الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحد ظهوره وحجته. بل لمَّا ظنَّ هذا مَن ظنَّه ضيَّعوا طريقَ الحكم، فضاع كثير من الحقوق، لتوقُّفِ ثبوتها عندهم على طريق معيَّن، وصار الظالم الفاجر ممكَّنًا مِن ظلمه وفجوره، فيفعل ما يريد، ويقول: لا يقوم عليَّ بذلك شاهدان اثنان، فضاعت حقوق كثيرة لله ولعباده.
وحينئذ
(1)
[51/أ] أخرج الله أمر الحكم العامِّ عن أيديهم، ودخل
(2)
فيه من أمر الإمارة والسياسة ما يُحفَظ به الحقُّ تارةً ويضيع به أخرى، ويحصل به العدوان تارةً والعدل أخرى. ولو عُرِف ما جاء به الرسول على وجهه لكان فيه تمامُ المصلحة المُغْنية عن التفريط والعدوان.
وقد ذكر الله سبحانه
نصابَ الشهادة
في القرآن في خمسة مواضع. فذكر نصاب شهادة الزنا أربعة في سورة النساء وسورة النور. وأما في غير الزنا فذكر شهادة الرجلين والرجل والمرأتين في الأموال، فقال في آية الدين:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]. فهذا في التحمُّل والوثيقة التي يحفظ بها صاحبُ المال حقَّه، لا في طريق الحكُم وما يحكم به الحاكم؛ فإنَّ هذا شيء، وهذا شيء. وأمَر في الرجعة بشاهدين عدلين، وأمَر في الشهادة على الوصية في السفر باستشهاد عَدْلين من المسلمين أو آخران
(3)
من غيرهم، وغيرُ المؤمنين هم الكفار. والآية صريحة في قبول شهادة الكافرين على الوصية في السفر عند
(1)
في المطبوع: "فحينئذ".
(2)
في النسخ المطبوعة: "أدخل".
(3)
كذا في النسخ، يعني: أو آخران من غيرهم يشهدان. وفي النسخ المطبوعة: "آخرين" على الجادة.
عدم الشاهدين المسلمين. وقد حكَم بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم والصحابةُ بعده، ولم يجئ بعدها ما ينسَخها، فإنَّ المائدة من آخر القرآن نزولًا، وليس فيها منسوخ، وليس لهذه الآية معارض البتَّة.
ولا يصح أن يكون المراد بقوله: {مِنْ غَيْرِكُمْ} : من غير قبيلتكم، فإن الله سبحانه خاطب بها المؤمنين كافّةً بقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ [51/ب] اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106]، ولم يخاطِب بذلك قبيلةً معينةً حتى يكون قوله:{مِنْ غَيْرِكُمْ} أيتها القبيلة. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يفهم هذا من الآية، بل إنما فهم منها ما هي صريحة فيه؛ وكذلك أصحابه من بعده. وهو سبحانه ذكَر ما يُحفَظ به الحقوق من الشهود، ولم يذكر أنَّ الحكام لا يحكُمون
(1)
إلا بذلك. فليس في القرآن نفيُ الحكم بشاهد ويمين، ولا بالنكول، ولا باليمين المردودة، ولا بأيمان القَسامة، ولا بأيمان اللِّعان، وغير ذلك؛ مما يبيِّن الحقَّ، ويُظهِره، ويدلُّ عليه
(2)
.
وقد اتفق
(3)
المسلمون على أنه يُقبَل في الأموال رجل وامرأتان. وكذلك توابعُها من البيع، والأجل فيه، والخِيار فيه، والرَّهن، والوصية للمعيَّن، وهبته، والوقف عليه، وضمان المال، وإتلافه، ودعوى رِقِّ مجهول
(1)
ت: "أن الحاكم لا يحكم".
(2)
وانظر في مسألة قبول شهادة الكفار على المسلمين في السفر: "الطرق الحكمية"(1/ 485 - 514).
(3)
في المطبوع: "وقد أجمع".
النسب، وتسمية المهر، وتسمية عوض الخلع= رجلان
(1)
، ورجل وامرأتان.
وتنازعوا في العتق، والوكالة في المال، والإيصاء إليه فيه، ودعوى قتل الكافر لاستحقاق سَلَبِه، ودعوى الأسير الإسلامَ السابقَ لمنعِ رقِّه، وجناية الخطأ والعمد التي لا قود فيها، والنكاح، والرجعة: هل يُقبَل فيها رجلٌ وامرأتان، أم لا بد من رجلين؟ على قولين، وهما روايتان عن أحمد
(2)
. فالأول قول أبي حنيفة، والثاني قول مالك والشافعي.
والذين قالوا: لا يُقبَل إلا رجلان قالوا: إنما ذكر الله الرجل والمرأتين في الأموال، دون [52/أ] الرجعة، والوصية، وما معهما. فقال لهم الآخرون: ولم يذكر سبحانه وصفَ الإيمان في الرَّقبَة إلا في كفارة القتل، ولم يذكر فيها إطعامَ ستّين مسكينًا، وقلتم: نحمل
(3)
المطلقَ على المقيَّد إما بيانًا وإما قياسًا. قالوا: وأيضًا، فإنه سبحانه إنما قال:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وفي الآية الأخرى: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] بخلاف آية الدين فإنه قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]. وفي الموضعين الآخَرين لمَّا لم يقل: رجلان، لم يقل: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان.
(1)
كذا في جميع النسخ الخطية. وفي المطبوع: "ويقبل في ذلك كله رجل وامرأتان"، وفي الطبعات السابقة:"يقبل في ذلك رجل وامرأتان". وفي العبارتين زيادة وسقط.
(2)
انظر: "الفروع"(11/ 372).
(3)
اللفظ مهمل في النسخ، فيحتمل قراءة:"يُحمَل".
فإن قيل: اللفظ مذكَّر، فلا يتناول الإناث.
قيل: قد استقرَّ في عُرف الشارع أن الأحكام المذكورة بصيغة المذكَّرين إذا أُطلقت ولم تقترن بالمؤنَّث فإنها تتناول الرجال والنساء، لأنه يُغلَّب المذكرُ عند الاجتماع كقوله:{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وقوله: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]، وقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] وأمثال ذلك. وعلى هذا، فقوله:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] يتناول الصنفين، لكن قد استقرَّت الشريعة على أن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، فالمرأتان في الشهادة كالرجل الواحد
(1)
. بل هذا أولى، فإنَّ حضورَ النساء عند الرجعة أيسرُ من حضورهن
(2)
عند كتابة الوثائق بالديون، وكذلك حضورهن عند الوصية وقت الموت. فإذا جوَّز الشارع استشهاد النساء في وثائق الدَّين
(3)
التي يكتبها الرجال، مع [52/ب] أنها إنما تُكتَب غالبًا في مجامع الرجال، فلَأَنْ يُشرَع
(4)
ذلك فيما يشهده
(5)
النساء كثيرًا كالوصية والرجعة أولى.
يوضِّحه أنه قد شُرِع في الوصية استشهادُ آخرَين من غير المسلمين عند الحاجة، فلأَنْ يجوز استشهادُ رجل وامرأتين بطريق الأولى والأحرى؛
(1)
س، ف:"كرجل واحد". وكذا غيَّر بعضهم في ح.
(2)
في النسخ كلها: "حضورهم" هنا وفي الجملة التالية، وهو سبق قلم.
(3)
في النسخ المطبوعة: "الديون".
(4)
في النسخ المطبوعة: "يسوغ".
(5)
في ع: أهمل حرف المضارع، وفي غيرها ما أثبت. وفي النسخ المطبوعة:"تشهده".
بخلاف الديون فإنه لم يأمر فيها باستشهاد آخرين من غيرنا، إذ كانت مداينة المسلمين تكون بينهم، وشهودُهم حاضرون. والوصية في السفر قد لا يشهدها إلا أهلُ الذمة، وكذلك الميِّت قد لا يشهده إلا النساء.
وأيضًا فإنما أمَر في الرجعة باستشهاد ذوي عدل، لأن المستشهِد هو المشهود عليه بالرجعة ــ وهو الزوج ــ لئلا يكتمها، فأمر بأن يشهد
(1)
أكمل النصاب. ولا يلزم إذا لم يشهد هذا الأكملُ أن لا يُقبلَ عليه شهادةُ النصاب الأنقص، فإنَّ طرقَ الحكم أعمُّ من طرق حفظ الحقوق. وقد أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الملتقِطَ أن يُشهِد عليه ذوي عدل، ولا يكتُمَ، ولا يُغَيِّبَ
(2)
. ولو شهد عليه باللقطة رجلٌ وامرأتان قُبِل بالاتفاق، بل يُحكَم عليه بمجرَّد وصفِ صاحبها لها.
وقال تعالى في شهادة المال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} ، وقال في الوصية والرجعة:{ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، لأنَّ المستشهِد هناك صاحبُ الحقّ، فهو يأتي بمن يرضاه لحفظ حقِّه، فإن لم يكن عدلًا كان هو المضيِّع لحقِّه. وهنا
(3)
المستشهِدُ يستشهد بحقٍّ ثابتٍ عنده، فلا يكفي رضاه به
(4)
، بل لا بد أن يكون عدلًا في نفسه. وأيضًا [53/أ] فإنَّ الله سبحانه قال هناك: {مِمَّنْ
(1)
ضبط في س بضم الياء وكسر الهاء. وفي ع: "يستسشهد". وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند"(18343)، وأبو داود في "السنن"(1709)، وابن ماجه في "السنن"(2505)، والنسائي في "السنن الكبرى"(5776)، وصححه ابن حبان في "المسند الصحيح"(927).
(3)
في النسخ المطبوعة: "وهذا".
(4)
"به" لم يرد في ح، ف.
تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} لأنّ صاحبَ الحقِّ هو الذي يحفظ حقَّه، فيحفظه بمن يرضاه.
وإذا قال من عليه الحقُّ: أنا أرضى
(1)
بشهادة هذا عليَّ، ففي قبوله نزاع. والآية تدل على أنه يُقبَل، بخلاف الرجعة والطلاق فإنَّ فيهما حقًّا لله. وكذلك الوصية، فيها حقٌّ لغائب.
ومما يوضِّح ذلك: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في المرأة: "أليست شهادتها بنصف شهادة الرجل؟ "
(2)
فأطلَق، ولم يقيِّد. ويوضِّحه أيضًا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال للمدَّعي لما قال: هذا غصبني أرضي، فقال:"شاهداك أو يمينه"
(3)
. وقد عرَف أنه لو أتى برجل وامرأتين حَكَم له. فعُلِمَ أنَّ هذا يقوم مقام الشاهدين، وأن قوله:"شاهداك أو يمينه" إشارة إلى الحجَّة الشرعية التي شعارها الشاهدان. فإما أن يقال لفظ "شاهدان" معناه دليلان يشهدان، وإما أن يقال رجلان أو ما يقوم مقامهما والمرأتان دليل بمنزلة الشاهد.
يوضِّحه أيضًا أنه لو لم يأتِ المدعي بحجَّة حلَف المدَّعَى عليه، فيمينه كشاهد آخر؛ فصار معه دليلان يشهدان: أحدهما البراءة، والثاني اليمين. وإن نكل عن اليمين فمَن قضى عليه بالنُّكول قال: النكول إقرار أو بَذْل
(4)
.
(1)
في النسخ المطبوعة: "راض".
(2)
أخرجه البخاري (304) من حديث أبي سعيد، ومسلم (79، 80) عن ابن عمر وأبي هريرة.
(3)
أخرجه البخاري (2515) ومسلم (138) من حديث الأشعث بن قيس.
(4)
في المطبوع: "بدل"، تصحيف.
وهذا جيِّد إذا كان المدَّعَى عليه هو الذي يعرف الحقَّ دون المدَّعِي. قال عثمان لابن عمر: تحلِفُ أنك بعتَه وما به عيبٌ تعلمه؟ فلما لم يحلِفْ قضَى عليه
(1)
. وأما الأكثرون فيقولون: إذا نكَلَ فَرُدَّ
(2)
اليمينُ على المدّعي، فيكون نكولُ الناكل دليلًا، ويمينُ المدعي دليلًا ثانيًا؛ فصار [53/ب] الحكم بدليلين: شاهد ويمين.
والشارعُ إنما جعل الحكمَ في الخصومة بشاهدين، لأنَّ المدعي لا يُحكَم له بمجرَّد قوله، والخصمُ منكِر، وقد يحلِف أيضًا. فكأنَّ أحدَ الشاهدين يقاوم الخصمَ المنكِر، فإنَّ إنكاره ويمينه كشاهد، ويبقى الشاهد الآخر خبرَ عدلٍ لا معارِضَ له؛ فهو حجة شرعية لا معارِضَ لها. وفي الرواية إنما يُقبَل خبرُ الواحد إذا لم يعارضه أقوى منه. فاطَّرد القياسُ والاعتبارُ في الحكم والرواية.
يوضِّحه أيضًا أن المقصود بالشهادة أن يُعلَم بها ثبوتُ المشهود به، وأنه حقٌّ وصدقٌ، فإنها خبر عنه. وهذا لا يختلف بكون المشهود به مالًا أو طلاقًا أو عتقًا أو وصيةً، بل من صدَقَ في هذا صدَقَ في هذا. وإذا كان الرجل مع المرأتين كالرجلين يصدُقان في الأموال، فكذلك صدقُهما في هذا.
(1)
رواه الإمام مالك في "الموطأ"(2271)، وعبد الرزاق (14722)، وابن أبي شيبة (21201، 21504، 22226) من حديث يحيى بن سعيد (وهو الأنصاري)، عن سالم بن عبد الله بن عمر به. ورواه عبد الرزاق (14721) عن معمر، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري، عن سالم به.
(2)
في ح غيَّره بعضهم إلى "تُرَدّ" كما في ف والنسخ المطبوعة.
وقد ذكر الله سبحانه حكمة تعدُّد الأنثيين
(1)
في الشهادة، وهي أن المرأة قد تنسى الشهادة، وتضِلُّ عنها، فتذكِّرها الأخرى. ومعلوم أنَّ تذكيرها لها بالرجعة والطلاق والوصية مثلُ تذكيرها لها بالدَّين، وأولى.
وهو سبحانه أمرَ بإشهاد امرأتين لتوكيد الحفظ، لأنّ عقلَ المرأتين وحفظَهما يقوم مقامَ عقلِ رجلٍ وحفظِه. ولهذا جُعِلت على النصف من الرجل في الميراث والدية والعقيقة والعتق. فعتقُ امرأتين يقوم مقامَ عتقِ رجل، كما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من أعتَقَ امرأً مسلمًا أعتق الله بكلِّ [54/أ] عضوٍ منه عضوًا منه من النار. ومن أعتق امرأتين مسلمتين أعتق الله بكلِّ عضوٍ منهما عضوًا منه من النار"
(2)
.
ولا ريب أن هذه الحكمة في التعدُد هي عند التحمُّل، فأما إذا عقلت المرأة وحفظت وكانت ممن يوثق بدينها، فإنَّ المقصود حاصلٌ بخبرها، كما يحصل بأخبار الديانات. ولهذا تُقبل شهادتُها وحدها في مواضع، ويُحكَم بشهادة امرأتين ويمينِ الطالب في أصحِّ القولين. وهو قول مالك
(3)
، وأحد الوجهين في مذهب أحمد
(4)
.
(1)
في النسخ: "الاثنين".
(2)
رواه أبو داود (3967)، وابن ماجه (2522)، والنسائي في "السنن الكبرى"(4863) من حديث كعب بن مرة، وفي سنده اختلافٌ كثيرٌ، وليُنظر:"السنن الكبرى" للنسائي (4859 - 4869)، و "العلل" للدارقطني (14/ 33 - 34).
(3)
انظر: "الكافي" لابن عبد البر (2/ 907).
(4)
انظر: "شرح الزركشي"(7/ 313) و"الطرق الحكمية"(1/ 426) و"مجموع الفتاوى"(31/ 294).
قال شيخنا قدَّس الله روحه: ولو قيل: يُحكَم بشهادة امرأة ويمين الطالب لكان متوجِّهًا. قال: لأن المرأتين إنما أقيمتا
(1)
مقام الرجل في التحمُّل لئلا تنسى إحداهما، بخلاف الأداء فإنه ليس في الكتاب ولا في السنَّة أنه لا يُحكَم إلا بشهادة امرأتين. ولا يلزم من الأمر باستشهاد المرأتين وقتَ التحمُّل أن لا يُحكَم بأقلَّ منهما، فإنه سبحانه أمر باستشهاد رجلين في الديون، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان. ومع هذا فيُحكَم بشاهد واحد ويمين الطالب، ويُحكَم بالنُّكول والردِّ وغير ذلك.
فالطرق التي يحكم بها الحاكم أوسع من الطرق التي أرشد الله صاحبَ الحق إلى أن يحفظ حقَّه بها. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأله عُقْبة بن الحارث فقال: إني تزوجتُ امرأةً، فجاءت أمةٌ سوداءُ، فقالت: إنها أرضعتنا. فأمرَه بفراق امرأته، فقال: إنها كاذبة، فقال:"دَعْها عنك"
(2)
.
ففي هذا قبولُ شهادة المرأة الواحدة، وإن كانت أمةً، وشهادتُها على فعل نفسها. وهو أصلٌ في شهادة القاسم والخارص والوزان والكيال على فعل نفسه.
فصل
وهذا أصل عظيم [54/ب] يجب
(3)
أن يُعرَف، غلِط فيه كثيرٌ من الناس؛ فإنَّ الله سبحانه أمرَ بما يحفظ به الحقُّ، فلا يحتاجَ معه إلى يمين صاحبه
(1)
س، ح، ت:"أقيما"، وكذا في "اختيارات البعلي"(ص 363) وقد ورد فيها أول كلام الشيخ.
(2)
أخرجه البخاري (88، 2659).
(3)
في النسخ المطبوعة: "فيجب".
ــ وهو الكتاب والشهود ــ لئلا يجحد الحق
(1)
، ويحتاج صاحبه إلى تذكير من لم يذكر إما جحودًا وإما نسيانًا. ولا يلزم من ذلك أنه إذا كان هناك ما يدل على الحقِّ لم يُقبل إلا هذه الطريق التي أمرَه أن يحفظ حقَّه بها.
فصل
وإنما أمر الله سبحانه بالعدد في شهود الزنا، لأنه مأمورٌ فيه بالسَّتر، ولهذا غلظ فيه النصاب، فإنه ليس هناك حقّ يضيع، وإنما هو حدّ وعقوبة، والعقوبات تُدرأ بالشبهات؛ بخلاف حقوق الله وحقوق عباده التي تضيع إذا لم يُقبَل فيها قولُ الصادقين. ومعلوم أن شهادة العدل رجلًا كان أو امرأةً أقوى من استصحاب الحال، فإنَّ استصحاب الحال من أضعف البيِّنات. ولهذا يُرفع
(2)
بالنكول تارةً، وباليمين المردودة، وبالشاهدين، والشاهد واليمين، ودلالة الحال. وهو نظير رفع استصحاب الحال في الأدلة الشرعية بالعموم والمفهوم والقياس، فيُرفع بأضعف الأدلة، فهكذا في الأحكام يُرفَع بأدنى النصاب. ولهذا قُدِّم خبرُ الواحد في أخبار الديانة على الاستصحاب مع أنه يلزم جميع المكلَّفين، فكيف لا يقدَّم عليه فيما هو دونه؟
ولهذا كان الصحيح الذي دلَّت عليه السنّة التي لا معارض لها أن اللقطة إذا وصفها واصفٌ صفةً تدلّ على صدقه دُفِعت إليه بمجرَّد الوصف. فقام وصفُه لها مقام [55/أ] الشاهد
(3)
، بل وصفُه لها بيّنةٌ تبيِّن صدقه وصحة دعواه؛ فإنَّ البيِّنة اسمٌ لما يبيِّن الحق.
(1)
بعده في النسخ المطبوعة: "أو ينسى"، وهذا لم يرد في النسخ المعتمدة.
(2)
في النسخ المطبوعة: "يدفع"، تصحيف.
(3)
في النسخ المطبوعة: "الشاهدين".
وقد اتفق العلماء على أنَّ مواضع الحاجات يُقبَل فيها من الشهادات ما لا يقبل في غيرها من حيث الجملة، وإن تنازعوا في بعض التفاصيل. وقد أمر الله سبحانه بالعمل بشهادة شاهدين من غير المسلمين عند الحاجة في الوصية في السفر منبِّهًا بذلك على نظيره، وما هو أولى منه، كقبول شهادة النساء منفرداتٍ في الأعراس والحمامات والمواضع التي تنفرد النساء بالحضور فيها. ولا ريب أنَّ قبول شهادتهن هنا أولى من قبول شهادة الكفار على الوصية في السفر.
ولذلك
(1)
عمِلَ الصحابةُ وفقهاءُ المدينة بشهادة الصبيان على تجارُحِ بعضِهم بعضًا
(2)
، فإنَّ الرجال لا يحضرون معهم في لعبهم، ولو لم تُقبَل شهادتهم وشهادة النساء منفرداتٍ لضاعت الحقوق وتعطَّلت وأُهملت، مع غلبةِ الظن أو القطعِ بصدقهم، ولا سيما إذا جاؤوا مجتمعين قبل تفرُّقهم ورجوعهم إلى بيوتهم، وتواطؤوا على خبر واحد، وفُرِّقوا وقتَ الأداء واتفقت كلمتُهم؛ فإنّ الظن الحاصل حينئذ من شهادتهم أقوى بكثير من الظن الحاصل من شهادة رجلين، وهذا مما لا يمكن دفعه وجحده. فلا يُظَنُّ بالشريعة الكاملة الفاضلة المنتظمة لمصالح العباد في المعاش والمعاد أنها
(1)
ما عدا ح، س:"وكذلك".
(2)
رواه الإمام مالك في "الموطأ"(2689) عن هشام بن عروة، عن عبد الله بن الزبير، ويتقوى بما رواه عبد الرزاق في "المصنف"(15494، 15495)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(21433) من طريقين عن ابن أبي مليكة، عن ابن الزبير، وصحّحه الحاكم في "المستدرك" (2/ 286). على شرط الشيخين. قلت: نعم، الأثر صحيح بلا ريب، لكنه ليس على شرطهما. ويُنظر:"المصنف" لعبد الرزاق (15496 - 15507)، و "المصنف" لابن أبي شيبة (21430 - 21447).
تُهمل مثل هذا الحقَّ وتُضيعه مع ظهور أدلته وقوتها، وتقبله مع الدليل الذي هو دون ذلك.
وقد روى أبو داود في "سننه"
(1)
في قضية اليهوديين اللذين زنيا، فلما شهد أربعةٌ من اليهود عليهما أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم برجمهما.
وقد تقدَّم حكمُ [55/ب] النبيِّ صلى الله عليه وسلم بشهادة الأَمَة الواحدة على فعل نفسها؛ وهو يتضمَّن شهادة العبد. وقد حكى الإمام أحمد عن أنس بن مالك إجماع الصحابة على شهادته، فقال
(2)
: ما علمتُ أحدًا ردَّ شهادةَ العبد
(3)
.
وهذا هو الصواب، فإنه إذا قُبِلت شهادته على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكمٍ يلزم جميعَ الأُمّة، فلَأَنْ تُقبَل شهادتُه على واحد من الأمّة في حكم جزئي أولى وأحرى. وإذا قُبِلت شهادته على حكم الله ورسوله في الفروج والدماء والأموال في الفتوى، فلَأَنْ تُقبَل شهادتُه على واحد من الناس أولى وأحرى.
(1)
برقم (4452)، وابن ماجه (2328) ــ لكنه اختصره ــ من حديث مجالد، عن الشعبي، عن جابر رضي الله عنه. قال الدارقطني بعد تخريجه إياه في "السنن" (435):"تفرّد به مجالد عن الشعبي، وليس بالقوي". والظاهرأن مجالدًا لزم الجادّة، فزلق. وقد خالفه مغيرة بن مقسم وعبد الله بن شبرمة فروياه عن الشعبي مرسلا، أخرجه أبو داود (4453، 4454). ويُنظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (5/ 86 - 87).
(2)
هذا قول أنس، وقد تقدَّم تخريجه. وانظر "المغني" (14/ 185) و"النبوات" لابن تيمية (1/ 479). وذكر المصنف حكاية الإمام أحمد إياه مع أقوال المانعين وتكلم عليها في "الطرق الحكمية" (1/ 442 - 453). وانظر:"الصواعق"(2/ 583) و"بدائع الفوائد"(1/ 9).
(3)
ح، ف:"وقال".
كيف وهو داخل في قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ؟ فإنه منَّا، وهو عَدْل، وقد عدَّله النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"يحمل هذا العلمَ من كلِّ خَلَفٍ عُدولُه"
(1)
،
وعدَّلته الأمَّةُ في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والفتوى. وهو من رجالنا، فيدخل في قوله:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} . وهو مسلم، فيدخل في قول عمر بن الخطاب
(2)
: "والمسلمون عدولٌ بعضهم على بعض". وهو صادق، فيجب العملُ بخبره، وأن لا يُرَدَّ، فإنَّ الشريعة لا ترُدُّ خبرَ الصادق، بل تعمل به. وليس بفاسق، فلا يجب التثبّتُ في خبره وشهادته.
وهذا كلُّه من تمام رحمةِ الله وعنايته بعباده، وإكمالِ دينهم لهم، وإتمامِ نعمته عليهم بشريعته؛ لئلا تضيع حقوق الله وحقوق عباده، مع ظهور الحقِّ
(1)
رُوي هذا الحديث من طرق كثيرة جدّا، واهية، أو مضطربة. والمحفوظ ما رواه محمد بن وضاح في "البدع"(1)، والعقيلي في "الضعفاء"(6/ 132)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"(2/ 17)، والآجري في "الشريعة"(1/ 268، 269)، وابن عدي في "الكامل"(1/ 211، 249)، وابن بطة في "الإبانة"(33)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة"(1/ 211) من حديث مُعان بن رفاعة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرسلا أو معضلا، ومُعان فيه بعضُ لِينٍ، وشيخُه إبراهيم مجهول الحال، ثم هو قد أعضل الحديث، ولم يُسنده عن ثقة معروف.
ويُنظر: "المسند" للبزار (9423)، و "الضعفاء" للعقيلي (6/ 132)، و "معرفة الصحابة" لأبي نعيم (1/ 211)، و "ذخيرة الحفاظ" لابن طاهر (5/ 2777 - 2779)، و "بيان الوهم والإيهام" لابن القطان (3/ 40)، و "جامع المسانيد" لابن كثير (1/ 68)، و "التقييد والإيضاح" للعراقي (ص 38 - 39).
(2)
من كتابه إلى أبي موسى الأشعري، وهو الذي يشرحه المؤلف. وسيأتي الكلام على هذا الجزء أيضًا.
بشهادة الصادق. لكن إذا أمكن حفظُ الحقوق بأعلى الطريقين فهو أولى، كما أمر بالكتاب والشهود، لأنه أبلغ في حفظ الحق
(1)
.
فإن قيل: أمرُ الأموال أسهل، فإنه يُحكَم فيها بالنكول، وباليمين المردودة، وبالشاهد واليمين، بخلاف الرجعة والطلاق.
قيل: هذا [56/أ] فيه نزاع، والحجة إنما تكون بنص أو إجماع. فأما الشاهد واليمين فالحديث الذي في صحيح مسلم
(2)
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين، ليس فيه أنه في الأموال، وإنما هو قول عمرو بن دينار
(3)
. ولو كان مرفوعًا عن ابن عباس، فليس فيه اختصاصُ الحكم بذلك في الأموال وحدها، فإنه لم يخبر عن شرعٍ عامٍّ شرَعَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الأموال. وكذلك سائر ما روي من حُكمه بذلك، إنما هو في قضايا معينة قضى فيها بشاهد ويمين، وهذا كما لا يدل على اختصاص حُكمه بتلك القضايا، لا يقتضي اختصاصَه بالأموال؛ كما أنه إذا حكم بذلك في الديون لم يدل على أن الأعيان ليست كذلك. بل هذا يحتاج إلى تنقيح المناط، فيُنظر ما حُكِم لأجله، إن وُجِد في غير محلِّ حُكمِه عُدِّي إليه.
وفي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن المرأة إذا أقامت شاهدًا واحدًا على الطلاق، فإن حلَف الزوجُ أنه لم يطلِّق
(1)
ع: "الحقوق"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
برقم (1712).
(3)
رواه الإمام الشافعي في "الأم"(1/ 149) ــ ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبير"(10/ 167)، والبغوي في "شرح السنة"(10/ 103) ــ، والإمام أحمد في "المسند"(2968)، وجوّد سنده النسائي في "السنن الكبرى"(5967).
لم يُقْضَ عليه. وإن لم يحلِف حَلَفت المرأة، ويُقضَى عليه
(1)
. وقد احتج الأئمة الأربعة والفقهاء قاطبةً بصحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ولا يُعرَف في أئمة الفتوى إلا من احتاج إليها واحتجَّ بها
(2)
. وإنما طعن فيها من لم يتحمَّل أعباء الفقه والفتوى كأبي حاتم البُستي وابن حزم وغيرهما
(3)
.
وفي هذه الحكومة أنه يُقضَى في الطلاق بشاهدٍ وما يقوم مقامَ شاهدٍ آخر من النكول ويمين المرأة، بخلاف ما إذا أقامت شاهدًا [56/ب] واحدًا، وحلف الزوج أنه لم يطلِّق، فيمينُ الزوج عارضت شهادة الشاهد، وترجَّح جانبُه بكون الأصل معه. وأمَّا إذا نكل الزوجُ فإنه يُجعَل نكولُه مع يمين المرأة كشاهد آخر. ولكن هنا لم يُقضَ بالشاهد ويمين المرأة ابتداءً، لأن الرجل أعلم بنفسه هل طلَّق أم لا، وهو أحفَظُ لما وقع منه. فإذا نكَلَ، وقام الشاهد الواحد، وحلفت المرأة= كان ذلك دليلًا ظاهرًا جدًّا على صدق
(1)
رواه ابن ماجه (2038) من حديث عمرو بن أبي سلمة، عن زهير بن محمد، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه مرفوعا. قال أبو حاتم:"هذا حديث منكر". رواه عنه ابنه عبد الرحمن في "العلل"(1299). ورواية الشاميين عن زهير غير مستقيمة (وهذه منها)، وابن جريج لم يسمع من عمرو، كما نقله الترمذي في "العلل الكبير"(ص 108) عن البخاري. ولعلّ الأشبه بالصواب ما رواه عبد الرزاق في "المصنف"(10270) عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب (فذكره مقطوعا) ضمن خبر مطوَّل.
(2)
وانظر: "الطرق الحكمية"(1/ 420) و"زاد المعاد"(5/ 259).
(3)
انظر: "المجروحين"(2/ 72 - 73) و"الإحكام في أصول الأحكام"(5/ 57) و"المحلَّى"(4/ 38) و (10/ 147، 231) و"تهذيب التهذيب"(8/ 48 - 55).
المرأة. [فلم يُقضَ عليه بالنكول وحده، ولا يمين المرأة. وإنما قُضي بالشاهد المقوَّى بالنكول ويمين المرأة]
(1)
.
فإن قيل: ففي الأموال إذا أقام شاهدًا
(2)
وحلَف المدَّعي حُكِمَ له، ولا تُعرَض اليمين على المدَّعَى عليه. وفي حديث عمرو بن شعيب: إذا شهد الشاهد الواحد وحلف الزوج أنه لم يطلِّق لم يُحكَم عليه.
قيل: هذا من تمام حكمة هذه الشريعة وجلالتها، لأنَّ الزوج لمَّا كان أعلَم بنفسه هل طلَّق أم لا، وكان أحفَظ لِما وقع منه، وأعقَل له، وأعلَم بنيته، وقد يكون تكلَّم بلفظ مجمل أو بلفظ يظنُّه الشاهدُ طلاقًا وليس بطلاق، والشاهدُ يشهد بما سمع، والزوجُ أعلَم بقصده ومراده= جعل الشارعُ يمينَ الزوج معارِضةً لشهادة الشاهد الواحد، ويقوى
(3)
جانبُه بالأصل
(4)
واستصحابِ النكاح. فكان الظنُّ المستفاد من ذلك أقوى من الظنِّ المستفاد من مجرَّد الشاهد الواحد. فإذا نكَلَ قوي الأمر في صِدق الشاهد، فقاوَم ما في جانب الزوج، فقوَّاه الشارعُ بيمين المرأة. فإذا حلفَتْ مع شاهدِها ونكولِ الزوج قوي جانبُها جدًّا. فلا شيء أحسن ولا أبين ولا أعدل من هذه الحكومة.
(1)
ما بين الحاصرتين ورد في متن ف. وكذا في حاشية ح بخط بعضهم مع علامة "صح"، وقد يكون مصدر المحشي نسخة ف نفسها أو أخرى شبيهة بها.
(2)
ف: "قام شاهد".
(3)
حرف المضارع مهمل في أكثر النسخ، ويحتمل قراءة "وتقوَّى".
(4)
ع: "الأصل"، وكذا في نسخ أُخَر فيما يبدو، فقرئ:"ويقوِّي جانبه الأصل" كما في النسخ المطبوعة.
وأمّا المال المشهود به، فإنَّ [57/أ] المدّعي إذا قال: أقرضتُه أو بعتُه أو أعرتُه، أو قال: غصَبني، أو نحو ذلك= فهذا أمرٌ لا يختصُّ بمعرفته المطلوب، ولا يتعلَّق بنيته وقصده، وليس مع المدَّعَى عليه من شواهد صدقه ما مع الزوج من بقاء عصمة النكاح، وإنما معه مجرَّدُ براءة الذمة، وقد عُهِد كثرة اشتغالها
(1)
بالمعاملات، فقوي الشاهد الواحد والنكول أو يمين الطالب على رفعها، فحُكِمَ له. فهذا كلُّه مما يبيِّن حكمة الشارع
(2)
، وأنه يقضي بالبينة التي تبيِّن الحقَّ وهي الدليل الذي يدل عليه، والشاهد الذي يشهد به، بحسب الإمكان.
بل الحقُّ أنَّ الشاهد الواحد إذا ظهر صدقُه حُكِمَ بشهادته وحده
(3)
. وقد أجاز النبيُّ صلى الله عليه وسلم شهادةَ الشاهد الواحد لأبي قتادة بقتل المشرك، ودفَع إليه سَلَبَه بشهادته وحده؛ ولم يحلِّف أبا قتادة، فجعله بينة تامة
(4)
. وأجاز شهادةَ خزيمة بن ثابت وحده بمبايعته للأعرابي، وجعل شهادته بشهادتين
(5)
لما استندت إلى تصديقه صلى الله عليه وسلم بالرسالة المتضمِّنة تصديقَه في كلِّ ما يُخبر به. فإذا شهد المسلمون بأنه صادق في خبره عن الله، فبطريق الأولى يشهدون أنه صادق في خبره عن رجلٍ من أمته. ولهذا كان من تراجم
(1)
ح، ف:"استعمالها"، تصحيف.
(2)
لفظ "الشارع" ساقط من ع.
(3)
انظر: "الطرق الحكمية"(1/ 195، 333).
(4)
أخرجه البخاري (3142) ومسلم (1751). وانظر: "زاد المعاد"(5/ 69).
(5)
رواه الإمام أحمد (21883)، وأبو داود (3607)، والنسائي (4647) من حديث عمارة بن خزيمة، عن عمّه به، وسنده صحيح. وقد صححه الحاكم في "المستدرك"(2/ 18).
بعض الأئمة على حديثه: الحكمُ بشهادة الشاهد الواحد إذا عُرِف صدقُه
(1)
.
فصل
والذي جاءت به الشريعة أن اليمين تُشرَع في جَنْبَة
(2)
أقوى المتداعيين، فأيُّ الخصمين ترجَّح جانبُه جُعلت اليمين من جهته. وهذا مذهب الجمهور كأهل المدينة وفقهاء الحديث كالإمام أحمد والشافعي ومالك وغيرهم. وأما أهل العراق فلا يحلِّفون إلا المدَّعَى عليه وحده، فلا يجعلون [57/ب] اليمين إلا من جانبه فقط، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه
(3)
.
والجمهور يقولون: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى بالشاهد واليمين
(4)
، وثبت عنه أنه عرض الأيمانَ في القَسامة على المدَّعِين أولًا، فلما أبَوا جعلها من جانب المدَّعَى عليهم
(5)
. وقد جعل الله سبحانه أيمانَ اللِّعان من جانب الزوج أولًا، فإذا نكَلت المرأة عن معارضة أيمانه بأيمانها وجب عليها العذاب
(1)
لعله يقصد ترجمة أبي داود، ونصُّها:"باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يقضي به". وقد أوردها في "الطرق الحكمية"(1/ 197) قبل سَوق حديث خزيمة، وأشار إليها مرة أخرى في (1/ 341).
(2)
كذا في ح، س، ت، ف، وقد ضبطت في الأولى بفتح الجيم وسكون النون. والجنبة: الجانب. ومثله في "الطرق الحكمية"(1/ 304، 372) و (2/ 507) و"زاد المعاد"(5/ 329) و"تهذيب السنن"(3/ 120). وفي ع: "من جهة"، وفوقها:"ظ". وفي النسخ المطبوعة مثل ما في ع.
(3)
انظر المصادر المذكورة و"مجموع الفتاوى"(20/ 388)، (34/ 81، 147).
(4)
تقدَّم تخريجه قريبًا.
(5)
أخرجه البخاري (3173) ومسلم (1669) من حديث سهل بن أبي حَثْمة ورافع بن خَديج.
بالحدِّ، وهو العذاب المذكور في قوله:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]. فإنَّ المدَّعي لما ترجَّح جانبُه
(1)
بالشاهد الواحد شُرِعت اليمين من جهته. وكذلك أولياءُ الدم ترجَّح جانبهم باللَّوْث، فشُرعت اليمينُ من جهتهم، وأُكِّدت بالعدد تعظيمًا لخطر النفس. وكذلك الزوج في اللِّعان جانبُه أرجَحُ من جانب المرأة قطعًا، فإنَّ إقدامَه على إتلاف فراشه، ورميَها بالفاحشة على رؤوس الأشهاد= وتعريضَ نفسه لعقوبة الدنيا
(2)
والآخرة، وفضيحةَ أهله ونفسه على رؤوس الأشهاد= ممّا تأباه طباع العقلاء، وتنفِر منه نفوسهم، لولا أنَّ الزوجة اضطرَّته بما رآه وتيقَّنه منها إلى ذلك. فجانبُه أقوى وأرجح
(3)
من جانب المرأة قطعًا، فشُرعت اليمين من جانبه.
ولهذا كان الصواب القتل في القَسامة واللِّعان، وهو قول أهل المدينة. وأمَّا
(4)
فقهاء العراق فلا يقتلون لا بهذا ولا بهذا. وأحمد يقتل بالقَسامة دون اللِّعان. والشافعي يقتل باللِّعان دون القَسامة
(5)
. وليس في شيء من هذا ما يعارض الحديث الصحيح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"لو يعطَى الناسُ بدعواهم لَادَّعى قومٌ دماءَ قومٍ وأموالهم، ولكن اليمين على [58/أ] المدَّعَى عليه"
(6)
، فإنَّ هذا إذا لم يكن مع المدّعي إلا مجرّد الدعوى، فإنه لا يُقضَى له بمجرّد
(1)
"جانبه" ساقط من ع، وكذا كلمة "نفسه" الآتية.
(2)
"الدنيا" ساقط من ع.
(3)
"وأرجح" ساقط من ع، وكذا من النسخ المطبوعة.
(4)
في النسخ المطبوعة: "فأما".
(5)
وانظر: "زاد المعاد"(5/ 11).
(6)
أخرجه البخاري (4552) ومسلم (1711) من حديث ابن عباس.
الدعوى. فأما إذا ترجَّح جانبه بشاهد أو لَوث أو غيره لم يُقضَ له بمجرَّد دعواه، بل بالشاهد المجتمع من ترجُّح جانبه ومن اليمين.
