الرحمن يقول للحسن البصري: بلغني أنك تفتي برأيك، فلا تُفْتِ برأيك إلا أن يكون سُنَّةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وقال البخاري

(2)

: حدثني محمد بن محبوب، ثنا عبد الواحد، ثنا الزبرقان بن عبد الله الأسدي

(3)

أن أبا وائل شقيق بن سلَمة قال: إياك ومجالسةَ من يقول: أرأيتَ، أرأيتَ!

(1)

رواه ابن حزم في "الصادع"(328) و"الإحكام"(6/ 54). ورواه أيضًا الدارمي (165) والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(2/ 344 - 345)، وأبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام"(328)، ويحسن تدبُّرُ ما في "التاريخ" لابن عساكر (29/ 305 - 306)، مع الموازنة بـ"الطبقات" لابن سعد (9/ 166).

(2)

في "التاريخ الأوسط" 3/ 43 ومن طريقه ابن حزم في "الصادع"(329) و"الإحكام"(6/ 55)، وابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق"(12/ 190).

ورواه أيضًا ابن سعد في "الطبقات"(8/ 220)، والدارمي (200) ــ ومن طريقه أبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام"(368) ــ، وابن أبي خيثمة في "التاريخ"(4406، 4459، 4467 - السفر الثالث) ــ ومن طريقه ابن عبد البر في "الجامع"(2094) ــ، وابن بطة في "الإبانة"(415، 416، 604)، والبيهقي في "المدخل"(229)؛ من طرق عن الزبرقان الأسدي به، وسند الأثر صحيح.

(3)

ما عدا س، ف:"الأسيدي"، تصحيف.

ص: 158

وقال أبان بن عيسى بن دينار، عن أبيه، عن ابن القاسم، عن مالك، عن ابن شهاب قال: دَعُوا السنَّة تمضي، لا تعرِضُوا لها بالرأي

(1)

.

وقال يونس، عن أبي الأسود

(2)

وهو محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، سمعتُ عروة بن الزبير يقول: ما زال أمرُ بني إسرائيل معتدلًا حتى نشأ فيهم المولَّدون أبناءُ سبايا الأمم، فأخذوا فيهم بالرأي، فأضلُّوهم.

(1)

رواه ابن حزم في "الصادع"(330) و"الإحكام" 6/ 55، وعنه الحميدي في جذوة المقتبس ص 243.

(2)

كذا أُعْضِل السندُ وبُتِر، وقد رواه ابن حزم في "الصادع" (331) و"الإحكام" (6/ 55) من طريق يونس بن عبد الأعلى: ثنا ابن وهب، أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن أبي الأسود به. ورواه الدارمي (122) عن محمد بن عيينة، عن علي ــ هو ابن مسهر ــ، عن هشام ــ هو ابن عروة ــ، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة به. ورواه أبو موسى المديني في "اللطائف"(51، 905) ــ واستغربه ــ من طريق منجاب بن الحارث، عن علي بن مسهر به. والمشهور عن هشام بن عروة روايتُه إياه عن أبيه رأسا، رواه الحميدي في "النوادر"(كما في "فتح الباري" لابن حجر 13/ 285) ــ ومن طريقه البيهقي في "المدخل"(222)، وفي "معرفة السنن"(335)، والخطيب في "تاريخ مدينة السلام"(15/ 543) ــ عن ابن عيينة، ومن طريق ابن عيينة رواه أيضًا ابن عبد البر في "الجامع" 2031) ح. ورواه ابن وهب في "الجامع"(كما في "فتح الباري" 13/ 301) ــ ومن طريقه ابن عبد البر في "الجامع"(2015) ــ عن يحيى بن أيوب ح. ورواه أبو عوانة الإسفراييني في "المسند الصحيح"(1025) من طريق وكيع ح. ورواه الخطيب في "تاريخ مدينة السلام"(15/ 543) من طريق إسماعيل بن عياش ح. ورواه أبو إسماعيل الهروي في ذم الكلام (64) ــ ومن طريقه أبو موسى المديني في "اللطائف"(52) ــ من طريق سفيان (وهو الثوري)، ومعمر ــ فرّقهما ــ ح؛ سِتَّتُهم عن هشام بن عروة، عن أبيه به. وتأمّل ما في "تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (ص 254 - 255).

ص: 159

وذكر ابن وهب عن ابن شهاب أنه قال ــ وهو يذكر ما وقع فيه الناسُ من هذا الرأيِ [41/أ] وتركِهم السُّنَن، فقال: إنَّ اليهود والنصارى إنما انسلخوا من العلم الذي بأيديهم حين اتبعوا

(1)

الرأيَ وأخذوا فيه

(2)

.

وقال ابن وهب: حدَّثني ابنُ لهيعة أن رجلًا سأل سالم بن عبد الله بن عمر عن شيء، فقال: لم أسمع في هذا شيئًا. فقال له الرجل: فأخبِرْني ــ أصلحك الله ــ برأيك. فقال: لا. ثم أعاد عليه، فقال: إنِّي أرضَى برأيك. فقال سالم: إني لَعلِّي إن أخبرتُك برأيي، ثم تذهَبُ، فأرى بعد ذلك رأيًا غيرَه، فلا أجدك

(3)

.

وقال البخاري

(4)

: حدَّثنا عبد العزيز بن عبد الله الأُوَيسي، ثنا مالك بن

(1)

ت: "ابتغوا". وفي غيرها والنسخ المطبوعة كما أثبت. وكذا في نسخة غوطا من "الصادع"، وهو مصدر النقل، ويظهر أن نسخته التي اعتمد عليها المؤلف كانت موافقة لنسخة غوطا. وفي "جامع بيان العلم":"استبقوا". وسيأتي مرة أخرى.

(2)

رواه ابن وهب كما في "جامع بيان العلم"(2028) ــ ومنه نقله ابن حزم في "الصادع"(332) ــ عن بكر بن مضر، عن رجل من قريش أنه سمع ابن شهاب يقول:(فذكره). والرجل القرشي مُبْهَمٌ لم يُسَمَّ، ولا يُعلَم من هو؟

(3)

رواه ابن حزم من طريق ابن وهب في "الصادع"(333) و"الإحكام"(6/ 55 - 56)، وسندُه ظاهر الضعف والانقطاع.

لكن قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1442): وذكر ابن وهب عن ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن سالم بن عبد الله بن عمر

(فذكره بمعناه). وهذا إن كان ابن لهيعة ضبطه جيّدًا عن خالد؛ فهو جيّدٌ قوي. ويحسن تأمّل ما في "طبقات علماء إفريقية وتونس" لأبي العرب القيرواني (ص 246).

(4)

في "التاريخ الكبير" 3/ 286 - 287، والحاكم في "معرفة علوم الحديث"(ص 52)، وابن حزم في "الصادع"(334) ــ وهو مصدر النقل ــ و"الإحكام"(6/ 125)، والخطيب في "الكفاية"(512)، وسنده صحيح.

ص: 160

أنس قال: كان ربيعة يقول لابن شهاب: إنَّ حالي ليس يُشبِه حالك. أنا أقول برأيي، من شاء أخَذَه وعمِل به، ومن شاء تَرَكه.

وقال الفِرْيابي: ثنا أحمد بن إبراهيم الدَّورقي قال: سمعتُ عبد الرحمن بن مهدي يقول: سمعتُ حماد بن زيد يقول: قيل لأيوب السَّخْتِياني: ما لك لا تنظر في الرأي؟ فقال أيوب: قيل للحمار: ما لكَ لا تجتَرُّ؟ قال: أكرَهُ مضغَ الباطل

(1)

.

وقال الفِرْيابي: ثنا العباس بن الوليد بن مَزْيَد، أخبَرَني أبي قال: سمعتُ الأوزاعيَّ يقول: عليك بآثارِ مَن سَلَفَ وإن رفضك الناس. وإياك وآراءَ الرِّجال، وإن زخرفُوا لك القولَ

(2)

.

(1)

رواه ابن عبد البر في "الجامع"(2085)، وعنه ابن حزم في "الصادع"(336) و"الإحكام"(6/ 53)، ورواه أيضًا أبو نعيم في "الحلية"(3/ 8) ومن طريقه الذهبي في "السير"(6/ 17) من طريق جعفر الفريابي به. ورواه الدينوري في المجالسة (2950)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(1/ 459)؛ من طريقين آخرين عن أحمد بن إبراهيم به. ورواه أبو زرعة الدمشقي في "التاريخ"(1/ 472، 507 - 508) ــ ومن طريقه ابن حبان في "الثقات"(9/ 159)، وابن عساكر في "التاريخ"(52/ 169) ــ من طريق موسى بن عبد الرحمن بن مهدي، عن أبيه به. والأثر صحيح.

(2)

رواه الآجري في "الشريعة"(127) ومن طريقه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(2077)، وعنه ابن حزم في "الصادع"(335) و"الإحكام"(6/ 52 - 53) وسنده صحيح. ورواه البيهقي في "المدخل"(233)، والخطيب في "شرف أصحاب الحديث"(6)، وأبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام"(120، 324)، وقوام السنة الأصبهاني في "الترغيب والترهيب"(970)؛ من طريقين آخرين عن العباس بن الوليد به.

ص: 161

وقال أبو زرعة

(1)

: ثنا أبو مُسْهِر قال: كان سعيد بن عبد العزيز إذا سئل لا يجيب حتى يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. هذا الرأي، والرأي يخطئ ويصيب.

وقد روى أبو يوسف والحسن بن زياد كلاهما عن أبي حنيفة أنه قال: علمنُا هذا رأي، وهو أحسَنُ ما قدَرنا عليه. ومن جاءنا بأحسَن منه قبِلناه منه

(2)

.

وقال الطحاوي: ثنا محمد بن [41/ب] عبد الله بن عبد الحكم، ثنا أشهب بن عبد العزيز قال: كنتُ عند مالك، فسئل عن "البتَّة"

(3)

، فأخذتُ ألواحي لأكتب ما قال، فقال لي مالك: لا تفعل، فعسى في العشيِّ أقول: إنها

(1)

هو الدمشقي في "التاريخ"(1/ 326)، وعنه يعقوب بن سفيان الفسوي في "المعرفة والتاريخ"(2/ 399) عن أبي مسهر به. وسنده صحيح. ومن طريق أبي زرعة رواه أيضًا ابن حزم في "الصادع"(340) و"الإحكام"(6/ 57)، وابن عساكر في "التاريخ"(60/ 217 - 218). ورواه يعقوب بن سفيان الفسوي في "المعرفة والتاريخ"(2/ 400)، وأحمد بن عبد الله بن نصر بن بجير في الفوائد (5) ــ وعنه أبو طاهر المخلص في الجزء الخامس من الفوائد الغرائب المنتقاة (3) ــ ومن طريقه ابن الجوزي في المنتظم (7/ 172) ــ عن علي بن عثمان النفيلي، عن أبي مسهر به.

(2)

أخرجه ابن حزم في "الصادع"(342) وهو مصدر المؤلف. ونقله الذهبي في "مناقب أبي حنيفة وصاحبيه"(ص 34) عن الحسن بن زياد، ونحوه عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة. وانظر:"الإحكام"(6/ 58، 185) و"كتاب الروح" للمصنف (ص 741) و"مجموع الفتاوى"(20/ 211).

(3)

يعني طلاق البتة.

ص: 162

واحدة

(1)

.

وقال معن بن عيسى القزَّاز: سمعتُ مالكًا يقول: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في قولي، فكلُّ ما وافق الكتاب والسنةَ فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه

(2)

.

فرضي الله عن أئمة الإسلام، وجزاهم عن نصيحتهم للأمة خيرًا. ولقد امتثل وصيّتَهم وسلك سبيلَهم أهلُ العلم والدين من أتباعهم.

وأما المتعصِّبون، فإنهم عكسوا القضية، ونظروا في السنَّة فما وافق أقوالَهم منها قبلوه، وما خالفها تحيَّلوا في ردِّه أو ردِّ دلالته. وإذا جاء نظيرُ ذلك أو أضعفُ منه سندًا ودلالةً وكان يوافق قولَهم قبلوه، ولم يستجيزوا ردَّه، واعترضوا به على منازعيهم، وأشاحوا

(3)

، وقرَّروا الاحتجاجَ بذلك السند ودلالته. فإذا جاء ذلك السندُ بعينه أو أقوى منه، ودلالته كدلالة ذلك أو أقوى منه في خلاف قولهم؛ دفعوه ولم يقبلوه. وسنذكر من هذا إن شاء الله طرفًا عند ذكر غائلة التقليد وفساده، والفرقِ بينه وبين الاتباع.

(1)

أخرجه ابن حزم في "الصادع"(344) وسنده صحيح. وانظر نحوه في "ترتيب المدارك"(1/ 190) و"الموافقات"(5/ 332).

(2)

رواه أحمد بن مروان الدينوري في "مناقب مالك"[نقل سندَه ابنُ عبد البر في "جامع بيان العلم" (1436)]، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(1435) ــ وعنه ابن حزم في "الصادع"(345) و"الإحكام"(6/ 56) ــ؛ من طريقين عن إبراهيم بن المنذر الحزامي، عن معن بن عيسى به.

(3)

أشاح: أعرض وجدَّ في الإعراض. وشيَّحَ: نظر إلى الخصم وضايقه. انظر "تاج العروس"(شيح).

ص: 163

وقال بقيُّ بن مَخْلَد: ثنا سَحنون والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك أنه كان يُكثِر أن يقول:{إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}

(1)

.

وقال القعنَبي: دخلتُ على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه، فسلَّمتُ عليه، ثم جلستُ. فرأيته يبكي، فقلتُ له: يا أبا عبد الله، ما الذي

(2)

يُبكيك؟ فقال لي: يا ابن قعنَب، [42/أ] ومالي لا أبكي؟ ومن أحقُّ بالبكاء منِّي؟ والله لوددتُ أنِّي ضُرِبتُ لكلِّ

(3)

مسألة أفتيتُ فيها بالرأي سوطًا. وقد كانت لي السعة فيما قد سُبِقت إليه، وليتني لم أُفْتِ بالرأي

(4)

.

وقال ابن أبي داود: ثنا أحمد بن سِنان قال: سمعتُ الشافعيَّ يقول: مَثَلُ الذي ينظر في الرأي ثم يتوب منه مثلُ المجنون الذي عولج حتى برئ، فأعقَلُ ما يكون قد هاج به

(5)

.

(1)

رواه ابن حزم في "الصادع"(347) و"الإحكام"(6/ 21، 57) ــ وعنه الحميدي في "جذوة المقتبس"(ص 382) ــ من طريق بقي بن مخلد به. وله شاهد رواه أبو نعيم في "الحلية"(6/ 323).

(2)

"الذي" ساقط من ت.

(3)

ع: "في كلِّ". وفي النسخ المطبوعة: "بكلِّ".

(4)

رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(2081)، وابن حزم ــ وهذا لفظه ــ في "الصادع"(348) و"الإحكام"(6/ 57) وعنه الحميدي في "جذوة المقتبس"(ص 511) ــ من طريقين عن محمد بن عمر بن لبابة، عن مالك بن علي القطني، عن القعنبي، وابن لبابة عالمٌ فقيهٌ، لكنه ضعيف، وشيخُه مالك بن علي ضعيف، كذّبه ابن وضاح.

(5)

رواه الآجري ــ ومن طريقه ابن عبد البر في "الجامع"(2034)، وعنه ابن حزم في "الصادع"(349) و"الإحكام"(6/ 53) ــ عن ابن أبي داود به، وسنده صحيح.

ص: 164

وقال ابن أبي داود: ثنا عبد الله

(1)

بن أحمد بن حنبل قال: سمعتُ أبي يقول: لا تكاد ترى أحدا نظَر في الرأي إلا وفي قلبه دَغَلٌ.

وقال عبد الله بن أحمد أيضًا: سمعتُ أبي يقول: الحديث الضعيف أحبُّ إليَّ من الرأي

(2)

.

وقال عبد الله: سألتُ أبي عن الرجل يكون ببلدٍ لا يجد فيه إلا صاحبَ حديثٍ لا يعرف صحيحه من سقيمه وأصحابَ رأي، فتنزل به النازلة. فقال أبي: يسأل أصحابَ الحديث، ولا يسأل صاحبَ

(3)

الرأي. ضعيفُ الحديث أقوى من الرأي

(4)

.

وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث أولى عنده من القياس والرأي، وعلى ذلك بنى مذهبه؛ كما

(1)

كذا رواه ابن حزم في "الصادع"(350). وإنما رواه الآجري ــ ومن طريقه ابن عبد البر في "الجامع"(2035) وعنه ابن حزم في "الإحكام"(6/ 53) ــ عن ابن أبي داود، قال: سمعتُ أبي يقول: سمعت أحمد

(فذكره). ويُؤيد ذلك أن أبا داود السجستاني رواه في "المسائل"(1777) عن الإمام أحمد. وسند الخبر صحيح غاية، وأغرب ابن حجر فذكر في "النكت على كتاب ابن الصلاح"(1/ 437) أنه رواه من طريق عبد الله ابن الإمام أحمد بالإسناد الصحيح؛ فالله تعالى أعلم.

(2)

رواه ابن حزم في "الصادع"(352) و"الإحكام"(6/ 58)، وفي "المحلى"(1/ 86 - 87) من طريق عبد الله بن أحمد به.

(3)

ع، ف:"أصحاب الرأي".

(4)

رواه ابن حزم في "الصادع"(356) و"الإحكام"(6/ 58) و"المحلى"(1/ 87) من طريق عبد الله بن أحمد به. وهو في "مسائل عبد الله"(1585) بمعناه، ومن طريقه رواه الخطيب في "تاريخ مدينة السلام"(15/ 579)، وأبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام"(333).

ص: 165

قدَّم حديثَ القهقهة

(1)

، مع ضعفه على القياس والرأي. وقدَّم حديثَ الوضوء بنبيذ التمر

(2)

في السفر، مع ضعفه على الرأي والقياس. ومنَعَ

(3)

قَطْعَ السارق بسرقةِ أقلَّ من عشرة دراهم، والحديث فيه ضعيف

(4)

. وجعل أكثرَ الحيض عشرة أيام، والحديثُ فيه ضعيف

(5)

. وشرَطَ في إقامة الجمعة المصرَ، والحديثُ

(6)

فيه ضعيف كذلك

(7)

. وترك القياسَ [42/ب] المحضَ في مسائل الآبار لآثارٍ فيها غيرِ مرفوعة

(8)

. فتقديُم الحديث الضعيف وآثار الصحابة على

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

كتب بعضهم في طرَّة ح مع علامة صح: "وقدَّم حديثَ". ونحوه في طرَّة ت أيضًا.

(4)

رواه الإمام أحمد في "المسند"(6900) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا، وآفتُه حجاج بن أرطاة، وهو ضعيف مدلّس. ويُنظر:"الجامع" للترمذي عقب الحديث (1446)، و"السنن" للدارقطني (3421 - 3433، 3452)، و"مسند أبي حنيفة" لابن خسرو (614، 615، 915)، و"جامع المسانيد" للخوارزمي (2/ 220)، و"تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (4/ 555 - 556)، و"نصب الراية" للزيلعي (3/ 359 - 360).

(5)

تقدَّم تخريجه.

(6)

رواه أبو يوسف في "الآثار"(ص 60) عن أبي حنيفة بلاغا، وهذا معضلٌ ساقطٌ.

ويُنظر: "المصنف" لعبد الرزاق (5175، 5176، 5177، 5181، 5719)، و"الإتحاف بتخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (4/ 23)، و"نصب الراية" له (2/ 159)، و"الدراية" لابن حجر (1/ 214)، و"سلسلة الأحاديث الضعيفة" للألباني (917).

(7)

لم يرد "كذلك" في ح، ف. و"ضعيف" ساقط من س، ع والنسخ المطبوعة.

(8)

في الباب آثار كثيرة، رواها عبد الرزاق في "المصنف"(269 - 276)، وأبو عبيد في "الطهور"(176 - 185)، والطحاوي "شرح معاني الآثار"(1/ 17 - 18)، وغيرُهم. ويحسُن تأمل كلام أبي عبيد في كتابه "الطهور"(ص 145 - 149).

ص: 166

القياس والرأي

(1)

قولُه وقولُ الإمام أحمد. وليس المراد بالحديث الضعيف في اصطلاح السلف هو الضعيف في اصطلاح المتأخِّرين، بل ما يسمِّيه المتأخرون حسنًا قد يسمِّيه المتقدمون ضعيفًا، كما تقدَّم بيانه

(2)

.

والمقصود: أن السلف جميعهم على ذمِّ الرأي والقياس المخالف للكتاب والسنة، وأنه لا يحِلُّ العملُ به لا فُتيا

(3)

ولا قضاءً، وأنَّ الرأي الذي لا يُعلَم مخالفتُه للكتاب والسنَّة ولا موافقتُه، فغايتُه أن يسوغ العملُ به عند الحاجة إليه، من غير إلزام ولا إنكار على من خالفه.