وقد حكم سليمان بن داود عليه السلام لإحدى المرأتين بالولد، لترجُّح جانبها بالشفقة على الولد وإيثارها لحياته، ورضى الأخرى بقتله. ولم يلتفت إلى إقرارها للأخرى به، وقولها:" هو ابنها "
(1)
. ولهذا كان من تراجم الأئمة على هذا الحديث
(2)
" التوسعة للحاكم أن يقول للشيء الذي لا يفعله: أفعَلُ ليستبين به الحق". ثم ترجَم عليه ترجمةً أخرى أحسنَ من هذه وأفقهَ، فقال
(3)
: " الحكمُ بخلاف ما يعترف به المحكوم له
(4)
، إذا تبيَّن للحاكم أنَّ الحقَّ غيرُ ما اعترف به ". فهكذا يكون فهمُ الأئمة من النصوص، واستنباطُ الأحكام التي تشهد العقول والفطر بها منها. ولَعَمْرُ الله، إنَّ هذا هو العلم النافع، لا خَرْصُ الآراء وتخمينُ الظنون.
فإن قيل: ففي القَسامة يُقبَل مجرَّدُ أيمان المدَّعين، ولا تُجعل أيمانُ المدَّعَى عليهم بعد أيمانهم دافعةً للقتل. وفي اللِّعان ليس كذلك، بل إذا حلف الزوجُ مُكِّنت المرأةُ أن تدفع عن نفسها بأيمانها، ولم تُقتل
(5)
بمجرَّد
(1)
تقدَّم تخريجه.
(2)
وهي ترجمة النسائي في "السنن الكبرى"(5/ 409) ونحوه في "المجتبى"(8/ 236) وقد صرَّح بذلك المؤلف في آخر الكتاب، و"الطرق الحكمية"(1/ 9) و"بدائع الفوائد"(4/ 1485) و"عدة الصابرين"(ص 521).
(3)
في "السنن الكبرى"(5/ 410).
(4)
أثبت في المطبوع: "المحكوم عليه"، وكذا في مطبوع "الطرق الحكمية" و"عدَّة الصابرين". وهو خطأ وخلاف المقصود.
(5)
في النسخ المطبوعة: "ولا تقتل".
أيمان الزوج، فما الفرق؟
قيل: هذا من كمال الشريعة وتمام عدلها ومحاسنها. فإنَّ المحلوف عليه في القَسامة حقٌّ لآدمي، وهو استحقاق الدم، وقد جُعلت الأيمان المكرَّرة بيِّنةً تامّةً مع اللَّوث، فإذا قامت البيِّنة لم يُلتفت إلى أيمان المدَّعَى عليهم
(1)
. وفي اللِّعان المحلوف عليه حقٌّ لله، وهو حدُّ الزنا، ولم يشهد به أربعة شهود، وإنما جُعِل الزوج أن يحلف أيمانًا مكرَّرة مؤكَّدةً
(2)
باللعنة أنها جَنَت على فراشه وأفسدته، فليس له شاهد إلا نفسه، وهي شهادة ضعيفة، فمُكِّنت المرأة أن تُعارضها بأيمان مكرَّرة مثلها. فإذا نكلَتْ
(3)
ولم تُعارضها صارت أيمانُ الزوج مع نكولها بينةً قويةً لا معارض لها. ولهذا كانت الأيمان أربعة لتقوم مقام الشهود الأربعة، وأُكِّدت بالخامسة، وهي الدعاء على نفسه باللعنة إن كان كاذبًا. ففي القسامة جُعِل اللَّوث ــ وهو الأمارة الظاهرة الدالَّة على أنَّ المدَّعَى عليهم قتلوه
(4)
ــ شاهدًا، وجُعِلت الخمسون
(5)
يمينًا شاهدًا آخر. وفي اللعان جُعِلت أيمانُ الزوج كشاهد، ونكولُها كشاهد آخر.
والمقصود: أنَّ الشارع لم يقف الحكم في حقِّ من الحقوق
(6)
البتَّةَ على شهادة ذكرين، لا في الدماء ولا في الأموال ولا في الفروج ولا في
(1)
ع: "عليه". وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
ع: "ومؤكدة". وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
كتب بعضهم في طرَّة ح: "فعلت" مع علامة صح.
(4)
رجَّح في المطبوع: "قبلوه"!
(5)
في النسخ الخطية والمطبوعة جميعًا: "الخمسين".
(6)
في النسخ المطبوعة: "في حفظ الحقوق".
الحدود. بل قد حدَّ الخلفاء الراشدون والصحابة رضي الله عنهم في الزنا بالحَبَل
(1)
، وفي الخمر بالرائحة
(2)
والقيء
(3)
. وكذلك إذا ظهر المسروقُ عند السارق كان أولى بالحدِّ من ظهور الحبل والرائحة في الخمر. وكلُّ ما يمكن أن يقال في ظهور المسروق أمكن أن يقال في الحَبَل والرائحة، بل أولى، فإن الشبهة التي تعرض في الحبل من الإكراه ووطء الشبهة وفي الرائحة لا يعرض مثلُها في ظهور العين المسروقة. والخلفاء الراشدون والصحابة رضي الله عنهم لم يلتفتوا إلى هذه الشبهة التي
(4)
تجويزُ غلطِ الشاهد ووهمِه وكذبِه أظهرُ منها بكثير، فلو عُطِّل الحدُّ بها لكان تعطيله بالشبهة التي تُمكن
(5)
في شهادة الشاهدين أولى. فهذا محض الفقه والاعتبار ومصالح العباد، وهو من أعظم الأدلة على جلالة فقه الصحابة وعظمته، ومطابقتِه لمصالح العباد [59/أ] وحكمةِ الربِّ وشرعِه، وأن التفاوت الذي بين أقوالهم وأقوال مَن بعدهم كالتفاوت الذي بين القائلين.
والمقصود: أن الشارع صلوات الله وسلامه عليه لم يرُدَّ خبرَ العدل قطُّ، لا في رواية ولا في شهادة، بل قبِل خبر العدل الواحد في كلِّ موضع أخبر
(1)
أخرجه البخاري (6829) عن عمر، وابن أبي شيبة (29415 - 29417) عن علي.
(2)
روى النسائي (5708) أثرًا في هذا عن عمر رضي الله عنه، وسنده صحيح. وانظر أثر ابن مسعود في "صحيح البخاري"(5001) ومسلم (801).
(3)
انظر قصة جلد الوليد بن عقبة بأمر عثمان بن عفان في حديث مسلم (1707).
(4)
ح، س، ت:"التي هي". والمثبت من ع، وكذا في الطبعات القديمة (ولعل "إلى" مكان "التي" خطأ مطبعي في نشرة الوكيل). وأثبت في المطبوع:"التي هي إلى"، فاختلَّ السياق!
(5)
في المطبوع: "تكمن".
به، كما قبِل شهادته لأبي قتادة بالقتيل
(1)
، وقبِل شهادةَ خزيمة وحده
(2)
، وقبِل شهادةَ الأعرابي وحده على رؤية هلال رمضان
(3)
، وقبِل شهادة الأمة السوداء وحدها على الرضاعة
(4)
، وقبِل خبرَ تميمٍ وحده، وهو خبرٌ عن أمر حِسِّيٍّ شاهده ورآه، فقبِله ورواه عنه
(5)
. ولا فرق بينه وبين الشهادة، فإنّ كلًّا منهما خبرٌ
(6)
عن أمر مستند إلى الحسِّ والمشاهدة، فتميمٌ شهِد بما رآه وعاينه، وأخبر به النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فصدَّقه وقبِل خبره. فأيُّ فرق بين أن يشهد العدل الواحد على أمر رآه وعاينه يتعلَّق بمشهود له وعليه، وبين أن يخبر بما رآه وعاينه مما يتعلَّق بالعموم؟ وقد أجمع المسلمون على قبول أذان المؤذن الواحد، وهو شهادةٌ منه بدخول الوقت، وخبرٌ عنه يتعلق بالمخبر وغيره. وكذلك أجمعوا على قبول فتوى المفتي الواحد، وهي خبرٌ عن حكم شرعي يعُمُّ المستفتي وغيره.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
روى أبو داود (2340)، والترمذي (691)، وابن ماجه (1652)، والنسائي (2112، 2113) من حديث سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس. وفي سنده اختلاف على سماك، أشار إليه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرُهم، وسماك مضطربٌ في حديث عكرمة خاصّة، والمحفوظ في هذا الحديث الإرسال. وليُنظر:"السنن" لأبي داود (2341)، و "الجامع" للترمذي (3/ 65)، والمجتبى للنسائي (2114، 2115).
(4)
سبق تخريجه.
(5)
يعني خبر تميم الداري عن الدجال. أخرجه مسلم (2942) من حديث فاطمة بنت قيس.
(6)
لفظ "خبر" ساقط من ع.
وسرُّ المسألة: أنه لا يلزم من الأمر بالتعدُّد في جانب التحمُّل وحفظ الحقوق الأمرُ بالتعدُّد في جانب الحكم والثبوت. فالخبر الصادق لا تأتي الشريعةُ بردِّه أبدًا. وقد ذمَّ اللهُ في كتابه من كذَّب بالحق، وردُّ الخبر الصادق تكذيبٌ بالحق. وكذلك الدلالة الظاهرة لا تُرَدُّ إلا بما هو مثلها أو أقوى منها. والله سبحانه لم يأمر بردِّ خبرِ الفاسق، بل بالتثبُّت والتبيُّن، فإن ظهرت الأدلّة على صدقه [59/ب] قُبِل خبرُه، وإن ظهرت الأدلة على كذبه رُدَّ خبرُه، وإن لم يتبيَّن واحد من الأمرين وُقِفَ خبره. وقد قبِل النبيُّ صلى الله عليه وسلم خبر الدليل المشرك الذي استأجره ليدلَّه على طريق المدينة في هجرته، لما ظهر له صدقه وأمانته. فعلى المسلم أن يتبع هديَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في قبول الحق ممن جاء به، من وليّ وعدو، وحبيب وبغيض، وبر وفاجر؛ ويردَّ الباطل على من قاله كائنًا من كان.
قال عبد الله بن صالح
(1)
:
ثنا الليث بن سعد، عن ابن عجلان، عن ابن
(1)
كذا رواه يحيى بن إبراهيم بن مزين القرطبي عن عبد الله بن صالح [كما في "جامع بيان العلم" لابن عبد البر (1871)]، وابن مزين وابن صالح صدوقان، لكن فيهما لينٌ، والظاهر أن أحدهما قد قصّر، فرواه من حديث الليث، عن ابن عجلان، عن ابن شهاب، عن معاذ رضي الله عنه، ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(1/ 232) من طريق الوليد بن مسلم، عن ابن عجلان، عن الزهري، عن أبي إدريس، عن معاذ به. والمحفوظ المستفيض ما رواه أبو داود (4611) من حديث الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي إدريس الخولاني، عن يزيد بن عميرة، عن معاذ به.
وقد رواه يعقوب بن سفيان الفسوي في "المعرفة والتاريخ"(2/ 322) ــ ومن طريقه البيهقي في "المدخل"(834) ــ عن أبي صالح (وهو عبد الله بن صالح) وابنِ بُكير، عن الليث، عن عقيل به. وللحديث طرق كثيرة إلى ابن شهاب، عن أبي إدريس به.
شهاب أن معاذ بن جبل كان يقول في مجلسه كلَّ يوم، قلَّما يخطئه أن يقول ذلك: الله حَكَمٌ قِسْط. هلك المرتابون. إنَّ وراءكم فِتنًا يكثر فيها المال، ويُفتَح فيها القرآن، حتى يقرأه المؤمن والمنافق والمرأة والصبي والأسود والأحمر. فيوشِك أحدهم أن يقول: قرأتُ القرآن، فما أظنُّ أن يتّبعوني حتَّى أبتدعَ لهم غيرَه. فإياكم وما ابتدع، فإنّ كلَّ بدعة ضلالة. وإياكم وزَيغةَ الحكيم، فإنّ الشيطان قد يتكلَّم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة. وإنّ المنافق قد يقول كلمة الحق، فتلقَّوا الحقَّ عمَّن جاء به، فإنَّ على الحق نورًا. قالوا: وكيف زيغة الحكيم؟ قال: هي الكلمة تروعكم، وتنكرونها وتقولون: ما هذا؟ فاحذروا زيغته، ولا تصدَّنَّكم عنه، فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجع الحق. وإنَّ العلم والإيمان مكانَهما إلى يوم القيامة.
والمقصود: أن الحاكم يحكم بالحجة التي ترجِّح الحقَّ إذا لم يعارضها مثلها. والمطلوبُ منه ومن كلِّ من يحكم بين اثنين أن يعلم ما يقع، ثم يحكم فيه بما يجب. فالأول مداره على [60/أ] الصدق، والثاني مداره على العدل. وتمَّت كلمات ربِّك صدقًا وعدلًا، والله عليم حكيم. فالبينات والشهادات تظهر لعباده معلومة، وبأمره وشرعه يحكم بين عباده.
والحكمُ إمَّا إبداء، وإما إنشاء. فالإبداء: إخبار وإثبات، وهو شهادة. والإنشاء: أمر ونهي وتحليل وتحريم
(1)
. "والحاكم فيه ثلاث صفات: فمن جهة الإثبات هو شاهد، ومن جهة الأمر والنهي هو مفتٍ، ومن جهة الإلزام بذلك هو ذو سلطان. وأقلُّ ما يشترط فيه: صفاتُ الشاهد"
(2)
باتفاق
(1)
انظر: "اختيارات البعلي"(ص 334).
(2)
نص كلام شيخ الإسلام في المصدر المذكور (ص 332).
العلماء؛ لأنه يجب عليه الحكم بالعدل، وذلك يستلزم أن يكون عدلًا في نفسه. فأبو حنيفة لا يعتبر إلا العدالة. والشافعي وطائفة من أصحاب أحمد يعتبرون معها الاجتهاد
(1)
. وأحمد يوجب تولية الأصلح فالأصلح من الموجودين
(2)
، وكلُّ زمان بحسبه. فيقدَّم الأديَن العدلُ على الأعلم الفاجر، وقضاةُ السنة على قضاة الجهمية، وإن كان الجهمي أفقه.
ولما سأله المتوكِّل عن القضاة أرسل إليه دَرْجًا مع وزيره
(3)
، يذكر فيه تولية أناس وعزْلَ أناس، وأمسَكَ عن أناس وقال: لا أعرفهم. وروجع في بعض من سمَّى لقلَّة علمه، فقال: لو لم يولُّوه
(4)
لولَّوا فلانًا، وفي توليته مضرة على المسلمين.
وكذلك أمَر أن يولَّى على الأموال الديِّنُ السنِّي، دون الداعي إلى التعطيل، لأنه يضرُّ الناس في دينهم.
وسئل عن رجلين: أحدهما أنكى في العدو مع شربه الخمر، والآخر أديَن، فقال: يُغزى مع الأنكى في العدو، لأنه أنفع للمسلمين
(5)
.
وبهذا مضت سنةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يولِّي الأنفعَ للمسلمين على
(1)
انظر: "الهداية" للمرغيناني (3/ 101) و"روضة الطالبين"(11/ 95) و"الهداية" لأبي الخطاب (ص 565).
(2)
في "اختيارات" البعلي (ص 332): "ويجب تولية الأمثل فالأمثل. وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره".
(3)
نقل ابن الجوزي في "مناقب الإمام"(ص 251 - 252) درجًا في هذا المعنى.
(4)
ح، س:"تولّوه".
(5)
انظر: "مجموع الفتاوى"(28/ 255).
من هو أفضل منه، كما ولَّى خالد بن الوليد مِن حينِ أسلم على [60/ب] حروبه لنكايته في العدو، وقدَّمه على بعض السابقين من المهاجرين والأنصار مثل عبد الرحمن بن عوف، وسالم مولى أبي حذيفة، وعبد الله بن عمر. وهؤلاء ممن أنفق مِن قبل الفتح وقاتل، وهم أعظم درجةً من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا. وخالد كان ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل، فإنه أسلم بعد صلح الحديبية هو وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة الحَجَبي، ثم إنه فعل مع بني جَذيمة ما تبرَّأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم منه حين رفع يديه إلى السماء، وقال:"اللهم إنّي أبرأ إليك مما صنع خالد"
(1)
. ومع هذا فلم يعزله.
وكان أبو ذرٍّ من أسبق السابقين، وقال له:"يا أبا ذرّ، إني أراك ضعيفًا، وإني أُحِبُّ لك ما أُحِبّ لنفسي، لا تَأَمَّرَنَّ على اثنين، ولا تَوَلَّيَنَّ مالَ يتيم"
(2)
.
وأمَّر عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل، لأنه كان يقصد أخواله بني عُذْرة، فعَلِم أنهم يطيعونه ما لا يطيعون غيره للقرابة. وأيضًا فلِحُسن سياسة عمرو وخبرته وذكائه ودهائه، فإنه كان من أدهى العرب؛ ودهاةُ العرب أربعة هو أحدهم
(3)
. ثم أردفه بأبي عبيدة، وقال:"تَطاوعا، ولا تختلفا"
(4)
. فلما تنازعا
(1)
أخرجه البخاري (4339) من حديث عبد الله بن عمر.
(2)
أخرجه مسلم (1826) من حديث أبي ذر.
(3)
رواه ابن أبي خيثمة في "التاريخ"(2273 - السفر الثاني) من طريق مجالد عن الشعبي. والثلاثة الآخرون: معاوية بن أبي سفيان، والمغيرة بن شعبة، وزياد.
(4)
كذا في "منهاج السنة"(5/ 491). ورواه أحمد (1698) من حديث الشعبي مرسلًا، وفيه:"تطاوعا" فقط. واللفظ المذكور هنا وفي "المنهاج" جاء في حديث آخر أخرجه البخاري (3038) ومسلم (1733) من حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ومعاذًا إلى اليمن، فقال:"يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوعا ولا تختلفا".
فيمن يصلِّي سلَّم أبو عبيدة لعمرو
(1)
، فكان يصلِّي بالطائفتين وفيهم أبو بكر.
وأمَّر أسامةَ بن زيد مكان أبيه، لأنه ــ مع كونه خليقًا للإمارة ــ أحرصَ على طلب ثأر أبيه من غيره. وقدَّم أباه زيدًا في الولاية على جعفر ابن عمِّه مع أنه مولى، ولكنه من أسبق الناس إسلامًا قبل جعفر. ولم يلتفت إلى طعن الناس في إمارة أسامة وزيد وقال: "إن تطعنوا في إمارة أسامة فقد طعنتم في إمارة أبيه [61/أ] من قبله، وَايمُ الله إن كان خليقًا
(2)
للإمارة، ومِن أحبِّ الناس إليَّ"
(3)
. وأمَّر خالدَ بن سعيد بن العاص وإخوتَه، لأنهم من كبراء قريش وساداتهم
(4)
، ومن السابقين الأولين، ولم يتولَّ أحدٌ بعدَه.
والمقصود: أنَّ هَدْيه صلى الله عليه وسلم تولية الأنفع للمسلمين وإن كان غيرُه أفضل منه، والحكمُ بما يُظهِر الحق ويوضِّحه إذا لم يكن هناك أقوى منه يعارضه؛ فسيرته: توليةُ الأنفع، والحكمُ بالأظهر.
ولا تستطِلْ هذا الفصلَ، فإنه من أنفع فصول الكتاب.
(1)
رواه الواقدي في "المغازي"(ص 769 - 771) ــ وعنه ابن سعد في "الطبقات"(5/ 53) ــ بإسنادين مرسلين وثالثٍ معضلٍ، والواقديُّ نفسُه متروكٌ، على سعة روايته.
(2)
في المطبوع: "إنه خليقًا"!
(3)
أخرجه البخاري (4250) ومسلم (2426) من حديث عبد الله بن عمر.
(4)
يُنظر: "المستدرك" للحاكم (3/ 249 - 250)، و "معرفة الصحابة" لأبي نعيم (2/ 939، 940)، و "تاريخ مدينة دمشق" لابن عساكر (29/ 56، 46/ 25).
فصل
وقوله
(1)
: "والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا". هذا مرويٌّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه الترمذي
(2)
وغيره من حديث عمرو بن عَوف المُزَني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا حرَّم حلالًا أو أحلَّ حرامًا. والمسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرَّم حلالًا أو أحلَّ حرامًا" قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
وقد ندب الله سبحانه وتعالى إلى الصلح بين المتنازعين في الدماء فقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]. وندب الزوجين إلى الصلح عند التنازع في حقوقهما، فقال:{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} [النساء: 128]. وقال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114].
وأصلح النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين بني عمرو بن عوف لما
(3)
وقع بينهم
(4)
.
(1)
يعني: قول عمر في كتابه إلى أبي موسى.
(2)
برقم (1352)، وابن ماجه (2353)، وسندُه واهٍ جدّا، فيه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف متروكٌ متّهم. وقد ذكر ابنُ عبد الهادي في "المحرّر"(895) تصحيح الترمذي، وقال:"ولم يُتابَع على تصحيحه". ورواه أحمد (8784)، وأبو داود (3594) ــ وصححه ابن حبان في "المسند الصحيح"(4660) ــ من طريق كثير بن زيد ــ وفيه لينٌ ــ عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا.
(3)
في المطبوع: "فيما".
(4)
أخرجه البخاري (684)، ومسلم (421) من حديث سهل بن سعد الساعدي.
ولمَّا تنازع كعب بن مالك وابن أبي حَدْرَد في دَين على [ابن]
(1)
أبي حدرد أصلحَ النبيُّ صلى [61/ب] الله عليه وسلم بأن استوضَعَ من دَين كعبٍ الشطرَ، وأمرَ غريمَه بقضاء الشطر
(2)
.
وقال لرجلين اختصما عنده: "اذهَبا، فاقتَسِما، ثم توخَّيَا الحقَّ، ثم اسْتَهِما، ثم ليُحْلِلْ كلٌّ منكما صاحبَه"
(3)
.
وقال: "من كانت عنده مَظْلمةٌ لأخيه من عِرْض أو شيءٍ فَلْيتحلَّلْه منه اليومَ، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، وإن كان له عملٌ صالحٌ أُخِذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أُخِذ من سيئات صاحبه فحُمِلَ عليه"
(4)
.
وجوَّز في دم العَمْد أن يأخذ أولياءُ القتيل ما صُولحوا عليه
(5)
.
ولما استُشهد عبد الله بن حَرَام
(6)
الأنصاري والدُ جابر، وكان عليه
(1)
ساقط من النسخ.
(2)
أخرجه البخاري (457) ومسلم (1558) من حديث كعب.
(3)
رواه أحمد (26717)، وأبو داود (3584، 3585) من حديث أم سلمة رضي الله عنها، وصححه الحاكم (4/ 95) على شرط مسلم!، وفي سنده أسامة بن زيد الليثي، وهو صدوق فيه لينٌ. ويُنظر:"تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (5/ 70).
(4)
أخرجه البخاري (2449) من حديث أبي هريرة.
(5)
رواه أحمد (6717)، والترمذي (1387) ــ وقال: حسن غريب ــ، وابن ماجه (2626) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا. وأصل الحديث عند أبي داود (4506)، ويُنظر:"تحفة الأشراف" للمزي (6/ 314)، و "البدر المنير" لابن النحوي (8/ 429 - 430).
(6)
هو عبد الله بن عمرو بن حرام، فنسبه إلى جدّه.
دين، سأل
(1)
النبيُّ صلى الله عليه وسلم غرماءه أن يقبلوا ثمرَ حائطه، ويُحلِّلوا أباه
(2)
.
وقال عطاء عن ابن عباس: إنه كان لا يرى بأسًا بالمخارجة
(3)
، يعني الصلح في الميراث. وسُمِّيت "المخارجة" لأن الوارث يعطَى ما يصالح عليه ويُخرِج نفسه من الميراث.
وصولحت امرأة عبد الرحمن بن عوف من نصيبها من رُبْع الثمن على ثمانين ألفًا
(4)
.
وقد روى مِسْعَر عن أزهر عن محارب قال: قال عمر: رُدُّوا الخصومَ
(1)
في النسخ: "فسأل".
(2)
أخرجه البخاري (2127) من حديث جابر.
(3)
رواه سعيد بن منصور في "السنن" ــ ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبير"(6/ 65) ــ عن هشيم، عن داود بن أبي هند، عن عطاء، عن ابن عباس، وسنده ضعيف منقطع، وعطاء هو الخراساني، وداود معروف بالرواية عنه، فليُنظر:"تعظيم قدر الصلاة" لابن نصر (373)، و"الضعفاء" للعقيلي (3/ 464)، و"مسند الشاميين" للطبراني (2451)، و"شرح أصول الاعتقاد" للالكائي (1542، 1639)، و"حلية الأولياء"(5/ 207).
وقد ذكر المزي في "تهذيب الكمال"(8/ 463، 20/ 108) رواية داود عن عطاء الخراساني دون ابن أبي رباح. فإن كان قَصَدَ داودُ ابنَ أبي رباح، فالظاهر أنه منقطع، ويحسن التأمل في "المصنف" لعبد الرزاق (8/ 288).
(4)
رواه سعيد بن منصور في "السنن"(1959) ــ ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبير"(6/ 65) ــ عن أبي عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه
…
وعمرُ صدوقٌ فيه لينٌ، والظن به أن يضبط خبر امرأة جدّه. ووازن بـ "المصنف" لعبد الرزاق (15256)، و"الطبقات" لابن سعد (3/ 127).
حتى يصطلحوا، فإنَّ فصلَ القضاء يُحدِث بين القوم الضغائن
(1)
.
وقال عمر أيضًا: رُدُّوا الخصومَ، لعلهم أن يصطلحوا؛ فإنَّه أبرأ للصدور
(2)
، وأَقلُّ للحِنَاتِ
(3)
! "
(4)
.
وقال عمر أيضًا: "رُدُّوا الخصومَ إذا كانت بينهم قرابة، فإنَّ فصلَ القضاء يُورِث بينهم الشَّنَآن"
(5)
.
(1)
رواه ابن أبي شيبة (23349)، والبيهقي (6/ 66) من طريقين عن مسعر، عن أزهر العطار، عن محارب به. ورواه ابن المنذر في "الأوسط"(6/ 552)، لكن أُسقِط أزهر من السند. ووقع مثله في "الاستذكار"(7/ 99) لابن عبد البر. وأزهر العطار مجهول الحال، ترجمته في "التاريخ الكبير" للبخاري (1/ 460)، و "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/ 313 - 314)، و "الثقات" لابن حبان (6/ 69).
ورواه عبد الرزاق (15304) عن الثوري، عن رجل، عن محارب به. والأشبه أن هذا الرجل المبهم هو أزهر، فإن الثوريَّ أشهرُ مَن روى عنه.
(2)
في النسخ: "للصدق"، وهو تحريف لِمَا أثبت من "أخبار المدينة" لابن شبة. وفي مطبوعة "السنن الكبير" أيضًا:"الصدق"، ولكن صاحب "كنز العمال" (5/ 805) نقل من "السنن":"أبرأ للصدر". وفي النسخ المطبوعة من كتابنا: "آثر للصدق". والظاهر أنه من إصلاح بعض النساخ أو الناشرين.
(3)
في النسخ الخطية والمطبوعة: "للخيانة"، وهو تصحيف لما أثبت من "السنن". وفي "أخبار المدينة":"الحباب"، وهو تصحيف أيضًا. والحِنات جمع حِنَة، وهي لغة في الإحْنة: الحقد والضغينة.
(4)
رواه عمر بن شبة في "أخبار المدينة"(2/ 769)، والبيهقي في "السنن الكبير"(6/ 66) من طريقين عن معرف بن واصل، عن محارب، عن عمر.
(5)
رواه عمر بن شبة في "أخبار المدينة"(2/ 769) عن محمد بن عبد الله الزبيري، عن معرف بن واصل، عن محارب، عن عمر. ورواه أبو القاسم البغوي في "نسخة عمر بن زرارة"(31) ــ مختصرًا ــ، والبيهقي في "السنن الكبير"(6/ 66) من طريقين عن الحسن بن صالح، عن علي بن بذيمة الجزري، عن عمر رضي الله عنه، وقال:"هذه الروايات عن عمر رضي الله عنه منقطعة، والله أعلم". وهو كما قال، لكن طريق محارب منقطعة، وطريق علي بن بذيمة معضلة؛ فإن عليًّا من أتباع التابعين. ويُنظر:"المحلى"(8/ 164) لابن حزم.
فصل
والحقوق نوعان: حقٌّ لله، وحقٌّ لآدمي. فحقُّ الله لا مدخل للصلح فيه كالحدود والزكوات والكفارات ونحوها، وإنما الصلح بين العبد وبين ربِّه في إقامتها، لا في إهمالها. [62/أ] ولهذا لا تقبل الشفاعة في الحدود، وإذا
(1)
بلغت السلطان فلعَن اللهُ الشافعَ والمشفَّعَ.
وأما حقوق الآدميين
(2)
فهي التي تقبل الصلح والإسقاط والمعاوضة عليها. والصلح العادل هو الذي أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم كما قال: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} [الحجرات: 9]، والصلح الجائر هو الظلم بعينه. وكثير من الناس لا يعتمد العدلَ في الصلح، بل يُصلح صلحًا ظالمًا جائرًا
(3)
، فيصالح بين الغريمين على دون الطفيف من حقِّ أحدهما.
والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لمّا صالح بين كعب وغريمه صالَح أعدلَ الصلح
(4)
، فأمره
(1)
في ح: "إذا" دون الواو قبلها.
(2)
في طرة ح: "الآدمي" وفوقه: "نسخة ص". وفي ف: "الآدمي"، وفي طرتها:"خ الآدميين".
(3)
لم يرد "جائرًا" في ح، فاستدركه بعضهم في طرتها.
(4)
ع: "والنبي صلى الله عليه وسلم صالح بين كعب وغريمه أعدل الصلح". وفي النسخ المطبوعة: "والنبي صلى الله عليه وسلم صالح
…
غريمه وصالح
…
" بإسقاطْ "لمَّا" وزيادة الواو قبل جوابها.
أن يأخذ الشطر ويضع
(1)
الشطر
(2)
، وكذلك لما عزم على طلاق سَودة رضيَتْ بأن تهَبَ له ليلتها
(3)
، وتبقى على حقِّها من النفقة والكسوة. فهذا أعدل الصلح، فإن الله سبحانه أباح للرجل أن يطلِّق زوجته ويستبدل بها غيرها، فإذا رضيت بتركِ بعضِ حقِّها وأخذِ بعضه وأن يمسكها كان هذا من الصلح العادل. وكذلك أرشد الخصمين اللذين دَرَسَتْ
(4)
بينهما المواريثُ
(5)
بأن يتوخَّيا الحقَّ بحسب الإمكان، ثم يحلِّل كلٌّ منهما صاحبَه
(6)
.
وقد أمر الله سبحانه
(7)
بالإصلاح بين الطائفتين المقتتلتين أولًا، فإن بغت إحداهما على الأخرى فحينئذ أَمرَ بقتال الباغية لا بالصلح، فإنها ظالمة؛ ففي الإصلاح مع ظلمها هضمٌ لِحقِّ الطائفة المظلومة.
(1)
ع: "ويدع"، وكأنه تحريف سماعي. وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
سبق تخريجه آنفًا.
(3)
رواه ابن سعد في "الطبقات"(10/ 54) من حديث القاسم بن أبي بزة مرسلا، أو معضلا. وروى أبو داود (2135) من حديث عائشة، والترمذي (3040) من حديث ابن عباس، ما يشهد لبعض معناه، والحديث باجتماع طريقيْه جيّد قويّ. وصحح الحاكم في "المستدرك"(2/ 60، 186) حديثَ عائشة.
(4)
وفي رواية لأبي داود (3585): "يختصمان في مواريث وأشياء قد درست". وفي أخرى (3584): "في مواريث لهما لم يكن لهما بيّنة إلا دعواهما". فهذا يفسِّر معنى دروسها أي خفائها لقِدَمها وفقدان البينة. وضبط "درست" في ت بالبناء للمجهول، وهو جائز. وفي النسخ المطبوعة:"كانت".
(5)
ع: "كان بينهما الإرث".
(6)
سبق تخريجه قريبًا.
(7)
في سورة الحجرات (9).
وكثيرٌ من الظَّلَمة المصلحين يُصلح بين القادر الظالم والخصم الضعيف المظلوم بما يرضى به القادرُ صاحبُ الجاه، ويكون له فيه الحظُّ، ويكون الإغماض والحيف فيه على الضعيف؛ ويظنُّ أنه قد أصلَحَ! ولا يتمكن المظلوم من أخذ حقه، وهذا ظلم. بل يمكَّن المظلومُ من استيفاء حقِّه، ثم يُطلَب إليه برضاه [62/ب] أن يترك بعضَ حقه بغير
(1)
محاباةٍ لصاحب الجاه، ولا تشبيهٍ
(2)
بالإكراه للآخر بالمحاباة ونحوها.
فصل
والصلح الذي يُحِلُّ الحرامَ ويُحرِّم الحلالَ كالصلح الذي يتضمَّن تحريمَ بُضْعٍ حلال، أو حِلَّ بُضْعٍ حرام، أو إرقاقَ حُرٍّ، أو نقلَ نسب أو ولاء عن محلّ إلى محلّ، أو أكلَ ربا، أو إسقاطَ واجب، أو تعطيلَ حدٍّ، أو ظلمَ ثالث، وما أشبه ذلك= فكلُّ هذا صلح جائر مردود. فالصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد المصلحُ فيه أمرين: رضا
(3)
الله سبحانه، ورضا الخصمين؛ فهذا أعدلُ الصلح وأحقُّه. وهو يعتمد العلم والعدل، فيكون المصلح عالمًا بالوقائع
(4)
، عارفًا بالواجب، قاصدًا للعدل. فدرجةُ هذا أفضل من درجة الصائم القائم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأفضلَ من درجة الصِّيام والقيام
(5)
؟ "، قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إصلاحُ ذات البين، فإنَّ فساد ذات
(1)
كذا في س والنسخ المطبوعة. وفي غيرها: "لغير".
(2)
كذا في النسخ الخطية. وفي النسخ المطبوعة: "يشتبه". ولعل في الكلمة تصحيفًا.
(3)
في النسخ المطبوعة: "يعتمد فيه رضا"، فسقطت منها كلمتان.
(4)
في ف غُيِّر إلى "الواقع".
(5)
ع: "الصائم القائم". وكذا في النسخ المطبوعة.
البين الحالقة. أمَا إنّي لا أقول: تحلِق الشَّعر، ولكن تحلِق الدين"
(1)
.
وقد جاء في أثر: أصلِحُوا بين الناس، فإنَّ الله يُصلح بين المؤمنين يومَ القيامة
(2)
.
وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].
فصل
وقوله
(3)
: "ومَن ادَّعى حقًّا غائبًا أو بينةً، فاضرِبْ له أمدًا ينتهي إليه". هذا من تمام العدل، فإنَّ الخصم
(4)
قد تكون حجّته أو بيّنته غائبة، فلو عُجِّل عليه بالحُكم بطَل حقُّه، فإذا سأل أمدًا يُحضِر فيه حجتَه أُجيبَ إليه، ولا يتقيّد ذلك بثلاثة أيام، بل بحسب الحاجة. فإن ظهر عناده ومدافعته للحاكم
(1)
رواه أحمد (27508)، وأبو داود (4919)، والترمذي (2509) ــ وصححه ــ من حديث أبي الدرداء مرفوعا، وصححه أيضًا ابن حبان في "المسند الصحيح"(4169).
(2)
رواه ابن أبي الدنيا في "حسن الظن بالله"(118)، وأبو يعلى في "مسنده"[كما في "المطالب العالية" (5/ 46 - 47) لابن حجر و "إتحاف الخيرة المهرة" للبوصيري (8/ 203 - 204)]، وابن أبي داود في "البعث"(32)، وأبو بكر الكلاباذي في "بحر الفوائد"(1089)، والحاكم (4/ 576) ــ وصحّحه! ــ من حديث أنس مرفوعا. وفيه سعيد بن أنس، قال العقيلي في "الضعفاء" (2/ 433):"مجهول في النقل". وقال الدارقطني في تعليقاته على المجروحين (ص 201): "مجهول لا يُعرف". والراوي عنه عباد بن شيبة، قال ابن حبان في "معرفة المجروحين" (2/ 171): "منكر الحديث جدا على قلّة روايته
…
". ويُنظر: "البداية والنهاية" لابن كثير (20/ 39 - 40).
(3)
يعني: قول عمر في كتابه إلى أبي موسى.
(4)
ع: "المدعي"، وكذا في النسخ المطبوعة.
لم يَضرِب له أمدًا، بل يفصِل الحكومة، فإنَّ ضربَ هذا الأمد إنما كان [63/أ] لتمام العدل، فإذا كان فيه إبطالٌ للعدل لم يُجَب إليه الخصمُ.
وقوله: "ولا يمنعنَّك قضاءٌ قضيتَ به اليوم، فراجعتَ فيه رأيك، وهُدِيتَ فيه لِرُشدك= أن تُراجع فيه الحقَّ، فإنّ الحقَّ قديم، ولا يبطله شيء، ومراجعةُ الحق خيرٌ من التمادي في الباطل". يريد: أنّك إذا اجتهدت في حكومة، ثم وقعت لك مرة أخرى، فلا يمنعك الاجتهاد الأول من إعادته؛ فإنَّ الاجتهاد قد يتغيَّر. ولا يكون الاجتهاد الأول مانعًا من العمل بالثاني، إذا ظهر أنه الحقُّ، فإنَّ الحق أولى بالإيثار، لأنه قديم سابق على الباطل. فإن كان الاجتهاد الأول قد سبق الثاني، والثاني هو الحقُّ، فهو أسبق من الاجتهاد الأول؛ لأنه قديم سابق على ما سواه. ولا يبطله وقوع الاجتهاد الأول على خلافه
(1)
، بل الرجوع إليه أولى من التمادي على الاجتهاد الأول.
قال عبد الرزاق
(2)
:
ثنا معمر، عن سماك بن الفضل، عن وهب بن
(1)
في المطبوع: "خلاف".
(2)
(19005)، والبخاري في "التاريخ الكبير"(2/ 331 - 332)، ويعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ"(2/ 223، 223 - 224).
وقد قلب بعض الرواة اسمَ الحكم بن مسعود ونسبَه، وخلطه النخشبي بالأنصاري الزرقي، فوازِن تخريج "الفوائد الحنائيات"(2/ 1302)، و الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (3/ 127، 8/ 283) بـ "التاريخ الكبير" للبخاري (2/ 331 - 332)، و "المعرفة والتاريخ" ليعقوب بن سفيان (2/ 223، 224).
وقد قال البخاري في "التاريخ الكبير"(2/ 332): "ولم يتبيّن سماع وهب من الحكم". والحكم هذا مجهولٌ، أما الذهبي فقال في "ميزان الاعتدال" (1/ 580):"هذا إسنادٌ صالحٌ".
منبه، عن الحكم بن مسعود الثقفي قال: قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في امرأة توفِّيت، وتركت زوجها، وأمَّها، وإخوتها لأبيها وأمها، وإخوتها لأمها. فأشرك عمر بين الإخوة للأم والأب والإخوة للأم في الثلث. فقال له رجل: إنك لم تُشرِك بينهم عامَ كذا وكذا. فقال عمر: تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا اليوم. فأخذ أمير المؤمنين في كلا الاجتهادين بما ظهر له أنه الحق، ولم يمنعه القضاء الأول من الرجوع إلى الثاني، ولم ينقض الأولَ بالثاني. فجرى أئمة الإسلام بعده على هذين الأصلين.