قال أبو عمر بن عبد البرِّ

(4)

: ثنا عبد الرحمن بن يحيى، ثنا أحمد بن سعيد بن حزم، ثنا عبد الله

(5)

بن يحيى بن يحيى

(6)

عن أبيه أنه كان يأتي ابنَ وهب فيقول له: من أين؟ فيقول له: من عند ابن القاسم. فيقول له ابنُ وهب: اتَّقِ الله؛ فإنَّ أكثر هذه المسائل رأي

(7)

.

(1)

زاد بعضهم في طرَّة ح، ت:"فهذا"، وفي ف:"فهو".

(2)

في (ص 65).

(3)

ت: "لإفتاءٍ".

(4)

في "جامع بيان العلم"(2175)، وعنه ابن حزم في "الصادع"(358) و"الإحكام"(6/ 54) عن عبد الرحمن بن يحيى به، وسنده صحيح.

(5)

كذا في النسخ الخطية والمطبوعة، وكذا في بعض نسخ "الصادع" ــ مصدر المؤلف ــ وملخص إبطال القياس (ص 68) وأصل "جامع بيان العلم". والصواب: عبيد الله كما في "الإحكام" ومطبوعتي "الصادع" و"الجامع".

(6)

ف: "عبد الله بن يحيى" فقط. وكذا في أكثر النسخ المطبوعة.

(7)

لم ينقل ابن حزم ــ والمؤلف صادر عن كتابه ــ أول هذا الأثر، وهو قول يحيى بن يحيى الليثي: "كنتُ آتي ابنَ القاسم، فيقول لي: من أين؟ فأقول: من عند ابن وهب، فيقول: اللهَ اللهَ، اتَّقِ الله، فإن أكثر هذه الأحاديث ليس عليها العمل. قال: ثم آتي ابنَ وهب

" إلخ. انظر: "جامع بيان العلم" و"ترتيب المدارك" (3/ 386).

ص: 167

وقال الحافظ أبو محمد

(1)

: ثنا عبد الرحمن بن سلَمة، ثنا أحمد بن خليل، ثنا خالد بن سعد

(2)

، أخبرني محمد بن عمر بن لُبابة

(3)

، ثنا أبان بن عيسى بن دينار قال: كان أبي قد أجمع على ترك الفتيا بالرأي، وأحبَّ الفتيا بما روي من الحديث، فأعجلته المنيةُ عن ذلك.

وقال أبو عمر

(4)

: وروى الحسن بن واصل عن الحسن

(5)

أنه قال: إنما هلك مَن كان قبلكم حين تشعَّبت بهم السُّبُل، وحادوا عن الطريق، وتركوا الآثار، وقالوا في الدين برأيهم، فضلُّوا وأضلُّوا.

قال أبو عمر

(6)

: وذكر نُعَيم بن حماد، عن أبي معاوية، عن الأعمش،

(1)

في "الصادع"(359) و"الإحكام"(6/ 55)، وعنه الحميدي في "جذوة المقتبس"(ص 433) عن عبد الرحمن بن سلمة به.

(2)

في النسخ الخطية والمطبوعة: "سعيد"، والتصحيح من مصادر التخريج. وخالد بن سعد حافظ ناقد من أئمة الحديث. انظر ترجمته في "جذوة المقتبس"(ص 297) و"سير أعلام النبلاء"(16/ 18).

(3)

في النسخ الخطية والمطبوعة: "كنانة"، تصحيف. انظر ترجمة ابن لبابة في "جذوة المقتبس"(ص 116) و"ترتيب المدارك"(4/ 238).

(4)

تعليقًا في "جامع بيان العلم" طبعة الزمرلي (2/ 269). وفي طبعة الزهيري (2/ 1050): "عن الشعبي". والحسن هذا هو ابن دينار، وهو واهٍ تالفٌ، وهو معروف بالرواية عن الحسن البصري. وعزاه إلى الحسن أيضًا الشاطبي في "الاعتصام"(1/ 178).

(5)

"عن الحسن" ساقط من ع والنسخ المطبوعة.

(6)

تعليقًا في "جامع بيان العلم"(2027) عن نعيم بن حماد به، ونعيمٌ ضعيفٌ، على فضله وإمامته في السنة.

ص: 168

عن مسلم [43/أ]، عن مسروق: من يرغَبْ برأيه عن أمر الله يَضِلَّ.

وذكر ابن وهب قال: أخبرني بكر بن مُضَر

(1)

عن رجل من قريش أنه سمع ابنَ شهاب يقول، وهو يذكر ما وقع فيه الناسُ من هذا الرأي وتركِهم السُّنَنَ، فقال: إن اليهود والنصارى إنما انسلخوا من العلم الذي كان بأيديهم حين اشتقُّوا

(2)

الرأي وأخذوا فيه

(3)

.

وذكر ابن جرير في كتاب "تهذيب الآثار" له عن مالك قال: قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تمَّ هذا الأمر واستكمل. فإنما ينبغي أن تُتَّبع آثارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يُتَّبع الرأيُ؛ فإنه من اتَّبع الرأيَ جاء رجلٌ آخرُ أقوى منه في الرأي فاتَّبعه، فأنت كلَّما جاء رجلٌ غلبك اتبعتَه

(4)

.

وقال نُعيم بن حماد: ثنا ابن المبارك، عن عبد الله بن وهب أنَّ رجلًا جاء إلى القاسم بن محمد، فسأله عن شيء، فأجابه. فلما ولَّى الرَّجلُ دعاه، فقال له: لا تقل: إنَّ القاسم زعَم أنَّ هذا هو الحقُّ، ولكن إذا اضطُرِرتَ إليه

(1)

ما عدا س، ت:"نصر"، تصحيف.

(2)

كذا في النسخ الخطية والمطبوعة، وفي"جامع بيان العلم" (2028):"استبقوا". وقد سبق بلفظ "اتبعوا".

(3)

سبق تخريجه قريبًا.

(4)

"جامع بيان العلم" لابن عبد البر (2072). ورواه يعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ"(2/ 789 - 790) ــ ومن طريقه ابن عبد البر في "الجامع"(2117)، والخطيب في "تاريخ مدينة السلام"(15/ 545) ــ عن الحسن بن الصباح البزار، عن إسحاق بن إبراهيم الحنيني، عن مالك به، والحنيني هذا رجل صالح، ولم يكن بذاك القوي، وله عن مالك غرائب وأوابد.

ص: 169

عملتَ به

(1)

.

وقال أبو عمر

(2)

: قال ابن وهب: قال لي مالك بن أنس، وهو يُنكِر كثرةَ الجواب للمسائل: يا عبد الله، ما علمتَه فقُلْ به، ودُلَّ عليه. وما لم تعلم فاسكُتْ. وإياك أن تتقلَّد للناس قِلادةَ سَوءٍ.

قال

(3)

أبو عمر

(4)

: وذكر محمد بن حارث بن أسد الخُشَني

(5)

، أنا أبو عبد الله محمد بن عباس النحاس قال: سمعتُ أبا عثمان سعيد بن محمد الحدَّاد يقول: سمعتُ سَحنونَ بن سعيد يقول: ما أدري ما هذا الرأي، سُفِكتْ به الدماء، واستُحِلَّتْ به الفروج، واستُحِقَّتْ به الحقوق، غير أنَّا رأينا رجلًا صالحًا، فقلَّدناه.

وقال سلَمة بن شَبِيب: سمعتُ أحمدَ يقول [43/ب]: رأيُ الشافعي ورأيُ مالك ورأيُ أبي حنيفة كلُّه عندي رأيٌ، وهو عندي سواء؛ وإنما

(1)

رواه الحسن بن علي الحلواني عن نُعيم بن حماد به، كما في "جامع بيان العلم" لابن عبد البر (2076)، وفي سنده ضعفٌ وانقطاع.

(2)

في "جامع بيان العلم"(2080). وقد رواه ابن عبد البر بالسند الذي يروي به كتاب "الجامع" لابن وهب، وليُنظر:"جذوة المقتبس" للحميدي (ص 403). ورواه محمد بن مخلد العطار في "ما رواه الأكابر عن مالك"(39) ــ ومن طريقه الخطيب في "الفقيه والمتفقه"(2/ 359) ــ، والبيهقي في "المدخل"(822)، وأبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام"(875)؛ من طرق عن ابن وهب به، وسنده صحيح.

(3)

في النسخ المطبوعة: "وقال".

(4)

في "جامع بيان العلم"(2082). وعنه ابن حزم في "الإحكام"(6/ 54) وسنده جيِّد.

(5)

في كتابه "فضائل سحنون" كما في "الجامع".

ص: 170

الحجَّة في الآثار

(1)

.

وقال أبو عمر بن عبد البر

(2)

:

أنشدني عبد الرحمن بن يحيى، أنشدنا أبو علي الحسن بن الخَضِر الأسيوطي بمكة، أنشدنا محمد بن جعفر، أنشدنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه:

دينُ النبيِّ محمدٍ آثارُ

نِعْمَ المطيَّةُ للفتى الأخبارُ

لا تُخْدعَنَّ عن الحديثِ وأهلِه

فالرأيُ ليلٌ والحديثُ نهارُ

ولربَّما جهِل الفتى طُرُقَ الهدى

والشمسُ طالعةٌ لها أنوارُ

ولبعض أهل العلم

(3)

:

(1)

رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(2107) ــ وعنه ابن حزم في "الصادع"(354) و"الإحكام"(6/ 53 - 54) من طريق العباس بن الفضل، عن سلمة بن شبيب به، وسنده جيد.

(2)

في "جامع بيان العلم"(1459)، ومن طريقه ابن حزم في "الصادع"(357).

وروى البيتين الأولين ابنُ جميع الصيداوي في "معجم شيوخه"(ص 203) ــ ومن طريقه ابن الطيوري في "الطيوريات"(976)، وابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق"(5/ 20 - 21) ــ عن أحمد بن عطاء الروذباري، عن محمد بن الزبرقان. ومن طريق ابن الطيوري رواه القاضي عياض في "الإلماع"(ص 38).

وذكر الأبياتَ اللالكائيُّ في "شرح أصول الاعتقاد"(1/ 168) لفتًى من أصحاب الحديث، أنشدها في مجلس أبي زرعة الرازي. ورواها الخطيب في "شرف أصحاب الحديث"(156) من قول عبدة بن زياد الأصبهاني. ورواها أبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام"(355) بسند غريب جدًّا من إنشاء عبد الرحمن بن مهدي!

(3)

ذكر الصفدي في "الوافي"(2/ 166) و"أعيان العصر"(4/ 294) وغيرهما أن

=

الذهبي أنشده لنفسه:

العلم قال الله قال رسوله

إن صحَّ والإجماع فاجهَدْ فيه

وحَذار من نصب الخلاف جهالة

بين الرسول وبين رأي فقيه

وأنشد المصنف في كتاب "الفوائد"(ص 153) ثلاثة أبيات، قال: "ولقد أحسن القائل:

العلم قال الله قال رسوله

قال الصحابة ليس بالتمويه

ما العلم نصبك للخلاف سفاهة

بين الرسول وبين رأي فقيه

كلا ولا جحد الصفات ونفيها

حذرًا من التمثيل والتشبيه

ولا يخفى قرب هذه الأبيات من الأبيات الواردة هنا. فهل الأبيات من قصيدة للذهبي أنشد الصفديَّ منها بيتين فقط، ووقع الخلاف في روايتها؟ الذي أميل إليه أن المصنف أعجب بالبيتين، فضمَّنهما مع التصرف أبياتًا له، ظلَّ يغيِّر فيها كلما بدا له. ويقوِّي ذلك قوله من أبيات في قصيدته النونية (3594 - 3598):

العلم قال الله قال رسوله

قال الصحابة هم ذوو العرفان

ما العلم نصبك للخلاف سفاهة

بين الرسول وبين رأي فلان

كلا ولا جحد الصفات لربنا

في قالب التنزيه والسبحان

كلا ولا نفيَ العلوِّ لفاطرِ الْـ

أكوانِ فوق جميع ذي الأكوانِ

كلا ولا عزلَ النصوص وأنها

ليست تفيد حقائقَ الإيمان

ص: 171

العلم: قال اللهُ قال رسولُه

قال الصحابةُ، ليس خُلْفٌ فيهِ

ما العلمُ نصبَك لِلخِلاف سفاهةً

بينَ النصوص وبينَ رأيِ سفيهِ

كلَّا ولا نصبَ الخلافِ جهالةً

بينَ الرسول وبينَ رأيِ فقيهِ

كلَّا ولا ردَّ النصوصِ تعمُّدًا

حذَرًا من التجسيم والتشبيهِ

حاشا النصوصَ من الذي رُمِيَتْ به

مِن فرقة التعطيل والتمويه

ص: 172

فصل

في الرأي المحمود، وهو أنواع

النوع الأول: رأيُ أفقهِ الأمة، وأبرِّ الأمة قلوبًا، وأعمقِهم علمًا، وأقلِّهم تكلُّفًا، وأصحِّهم قُصودًا، وأكملِهم فطرةً، وأتمِّهم إدراكًا، وأصفاهم أذهانًا، الذين شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وفهموا مقاصد الرسول. فنسبةُ آرائهم وعلومهم وقصودهم إلى ما جاء به الرسولُ صلى الله عليه وسلم كنسبتهم إلى صحبته؛ والفرقُ بينهم وبين مَن بعدهم في [44/أ] ذلك كالفرق بينهم وبينهم في الفضل؛ فنسبةُ رأي مَن بعدهم إلى رأيهم كنسبة قدرهم إلى قدرهم.

قال الشافعي رحمه الله في "رسالته البغدادية"

(1)

التي رواها عنه الحسن بن محمد الزعفراني، وهذا لفظه: "وقد أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن والتوراة والإنجيل، وسبَقَ لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحد بعدهم. فرحِمَهم الله، وهنَّأهم بما آتاهم

(2)

من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين. أدَّوا إلينا سننَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاهَدوه والوحيُ ينزل عليه، فعلِموا ما أراد رسول

(1)

يعني الرسالة القديمة. وقد نقل منها هذا النصَّ البيهقي في "مناقب الشافعي"(1/ 442 - 443) وهو مصدر المصنف، صرَّح بذلك في آخر الكتاب ونقل جملًا منه. وأورد البيهقي أيضًا في "المدخل" (ص 41) من أوله إلى قوله:"والشهداء والصالحين".

(2)

س، ت:"أثابهم"، وفي غيرها ما يشبهه. وفي ح قبله:"على"، فضرب عليه بعضهم وكتب في الحاشية:"ما" كما في "المدخل": "ما آتاهم". والمثبت من "المناقب"، وكذا في النسخ المطبوعة.

ص: 173

الله صلى الله عليه وسلم عامًّا وخاصًّا وعزمًا وإرشادًا، وعرفوا من سُنَنه

(1)

ما عرَفنا وجهِلنا. وهم فوقنا في كلِّ علم واجتهاد وورع وعقل وأمرٍ استُدْرِك به علمٌ واستُنْبِطَ به، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا

(2)

. ومن أدركنا ممن نرضى أو حُكيَ لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سنَّةً إلى قولهم إن اجتمعوا، أو قولِ بعضهم إن تفرَّقوا. وهكذا نقول، ولم نخرُج من أقاويلهم، وإن قال أحدهم ولم يخالفه غيرُه أخذنا بقوله".

ولما كان رأيُ الصحابة عند الشافعي بهذه المثابة قال في الجديد في كتاب الفرائض في ميراث الجدِّ والإخوة: "وهذا مذهبٌ تلقيناه عن زيد بن ثابت، وعنه أخذنا أكثر الفرائض"

(3)

. قال: "والقياسُ عندي قتلُ الراهب لولا ما جاء عن أبي بكر رضي الله عنه "

(4)

.

[44/ب] فترَكَ صريحَ القياس لقول الصدِّيق.

(1)

في النسخ المطبوعة: "سنته"، وكذا في "المناقب".

(2)

في "المناقب": "من آرائنا عندنا لأنفسنا".

(3)

انظر نحوه في كتاب "الأم"(4/ 85).

(4)

انظر: "الأم"(4/ 253) و"مختصر المزني"(8/ 379). وقول أبي بكر رواه الإمام مالك في "الموطأ"(1627) ــ ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبير"(9/ 89)، وفي "معرفة السنن"(7/ 28) ــ ح ورواه عبد الرزاق في "المصنف"(9375) عن ابن جريج ح ورواه أيضًا (9376) عن معمر؛ ثلاثتُهم عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وهذا منقطع، أو معضل. ورواه عبد الرزاق 5/ 200، والبيهقي في "السنن الكبير" 9/ 90 من حديث معمر، عن أبي عمران الجوني، وهو منقطع أيضا، على غرابةٍ في سنده لا تخفى.

ورواه سعيد بن منصور في "السنن"(2383) ــ ومن طريقه الخطيب في "تلخيص المتشابه"(1/ 30 - 31) ــ من رواية سعيد بن أبي هلال، عن عبد الله بن عَبِيدة، عن أبي بكر، وهو منقطع، كما أشار إليه الخطيب في "التلخيص"(1/ 30).

ورواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "العلل ومعرفة الرجال"(4757) ــ اختصره ولم يَسُقْهُ تامًّا ــ، والبيهقي في "السنن الكبير"(9/ 85) ــ ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق"(2/ 76) ــ؛ من طريقين عن ابن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وهذا أيضًا منقطع. وقد روى عبد الله ابن الإمام أحمد في "العلل" (4758) ــ ومن طريقه البيهقي (9/ 85) ــ وابن عساكر (2/ 76 - 77) قول الإمام أحمد: هذا حديث منكر.

ورواه أبو القاسم البغوي في جمعه حديث أبي نصر التمار ــ ومن طريقه ابن عساكر في "التاريخ"(65/ 247) ــ من حديث كوثر بن حكيم، عن نافع، عن ابن عمر، عن أبي بكر، وهذا سند ساقط تالف، آفتُه كوثر. ويحسن تأمّل ما في "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (7/ 27 - 29)؛ فقد أجاد في إيجاز القول في رتبة ذا الأثر روايةً ودرايةً.

ص: 174

وقال في رواية الربيع عنه: "والبدعة ما خالف كتابًا أو سنّةً أو أثرًا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم"

(1)

. فجعَلَ ما خالف قولَ الصحابي بدعةً.

وسيأتي إن شاء الله تعالى إشباعُ الكلام في هذه المسألة، وذكرُ نصوص الشافعي عند ذكر تحريم الفتوى بخلاف ما أفتى به الصحابة، ووجوبِ اتباعهم في فتاواهم

(2)

، وأن لا يخرج من جملة أقوالهم، وأنَّ الأئمة متفقون على ذلك.

والمقصود: أنَّ أحدًا ممَّن بعدهم لا يساويهم في رأيهم

(3)

. وقد كان

(1)

رواه البيهقي في "مناقب الشافعي"(1/ 468 - 469) و"المدخل"(253) بنحوه، ومن طريقه ابن عساكر في "بيان كذب المفتري" ص 97، وسنده صحيح.

وتُنظر: وصية الإمام الشافعي في كتاب "الأم"(5/ 262).

(2)

ع: "فتاويهم"، وكذا في المطبوع.

(3)

زاد بعده بعضهم في حاشية ح، ت:"وكيف يساويهم" دون أي علامة. وكذا في متن ف والنسخ المطبوعة.

ص: 175

أحدُهم يرى الرأيَ، فينزل القرآن بموافقته؟ كما رأى عمر في أسارى بدر أن تُضرَب أعناقُهم، فنزل القرآن بموافقته

(1)

. ورأى أن تُحجَب نساءُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فنزل القرآن بموافقته. ورأى أن يُتَّخَذ من مقام إبراهيم مُصلًّى، فنزل القرآن

(2)

بموافقته. وقال لنساء النبيِّ صلى الله عليه وسلم لما اجتمعن في الغيرة عليه: عسى ربُّه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن مسلماتٍ مؤمناتٍ، فنزل القرآن بموافقته

(3)

. ولمَّا تُوفِّي عبد الله بن أُبَيٍّ قام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليصلِّي عليه، فقام عمر، فأخذ بثوبه، فقال: يا رسول الله إنه منافق. فصلَّى عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل

(4)

: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]

(5)

.

وقد قال سعد بن معاذ لمَّا حكَّمه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في بني قريظة: إني أرى أن تُقتَل مقاتلتُهم، [45/أ] وتُسْبَى ذريتُهم

(6)

، وتُغنَم أموالُهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لقد حكمتَ فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات"

(7)

.

(1)

انظر حديث ابن عمر عن عمر في "صحيح مسلم"(2399).