قوله: "والمسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجرَّبًا عليه شهادةُ زور، أو مجلودًا في حدٍّ، أو [63/ب] ظنينًا في ولاء أو قرابة". لمَّا جعل الله سبحانه هذه الأمة أمةً وسَطًا ليكونوا شهداء على الناس، والوسط: العدل الخيار= كانوا عدولًا بعضهم على بعض، إلا من قام به مانع الشهادة. وهو أن يكون قد جُرِّب عليه شهادةُ الزور، فلا يوثق بعد ذلك بشهادته؛ أو مَن جُلِد في حدِّ قذفٍ
(1)
لأن الله سبحانه نهى عن قبول شهادته؛ أو متَّهم
(2)
بأن يجُرَّ إلى نفسه نفعًا من المشهود له، كشهادة السيِّد لعتيقه بمال، أو شهادة العتيق لسيِّده إذا كان في عياله أو منقطعًا إليه يناله نفعه.
وكذلك شهادة القريب لقريبه لا تُقبَل مع التهمة، وتُقبل بدونها. هذا هو الصحيح. وقد اختلف الفقهاء في ذلك: فمنهم مَن جوَّز شهادة القريب لقريبه مطلقًا كالأجنبي، ولم يجعل القرابة مانعة من الشهادة بحال، كما يقوله
(1)
لفظ "قذف" ساقط من ع، وكذا من النسخ المطبوعة.
(2)
ع: "متهمًا".
أبو محمد بن حزم وغيره من أهل الظاهر
(1)
. وهؤلاء يحتجُّون بالعمومات التي لا تفرِّق بين أجنبي وقريب، وهؤلاء أسعد بالعمومات. ومنعت طائفةٌ شهادةَ الأصول للفروع والفروع للأصول خاصّة، وجوَّزت شهادةَ سائر الأقارب بعضهم لبعض. وهذا مذهب الشافعي وأحمد
(2)
، وليس مع هؤلاء نصٌّ صريح صحيح بالمنع.
واحتجَّ الشافعي بأنه لو قُبلت شهادة الأب لابنه لكانت شهادةً منه لنفسه لأنه منه
(3)
. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما فاطمةُ بَضْعَةٌ منِّي، يَريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها"
(4)
.
قالوا: وكذلك بنو البنات، فقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحسن:"إن ابني هذا سيِّد"
(5)
.
قال الشافعي
(6)
: فإذا شهد له، فإنما يشهد لشيء منه. قال: وبنوهم منه، فكأنه شهِد لبعضه.
قالوا: والشهادة تُرَدُّ [64/أ] بالتهمة، والوالد متَّهم في ولده، فهو ظنين في قرابته.
(1)
انظر: "المحلَّى"(8/ 505) و"بداية المجتهد"(4/ 247).
(2)
انظر: "الأم"(7/ 49) و"المجموع شرح المهذب"(20/ 234)، و"الروايتين والوجهين"(3/ 95)، و"الهداية" لأبي الخطاب (ص 597).
(3)
انظر: كتاب "الأم"(7/ 49).
(4)
أخرجه البخاري (5230) ومسلم (2449) من حديث المِسْوَر بن مخرمة.
(5)
أخرجه البخاري (2704) من حديث أبي بكرة.
(6)
في كتاب "الأم"(7/ 49). وانظر: "السنن الكبرى" للبيهقي (10/ 201).
قالوا: وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأولاد: "إنكم لَتُبَخِّلُون وتُجَبِّنُون، وإنكم لَمِنْ رَيحان الله"
(1)
. وفي أثر آخر: "الولد مَبْخَلة مَجْبَنة"
(2)
.
قالوا: وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك"
(3)
. فإذا كان مال الابن لأبيه، فإذا شهد له الأبُ بمال كان قد شهد به لنفسه.
قالوا: وقد قال أبو عبيد: ثنا مروان بن
(4)
معاوية عن يزيد الجَزَري ــ
(1)
رواه أحمد (27314)، والترمذي (1910) من حديث عمر بن عبد العزيز، عن خولة بنت حكيم مرفوعا، وقال الترمذي:"ولا نعرف لعمر بن عبد العزيز سماعا من خولة". وفيه أيضا ابن أبي سويد (وهو محمد الثقفي)، مجهول.
(2)
رواه أحمد (17562)، وابن ماجه (3666) من طريق سعيد بن أبي راشد، عن يعلى مرفوعا، وسعيد مجهول. ومع هذا صححه الحاكم في "المستدرك"(3/ 164) على شرط مسلم، وروى له (3/ 296) شاهدًا من حديث الأسود بن خلف مرفوعا، ولا يصح، وروى (4/ 239) نحوه من حديث الأشعث بن قيس مرفوعا، وصححه على شرط الشيخين! وله طريق أخرى عند الإمام أحمد (21840)، وأبي القاسم البغوي في "معجم الصحابة"(229)، وطريق ثالثة عند الطبراني في "المعجم الكبير"(647)، ولأصل الحديث طرق أخرى ليس هذا مقام سردها، ومجموعها يدلّ على أن للحديث أصلا.
(3)
رواه أحمد (6678، 6902)، وأبو داود (3530)، وابن ماجه (2292) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا، وله شاهد من حديث جابر مرفوعا، رواه ابن ماجه (2291)، لكن الأشبه أن المحفوظ أن أصله مرسلُ ابنِ المنكدر، كما في "العلل" لابن أبي حاتم (1399). وللحديث شواهد كثيرة، وقد صححه ابن حبان في "المسند الصحيح"(4015) من حديث عائشة، والصواب أن سندَ ابنِ حبان ضعيف، لكن أصل الحديث قوي.
(4)
في النسخ الخطية: "جرير عن" وهو تحريف ما أثبت من "المحلَّى"(8/ 507) وهو مصدر النقل.
قال: أحسبه يزيد بن سنان ــ عن الزهري
(1)
، عن عروة، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ظنين في وَلاء أو قرابة، ولا مجلود"
(2)
.
(1)
في النسخ المطبوعة: "قال الزهري"، والصواب ما أثبت من النسخ. وكذا في "المحلَّى".
(2)
رواه أبو عبيد في "غريب الحديث"(1/ 363)، قال: حدثناه مروان الفزاري، عن شيخ من أهل الجزيرة يُقال له: يزيد بن أبي زياد ــ قال أبو عبيد: وهو: يزيد بن سنان ــ، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة ترفعه. ومن طريق أبي عبيد رواه البيهقي في "السنن الكبير"(10/ 202)، والخطيب في "المتفق والمفترق"(3/ 2101 - 2102)، وأبو محمد البغوي في "معالم التنزيل"(1/ 394 - 395). وقد جزم الخطيب أيضًا أن يزيد هذا هو أبو فروة يزيد بن سنان الجزري الرهاوي. وسبقه إلى ذلك أيضًا ابن معين، فيما حكاه عنه عثمان بن سعيد الدارمي في "تاريخه"(894)، وقد ردّه ابن عدي في "الكامل"(9/ 153)، وابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق"(65/ 195).
وقد روى الحديثَ الترمذي (2298) عن قتيبة، عن مروان الفزاري، عن يزيد بن زياد، عن الزهري به، وضعّفه هو، والدارقطني في "السنن"(4602)، والبيهقي في "السنن الكبير"(10/ 155، 202)، وغيرُهم.
والحديث منكر، كما قال أبو زرعة، رواه عنه ابن أبي حاتم في "العلل"(4/ 288).
وقطع الترمذي وابن عدي والدارقطني والبيهقي وابن عساكروغيرُهم أن يزيد هذا هو الدمشقي، بل وقع التصريح بكونه الدمشقيَّ عند ابن أبي حاتم في "العلل"(1428)، وابن عدي في "الكامل" (7/ 259 - 260) ــ ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبير" (10/ 155) ــ من طرق عن معاوية الفزاري نفسِه. ويُنظر:"تعليقات الدارقطني على المجروحين"(ص 283)، و"تاريخ مدينة دمشق" لابن عساكر (65/ 192 - 196)، و"تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (5/ 82). وللحديث طرق كثيرة، لا يصح منها شيء.
قالوا: ولأنَّ بينهما من البعضية والجزئية ما يمنع قبول الشهادة، كما منع من إعطائه من الزكاة، ومن قتل الوالد به
(1)
، وحدَّه بقذفه. قالوا: ولهذا لا يثبت له في ذمته دَين عند جماعة من أهل العلم، ولا يطالَب به، ولا يُحبَس من أجله.
قالوا: وقد قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النور: 61]، ولم يذكر بيوت الأبناء لأنها داخلة في بيوتهم أنفسهم، فاكتفى بذكرها منها
(2)
، وإلا فبيوتهم أقرب من بيوت من ذُكِر في الآية.
قالوا: وقد قال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف: 15] أي ولدًا. فالولد جزء، فلا تُقبَل شهادة الرجل لجزئه
(3)
.
قالوا: وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أطيبَ ما أكل الرجلُ مِن كَسْبه، وإنَّ ولده مِن كَسْبه"
(4)
. فكيف يشهد الرجل لكسبه؟
(1)
في النسخ المطبوعة: "قتله بالولد".
(2)
في النسخ المطبوعة: "دونها" مكان "منها".
(3)
في النسخ المطبوعة: "في جزئه".
(1)
رواه أحمد (24032، 24957، 25400، 25611، 25846)، وأبو داود (3528)، والنسائي (4449، 4450) من حديث عائشة رضي الله عنها.
وقد صححه ابن حبان في "المسند الصحيح"(4468، 4469، 4470)، والحاكم في "المستدرك"(2/ 46)، ووقعت للحاكم فيه (2/ 46، 284) أغلاطٌ ليس هذا مقام كشفها. ووازِن بـ "التاريخ الكبير" للبخاري (1/ 406 - 407)، و"السنن" لأبي داود (3529)، و"السنن" لابن ماجه (2137)، و"المجتبى" للنسائي (4451، 4452)، و"العلل" لابن أبي حاتم (1396)، و"المنتخب من العلل للخلال" لابن قدامة (208، 209)، و"العلل" للدارقطني (14/ 250 - 255)، وقد أبدع في تقصّي اختلاف طرقه ما شاء.
قالوا: والإنسان متَّهم في ولده، مفتون به، كما قال تعالى:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] فكيف تُقبَل شهادةُ المرء لمن قد جُعِل مفتونًا [64/ب] به، والفتنة محلُّ التهمة
(1)
؟
قال الآخرون: قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]. وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]. وقد قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]. وقال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]. وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106]. ولا ريب في دخول الآباء والأبناء والأقارب في هذا اللفظ كدخول الأجانب، وتناولُها للجميع تناولٌ
(2)
واحدٌ. هذا مما لا يمكن دفعه. ولم يستثن الله سبحانه ولا رسوله من ذلك أبًا ولا ولدًا ولا أخًا ولا قرابةً، ولا أجمع المسلمون على استثناء أحد من هؤلاء، فتلزمَ الحجة بإجماعهم.
(1)
بعد هذا في ع: "فصل". وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
في النسخ المطبوعة: "بتناول".
وقد ذكر عبد الرزاق
(1)
عن أبي بكر بن أبي سَبْرة، عن أبي الزناد، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: قال عمر بن الخطاب: تجوز شهادة الوالد لولده، والولد لوالده، والأخ لأخيه.
وعن عمرو بن سُلَيم الزُّرَقي عن سعيد بن المسيِّب مثل هذا
(2)
.
وقال ابن وهب: ثنا يونس عن الزهري قال: لم يكن يتَّهِم سلفُ المسلمين الصالح شهادةَ
(3)
الوالد لولده، ولا الولد لوالده، ولا الأخ لأخيه، ولا الزوج لامرأته. ثم دخل الناس بعد ذلك، فظهرت منهم أمور حملت الولاةَ على اتهامهم، فتُرِكت شهادةُ من يُتَّهم إذا كانت من قرابة، وصار ذلك من الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة، لم يُتَّهم إلا هؤلاء في آخر الزمان
(4)
.
وقال أبو عبيد: حدثني الحسن بن عازب، عن جدِّه شَبيب بن غَرقَدة قال: كنت جالسًا عند شُريح، فأتاه [65/أ] علي بن كاهل وامرأة وخصم، فشهد لها عليُّ بن كاهل وهو زوجها، وشهد لها أبوها، فأجاز شريح
(1)
في "المصنف"(15471)، وابن أبي سبرة متروكٌ متّهمٌ بالكذب والوضع.
(2)
رواه عبد الرزاق (15472)، لكنه لا يثبت عن عمرو بن سليم؛ لأن في الطريق إليه ابن أبي سبرة، وهو واهٍ تالفٌ.
(3)
في النسخ المطبوعة: "في شهادة"، ولم ترد زيادة "في" في نسخنا ولا في "المحلَّى" وهو مصدر النقل.
(4)
ذكره ابن حزم في "المحلى"(9/ 415 - 416) عن ابن وهب به. وسنده كالأسطوانة، وعسى أن يكون ابن حزم نقله من طريق الثقات الأثبات، على ما عُهِد عنه. ثمّ رأيتُه في "المدوّنة"(4/ 20) من رواية سحنون، عن ابن وهب به. ورواه ابن جرير في "جامع البيان"(7/ 586) من طريق ابن المبارك عن يونس (وهو ابن يزيد الأيلي) به.
شهادتهما. فقال الخصم: هذا أبوها، وهذا زوجها. فقال له شريح: أتعلم شيئًا تجرَح به شهادتهما؟ كلُّ مسلم شهادته جائزة
(1)
.
وقال عبد الرزاق
(2)
: ثنا سفيان بن عيينة، عن شَبيب بن غَرقَدة قال: سمعتُ شريحًا أجاز لامرأةٍ شهادةَ أبيها وزوجها، فقال له الرجل: إنه أبوها وزوجها. فقال
(3)
شريح: فمن يشهد للمرأة إلا أبوها وزوجها؟.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة
(4)
: ثنا شَبابة، عن ابن أبي ذئب، عن سليمان قال: شهدتُ لأمي عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، فقضى بشهادتي.
وقال عبد الرزاق
(5)
: ثنا معمر، عن عبد الرحمن بن عبد الله
(6)
الأنصاري قال: أجاز عمر بن عبد العزيز شهادة الابن لأبيه إذا كان عدلًا.
(1)
ذكره ابن حزم في "المحلى"(9/ 416) عن أبي عبيد به. وابن عازب هذا مجهولٌ، مختلفٌ في اسمه، وجزم ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"(3/ 61) أن اسمه (الحسين) بالتصغير، وقد تُوبِع ابنُ عازب هذا، تابعه ابن عيينة، كما سيأتي عَقِب هذا.
(2)
في "المصنف"(15473) رواه عن ابن عيينة به. ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(23318) عن وكيع، عن سفيان [وهو الثوري]، عن شبيب به مختصرا. وروى (23320) عن أبي نعيم، عن أبي جناب [وهو الكلبي]، عن عون، عن شريح أنه أجاز شهادة أبٍ وزوجٍ. والأثر صحيحٌ.
(3)
ت، ف:"وقال".
(4)
في "المصنف"(23321)، ووقع في بعض نشرات "المصنف": شهدتُ لأبي. وسندُه إلى سليمان صحيحٌ.
(5)
في "المصنف"(15475) عن معمر، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري به.
ويُنظر أيضا "المصنف" لعبد الرزاق (8738، 14721، 14747، 17706، 18033).
(6)
كذا في النسخ الخطية والمطبوعة. والصواب عبد الله بن عبد الرحمن. وقد انقلب اسمه في "المحلَّى"(9/ 416) وهو مصدر النقل.
قالوا
(1)
: فهؤلاء عمر بن الخطاب، وجميع السلف
(2)
، وشريح، وعمر بن عبد العزيز، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم= يجيزون شهادة الابن لأبيه والأب لابنه.
قال ابن حزم
(3)
: "وبهذا يقول إياس بن معاوية، وعثمان البَتِّي، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، والمُزَني، وأبو سليمان، وجميع أصحابنا" يعني داود بن علي وأصحابه.
وقد ذكر الزهري أن الذين ردُّوا شهادة الابن لأبيه والأب لابنه والأخ لأخيه هم المتأخرون، وأن السلف الصالح لم يكونوا يردُّونها
(4)
.
قالوا: وأما حُجَجكم على المنع، فمدارها على شيئين: أحدهما: البعضيَّة التي بين الأب وابنه، وأنها توجب أن تكون شهادةُ أحدهما للآخر شهادةً لنفسه.
وهذه حجة ضعيفة، فإن هذه البعضية لا توجب أن يكون [65/ب] كبعضه في الأحكام، لا في أحكام الدنيا، ولا في أحكام الثواب والعقاب. فلا يلزم من وجوب شيء على أحدهما أو تحريمه وجوبُه على الآخر وتحريمُه من جهة كونه بعضه، ولا من وجوبِ الحدِّ على أحدهما وجوبُه على الآخر.
(1)
وهو قول ابن حزم في "المحلَّى"(8/ 507).
(2)
في "المحلَّى": "وجميع الصحابة".
(3)
في "المحلى"(8/ 507) بعد الأسماء المذكورة.
(4)
تقدَّم قول الزهري آنفًا.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يجني والد على ولده"
(1)
. فلا يُجنَى عليه، ولا يعاقَب بذنبه، ولا يثاب بحسناته. ولا تجب عليه الزكاة ولا الحجُّ بغنى الآخَر.
ثم قد أجمع الناس على صحة بيعه منه وإجارته وهِبته
(2)
ومضاربته ومشاركته، فلو امتنعت شهادته له لكونه جزأَه
(3)
فيكون شاهدًا لنفسه لامتنعت هذه العقود، إذ يكون عاقدًا لها مع نفسه.
فإن قلتم: هو متهم بشهادته له، بخلاف هذه العقود، فإنه لا يتَّهم فيها معه.
قيل: هذا عَود منكم إلى المأخذ الثاني، وهو مأخذ التهمة. فيقال: التهمة وحدها مستقلة بالمنع، سواء كان قريبًا أو أجنبيًّا. ولا ريب أن تهمة الإنسان في صديقه وعشيره ومن يُصْفِيه مودتَه ومحبَّته
(4)
أعظمُ من تهمته
(1)
رواه أحمد (16064)، والترمذي (2159، 3087) ــ وصححه ــ، وابن ماجه (2669، 3055)، والنسائي في "السنن الكبرى"(4085، 11149) من حديث سليمان بن عمرو بن الأحوص، عن أبيه مرفوعا، وسليمان مجهول. لكن للحديث شواهد، منها حديث أبي رمثة عند أبي داود (4495)، والنسائي في "السنن الكبرى"(7007)، وصححه ابن حبان (4532)، والحاكم (2/ 425). وحديثُ الخشخاشِ العنبري عند أحمد (19031)، وابن ماجه (2671).
(2)
"وهبته" ساقط من ع، وكذا من النسخ المطبوعة.
(3)
في المطبوع: "جزءًا منه".
(4)
ت: "تضفيه مودتُه ومحبتُه". ع: "نصعبه". وفي النسخ المطبوعة: "يعنيه" وكل ذلك تصحيف.
في أبيه وابنه. والواقع شاهد بذلك، وكثير من الناس يحابي صديقه وعشيره وذا وُدِّه أعظمَ مما يحابي أباه وابنه.
فإن قلتم: الاعتبار بالمظنة، وهي التي تنضبط؛ بخلاف الحكمة، فإنها لانتشارها وعدم انضباطها لا يمكن التعليل بها.
قيل: هذا صحيح في الأوصاف التي شهد
(1)
لها الشرع بالاعتبار، وعلَّق بها الأحكام، دون مظانّها. فأين علَّق الشارعُ عدمَ قبول الشهادة بوصف الأبوة أو البنوة أو الأخوة؟ والمانعون
(2)
إنما نظروا إلى التهمة، فهي الوصف المؤثِّر في الحكم، فيجب تعليق الحكم به وجودًا وعدمًا. ولا تأثير [66/أ] لخصوص القرابة ولا عمومها، بل قد توجد القرابة حيث لا تهمة، وتوجد التهمة حيث لا قرابة. والشارع إنما علَّق قبول الشهادة بالعدالة وكونِ الشاهد مرضيًّا، وعلَّق عدم قبولها بالفسق، ولم يعلِّق القبولَ والردَّ بأجنبية ولا قرابة.
قالوا: وأما قولكم: "إنه غير متهم معه في تلك العقود" فليس كذلك، بل هو متهم معه في المحاباة، ومع هذا
(3)
فلا يوجب ذلك إبطالها. ولهذا لو باعه في مرض موته ولم يُحابِه لم يبطل البيع، ولو حاباه بطَل في قدر المحاباة. فعُلِّق البطلانُ بالتهمة، لا بمظنتها.
قالوا: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" فلا يمنع شهادة الابن لأبيه،
(1)
ح، ف:"يشهد".
(2)
س، ع:"التابعون"، وكذا في النسخ المطبوعة، وهو تصحيف.
(3)
ع: "ذلك"، وكذا في النسخ المطبوعة.
فإن الأب ليس هو وماله لابنه. ولا يدل الحديث على منع
(1)
قبول شهادة أحدهما للآخر. والذي دلَّ عليه الحديث، أكثرُ منازعينا لا يقولون به؛ بل عندهم أن مال الابن له حقيقةً وحكمًا، وأن الأب لا يتملَّك عليه منه شيئًا
(2)
. والذي لم يدل عليه الحديث حمَّلتموه إياه، والذي دل عليه لم تقولوا به
(3)
!
ونحن نتلقَّى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّها بالقبول والتسليم، ونستعملها على وجهها
(4)
، ولو دلَّ قوله:"أنت ومالك لأبيك" على أنه
(5)
لا تقبل شهادة الولد لوالده ولا الوالد لولده لكنَّا أول ذاهب إلى ذلك، ولما سبقتمونا إليه؛ فأين موضع الدلالة؟ واللام في الحديث ليست للملك قطعًا، وأكثركم يقول: ولا للإباحة، إذ لا يباح مالُ الابن لأبيه. ولهذا فرَّق بعضُ السلف فقال: تقبل شهادة الابن لأبيه، ولا تقبل شهادة الأب لابنه. وهو إحدى الروايتين عن [66/ب] الحسن والشعبي
(6)
، ونصَّ عليه أحمد في
(1)
لفظ "منع" ساقط من ع. وفي بعض النسخ المطبوعة في مكانها: "عدم" بين حاصرتين. وفي ت: "فإن الحديث لا يمنع".
(2)
ما عدا س: "شيء".
(3)
قارنِ بردِّ ابن حزم على استدلالهم في "المحلَّى"(8/ 508).
(4)
في النسخ المطبوعة: "في وجوهها".
(5)
في النسخ المطبوعة: "على أن".
(6)
النقل عنهما مختلفٌ، كما أشار المصنِّف رحمه الله تعالى، والذي وقفتُ عليه: ما رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(23317) من طريق أشعث، عن الحسن قال: لا تجوز شهادة الرجل لابنه، ولا شهادة الابن لأبيه
…
وروى أيضًا (23316) من طريق أشعث عن عامر [وهو الشعبي] أنه كان لا يُجيز شهادة الرجل لأبيه
…
وكان يُجيز شهادة الرجل لابنه. وقد نقل القولين عنهما ابن حزم في "المحلَّى"(9/ 415).
رواية عنه
(1)
.
ومن يقول هي للإباحة أسعد بالحديث، وإلا تعطلت دلالته وفائدته
(2)
. ولا يلزم من إباحة أخذه ما شاء من ماله أن لا تُقبل شهادته له بحال، مع القطع أو ظهور انتفاء التهمة، كما لو شهد له بنكاح أو حدٍّ أو ما لا تلحقه به تهمة.
قالوا: وأما كونه لا يُعطَى من زكاته، ولا يقاد به، ولا يُحدُّ به، ولا يثبت له في ذمته دَين، ولا يُحبَس به= فالاستدلال إنما يكون بما ثبت بنصٍّ أو إجماع، وليس معكم شيء من ذلك؛ فهذه مسائل نزاع، لا مسائل إجماع. ولو سُلِّم ثبوتُ الحكم فيها أو في بعضها لم يلزم منه عدمُ قبول شهادة أحدهما للآخر حيث تنتفي التهمة.
ولا تلازُمَ بين قَبول الشهادة وجَرَيان القصاص وثبوت الدين له في ذمته، لا عقلًا ولا شرعًا؛ فإن تلك الأحكام اقتضتها الأبوة التي تمنع من مساواته للأجنبي
(3)
في حدِّه به، وإقادته منه، وحبسه بدَينه؛ فإن منصب أبوته يأبى ذلك، وقبحُه مركوزٌ في فِطَر الناس. وما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحًا فهو عند الله قبيح. وأما الشهادة فهي خبرٌ يعتمد الصدق والعدالة، فإذا كان المخبِر به صادقًا، مبرِّزًا في العدالة، غيرَ متَّهمٍ في الإخبار به
(4)
= فليس قبولُ قولِه قبيحًا عند المسلمين، ولا تأتي
(1)
انظر: "الروايتين والوجهين"(3/ 95).
(2)
ت، ع:"فائدته ودلالته". وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
يظهر أنه كان في ح: "مساواة الأجنبي"، فأصلحه بعضهم.
(4)
لم يرد "به" في النسخ المطبوعة.
الشريعة بردِّ خبر المخبِر به واتهامه.
قالوا: والشريعة مبناها على تصديق الصادق وقبولِ خبره، وتكذيبِ الكاذب، والتوقُّفِ في خبر الفاسق المتَّهَم. فهي لا ترُدُّ حقًّا، ولا تقبل باطلًا.
قالوا: وأما حديث عائشة، فلو ثبت لم يكن فيه دليل، فإنه إنما يدل على عدم قبول [67/أ] شهادة المتَّهَم في قرابته أو ذي وَلائه
(1)
، ونحن لا نقبل شهادته إذا ظهرت تهمته. ثم منازعونا لا يقولون بالحديث، فإنهم لا يرُدُّون شهادة كلِّ قرابة، والحديث ليس فيه تخصيصٌ لقرابة الإيلاد بالمنع، وإنما فيه تعليق المنع بتهمة القرابة. فألغيتم وصفَ التهمة، وخصصتم وصفَ القرابة بفردٍ منها؛ فكنا نحن أسعدَ بالحديث منكم، وبالله التوفيق.
وقد قال محمد بن الحكم
(2)
: إن أصحاب مالك يُجيزون شهادة الأب والابن
(3)
والزوج والزوجة على أنه وكَّل فلانًا، ولا يُجيزون شهادتهم أن فلانًا وكَّلَه؛ لأن الذي يوكَّل لا يُتَّهمان عليه في شيء
(4)
.
وأما شهادة الأخ لأخيه فالجمهور يجوِّزونها
(5)
. وهو الذي في
(1)
في النسخ المطبوعة: "ولاية"، وهو خطأ.
(2)
أضاف بعض قرّاءِ ت قبل "الحكم" في الحاشية: "عبد" مع علامة صح. يعني: "عبد الحكم"، وهو خطأ.
(3)
بعده في النسخ المطبوعة: "والأخ". ولم ترد هذه الزيادة في النسخ الخطية ولا في مصدر النقل.
(4)
انظر: "عقد الجواهر الثمينة"(3/ 142 - 143)، وفيه: "لا يتهمون
…
".
(5)
ع: "يجيزونها". وكذا في النسخ المطبوعة.
"التهذيب"
(1)
من رواية ابن القاسم عن مالك، إلا أن يكون في عياله. وقال بعض المالكية: لا تجوز إلا على شرط: ثم اختلف هؤلاء، فقال بعضهم: هو أن يكون مبرِّزًا في العدالة. وقال بعضهم: إذا لم تنله صلته. وقال أشهب: تجوز في اليسير دون الكثير
(2)
، فإن كان مبرِّزًا جاز في الكثير. وقال بعضهم: تقبل مطلقًا إلا فيما تتضح
(3)
فيه التهمة، مثل أن يشهد له بما يكتسب
(4)
به الشاهد شرفًا وجاهًا
(5)
.
والصحيح أنه تقبل شهادة الابن لأبيه والأب لابنه فيما لا تهمة فيه. ونصَّ عليه أحمد، فعنه في المسألة ثلاث روايات: المنع، والقبول فيما لا تهمة فيه، والتفريق بين شهادة الابن لأبيه فتُقبل، وشهادة الأب لابنه فلا تقبل
(6)
. واختار ابن المنذر القَبول كالأجنبي
(7)
.
وأما شهادة أحدهما على الآخر [67/ب] فنصَّ الإمام أحمد على قبولها. وقد دل عليه القرآن في قوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]. وقد حكى بعض
(8)
(1)
انظر: "تهذيب المدونة"(3/ 585)، و"المدونة"(4/ 8، 21).
(2)
ت: "ولا تجوز في الكثير".
(3)
ع: "تصح"، وكذا في الطبعات القديمة.
(4)
في النسخ المطبوعة: "يكسب". وفي مصدر النقل كما أثبت من النسخ المعتمدة.
(5)
"عقد الجواهر الثمينة"(3/ 142).
(6)
انظر: "الروايتين والوجهين"(3/ 95) و"المغني"(14/ 181).
(7)
كذا في "المغني". وانظر: "الإقناع" لابن المنذر (2/ 527).
(8)
وهو القاضي، حكاها في "المجرَّد"، كما في "المغني". وقد نقل الأولى في "الروايتين والوجهين"(3/ 97) عن بكر بن محمد، والأخرى عن مهنّا.
أصحاب أحمد عنه روايةً ثانيةً أنها لا تقبل. قال صاحب "المغني"
(1)
: ولم أجد في "الجامع" ــ يعني للخلّال
(2)
ــ خلافًا عن أحمد أنها تقبل.
وقال بعض الشافعية: لا تقبل شهادة الابن على أبيه في قصاص ولا حدِّ قذف. قال: لأنه لا يُقتَل بقتله، ولا يُحَدُّ بقذفه. وهذا قياس ضعيف جدًّا، فإنّ القتل والحدّ
(3)
في صورة المنع لكون المستحِقّ هو الولد
(4)
، وهنا المستحِقُّ أجنبي.
ومما يدل على أنَّ احتمال التهمة بين الولد ووالده لا يمنع قبول الشهادة: أنَّ شهادة الوارث لمورثه جائزة بالمال وغيره، ومعلوم أن تطرُّقَ التهمة إليه مثلُ تطرُّقها إلى الولد والوالد
(5)
. وكذلك شهادة الابنين على أبيهما بطلاق ضَرَّة أمِّهما جائزة، مع أنها شهادة للأم، ويتوفر حظُّها من الميراث، ويخلو لها وجه الزوج؛ ولم تُرَدَّ هذه الشهادة باحتمال
(6)
التهمة. فشهادةُ الولد لوالده وعكسه حيث
(7)
لا تهمة هناك أولى بالقبول. وهذا هو القول الذي ندين الله به، وبالله التوفيق.
(1)
(14/ 182).
(2)
في ع: "الخلال"، ومن هنا زيدت قبله ــ فيما يظهر ــ كلمة "جامع" في النسخ المطبوعة.
(3)
في النسخ المطبوعة: "الحد والقتل".
(4)
في النسخ المطبوعة: "الابن".
(5)
في النسخ المطبوعة: "الولد والوالد".
(6)
ع: "احتمال"، فيقرأ: "ولم يَرُدَّ
…
".
(7)
ع: "فحيث". ت، ف:"بحيث" وكذا في النسخ المطبوعة.
فصل
وقوله: "إلا مجرَّبًا عليه شهادةُ زُور" يدل على أن المرَّة الواحدة من شهادة الزور تستقِلُّ بردِّ الشهادة.
وقد قَرَن الله سبحانه في كتابه بين الإشراك وقول الزور، فقال تعالى:{وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 30 - 31].
وفي "الصحيحين"
(1)
[68/أ] أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبِّئكم بأكبر الكبائر؟ ". قلنا: بلى يا رسول الله. قال: "الشركُ بالله، ثم عقوقُ الوالدين". وكان متكئًا، فجلس، ثم قال:"ألا وقولُ الزور، ألا وقولُ الزور". فما زال يكرِّرها حتى قلنا: ليته سكت! وفي "الصحيحين"
(2)
عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أكبر الكبائر: الإشراكُ بالله، وقتلُ النفس، وعقوقُ الوالدين، وقولُ الزور" أو قال: "وشهادة الزور".
ولا خلاف بين المسلمين أن شهادة الزور من الكبائر. واختلف الفقهاء في الكذب في غير الشهادة: هل هو من الصغائر أو من الكبائر؟ على قولين هما روايتان عن الإمام أحمد، حكاهما أبو الحسين في "تمامه"
(3)
. واحتجَّ من جعله من الكبائر بأن الله سبحانه جعله في كتابه من صفات شرِّ البريَّة، وهم الكفار والمنافقون، فلم يصف به إلا كافرًا أو منافقًا، وجعله علَمَ أهل النار وشعارَهم، وجعل الصدقَ علَمَ أهل الجنة وشعارَهم.
(1)
البخاري (2654) ومسلم (87) من حديث أبي بكرة.
(2)
البخاري (6871) ومسلم (88).
(3)
(2/ 258).
وفي الصحيح من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق، فإنه يهدي إلى البر، وإن البرَّ يهدي إلى الجنة، وإنَّ الرجلَ لَيصدُق حتى يُكتَب عند الله صِدِّيقًا. وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجور يهدي إلى النار، وإنّ الرجل لَيكذِبُ حتى يُكتَب عند الله كذَّابًا"
(1)
.
وفي "الصحيحين"
(2)
مرفوعًا: "آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذَب، وإذا وعَد أخلَفَ، وإذا اؤتُمِن خان".
وقال مَعْمر، عن أيوب، عن ابن أبي مُلَيكة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان خُلُقٌ أبغضَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب. ولقد كان الرجلُ يكذب عنده الكَذْبةَ، فما تزال في نفسه حتّى يعلمَ أنه قد أحدَثَ منها توبةً
(3)
.
وقال مروان الطاطَرِي: ثنا محمد بن مسلم، ثنا أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: ما كان شيءٌ [68/ب] أبغضَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من
(1)
أخرجه البخاري (6094) ومسلم (2607).
(2)
البخاري (33) ومسلم (59) من حديث أبي هريرة.
(3)
رواه عبد الرزاق (20195)، وعنه الإمام أحمد (25183)، ولم يجزم عبد الرزاق (في هذه الرواية عنه) بكونه عن ابن أبي مليكة، أو عن غيره، بل تردّد. وفي الحديث خلافٌ عريضٌ على أيوب السختياني، ليس هذا مقام تقصِّيه، والأشبه بالصواب أن الحديث مُعَلٌّ، فليُنظر:"العلل" لابن أبي حاتم (2198، 2336)، و"العلل" للدارقطني (14/ 358). أما ابن حبان، فصحّحه في "المسند الصحيح"(2862).
تنبيه: وقع الحديث في بعض مطبوعات "الجامع" للترمذي (1973)، وخلتْ منه أكثر النسخ الخطية، على أن الحافظ عبد الحق الإشبيلي نقل في "الأحكام الشرعية الكبرى"(3/ 192 - 193) عن الترمذي سندَه ومتنَه، فالله أعلم من أيِّ نسخةٍ نقلَ.
الكذب. وما جرَّب على أحد كذبًا، فرجع إليه ما كان، حتَّى يعرفَ منه توبة
(1)
. حديث حسن. رواه الحاكم في "المستدرك" من طريق ابن وهب، عن محمد بن مسلم، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عائشة
(2)
.
وروى عبد الرزاق
(3)
عن مَعْمر، عن موسى بن أبي شيبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
رواه البيهقي في "السنن الكبير"(10/ 196)، وقد أعلّ أبو حاتم هذه الرواية واستنكرها، كما في "العلل" لابنه عبد الرحمن (2198).
(2)
رواه ابن وهب في "الجامع"" (533) ــ ومن طريقه ابن أبي حاتم في "العلل" (2336)، والحسن بن رشيق العسكري في "جزئه" (63)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 98) وصحّحه!، وابن عبد البر في "التمهيد" (16/ 256)، وفي "الاستذكار" (8/ 576) ــ، وقد أعلّ أبو حاتم هذه الرواية، كما في "العلل" لابنه عبد الرحمن (2336).
(3)
في "المصنف"(20197)، وعنه إسحاق بن راهويه في "المسند"(1246). ومن طريقه أيضًا رواه العقيلي في "الضعفاء"(5/ 446)، والبيهقي في "السنن الكبير"(10/ 196)، وفي "معرفة السنن والآثار"(7/ 428). ورواه مسدد في "المسند"[كما في "المطالب العالية" لابن حجر (10/ 247)، و"إتحاف الخيرة المهرة" للبوصيري (5/ 428)]، وابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق"(148)، وابن عدي في "الكامل"(1/ 255) ــ ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبير"(10/ 196) ــ من طريقين عن ابن المبارك، عن معمر، عن موسى بن شيبة مرفوعا. ورواه ابن أبي الدنيا في "الصمت"(487) من طريق عبد الرحمن بن مسعود الموصلي، عن معمر به.
وصحّح البيهقي في "السنن الكبير"(10/ 196) أنه موسى بن شيبة، لا ابن أبي شيبة. وموسى هذا يمانيٌّ جَنَديٌّ مجهولٌ مُقِلٌّ جدّا، ومع ذلك فليس يصحّ له حديثٌ البتّة؛ فجديرٌ أن يُترَك حديثُه، وحديثُه هذا معضلٌ، ولا ريب أنّه من منكراته.
وقد قال الإمام أحمد: روى عنه معمر أحاديث مناكير. نقله عنه ابنُه عبد الله في "العلل ومعرفة الرجال"(4488) ــ وعنه العقيلي في "الضعفاء"(5/ 446)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"(8/ 146) ــ، لكن وقع في ترجمته من كتاب ابن أبي حاتمٍ خلطٌ بين موسى هذا، وموسى بن شيبة الأنصاري المديني، ونقل كلام الإمام أحمد هذا في الأنصاري، وتبعه على هذا غيرُ واحد، منهم المزي في تهذيب الكمال (29/ 80).
وقد تصحف (معمر) في مطبوعة "العلل" لعبد الله (3/ 116 - 117) إلى (معتمر). وكذا وقع في مطبوعة "التاريخ الكبير" للبخاري (7/ 286)، مع أن معتمر بن سليمان إنما روى الحديثَ عن ابن المبارك، عن معمر، عنه!
أبطل شهادةَ رجلٍ في كَذْبةٍ كذبها. وهو مرسل. وقد احتجَّ به أحمد في إحدى الروايتين عنه
(1)
.
وقال قيس بن أبي حازم: سمعتُ أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقول: إياكم والكذبَ، فإنَّ الكذب مُجانِب الإيمان
(2)
. يروى موقوفًا ومرفوعًا
(3)
.
(1)
انظر: "الروايتين والوجهين"(3/ 83)، و"التمام"(2/ 258، 280).
(2)
رواه سفيان بن عيينة في "الجامع"، وابن المبارك في "الزهد"(736)، وابن وهب في "الجامع"(544)، ووكيع في "الزهد"(399) ــ وعنه هناد بن السري في "الزهد"(1368) ــ، وابن أبي شيبة في "المصنف"(26115)، وأحمد في "المسند" عَقِب الحديث (16)، وفي كتاب "الإيمان" ــ ومن طريقه الخلال في "السنة"(1470) ــ، وابن أبي عمر العدني في "الإيمان"(54 - 57)، من طرق عن قيس بن أبي حازم، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه موقوفا، وهو الصحيح المحفوظ الذي رجّحه جماعة من الحفاظ، منهم الدارقطني في "العلل"(1/ 158)، والبيهقي في "السنن الكبير"(10/ 196)، وفي "الجامع لشعب الإيمان"(6/ 452)، وابن حجر في "الغرائب الملتقطة"(1045).
(3)
رواه ابن عدي في "الكامل"(1/ 103) ــ ومن طريقه البيهقي في "الجامع لشعب الإيمان"(4466) ــ، وأبو بكر ابن لال الهمذاني في "مكارم الأخلاق" ــ ومن طريقه الديلمي في "مسند الفردوس"[كما في الغرائب الملتقطة لابن حجر (1045)]ــ، والبيهقي في "الجامع لشعب الإيمان"(4467)، وضعّفه هو وغيرُه ممّن تقدّمت الإشارة إليهم في التعليقة السابقة.
وروى شعبة، عن سلَمة بن كُهَيل، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال:"المسلم يُطبَع على كلِّ طبيعةٍ غيرَ الخيانة والكذب"
(1)
. ويروى مرفوعًا أيضًا
(2)
.