(2)

لفظ "القرآن" ساقط من ت، ع.

(3)

ذكرت هذه الأمور الثلاثة في حديث أنس عن عمر في "صحيح البخاري"(402).

(4)

ع: "فأنزل الله عليه". وكذا في المطبوع.

(5)

أخرجه البخاري (1269) ومسلم (2400) من حديث ابن عمر.

(6)

ف: "ذراريهم". وفي المطبوع: "ذرياتهم".

(7)

رواه النسائي في "السنن الكبرى"(8166)، من طريق محمد بن صالح التمار، عن سعد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد، عن أبيه مرفوعا، وهو غريبٌ جدّا بهذا السند، والمحفوظ عن سعد بن إبراهيم روايتُه هذا الحديث عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبي سعيد دون قوله:"من فوق سبع سماوات"، كما في "الصحيحين". ويُنظر:"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 291)، و"العلل" لابن أبي حاتم (971)، و"العلل" للدارقطني (4/ 332)، و"أطراف الغرائب والأفراد" لابن طاهر (500).

ص: 176

ولما اختلفوا إلى ابن مسعود شهرًا في المفوِّضة قال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمنِّي ومن الشيطان، والله ورسوله بريء منه. أرى أنَّ لها مهرَ نسائها، لا وَكْس ولا شَطَط، ولها الميراث، وعليها العِدَّة. فقام ناسٌ من أشجَع فقالوا: نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في امرأةٍ منَّا يقال لها: بَرْوَع بنت واشِق بمثل ما قضيتَ به. فما فرح ابنُ مسعود بشيء بعد الإسلام فَرَحَه بذلك

(1)

.

وحقيقٌ بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم لنا خيرًا من رأينا لأنفسنا، وكيف لا؟ وهو الرأي الصادر من قلوب ممتلئة نورًا وإيمانًا وحكمةً، وعلمًا ومعرفةً، وفهمًا عن الله ورسوله ونصيحةً للأمة. وقلوبُهم على قلب نبيِّهم، ولا واسطة بينهم وبينه، وهم يتلقَّون

(2)

العلم والإيمان من مشكاة النبوة غضًّا طريًّا لم يَشُبْه

(3)

إشكال، ولم يَشِنْه

(4)

اختلاف

(5)

، ولم تُدَنِّسه معارضة. فقياسُ رأي غيرهم بآرائهم من أفسد القياس.

(1)

رواه النسائي في "السنن الكبرى"(5494)، و"المجتبى"(3358)، وفي سنده اختلاف على الشعبي، سرده النسائي في "السنن الكبرى"(5492 - 5498)، لكن الحديث صحيح، صححه غير واحد من الحفاظ، كما تقدّم.

(2)

ع: "ينقلون"، تصحيف. وكذا في النسخ المطبوعة.

(3)

ت: "يشنه".

(4)

لم تعجم الكلمة في ع. وفي ف والنسخ المطبوعة: "يشبه" كالسابق.

(5)

في النسخ المطبوعة: "خلاف".

ص: 177

فصل

النوع الثاني من الرأي المحمود: الرأي الذي يفسِّر النصوص، ويبيِّن وجهَ الدلالة منها، ويقرِّرها، ويوضِّح محاسنها، ويسهِّل طريق الاستنباط منها؛ كما قال عَبْدان: سمعتُ عبد الله بن المبارك يقول: ليكن الذي تعتمد عليه: الأثر، وخُذْ من الرأي ما يفسِّر لك الحديث

(1)

.

وهذا هو الفهم الذي يختصُّ الله سبحانه [45/ب] به من يشاء

(2)

من عباده.

ومثال هذا: رأيُ الصحابة رضي الله عنهم في العَوْل في الفرائض عند تزاحم الفروض

(3)

، ورأيُهم في مسألة زوج وأبوين وامرأة وأبوين: أنَّ للأم ثلُثَ ما بقي بعد فرض الزوجين

(4)

، ورأيُهم في توريث المبتوتة في مرض الموت

(5)

،

(1)

رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 165)، والبيهقي في "المدخل"(240)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(1457، 2023) ــ ومن طريقه عياض في "الإلماع"

(ص 36 - 37) ــ، والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(2/ 346)، وأبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام"(343)، من طريقين عن عبدان به، وسند الخبر صحيح.

(2)

"من يشاء" ساقط من ح.

(3)

يُنظر: "السنن" لسعيد بن منصور (33 - 37)، و"السنن الكبير" للبيهقي (5/ 253).

(4)

يُنظر: "السنن" لسعيد بن منصور (6 - 17)، و"المصنف" لابن أبي شيبة (31697 - 31714)، و"المسند" للدارمي (2907 - 2920)، و"السنن الكبير" للبيهقي (5/ 227 - 228).

(5)

يُنظر: "المصنف" لعبد الرزاق (12191 - 12201)، و"السنن الكبير" للبيهقي (7/ 362).

ص: 178

ورأيُهم في مسألة جَرِّ الوَلاء

(1)

، ورأيُهم في المُحْرِم يقع على أهله بفساد حجِّه ووجوبِ المُضِيِّ فيه والقضاءِ والهديِ من قابل

(2)

، ورأيُهم في الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أفطَرَتا وقضَتا وأطعَمَتا لكلِّ يوم مسكينًا

(3)

، ورأيُهم في الحائض تَطْهُر قبل طلوع الفجر: تصلِّي المغرب والعشاء، وإن طهرت قبل الغروب صلَّت الظهر والعصر

(4)

؛

ورأيُهم في الكلالة

(5)

، وغير ذلك.

قال الإمام أحمد: ثنا يزيد بن هارون، أنا عاصم الأحول، عن الشعبي قال: سئل أبو بكر عن الكلالة، فقال: إني سأقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمنِّي ومن الشيطان. أراه ما خلا الوالد والولد

(6)

.

(1)

يُنظر: "المصنف" لعبد الرزاق (16276 - 16284، 16288)، و"المصنف" لابن أبي شيبة (32188 - 32197)، و"المسند" للدارمي (3208، 3214، 3216، 3217) و"السنن الكبير" للبيهقي (10/ 306 - 307).

(2)

يُنظر: "المصنف" لابن أبي شيبة (13244 - 13246، 13248، 15165، 15173)، و"السنن الكبير" للبيهقي (5/ 167 - 168).

(3)

يُنظر: "المصنف" لعبد الرزاق (7561)، و"السنن الكبير" للبيهقي (4/ 230).

(4)

يُنظر: "المسند" للدارمي (922 - 920)، و"السنن الكبير"(1/ 387)، و"معرفة السنن والآثار"(1/ 417 - 418) كلاهما للبيهقي ..

(5)

يُنظر: "المصنف" لعبد الرزاق (19187 - 19191)، و"السنن" لسعيد بن منصور (588 - 591)، و"المصنف" لابن أبي شيبة (32254 - 32257، 32260 - 32262)، و"المسند" للدارمي (3015 - 3017)، و"المستدرك" للحاكم (2/ 303 - 304، 4/ 336)، و"السنن الكبير" للبيهقي (6/ 223).

(6)

رواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه"(1/ 490) من طريق الإمام أحمد عن يزيد به.

ورواه الدارمي في "المسند"(3015) عن يزيد بن هارون به. ورواه أيضًا البيهقي في "السنن الكبير"(6/ 223) من طريق أخرى عن يزيد به. ورجاله ثقات مشاهير، لكن الشعبي لم يُدرك أبا بكر رضي الله عنه. ويُنظر:"التلخيص الحبير" لابن حجر (3/ 191).

ص: 179

فإن قيل: فكيف

(1)

يجتمع هذا مع ما صحَّ عنه من قوله: "أيُّ سماءٍ تُظِلُّني؟ وأيُّ أرضٍ تُقِلُّني إن قلتُ في كتاب الله برأيي"

(2)

؟ وكيف يُجامع هذا الحديثَ المشهورَ الذي تقدَّم

(3)

: "من قال في القرآن برأيه فليتبوَّأْ مقعدَه من النار"؟

فالجواب: أن الرأي نوعان:

أحدهما: رأي مجرَّد لا دليل عليه، بل هو خَرْص وتخمين، فهذا الذي أعاذ الله الصِّدِّيقَ والصحابةَ منه.

والثاني: رأي مستند إلى استدلال واستنباط من النصِّ وحده أو من نصٍّ آخر معه. فهذا من ألطفِ فهمِ النصوص وأدِّقه.

ومنه رأيه في الكلالة [46/أ] أنها ما عدا الوالد والولد، فإن الله سبحانه ذكر الكلالة في موضعين من القرآن. ففي أحد الموضعين

(4)

ورَّث معها الأخَ والأختَ من الأم، ولا ريب أن هذه الكلالة ما عدا الوالد والولد. والموضع الثاني

(5)

ورَّث معها ولدَ الأبوين والأبَ النصف والثلثين.

ص: 180

فاختلف الناس في هذه الكلالة، والصحيح فيها قول الصدِّيق الذي لا قول سواه، وهو الموافق للغة العرب، كما قال

(1)

:

ورِثتم قناةَ المجد لا عن كلالةٍ

عن ابنَي مَنافٍ: عبدِ شمسٍ وهاشمٍ

أي إنما ورثتموها عن الآباء والأجداد، لا عن حواشي النسب. وعلى هذا فلا يرث ولد الأب والأبوين لا مع أب ولا مع جدّ، كما لم يرثوا مع الابن ولا ابنه

(2)

، وإنما ورثوا مع البنات؛ لأنهم عَصَبة، فلهم ما فضَلَ عن الفروض.

فصل

النوع الثالث من الرأي المحمود: الرأي الذي تواطأت عليه الأمة، وتلقَّاه خلفهم عن سلفهم. فإنَّ ما تواطؤوا عليه من الرأي لا يكون إلا صوابًا، كما تواطؤوا عليه من الرواية والرؤيا. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وقد تعدَّدت منهم رؤيا ليلة القدر في العشر

(3)

الأواخر من رمضان: "أرى رؤياكم قد تواطأت في السَّبع الأواخر"

(4)

، فاعتبر صلى الله عليه وسلم تواطؤَ رؤيا المؤمنين.

(1)

الفرزدق من قصيدة في "ديوانه"(2/ 309). ورواية الصدر فيه:

ورثتم قناة الملك غيرَ كلالةٍ

(2)

ت: "مع ابنه".

(3)

كذا في النسخ الخطية والطبعات القديمة، وأثبت في المطبوع:"السبع" وهو مقتضى لفظ الحديث الآتي، وانظر الحاشية التالية.