(1)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(828)، والإمام أحمد في "الإيمان" ــ ومن طريقه الخلال في "السنة"(1524)، وابن بطة في "الإبانة"(909) ــ، وابن أبي الدنيا في "الصمت"(490)، والبيهقي في "السنن الكبير"" (10/ 197). وتابع شعبةَ: سفيان الثوري، رواه الإمام أحمد في كتاب "الإيمان" ــ ومن طريقه الخلال في "السنة"(1525، 1528)، وابن بطة في "الإبانة"(906) ــ، وابن أبي شيبة في كتاب "الإيمان"(81)، وفي "المصنف"(26117، 30975)، وابن أبي الدنيا في "الصمت"(490)، والدارقطني في "العلل"(4/ 330)، وابن بطة في "الإبانة"(907).
(2)
رواه أحمد الدورقي في "مسند سعد"(65)، وابن أبي الدنيا في "الصمت"" (472)، وفي "مكارم الأخلاق" (144)، والبزار في "المسند" (1139)، وأبو يعلى في "مسندَيْه" "الكبير" و"الصغير" (711)، وفي "المعجم" (167)، وابن عدي في "الكامل" (1/ 103) من حديث علي بن هاشم بن البريد، عن الأعمش، عن أبي إسحاق (سقط من سند الدورقي)، عن مصعب بن سعد، عن أبيه مرفوعا.
قال البيهقي في "الجامع لشعب الإيمان"(6/ 454): "ورفعُه ضعيفٌ. وصحّح وقفه أيضًا في "السنن الكبير" (10/ 197)، وسبقه جماعة، منهم الدارقطني في "العلل" (4/ 330)، وفي "الغرائب والأفراد" (514 - أطرافه لابن طاهر). وأشار إلى إعلاله بالوقف أيضًا أبو زرعة [كما في "العلل" لابن أبي حاتم (2506)]، وكذا البزار بعد تخريجه إياه. وجاء الحديث من طرق أخرى لا يصح منها شيءٌ البتّة.
وفي "المسند"
(1)
والترمذي
(2)
من حديث خُرَيم بن فاتك الأسدي: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى صلاة الصبح، فلما انصرف قام قائمًا، فقال
(3)
: "عدَلَتْ شهادةُ الزور الشرك بالله"
(4)
ثلاثَ مرار
(5)
، ثم تلا هذه الآية:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 30 - 31].
(1)
برقم (18898). ورواه أبو داود (3599)، وابن ماجه (2372)، وفي سنده زياد العصفري، وشيخُه حبيب بن النعمان، مجهولان. وقد ضعّفه ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام"(4/ 548، 5/ 787)، وقال:"وحبيب لا يُعرَف بغير هذا، ولا تُعرَف حالُه، وزياد العصفري مجهول".
(2)
وقع هذا الحديث في بعض النسخ المطبوعة من "الجامع" للترمذي (2300)، لكن خلتْ منه النسخ الخطية الصحيحة، ولم يَعْزُهُ إليه المزي في "تهذيب الكمال"(3/ 447)، ولا في "تحفة الأشراف"(3/ 121)، ولا ابن كثير في "جامع المسانيد والسنن"" (2/ 636 - 637). وعفا الله عن الشيخ عبد الصمد الذي أقحم الحديثَ إقحامًا في "تحفة الأشراف"! أما المنذري، فعزاه إلى الترمذي في كتابه "الترغيب والترهيب" (3/ 155 - 156) الذي أملاه مِن حفظه.
ويُنظر: "الجامع" للترمذي (2299)، مع التأمل في "التاريخ" لعباس الدوري (3049)، و"الضعفاء" للعقيلي (5/ 63)، و"البدر المنير" لابن النحوي (9/ 576 - 578)، و"التلخيص الحبير" لابن حجر (4/ 349).
(3)
ع: "قال".
(4)
يعني أنها موازِنة للشرك.
(5)
ت: "مرات".
وفي "المسند"
(1)
من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال [69/أ]: "بين يدي الساعة: تسليمُ الخاصَّة، وفُشُوُّ التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وقطعُ الأرحام، وشهادةُ الزور، وكتمانُ شهادة الحق".
وقال الحسن بن زياد اللؤلؤي: ثنا أبو حنيفة قال: كنَّا عند محارب بن دِثار، فتقدَّم إليه رجلان، فادَّعى أحدهما على الآخر مالًا، فجحده المدَّعَى عليه. فسأله البينة، فجاء رجل، فشهد عليه. فقال المشهود عليه: لا والله الذي لا إله إلا هو، ما شهِد عليَّ بحقٍّ، وما علمتُه إلا رجلًا صالحًا، غيرَ هذه الزلَّة، فإنه فعَل هذا لحقدٍ كان في قلبه عليَّ. وكان محاربٌ متكئًا، فاستوى جالسًا، ثم قال: يا ذا الرجلُ، سمعتُ ابنَ عمر يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَيأتينَّ على الناس يومٌ تشيب فيه الولدان، وتضع الحواملُ ما في بطونها، وتضرب الطيرُ بأذنابها، وتضع ما في بطونها، من شدَّة ذلك اليوم، ولا ذنب عليها. وإنَّ شاهِدَ الزور لا تَقَارُّ قدماه
(2)
على الأرض حتى يُقذَف
(1)
برقم (3870، 3982). ورواه البخاري في "الأدب المفرد"(1049) ــ ومن طريقه الخطيب في "الجامع"(254) ــ، والطحاوي في "بيان المشكل"(1590)، والحاكم في "المستدرك"(4/ 98) ــ وصحّحه ــ، من حديث بشير بن سلمان، عن سيّار، عن طارق بن شهاب، عن ابن مسعود مرفوعا، ورجّح الإمام أحمد وابن معين وأبو داود والدارقطني وغيرُهم أن سيّارًا هو أبو حمزة، فليُنظر:"المسند" لأحمد (4220، 3696)، و"العلل ومعرفة الرجال" ــ رواية ابنه عبد الله عنه (588، 1373)، و"سؤالات ابن الجنيد لابن معين"(776)، و"السنن" لأبي داود (1645)، و"العلل" للدارقطني (5/ 115)، و"بيان الوهم والإيهام" لابن القطان (4/ 549 - 550، 5/ 787). وسيّار أبو حمزة مستور الحال، لم يوثقه من يُعتدّ بتوثيقه.
(2)
أي لا تستقرَّان.
به في النار"
(1)
. فإن كنتَ شهدتَ بحقِّ فاتَّقِ الله، وأقِمْ على شهادتك. وإن كنتَ شهدتَ بباطل فاتقِ الله، وغطِّ رأسَك واخرُجْ من ذلك الباب
(2)
، فغطَّى
(1)
العبارة "وإن شاهد الزور
…
النار" لم ترد في هذه الرواية في مطبوعة "تاريخ دمشق" (57/ 64) وهو مصدر النقل فيما يبدو.
(2)
رواه المعافى بن زكريا الجَرِيري في "الجليس الصالح الكافي"(3/ 164)، والخطيب البغدادي ــ ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق"(57/ 64) ــ، والحسين بن محمد بن خسرو البلخي في "مسند أبي حنيفة"(956) من طريق ابن أبي العنبس، عن الحسن بن زياد به. وهذه الرواية ــ على وهنها ووهائها ــ فيها عبارات مُدرجة، وقد روى أصلَها وكيع القاضي في "أخبار القضاة"(3/ 34) عن أبي خازم القاضي، عن شعيب بن أيوب الصريفيني، عن الحسن بن زياد به. وقد تصحّفت كنية أبي خازم، وتحرّف ابن زياد (وهو الحسن) إلى ابن دثار.
ورواه الحسين بن علي الصيمري في "أخبار أبي حنيفة وأصحابه"(ص 77) عن محمد بن عمران المرزباني، عن مكرم بن أحمد القاضي، عن أبي خازم القاضي به.
ورواه أيضًا محمد بن عبد الباقي قاضي المارستان في "مسند أبي حنيفة"[كما في "جامع المسانيد" للخوارزمي (2/ 279)] من طريق أبي خازم القاضي به، لكن تحرّفت فيه كنيتُه ومُزِّق اسمُه وجُعِل راويًا عن نفسه. ورواه الخطيب في "تاريخ مدينة السلام"(12/ 338) من حديث أبي خازم به، لكنه اقتصر على الحديث المرفوع، دون القصة. وهذا سندٌ غريبٌ جدّا من هذا الوجه. وقد رواه الخطيب في "تاريخ مدينة السلام"(3/ 705) من طريق أبي خازم القاضي ــ نفسِه ــ عن شعيب الصريفيني، عن شعيب بن حرب، عن محمد بن الفرات، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر (بالحديث المرفوع وحسبُ). وهذا هو الوجه المشهور. وقد رواه ابن ماجه (2373) عن سويد بن سعيد، عن محمد بن الفرات به.
قال أبو حاتم: "هذا حديثٌ منكرٌ". نقله ابنه عبد الرحمن في "العلل"(1426). والحديث منكر جدًّا، ومحمد بن الفرات تالفٌ هالكٌ، والحسن بن زياد واهٍ متروك.
وعفا الله عن الحاكم الذي صحّح إسناد محمد بن الفرات في "المستدرك على الصحيحين"(4/ 98)! مع أنه ذكره في "المدخل إلى معرفة الصحيح"(1/ 219) مع جمهرة من المجروحين والتالفين الذين ظهر له جرحُهم اجتهادًا ومعرفةً بجرحهم، لا تقليدًا لأحد من الأئمة، واستظهر أن رواية أحاديث هؤلاء لا تحلّ إلا بعد بيان حالهم، كما ذكر ذلك قبل سردِه أسامِيَهم (1/ 143).
الرجلُ رأسه، وخرج من ذلك الباب!
وقال عبد الملك بن عُمير: كنتُ في مجلس محارب بن دثار، وهو في قضائه، حتَّى تقدَّم إليه رجلان، فادَّعى أحدهما على الآخر حقًّا، فأنكره، فقال: ألك بينة؟ فقال: نعم، ادعُ فلانًا. فقال المدَّعَى عليه: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون! والله إن شهد عليَّ لَيشهدنَّ
(1)
بزور، ولئن سألني
(2)
عنه لأزكينَّه؛ [69/ب] فلما جاء الشاهد قال محارب بن دِثار: حدثني عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الطيرَ لَتضرِبُ بمناقيرها، وتقذف ما في حواصلها، وتحرِّك أذنابها، من هول يوم القيامة. وإنَّ شاهدَ الزور لا تَقارُّ قدماه على الأرض حتى يُقذَف به في النار". ثم قال للرجل: بم تشهد؟ قال: كنت أُشهِدْتُ على شهادةٍ، وقد نسيتُها، أرجع، فأتذكرها. فانصرَف، ولم يشهد عليه بشيء
(3)
.
(1)
في النسخ: "ليشهد"، وزاد بعضهم في ت نونًا أي "لَيشهدنَّ"، وهو الصواب.
(2)
كذا في النسخ و"الجليس الصالح" و"معجم المقرئ". وفي النسخ المطبوعة ومصادر أخرى: "سألتني".
(3)
رواه وكيع القاضي في "أخبار القضاة"(3/ 34)، وابن المقرئ في "المعجم"(1304)، وابن شاهين في "الأفراد" ــ ومن طريقه ابن الشجري في "الأمالي"(2/ 329 - 330)، وابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق"(57/ 64 - 65) ــ، والمعافى بن زكريا الجَرِيري في "الجليس الصالح الكافي"(3/ 163 - 164) من حديث هارون بن الجهم، عن عبد الملك بن عمير به.
وقد روى المرفوع منه أبو جعفر العقيلي في كتاب "الضعفاء"(6/ 294)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (7616). وقال العقيلي:"ليس له من حديث عبد الملك بن عمير أصلٌ، وإنما هذا حديثُ محمد بن الفرات الكوفي، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر". وكان العقيلي استفتح ترجمة هارون بقوله: "يُخالف في حديثه، وليس بمشهورٍ بالنقل". وقال ابن شاهين ــ بعد أن رواه ــ: "تفرّد بهذا الحديث هارون عن عبد الملك، وهو حديثٌ غريبٌ". وجزم الذهبي أيضًا في ترجمة هارون هذا من "ميزان الاعتدال"(4/ 282) أن الحديث منكر. ووافقه ابن حجر في "لسان الميزان"(8/ 303). ويُنظر: "أطراف الغرائب والأفراد" لابن طاهر (3202).
ورواه أبو يعلى الموصلي
(1)
في "مسنده"، فقال: ثنا محمد بن بكار، ثنا زافر، عن أبي علي قال: كنتُ عند محارب بن دِثار، فاختصم إليه رجلان، فشهد على أحدهما شاهد، فقال الرجل: لقد شهِد عليَّ بزور، ولئن سألتَ عنه لَيُزَكَّيَنَّ
(2)
، وكان محارب متَّكئًا، فجلس، ثم قال: سمعتُ عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزولُ قدما شاهدِ الزور من مكانهما حتى يُوجِبَ الله له النار".
وللحديث طرقٌ إلى محارب
(3)
.
(1)
رواه من طريقه ابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق"(57/ 65). وزافر (وهو ابن سليمان الإيادي)، صدوق كثير الوهم والغلط، لكنّ آفة الحديث من شيخِه أبي علي هذا، والأشبه أنه أبو علي محمد بن الفرات التالف الواهي، وبه يُعرَف هذا الحديث، لكنْ سرقه منه بعض التلفى والهلكى. وكأنّي بزافر رام الستر على ابن الفرات فكنّاه، تعميةً لحاله، وتوعيرًا لطريق التهدِّي إليه = فضرّ، سواءً بقصدٍ أو من غيرِ قصدِ!
(2)
في النسخ: "سئلت
…
"، والصواب ما أثبت، وكذا في "تاريخ دمشق" (57/ 65). وانظر: "المقصد العلي" (5/ 427). وفي المطبوع: "ولئن سئلت عنه لأزكِّيَنَّه".
(3)
رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(7/ 264) ــ ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(1270) ــ من حديث موسى بن زكريا التستري، عن محمد بن خليد، عن خلف بن خليفة، عن مسعر، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر مرفوعا. قال الدارقطني في كتاب "الغرائب والأفراد" (3203 - أطرافه):"تفرّد به محمد بن خليد عن خلف بن خليفة، عن مسعر، عنه". وسندُه واهٍ جدًّا، موسى بن زكريا هذا قد روى الحاكم عن الدارقطني في "سؤالاته" إياه (227) أنه متروك، ومحمد بن خليد (وهو الحنفي) يروي أباطيل عن الثقات، وخلف بن خليفة وإن كان فيه لينٌ، إلا أنه بريءٌ من عهدة الحديث، والجناية مُطوّقة برقبة مَن دُونه. والحاصل أنه لم يَرْوِ الحديثَ عن محارب إلا ابن الفرات، وهو متروك، وسائر الطرق مركّبة، إمّا عن تعمّد، أو بتوهّم. والله أعلم.
فصل
وأقوى الأسباب في ردِّ الشهادة والفتيا والرواية: الكذب، لأنه فساد في نفس آلة الشهادة والفتيا والرواية. فهو بمثابة شهادة الأعمى على رؤية الهلال، وشهادة الأصمِّ الذي لا يسمع على إقرار المُقِرِّ. فإن اللسان الكذوب بمنزلة العضو الذي قد تعطَّل نفعُه، بل هو شرٌّ منه، فشرُّ ما في المرء لسان كذوب. ولهذا يجعل الله سبحانه شعارَ الكاذب عليه يوم القيامة، وشعارَ الكاذب على رسوله= سوادَ وجوههم.
والكذب له تأثير عجيب
(1)
في سواد الوجه، ويكسوه بُرْقُعًا من المقت يراه كلُّ [70/أ] صادق؛ فسيما الكذَّاب
(2)
في وجهه
(3)
ينادي عليه لمن له عينان. والصادق يرزقه الله مهابةً وحلاوةً
(4)
، فمن رآه هابه وأحبَّه. والكاذب
(1)
في النسخ المطبوعة: "عظيم".
(2)
في النسخ المطبوعة: "الكاذب".
(3)
"والكذب له تأثير
…
وجهه" ساقط من ع.
(4)
في النسخ المطبوعة: "وجلالة". وقوله: "هابه وأحبَّه" مرتَّب على المهابة والحلاوة.
يرزقه الله مهانةً
(1)
ومقتًا، فمن رآه مقَته واحتقره. وبالله التوفيق.
فصل
وقول أمير المؤمنين في كتابه: "أو مجلودًا في حدٍّ" المراد به القاذف إذا حُدَّ للقذف لم تُقبَل شهادته بعد ذلك، وهذا متفق عليه بين الأمة قبل التوبة، والقرآن نصٌّ فيه
(2)
.
وأما إذا تاب، ففي قبول شهادته قولان مشهوران للعلماء: أحدهما: لا تقبل، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وأهل العراق
(3)
.
والثاني: تقبل، وهو قول الشافعي وأحمد ومالك
(4)
.
وقال ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: شهادة القاذف
(5)
لا تجوز وإن تاب
(6)
.
(1)
لم يرد لفظ الجلالة في ت، ع. وفي النسخ المطبوعة:"يرزقه إهانة".
(2)
يعني قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4].
(3)
انظر: "الإشراف" لابن المنذر (4/ 286) و"المبسوط" للسرخسي (16/ 125) و"الهداية" للمرغيناني (2/ 359).
(4)
انظر: "الإشراف" لابن المنذر (4/ 286) و"الأم"(6/ 225) و"مسائل صالح"(1/ 438) و"الموطأ"(2669) و"المدونة"(4/ 23).
(5)
في النسخ المطبوعة: "الفاسق". وكذا في ع، والصواب ما أثبت من غيرها و"المحلَّى" وهو مصدر النقل.
(6)
بهذا اللفظ علَّقه ابن حزم في "المحلَّى"(9/ 431). ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام في "الناسخ والمنسوخ"(269)، وأبو بكر الجصاص في"أحكام القرآن"(5/ 118)، وسنده ضعيف منقطع، والخراساني لم يسمع من ابن عباس. ورواه أيضًا أبو داود في"الناسخ والمنسوخ"، وابن المنذر في "التفسير"، كما في "الدر المنثور" للسيوطي (10/ 630). ووازِن بـ "المكتفي" لأبي عمرو الداني (106).
وقال القاضي إسماعيل: ثنا أبو الوليد، ثنا قيس، عن سالم، عن قيس بن عاصم
(1)
قال: كان أبو بكرة إذا أتاه رجلٌ يُشهِده قال: أشهِدْ غيري، فإنَّ المسلمين قد فسَّقوني
(2)
.
وهذا ثابت عن مجاهد، وعكرمة، والحسن
(3)
، ومسروق، والشعبي ــ
(1)
كذا وقع هنا "قيس بن عاصم" تبعًا لكتاب "المحلَّى"(9/ 431). وفي "السنن الكبير"للبيهقي، و"تاريخ مدينة دمشق"لابن عساكر: سعيد بن عاصم. وفي "الدر المنثور" للسيوطي: عيسى بن عاصم. وأغرب ابن حجر في "التلخيص الحبير"(4/ 380) فعزاه إلى أبي داود الطيالسي من طريق سفيان بن عاصم. كذا وقع الاختلاف في تسميته، والأشبه بالصواب أن ابن عاصم هذا مجهول، على أن السند إليه لا يصح.
(2)
كذا علّقه ابن حزم في "المحلى"(9/ 431) عن إسماعيل به. ورواه البيهقي في "السنن الكبير"(10/ 152) ــ ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق"(62/ 216) ــ من حديث قيس (وهو ابن الربيع)، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن عاصم به. ورواه عبد بن حميد ــ كما في "الدر المنثور" للسيوطي (10/ 633) ــ من طريق عيسى بن عاصم به. وقيس ضعيف، وجزم ابن حزم في المحلى (9/ 433) بعدم صحة الخبر.
(3)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(13572، 15554، 15555)، وفي "التفسير"(2007)، وأبو عبيد القاسم في "الناسخ والمنسوخ"(272، 273)، وابن أبي شيبة في المصنف (21040، 21041)، وابن جرير في "جامع البيان"(17/ 171، 172)، وابن أبي حاتم في التفسير (14169)، والبيهقي في "السنن الكبير"(10/ 156).
في إحدى الروايتين عنهم
(1)
ــ وهو قول شريح
(2)
.
واحتجَّ أرباب هذا القول بأن الله سبحانه أبَّد المنعَ من قبول شهادتهم بقوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4]، وحكم عليهم بالفسق، ثم استثنى التائبين من الفاسقين، وبقي المنعُ من قبول الشهادة على إطلاقه وتأبيده.
قالوا: وقد روى أبو جعفر الرازي، عن آدم بن فائد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا محدود في الإسلام [70/ب] ولا محدودة، ولا ذي غِمْر
(3)
على أخيه"
(4)
.
(1)
كذا قال، ولعله سهو في النقل من "المحلَّى"(9/ 431)، فإن ابن حزم لم يذكر الحسن البصري ممن حكي عنه قولان. والذي ينبغي ذكره معهم هو سعيد بن المسيب. بل صرَّح ابن حزم فيما بعد (9/ 433) بأن "كلَّ من روي عنه أن لا تقبل شهادته وإن تاب، فقد روي عنه قبولها إلا الحسن والنخعي فقط".
(2)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(13572، 15553)، وفي "التفسير"(2007)، وأبو عبيد القاسم في "الناسخ والمنسوخ"(271)، وابن أبي شيبة في المصنف (21037، 21038)، وابن جرير في "جامع البيان"(17/ 168 - 170)، والبيهقي في "السنن الكبير"(10/ 156).
(3)
الغِمر: الحقد.
(4)
رواه ابن الأعرابي في "المعجم"(2189)، والدارقطني في "السنن"(4601)، والبيهقي في "السنن الكبير"(10/ 155)، وضعّفه فيه وفي "معرفة السنن والآثار"(14/ 265). وآدم بن فائد مجهول لا يُحتجّ بمثله، وأبو جعفر الرازي ليس بالقوي. ويُنظر "نصب الراية" للزيلعي (4/ 83)، و"البدر المنير" لابن النحوي (9/ 626 - 627)، و"لسان الميزان" لابن حجر (2/ 16).
وله طرق إلى عمرو
(1)
. ورواه ابن ماجه
(2)
من طريق حجاج بن أرطاة، عن عمرو. ورواه البيهقي
(3)
من طريق المثنى بن الصباح، عن عمرو.
قالوا: وروى يزيد بن أبي زياد الدمشقي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة ترفعه: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا مجلودٍ في حدٍّ، ولا ذي غِمْرٍ لأخيه، ولا مجرَّبٍ عليه شهادةُ زور، ولا ظنينٍ في وَلاء وقرابة
(4)
"
(5)
.
وروي عن سعيد بن المسيِّب عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا
(6)
.
قالوا: ولأنَّ المنعَ من قبول شهادته جُعِل من تمام عقوبته، ولهذا لا يترتَّب المنع إلا بعد الحدِّ، فلو قُذِف ولم يُحَدَّ لم تُرَدَّ شهادتُه. ومعلوم أن الحدَّ إنما زاده طُهْرةً، وخفَّف عنه إثمَ القذف أو رَفَعه، فهو بعد الحدِّ خير منه
(1)
يُنظر "المسند" للإمام أحمد (6698، 6899، 6940)، و"السنن" لأبي داود (3600، 3601).
(2)
(2366)، وحجاج بن أرطاة كثير الغلط والتدليس.
(3)
في "السنن الكبير"(10/ 155)، وضعّفه، وكذلك رواه الدارقطني (4604). والمثنى بن الصباح ضعيف الحديث.
(4)
كذا في النسخ. وفي النسخ المطبوعة: "أو قرابة".
(5)
رواه الترمذي (2298)، وهو واهٍ منكرٌ جدّا، باطلٌ بهذا الإسناد.
(6)
لم أره من طريقه مرسلا، لكن رواه الدارقطني في "السنن"(4603) ــ ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبير"(10/ 155) ــ من حديث عبد الأعلى بن محمد، عن يحيى بن سعيد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر مرفوعًا. وقال الدارقطني:"يحيى بن سعيد هو الفارسي متروك، وعبد الأعلى ضعيف". وقال البيهقي: "لايصح في هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم شيءٌ يُعتمد عليه".
قبله، ومع هذا فإنما تُردّ شهادته بعد الحد. فردُّها من تمام عقوبته وحدِّه، وما كان من الحدود ولوازمها فإنه لا يسقط بالتوبة. ولهذا لو تاب القاذف لم تمنع توبتُه إقامةَ الحدِّ عليه، فكذلك شهادته.
قال سعيد بن جبير: تُقبَل توبتُه فيما بينه وبين الله من العذاب العظيم، ولا تُقبَل شهادتُه
(1)
.
وقال شريح: لا تجوز شهادته أبدًا، وتوبته فيما بينه وبين ربِّه
(2)
.
وسرُّ المسألة: أنّ ردَّ شهادته جُعِل عقوبةً لهذا الذنب، فلا يسقط بالتوبة كالحدِّ.
قال الآخرون، واللفظ للشافعي
(3)
: "والثُّنْيا في سياق الكلام على أول الكلام وآخره، في جميع ما يذهب إليه أهلُ الفقه، إلا أن يفرِّق بين ذلك خبر". "وأنبأنا ابن عيينة قال: سمعتُ [71/أ] الزهريَّ يقول: زعم أهل العراق أن شهادة المحدود لا تجوز، وأشهدُ لَأخبَرني فلانٌ أن عمر قال لأبي بكرة: تُبْ أقبَلْ شهادتك. قال سفيان: نسيتُ اسم الذي حدَّث الزهريَّ، فلما قمنا سألتُ مَن حضر، فقال لي عمرو بن قيس
(4)
: هو سعيد بن المسيِّب. فقلت
(1)
رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ"(274)، وسعيد بن منصور، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبير"(10/ 156). وعزاه السيوطي في "الدر المنثور"(10/ 632) أيضًا إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
(2)
سبق تخريجه قريبًا.
(3)
في كتاب "الأم"(7/ 47 - ط دار المعرفة)، وفيه:"الاستثناء" مكان "الثنيا". ولفظ "الثنيا" ورد في "معرفة السنن والآثار"(14/ 264).
(4)
كذا في النسخ الخطية والمطبوعة، وكذا في كتاب "الأم" (4/ 121) وصوابه:"عمر بن قيس" كما في مواضع أخرى من "الأم"(7/ 27، 48، 94) في السياق نفسه.
لسفيان: فهل شككتَ فيما قال لك؟ قال: لا، هو سعيدٌ غيرَ شكٍّ. قال الشافعي: وكثيرًا ما سمعته يحدِّث، فيسمِّى سعيدًا. وكثيرًا ما سمعتُه يقول: عن سعيد إن شاء الله"
(1)
. "وأخبرني به مَن أثق به من أهل المدينة، عن ابن شهاب، عن ابن المسيِّب أن عمر لما جلد الثلاثةَ استتابهم، فرجع اثنان، فقبل شهادتهما. وأبى أبو بكرة أن يرجع، فردَّ شهادته"
(2)
.
ورواه سليمان بن كَثير، عن الزهري، عن ابن المسيب أن عمر قال لأبي بكرة وشِبْل ونافع: من تاب منكم قبلتُ شهادته
(3)
.
وقال عبد الرزاق
(4)
: ثنا محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن مَيْسرة، عن
(1)
كتاب "الأم"(4/ 121).
(2)
رواه الإمام الشافعي في "الأم"(7/ 27 - ط دار المعرفة)، وعمر بن قيس هو سندل الواهي. ويُنظر:"المسند" للشافعي (1703، 1704 - ترتيب سنجر)، و"السنن" للشافعي (426 - رواية المزني عنه) ــ وتعليق الطحاوي عليه فيه وفي "بيان المشكل"(12/ 360) ــ، و"السنن الكبير" للبيهقي (10/ 152).
(3)
رواه الحافظ محمد بن يحيى الذهلي عن أبي الوليد ــ كما في "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (7/ 384) ــ، وإسماعيل بن إسحاق القاضي عن محمد بن كثير ــ كما في "المحلى" لابن حزم (9/ 431) ــ، كلاهما عن سليمان بن كثير به.
(4)
كذا، وإنما رواه عبد الرزاق في "المصنف"(13564) بهذا السياق عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيّب، ثم روى نحوه في "المصنف"(13565، 15550)، وفي "التفسير"(2010) بالسند الذي ساقه المصنّف رحمه الله تعالى. وأُراه تبع البيهقي الذي علّقه في "السنن الكبير"(10/ 152) عن عبد الرزاق بذاك اللفظ، وأُراه دخل له سند في آخر. ويُنظر:"الناسخ والمنسوخ"(276) لأبي عبيد، و"المدوّنة" لسحنون (4/ 23)، و"شرح معاني الآثار"(4/ 153)، و"بيان المشكل"(12/ 362) كلاهما للطحاوي، و"المحلى" لابن حزم (9/ 431، 11/ 259)، و"السنن الكبير" للبيهقي (10/ 152).
ابن المسيبِّ أن عمر قال للذين شهدوا على المغيرة: توبوا تُقْبَلْ شهادتُكم، فتاب منهم اثنان، وأبى أبو بكرة أن يتوب، فكان عمر لا يقبل شهادته.
قالوا: والاستثناء عائد على جميع ما تقدَّمه سوى الحدِّ، فإنَّ المسلمين مُجْمِعون على أنه لا يسقط عن القاذف بالتوبة. وقد قال أئمة اللغة
(1)
: إن الاستثناء يرجع إلى ما تقدَّم كلِّه. قال أبو عبيد في "كتاب القضاء"
(2)
: وجماعة أهل الحجاز ومكة على قبول شهادته. وأما أهل العراق فيأخذون بالقول الأول أن لا تُقبَل أبدًا. وكلا الفريقين إنما تأوَّلوا القرآن فيما نرى. والذين لا يقبلونها يذهبون إلى أن المعنى [71/ب] انقطع من عند قوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} ، ثم استأنف، فقال:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4 - 5]، فجعلوا الاستثناء من الفسق خاصّةً دون الشهادة. وأما الآخرون، فتأوَّلوا أنّ الكلام تبع بعضُه بعضًا على نسق واحد، فقال:
{وَلَا
(1)
ليت المصنف ذكر بعضهم. فقد ذكر أبو حيان أنه لم ير من تكلم منهم على هذه المسألة ــ وهي الاستثناء الوارد بعد جمل متعاطفة ــ غير ابن مالك والمهاباذي. وقد أيَّد السيوطي قول أبي حيان، ثم ذكر في المسألة خمسة مذاهب، أولها مذهب ابن مالك، وهو عود الاستثناء إلى الجمل كلها. واختار أبو حيان أنه خاص بالجملة الأخيرة. انظر:"ارتشاف الضرب"(3/ 1521) و"البحر المحيط"(8/ 15) و"همع الهوامع"(2/ 263).
(2)
"كتاب القضاء" لأبي عبيد مفقود، ولكن انظر هذا المعنى بنحو هذا اللفظ بل بلفظ أقوى منه في "الناسخ والمنسوخ" له (ص 153 - 154).
تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فانتظم الاستثناء كلَّ ما كان قبله.
قال أبو عبيد: وهذا عندي هو القول المعمول به، لأنَّ من قال به أكثرُ
(1)
، وهو أصحُّ في النظر، ولا يكون القول بالشيء أكثر من الفعل، وليس يختلف المسلمون في الزاني المجلود أن شهادته مقبولة إذا تاب.
قالوا: وأما ما ذكرتم عن ابن عباس، فقد قال الشافعي
(2)
: بلغني عن ابن عباس أنه كان يجيز شهادة القاذف إذا تاب.
وقال علي بن أبي طلحة عنه في قوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} ثم قال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} : فمن تاب وأصلح، فشهادتُه في كتاب الله تُقْبَل
(3)
.
وقال شَريك عن أبي حَصِين عن الشعبي: يقبل الله توبته، ولا تقبلون
(4)
شهادته؟
(5)
.
(1)
في "الناسخ والمنسوخ": "
…
أكثر وأعلى، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فمن وراءه".
(2)
في كتاب "الأم"(7/ 48).
(3)
رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ"(275)، وابن جرير في "جامع البيان"(17/ 172)، والبيهقي في "السنن الكبير"(10/ 153).
(4)
في النسخ بإهمال حرف المضارع، وفي النسخ المطبوعة:"يقبلون"، والتصحيح من مصادر التخريج.
(5)
رواه سعيد بن منصور ــ ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبير"(10/ 153) ــ، وفي سنده شريك النخعي وليس بالقوي، لكن يقوّيه طريقٌ آخر صحيح عند عبد الرزاق في "المصنف"(13576، 15552)، وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ"(281)، وابن جرير في "جامع البيان"(17/ 154).
وقال مطرِّف عنه: إذا فرَغ من ضربه، فأكذَبَ نفسَه، ورجع عن قوله= قُبِلت شهادته
(1)
.
قالوا: وأما تلك الآثار التي رويتموها، ففيها ضعف. فإنَّ آدم بن فائد غير معروف، ورواته عن عمر قسمان: ثقات، وضعفاء، فالثقات لم يذكر أحد منهم:"أو مجلودًا في حدٍّ"، وإنما ذكره الضعفاء كالمثنَّى بن الصبَّاح وآدم والحجَّاج. وحديث عائشة فيه يزيد، وهو ضعيف. [72/أ] ولو صحَّت الأحاديث لَحُمِلت على غير التائب، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له
(2)
. وقد قَبِل شهادته بعد التوبة عمر وابن عباس
(3)
، ولا يعلم لهما في الصحابة مخالف.
قالوا: وأعظم موانع الشهادة: الكفر، والسحر، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، والزنا. ولو تاب من هذه الأشياء قُبِلت شهادته اتفاقًا، فالتائب من القذف أولى بالقبول. قالوا: وأين جناية قتله من قذفه؟
قالوا: والحدُّ يدرأ عنه عقوبة الآخرة، وهو طُهْرة له، فإن الحدود طُهْرة لأهلها؛ فكيف تُقبل شهادته إذا لم يتطهَّر بالحدِّ، وتُرَدُّ أطهرَ ما يكون؟ فإنه بالحدِّ والتوبة قد يطهر طهرًا كاملًا.
قالوا: وردُّ الشهادة بالقذف إنما هو مستند إلى العلة التي ذكرها الله عقيب هذا الحكم، وهي الفسق، وقد ارتفع الفسق بالتوبة، وهو سبب الرد؛
(1)
رواه سعيد بن منصور ــ ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبير"(10/ 153) ــ، وله طريق آخرعند ابن جرير في "جامع البيان"(17/ 164).
(2)
كما في الحديث، وسيأتي تخريجه.
(3)
سبق تخريج قولهما قريبًا.
فيجب ارتفاع ما ترتَّب عليه، وهو المنع.
قالوا: والقاذف فاسق بقذفه، حُدَّ أو لم يُحدَّ، فكيف تقبل شهادته في حال فسقه، وتُرَدّ شهادته بعد زوال فسقه؟
قالوا: ولا عهد لنا في الشريعة بذنب واحد أصلًا يتاب منه، ويبقى أثره المترتِّب عليه من ردِّ الشهادة. وهل هذا إلا خلاف المعهود منها، وخلاف قوله صلى الله عليه وسلم:"التائب من الذنب كمن لا ذنب له"
(1)
. وعند هذا، فيقال: توبته من القذف تنزِّله منزلةَ من لم يقذف، فيجب قبول شهادته.
قالوا
(2)
: قال المانعون: القذف متضمِّن للجناية على حقِّ الله وحقِّ الآدمي، وهو من أوفى الجرائم، فناسَبَ تغلُّظَ
(3)
الزجر. وردُّ الشهادة [72/ب] من أقوى أسباب الزجر، لما فيه من إيلام القلب والنكاية في النفس، إذ هو عزلٌ لولاية لسانه الذي استطال به على عِرض أخيه، وإبطالٌ لها
(4)
. ثم هو عقوبة في محلِّ الجناية، فإن الجناية حصلت بلسانه، فكان
(1)
رواه ابن ماجه (4250) من حديث ابن مسعود مرفوعًا، ويُنظر:"العلل" للدارقطني (5/ 297).
(2)
كذا في النسخ. وفي ت: "قالوا: و". وفي النسخ المطبوعة: "أو كما قالوا"، وجعل جزءًا من الفقرة السابقة. فإن لم يكن لفظ "قالوا" من سهو النساخ، وقد ثبت في أصل المؤلف، فلعله من سبق القلم أو كان يريد أن يذكر دليلًا آخر لهم، ثم عدل عن ذلك ونسي أن يضرب على الكلمة. أما ما في النسخ المطبوعة فلعله من إصلاح بعض القراء أو الناشرين.
(3)
في النسخ المطبوعة: "تغليظ".
(4)
ت: "وإبطالها".
أولى بالعقوبة فيه. وقد رأينا الشارع قد اعتبر هذا حيث قَطَع يدَ السارق، فإنه حدٌّ مشروع في محلِّ الجناية.
ولا ينتقض هذا بأنه لم يجعل عقوبة الزاني بقطع العضو الذي جنى به لوجوه:
أحدها: أنه عضو خفي مستور لا تراه العيون، فلا يحصل الاعتبار المقصود من الحدِّ بقطعه.
الثاني: أنَّ ذلك يفضي إلى إبطال آلات التناسل وانقطاع النوع الإنساني.
الثالث: أنَّ لذة البدن جميعه بالزنا كلذة العضو المخصوص، فالذي نال البدن
(1)
من اللذة المحرَّمة مثل ما نال الفرج. ولهذا كان حدُّ الخمر على جميع البدن.
الرابع: أنَّ قطع هذا العضو مُفْضٍ إلى الهلاك، وغيرُ المحصَن لا تستوجب جريمته الهلاك، والمحصَن إنما تناسب جريمته أشنعَ القِتْلات، ولا يناسبها قطعُ بعض أعضائه= فافترقا.
قالوا: وأما قبول شهادته قبل الحدِّ وردَّها بعده، فلما تقدَّم أنّ ردَّ الشهادة جُعِل من تمام الحدِّ وتكملته. فهو كالصفة والتتمة للحدِّ، فلا يتقدَّم عليه. ولأن إقامة الحدّ عليه تنقص حالَه عند الناس، وتقلّ حرمته، وهو قبل إقامة الحد قائم الحرمة غير منتهَكها.
قالوا: وأما التائب من الزنا والكفر والقتل، فإنما قبلنا شهادته لأنَّ ردَّها
(1)
ح، ف:"القذف". وفي ت: "القذف البدن" مع الضرب على "القذف". وفي ع: "اللسان"، وكتب في الهامش:"كذا في المنقول عنه: فالذي نال القذف من اللذة".
[73/أ] كان نتيجة الفسق، وقد زال؛ بخلاف مسألتنا، فإنّا قد بينّا أن ردَّها من تتمة الحدِّ، فافترقا.
قال القابلون
(1)
: تغلُّظ
(2)
الزجر لا ضابط له، وقد حصلت مصلحةُ الزجر بالحد. وكذلك سائر الجرائم جعل الشارعُ مصلحة الزجر عليها بالحدِّ، وإلا فلا تطلَّق نساؤه، ولا يؤخذ مالُه، ولا يُعزَل عن مناصبه، ولا تسقط روايته، لأنه أغلظ
(3)
في الزجر، وقد أجمع المسلمون على قبول رواية أبي بكرة رضي الله عنه. وتغلُّظُ
(4)
الزجر من الأوصاف المنتشرة التي لا تنضبط، وقد حصل إيلامُ القلب والبدن والنكايةُ في النفس بالضرب الذي أخذ من ظهره.
وأيضًا فإنّ ردَّ الشهادة لا ينزجر به أكثر القاذفين، وإنما يتأثَّر بذلك وينزجر أعيانُ الناس، وقلَّ أن يوجد القذف من أحدهم. وإنما يوجد غالبًا من الرَّعاع والسَّقَط ومن لا يبالي بردِّ شهادته وقبولها.
وأيضًا فكم من قاذف انقضى عمره، وما أدَّى شهادة عند حاكم.
(1)
س، ت، ف:"القائلون"، تصحيف. وكذا في المطبوع، وأثبت بعده:"بقبولها"، ونبَّه في الهامش على أنه ساقط من الطبعات السابقة. فهل هذه الزيادة ثابتة في النسخ الخطية المعتمدة فيه؟
(2)
ع: "تغليظ"، وكذا في النسخ المطبوعة. وقد سبق لفظ "التغلظ" من قبل أيضًا، وسيأتي.
(3)
في المطبوع بعده: "عليه"، وقال في الهامش:"إنه ساقط من المطبوع". ولم ترد هذه الزيادة في شيء من النسخ التي بين أيدينا.
(4)
ع: "تغليظ".
ومصلحةُ الزجر إنما تكون بمنع النفوس ما
(1)
هي محتاجة إليه، وهو كثير الوقوع منها، ثم هذه المناسبة التي ذكرتموها يعارضها ما هو أقوى منها. فإنَّ ردَّ الشهادة أبدًا يلزم
(2)
منه مفسدةُ فواتِ الحقوق على الغير، وتعطيلُ الشهادة في محلِّ الحاجة إليها. ولا يلزم مثل ذلك في القبول، فإنه لا مفسدة فيه في حقِّ الغير من عَدْلٍ تائبٍ قد أصلح ما بينه وبين الله. ولا ريب أنَّ اعتبارَ مصلحةٍ لا يلزم
(3)
منها مفسدةٌ أولى من اعتبار مصلحةٍ يلزم منها عدَّةُ مفاسد في [73/ب] حقِّ الشاهد وحقِّ
(4)
المشهود له وعليه. والشارع له تطلُّعٌ إلى حفظِ الحقوق على مستحقِّها
(5)
بكلِّ طريق، وعدمِ إضاعتها؛ فكيف يبطل حقًّا قد
(6)
شهد به عدلٌ رِضًى
(7)
مقبولُ الشهادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى دينه روايةً وفتوَى؟
وأما قولكم: "إن العقوبة تكون في محلِّ الجناية" فهذا غير لازم، لما تقدَّم من عقوبة الشارب والزاني. وقد جعل الله سبحانه عقوبةَ هذه الجريمة
(1)
في المطبوع: "في منع النفوس مما". وقد جاء "مما" في ع، لكن النسخ الأخرى اتفقت على "بمنع النفوس". و"المنع" يتعدَّى بنفسه وبحرف مِن.
(2)
كذا في ح، س. وأهمل حرف المضارع في النسخ الأخرى. وفي النسخ المطبوعة:"تلزم"، وكلاهما جائز.
(3)
ع: "يلزم" دون لا النافية، وكذا في النسخ المطبوعة. والصواب ما أثبت من سائر النسخ.
(4)
لم يرد: "وحقّ" في ح، ف.
(5)
ع: "مستحقيها"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(6)
ح، ف:"وقد".
(7)
كذا ضبط في ع، وهو الراجح. وضبط في المطبوع بفتح الراء وكسر الضاد.
على جميع البدن دون اللسان، وإنما جعل عقوبةَ اللسان بسبب الفسق الذي هو محلُّ التهمة، فإذا زال الفسق بالتوبة فلا وجه للعقوبة بعدها.
وأما قولكم: "إن ردَّ الشهادة من تمام الحدِّ" فليس كذلك، فإن الحدَّ تمَّ باستيفاء عدده، وسببُه نفس القذف. وأما ردُّ الشهادة فحكمٌ آخرُ أوجبه الفسق بالقذف، لا الحدّ. فالقذف أوجب حكمين: ثبوت الفسق، وحصول الحد، وهما حكمان متغايران.
فصل
وقوله
(1)
: "أو ظنينًا في ولاء أو قرابة". الظنين: المتهم، والشهادة تُرَدُّ بالتهمة. ودلَّ هذا على أنها لا تُرَدُّ بالقرابة، كما لا تُرَدُّ بالولاء، وإنما تُرَدُّ بتهمتهما
(2)
. وهذا هو الصواب، كما تقدَّم.
وقال أبو عبيد: ثنا حجَّاج، عن ابن جريج قال: أخبرني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سَبْرة، عن أبي الزناد، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن عمر بن الخطاب أنه قال: تجوز شهادة الوالد لولده، والولد لوالده، والأخ لأخيه، إذا كانوا عدولًا. لم يقل الله [74/أ] حين قال:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]: "إلّا والدًا أو ولدًا أو أخًا"
(3)
، هذا لفظه
(4)
.
وليس في ذلك عن عمر روايتان، بل إنما منَع من شهادة المتهم في
(1)
"وقوله" ساقط من ع.
(2)
ت: "بتهمتها".
(3)
في النسخ المطبوعة: "وولدًا وأخًا". وما أثبت من النسخ موافق لما في "المصنَّف".
(4)
رواه عبد الرزاق في "المصنف"(15471)، وابن أبي سبرة تالف هالك.
قرابته وولائه.
وقال أبو عبيد: حدثني يحيى بن بُكير، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب: أنَّ عمر بن عبد العزيز كتب أنه تجوز شهادة الولد لوالده
(1)
.
وقال إسحاق بن راهويه: لم تزل قضاة الإسلام على هذا.
وإنما قُبِل قولُ الشاهد لظنِّ صدقه، فإذا كان متهمًا عارضت التهمةُ الظنَّ. فبقيت البراءة الأصلية ليس لها معارِض مقاوِم.
فصل
وقوله: "فإنَّ الله تبارك وتعالى تولَّى من العباد السرائرَ، وستر عليهم الحدودَ إلا بالبينات" يريد بذلك أن من ظهرت لنا منه علانيةُ خيرٍ قَبِلنا شهادتَه، ووكلنا سريرته إلى الله سبحانه؛ فإن الله سبحانه لم يجعل أحكام الدنيا على السرائر، بل على الظواهر، والسرائر تبعٌ لها. وأما أحكام الآخرة فعلى السرائر، والظواهر تبع لها.
وقد احتجَّ بعض أهل العراق بقول عمر هذا على قبول شهادة كلِّ مسلم لم تظهر منه ريبةٌ، وإن كان مجهول الحال؛ فإنه قال:"والمسلمون عدول بعضهم على بعض"، ثم قال:"فإن الله تعالى تولَّى من عباده السرائر، وستَر عليهم الحدود". ولا يدل كلامه على هذا المذهب.
(1)
رواه أبو عبيد في كتاب "القضاء"، وسندُه هذا مندرجٌ ضمن نسخة روى منها في كتابه "الأموال" وغيره. ويشهد للخبر ما رواه عبد الرزاق في "المصنف"(15475) عن معمر، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري قال: أجاز عمر بن عبد العزيز شهادة الابن لأبيه إذا كان عدلا. وقد تقدم.
بل قد روى أبو عبيد، ثنا الحجَّاج، عن المسعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن
(1)
قال: قال عمر بن الخطاب: لا يُؤْسَرُ
(2)
أحدٌ في الإسلام بشهداء السوء
(3)
، فإنَّا لا نقبل
(4)
إلا العُدول.
وثنا إسحاق بن علي
(5)
عن مالك بن أنس [74/ب] عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: قال عمر بن الخطاب: والله لا يُؤسَرُ
(6)
رجلٌ في الإسلام بغير العدول
(7)
.
(1)
كذا وقع هنا، ولعل المؤلف صادر عن كتاب "القضاء" لأبي عبيد. وقد روى أبو عبيد هذا اللفظ في "غريب الحديث"(4/ 205) بالسند التالي. وقد رواه ابن أبي شيبة في "المصنف"(23496) ــ ومن طريقه ابن حزم في "المحلى"(9/ 394) ــ عن وكيع، عن المسعودي، عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن أبيه، عن عمر، وكأني بالمسعودي اضطرب في سنده، فبَيْنَا هو سندٌ هُذلي مسعودي كوفي، آل إلى سندٍ تيمي بكري مدني، والخبر ضعيف منقطع على الوجهين كليْهما.
(2)
أي لا يحبس. انظر: "غريب الحديث" لأبي عبيد (4/ 205).
(3)
ح: "بشهد السوء" هكذا مع ضبط همزة "السوء" بالكسر، فلعل الناسخ نسي كتابة بقية الكلمة الأولى وبخاصة لأنها جاءت في آخر السطر.
(4)
ع: "فإنه لا يقبل". وكذا في المطبوع.
(5)
كذا في النسخ الخطية والمطبوعة، و"علي" محرَّفٌ عن "عيسى". وهو على الصواب في "غريب الحديث".
(6)
في جميع النسخ الخطية والمطبوعة: "لا يؤسرَنَّ"، وهو خطأ، فإن جواب القسم إذا كان منفيًّا لا يؤكد بالنون. والمثبت من "الموطأ" و"السنن الكبرى"(10/ 280). وقد ضبط في طبعة الشيخ محمد محيي الدين "يُوسِرَنَّ" بالواو وبكسر السين إذ توهم أنه من أيسَرَ، أي صار ذا يسار وغنًى. وقد تبعه في المطبوع، لكنه وضع علامة الهمزة على الواو:"يُؤسِرَنَّ" فأصبحت الكلمة لا معنى لها.
(7)
أخرجه مالك في "الموطأ"(2666)، وسنده ظاهر الانقطاع.
وثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن الجُرَيري، عن أبي نضرة، عن أبي فراس أنَّ عمر بن الخطاب قال في خطبته: من أظهر لنا خيرًا ظننَّا به خيرًا، وأحببناه عليه. ومن أظهر لنا شرًّا ظننَّا به شرًّا، وأبغضناه عليه
(1)
.
وقوله: "وستر عليهم الحدود" يعني المحارم، وهي حدود الله التي نهى عن قربانها. والحدُّ يراد به الذنب تارة، والعقوبة أخرى
(2)
.
وقوله: "إلا بالبينات والأيمان" يريد بالبينات: الأدلة والشواهد، فإنه صحَّ
(3)
عنه الحدُّ في الزنا بالحَبَل
(4)
، فهو
(5)
بيَّنة صادقة، بل هو أصدق من الشهود. وكذلك رائحة الخمر بيّنة على شُربها عند الصحابة
(6)
وفقهاء أهل المدينة وأكثر فقهاء الحديث
(7)
.
(1)
رواه أحمد (286) عن إسماعيل به. ورواه البيهقي (9/ 42) من طريق مهدي بن ميمون، عن الجريري به. ورواه عبد الرزاق (6036) عن معمر عن سعيد الجريري عن عمر معضلا! وأصل الحديث عند أبي داود (4537)، والنسائي في "المجتبى"(4777)، وفي "السنن الكبرى"(6953) دون محلّ الشاهد، ويشهد لمعناه ما في "الجامع الصحيح" للبخاري (2641) من طريق عبد الله بن عتبة، عن عمر رضي الله عنه.
(2)
كان في ح: "تارة"، فضرب عليه بعضهم وكتب في الهامش "أخرى صح"، ولعل التصحيح من نسخة أخرى.
(3)
ع: "قد صحَّ"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(4)
سبق تخريجه.
(5)
ع: "وهو".
(6)
يُنظر: "المصنف" لابن أبي شيبة (29222 - 29225)، و"السنن" للدارقطني (3390، 3391)، و"السنن الكبير"للبيهقي (8/ 315).
(7)
انظر: "الإشراف" لابن المنذر (7/ 339) و"بداية المجتهد"(4/ 228) و"المغني"(12/ 501).
فصل
وقوله: "والأيمان" يريد بها أيمانَ الزوج في اللِّعان، وأيمانَ أولياء القتيل في القَسامة، وهي قائمة مقام البينة.
فصل
وقوله: "ثم الفهمَ الفهمَ فيما
(1)
أُدليَ إليك مما ورد عليك، مما ليس في قرآن ولا سنة. ثم قايِسِ الأمورَ عند ذلك، واعرف الأمثال، ثم اعمِدْ فيما ترى إلى أحبِّها إلى الله وأشبَهِها بالحقِّ".
هذا أحد ما
(2)
اعتمد عليه القيَّاسُون
(3)
في الشريعة، وقالوا: هذا كتاب عمر إلى أبي موسى، ولم ينكره أحد من الصحابة، بل كانوا متفقين على القول بالقياس، وهو أحد أصول الشريعة، ولا يستغني عنه فقيه.
وقد أرشد الله تعالى عباده إليه [75/أ] في غير موضع من كتابه. فقاس النشأة الثانية على النشأة الأولى في الإمكان، وجعل النشأة الأولى أصلًا والثانية فرعًا عليها. وقاس حياة الأموات بعد الموت على حياة الأرض بعد موتها بالنبات. وقاس الخلق الجديد الذي أنكره أعداؤه على خلق السموات والأرض، وجعله من قياس الأَولى، كما جعل قياس النشأة الثانية على الأُولى من قياس الأَولى. وقاس
(4)
الحياة بعد الموت على اليقظة بعد النوم.
(1)
في المطبوع: "مما"، خطأ.
(2)
في المطبوع: "أحد الآثار ما". وكلمة "الآثار" مقحمة في الجملة كما ترى.
(3)
ف: "القائسون".
(4)
ما عدا ع: "وقياس".
وضرَب الأمثال، وصرَّفها في الأنواع المختلفة. وكلُّها أقيسة عقلية ينبِّه بها عبادَه على أنَّ حُكمَ الشيء حكمُ مثله، فإن الأمثال كلَّها قياسات يُعلم منها حكمُ الممثَّل من الممثَّل به. وقد اشتمل القرآن على بضعة وأربعين مثلًا تتضمَّن تشبيه الشيء بنظيره والتسوية بينهما في الحكم. وقال تعالى:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]. فالقياس وضرب الأمثال من خاصِّيَّة
(1)
العقل، وقد ركز الله في فِطَر الناس وعقولهم التسويةَ بين المتماثلَين وإنكارَ التفريق بينهما، والفرقَ بين المختلفَين وإنكارَ الجمع بينهما.
قالوا: ومدار الاستدلال جميعه على التسوية بين المتماثلَين والفرق بين المختلَفين. فإنه إما استدلالٌ بمعيَّن على معيَّن، أو بمعيَّن على عامٍّ، أو بعامٍّ على معيَّن، أو بعامٍّ على عامٍّ. فهذه الأربعة هي مجامع ضروب الاستدلال.
فالاستدلال بالمعيَّن على المعيَّن هو الاستدلال [75/ب] بالملزوم على لازمه، فكلُّ ملزوم دليل على لازمه. فإن كان التلازم من الجانبين كان كلٌّ منهما دليلًا على الآخر ومدلولًا له.
وهذا النوع ثلاثة أقسام: أحدها: الاستدلال بالمؤثِّر على الأثر. والثاني: الاستدلال بالأثر على المؤثر. والثالث: الاستدلال بأحد الأثرين على الآخر. فالأول كالاستدلال بالنار على الحريق، والثاني كالاستدلال بالحريق على النار، والثالث كالاستدلال بالحريق على الدخان؛ ومدارُ ذلك كلِّه على التلازم. فالتسوية بين المتماثلين هو استدلالٌ
(2)
بثبوت أحد
(1)
في النسخ المطبوعة: "خاصة".
(2)
ع: "الاستدلال" وكذا في المطبوع.
الأثرين على الآخر، وقياس الفرق هو استدلالٌ
(1)
بانتفاء أحد الأثرين على انتفاء الآخر، أو بانتفاء اللازم على انتفاء ملزومه. فلو جاز التفريق بين المتماثلين لانسدَّت طرق الاستدلال، وغُلِّقت أبوابه.
قالوا: وأما الاستدلال بالمعيَّن على العامِّ، فلا يتم إلا بالتسوية بين المتماثلين؛ إذ لو جاز الفرق لما كان هذا المعيَّن دليلًا على الأمر العامِّ المشترك بين الأفراد. ومن هذا أدلَّة القرآن بتعذيب المعيَّنين الذين عذَّبهم على تكذيب رسله وعصيان أمره على أن هذا الحكم عامٌّ شامل لكلِّ من سلك سبيلهم واتصف بصفتهم. وهو سبحانه قد نبَّه عباده على نفس هذا الاستدلال، وتعدية هذا الخصوص إلى العموم، كما قال تعالى عقيبَ إخباره عن عقوبات الأمم المكذِّبة لرسلهم وما حلَّ بهم:{أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 43]. فهذا محض تعدية الحكم إلى من عدا المذكورين بعموم العلة، وإلا
(2)
فلو لم يكن حكمُ الشيء حكمَ مثلِه لما لزمت [76/أ] التعدية، ولا تمَّت الحجة.
ومثل هذا قوله تعالى عقيبَ إخباره عن عقوبة قوم عاد حين رأوا العارض في السماء، فقالوا:{هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} ، فقال تعالى:{بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} ثم قال: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا
(1)
في المطبوع: "الاستدلال".
(2)
"وإلا" ساقط من ع.
أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 24 - 26]. فتأمَّلْ قوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} كيف تجد المعنى أنَّ حكمَكم حكمُهم، وأنّا إذا كنّا قد أهلكناهم بمعصيةِ رسلنا، ولم يدفع عنهم ما مُكِّنوا فيه من أسباب العيش؛ فأنتم كذلك، تسويةً بين المتماثلين، وإنَّ هذا محضُ عدل الله بين عباده.
ومن ذلك: قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10]، فأخبر أنَّ حكمَ الشيء حكمُ مثله. وكذلك كلُّ موضعٍ أمَر الله سبحانه فيه بالسَّير في الأرض، سواء كان السيرَ الحِسِّيَّ على الأقدام والدوابِّ، أو السَّير المعنوي بالتفكُّر والاعتبار، أو كان اللفظ يعمُّهما وهو الصواب= فإنه يدل على الاعتبار والحذر أن يحِلَّ بالمخاطبين ما حلَّ بأولئك. ولهذا أمر سبحانه أولي الأبصار بالاعتبار بما حلَّ بالمكذِّبين، ولولا أنَّ حكمَ النظير حكمُ نظيره حتى يعبر العقل
(1)
منه إليه لما حصل الاعتبار.
[76/ب] وقد نفى الله سبحانه عن حُكمه وحِكمته التسويةَ بين المختلفَين في الحكم، فقال تعالى:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 - 36]، فأخبر أنَّ هذا حكم باطل في الفِطَر والعقول، لا تليق نسبته إليه سبحانه. وقال:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]. وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ
(1)
في النسخ المطبوعة: "تعبر العقول".
فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]. أفلا تراه كيف ذكَّر العقول ونبَّه الفِطَر بما أودع فيها من إعطاء النظير حكم نظيره، وعدم التسوية بين الشيء ومخالفه في الحكم؟
وكلُّ هذا من الميزان الذي أنزله الله مع كتابه، وجعله قرينه ووزيره، فقال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى: 17]، وقال:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]. وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 1 - 2] فهذا الكتاب، ثم قال:{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7]. والميزان يراد به العدل، والآلة التي يُعرَف بها العدل وما يضادُّه. والقياس الصحيح هو الميزان، فالأَولى تسميته بالاسم الذي سمَّاه الله به، فإنه يدل على العدل. وهو اسمُ مدحٍ واجب على كلِّ أحد
(1)
في كلِّ حال بحسب الإمكان، بخلاف اسم القياس فإنه ينقسم إلى حق وباطل، وممدوح ومذموم.
ولهذا لم يجئ في القرآن مدحه ولا ذمه، ولا الأمر به ولا النهي عنه، فإنه موردُ تقسيم إلى صحيح وفاسد.
والصحيح هو الميزان الذي أنزله مع [77/أ] كتابه. والفاسد ما يضادُّه كقياس الذين قاسوا البيعَ على الربا بجامع ما يشتركان فيه من التراضي بالمعاوضة المالية، وقياس الذين قاسوا الميتة على الذكيِّ
(2)
في جواز أكلها بجامع ما يشتركان من إزهاق الروح: هذا بسبب من الآدميين وهذا بفعل الله.
(1)
في النسخ المطبوعة: "واحد".
(2)
في النسخ المطبوعة: "المذكَّى". وهما بمعنًى، وقد مرَّ من قبل.
ولهذا تجد في كلام السلف ذمَّ القياس وأنه ليس من الدين، وتجد في كلامهم استعماله والاستدلال به. وهذا حقٌّ، وهذا حقٌّ، كما سنبيِّنه إن شاء الله تعالى.
والأقيسة المستعملة في الاستدلال ثلاثة: قياس علّة، وقياس دلالة، وقياس شَبَه؛ وقد وردت كلُّها في القرآن.
فأما قياس العلّة، فقد جاء في كتاب الله عز وجل في مواضع. منها: قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]، فأخبر تعالى أنَّ عيسى نظير آدم في التكوين، بجامع ما يشتركان فيه من المعنى الذي تعلَّق به وجودُ سائر المخلوقات، وهو مجيئها طوعًا لمشيئته وتكوينه؛ فكيف يَستنكر وجودَ عيسى من غير أبٍ مَن يُقِرُّ بوجود آدم من غير أب ولا أم، ووجودِ حواء من غير أم؟ فآدم وعيسى نظيران يجمعهما المعنى الذي يصح تعليقُ الإيجاد والخلق به.
ومنها: قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137] أي: قد كان من قبلكم أمم أمثالكم، فانظروا إلى عواقبهم السيئة، واعلموا أنَّ سبب ذلك ما كان من تكذيبهم بآيات الله ورسله، وهم الأصل، وأنتم الفرع، والعلة الجامعة التكذيب، والحكم [77/ب] الهلاك.
ومنها: قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 6]، فذكر سبحانه
إهلاكَ مَن قبلنا من القرون، وبيَّن أن ذلك كان لمعنًى
(1)
، وهو ذنوبهم. فهم الأصل، ونحن الفرع. والذنوب العلَّة الجامعة، والحكم الهلاك. فهذا محض قياس العلة، وقد أكَّده سبحانه بضرب من الأَولى، وهو أنَّ من قبلنا كانوا أقوى منَّا، فلم تدفع عنهم قوتهم وشدتهم ما حلَّ بهم.
وقد اختُلِف في محلِّ هذه الكاف وما تتعلَّق به، فقيل
(2)
: هو رفعٌ خبرُ مبتدأ محذوف، أي أنتم كالذين من قبلكم. وقيل: نصبٌ بفعل محذوف، تقديره فعلتم كفعل الذين من قبلكم. والتشبيه على هذين القولين في أعمال الذين من قبل، وقيل: إنَّ التشبيه في العذاب. ثم قيل: العامل محذوف، أي لعَنَهم وعذَّبهم كما لعَن الذين من قبل. وقيل
(3)
: بل العامل ما تقدَّم، أي وعَد الله المنافقين كوعد الذين من قبلكم، ولعَنهم كلعنهم، ولهم عذاب مقيم كالعذاب الذي لهم
(4)
.
(1)
ع: "لمعنى القياس"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
من هنا إلى آخر كلامه على الآية ــ ما عدا الاستدلال بها على القياس ــ معظمه منقول بنصه أو بتصرف يسير من كتاب شيخه "اقتضاء الصراط المستقيم"(1/ 111 - 121)، وعبارة الشيخ أوجز وأحكم.
(3)
قال شيخ الإسلام: "وهو أجود".
(4)
في الاقتضاء (1/ 112): "
…
ولعَنهم كلعن الذين من قبلكم، ولهم عذاب مقيم كالذين من قبلكم، ومحلُّها نصب. ويجوز أن يكون رفعًا، أي عذاب كعذاب الذين من قبلكم".
والمقصود أنه سبحانه ألحقهم بهم في الوعيد، وسوَّى بينهم فيه [ص 78/أ] كما تساووا في الأعمال، وكونُهم كانوا أشدَّ منهم قوةً وأكثرَ أموالًا وأولادًا فرقٌ غيرُ مؤثِّر؛ فعلَّق الحكم بالوصف الجامع المؤثِّر، وألغى الوصف الفارق. ثم نبَّه على أن مشاركتهم في الأعمال اقتضت مشاركتهم في الجزاء، فقال:{فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69]. فهذه هي
(1)
العلة المؤثرة والوصف الجامع، وقوله:{أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} هو الحكم، والذين من قبل هم الأصل، والمخاطبون الفرع.
قال عبد الرزاق في "تفسيره"
(2)
: أنا معمر عن الحسن في قوله: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ} قال: بدينهم.
ويروى عن أبي هريرة
(3)
.
وقال ابن عباس: استمتعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا
(4)
.
(1)
في ح: "الأعمال"، وضرب عليه بعضهم وكتب في الهامش:"هي".
(2)
برقم (1108)، ورواه ابن جرير في "جامع البيان"(11/ 552)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(10504).
(3)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(10506)، وأبو الشيخ، كما في "الدر المنثور" للسيوطي (7/ 432).
(4)
كذا عزاه إليه ابن الجوزي في "زاد المسير"(3/ 467) وابن تيمية في "الاقتضاء"(1/ 116). وإنما رواه محمد بن مروان السدي الصغير، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وهذا من أوهى الأسانيد، بل سلسلة الكذب، وهو في الكتاب المنحول المترجَم بـ "تنوير المقباس"(ص 161).
وقال آخرون: بنصيبهم من الدنيا
(1)
.
وحقيقة الأمر
(2)
أن الخلاق هو النصيب والحظ، كأنه الذي خُلِق للإنسان وقُدِّر له، كما يقال: قِسْمُه الذي قُسِم له، ونصيبه الذي نُصِب له أي أُثبِت، وقِطُّه الذي قُطَّ له، أي قُطِع. ومنه قوله تعالى:{وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 200] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما يلبس الحريرَ في الدنيا مَن لا خلاق له في الآخرة"
(3)
.
والآية تتناول ما ذكره السلف كلَّه، فإنه سبحانه قال:{كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} [التوبة: 69]. فبتلك القوة التي كانت فيهم كانوا يستطيعون أن يعملوا للدنيا والآخرة، وكذلك الأموال والأولاد. وتلك القوة والأموال والأولاد هي الخلاق، فاستمتعوا بقوتهم وأموالهم وأولادهم في الدنيا. ونفسُ الأعمال التي عملوها بهذه القوة من الخَلاق الذي استمتعوا به، ولو أرادوا بذلك الله والدار الآخرة لكان لهم خلاقٌ في الآخرة. فتمتُّعُهم بها أخذُ حظوظهم العاجلة، وهذا حال من لم يعمل إلا لدنياه، سواء كان عمله من جنس العبادات أو غيرها.
(1)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(10505) من قول إسماعيل السدي، وهو قول مقاتل بن سليمان في كتابه"التفسير"(2/ 180).
(2)
في "الاقتضاء"(1/ 117): "قال أهل اللغة". والنقل متصل بما سبق.
(3)
أخرجه البخاري (886) ومسلم (2068) من حديث ابن عمر.
ثم ذكر سبحانه حال الفروع فقال: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ} [التوبة: 69] فدلَّ هذا على أنَّ حكمَهم حكمُهم، وأنه ينالهم ما نالهم؛ لأنَّ حكمَ النظير حكمُ نظيره.
ثم قال: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} ، فقيل:"الذي" صفة لمصدر محذوف، أي كالخوض الذي خاضوا. وقيل: لموصوف محذوف
(1)
، أي كالفَوج
(2)
الذي خاضوا، وهو فاعل الخوض. وقيل:"الذي" مصدرية كـ"ما"، أي كخوضهم. وقيل: هي موضع "الذين"
(3)
.
والمقصود: أنه سبحانه جمع بين الاستمتاع بالخَلاق وبين الخوض بالباطل، لأن فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد الباطل والتكلُّم به وهو الخوض، أو يقع في العمل بخلاف الحق والصواب وهو الاستمتاع بالخلاق. فالأول البدع، والثاني اتباع الهوى
(4)
. وهذان هما أصلُ كلِّ شرٍّ وفتنة وبلاء، وبهما كُذِّبت الرسل، وعُصي الرَّبُّ، ودُخِلت النار، وحَلَّت العقوبات. فالأول من جهة الشبهات، والثاني من جهة الشهوات.
(1)
في "الاقتضاء"(1/ 118): "وفي (الذي) وجهان: أحسنهما أنها صفة المصدر
…
والثاني أنه صفة الفاعل". وهذا أصح، فإن الموصوف محذوف في الوجه الأول أيضًا.
(2)
كذا في النسخ الخطية، وأقدم نسخ "الاقتضاء". وفي النسخ المطبوعة:"كخوض القوم"، ولعله من تصرف بعض الناشرين.
(3)
القولان الأخيران إضافة من المؤلف.
(4)
في "الاقتضاء"(1/ 118): "والأول: هو البدع ونحوها. والثاني: فسق الأعمال ونحوها". وبهذا اللفظ نقله المصنف في "إغاثة اللهفان"(2/ 902).
ولهذا كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحبَ هوًى فتَنَه هواه، وصاحبَ دنيا أعجبته
(1)
دنياه.
وكانوا يقولون: احذروا فتنةَ العالم الفاجر، والعابد الجاهل؛ فإنَّ فتنتهما فتنةٌ لكلِّ مفتون
(2)
.
فهذا يشبه المغضوب عليهم الذين يعلمون الحقَّ ويعملون بخلافه، وهذا يشبه الضالِّين الذين يعملون بغير علم.
وفي صفة الإمام أحمد: رحمه الله
(3)
، عن الدنيا ما كان أصبره! وبالماضين ما كان أشبهه! أتته البدع فنفاها، والدنيا فأباها
(4)
.
(1)
كذا في النسخ الخطية والمطبوعة. وفي "الاقتضاء" و"الإغاثة": "أعمَتْه".
(2)
رواه ابن المبارك في "الزهد"(ص 18 - رواية نعيم بن حماد عنه) عن سفيان الثوري قال: يُقال: فذكره. وقد تابع نعيمًا محمدُ بن الحسن البلخي عند الآجري في "أخلاق العلماء"(ص 87)، وفي كتابَيْه "فرض طلب العلم"(30)، و"مسألة الطائفين"(4)، وتابعه أيضًا محمدُ بن مقاتل عند البيهقي في "المدخل"(544)، لكن جعله من كلام الثوري. ويُوازَن بما في "جامع بيان العلم" لابن عبد البر (1161). ورواه عبد الله ابن الإمام أحمد في "العلل ومعرفة الرجال"(4501) عن أبيه، عن أبي أحمد الزبيري، عن سفيان به. ورواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(6/ 376) ضمن رسالة الثوري إلى عباد بن عباد.
(3)
"رحمه الله" جزء من قول أبي عمير الرملي، لا من قول المصنف كما في النسخ المطبوعة. والسياق في "الاقتضاء": "ووصف بعضهم أحمد بن حنبل، فقال: رحمه الله
…
". وقد غيَّر المصنف السياق للاختصار. والسياق في "الفوائد المنتخبة": "
…
سمعت أبا عمير
…
وذُكر عنده أحمد بن حنبل رحمه الله، فقال: "رحمه الله،
…
أشبهه. وبالصالحين ما كان ألحقه! عرضت له الدنيا فأباها، والبدع فنفاها".
(4)
رواه أبو إسحاق المزكي في "الفوائد المنتخبة"(169) ــ ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق"(5/ 291، 51/ 219) و ابن الجوزي في "مناقب الإمام أحمد"(ص 175) ــ من قول أبي عمير ابن النحاس الرملي.
وهذه حال أئمة المتقين الذين وصفهم الله في كتابه بقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]. فبالصبر تُترَك الشهوات، وباليقين تُدفَع الشبهات، كما قال تعالى:{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45]
(1)
.
وفي بعض المراسيل: إن الله يحب البصر الناقد
(2)
عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات
(3)
.
(1)
"الاقتضاء"(1/ 120). وانظر: "إغاثة اللهفان"(2/ 903)، و"زاد المعاد"(3/ 10).
(2)
أهمل القاف والدال في ح. وفي س: "البصير النافد". والمثبت من ع، ف، وكذا في "الاقتضاء"، و"درء التعارض"(5/ 131، 264). وفي "الإغاثة"(2/ 904) و"درء التعارض"(2/ 105)، (9/ 22)، و"مجموع الفتاوى" (7/ 540) وغيره:"النافذ". وقال الزبيدي في "إتحاف السادة"(10/ 105): "بالقاف، أو هو بالفاء والذال".
(3)
قال الإمام ابن تيمية في "درء التعارض"(5/ 131): "رواه البيهقي مرسلا". وإنما وجدتُه موصولا، رواه أبو بكر النجاد في "جزء من حديثه"(18) ــ ومن طريقه أبو مطيع في "جزءين من أماليه"(49) ــ، وابن جميع في "معجم شيوخه"(ص 88) ــ ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق"(52/ 138) ــ، ومحمد بن الحسين السلمي الصوفي في "الأربعين في التصوف"(7)، وأبو نعيم في "الطب"(66)، وفي"حلية الأولياء"(6/ 199)، وفي "الأربعين على مذهب المتحققين من الصوفية"(25)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(1080، 1081)، والبيهقي في "الزهد"(954)، وقوام السنة الأصبهاني في "الترغيب والترهيب"(411)، من حديث عمران بن حصين مرفوعا، وسنده واهٍ جدّا، آفته عمر بن حفص العبدي، على أن هلال بن العلاء (الراوي عنه) صاحب عجائب وأوابد.
فقوله تعالى: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ} إشارة إلى اتباع الشهوات، وهو داء العصاة. وقوله:{وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} إشارة إلى الشبهات، وهو داء المتبدعة وأهل الأهواء والخصومات. وكثيرًا ما يجتمعان، فقلَّ من تجده فاسد الاعتقاد إلا وفساد اعتقاده يظهر في عمله.
والمقصود: أنَّ الله أخبر أنَّ في هذه الأمة من يستمتع بخلاقه كما استمتع الذين من قبله بخلاقهم، ويخوض كخوضهم؛ وأنهم لهم من الذمِّ والوعيد كما للذين من قبلهم. ثم حضَّهم على القياس والاعتبار بمن قبلهم، فقال:{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [التوبة: 70].
فتأمَّلْ صحةَ هذا القياس وإفادتَه لمن عُلِّق عليه [79/ب] من الحكم، وأنَّ الأصل والفرع قد تساويا في المعنى الذي عُلِّق به العقاب. وأكَّده ــ كما تقدَّم ـ بضرب من الأَولى، وهو شدة القوة وكثرة الأموال والأولاد؛ فإذا لم يتعذَّر على الله عقابُ الأقوى منهم بذنبه، فكيف يتعذَّر عليه عقابُ مَن هو دونه؟
ومنه: قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام: 133]. فهذا قياس جليّ، يقول سبحانه: إن شئتُ
أذهبتُكم واستخلفتُ غيركم، كما أذهبتُ مَن قبلكم واستخلفتُكم. فذكر أركان القياس الأربعة: علّة الحكم، وهي عموم مشيئته وكمالها. والحكم، وهو إذهابه بهم وإتيانه بغيرهم. والأصل، وهو مَن كان من قبل. والفرع، وهم المخاطبون.
ومنه: قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 39]. فأخبر أن مَن قبلَ المكذِّبين أصلٌ يعتبر به، والفرعُ نفوسهم، فإذا ساووهم في المعنى ساووهم في العاقبة.
ومنه: قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل: 15 - 16]. فأخبر سبحانه أنه أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم إلينا، كما أرسل موسى إلى فرعون؛ وأن فرعون عصى رسوله فأخذه أخذًا وبيلًا، فهكذا مَن عصى منكم محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وهذا في القرآن كثير جدًّا، فقد فُتِح لك بابُه.
فصل
وأما قياس الدلالة، فهو الجمع بين الأصل والفرع، بدليل العلَّةِ وملزومِها. [80/أ] فمنه
(1)
: قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39]. فدلَّ سبحانه عباده بما أراهم من الإحياء الذي تحقَّقوه
(1)
ع: "ومنه"، وكذا في النسخ المطبوعة.
وشاهدوه على الإحياء الذي استبعدوه. وذلك قياس إحياء على إحياء، واعتبار الشيء بنظيره. والعلَّةُ الموجبةُ هي عموم قدرته سبحانه، وكمال حكمته. وإحياءُ الأرض دليلُ العلة.
ومنه: قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19]. فدلَّ بالنظير على النظير، وقرَّبَ أحدَهما من الآخر جدًّا بلفظ الإخراج. أي يخرجون من الأرض أحياءً، كما يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.
ومنه: قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 36 - 40].
فبيَّن سبحانه كيفيةَ الخلق واختلافَ أحوال الماء في الرحم إلى أن صار منه الزوجان الذكر والأنثى، وذلك أمارةُ وجود صانع قادر على ما يشاء. ونبَّه سبحانه عبادَه بما أحدثه في النطفة المهينة الحقيرة من الأطوار، وسَوْقِها في مراتب الكمال من مرتبة إلى مرتبة أعلى منها، حتى صارت بشرًا سويًّا في أحسن خِلقة
(1)
وتقويم= على أنه لا يحسُن به أن يترك هذا البشر سُدًى مهملًا معطَّلًا، لا يأمره ولا ينهاه، ولا يقيمه في عبوديته. وقد ساقه في [80/ب] مراتب الكمال من حين كان نطفةً إلى أن صار بشرًا سويًّا، فكذلك يسوقه في مراتب كماله طَبقًا بعد طبق، وحالًا بعد حال، إلى أن يصير جارَه في داره يتمتَّع بأنواع النعيم، وينظر إلى وجهه، ويسمع كلامه.
(1)
في النسخ المطبوعة: "خلق".
ومنه: قوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا
(1)
بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: 57 - 58].
فأخبر سبحانه أنهما إحياءان، وأن أحدهما معتبَر بالآخر، مقيس عليه. ثم ذكر قياسًا آخرَ: أنَّ من الأرض ما يكون أرضًا طيبةً، فإذا أنزل عليها الماء أخرجت نباتها بإذن ربِّها. ومنها ما تكون أرضًا خبيثةً لا تُخرِج نباتها إلا نكِدًا، أي قليلًا غيرَ منتفَع به، فهذه إذا أنزل عليها الماء لم تُخرِج ما أخرجَت الأرض الطيبة. فشبَّه سبحانه الوحيَ الذي أنزله من السماء على القلوب بالماء الذي أنزله على الأرض، بحصول الحياة بهذا وهذا. وشبَّه القلوبَ بالأرض، إذ هي محلُّ الأعمال، كما أنَّ الأرض محلُّ النبات، وأنّ القلب الذي لا ينتفع بالوحي ولا يزكو عليه ولا يؤمن به كالأرض التي لا تنتفع بالمطر ولا تُخرج نباتها به إلا قليلًا لا ينفع، وأن القلب الذي آمن بالوحي وزكا عليه وعمِل بما فيه كالأرض التي أخرجت نباتها بالمطر، فالمؤمن إذا سمع القرآن وعقَلَه وتدبَّره [81/أ] بان أثرُه عليه، فشُبِّه بالبلد الطيب الذي يمرَع ويُخصِب ويحسُن أثر المطر عليه، فيُنبت من كلِّ زوج كريم، والمُعرِض عن الوحي عكسه. والله الموفق.
(1)
في س، ح، ت:"نشرًا" دون ضبط. والمقصود قراءة أبي عمرو، وهي بضم النون والشين. انظر:"الإقناع" لابن الباذش (2/ 647).
يقول سبحانه: إن كنتم في ريب من البعث، فلستم ترتابون في أنكم مخلوقون، ولستم ترتابون في مبدأ خلقكم من حال إلى حال إلى حين الموت. والبعثُ الذي وُعِدتم به نظيرُ النشأة الأولى، فهما نظيران في الإمكان والوقوع، فإعادتُكم بعد الموت خلقًا جديدًا كالنشأة الأولى التي لا ترتابون فيها. فكيف تنكرون إحدى النشأتين مع مشاهدتكم لنظيرها؟
وقد أعاد الله
(1)
سبحانه ذِكرَ
(2)
هذا المعنى وأبداه في كتابه بأوجز العبارات، وأدلِّها، وأفصحِها، وأقطعِها للعذر، وألزمِها للحجَّة؛ كقوله تعالى:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} [الواقعة: 58 - 62]، فدلَّهم بالنشأة الأولى على الثانية، وأنهم لو تذكَّروا لعلموا أنه
(3)
لا فرق بينهما في تعلُّق القدرة بكلِّ واحدة منهما.