(4)

أخرجه البخاري (2015) ومسلم (1165) من حديث ابن عمر. وبلفظ: "في العشر الأواخر" في حديث البخاري (1158) تعليقًا.

ص: 181

فالأمةُ معصومةٌ فيما تواطأت عليه من روايتها ورؤياها ورأيها. ولهذا كان من سَداد الرأي وإصابته أن يكون شورى بين أهله، ولا ينفرد به واحد. وقد مدح الله سبحانه [46/ب] المؤمنين بكون أمرهم شورى بينهم.

وكانت النازلة إذا نزلت بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ليس عنده فيها نصٌّ عن الله ولا عن رسوله، جَمَع لها أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جعلها شورى بينهم

(1)

.

قال البخاري

(2)

: ثنا سُنَيد ثنا يزيد عن العوَّام بن حَوشَب، عن المسيِّب بن رافع قال: كان إذا جاء الشيءُ

(3)

من القضاء ليس في الكتاب ولا في السنة سُمِّى "صوافيَ الأمراء"

(4)

، فرُفِعَ إليهم، فجُمِع له

(5)

أهلُ العلم.

(1)

رواه البيهقي في "السنن الكبير"(10/ 114)، وسنده منقطع؛ إذ ميمون بن مهران لم يُدرك عمر رضي الله عنه.

(2)

ومرَّة رابعة توهَّم المصنف أن الراوي عن سُنَيْد هو البخاري، فعزاه إليه. وإنما هو محمدُ بن إسماعيل بن سالم الصائغ المكي. ومن طريقه أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(2071)، وسُنيدٌ فيه لينٌ.

(3)

ت: "شيء". وفي النسخ المطبوعة: "جاءه الشيء"، والصواب ما أثبت من النسخ و"جامع بيان العلم". وفي "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (10/ 34):"جاءهم".

(4)

في النسخ المطبوعة: "الأمر"، وكذا في شرح ابن بطال، وهو خطأ. وقد أخرج البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 96) عن شريح قال: كتب إليَّ عمر رضي الله عنه بخمس من صوافي الأمراء: أن الأسنان سواء، والأصابع سواء

إلخ. وقال المحشي ــ ولعله الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله ــ في تفسير الكلمة: "

المراد هنا: القضايا التي لا نصَّ فيها، وإنما يجتهد فيها الأئمة والقضاة". ويوضِّحها أثر المسيب بن رافع هذا أيَّما توضيح، ولكن لم أر من فسَّرها من أصحاب الغريب والمؤلفين في مصطلحات الفقه.

(5)

في المطبوع: "لهم"، خطأ.

ص: 182

فما

(1)

اجتمع عليه رأيُهم فهو الحقُّ.

وقال محمد بن سليمان الباغَنْدي: ثنا عبد الرحمن بن يونس، ثنا عمر بن أيوب، أنا عيسى بن المسيِّب، عن عامر، عن شُريح القاضي قال: قال لي عمر بن الخطاب أن اقضِ بما استبان لك من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن لم تعلم كلَّ أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقضِ بما استبان لك من أئمة المهتدين. فإن لم تعلم كلَّ ما قضَتْ به أئمةُ المهتدين فاجتهِدْ رأيَك، واستشِرْ أهل العلم والصلاح

(2)

.

وقال الحميدي: ثنا سفيان، ثنا الشيباني، عن الشعبي قال: كتب عمر إلى شريح: إذا حضرك أمرٌ لا بدَّ منه فانظُرْ ما في كتاب الله، فاقضِ به. فإن لم يكن فبما قضى به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. فإن لم يكن فبما قضى به الصالحون وأئمة العدل

(3)

. فإن لم يكن فأنت بالخِيار، فإن شئتَ أن تجتهد رأيَك فاجتهِدْ رأيَك، وإن شئت أن تؤامرني

(4)

، ولا أرى مؤامرتك إياي إلا خيرًا لك، والسلام

(5)

.

(1)

في النسخ الخطية والمطبوعة: "فإذا" أو "وإذا". والصواب ما أثبت من "جامع بيان العلم". وكذا في "شرح ابن بطال"، و"إيقاظ همم أولي الأبصار"(ص 18) وصاحبه ينقل من كتابنا.

(2)

رواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه"(1/ 490) من طريق ابن الباغندي به، وابن الباغندي مُتكلّمٌ فيه، لكن للأثر شواهد تقدّم تخريجُها.

(3)

ت: "أئمة العدل والصالحون".

(4)

كذا في النسخ و"الإحكام"(6/ 29) والجواب محذوف. وهو مذكور في "الفقيه والمتفقه": "فآمِرْني". وفي "أخبار القضاة"(2/ 189) و"سير أعلام النبلاء"(4/ 104): "وإن شئتَ تؤامِرْني".

(5)

رواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه"(1/ 492)، وابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق"(23/ 19 - 20) من طريق الحميدي به، وسنده إلى الشعبي صحيح. ويُنظر:"المجتبى" للنسائي (5414).

ص: 183

فصل

النوع الرابع من الرأي المحمود: أن يكون بعد طلبِ علمِ الواقعة من القرآن، فإن لم [47/أ] يجدها في القرآن ففي السنَّة، فإن لم يجدها في السنَّة فبما قضى به الخلفاء الراشدون أو اثنان منهم أو واحد

(1)

، فإن لم يجده فبما قاله واحد من الصحابة رضي الله عنهم. فإن لم يجده اجتهدَ رأيَه، ونظَر إلى أقرب ذلك من كتاب الله وسنَّة رسوله وأقضية أصحابه. فهذا هو الرأي الذي سوَّغه الصحابةُ، واستعملوه، وأقرَّ بعضُهم بعضًا عليه.

قال عليّ بن الجَعْد: أنا شعبة، عن سيَّار، عن الشعبي، قال: أخذ عمر فرسًا من رجلٍ على سَوْم، فحمَل عليه، فعطِبَ. فخاصمه الرجل، فقال عمر: اجعل بيني وبينك رجلًا. فقال الرجل: فإنّي

(2)

أرضى بشُرَيح العراقي. فقال شريح: أخذتَه صحيحًا سليمًا، فأنت له ضامن حتى تَرُدَّه صحيحًا سليمًا. قال: فكأنه أعجبه، فبعثه قاضيًا، وقال: ما استبان لك من كتاب الله فلا تسأل عنه، فإن لم يستبِنْ

(3)

في كتاب الله فمن السنَّة، فإن لم تجده في السنَّة فاجتهِدْ رأيَك

(4)

.

(1)

ت: "واحد منهم".

(2)

ت، ع:"إنِّي".

(3)

بعده في ت: "لك".

(4)

رواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه"(1/ 491) من طريق علي بن الجعد به. ورواه البيهقي في "السنن الكبير"(5/ 274)، وفي "معرفة السنن"(5/ 284 - 285) ــ ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق"(23/ 18) ــ من طريق آدم (وهو ابن أبي إياس) عن شعبة به. وروى الشطر الأخير من القصة سعيد بن منصور ــ ومن طريقه ابن حزم في "الإحكام"(6/ 29)، والبيهقي في "السنن الكبير"(10/ 110) ــ، وابن جرير ــ ومن طريقه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(1598) ــ، ووكيع القاضي في "أخبار القضاة"(2/ 189)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(1/ 491).

ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(37158)، وابن سعد في "الطبقات"(8/ 253)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"(4/ 332) من طريق أبي إسحاق الشيباني، عن الشعبي بمعناه. وسنده غير متصل، إذ الشعبي لم يُدرك عمر رضي الله عنه. ويُنظر:"تاريخ مدينة دمشق" لابن عساكر (23/ 19 - 21).

ص: 184

وقال أبو عبيد

(1)

: ثنا كَثير بن هشام، عن جعفر بن بُرْقان. وقال أبو نعيم: عن جعفر بن بُرْقان، عن مَعْمَر البصري، عن أبي العوَّام. وقال سفيان بن عيينة: ثنا إدريس أبو عبد الله بن إدريس قال: أتيتُ سعيد بن أبي بُرْدة، فسألتُه عن رسائل عمر بن الخطاب التي كان يكتب بها إلى أبي موسى الأشعري، وكان أبو موسى قد أوصى إلى أبي بردة، فأخرج إليه كُتُبًا، فرأيتُ في كتاب منها. رجعنا إلى حديث أبي العوَّام

(2)

، قال: كتب عمر إلى أبي موسى:

"أما بعد، فإنَّ القضاء فريضة [47/ب] محكمة، وسنَّة متَّبعة، فافهم إذا أُدْليَ إليك؛ فإنه لا ينفع تكلُّمٌ بحقٍّ لا نفاذَ له. آسِ بين الناس

(3)

في مجلسك وفي وجهك وقضائك، حتى لا يطمعَ شريفٌ في حَيفِك، ولا ييأسَ ضعيفٌ من عدلك. البيِّنة على من ادَّعى

(4)

، واليمينُ على من أنكر. والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا. ومن ادَّعى حقًّا غائبًا أو بيِّنةً،

(1)

في "كتاب القضاء وآداب الحكام" له فيما يبدو. وعزاه إلى أبي عبيد: ابن حزم في المحلَّى (8/ 455، 473) وابن تيمية في "منهاج السنة"(6/ 71).

(2)

في النسخ: "ابن العوام"، تصحيف.

(3)

ع: "واس الناس". وفي المطبوع: "وآس الناس".

(4)

ع: "على المدعي"، وكذا في النسخ المطبوعة.

ص: 185

فاضرِبْ له أمَدًا ينتهي إليه. فإن جاء

(1)

ببيِّنة أعطيتَه بحقِّه، وإن أعجزه ذلك استحللتَ عليه القضية، فإنَّ ذلك هو أبلغ في العذر، وأجلى للعَمى. ولا يمنعنَّك قضاءٌ قضيتَ به

(2)

اليومَ، فراجعتَ فيه رأيَك، فهُدِيتَ فيه لرشدِك= أن تُراجِعَ فيه الحقَّ، فإنّ الحقَّ قديم ولا يبطله

(3)

شيء؛ ومراجعةُ الحقِّ خيرٌ من التمادي في الباطل. والمسلمون عدولٌ بعضُهم على بعض، إلا مجرَّبًا عليه شهادةُ زور، أو مجلودًا في حدٍّ، أو ظَنِينًا في ولاء أو قرابة؛ فإنَّ الله تعالى تولَّى من العباد السرائر، وستَر عليهم الحدودَ إلا بالبينات والأيمان. ثم الفهمَ الفهمَ فيما أُدِليَ إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنَّة، ثم قايِسِ الأمورَ عند ذلك، واعرِفِ الأمثال، ثم اعمِدْ فيما ترى إلى أحبِّها إلى الله وأشبَهِها بالحق. وإيَّاك والغضبَ، والقلقَ، والضجرَ، والتأذِّيَ بالناس، والتنكُّرَ عند الخصومة ــ أو الخصوم، شكَّ أبو عبيد ــ فإنَّ القضاءَ في مواطن الحقِّ مما يُوجِبُ الله به الأجر، ويُحسِنُ به الذكر.