(1)
لم يرد لفظ الجلالة في ع والنسخ المطبوعة.
(2)
"ذكر" ساقط من النسخ المطبوعة.
(3)
في ع والنسخ المطبوعة: "أن".
وقد جمع سبحانه بين ذكر النشأتين
(1)
في قوله: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ [81/ب] الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 45 - 47]، وفي قوله:{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً} إلى قوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}
(2)
فتضمنت هذه الآيات
(3)
عشرة أدلة:
أحدها: قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} [يس: 77]، فذكَّره مبدأَ خلقه، لِيدلَّه به على النشأة الثانية.
(1)
في ع والنسخ المطبوعة: "بين النشأتين"، ولعل بعض النساخ ظنَّ كلمة "ذكر" مقحمة، فحذفها. ولكن انظر إلى قوله في "إغاثة اللهفان" (2/ 902): "وقد جمع سبحانه بين ذكر الفتنتين في قوله
…
". وفي "مفتاح دار السعادة" (1/ 147): "وقد جمع الله سبحانه بين ذكر هذين النورين، وهما الكتاب والإيمان، في غير موضع من كتابه".
(2)
راجع كلام المصنف على هذه الآية في "الصواعق المرسلة"(2/ 480 - 481).
(3)
يعني الآيات الأخيرة من سورة يس. وقد تكلم المصنف عليها بنحو ما جاء هنا في "الصواعق"(2/ 473 - 477).
ثم أخبر أنَّ هذا الجاحد لو ذكر خلقه لما ضرب المثل، بل لمَّا نسي خلقَه ضرَبَ المثل. فتحت قوله:{وَنَسِيَ خَلْقَهُ} ألطف جواب وأبين دليل. وهذا كما تقول لمن جحدك أن تكون قد أعطيته شيئًا: فلان جحدني الإحسان إليه، ونسي الثيابَ التي عليه، والمالَ الذي معه، والدارَ التي هو فيها؛ حيث لا يمكنه جحدُ أن يكون ذلك منك.
ثم أجيب عن سؤاله بما يتضمَّن أبلغَ الدليل على ثبوت ما جحده، فقال:{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} . فهذا جواب واستدلال قاطع.
ثم أكَّد هذا المعنى بالإخبار
(1)
بعموم علمه لجميع الخلق
(2)
، فإنَّ تعذُّرَ الإعادة عليه إنما يكون لقصور في علمه
(3)
أو قصورٍ في قدرته. ولا قصورَ في علمِ مَن هو بكلِّ خلقٍ عليم، ولا قدرةِ
(4)
مَن خلَق السماوات والأرض، وإذا أراد شيئًا [82/أ] قال له: كن، فيكون. وبيده ملكوتُ كلِّ شيء، فكيف تعجز قدرته وعلمه عن إحيائكم بعد مماتكم ولم تعجز عن النشأة الأولى ولا عن خلق السموات والأرض؟
ثم أرشد عباده إلى دليل واضح جليٍّ متضمِّن للجواب عن شبه المنكرين بألطف الوجوه وأبينها وأقربها إلى العقل، فقال:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} ، فإن
(5)
هذا دليل على تمام
(1)
"بالإخبار" ساقط من ع.
(2)
في النسخ المطبوعة: "بجميع خلقه".
(3)
ما عدا س، ت:"لقصور علمه"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(4)
في النسخ المطبوعة: "ولا قدرة فوق قدرة" بزيادة "قدرة فوق".
(5)
في النسخ المطبوعة: "فإذن"، وهو خطأ.
قدرته وإخراج الأموات من قبورهم، كما أخرج النار من الشجرة الخضراء. وفي ذلك جواب عن شبهة من قال من منكري المعاد: الموت بارد يابس، والحياة طبعها الرطوبة والحرارة، فإذا حلَّ الموتُ بالجسم لم يمكن أن تحُلَّ به
(1)
الحياة بعد ذلك لتضادِّ ما بينهما. وهذه شبهة تليق بعقل
(2)
المكذِّبين الذين لا سمع لهم ولا عقل، فإن الحياة لا تجامع الموت في المحلِّ الواحد ليلزم ما قالوا، بل إذا أوجد الله فيه الحياةَ وطبعَها ارتفع الموتُ وطبعُه. وهذا الشجر الأخضر طبعُه البرودة والرطوبة
(3)
تخرج منه النار الحارَّة اليابسة.
ثم ذكر ما هو أوضح للعقول من كلِّ دليل، وهو خلقُ السموات والأرض مع عظمهما وسعتهما وأنه لا نسبة للخلق الضعيف إليهما. ومن لم تعجز قدرته وعلمه عن هذا الخلق العظيم الذي هو أكبر من خلق الناس، كيف تعجز عن إحيائهم بعد موتهم؟
ثم قرَّر هذا المعنى بذكر وصفين من أوصافه مستلزِمين لما أخبر به، فقال:{بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} . فكونُه خلاقًا عليمًا يقتضي أنه يخلق ما يشاء، ولا يُعجِزه ما أراده من الخلق.
ثم قرَّر هذا المعنى بأن عموم إرادته وكمالها لا يَقصُر عنه ولا عن شيء أبدًا، [82/ب] فقال:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . فلا
(1)
س، ت، ع:"فيه"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
في النسخ المطبوعة: "بعقول".
(3)
في النسخ المطبوعة: "الرطوبة والبرودة".
يمكنه الاستعصاء عليه، ولا يتعذَّر عليه، بل يأتي طائعًا منقادًا لمشيئته وإرادته.
ثم زاده تأكيدًا وإيضاحًا بقوله: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} ، فنزَّه نفسه عما يظنّ به أعداؤه المنكرون للمعاد معظِّمًا لها بأنَّ ملك كلِّ شيء بيده، يتصرَّف فيه تصرُّفَ المالك الحقِّ في مملوكه الذي لا يمكنه الامتناع عن أيِّ تصرُّفٍ شاءه فيه.
ثم ختم السورة بقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . كما أنهم ابتدؤوا منه هو، فكذلك مرجعهم إليه. فمنه المبدأ، وإليه المعاد، وهو الأول والآخر. {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42].
ومنه: قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 66 - 67]، فتأمل تضمُّنَ
(1)
هذه الكلمات ــ على اختصارها وإيجازها وبلاغتها ــ للأصل والفرع والعلَّة والحكم.
ومنه: قوله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء: 49]
(2)
. فردَّ عليهم سبحانه ردًّا يتضمَّن الدليل القاطع على قدرته على إعادتهم خلقًا جديدًا، فقال: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا
(1)
بعض قرَّاء ت ضرب على "تضمن" هنا، ووضع علامة بعد "بلاغتها"، وكتب في الطرة:"وتضمُّنها". أراد إصلاح المتن بزعمه.
(2)
قارن بكلام المؤلف على هذه الآية وما بعدها في "الصواعق"(2/ 478 - 480).
يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 50 - 51]. فلما استبعدوا أن يعيدهم الله خلقًا جديدًا بعد أن صاروا عظامًا ورفاتًا قيل لهم: كونوا حجارةً أو حديدًا أو خلقًا مما يكبُر في صدوركم، سواء كان الموت أو السماء والأرض
(1)
، أو أيَّ خلقٍ استعظموه وكبُر في صدورهم
(2)
.
ومضمون الدليل أنكم مربوبون مخلوقون، مقهورون على ما شاء
(3)
خالقكم، وأنتم لا تقدِرون [83/أ] على تغيير أحوالكم من خلقة إلى خلقة لا تقبل الاضمحلال كالحجارة والحديد. ومع ذلك فلو كنتم على هذه الخِلقة من القوة والشدة لنفذت أحكامي فيكم وقدرتي ومشيئتي، ولم تسبقوني ولم تفوتوني؛ كما يقول القائل لمن هو في قبضته: اصعد إلى السماء فإني لاحقك، أي لو صعدتَ إلى السماء لحقتُك. وعلى هذا، فمعنى الآية: لو كنتم حجارةً أو حديدًا أو أعظمَ خلقًا من ذلك لما أعجزتموني ولما فُتُّموني.
وقيل: المعنى كونوا حجارةً أو حديدًا عند أنفسكم، أي صوِّروا أنفسكم وقدِّروها كذلك خلقًا لا يضمحِلُّ ولا ينحَلُّ، فإنا سنميتكم، ثم نحييكم ونعيدكم خلقًا جديدًا. وبين المعنيين فرق لطيف، فإن المعنى الأول يقتضي أنكم لو قدرتم على نقل خلقتكم من حالة إلى حالة هي أشدُّ منها وأقوى لنفذت مشيئتنا وقدرتنا فيكم ولم تُعجزونا، فكيف وأنتم عاجزون عن ذلك؟ والمعنى الثاني يقتضي أنكم صوِّروا أنفسكم وأنزلوها هذه المنزلة، ثم انظروا
(1)
في النسخ المطبوعة: "أو الأرض".
(2)
في النسخ المطبوعة: "استعظمتموه وكبر في صدوركم".
(3)
في النسخ المطبوعة: "يشاء".
أتفوتونا وتُعجزونا
(1)
، أم قدرتنا ومشيئتنا محيطة بكم، ولو كنتم كذلك؟
وهذا من أبلغ البراهين القاطعة التي لا تعرض فيها شبهة البتّة، بل لا تجد العقول السليمة غيرَ الإذعان
(2)
والانقياد لها. فلما علم القوم صحة هذا البرهان وأنه ضروري انتقلوا إلى المطالبة بمن يعيدهم، فقالوا: من يعيدنا؟ وهذا سواء كان سؤالًا منهم عن تعيين المعيد أو إنكارًا منهم له، فهو من أقبح التعنُّت وأبينه
(3)
. ولهذا كان جوابه: {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} .
ولما علم القوم أن هذا جواب قاطع انتقلوا [83/ب] إلى باب آخر من التعنُّت، وهو السؤال عن وقت هذه الإعادة، فأنغضوا إليه رؤوسهم وقالوا: متى هو؟ فقال تعالى: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا}
(4)
. فليتأمَّل اللبيب
(5)
لطفَ موقع
(6)
هذا الدليل، واستلزامه لمدلوله استلزامًا لا محيد عنه، وما تضمَّنه من السؤالات والجواب عنها أبلغَ جواب وأصحَّه وأوضحَه. فللّه ما يفوت المُعْرِضين عن تدبُّر القرآن، المتعوِّضين عنه بزُبالة الأذهان ونُحاتة
(7)
الأفكار!
(1)
كذا في جميع النسخ الخطية والمطبوعة إلا (ت) التي فيها: "أتفوتوننا"، والفعل الثاني فيها أيضًا كما في غيرها.
(2)
ع: "بدًّا عن الإذعان". وفي النسخ المطبوعة: "عن الإذعان
…
لها بدًّا".
(3)
من ع، وكذا في النسخ المطبوعة. وفي ح، ف:"وأنتنه". ولم تعجم الحروف في س، ت.
(4)
لم يرد "قل" في ت، ح، إلا أن بعض القراء استدركه في طرة ح.
(5)
بعده في ح: "هذه"، وهي مقحمة هنا.
(6)
ع: "موضع"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(7)
في النسخ المطبوعة: "نخالة"، وأراه تصحيفًا. انظر ما علقت من قبل.
ومنه: قوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 5 - 7]، وقوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39].
جعل الله سبحانه إحياءَ الأرض بالنبات
(1)
بعد موتها نظيرَ إحياءِ الأموات، وإخراجَ النبات منها نظيرَ إخراجِهم من القبور، ودلَّ بالنظير على نظيره، وجعل ذلك آيةً ودليلًا على خمسة مطالب:
أحدها: على
(2)
وجود الصانع، وأنه الحق المبين. وذلك يستلزم إثبات صفات كماله وقدرته وإرادته وحياته وعلمه وحكمته ورحمته وأفعاله.
الثاني: أنه يحيي الموتى.
الثالث: عموم قدرته على كلِّ شيء.
الرابع: إثبات
(3)
الساعة وأنها لا ريب فيها.
الخامس: أنه يُخرج الموتى من القبور، كما أخرج النبات [84/أ] من الأرض.
(1)
"بالنبات" ساقط من ع.
(2)
لم يرد حرف "على" في ع، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
ع والنسخ المطبوعة: "إتيان". وفي ف بعد "وأنها" زيادة: "آتية".
وقد كرَّر سبحانه ذكر هذا الدليل في كتابه مرارًا، لصحة مقدّماته، ووضوح دلالته، وقُرب تناوله، وبُعده من كلِّ معارضة وشبهة؛ وجَعَله تبصرةً وذكرى، كما قال تعالى:{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 7 - 8]. فالمنيب إلى ربه يتذكَّر بذلك، فإذا تذكَّر تبصَّر به. فالتذكُّر قبل التبصُّر، وإن قُدِّم عليه في اللفظ
(1)
كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}
(2)
[الأعراف: 201]. والتذكُّر: تفعُّل من الذكر، وهو حضور صورة المذكور
(3)
في القلب. فإذا استحضَره القلب وشاهَدَه على وجهه أوجَبَ له البصيرة، فأبصر
(4)
ما جُعِل دليلًا عليه، فكان في حقِّه تبصرة وذكرى. والهدى مداره على هذين الأصلين: التذكُّر، والتبصُّر
(5)
.
وقد دعا سبحانه الإنسان إلى أن ينظر في مبدأ خلقه ورزقه
(6)
، ويستدلَّ بذلك على معاده وصدقِ ما أخبرت به الرسل. فقال في الأول: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ
(1)
كذا قال هنا. وفي "مفتاح دار السعادة"(2/ 606) فسَّر الآية على نحو آخر.
(2)
ما عدا نسخة (ف) المتأخرة: "طَيْفٌ من الشيطان"، وهي قراءة أبي عمرو، وبها قرأ ابن كثير والكسائي أيضًا. انظر:"الإقناع" لابن الباذش (2/ 652).
(3)
انظر: "مدارج السالكين"(1/ 440). وفي ع: "من المذكور"، زاد "من"، وكذا في المطبوع.
(4)
ع: "له الصبر فالصبر"، تصحيف.
(5)
وانظر: "المدارج"(3/ 88) و"شفاء العليل"(ص 194).
(6)
"ورزقه" ساقط من ع.
لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 5 - 9].
فالدافق على بابه، ليس فاعلًا بمعنى مفعول كما يظنُّه بعضهم، بل هو بمنزلة ماء جار وواقف وساكن
(1)
. ولا خلاف أن المراد بالصُّلْب صلب الرجل. واختُلف في "الترائب" فقيل: المراد بها ترائبه أيضًا، وهي عظام الصدر [84/ب] ما بين التَّرْقُوَة إلى الثَّنْدُوَة. وقيل: المراد ترائب المرأة. والأول أظهر
(2)
، لأنه سبحانه قال:{يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} ولم يقل: يخرج من الصلب والترائب، فلا بدَّ أن يكون ماء الرجل خارجًا من بين هذين المختلفين
(3)
، كما قال في اللبن يخرج:{مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} [النحل: 66]. وأيضًا فإنه سبحانه أخبر أنه خلقه من نطفة في غير موضع، والنطفة هي ماء الرجل. كذلك قال أهل اللغة، قال الجوهري
(4)
: "النطفة: الماء الصافي قلَّ أو كثُر. والنطفة: ماء الرجل، والجمع نُطَف". وأيضًا فإن الذي يوصف بالدفق والفضخ
(5)
إنما هو ماء الرجل، ولا يقال: فضخت المرأة الماءَ ولا دفقته.
والذي أوجب لأصحاب القول الآخر ذلك: أنهم رأوا أهل اللغة قالوا:
(1)
وانظر: "التبيان في أيمان القرآن"(ص 161) و"بدائع الفوائد"(3/ 941).
(2)
في "تحفة المودود"(ص 393) رجَّح القول الآخر، وقد نُقل بعض كلامه في طرّة ف. وفي "التبيان"(ص 162) ذكر القولين دون ترجيح.
(3)
في المطبوع: "المحلَّين". والصواب ما أثبت من النسخ، وكذا في الطبعات القديمة.
(4)
في "الصحاح"(4/ 1434).
(5)
ت: "النضح" وكذلك "نضحت" فيما بعد، وكذا في النسخ المطبوعة. والفضخ: الدفق. في حديث أبي داود (206): "وإذا فضختَ الماء فاغتسِلْ".
الترائب: موضع القلادة من الصدر. قال الزجاج
(1)
: أهلُ اللغة مُجْمِعون على ذلك، وأنشدوا لامرئ القيس
(2)
:
مهَفْهَفةٌ بيضاءُ غيرُ مُفاضةٍ
…
ترائبُها مصقولةٌ كالسَّجَنْجَل
وهذا لا يدل على اختصاص الترائب بالمرأة، بل يطلق على الرجل والمرأة. قال الجوهري
(3)
: الترائب: عظام الصدر ما بين التَّرْقُوَة إلى الثَّنْدُوَة.
وقوله: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق: 8] الصحيح أن الضمير يرجع على الإنسان، أي إن الله على ردِّه إليه لقادر يوم القيامة، وهو اليوم الذي تبلى فيه السرائر. ومن قال: "إنَّ الضمير يرجع على
(4)
الماء، أي إن الله على رجعه في الإحليل أو في الصَّدر أو حبسه عن الخروج [85/أ] لقادر" فقد أبعد، وإن كان الله سبحانه قادرًا على ذلك؛ ولكن السِّياق يأباه، وطريقة القرآن وهي الاستدلال بالمبدأ والنشأة الأولى على المعاد والرجوع إليه. وأيضًا فإنه قيَّده بالظرف، وهو {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9]
(5)
. والمقصود أنه سبحانه دعا الإنسان أن ينظر في مبدأ خلقه ورزقه، فإن ذلك يدلُّه دلالة ظاهرة على معاده
(1)
في "معاني القرآن"(5/ 312).
(2)
من معلقته. انظر: "ديوانه"(ص 15) و"شرح القصائد السبع" لابن الأنباري (ص 58).
(3)
في "الصحاح"(1/ 91).
(4)
ع: "إلى"، وكذا في المطبوع.
(5)
في "التبيان"(ص 164 - 167) استدل المصنف على صحة ما ذهب إليه بعشرة وجوه.
ورجوعه إلى ربه.
وقال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 24 - 31]. فجعل سبحانه نظره في إخراج طعامه من الأرض دليلًا على إخراجه هو منها بعد موته، استدلالًا بالنظير على النظير.
ومن ذلك: قوله سبحانه ردًّا على الذين قالوا: {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [الإسراء: 98 - 99] أي مثلَ هؤلاء المكذِّبين. والمراد به النشأة الثانية، وهي الخلق الجديد، وهي المثل المذكور في غير موضع، وهم هم بأعيانهم. فلا تنافي في شيء من ذلك، بل هو الحقُّ الذي دلَّ عليه العقل والسمع. ومن لم يفهم ذلك حقَّ فهمه تخبَّط عليه أمرُ المعاد، وبقي منه في أمر مريج.
والمقصود: أنه دلَّهم سبحانه بخلق السموات والأرض على الإعادة والبعث. وأكَّد هذا القياس بضرب من الأَولى، وهو أنَّ خلقَ السموات [85/ب] والأرض أكبرُ من خلق الناس، فالقادرُ على خلق ما هو أكبر وأعظم منكم أقدَرُ على خلقكم، وليس أول الخلق بأهون عليه من إعادته. فليس مع المكذبين بالقيامة إلا مجرَّد تكذيب الله ورسله، وتعجيز قدرته، ونسبة عمله إلى القصور، والقدح في حكمته. ولهذا يخبر الله سبحانه عمَّن أنكر ذلك بأنه كافر بربه، جاحد له، لم يُقِرَّ بربِّ العالمين فاطرِ السموات والأرض، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ
أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} [الرعد: 5]. وقال المؤمن للكافر الذي قال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36]: فقال له: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} [الكهف: 37]. فمنكِرُ المعاد كافرٌ بربِّ العالمين، وإن زعم أنه مُقِرٌّ به.
ومنه: قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} [العنكبوت: 20]. يقول تعالى: انظروا كيف بدأتُ الخلق، فاعتبروا الإعادة بالابتداء.
ومنه: قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19].
وقوله: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 50].
وقوله: {وَنَزَّلْنَا
(1)
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 9 - 11].
وقال [86/أ] تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ
(2)
(1)
في جميع النسخ: "وأنزلنا"، وهو سهو.
(2)
ح، ت:"للكتاب"، وهي قراءة أبي عمرو، وبها قرأ الحرميان وابن عامر من السبعة. انظر:"الإقناع" لابن الباذش (2/ 704).
كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104]. والسِّجِلُّ: الورق المكتوب فيه، والكتاب: نفس المكتوب، واللام بمنزلة على. أي نطوي السماءَ كطيِّ الدَّرْج على ما فيه من السطور المكتوبة. ثم استدل بالنظير على النظير
(1)
، فقال:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} .
فصل
وأما قياس الشَّبَه، فلم يحكه الله سبحانه إلا عن المبطلين. فمنه: قوله تعالى إخبارًا عن إخوة يوسف أنهم قالوا لما وُجِد المتاع
(2)
في رَحْل أخيهم: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 77] فلم يجمعوا بين الأصل والفرع بعلّة ولا دليلها، وإنما ألحقوا أحدهما بالآخر من غير دليل جامع، سوى مجرَّد الشَّبهِ الجامعِ بينه وبين يوسف، فقالوا: هذا مقيس على أخيه، بينهما شبه من وجوه عديدة، وذاك قد سرَق فكذلك هذا. وهذا هو الجمع بالشبه الفارغ، والقياس بالصورة
(3)
المجرَّدة عن العلّة المقتضية للتساوي، وهو قياس فاسد. والتساوي في قرابة الأخوة ليس بعلّة للتساوي في السرقة لو كانت حقًّا، ولا دليلًا
(4)
على التساوي فيها، فيكون الجمع لنوع شَبَهٍ خالٍ عن العلّة ودليلها.
(1)
في النسخ المطبوعة: "على النظير بالنظير".
(2)
كذا "المتاع" في جميع النسخ. وفي النسخ المطبوعة: "الصواع". وفي ع: "وجدوا"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
ع: "بالضرورة"، تحريف.
(4)
ف: "دليل"، وكذا في النسخ المطبوعة.
ومنه: قوله تعالى إخبارًا عن الكفار أنهم قالوا: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} [هود: 27] فاعتبروا مجرَّد صورة الآدمية وشبه المجانسة فيها، واستدلوا بذلك على أن حكم أحد الشَّبَهين حكم الآخر؛ فكما لا نكون نحن رسلًا فكذلك أنتم. فإذا تساوينا في هذا الشبه، فأنتم مثلُنا، لا مزية لكم علينا. وهذا [86/ب] من أبطل القياس؛ فإنَّ الواقع من التخصيص والتفضيل وجعلِ
(1)
بعض هذا النوع شريفًا وبعضِه دنيًّا، وبعضِه مرءوسًا وبعضِه رئيسًا، وبعضِه مَلِكًا وبعضِه سُوقةً= يُبطِل هذا القياس، كما أشار سبحانه إلى ذلك في قوله:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32]. وأجابت الرسل عن هذا السؤال بقولهم: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11]، وأجاب الله سبحانه عنه بقوله:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].
وكذلك قوله سبحانه: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 33 - 34]. فاعتبروا المساواة في البشرية وما هو من خصائصها من الأكل والشرب، وهذا مجرَّدُ قياسِ شَبَهٍ وجمعٍ صُوري.
(1)
في المطبوع حذف الواو قبل "جعل"، ليكون خبر إنَّ؛ فاختلّ السياق، فإن الخبر "يبطل" الآتي.
ونظير هذا قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: 6]. ومن هذا: قياس المشركين الربا على البيع بمجرَّد الشبه الصوري. ومنه: قياسهم الميتة على الذكيِّ
(1)
في إباحة الأكل بمجرد الشبه. وبالجملة، فلم يجئ هذا القياس في القرآن إلا مردودًا مذمومًا.
ومن ذلك
(2)
: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ [87/أ] بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 194 - 195]. فبيَّن سبحانه أن هذه الأصنام أشباح وصور خالية عن صفات الإلهية، وأن المعنى المعتبر معدوم فيها، وأنها لو دُعيت لم تُجِب؛ فهي صور خالية عن أوصاف ومعان تقتضي عبادتها. وزاد هذا تقريرًا بقوله:{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} . أي
(3)
جميع ما لهذه الأصنام من الأعضاء التي نحتتها أيديكم، إنما هي صور عاطلة عن حقائقها وصفاتها؛ لأن المعنى المراد المختصَّ بالرِّجل هو مشيُها، وهو معدوم في هذه الرِّجل. والمعنى المختص باليد هو بطشها، وهو معدوم في هذه اليد. والمراد بالعين إبصارُها، وهو معدوم في هذه العين؛ ومن الأذن سمعُها وهو معدوم فيها. والصور في ذلك كلِّه ثابتة موجودة، وكلُّها فارغة
(1)
ت: "المذكَّى"، وكذا في النسخ المطبوعة. وهما بمعنًى، وقد ورد لفظ "الذكي" من قبل.
(2)
ت: "ومنه".
(3)
ع: "أي أن"، وكذا في النسخ المطبوعة.
خالية عن الأوصاف والمعاني، فاستوى وجودها وعدمها. وهذا كلُّه مُدْحِض لقياس الشَّبَه الخالي عن العِلَّة المؤثرة والوصف المقتضي للحكم. والله أعلم.
فصل
ومن هذا: ما وقع في القرآن من الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون، فإنها تشبيهُ شيء بشيء في حكمه، وتقريبُ المعقول من المحسوس، أو أحدِ المحسوسَين من الآخر، واعتبارُ أحدهما بالآخر، كقوله تعالى في حقِّ المنافقين:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ [87/ب] لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ}
(1)
إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 17 - 20]. فضرب
(2)
للمنافقين بحسب حالهم مثلين: مثلًا ناريًّا، ومثلا مائيًّا
(3)
، لما في النار والماء من الإضاءة والإشراق والحياة؛ فإن النار مادة النور، والماء مادة الحياة. وقد جعل الله سبحانه الوحيَ الذي أنزله من السماء متضمِّنًا لحياة القلوب واستنارتها، ولهذا سمَّاه روحًا ونورًا، وجعل قابليه أحياءً في النور، ومن لم يرفع به رأسًا أمواتًا في الظلمات.
(1)
هكذا في س. وزاد ناسخ ح: "يجعلون" سهوًا فيما يبدو. وفي ت، ع إلى "حذر الموت".
(2)
ف: "فضرب الله". وكتب بعضهم في ح أيضًا لفظ الجلالة فوق السطر.
(3)
انظر في المثلين: "الوابل الصيب"(ص 125 - 132) و"اجتماع الجيوش الإسلامية"(ص 39 - 75). وفي "إغاثة اللهفان"(1/ 32) أحال لأسرارهما على كتابنا هذا.
وأخبر عن حال المنافقين بالنسبة إلى حظِّهم من الوحي، وأنهم بمنزلة من استوقد نارًا لتضيء له وينتفع بها. وهذا لأنهم دخلوا في الإسلام فاستضاؤوا به، وانتفعوا به، وآمنوا به، وخالطوا
(1)
المسلمين؛ ولكن لما لم تكن تصحبهم
(2)
مادةٌ من قلوبهم من نور الإسلام طفئ عنهم، وذهب الله بنورهم. ولم يقل:"بنارهم"، فإن النار فيها الإضاءة والإحراق، فذهب الله بما فيها من الإضاءة، وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق، وتركهم في ظلمات لا يبصرون. فهذا حال من أبصر ثم عمي، وعرف ثم أنكر، ودخل في الإسلام ثم فارقه بقلبه؛ فهو لا يرجع إليه. ولهذا قال:{فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} .
ثم ذكر حالهم بالنسبة إلى المثل المائي، فشبَّههم بأصحاب صيِّبٍ ــ وهو المطر الذي يَصُوب، أي ينزل من السماء ــ فيه ظلمات ورعد وبرق، فلضعف بصائرهم وعقولهم اشتدَّت عليهم زواجرُ القرآن ووعيده وتهديده، وأوامره ونواهيه [88/أ] وخطابه الذي يشبه الصواعق. فحالُهم كحال من أصابه مطرٌ فيه ظلمة ورعد وبرق، فلِضعفِه وخوَرِه جعل إصبعيه في أذنيه، وغمَّض عينيه خشيةً من صاعقةٍ تصيبه.
وقد شاهدنا نحن وغيرنا كثيرًا من مخانيث تلاميذ الجهمية والمبتدعة، إذا سمعوا شيئًا من آياتِ الصفات وأحاديثِ الصفات المنافيةِ لبدعتهم رأيتَهم عنها معرضين، {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 50 - 51]. ويقول مخنثهم: سُدُّوا عنَّا هذا الباب، واقرؤوا شيئًا غير هذا. وترى
(1)
ع: "خالفوا"، تصحيف. وقد سقط منها:"وآمنوا به".
(2)
ع: "لصحتهم"، تصحيف. وفي النسخ المطبوعة:"لصحبتهم".
قلوبهم مولِّيَةً، وهم يجمحون، لثقل معرفة الربِّ تعالى وأسمائه وصفاته على عقولهم وقلوبهم. وكذلك المشركون على اختلاف شركهم، إذا جُرِّد لهم التوحيدُ، وتُليت عليهم نصوصُه
(1)
المبطِلةُ شركَهم
(2)
، اشمأزَّتْ قلوبهم، وثقُل
(3)
عليهم، ولو وجدوا السبيل إلى سدِّ آذانهم لفعلوا. وكذلك تجد أعداء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا نصوص الثناء على الخلفاء الراشدين وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقل ذلك عليهم جدًّا، وأنكرته قلوبهم. وهذا كلُّه شبَه ظاهر، ومثلٌ محقَّق من إخوانهم من المنافقين في المثل الذي ضربه الله لهم بالماء، فإنهم لمّا تشابهت قلوبهم تشابهت أعمالهم.
فصل
وقد ذكر الله المثلين المائي والناري في سورة الرعد
(4)
، ولكن في حقِّ المؤمنين؛ فقال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ
(5)
عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ [88/ب] مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ
(1)
يعني: "نصوص التوحيد". وفي النسخ المطبوعة: "النصوص".
(2)
ت: "لشركهم"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
في النسخ المطبوعة: "ثقلت"، ولعله تصرف من بعض الناشرين.
(4)
انظر في المثلين: "إغاثة اللهفان"(1/ 31) و"طريق الهجرتين"(1/ 222 - 223) و"مفتاح دار السعادة"(1/ 164 - 166، 352) و"الوابل الصيب"(ص 133 - 134، 143).
(5)
س، ح:"توقدون". وهي قراءة أبي عمرو، وبها قرأ الحرميان وابن عامر. انظر:"الإقناع" لابن الباذش (2/ 675).
فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17].
شبَّه
(1)
الوحيَ الذي أنزله لحياة القلوب والأسماع والأبصار بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات، وشبَّه القلوب
(2)
بالأودية. فقلبٌ كبيرٌ يسع علمًا عظيمًا كواد كبير يسع ماءً كثيرًا، وقلبٌ صغيرٌ إنما يسع بحسَبه كالوادي الصغير، فسالت أوديةٌ بقدرها، واحتملت قلوبٌ من الهدى والعلم بقدرها.
وكما أنّ السَّيل إذا خالط الأرضَ ومرَّ عليها احتمل غثاءً وزَبَدًا، فكذلك الهدى والعلم إذا خالط القلوبَ أثار ما فيها من الشهوات والشبهات ليقلعها ويُذهبها، كما يثير الدواءُ وقتَ شُربه من البدن أخلاطه
(3)
، فيتكرَّب
(4)
بها شاربُه. وهي من تمام نفع الدواء، فإنه أثارها ليذهب بها، فإنه لا يجامعها ولا
(1)
في المطبوع: "فشبَّه".
(2)
"والأسماع
…
القلوب" ساقط من ت. وكذا كان ساقطًا من ح ولكن استدرك عند المقابلة.
(3)
وهي أخلاط أربعة في النظام الطبي القديم: الدم والبلغم والصفراء والسوداء.
(4)
كذا في جميع النسخ. وفي النسخ المطبوعة: "فيتكدَّر"، والظاهر أنه من إصلاح بعض الناشرين. والكرب والإكراب والتكرب من الألفاظ الكثيرة الدوران في كتب الطب في هذا السياق. ومنه قول ابن النفيس في كتابه "الشامل في الصناعة الطبية" (2/ 299) في وصف الأسطوخوذُس:"يُكثِر تكرُّبَ المحرورين والصفراويين وذلك لأجل زيادته في سوء مزاجهم". ويقول ابن البيطار في "الجامع"(1/ 25) عن الدواء نفسه: "يُكْرِبُ أصحابَ المرّة الصفراء ويقيِّئهم ويعطِّشهم". وفي "الحاوي في الطب"(2/ 307): "فإن الدواء إذا لقي طبيعةً يابسةً قويةً أكرَبَ، وأمغَصَ، وقلَّ فعلُه
…
".
يُساكنها
(1)
. وهكذا يضرب الله الحقَّ والباطل.
ثم ذكر المثل الناري فقال: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ
(2)
عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} وهو الخَبَث الذي يخرج عند سَبْك الذهب والفضة والنحاس والحديد، فتُخرجه النار، وتميِّزه، وتفصله عن الجوهر الذي يُنتفَع به، فيُرمى ويُطرَح ويذهب جُفاءً. فكذلك الشهوات والشبهات يرميها قلبُ المؤمن ويطرحها ويجفوها، كما يطرح السيلُ والنارُ ذلك الزَّبد والغثاء والخبث، ويستقرُّ في قرار الوادي الماءُ الصافي الذي يستقي منه الناس، ويزرعون، ويسقون أنعامهم. [89/أ] كذلك يستقِرُّ في قرار القلب وجِذْره الإيمانُ الخالص الصافي الذي ينفع صاحبَه وينتفع به غيرُه. ومن لم يفقه هذين المثلين، ولم يتدبَّرهما ويعرِفْ ما يراد منهما، فليس من أهلهما. والله الموفق.
فصل
شبَّه سبحانه الحياة الدنيا في أنها تتزيَّن في عين الناظر، فتروقه بزينتها وتُعجِبه، فيميل إليها ويهواها اغترارًا منه بها، حتّى إذا ظنَّ أنه مالكٌ لها قادرٌ
(1)
ت: "يشاركها"، وكذا في الطبعات القديمة.
(2)
وهنا أيضًا في س، ح:"توقدون" على قراءة أبي عمرو، كما سبق.
عليها سُلِبَها بغتةً أحوجَ ما كان إليها، وحيل بينه وبينها. فشبَّهها بالأرض التي ينزل الغيثُ عليها فتُعْشِب، ويحسُن نباتها، ويروق منظرها للناظر، فيغترُّ به، ويظنُّ أنه قادر عليها، مالك لها. فيأتيها أمرُ الله، فتدرك نباتَها الآفةُ بغتةً، فتصبح كأن لم تكن قبل، فيخيب ظنُّه، وتصبح يداه صفرًا منها. فهكذا حال الدنيا والواثقِ بها سواء. وهذا من أبلغ التشبيه والقياس. ولما كانت الدنيا عرضةً لهذه الآفات، والجنةُ سليمةً منها، قال:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]
(1)
. فسمَّاها هنا "دار السلام" لسلامتها من هذه الآفات التي ذكرها في الدنيا، فعمَّ بالدعوة إليها، وخصَّ بالهداية من يشاء. فذاك عدلُه، وهذا فضلُه
(2)
.
فصل
[89/ب] ومنها: قوله تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [هود: 24]. فإنه سبحانه ذكر الكفار، ووصفهم بأنهم ما كانوا يستطيعون السمعَ وما كانوا يبصرون. ثم ذكر المؤمنين، ووصفهم بالإيمان والعمل الصالح والإخبات إلى ربِّهم، فوصفهم بعبودية الظاهر والباطن. جعل
(3)
أحد الفريقين كالأعمى والأصمِّ من حيث كان قلبه أعمى عن رؤية الحق، أصمَّ عن سماعه؛ فشبَّهه بمن بصرُه أعمى عن رؤية الأشياء، وسمعُه أصمُّ عن سماع الأصوات. والفريق الآخر
(1)
"ويهدي
…
" إلخ من ت وحدها. وستأتي الإشارة إليه في كلام المصنف.
(2)
وانظر: "عدة الصابرين"(ص 334 - 335).
(3)
في النسخ المطبوعة: "وجعل". ولم ترد الواو في شيء من النسخ المعتمدة.
بصير القلب سميعه، كبصير العين وسميع الأذن. فتضمَّنت الآية قياسين وتمثيلين للفريقين، ثم نفى التسوية عن الفريقين بقوله:{هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} .
ومنها: قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت: 41] فذكر سبحانه أنهم ضعفاء، وأن الذين اتخذوهم أولياءَ أضعفُ منهم؛ فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت اتخذت بيتًا، وهو أوهن البيوت وأضعفها.
وتحت هذا المثل أنَّ هؤلاء المشركين أضعفُ ما كانوا حين اتخذوا من دون الله أولياء، فلم يستفيدوا بمن اتخذوهم أولياء إلا ضعفًا، كما قال تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81 - 82]، وقال تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ [90/أ] نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [يس: 74 - 75]. وقال بعد أن ذكر إهلاك الأمم المشركين: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101].
فهذه أربعة مواضع في القرآن تدل على أن من اتخذ من دون الله وليًّا يتعزَّز به، ويتكثَّر
(1)
به، ويستنصر به= لم يحصل له به إلا ضدُّ مقصوده. وفي
(1)
في النسخ المطبوعة: "يتكبَّر".
القرآن أكثر من ذلك. وهذا من أحسن الأمثال وأدلِّها على بطلان الشرك وخسارة صاحبه وحصوله على ضد مقصوده.
فإن قيل: فهم يعلمون أن أوهن البيوت بيت العنكبوت، فكيف نفى عنهم علمَ ذلك بقوله:{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .
فالجواب أنه سبحانه لم ينفِ عنهم علمَهم بوهن بيت العنكبوت، وإنما نفى عنهم علمَهم بأنَّ اتخاذَهم أولياء من دونه كالعنكبوت اتخذت بيتًا، فلو علموا ذلك لما فعلوه، ولكن ظنُّوا أنّ اتخاذهم الأولياء من دونه يفيدهم عزًّا، وقوّةً، فكان الأمر بخلاف ما ظنّوه.
فصل
ذكر [90/ب] سبحانه للكافرين مثلين
(1)
: مثلًا بالسراب، ومثلًا بالظلمات المتراكمة. وذلك لأنَّ المُعرِضين عن الهدى والحق نوعان: أحدهما: من يظن أنه على شيء، فتبيَّن
(2)
له عند انكشاف الحقائق خلافُ ما
(1)
وانظر في تفسير المثلين أيضًا: "اجتماع الجيوش الإسلامية"(ص 27 - 39).
(2)
ع: "فيبين"، تصحيف. وفي س:"فيتبيَّن"، وكذا في النسخ المطبوعة.
كان يظنه. وهذه حال أهل الجهل وأهل البدع والأهواء الذين يظنون أنهم على هدًى وعلم، فإذا انكشفت الحقائق تبيَّن لهم أنهم لم يكونوا على شيء، وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتَّبت عليها كانت كسرابٍ
(1)
يُرَى في عين الناظر ماءً، ولا حقيقة له. وهكذا الأعمال التي لغير الله وعلى غير أمره، يحسبها العامل نافعةً له، وليست كذلك. وهذه هي الأعمال التي قال الله عز وجل فيها:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23].
وتأمَّلْ جَعْلَه
(2)
سبحانه السَّرابَ بالقيعة، وهي الأرض القفر الخالية من البناء والشجر والنبات والعالم. فمحلُّ السراب أرض قفر لا شيء بها، والسراب لا حقيقة له. وذلك مطابق لأعمالهم وقلوبهم التي أقفرت من الإيمان والهدى.
وتأمَّل ما تحت قوله: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} . والظمآن: الذي قد اشتدَّ عطشُه، فرأى السرابَ، فظنَّه ماءً، فتبِعه، فلم يجده شيئًا، بل خانه أحوجَ ما كان إليه. فكذلك هؤلاء، لما كانت أعمالهم على غير طاعة الرسل
(3)
ولغير الله جُعِلَتْ كالسراب، فرُفِعَتْ لهم أظمأَ ما كانوا، وأحوجَ ما كانوا إليها، فلم يجدوا شيئًا؛ ووجدوا الله سبحانه ثَمَّ، فجازاهم بأعمالهم، ووفَّاهم حسابهم.
وفي "الصحيح"
(4)
من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في
(1)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة: "بقيعة".
(2)
ع: "جعله الله" ولعل الناسخ ظنَّه فعلًا ماضيًا. وفي طرّتها: "ظ تشبيه" يعني أن "جعله" محرَّف عن "تشبيه". وكذا أثبت في المطبوع: "تشبيه الله".
(3)
في النسخ المطبوعة: "الرسول".
(4)
أخرجه البخاري (7439) ومسلم (183).
حديث التجلِّي يوم القيامة: "ثم يؤتى بجهنَّم [91/أ] تُعرَض كأنها السَّراب. فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنَّا نعبد عزيرَ بن الله. فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد؛ فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا. فيقال: اشربوا. فيتساقطون في جهنم. ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنَّا نعبد المسيح بن الله. فيقال لهم: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد؛ فما تريدون: فيقولون: نريد أن تسقينا. فيقال لهم: اشربوا، فيتساقطون" وذكر الحديث.
وهذه حال كلِّ صاحبِ باطل، فإنه يخونه باطلُه أحوجَ ما كان إليه، فإن الباطل لا حقيقة له، وهو كاسمه باطل. فإذا كان الاعتقاد غير مطابق ولا حقٍّ كان متعلقه باطلًا، وكذلك إذا كانت غاية العمل باطلة ــ كالعمل لغير الله، أو على غير أمره ــ بطل العملُ ببطلان غايته. وتضرَّر عاملُه ببطلانه، وبحصول ضدِّ ما كان يؤمِّله. فلم يذهب عليه عمله واعتقاده، لا له ولا عليه، بل صار معذَّبًا بفوات نفعه، وبحصول ضدِّ النفع. فلهذا قال تعالى:{وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39]. فهذا مثل الضالِّ الذي يحسب أنه على هدى.
فصل
والنوع الثاني: أصحاب مثل الظلمات المتراكمة. وهم الذين عرفوا الحق والهدى، وآثروا عليه ظلمات الباطلِ والضلال، فتراكمت عليهم ظلمةُ الطبع، وظلمةُ النفوس، وظلمةُ الجهل ــ حيث لم يعملوا بعلمهم، فصاروا جاهلين ــ وظلمةُ اتباع الغي والهوى. فحالهم كحال من كان في بحر لُجِّيٍّ لا ساحل له، وقد غشيه موجٌ، ومن فوق ذلك الموج موجٌ، ومن فوقه سحاب
[91/ب] مظلم. فهو في ظلمة البحر، وظلمة الموج، وظلمة السحاب. وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يُخرجه الله منها إلى نور الإيمان.
وهذان المثلان بالسَّرابِ الذي ظنَّه مادَّةَ الحياة وهو
(1)
الماء، والظلماتِ المضادَّة للنور= نظيرُ المثلين اللذين ضربهما الله للمنافقين والمؤمنين، وهما المثل المائي والمثل الناري، وجعل حظَّ المؤمنين منهما الحياةَ والإشراق، وحظَّ المنافقين منهما الظلمةَ المضادَّةَ للنور، والموتَ المضادَّ للحياة؛ فكذلك الكفارُ في هذين المثلين، حظُّهم من الماء السرابُ الذي يغُرُّ الناظرَ ولا حقيقة له، وحظُّهم الظلمات المتراكمة.
وهذا يجوز أن يكون المراد به حال كلِّ طائفة من طوائف الكفار، وأنهم عدِموا مادةَ الحياة والإضاءة بإعراضهم عن الوحي؛ فيكون المثلان صفتين لموصوف واحد. ويجوز أن يكون المراد به تنويع أحوال الكفار، وأن أصحاب المثل الأول هم الذين عملوا على غير علم ولا بصيرة، بل على جهل وحسن ظن بالأسلاف، فكانوا يحسبون أنهم يُحسنون صنعًا. وأصحاب المثل الثاني هم الذين استحبُّوا الضلالة على الهدى، وآثروا الباطل على الحق، وعَمُوا عنه بعد أن أبصروه، وجحدوه بعد أن عرفوه. فهذا حال المغضوب عليهم، والأول حال الضالِّين. وحال الطائفتين مخالف لحال المنعم عليهم المذكورين في قوله:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} إلى قوله: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 35 - 38]. فتضمَّنت الآيات
(1)
في المطبوع: "هما"، وهو خطأ.
أوصاف الفِرَق الثلاثة
(1)
: المنعَم [92/أ] عليهم وهم أهل النور، والضالين وهم أصحاب السَّراب، والمغضوب عليهم وهم أهل الظلمات المتراكمة. والله أعلم.
فالمثل الأول من المثلين لأصحاب العمل الباطل الذي لا ينفع، والمثل الثاني لأصحاب العلوم والنظر والأبحاث التي لا تنفع. فأولئك أصحاب العمل الباطل، وهؤلاء أصحاب العلم الذي لا ينفع والاعتقادات الباطلة، وكلاهما مضاد للهدى ودين الحق. ولهذا مثَّل حالَ الفريق الثاني في تلاطُم أمواج الشكوك والشبهات والعلوم الفاسدة في قلوبهم، بتلاطم أمواج البحر فيه، وأنها أمواج متراكمة من فوقها سحاب مظلم. وهكذا أمواج الشكوك والشُّبَه في قلوبهم المظلمة التي قد تراكمت عليها سُحُبُ الغيِّ والهوى والباطل. فليتدبَّر اللبيب أحوال الفريقين، وليطابق بينهما وبين المثلين، يعرِفْ عظمةَ القرآن وجلالتَه، وأنه تنزيل من حكيم حميد.
وأخبر سبحانه أنَّ الموجِبَ لذلك أنه لم يجعل لهم نورًا، بل تركهم على الظلمة التي خُلِقوا فيها، فلم يُخرجهم منها إلى النور؛ فإنه سبحانه وليُّ الذين آمنوا يُخْرِجهم من الظلمات إلى النور. وفي "المسند"
(2)
من حديث عبد الله بن عمرو
(3)
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله خلَق خَلْقَه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضلَّ".
(1)
كذا في النسخ موضع "الثلاث"، وهو جائز في الوصف.
(2)
(6644، 6854 م)، والترمذي (2642)، وقال: هذا حديث حسن.
وصححه ابن حبان (3866)، والحاكم (1/ 30 - 31).
(3)
في النسخ الخطية جميعًا: "عبد الله بن عمر"، وهو خطأ.
فلذلك أقول: جفَّ القلمُ على علم الله، فالله سبحانه خلق الخلق في ظلمة، فمن أراد هدايته جعل له نورًا وجوديًّا يُحيي به قلبه وروحه، كما يحيي بدنه [92/ب] بالروح التي ينفخها فيه. فهما حياتان: حياة البدن بالروح، وحياة الروح والقلب بالنور. ولهذا سمَّى سبحانه الوحي "روحًا" لتوقُّف الحياة الحقيقية عليه، كما قال تعالى:{يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2]، وقال:{يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15]، وقال:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]. فجعل وحيه روحًا ونورًا، فمن لم يُحْيِه بهذا الروح فهو ميِّت، ومن لم يجعل له نورًا منه فهو في الظلمات، ما له من نور.
فصل
ومنها: قوله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]، فشبَّه أكثرَ الناس بالأنعام، والجامعُ بين النوعين التساوي في عدم قبول الهدى والانقياد له. وجعل الأكثرين أضلَّ سبيلًا من الأنعام، لأن البهيمة يهديها سائقها، فتهتدي وتتبع الطريق، فلا تحيد عنها يمينًا ولا شمالًا. والأكثرون يدعوهم الرسل، ويهدونهم السبيلَ، فلا يستجيبون، ولا يهتدون، ولا يفرِّقون بين ما يضرُّهم وبين ما ينفعهم. والأنعام تفرِّق بين ما يضرُّها من النبات والطريق فتجتنبه، وما ينفعها فتؤثره. والله تعالى لم يخلق للأنعام قلوبًا تعقل بها، ولا ألسنةً تنطق بها؛ وأعطى ذلك لهؤلاء، ثم لم ينتفعوا بما جعل لهم من العقول والقلوب والألسنة والأسماع والأبصار، فهم أضلُّ من البهائم. فإن من لا
يهتدي إلى الرشد [93/أ] وإلى الطريق مع الدليل إليه أضلُّ وأسوأ حالًا ممن لا يهتدي حيث لا دليل معه.
فصل
ومنها: قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 28]، وهذا دليل قياسي
(1)
احتجَّ الله سبحانه به على المشركين حيث جعلوا له من عبيده وملكه شركاء، فأقام عليهم حجةً يعرفون صحتها من نفوسهم، لا يحتاجون فيها إلى غيرهم. ومن أبلغ الحِجاج أن يأخذ
(2)
الإنسانَ من نفسه، ويحتجَّ عليه بما هو في نفسه، مقرَّرٌ عندها، معلومٌ لها؛ فقال: هل لكم مما ملكت أيمانكم من عبيدكم وإمائكم شركاءُ في المال والأهل؟ أي هل يشارككم عبيدكم في أموالكم وأهليكم، فأنتم وهم في ذلك سواء، تخافون أن يقاسموكم أموالكم ويشاطروكم إياها، ويستأثرون ببعضها عليكم، كما يخاف الشريك شريكه؟ وقال ابن عباس: تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضًا
(3)
.
والمعنى: هل يرضى أحد منكم أن يكون عبدُه شريكَه في ماله وأهله حتى يساويه في التصرف في ذلك، فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرَّف
(1)
ع: "قياس". وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
في المطبوع وحده: "يؤخذ".
(3)
رواه ابن جرير في "جامع البيان"(18/ 490)، وفي سنده ضعفٌ وانقطاع.
فيه، كما يخاف غيره من الشركاء والأحرار؟ فإذا لم ترضَوا ذلك لأنفسكم، فلِمَ عدلتم بي مِن خلقي مَن هو مملوك لي؟ فإن كان هذا الحكم باطلًا
(1)
في فِطَركم وعقولكم، مع أنه جائز عليكم، ممكن في حقِّكم؛ إذ ليس عبيدكم ملكًا لكم حقيقةً، وإنما هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، وأنتم وهم عباد
(2)
لي= فكيف تستجيزون [93/ب] مثل هذا الحكم في حقِّي، مع أنَّ مَن جعلتموهم لي شركاءَ عبيدي وملكي وخلقي؟ فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول
(3)
.
فصل
هذان مثلان متضمِّنان قياسين من قياس العكس، وهو نفيُ الحكم لنفي علّتِه وموجِبه. فإن القياس نوعان: قياس طرد يقتضي إثباتَ الحكم في الفرع لثبوت علة الأصل فيه، وقياس عكس يقتضي نفيَ الحكم عن الفرع لنفي علَّةِ الحكم فيه.
(1)
ح، ف:"فإنَّ هذا الحكم باطل".
(2)
في النسخ المطبوعة: "عبيد".
(3)
وانظر: "الداء والدواء"(ص 320) و"مدارج السالكين"(1/ 254).
فالمثل الأول ما ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان. فالله سبحانه هو المالك لكلِّ شيء، يُنفِق كيف يشاء على عبيده سرًّا وجهرًا وليلًا ونهارًا، يمينه ملأى لا يغيضها نفقةٌ، سحَّاءُ الليلَ والنهارَ
(1)
. والأوثان مملوكة عاجزة، لا تقدر على شيء. فكيف تجعلونها شركاء لي، وتعبدونها من دوني، مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين؟ هذا قول مجاهد
(2)
وغيره.
وقال ابن عباس: هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، ومثَّل المؤمنَ في الخير الذي عنده بمن رزَقه منه رزقًا
(3)
حسنًا، فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرًّا وجهرًا. والكافر بمنزلة عبد مملوك عاجز لا يقدر على شيء، لأنه لا خير عنده. فهل يستوي الرجلان [94/أ] عند أحد من العقلاء؟
(4)
.
والقول الأول أشبه بالمراد، فإنه أظهر في بطلان الشرك، وأوضح عند المخاطب، وأعظم في إقامة الحجة، وأقرب نسبًا بقوله:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 73 - 74].
ثم قال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ}
(5)
[النحل: 75] ومن لوازم هذا المثل وأحكامه أن يكون المؤمن الموحِّد كمن رزقه منه رزقًا
(1)
كما في حديث أبي هريرة، أخرجه البخاري (4684) ومسلم (993).
(2)
رواه ابن جرير في "جامع البيان"(14/ 311) من طريقين عن مجاهد.
(3)
ع: "عنده ثم رزقًا"، سقط وتصحيف.
(4)
رواه ابن جرير في "جامع البيان"(14/ 308) بنحوه مختصرًا.
(5)
كذا ورد هذا الجزء من الآية المذكورة في النسخ. وفي النسخ المطبوعة وردت تكملته: "على شيء" أيضًا.
حسنًا، والكافر المشرك
(1)
كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء. فهذا مما نبَّه عليه المثلُ وأرشد إليه. فذكره ابن عباس منبِّهًا
(2)
على إرادته لا أن الآية اختصَّت به، فتأمَّلْه؛ فإنك تجده كثيرًا في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرآن، فيظنّ الظانُّ أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره، فيحكيه قولَه.
فصل
وأما المثل الثاني، فهو مثل ضربه الله لنفسه ولما يُعبد من دونه أيضًا. فالصنم الذي يُعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم لا يعقل ولا ينطق، بل هو أبكم القلب واللسان، قد عدِمَ النطقَ القلبي واللساني، ومع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتة؛ ومع هذا فأينما أرسلتَه لا يأتيك بخير، ولا يقضي لك حاجة. والله تعالى حيٌّ قادر متكلم، يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم. وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد، فإنَّ أمرَه بالعدل ــ وهو الحق ــ يتضمَّن أنه سبحانه عالم به، معلِّم له، راضٍ به، آمرٌ لعباده به، محِبٌّ لأهله، لا يأمر بسواه. بل تنزَّه [94/ب] عن ضدِّه الذي هو الجور والظلم والسفه والباطل. بل أمرُه وشرعُه عدلٌ كلُّه، وأهلُ العدل هم أولياؤه وأحباؤه، وهم المجاورون له عن يمينه على منابر من نور
(3)
.
وأمرُه بالعدل يتناول الأمرَ الشرعي الديني والأمرَ القدري الكوني، وكلاهما عدل لا جور فيه بوجهٍ ما، كما في الحديث الصحيح: "اللهم إني
(1)
ت: "والمشرك الكافر".
(2)
زاد في المطبوع بعده: "به".
(3)
كما في حديث عبد الله بن عمرو في "صحيح مسلم"(1827).
عبدُك، ابنُ عبدك، ابنُ أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤك"
(1)
. فقضاؤه هو أمره الكوني، فإنما أمرُه إذا أراد شيئًا أن يقول له:"كن"، فيكون؛ فلا يأمر إلا بحق وعدل. وقضاؤه وقدره القائم به حق وعدل، وإن كان في المقضيِّ المقدَّر ما هو جور وظلم، فالقضاء غير المقضي، والقدر غير المقدر.
ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم. وهذا نظير قول رسوله شعيب
(2)
: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]. فقوله: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} نظير قوله: "ناصيتي بيدك"، وقوله:{إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} نظير قوله: "عدلٌ فيَّ قضاؤك"
(3)
. فالأول ملكه، والثاني حمده؛ وهو سبحانه له الملك وله الحمد.
(1)
رواه أحمد (3712، 4318) من حديث ابن مسعود مرفوعا. وصححه ابن حبان (1757)، وقال الحاكم (1/ 509 - 510):"صحيح على شرط مسلم، إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه؛ فإنه مُختلَفٌ في سماعه من أبيه". ووازن بما في "العلل" للدارقطني (5/ 200).
(2)
كذا في جميع النسخ الخطية هنا وفيما بعد، غير أن بعض القراء طمسه هنا في ح وكتب فوقه:"هود" وفي الموضع الآتي ضرب عليه، وكتب في الطرة. وفي ف شطبه هنا، وطمسه فيما بعد. وكذا وقع في "روضة المحبين"(ص 95) و"مفتاح دار السعادة"(2/ 1058)، فهو وهم من المصنف رحمه الله. وجاء على الصواب في "زاد المعاد"(4/ 190) و"شفاء العليل"(ص 87، 201، 275) و"الداء والدواء"(ص 480) وغيره.
(3)
وانظر: "زاد المعاد"(4/ 190) و"شفاء العليل"(ص 275) و"الفوائد"(ص 33).
وكونه سبحانه على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق، ولا يأمر إلا بالعدل، ولا يفعل إلا ما هو مصلحة ورحمة
(1)
وحكمة وعدل. فهو على الحق في أقواله وأفعاله، فلا يقضي على العبد ما
(2)
يكون ظالمًا له به، ولا يأخذه بغير ذنب
(3)
، ولا ينقصه من حسناته شيئًا، ولا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها [95/أ] ولم يتسبَّب إليها شيئًا، ولا يؤاخذ أحدًا بذنب غيره، ولا يفعل قطُّ
(4)
ما لا يُحمَد عليه، ويُثنَى به عليه، ويكون له فيه العواقب الحميدة والغايات المطلوبة؛ فإن كونه على صراط مستقيم يأبى ذلك كلَّه.
قال محمد بن جرير الطبري
(5)
: وقوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، يقول: إن ربي على طريق الحق، يجازي المحسنَ من خلقه بإحسانه، والمسيء بإساءته، لا يظلم أحدًا منهم شيئًا، ولا يقبل منهم إلا الإسلام له
(6)
، والإيمان به".
ثم حكى
(7)
عن مجاهد من طريق شبل عن ابن أبي نجيح عنه: {إِنَّ
(1)
"ورحمة" ساقط من ع، وكذا من الطبعات القديمة.
(2)
في النسخ المطبوعة: "بما".
(3)
ع: "ذنبه"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(4)
"قطُّ" هنا في غير موضعه، فهو ظرف خاص بالزمان الماضي، وقد سبق مثله.
(5)
في تفسيره (15/ 364 - شاكر).
(6)
"له" لم يرد في تفسير الطبري المطبوع.
(7)
ورواه أيضًا (12/ 450) من طريق عيسى (وهو ابن ميمون)، عن ابن أبي نجيح به. ورواه آدم بن أبي إياس في "التفسير"(ص 389) عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح به.
رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قال: الحق. وكذلك رواه ابن جريج عنه
(1)
.
وقالت فرقة: هي مثل قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]، وهذا اختلاف عبارة، فإنَّ كونه بالمرصاد هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
وقالت فرقة: في الكلام حذف، تقديره: إنّ ربِّي يحثُّكم على صراط مستقيم، ويحضُّكم عليه. وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية الذي
(2)
أريد بها فليس كما زعموا، ولا دليل على هذا المقدَّر
(3)
، وقد فرَّق سبحانه بين كونه آمرًا بالعدل وبين كونه على صراط مستقيم. وإن أرادوا أنّ حثَّه على الصراط المستقيم من جملة كونه على صراط مستقيم، فقد أصابوا.
وقالت فرقة أخرى: معنى كونه على صراط مستقيم: أنّ مردَّ العباد والأمور كلِّها إلى الله، لا يفوته شيء منها. وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية فليس كذلك، وإن أرادوا أن هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم ومن مقتضاه وموجَبه، فهو حقٌّ.
وقالت فرقة أخرى: معناه: [95/ب] كلُّ شيء تحت قدرته وقهره وفي ملكه وقبضته. وهذا وإن كان حقًّا، فليس هو معنى الآية. وقد فرَّق شعيب
(4)
بين قوله: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} وبين قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ
(1)
رواه سُنيد بن داود في "التفسير" ــ ومن طريقه ابن جرير (12/ 450) ــ عن حجاج (وهو المصيصي)، عن ابن جريج به.
(2)
ع: "التي"، وكذا في النسخ المطبوعة، وهو خطأ.
(3)
ت: "التقدير".
(4)
كذا وقع في النسخ، والصواب:"هود". وراجع ما علَّقته قريبًا.
مُسْتَقِيمٍ}، فهما معنيان مستقلَّان
(1)
.
فالقول قول مجاهد، وهو قول أئمة التفسير، ولا تحتمل العربيةُ غيرَه إلا على استكراه. قال
(2)
جرير يمدح عمر بن عبد العزيز
(3)
:
أميرُ المؤمنين على صراطٍ
…
إذا اعوجَّ المواردُ مستقيم
وقد قال تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]. وإذا كان سبحانه هو الذي جعل رسله وأتباعهم على الصراط المستقيم في أقوالهم وأفعالهم، فهو سبحانه أحقُّ بأن يكون على الصراط المستقيم
(4)
في قوله وفعله. وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة أمره، فصراطه الذي هو سبحانه عليه هو
(5)
ما يقتضيه حمده وكماله ومجده من قول الحق وفعله
(6)
. وبالله التوفيق.
(1)
راجع أقوال المفسرين في "النكت والعيون" للماوردي (2/ 472) و"التفسير البسيط" للواحدي (11/ 449 - 450) و"زاد المسير"(2/ 380)، ففيها قولان لم يشر إليهما المصنف. وبعض الأقوال المذكورة هنا أصلها قول واحد.
(2)
في النسخ المطبوعة: "وقال".
(3)
كذا قال في "شفاء العليل"(ص 201) أيضًا، والصواب أن الممدوح هشام بن عبد الملك. وقد أنشده المؤلف في "بدائع الفوائد"(2/ 417) دون عزو ودون ذكر الممدوح. وهو من قصيدة في "ديوان جرير"(1/ 218). والبيت من شواهد "مجاز القرآن"(1/ 24) و"تفسير الطبري"(1/ 170 - شاكر).
(4)
ع: "صراط مستقيم"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(5)
ع: "هو عليه سبحانه".
(6)
وانظر في تفسير الآية أيضًا: "الداء والدواء"(ص 284، 480 - 481)، و"شفاء العليل"(ص 87، 201) و"الفوائد"(ص 33) و"مفتاح دار السعادة"(2/ 1058 - 1059). وقد أحال المصنف في "بدائع الفوائد"(1/ 209) لبيان أسرار كونه سبحانه على صراط مستقيم، على كتابه "التحفة المكية".
فصل
وفي الآية
(1)
قول ثان مثل الآية الأولى سواء: أنه مثلٌ ضربه الله للمؤمن والكافر. وقد تقدَّم ما في هذا القول. والله الموفِّق
(2)
.
فصل
ومنها: قوله تعالى في تشبيه من أعرض عن كلامه وتدبُّره: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 49 - 51].
شبَّههم في إعراضهم ونفورهم عن القرآن بحُمُر رأت الأسدَ أو الرُّماةَ، ففرَّت منه. وهذا من بديع القياس التمثيلي، فإن القوم في جهلهم بما بعث الله به رسولَه كالحُمُر، فهي
(3)
لا [96/أ] تعقل شيئًا، فإذا سمعت صوت الأسد أو الرامي نفرت منه أشدَّ النفور. وهذا غاية الذمِّ لهؤلاء، فإنهم نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم وحياتهم كنفور الحُمُر عمّا يُهلكها ويَعقِرها.
(1)
يعني قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} الآية [النحل: 76]. وانظر في تفسيرها أيضًا: "مدارج السالكين"(1/ 43 - 44)، (3/ 425)، و"مفتاح دار السعادة"(2/ 1060)، و"الصواعق المرسلة"(3/ 1035).
(2)
في النسخ المطبوعة: "وبالله التوفيق".
(3)
في النسخ المطبوعة: "وهي".
وتحت "المستنفِرة" معنى أبلغ من "النافرة"، فإنها لشدة نفورها قد استنفر بعضُها بعضًا، وحضَّه على النفور. فإن في الاستفعال من الطلب قدرًا زائدًا على الفعل المجرَّد، فكأنها تواصت بالنفور، وتواطأت عليه. ومن قرأها بفتح الفاء
(1)
، فالمعنى أن القسورة استنفرها وحملها على النفور ببأسه وشدته.
فصل
ومنها: قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5].
فقاس من حمَّله سبحانه كتابَه ليؤمن به، ويتدبَّره، ويعملَ به ويدعو إليه؛ ثم خالف ذلك، ولم يحمله إلا على ظهر قلب، فقراءتُه بغير تدبُّر ولا تفهُّمٍ ولا اتباعٍ له وتحكيمٍ
(2)
له وعملٍ بموجبه= كحمارٍ، على ظهره زاملةُ أسفار لا يدري ما فيها، وحظُّه منها حملُها على ظهره ليس إلا. فحظُّه من كتاب الله كحظِّ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره
(3)
.
فهذا المثل وإن كان قد ضُرِب لليهود، فهو متناوِلٌ من حيث المعنى لمن حُمِّل القرآنَ، فترك العملَ به، ولم يؤدِّ حقَّه، ولم يَرْعَه حقَّ رعايته.
(1)
هي قراءة نافع وابن عامر من السبعة. انظر: "الإقناع" لابن الباذش (2/ 797).
(2)
في النسخ المطبوعة: "ولا تحكيم".
(3)
وانظر: "اجتماع الجيوش الإسلامية"(ص 49).
فصل
فشبَّه سبحانه من آتاه كتابه، وعلَّمه العلمَ الذي منعه غيره، فترك العملَ به، واتبع هواه، وآثر سخط الله على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق= بالكلب الذي هو من أخبث الحيوانات، وأوضعها قدرًا، وأخسِّها
(1)
نفسًا، وهمَّتُه لا تتعدَّى بطنه، وأشدِّها شرَهًا وحرصًا، ومن حرصه أنه لا يمشي إلا وخَطْمُه في الأرض يتشمَّم ويستَرْوِح حرصًا وشَرَهًا. ولا يزال يشَمُّ دُبُرَه دون سائر أجزائه، وإذا رميتَ إليه بحجر رجع إليه ليعَضَّه من فرط نهمته. وهو من أمهَنِ الحيوانات، وأحمَلِها للهوان، وأرضاها بالدنايا. والجِيَفُ القذِرةُ المُرْوِحةُ
(2)
أحبُّ إليه من اللحم الطري، والعذرةُ أحبُّ إليه من الحلوى. وإذا ظفر بميتة تكفي مائةَ كلب لم يدع كلبًا
(3)
يتناول معه
(4)
منها شيئًا إلّا عن غلبةٍ وقهرٍ
(5)
، لحرصه وبخله وشرهه. ومن عجيب
(1)
ت، ع:"أخبثها"، تصحيف.
(2)
أي المنتنة.
(3)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة "واحدًا".
(4)
لم يرد "معه" في س، وزيد في ح فوق السطر بخط دقيق.
(5)
في ع تصحف "عن" إلى "عرّ"، وكلمة "غلبة" فيها مهملة، وبعدها "قهره" فأثبت في النسخ المطبوعة:"هَرَّ عليه وقهره". والصواب ما أثبتنا من النسخ الأخرى.
أمره وحرصه أنه إذا رأى ذا هيئة رثَّة وثياب دنيّة وحال زريّة نبَحَه وحمَل عليه، كأنه يتصوَّر مشاركته له ومنازعته في قوته. وإذا رأى ذا هيئة حسنة وثياب جميلة ورياسة وضع له خَطْمَه بالأرض، وخضَع له، ولم يرفع إليه رأسه.
وفي تشبيه مَن آثر الدنيا وعاجِلَها على الله والدار الآخرة مع وفور علمه بالكلب في حال لهفه سرٌّ [97/أ] بديعٌ، وهو أنَّ هذا الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته واتباعه هواه، إنما كان لشدة لهفه على الدنيا، لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة، فهو شديدُ اللهف عليها. ولهفُه نظيرُ لهفِ الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه. واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى
(1)
.
قال ابن جريج: الكلب منقطع الفؤاد، لا فؤاد له. إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه
(2)
يلهث. فهو مثل الذي يترك الهدى، لا فؤاد له، إنما فؤاده منقطع
(3)
.
قلت: مراده بانقطاع فؤاده أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر وترك
(1)
ت: "في المعنى واللفظ".
(2)
ت، ف:"أو تتركه"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
رواه سُنيد بن داود في "التفسير" ــ ومن طريقه ابن جرير في "جامع البيان"(10/ 586) ــ عن حجاج (وهو المصيصي)، عن ابن جريج به. ورواه أيضًا ابن المنذر وأبو الشيخ، كما في "الدر المنثور" للسيوطي (6/ 679).
اللهث. وهكذا هذا
(1)
الذي انسلخ من آيات الله، لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا وتركِ اللهف عليها. فهذا يلهف على الدنيا من قلة صبره عنها
(2)
، وهذا يلهث من قلة صبره عن الماء. فالكلب من أقلِّ الحيوانات صبرًا عن الماء، وإذا عطِش أكَلَ الثَّرى من العطش، وإن كان فيه صبر على
(3)
الجوع. وعلى كلِّ حال فهو من أشدِّ الحيوانات لهثًا، يلهث قائمًا وقاعدًا وماشيًا وواقفًا. وذلك لشدة حرصه، فحرارةُ الحرص في كبده تُوجِب له دوامَ اللهث. فهكذا مشبَّهُه، شدةُ حرارة الشهوة
(4)
في قلبه توجب له دوام اللهف
(5)
، فإن حملتَ عليه بالموعظة والنصيحة فهو يلهف
(6)
، وإن تركته ولم تعظه فهو يلهف.
قال مجاهد: وذلك مثل
(7)
الذي أوتي الكتاب ولا يعمل
(8)
به
(9)
.
(1)
"هذا" ساقط من ع، وكذا من النسخ المطبوعة.
(2)
ع: "عليها".
(3)
من س، وكذا في النسخ المطبوعة. وفي غيرها:"عن".
(4)
ح، ف "شدة الشهوة". وفي النسخ المطبوعة:"شدة الحرص وحرارة الشهوة".
(5)
ح، ف:"اللهث".
(6)
ح، ف:"يلهث" هنا وفي الجملة الآتية.
(7)
ع: "مثال".
(8)
ع: "لم يعمل"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(9)
رواه آدم بن أبي إياس في "التفسير"(ص 347)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1620) من رواية ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد. ورواه ابن جرير في "جامع البيان"(10/ 586) من طريق عيسى (وهو ابن ميمون)، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، ومن طريق ابن جريج، عن مجاهد. ورواه أيضًا عبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ، كما في "الدر المنثور" للسيوطي (6/ 678).
وقال ابن عباس: إن تحمِل عليه الحكمةَ لم يحمِلها، وإن تركته لم يهتد إلى خير، [97/ب] كالكلب إن كان رابضًا لهَثَ، وإن طُرِد لهَث
(1)
.
وقال الحسن: هو المنافق لا يثبُت على الحق، دُعِيَ أو لم يُدْعَ، وُعِظ أو لم يُوعَظ، كالكلب يلهَث طُرِد أو تُرِك
(2)
.
وقال عطاء: ينبح إن حملتَ عليه أو لم تحمل عليه
(3)
.
وقال أبو محمد ابن قتيبة
(4)
: كلُّ شيء يلهَث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة، وحال الصحة وحال المرض والعطش
(5)
. فضربه الله مثلًا لمن كذَّب بآياته، وقال: إن وعظتَه
(6)
فهو ضالٌّ وإن تركتَه فهو ضالٌّ، كالكلب إن طردتَه لهَثَ، وإن تركتَه على حاله لهَثَ.
(1)
رواه ابن جرير في "جامع البيان"(10/ 587) وابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1620) من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. ورواه أيضًا ابن المنذر، كما في "الدر المنثور" للسيوطي (6/ 678).
(2)
لم أجده مسندًا عن الحسن بهذا التمام، بل رأيت أبا إسحاق الثعلبي علّقه في "الكشف والبيان"(4/ 309)، لكن روى ابن جرير في "جامع البيان" (10/ 589) من طريق قتادة عن الحسن قال: هو المنافق.
(3)
لم أره مسندًا عن عطاء، بل رأيت أبا إسحاق الثعلبي علّقه في "الكشف والبيان"(4/ 309).
(4)
في "تأويل مشكل القرآن"(ص 369 - 370)، ولكن المصنف ينقل من "الكشف والبيان" للثعلبي (4/ 309).
(5)
في "تأويل المشكل": "وحال الرِّيِّ وحال العطش". وكذا فيما نقله المصنف عن ابن قتيبة في "الفوائد"(ص 149). ولعل كلمة "الري" كانت مطموسة في نسخة "الكشف والبيان"، فأثبت ناشره بين معقوفتين:"الجوع".
(6)
تحرَّف "إن وعظته" في ع إلى "ابن عطية"!
ونظيره قوله سبحانه: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193].
وتأمَّلْ ما في هذا المثل من الحِكَم والمعنى. فمنها: قوله: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} ، فأخبر سبحانه أنه هو الذي آتاه آياته، فإنها نعمة، والله هو الذي أنعم بها عليه، فأضافها إلى نفسه. ثم قال:{فَانْسَلَخَ مِنْهَا} أي خرج منها كما تنسلخ الحيَّةُ من جِلدها، وفارقها فراقَ الجلدِ يُسلَخ عن اللحم. ولم يقل:"فسلخناه منها"، لأنه هو الذي تسبَّب إلى انسلاخه منها باتباع هواه.
ومنها: قوله سبحانه: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} ، أي لحقه وأدركه، كما قال تعالى في قوم فرعون:{فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء: 60]. وكان محفوظًا محروسًا بآيات الله، محميَّ الجانب بها من الشيطان، لا ينال منه شيئًا إلا على غِرَّة وخَطْفة. فلما انسلخ من آيات الله ظفر به الشيطانُ ظفَرَ الأسد بفريسته، فكان من الغاوين العاملين بخلاف [98/أ] علمهم، الذين يعرفون الحق ويعملون بخلافه، كعلماء السوء.
ومنها: أنه سبحانه قال: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} ، فأخبر سبحانه أن الرِّفعة عنده ليست بمجرَّد العلم، فإن هذا كان من العلماء؛ وإنما هي باتباع الحق وإيثاره وقصد مرضاة الله. فإنَّ هذا كان من أعلم أهل زمانه، ولم يرفعه الله بعلمه ولم ينفعه به. فنعوذ بالله من علم لا ينفع. وأخبر سبحانه أنه هو الذي يرفع عبده إذا شاء بما آتاه من العلم، وإن لم يرفعه الله فهو موضوع لا يرفع أحدٌ به رأسًا؛ فإنَّ الخافض الرافع ــ سبحانه ــ خفَضَه ولم يرفعه. والمعنى: لو شئنا فضَّلناه، وشرَّفناه، ورفعنا قدره ومنزلته بالآيات التي آتيناه.
قال ابن عباس: ولو شئنا لرفعناه بعلمه بها
(1)
.
وقالت طائفة: الضمير في قوله: {لَرَفَعْنَاهُ} عائد على الكفر، والمعنى: لو شئنا لرفعنا عنه الكفرَ بما معه من آياتنا. قال مجاهد
(2)
وعطاء
(3)
: لرفعنا عنه الكفر بالإيمان
(4)
، وعصمناه. وهذا المعنى حقٌّ، والأول هو مراد الآية، وهذا من لوازم المراد. وقد تقدَّم
(5)
أن السلف كثيرًا ما ينبِّهون على لازم معنى الآية، فيظنّ الظانُّ أن ذلك هو المراد منها.
وقوله: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} .
قال سعيد بن جبير: رَكَن إلى الأرض
(6)
.
(1)
رواه سُنيد بن داود في "التفسير" ــ ومن طريقه ابن جرير في "جامع البيان"(10/ 582) عن حجاج (وهو المصيصي)، عن ابن جريج عن ابن عباس، وهو منقطع.
(2)
رواه آدم بن أبي إياس في "التفسير"(ص 347)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1619) من رواية ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد. ورواه ابن جرير في "جامع البيان"(10/ 583) من طريق عيسى (وهو ابن ميمون)، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، ومن طريق ابن جريج، عن مجاهد.
(3)
لم أره مسندا عن عطاء، بل رأيت أبا إسحاق الثعلبي علّقه عنه في "الكشف والبيان"(4/ 308).
(4)
كذا في النسخ الخطية والمطبوعة. وفي "الكشف والبيان" المطبوع (4/ 308) ــ ومنه ينقل المؤلف ــ: "بالآيات". وكذا في "تفسير البغوي"(3/ 304).
(5)
في (1/ 325).
(6)
رواه ابن جرير في "جامع البيان"(10/ 584)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1619).
وقال مجاهد: سكن
(1)
.
وقال مقاتل
(2)
: رضي بالدنيا.
وقال أبو عبيدة
(3)
: لزمها، وأبطأ. والمُخْلِد من الرجال: هو الذي يبطئ مشيبُه
(4)
، ومن الدواب: التي
(5)
تبقى ثناياه إلى أن تخرج رَباعيته
(6)
.
وقال الزجاج: خلد وأخلد [واحد]
(7)
. وأصله من الخلود وهو الدوام
(1)
رواه ابن جرير في "جامع البيان"(10/ 584).
(2)
في "تفسيره"(2/ 75).
(3)
في "مجاز القرآن"(1/ 233)، والنقل من "تفسير الثعلبي".
(4)
ف: "مشيه". وفي س، ت، ع:"مشيته"، وكذا في النسخ المطبوعة، وهو تصحيف ما أثبتنا من ح. وفي "المجاز" و"تفسير الثعلبي":"شيبه". وفي "فتح الباري"(8/ 301) عن أبي عبيدة: "يقال: فلان مخلد، أي بطيء الشباب". ولا أدري أوَهم الحافظ أم أراد أن شبابه بطيء الزوال.
(5)
كذا في س، ح، ت. وكذا في "تفسير الثعلبي" الذي نقل منه المؤلف، وهذا يدل على أن في أصل المؤلف كما ورد في النسخ المذكورة. وفي (ع، ف) و"تفسير الطبري"(13/ 271 - شاكر): "الذي"، وهو الصواب.
(6)
في تفسيري الطبري والثعلبي: "رباعيتاه".
(7)
ما بين المعقوفين من "تفسير الثعلبي" و"تفسير البغوي"(3/ 304). ويظهر لي ــ والله أعلم ــ أن قول الزجاج ينتهي هنا، وما بعده من كلام الثعلبي. وقد اختصر الثعلبي قول الزجاج. ونصُّه في "معاني القرآن وإعرابه" (2/ 391):"يقال: أخلد فلان إلى كذا وكذا، وخلد إلى كذا وكذا. وأخلد أكثر في اللغة. والمعنى أنه سكن إلى لذَّات الأرض". وقال في كتابه "فعلت وأفعلت"، باب الخاء من فعلت وأفعلت والمعنى واحد (ص 72):"وخلد الرجل إلى الأرض وأخلد: إذا مال إليها ولزمها. ورجل مُخلِد: إذا أبطأ عنه الشيب".
والبقاء
(1)
، يقال: أخلد فلان [98/ب] بالمكان، إذا أقام به. قال مالك بن نويرة
(2)
:
بأبناء حيٍّ من قبائل مالكٍ
…
وعمرو بن يربوعٍ أقاموا فأخلَدوا
قلت: ومنه قوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة: 17] أي قد خلقوا للبقاء، لذلك لا يتغيَّرون ولا يكبَرون، وهم على سنٍّ واحد أبدًا. وقيل: هم المقرَّطون في آذانهم، والمسوَّرون في أيديهم. وأصحاب هذا القول فسَّروا اللفظة ببعض لوازمها
(3)
، وذلك أمارة التخليد
(4)
على ذلك السنِّ، فلا تنافي بين القولين.
(1)
في تفسيري الثعلبي والبغوي: "المقام".
(2)
من قصيدته في "الأصمعيات"(ص 193) قالها في يوم مخطَّط. وهو من شواهد الطبري والثعلبي والواحدي في "البسيط"(9/ 467).