فمن خلصت نيته في الحق، ولو على نفسه، كفاه الله ما بينه [48/أ] وبين الناس. ومن تزيَّن بما ليس في نفسه شانَه اللهُ، فإنَّ الله تعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصًا، فما ظنُّك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته. والسلام عليك ورحمة الله".

قال أبو عبيد: فقلتُ لكَثير: هل أسنده جعفر؟ قال: لا

(4)

.

(1)

"جاء" ساقط من ع. وفي المطبوع: " [أحضر] بينة". وفي طبعة الشيخ محمد محيي الدين ومن تابعه: "بيَّنَه". وفي س: "ببيِّنته".

(2)

ع: "فيه"، وكذا في النسخ المطبوعة.

(3)

ف: "لا يبطله" دون واو العطف، وكذا في النسخ المطبوعة.

(4)

رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(21217) مختصرًا، والبيهقي في "السنن الكبير"(10/ 150)، وفي "معرفة السنن"(7/ 366 - 367) ــ ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق"(32/ 71) ــ من حديث جعفر بن برقان، عن معمر، عن أبي العوام به. ورواه وكيع القاضي في "أخبار القضاة"(1/ 70 - 73، 283 - 284)، والدارقطني في "السنن"(4472)، والبيهقي في "السنن الكبير"(10/ 119)، وفي "السنن الصغير"(3259) ــ ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق"(32/ 72) ــ، والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(1/ 492)، وابن الشجري في "الأمالي الخميسية"(2/ 326) من طرق عن ابن عيينة، عن إدريس الأودي به. وطرق هذا الخبر لا تخلو من ضعف، أو انقطاع، أو إعضال، لكن مجموعها ــ مع شهرة الأثر وانتشاره ــ يدلّ على أن له أصلا، خاصة مع اعتضاده بوجادة سعيد بن أبي بردة. وليُنظر "مسند الفاروق" لابن كثير (2/ 437)، و"التلخيص الحبير" لابن حجر (4/ 358)، و"إرواء الغليل" للألباني (8/ 241 - 242).

ص: 186

وهذا كتاب جليل تلقَّاه العلماء بالقبول، وبنَوا عليه أصول الحكم والشهادة. والحاكمُ والمفتي أحوجُ شيء إليه، وإلى تأمُّلِه، والتفقُّهِ فيه.

وقوله: "القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة" يريد به أنَّ ما يحكم به الحاكم نوعان: أحدهما: فرض محكم غير منسوخ، كالأحكام الكلِّية التي أحكمها الله في كتابه. والثاني: أحكام سنَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذان النوعان هما المذكوران في حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: "العلم ثلاثة، فما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، وسنَّة قائمة، وفريضة عادلة". رواه ابن وهب عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الرحمن

(1)

بن رافع عنه

(2)

.

(1)

ع: "عبد الله"، وكذا في النسخ المطبوعة، وهو خطأ.

(2)

رواه أبو داود في "السنن"(2885) من طريق ابن وهب هذا. وعبد الرحمن بن زياد هو الإفريقي. ورواه ابن ماجه في "السنن"(54) من حديث الإفريقي به. وسنده ضعيف؛ لضعف الإفريقي وشيخِه عبدِالرحمن بن رافع التنوخي.

ص: 187

ورواه بقية، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي هريرة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخل المسجدَ، فرأى جمعًا من الناس على رجل، فقال:"ما هذا؟ ". قالوا: يا رسول الله، رجلٌ علَّامة. قال:"وما العلَّامة؟ ". قالوا: أعلَمُ الناس بأنساب العرب، وأعلَمُ الناس بعربية، وأعلَمُ الناس بشعر، وأعلَمُ الناس بما اختلف فيه العرب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هذا علمٌ لا ينفع، وجهلٌ لا يضُرُّ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العلم ثلاثة، وما خلا فهو [48/ب] فضل: علمُ آية محكمة، أو سنَّة قائمة، أو فريضة عادلة"

(1)

.

وقوله: "فافهم إذا أُدْليَ إليك". صحّةُ الفهم وحسنُ القصد من أعظم نِعَم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أُعْطِيَ عبدٌ عطاءً بعد الإسلام أفضلَ

(1)

رواه أبو نعيم [كما في "الغرائب الملتقطة" لابن حجر (2724)]، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(1385)، وأبو بكر ابن مردويه ــ ومن طريقه أبو سعد السمعاني في "الأنساب"(1/ 9) ــ من حديث هشام بن خالد، عن بقية به، لكن قُرن أبو هريرة بابن عباس عند أبي نعيم. وقال ابن عبد البر في "الجامع" (1/ 752):"في إسناد هذا الحديث رجلان لا يُحتج بهما، وهما سليمان وبقية". وآفة الحديث بقية، وكان يدلّس عن الهلكى والمجروحين. أما سليمان (وهو ابن محمد الخزاعي) فهو وإن كان متكلَّمًا فيه، فقد تابعه محمد بن أحمد بن داود البغدادي المؤدّب (وهو صدوقٌ لا بأس به) عند أبي نعيم وابن مردويه والسمعاني، وذهل ابن حجر عن هذه المتابَعة في "لسان الميزان"(4/ 173).

ولشطر الحديث الأول شاهدٌ لا ينفعه، رواه أبو داود في "المراسيل"(475)، وأبو بكر ابن مردويه ــ ومن طريقه السمعاني في "الأنساب"(1/ 9 - 10) ــ من حديث زيد بن أسلم مرسلا، وهو ــ على الأرجح ــ معضلٌ؛ لأن زيد بن أسلم من صغار التابعين، وأكثر رواياته عن التابعين، ولو كان سمعه من صحابيٍّ، أو تابعيٍّ ثقةٍ كبيرٍ = لصاح بذلك إن شاء الله تعالى.

ص: 188

ولا أجلَّ منهما. بل هما ساقا الإسلام، فقيامه

(1)

عليهما. وبهما بايَنَ العبدُ طريقَ المغضوب عليهم الذين فسد قصدُهم، وطريقَ الضالين الذين فسدت فهومُهم، ويصير من المنعَم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهلُ الصراط المستقيم الذين أُمِرنا أن نسأل الله أن يهدينا

(2)

صراطَهم في كلِّ صلاة.

وصحّةُ الفهم نورٌ يقذفه الله في قلب العبد، يميِّز به بين الصحيح والفاسد، والحقِّ والباطل، والهدى والضلال، والغيّ والرشاد. ويُمِدُّه

(3)

حسنُ القصد، وتحرِّي الحق، وتقوى الربِّ في السرِّ والعلانية. ويقطع مادَّتَه

(4)

اتباعُ الهوى، وإيثارُ الدنيا، وطلبُ محمَدة الخلق، وتركُ التقوى

(5)

.

ولا يتمكَّن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحقِّ إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهمُ الواقع، والفقهُ فيه، واستنباطُ علمِ حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع. وهو فهمُ حكمِ الله الذي حكَم به في كتابه أو على لسان

(1)

ع: "وقيامه"، وكذا في النسخ المطبوعة.

(2)

"أن يهدينا" استدركه بعضهم في طرَّة ح.

(3)

في حاشية ح كتب بعضهم: "ويعينه على"، وكذا في ف مكان "يمده". وفي ت تحرَّف "يمده" إلى "هذه"، فضرب عليه وكتب في الحاشية:"وتعينه على". وهذا من تصرُّف القراء.

(4)

يعني: مادة صحة الفهم. وقد غيَّره بعضهم في ح إلى "ما فيه".

(5)

وانظر: "مدارج السالكين"(1/ 65).

ص: 189

رسوله في هذا الواقع. ثم يطبِّق أحدهما على الآخر. فمَن

(1)

بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدَم أجرين أو أجرًا.

فالعالِمُ مَن يتوصَّل بمعرفة الواقع والتفقُّه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، [49/أ] كما توصَّل شاهدُ يوسف بشَقِّ القميص من دُبُرٍ إلى معرفة براءته وصدقه

(2)

. وكما توصَّل سليمان صلى الله عليه وسلم بقوله: "ائتوني بالسِّكِّين حتّى أشُقَّ الولدَ بينكما" إلى معرفة عين الأم

(3)

. وكما توصَّل علي بن أبي طالب بقوله للمرأة التي حملَتْ كتابَ حاطب لما أنكرته: "لَتُخْرِجِنَّ الكتاب أو لَنُجَرِّدَنَّكِ" إلى استخراج الكتاب منها

(4)

.

وكما توصَّل الزبير بن العوَّام بتعذيب أحد ابني أبي الحُقَيق بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتَّى دلَّهم على كنز حُيَيٍّ، لما ظهر له كذبُه في دعوى ذهابه بالإنفاق بقوله:"المال كثير والعهد أقرب من ذلك"

(5)

.

(1)

في طرة ت أن في نسخة: "فمتى".

(2)

وانظر: "الطرق الحكمية"(1/ 10) و"زاد المعاد"(3/ 135) و"بدائع الفوائد"(3/ 1037) و"إغاثة اللهفان"(2/ 758) و"الروح"(1/ 42) و"عدة الصابرين"(ص 521).

(3)

أخرجه البخاري (3427) ومسلم (1720) من حديث أبي هريرة. وانظر: "الطرق الحكمية"(1/ 8) و"زاد المعاد"(3/ 132) و"الروح"(1/ 42). و"بدائع الفوائد"(3/ 1037).

(4)

أخرجه البخاري (3983) ومسلم (2494). وانظر: "الطرق الحكمية"(1/ 18) و"الزاد"(3/ 351) و"البدائع"(3/ 1037) و"عدة الصابرين"(ص 520).

(5)

رواه البلاذري في "فتوح البلدان"(ص 32 - 34)، وأبو القاسم البغوي، وأحمد بن سلمان النجاد ــ ومن طريقهما ابن حجر في "تغليق التعليق"(3/ 412) ــ، وابن المنذر في "الأوسط"(6/ 365 - 367)، وابن حبان في "المسند الصحيح"(2145)، والبيهقي في "السنن الكبير"(9/ 137)، وفي "دلائل النبوة"(4/ 229 - 231) من حديث حماد بن سلمة، عن عبيدالله بن عمر (فيما يحسب)، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا. وأصل الحديث في "السنن" لأبي داود (3006). وهو ــ على ما فيه من تردّد حماد وعدم جزمه ــ غريبٌ جدّا بهذا السياق، والحديث محفوظ من حديث عبيدالله وغيره عن نافع من طرق كثيرة بغير هذا السياق.

وانظر: "الطرق الحكمية"(1/ 14) و"الزاد"(3/ 129، 289)، (5/ 52) و"البدائع"(3/ 1037) و"عدة الصابرين"(ص 521).

ص: 190

وكما توصَّل النعمان بن بشير بضرب المتَّهَمين بالسرقة إلى ظهور المال المسروق عندهم، فإن ظَهَر وإلا ضرَبَ من اتَّهَمهم كما ضرَبهم. وأخبر أن هذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

.

ومن تأمَّلَ الشريعةَ وقضايا الصحابة وجدها طافحةً بهذا. ومن سلك غيرَ هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسب ذلك

(2)

إلى الشريعة التي بعث الله بها رسولَه.

وقوله: "فيما أُدْليَ إليك"

(3)

أي فيما تُوُصِّل به إليك من الكلام الذي

(1)

رواه أبو داود في "السنن"(4382)، والنسائي في "المجتبى"(4874)، وفي "السنن الكبرى"(7320) من حديث بقية، عن صفوان بن عمرو، عن أزهر الحرازي، عن النعمان. لكنه لم يضربهم، بل حبسهم ثم أطلقهم، واقترح ضربَهم بشرطٍ. وقال النسائي في "السنن الكبرى":"هذا حديثٌ منكرٌ لا يُحتجّ بمثله، وإنما أخرجته ليُعرَف". وانظر: "الزاد"(5/ 52) و"البدائع"(3/ 1037).

(2)

ع: "ونسبه". وكذا في النسخ المطبوعة.

(3)

هذا اللفظ في آخر الوصية. أما في أولها فقال: "إذا أدلي إليك".

ص: 191

تحكُم فيه

(1)

بين الخصوم. ومنه قولهم: أدلى فلان بحجته، وأدلى بنسبه. ومنه قوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188] أي تُضيفوا ذلك إلى الحكام، وتتوصَّلوا بحكمهم إلى أكلها.

فإن قيل: لو أريد هذا المعنى لقيل: "وتدلوا بالحكام إليها". وأمَّا الإدلاء بها إلى الحكَّام فهو التوصُّل بالبِرْطِيل

(2)

بها إليهم، فتَرْشُوا الحاكَم [49/ب] لتتوصَّلوا برشوته إلى الأكل بالباطل.

قيل: الآية تتناول النوعين، فكلٌّ منهما إدلاء إلى الحكام بسببها، فالنهي عنهما معًا.

وقوله: "فإنه لا ينفع تكلُّمٌ بحقٍّ لا نفاذ له". ولاية الحق: نفوذه، فإذا لم ينفذ كان ذلك عزلًا له عن ولايته. فهو بمنزلة الوالي العَدْل الذي في توليته مصالحُ العباد في معاشهم ومعادهم، فإذا عُزِل عن ولايته لم ينفع. ومراد عمر بذلك التحريضُ على تنفيذ الحقِّ إذا فهمه الحاكم، ولا ينفع تكلُّمُه به إن لم يكن له قوة تنفِّذه

(3)

. فهو تحريضٌ منه على العلمِ

(4)

بالحقِّ، والقوةِ على تنفيذه. وقد مدح الله سبحانه أولي القوةِ

(5)

في أمره والبصائرِ في دينه، فقال:{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45]،

(1)

في النسخ المطبوعة: "به".

(2)

البرطيل: الرشوة.

(3)

ع: "تنفيذه". وفي المطبوع: "على تنفيذه".

(4)

ف: "العمل"، وكذا كتب بعضهم في طرَّة ح مع علامة صح، وهو خطأ.

(5)

س، ت:"القوى"، وكذا حاول بعضهم أن يغيِّر ما في ح.

ص: 192

فالأيدي: القوى على تنفيذ أمر الله، والأبصار: البصائر في دينه

(1)

.

وقوله: "آس بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك، حتَّى لا يطمعَ شريفٌ في حَيفك، ولا ييأس ضعيفٌ من عدلك". إذا

(2)

عدل الحاكمُ في هذا بين الخصمين فهو عنوانُ عدله في الحكومة. فمتى خصَّ أحدَ الخصمين بالدخول عليه، أو القيام له، أو صدرِ المجلس، أو الإقبال عليه والبشاشة له، أو النظر

(3)

إليه= كان عنوانَ حَيفه وظُلمه.

وقد رأيتُ في بعض التواريخ القديمة أنَّ أحدَ قضاة العدل في بني إسرائيل أوصاهم إذا دفنوه أن ينبِشوا قبره بعد مدّة، فينظروا هل تغيَّر منه شيء أم لا؟ وقال: إنِّي لم أجُرْ قطُّ في حكم، ولم أُحَابِ

(4)

فيه، غير أنه دخل عليَّ خصمان كان [50/أ] أحدهما صديقًا لي، فجعلتُ أصغي إليه بأذني أكثر من إصغائي إلى الآخر. ففعلوا ما أوصاهم به، فرأوا أذنه قد أكلها الترابُ، ولم يتغيَّر جسده

(5)

.

(1)

وانظر: "الداء والدواء"(ص 220) و"الفروسية"(ص 120) و"الوابل الصيب"(ص 135 - 136) و"مفتاح دار السعادة"(2/ 858).

(2)

في ت قبل "إذا" وضعت إشارة إلى اليمين، وكتب في الحاشية اليسرى:"هذا أول عدل بين الخصمين". وفي ح غيَّر بعضهم "إذا" إلى "أول" ووضع علامة اللحق، وكتب في الحاشية:"فهذا".

(3)

ع: "والنظر". وكذا في النسخ المطبوعة.

(4)

في طرَّة ت أن في نسخة: "أحيف"، يعني:"ولم أحِفْ".

(5)

أخرج نحوه ابن عبد الحكم في "فتوح مصر والمغرب"(ص 256) والمعافى بن زكريا في "الجليس الصالح الكافي"(4/ 92).

ص: 193

وفي تخصيص أحد الخصمين بمجلس أو إقبال أو إكرام مفسدتان: إحداهما

(1)

: طمعُه في أن تكون الحكومة له، فيقوى قلبه وجَنانه، والثانية: أنَّ الآخر ييأس من عدله، ويضعف قلبه، وتنكسر حجته.

وقوله: "البينة على المدعي

(2)

واليمين على من أنكر". البيِّنة في كلام الله ورسوله وكلام الصحابة اسمٌ لكلِّ ما يبيِّن الحقَّ، فهي أعمُّ من البيِّنة في اصطلاح الفقهاء، حيث خَصُّوها بالشاهدين أو الشاهد واليمين. ولا حَجْرَ في الاصطلاح ما لم يتضمَّن حملَ كلام الله ورسوله عليه، فيقع بذلك الغلطُ في فهم النصوص وحملها على غير مراد المتكلِّم منها.

وقد حصل بذلك للمتأخرين أغلاط شديدة في فهم النصوص. ونذكر من ذلك مثالًا واحدًا، وهو ما نحن فيه: لفظ

(3)

"البينة"، فإنها في كتاب الله اسمٌ لكلِّ ما يبيِّن الحقَّ كما قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25]، وقال:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل: 43 - 44]، وقال:{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4]، وقال:{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام: 57] وقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} [هود: 17]، وقال:{أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ} [فاطر: 40]، وقال:{أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [طه: 133]، [50/ب] وهذا كثير في القرآن،

(1)

ح: "أحدهما".

(2)

اللفظ الوارد فيما سبق: "على من ادَّعى".

(3)

في ت: "من لفظ"، والظاهر أن "من" زيدت فيما بعد.

ص: 194

لم يختصَّ لفظُ "البيِّنة" بالشاهدين، بل ولا استُعمِل في الكتاب فيهما

(1)

البتة.

إذا عُرِف هذا، فقولُ النبي صلى الله عليه وسلم للمدَّعي:"ألك بينة؟ " وقول عمر: "البينة على المدَّعي" ــ وإن كان هذا قد روي مرفوعًا

(2)

ــ المراد به: ألكَ

(3)

ما يبيِّن الحقَّ من شهود أو دلالة. فإنَّ الشارع في جميع المواضع يقصد ظهورَ الحقِّ بما يمكن ظهوره به من البينات التي هي أدلّة عليه وشواهد له. ولا يرُدُّ حقًّا قد ظهر بدليله أبدًا، فيضيِّعَ حقوقَ الله وعبادِه ويعطِّلَها. ولا يقف ظهورَ الحقِّ على أمر معيَّن لا فائدة في تخصيصه به، مع مساواة غيره في ظهور الحق، أو رجحانه عليه ترجيحًا لا يمكن جحدُه ودفعُه؛ كترجيح شاهد الحال على مجرَّد اليد في صورة مَن على رأسه عمامة وبيده عمامة، وآخر خلفه مكشوف الرأس يعدو إثرَه، ولا عادة له بكشف رأسه. فبيِّنة الحال ودلالته هنا تفيد من ظهور صدقِ المدَّعي أضعافَ ما يفيده مجرَّدُ اليد عند كلِّ أحد

(4)

. فالشارع لا يُهمِل مثل هذه البينة والدلالة، ويُضيع حقًّا يعلم كلُّ

(1)

في النسخ: "فيها"، والتصحيح من النسخ المطبوعة.

(2)

رواه الترمذي في "الجامع"(1341) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا، وضعّفه بمحمد بن عبيدالله العرزمي. والعرزمي هذا واهٍ متروك. ورواه البيهقي في "السنن الكبير"(10/ 252) من حديث ابن عباس، لكن جملة "البيّنة على المدّعي" مُدرجة في الحديث، دخل على بعض رُواته حديث في حديث. ويُنظر:"معرفة السنن والآثار" للبيهقي (7/ 455).

(3)

ع: "كلّ" موضع "ألك". وكذا في المطبوع!

(4)

وانظر هذا المثال في "الطرق الحكمية"(1/ 13) و"إغاثة اللهفان"(2/ 757) و"زاد المعاد"(3/ 133).

ص: 195