(3)
يعني أن معنى التقريط والتسوير ليس من معاني مادة (خلد)، ولكن ذلك من لوازم كونهم مخلَّدين على ذلك السنِّ وعلاماته، ومن ثم فسَّره بعضهم بذلك. وفيه نظر، فإن معنى التقريط عندهم مأخوذ من كلمة الخَلَدة بمعنى القرط. قال أبو عمرو:"خلَّد جاريتَه إذا حلَّاها بالخَلَد، وهي القِرَطة". انظر: "تهذيب اللغة"(7/ 279). وفي "تفسير الطبري"(23/ 565 - هجر): وقيل: إن معنى قوله (مخلَّدون): مسوَّرون بلغة حمير، وينشد لبعض شعرائهم:
ومخلَّداتٍ باللُّجَين كأنما
…
أعجازُهنَّ أقاوِزُ الكُثبانِ
وانظر: "معاني الفراء"(3/ 218) و"الجمهرة لابن دريد"(1/ 580) و"الزاهر" لابن الأنباري (2/ 83).
(4)
ع: "إشارة إلى التخليد".
وقوله: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} قال الكلبي
(1)
: اتبعَ مَسافلَ
(2)
الأمور، وترَكَ معاليها.
وقال أبو رَوق
(3)
: اختار الدنيا على الآخرة.
وقال عطاء
(4)
: أراد الدنيا، وأطاع شيطانه.
وقال ابن زيد
(5)
: كان هواه مع القوم. يعني الذين حاربوا موسى وقومه.
وقال يمان
(6)
: اتبَعَ امرأته، لأنها هي التي حملته على ما فعل.
فإن قيل: الاستدراك بلكن يقتضي أن يُثبِت بعدها ما نفَى قبلها، أو ينفي ما أثبَتَ، كما تقول: لو شئتُ لأعطيتُه، لكنِّي لم أعطه. ولو شئتُ لما فعلتُ كذا، لكنّي فعلته. فالاستدراك يقتضي: ولو شئنا لرفعناه بها، ولكنا لم نشأ، أو فلم نرفَع
(7)
، ولكنه أخلد
(8)
؛ فكيف استدرك بقوله: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} بعد قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} ؟
(1)
لم أره مسندًا عن الكلبي، لكنّ الثعلبي علّقه عنه في "الكشف والبيان"(4/ 308).
(2)
س: "سافل". وفي ف: "أسافل". وانظر: "بحر العلوم" للسمرقندي (1/ 567).
(3)
لم أره مسندًا عن أبي روق، وعلّقه عنه الثعلبي في "الكشف والبيان"(4/ 308).
(4)
علّقه عنه الثعلبي أيضًا في "الكشف والبيان"(4/ 309).
(5)
رواه ابن جرير في "جامع البيان"(10/ 585) من طريق ابن وهب عن ابن زيد.
(6)
علّقه عنه الثعلبي في "الكشف والبيان"(4/ 309). ويمان هو ابن رئاب، قال أبو بكر النقاش:"كان بخراسان، وله كتاب في التفسير ومعاني القرآن". كما في "المؤتلف والمختلف" للدارقطني (2/ 1052).
(7)
كذا في جميع النسخ. وكتب بعضهم في طرة ت: "نفسه"، يعني:"فلم يرفع نفسَه". وفي النسخ المطبوعة: "أو لم نرفع".
(8)
"ولكنه أخلد" ساقط من النسخ المطبوعة.
مسبَّب، ومُوجِب مقتضٍ لا مقتضًى. فما شاء الله وجب وجوده، وما لم يشأ امتنع وجوده
(1)
.
فصل
ومنها: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12].
وهذا من أحسن القياس التمثيلي، فإنه شبَّه تمزيقَ عِرْض الأخ بتمزيق لحمه. ولما كان المغتابُ يمزِّق عرضَ أخيه في غَيبته كان بمنزلة من يقطِّع لحمَه في حال غيبة روحه عنه بالموت. ولما كان المغتاب عاجزًا عن دفعه عن نفسه بكونه غائبًا عن ذمِّه [99/ب] كان بمنزلة الميِّت الذي يقطَّع لحمُه، ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه. ولما كان مقتضى الأخوة التراحم والتواصل والتناصر، فعلَّق عليها المغتابُ ضدَّ مقتضاها من الذم والعيب والطعن= كان ذلك نظير تقطيعه
(2)
لحمَ أخيه، والأخوةُ تقتضي حفظه وصيانته والذبَّ عنه. ولما كان المغتاب متفكِّهًا بعرض أخيه، متمتِّعًا
(3)
بغيبته وذمه، متحلِّيًا بذلك= شُبِّه بآكل لحم أخيه بعد تقطيعه. ولما كان المغتاب محبًّا لذلك معجَبًا به شُبِّه بمن يحبُّ أكلَ لحم أخيه ميتًا، ومحبتُه لذلك قدر زائد على
(1)
وانظر في تفسير المثل أيضًا: "روضة المحبين"(ص 288 - 289)، و"الفوائد"(ص 147 - 149).
(2)
في النسخ المطبوعة: "تقطيع".
(3)
"بعرض أخيه متمتعًا" ساقط من ع. وفي النسخ المطبوعة: "متمتعًا بعرض أخيه، متفكهًا بغيبته وذمه".
مجرَّد أكله، كما أنَّ أكله قدر زائد على تمزيقه.
فتأمَّلْ هذا التشبيه والتمثيل، وحسنَ موقعه، ومطابقةَ المعقول فيه المحسوسَ
(1)
، وتأمَّلْ إخبارَه عنهم بكراهة أكل لحم الأخ ميتًا، ووصفَهم بذلك في آخر الآية، والإنكارَ عليهم في أولها أن يحبَّ أحدُهم ذلك. فكما أن هذا مكروه في طباعهم، فكيف يحبُّون ما هو مثله ونظيره؟ فاحتجَّ عليهم بما كرهوه على ما أحبُّوه، وشبَّه لهم ما يحبُّونه بما هو أكره شيء إليهم، وهم أشدُّ شيء نفرةً عنه. فلهذا يوجب العقل والفطرة والحكمة أن يكونوا أشدَّ شيءٍ نفرةً عما هو نظيره ومشبهه. وبالله التوفيق.
فصل
ومنها: قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18].
فشبَّه تعالى أعمالَ الكفار في بطلانها وعدم الانتفاع بها برماد مرَّت عليه [100/أ] ريح شديدة في يوم عاصف، فشبَّه سبحانه أعمالَهم في حُبوطها وذهابها باطلًا كالهباء المنثور، لكونها على غير أساس من الإيمان والإحسان، وكونِها لغير الله عز وجل وعلى غير أمره= برمادٍ طيَّرته الريح العاصف، فلا يقدر صاحبُه على شيء منه وقتَ شدَّةِ حاجته إليه. فلذلك قال:{لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} : لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء، فلا يرون له أثرًا من ثواب ولا فائدة نافعة، فإنَّ الله لا
(1)
س، ت، ف:"للمحسوس"، وقد غيَّر بعضهم متن ح ليقرأ "للمحسوس".
يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه، موافقًا لشرعه.
والأعمال أربعة، فواحد مقبول، وثلاثة مردودة. فالمقبول: الخالص الصواب. فالخالص أن يكون لله لا لغيره، والصواب أن يكون مما شرعه
(1)
على لسان رسوله. والثلاثة المردودة ما خالف ذلك
(2)
.
وفي تشبيهها بالرماد سرّ بديع، وذلك للتشابه الذي بين أعمالهم وبين الرماد في إحراق النار وإذهابها لأصل هذا وهذا. فكانت الأعمال التي لغير الله وعلى غير مراده طُعْمةً للنار، وبها تسعَّر النارُ على أصحابها. وينشئ الله سبحانه لهم من أعمالهم الباطلة نارًا وعذابًا، كما ينشئ لأهل الأعمال الموافقةِ لأمره ونهيه التي هي خالصة لوجهه من أعمالهم نعيمًا ورَوْحًا. فأثَّرت النارُ في أعمال أولئك حتى جعلتها رمادًا، فهم وأعمالهم وما يعبدون من دون الله وقود النار.
فصل
ومنها قوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا [100/ب] ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 24 - 25].
فشبَّه سبحانه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، لأنَّ الكلمة الطيبة تُثمِر العملَ الصالح، والشجرة الطيبة تُثمِر الثمرَ النافع. وهذا ظاهر على قول جمهور المفسرين الذين يقولون: الكلمة الطيبة هي شهادة أن لا إله إلا الله؛
(1)
في النسخ المطبوعة: "شرعه الله"، زيد لفظ الجلالة.
(2)
سيأتي هذا التقسيم للأعمال وبعض التفصيل فيها.
فإنها تُثمر جميعَ الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة، فكل عمل صالح يُرضي الله
(1)
ثمرة هذه الكلمة.
وفي "تفسير علي بن أبي طلحة" عن ابن عباس قال: {كَلِمَةً طَيِّبَةً} شهادة أن لا إله إلا الله، {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} وهو المؤمن، {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} قول لا إله إلا الله في قلب المؤمن، {وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} يقول: يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء
(2)
.
وقال الربيع بن أنس: {كَلِمَةً طَيِّبَةً} هذا مثل الإيمان، فالإيمان: الشجرة الطيبة. وأصلها الثابت الذي لا يزول: الإخلاص فيه. وفرعه في السماء: خشية الله
(3)
.
والتشبيه على هذا القول أصح، وأظهر، وأحسن. فإنه سبحانه شبَّه شجرةَ التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة، الثابتة الأصل، الباسقة الفرع في السماء علوًّا، التي لا تزال تؤتي ثمرتها كلَّ حين. وإذا تأملتَ هذا التشبيه رأيته مطابقًا لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب، التي فروعها من الأعمال الصالحة صاعدة إلى السماء، ولا تزال هذه الشجرة تُثمر الأعمالَ الصالحة كلَّ وقت، بحسب ثباتها في القلب، ومحبة القلب لها، وإخلاصه
(1)
س، ع، ف:"مرضي لله"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
رواه ابن جرير في "جامع البيان"(13/ 635)، وابن المنذر وابن أبي حاتم ــ كما في "الدر المنثور" للسيوطي (8/ 509 - 510) ــ، والطبراني في "الدعاء"(1598)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(206).
(3)
رواه ابن جرير في "جامع البيان"(13/ 635).
فيها، ومعرفته بحقيقتها، وقيامه بحقِّها
(1)
، ومراعاتها حقَّ رعايتها.
[101/أ] فمن رسخت هذه الكلمةُ في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها، واتصف قلبُه بها، وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسنَ صبغةً منها، فعرف حقيقة الإلهية التي يُثبتها قلبُه لله، ويشهد بها لسانه، وتصدِّقها جوارحه؛ ونفى تلك الحقيقةَ ولوازمَها عن كلِّ ما سوى الله، وواطأ قلبُه لسانَه في هذا النفي والإثبات، وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية طائعةً سالكةً سبُلَ ربِّه ذُلُلًا، غيرَ ناكبةٍ عنها ولا باغيةً سواها بدلًا، كما لا يبغي
(2)
القلبُ سوى معبوده الحقِّ بدلًا. فلا ريب
(3)
أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الله كلَّ وقت. فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل الصالح إلى الربِّ تعالى، وهذه الكلمة الطيبة تثمر كَلِمًا كثيرًا طيّبًا يقارنه عمل صالح، فيرفع العملُ الصالحُ الكلمَ الطيِّب، كما قال تعالى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، فأخبر سبحانه أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيِّب، وأخبر أن الكلمة الطيبة تثمر لقائلها عملًا صالحًا كلَّ وقت.
والمقصود: أن كلمة التوحيد إذا شهد بها المؤمن عارفًا بمعناها وحقيقتها نفيًا وإثباتًا، متَّصفًا بموجَبها، قائمًا قلبه ولسانه وجوارحه بشهادته= فهذه الكلمة
(4)
من هذا الشاهد، أصلها ثابت راسخ في قلبه، وفروعها
(1)
في النسخ المطبوعة: "بحقوقها".
(2)
ع: "يبتغي"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
ت: "ولا ريب".
(4)
بعدها في النسخ المطبوعة: "الطيبة هي التي رفعت هذا العمل"، وهي زيادة مقحمة.
متصلة بالسماء، وهي مُخرِجةٌ لثمرتها كلَّ وقت.
ومن السلف من قال: إن الشجرة الطيبة هي النخلة
(1)
. ويدل عليه حديث ابن عمر الصحيح
(2)
.
ومنهم [101/ب] من قال: هي المؤمن نفسه كما قال محمد بن سعد: حدثني أبي، حدثني عمي، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} يعني بالشجرة الطيبة: المؤمنَ، ويعني بالأصل الثابت في الأرض والفرع في السماء: يكون المؤمن يعمل في الأرض ويتكلَّم، فيبلغ قولُه وعملُه
(3)
السماءَ، وهو في الأرض
(4)
.
وقال عطية العوفي
(5)
: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} قال: ذلك مثل المؤمن، لا يزال يخرج منه كلام طيِّب وعمل صالح يصعَد إلى الله
(6)
.
(1)
أخرجه ابن جرير في "تفسيره"(13/ 637 - 640) عن أنس وابن مسعود ومسروق ومجاهد وعكرمة، وقتادة وغيرهم.
(2)
أخرجه البخاري (131) ومسلم (2811).
(3)
ع: "عمله وقوله". وكذا في النسخ المطبوعة.
(4)
رواه ابن جرير في "جامع البيان"(13/ 636) عن محمد بن سعد به، ومحمد هذا هو العوفي، يروي بهذا السند نسخةً كبيرة في التفسير، وفيها مناكير وأوابد.
(5)
في النسخ المطبوعة بعده: "في قوله".
(6)
رواه ابن جرير في "جامع البيان"(13/ 636).
وقال الربيع بن أنس: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} قال: ذلك المؤمن، ضُرِبَ مثلُه في الإخلاص لله وحده وعبادته وحده لا شريك له. {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} ، قال: أصلُ عمله ثابت في الأرض. {وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} ، قال: ذكرُه في السماء
(1)
.
ولا اختلاف بين القولين. فالمقصود
(2)
بالمثل: المؤمن، والنخلة مشبَّهة به، وهو مشبَّه بها. وإذا كانت النخلة شجرة طيبة، فالمؤمن المشبَّه بها أولى أن يكون كذلك. ومن قال من السلف: إنها شجرة في الجنة، فالنخلة من أشرف أشجار الجنة.
وفي هذا المثل من الأسرار والعلوم والمعارف ما يليق به، ويقتضيه علمُ الذي تكلَّم به وحكمتُه.
فمن ذلك: أن الشجرة لا بدّ لها من عروق وساق وفروع
(3)
وورق وثمر، فكذلك شجرة الإيمان والإسلام، ليطابق المشبَّهُ المشبَّهَ به. فعروقها العلم والمعرفة واليقين، وساقها الإخلاص، وفروعها الأعمال، وثمرتها ما توجبه الأعمال الصالحة من الآثار الحميدة، والصفات [102/أ] الممدوحة، والأخلاق الزكية، والسَّمْت الصالح، والهَدْي والدَّلِّ المرضيّ
(4)
. فيستدلُّ على غرس هذه الشجرة في القلب وثبوتها فيه بهذه الأمور. فإذا كان العلم صحيحًا مطابقًا لمعلومه الذي أنزل الله كتابه به، والاعتقادُ مطابقًا لما أخبر به
(1)
رواه ابن جرير في "جامع البيان"(13/ 636).
(2)
في المطبوع: "فإن المقصود".
(3)
"وساق وفروع" ساقط من ع.
(4)
س: "الرضي". وفي ت: "والذل والرضى"، تحريف.
عن نفسه وأخبرت به عنه رسلُه، والإخلاصُ قائمٌ في القلب، والأعمالُ موافِقةٌ للأمر، والهديُ والدَّلُّ والسَّمْتُ مُشابِهٌ لهذه الأصول مناسبٌ لها= عُلِمَ أنَّ شجرةَ الإيمان في القلب أصلها ثابت وفرعها في السماء، وإذا كان الأمر بالعكس عُلِمَ أنَّ القائمَ بالقلب إنما هو الشجرة الخبيثة التي اجتُثَّت من فوق الأرض، ما لها من قرار!
ومنها: أن الشجرة لا تبقى حيَّةً إلا بمادّةٍ تسقيها وتنميها، فإذا قُطِع عنها السقيُ أوشك أن تَيْبَس. فهكذا شجرة الإسلام في القلب إن لم يتعاهدها صاحبها بسقيها كلَّ وقت بالعلم النافع والعمل الصالح، والعَوْدِ بالتذكُّر على التفكُّر، والتفكُّر على التذكُّر= وإلا
(1)
أوشك أن تيبس.
وفي "مسند الإمام أحمد"
(2)
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
(3)
قال:
(1)
كذا في النسخ الخطية والمطبوعة، ولا يستقيم المعنى إلا بحذف "وإلا"، فالسياق: "إن لم يتعاهدها أوشك
…
"، وزيادة "وإلا" على هذا الوجه من التراكيب الدارجة في زمن المؤلف. راجع ما علّقت على "طريق الهجرتين" (1/ 44).
(2)
ت: "المسند للإمام أحمد".
(3)
كذا، وإنما رواه الطبراني (14668)، والحاكم (1/ 4) من حديث عبد الرحمن بن ميسرة، عن أبي هانئ الخولاني، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعا. وقال الحاكم: ورواته مصريّون ثقات. والحديث غريب جدّا بهذا السند، وابنُ ميسرةَ مُقرئٌ فقيهٌ فاضلٌ، مستورُ الحال، وشيخُه أبو هانئ صدوقٌ صالحُ الحديث.
أما حديث أبي هريرة، فرواه أحمد (8710)، وعبد بن حميد في "المسند"(1422 - المنتخب منه)، والبزار (9569)، ومحمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة"(799)، وابن عدي في "الكامل"(5/ 119 - 120)، وغيرُهم، من طرق عن صدقة بن موسى الدقيقي، عن محمد بن واسع، عن سمير بن نهار، عنه مرفوعًا:"جَدِّدُوا إيمانَكم". قيل: يا رسول الله! وكيف نجدِّدُ إيمانَنا؟ قال: "أكثِرُوا من قول لا إله إلا الله". وصححه الحاكم (4/ 256)، مع أن صدقة ضعيف، وسمير (ويُقال: شُتير) مجهول.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الإيمان يَخْلَق في القلب كما يخلَق الثوبُ، فجدِّدوا إيمانكم".
وبالجملة، فالغَرس إن لم يتعاهده صاحبه أوشك أن يهلك. ومن هنا تعلم شدة حاجة العباد إلى ما أمر الله به من العبادات على تعاقُب الأوقات، وعظيم رحمته وتمام نعمته وإحسانه إلى عباده بأن وظَّفها
(1)
عليهم وجعَلَها مادةً لسقي غِراس التوحيد الذي غرسه في قلوبهم.
ومنها: [102/ب] أن الغرس والزرع النافع قد أجرى الله سبحانه العادة أنه لا بدَّ أن يخالطه دَغَلٌ ونبتٌ غريب ليس من جنسه. فإن تعاهده ربُّه ونقَّاه وقلَعَه كمل الغرس والزرع، واستوى، وتمَّ نباته، وكان أوفر لثمرته وأطيب وأزكى. وإن تركه أوشك أن يغلب على الغِراس
(2)
والزرع، ويكون الحكم له، أو يُضعِفَ الأصلَ ويجعل الثمرةَ ذميمة ناقصة بحسب كثرته وقلته. ومن لم يكن له فقهُ نفس في هذا ومعرفةٌ به، فاته ربح كثير
(3)
وهو لا يشعر. فالمؤمن دائمًا سعيُه في شيئين: سقيِ هذه الشجرة، وتنقيةِ ما حولها. فبسقيها تبقى وتدوم، وبتنقية ما حولها تكمل وتتمّ. والله المستعان، وعليه التكلان.
(1)
رسمها في س، ح، ت بالضاد، ومن هنا تصحفت في ع، ف إلى "وضعها".
(2)
في النسخ المطبوعة: "الغرس".
(3)
لم تعجم الكلمة في ح. وفي النسخ المطبوعة: "كبير".
فهذا بعض ما تضمَّنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم. ولعلها قطرة من بحر، بحسب أذهاننا الواقفة، وقلوبنا المخبَّطَة
(1)
، وعلومنا القاصرة، وأعمالنا التي توجب التوبة والاستغفار؛ وإلا فلو طهرت منَّا القلوب، وصَفَت الأذهان، وزَكَت النفوس، وخلَصت الأعمال، وتجرَّدت الهمم للتلقي عن الله ورسوله= لَشاهدنا من معاني كلام الله وأسراره وحِكَمه ما تضمحلُّ عنده العلوم، وتتلاشى عنده معارف الخلق. وبهذا يُعرف
(2)
قدرُ علوم الصحابة ومعارفهم، وأن التفاوت الذي بين علومهم وعلوم مَن بعدهم كالتفاوت الذي بينهم في الفضل. والله أعلم حيث يجعل مواقعَ فضله، ومَن يختصّ برحمته.
فصل
ثم ذكر سبحانه مثل الكلمة الخبيثة [103/أ] فشبَّهها بالشجرة الخبيثة التي اجْتُثَّت من فوق الأرض
(3)
. فلا عرق ثابت، ولا فرع عال، ولا ثمرة
(1)
ت: "المخيطة"، تصحيف. وفي طبعات الشيخ محمد محيي الدين ومن تابعه:"المخطئة". وهو خطأ. في "اللسان"(7/ 282): "خَبَطه الشيطان وتخبَّطه: مسَّه بأذًى وأفسده". ولم تنص كتب اللغة على "خبّطَ" بهذا المعنى، وقد استعمله المصنف في قوله في النونيَّة (2/ 237):
فعليك بالتفصيل والتمييز فَالْـ
…
إطلاقُ والإجمالُ دون بيانِ
قد أفسدا هذا الوجودَ وخبَّطا الْـ
…
الأذهانَ والآراءَ كلَّ زمانِ
وذكر هذا المعنى في "الصواعق المرسلة"(3/ 927)، فقال:"فأصل ضلالِ بني آدم من الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة، ولاسيَّما إذا صادفت أذهانًا مخبَّطَةً". فوصف الأذهان بالمخبطة كما وصف هنا القلوب.
(2)
في النسخ المطبوعة: "تعرف".
(3)
في النسخ المطبوعة هنا زيادة: "ما لها من قرار".
زاكية؛ فلا ظل ولا جنى. ولا ساق قائم، ولا عرق في
(1)
الأرض ثابت، فلا أسفلها مُغْدِق ولا أعلاها مُونِق، ولا جنى لها، ولا تعلو بل تُعلَى.
وإذا تأمَّل اللبيب أكثر كلام هذا الخلق في خطابهم وكتبهم وجده كذلك، فالخسرانُ كلُّ الخسران: الوقوف معه والاشتغال به عن أفضل الكلام وأنفعه.
قال الضحاك: ضرب الله مثل الكافر
(2)
بشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. يقول: ليس لها أصل ولا فرع، وليس لها ثمرة ولا فيها منفعة. كذلك الكافر ليس يعمل خيرًا ولا يقوله، ولا يجعل الله فيه بركة ولا منفعة
(3)
.
وقال ابن عباس: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} وهي الشرك {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} يعني الكافر {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم: 26]. يقول: الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر، ولا برهان. ولا يقبل الله مع الشرك عملًا، فلا يُقبَل عملُ المشرك، ولا يَصعَد إلى الله. فليس له أصل ثابت في الأرض ولا فرع في السماء، يقول: ليس له عمل صالح في السماء ولا في الأرض
(4)
.
(1)
"في" ساقط من ح.
(2)
ع: "مثلا للكافر"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
رواه سُنيد بن داود في "التفسير"، ومن طريقه ابن جرير في "جامع البيان"(13/ 657).
(4)
رواه ابن جرير في "جامع البيان"(13/ 656، 655) ــ فرّقه ــ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ــ كما في "الدر المنثور" للسيوطي (8/ 509 - 510) ــ، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(206).
وقال الربيع بن أنس: مثل الشجرة الخبيثة مثل الكافر، ليس لقوله ولا لعمله أصل ولا فرع، ولا يستقرُّ قوله ولا عمله على الأرض، ولا يصعد إلى السماء
(1)
.
وقال سعيد
(2)
عن قتادة في هذه الآية: إنَّ رجلًا لقي رجلًا من أهل العلم فقال له: ما تقول في الكلمة الخبيثة؟ قال: ما أعلم لها في الأرض مستَقرًّا ولا في السماء مَصْعَدًا، إلا أن تلزم عنقَ صاحبها حتى يوافي بها القيامة
(3)
.
[103/ب] وقوله: {اجْتُثَّتْ} أي استُؤْصِلت من فوق الأرض.
ثم أخبر سبحانه عن فضله وعدله في الفريقين أصحاب الكلم الطيب والكلم الخبيث، فأخبر أنه يثبِّت الذين آمنوا بإيمانهم بالقول الثابت أحوجَ ما يكونون إليه في الدنيا والآخرة، وأنه يُضِلُّ الظالمين ــ وهم المشركون ــ عن القول الثابت. فأضلَّ هؤلاء بعدله لظلمهم، وثبَّت المؤمنين بفضله لإيمانهم.
وتحت قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] كنز عظيم، مَن وُفِّق لمظِنَّته، وأحسن استخراجه،
(1)
رواه ابن جرير في "جامع البيان"(13/ 657).
(2)
رواه سعيد بن أبي عروبة في "التفسير"، ومن طريقه ابن جرير في "جامع البيان"(13/ 655 - 656).
(3)
كذا في س، ح، ع. وكذا في "تفسير الطبري" (16/ 587). وقال الأستاذ محمود شاكر في تعليقه:"في المطبوعة زاد، فقال: يوم القيامة". قلت: وكذا في ت، ف، وفي طبعة هجر من التفسير.
واقتناه
(1)
، وأنفق منه= فقد غَنِم. ومن حُرِمَه فقد حُرِم. وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفةَ عين، فإن لم يثبِّته وإلا
(2)
زالت سماءُ إيمانه وأرضُه عن مكانهما. وقد قال تعالى لأكرمِ خلقه عليه عبدِه ورسولِه: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74]. وقال تعالى
(3)
: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12]. وفي "الصحيحين"
(4)
من حديث التجلِّي قال: "وهو يسألهم ويثبِّتهم". وقال تعالى لرسوله: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120].
فالخلق كلّهم قسمان: موفَّق بالتثبيت، ومخذول بترك التثبيت. ومادة التثبيت أصله ومنشؤه من القولِ الثابتِ وفعلِ ما أُمِرَ به العبد، فبهما يثبِّت الله عبدَه، فكلُّ من كان أثبت قولًا وأحسن فعلًا كان أعظم تثبيتًا. قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ [104/أ] بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66]. فأثبَتُ الناس قلبًا أثبَتُهم قولًا. والقول الثابت هو القول الحق والصدق، وهو ضد القول الباطل الكذب؛ فالقول نوعان: ثابت له حقيقة، وباطل لا حقيقة له. وأثبَتُ القولِ كلمة التوحيد ولوازمها، فهي أعظم ما يثبِّت الله بها
(1)
في النسخ المطبوعة: "واقتناءه"، والرسم محتمل.
(2)
"وإلا" واقعة هنا في غير موقعها، فإن المعنى: فإن لم يثبِّته زالت. وقد سبق مثله قريبًا، فانظر ما علَّقت عليه.
(3)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة: "لأكرم خلقه".
(4)
لم يرد فيهما هذا اللفظ. وقد أخرجه الإمام أحمد (8817) والترمذي (2557) ــ وصحّحه ــ من حديث أبي هريرة، وفيهما:"وهو يأمرهم ويثبِّتهم". واللفظ المذكور هنا ورد في "مجموع الفتاوى"(2/ 342) و (17، 309).
عبدَه في الدنيا والآخرة. ولهذا ترى الصادقَ من أثبت الناس وأشجعهم قلبًا، والكاذبَ من أمهَن الناس وأجبَنهم، وأكثرهم تلوُّنًا وأقلِّهم ثباتًا.
وأهلُ الفراسة يعرفون صدقَ الصادق من ثبات قلبه وقتَ الاختبار
(1)
وشجاعته ومهابته، ويعرفون كذب الكاذب بضدِّ ذلك، ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة. وسئل بعضهم عن كلامٍ سمعه من متكلِّم به، فقال: والله ما فهمتُ منه شيئًا، إلا أنِّي رأيتُ لكلامه صولةً ليست بصولة مبطِل
(2)
.
فما مُنِح العبد منحةً أفضلَ من منحة القول الثابت. ويجد أهلُ القول الثابت ثمرتَه أحوجَ ما يكونون إليه في قبورهم ويوم معادهم، كما في "صحيح مسلم"
(3)
من حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر.
وقد جاء هذا مبيَّنًا في أحاديث صحاح. فمنها: ما في "المسند"
(4)
من حديث داود بن أبي هند، عن أبي نَضْرة، عن أبي سعيد قال: كنَّا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فقال: "يا أيها الناس إن هذه الأمة تُبتلَى في قبورها، فإذا الإنسان دُفِن وتفرَّق عنه أصحابه جاءه ملَكٌ بيده مِطراقٌ، فأقعده، فقال: ما تقول في
(1)
كذا في جميع النسخ إلا ع إذ سقط منها: "من ثبات
…
ومهابته". وفي طبعة الشيخ محمد محيي الدين: "الإخبار" وهو أشبه.
(2)
حكى القشيري في رسالته (2/ 572) أن أبا العباس ابن سريج الفقيه حضر مجلس الجنيد، وسمع كلامه، فسئل عنه، فقال.
(3)
برقم (2871)، وأخرجه البخاري (4669).
(4)
برقم (11000). وصححه المنذري في "الترغيب والترهيب"(4/ 194)، والسيوطي في "الدر المنثور" (8/ 527). وقال ابن كثير في "التفسير" (4/ 498):"إسنادٌ لا بأس به".
هذا [104/ب] الرجل؟ فإن كان مؤمنًا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. فيقول له: صدقتَ. فيُفتَح له بابٌ إلى النار، فيقال له: هذا منزلك لو كفرتَ بربِّك. فأمَّا إذ آمنتَ فإنَّ الله أبدلك به هذا. ثم يُفتَح له باب إلى الجنة، فيريد أن ينهض له، فيقال له: اسكن. ثم يُفسَح له في قبره. وأما الكافر والمنافق، فيقال له: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: لا دريتَ ولا تدرَّيتَ
(1)
ولا اهتديتَ! ثم يُفتَح له باب إلى الجنة، فيقال له: هذا منزلك لو آمنتَ بربِّك. فأما إذ كفرتَ فإنَّ الله أبدلك به هذا. ثم يُفتَح له باب إلى النار، ثم يَقمَعُه الملَك بالمِطراق
(2)
قَمْعةً يسمعه خلقُ الله كلُّهم إلا الثقلين". قال بعض أصحابه: يا رسول الله، ما منَّا من أحد يقوم على رأسه ملَكٌ بيده مِطراق إلا هِيلَ
(3)
عند ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].
(1)
كذا في س، ح، ت، ف. وهو ساقط من ع والنسخ المطبوعة. واللفظ المشهور:"ولا تليتَ". ولفظ "تدرَّيت" هو الوارد في مخطوطة "تفسير الطبري"، فأثبته الأستاذ محمود شاكر (16/ 593)، وفسَّره بأنه "تفعَّل من دَرَى، أي طلبت الدراية" وكذا في "الهداية إلى بلوغ النهاية"(5/ 3813) لمكي بن أبي طالب، ولعله صادر عن الطبري. وقد ورد اللفظ في مخطوطة "السنة" لابن أبي عاصم أيضًا، ولكن المحقق خالف الأصل ووضع في المتن مكانه:"ولا تليت"، وذكر في تعليقه (1/ 598 - الجوابرة) أن "التصويب من كشف الأستار ومسند أحمد"!
(2)
نبَّه الأستاذ محمود شاكر على أن كتب اللغة لم تذكر "المطراق" ..
(3)
أي فزع وخاف.
وفي "المسند" نحوه من حديث البراء بن عازب. وروى المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر قبضَ روح المؤمن، فقال:"يأتيه آتٍ" ــ يعني في قبره ــ "فيقول: من ربُّك؟ وما دينك؟ ومن نبيُّك؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم". قال: "فينتهره، فيقول: ما ربُّك؟ وما دينك؟ وهي آخِرُ فتنةٍ تُعرَض على المؤمن. فذلك حيث [105/أ] يقول الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}. فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيِّي محمد. فيقال له: صدقتَ"
(1)
وهذا حديث صحيح.
وقال حماد بن سلَمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} قال: "إذا قيل له في القبر: من ربُّك؟ وما دينك؟ فيقول ربِّي الله، وديني الإسلام، ونبيِّي محمد، جاءنا بالبيِّنات من عند الله، فآمنتُ به، وصدّقتُ. فيقال له: صدقتَ. على هذا عشتَ، وعليه مِتَّ، وعليهُ تبعَث"
(2)
.
(1)
رواه أحمد (18534، 18614، 18615)، وأبو داود (4753). وأصل الحديث في "السنن" لابن ماجه (1548، 1549)، و"المجتبى" للنسائي (2001). وقال ابن منده في كتاب "الإيمان" (2/ 962): "هذا إسناد متصل مشهور
…
وهو ثابتٌ على رسم الجماعة". وصحّحه الحاكم (1/ 39، 40، 120، 2/ 239)، والبيهقي في "إثبات عذاب القبر" (20)، وحسّنه المنذري في "الترغيب والترهيب" (4/ 197). أما ابن حبان فأعلّه في "المسند الصحيح" (6/ 156) عقب الحديث (5047).
(2)
رواه ابن جرير في "جامع البيان"(13/ 661)، وفي "تهذيب الآثار"(2/ 505 - مسند عمر)، والبيهقي في "إثبات عذاب القبر"(5).
وقال الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذَكَر قبضَ روح المؤمن، قال:"فترجع روحُه في جسده، ويُبعث إليه ملكان شديدا الانتهار، فيُجلِسانه، وينتهرانه، ويقولان: من ربُّك؟ فيقول: الله. وما دينك: فيقول: الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل أو النبيُّ الذي بُعِث فيكم؟ فيقول: محمد رسول الله". قال: "فيقولان له: وما يُدريك؟ ". قال: "فيقول: قرأتُ كتابَ الله، فآمنتُ به، وصدَّقتُ. فذلك قول الله تبارك وتعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}. رواه ابن حبان في "صحيحه"، والإمام أحمد
(1)
.
وفي "صحيحه"
(2)
أيضًا من حديث أبي هريرة يرفعه قال: "إنَّ الميِّتَ لَيسمعُ خفقَ نعالهم حين يولُّون عنه مدبرين. فإذا كان مؤمنًا كانت الصلاة [105/ب] عند رأسه، والزكاة عن يمينه، وكان الصيام عن يساره
(3)
، وكان
(1)
حديث البراء عند الإمام أحمد يختلف سياق الأعمش فيه عن سياق يونس بن خبّاب، ولم يتقيّد المصنِّف ــ رحمه الله تعالى ــ بسياقِ واحدٍ منهما؛ فليُوازَن بينهما في "المسند"(18534، 18614).
(2)
برقم (5058). ورواه هناد بن السري في "الزهد"(338)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(2630)، والحاكم في "المستدرك"" (1/ 379 - 380، 380 - 381) ــ وصحّحه ــ، والبيهقي في "الاعتقاد" (ص 220)، وفي "إثبات عذاب القبر" (67).
ورواه أيضًا عبد الرزاق (6703)، وابن أبي شيبة (12188)، والإمام أحمد في "الإيمان" ــ ومن طريقه الخلال في "السنة"(1176) ــ، وابن جرير في "جامع البيان"(13/ 662)، وفي "تهذيب الآثار"(2/ 506 - 507 - مسند عمر)، لكنهم ساقُوه موقوفا.
(3)
في "صحيح ابن حبان": "وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن شماله". ولكن المصنف صادر عن تفسير الطبري (13/ 662 - 663) فيما يظهر، فلفظ الحديث هنا موافق لرواية الطبري.
فعلُ الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه. فيؤتى من عند رأسه، فتقول الصلاة: ما قِبَلي مدخَل. فيؤتى عن يمينه، فتقول الزكاة: ما قِبَلي مدخَل. فيؤتى عن يساره، فيقول الصيام: ما قِبَلي مدخَل. فيؤتى من عند رجليه، فيقول فعلُ الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس: ما قِبَلي مدخل. فيقال له: اجلِسْ، فيجلس، قد مُثِّلتْ له الشمسُ قد دنت للغروب. فيقال له: أخبِرنا عمَّا نسألك عنه، فيقول: دعوني حتى أصلِّي. فيقال: إنك ستفعل، فأخبِرْنا عمَّا نسألك، فيقول: وعمَّ تسألوني؟ فيقال له: أرأيتَ هذا الرجلَ الذي كان فيكم، ماذا تقول فيه؟ وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: أمحمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقال: نعم. فيقول: أشهد أنه رسول الله، وأنه جاء بالبينات من عند الله، فصدَّقناه. فيقال له: على ذلك حَيِيتَ، وعلى ذلك مِتَّ، وعلى ذلك تُبعَث إن شاء الله. ثم يُفسَح له في قبره سبعون ذراعًا، وينوَّر له فيه. ثم يُفتَح له باب إلى الجنة، فيقال له: انظر إلى ما أعدَّ الله لك فيها، فيزداد غبطةً وسرورًا. ثم تُجعَل نَسَمتُه في النَّسَم الطيب، وهي طير خضر تعلَّق بشجر الجنة، ويعاد الجسدُ إلى ما بُدِئ
(1)
منه من التراب. وذلك قول الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي [106/أ] الْآخِرَةِ} .
ولا تستطِل هذا الفصلَ المعترضَ، فالمفتي
(2)
والشاهد والحاكم بل
(1)
س، ع، ف:"بدا"، وكذا في النسخ المطبوعة. وفي "تفسير الطبري" كما أثبت من ح، ت.
(2)
في النسخ المطبوعة: "في المفتي"، وهو غلط مفسد للسياق.
وكلُّ مسلم أشدُّ ضرورةً إليه من الطعام والشراب والنفَس. وبالله التوفيق.
فصل
ومنها: قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 30 - 31].
فتأمَّلْ هذا المثلَ ومطابقتَه لحال من أشرك بالله، وتعلَّق بغيره. ويجوز لك في هذا التشبيه أمران
(1)
:
أحدهما: أن تجعله تشبيهًا مركَّبًا، ويكون قد شبَّه من أشرك بالله وعبَد معه غيرَه برجل قد تسبَّب إلى هلاك نفسه هلاكًا لا يرجى معه نجاة، فصوَّر حالَه بصورة حالِ مَن خرَّ من السماء، فاختطفته الطير في الهواء
(2)
، فتفرَّق مُزَعًا
(3)
في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى
(4)
هَوَتْ به في بعض المطارح
(5)
البعيدة. وعلى هذا لا يُنظر
(6)
إلى كلِّ فرد من أفراد المشبَّه ومقابِله من المشبَّه به.
(1)
انظر: "الكشاف" للزمخشري (3/ 155).
(2)
رسمه في النسخ الخطية والمطبوعة: "الهوى".
(3)
المُزْعة والمِزْعة من اللحم: قطعة يسيرة منه. وفي ع: "فتمزق مزعًا" وكذا في المطبوع. وفي طبعة الشيخ محمد محيي الدين ومَن تبعه: "فتمزق مزقًا". وفي "الكشاف" ــ والمصنف صادر عنه ــ كما أثبتنا من النسخ ما عدا ع.
(4)
كذا في ع و"الكشاف". وفي النسخ الأخرى: "حين"، تصحيف.
(5)
في "الكشاف": "المطاوح" بالواو.
(6)
في النسخ المطبوعة: "لا تُنظر".
والثاني: أن يكون من التشبيه المفرَّق، فيقابَل كلُّ واحد من أجزاء الممثَّل بالممثَّل به. وعلى هذا فيكون قد شبَّه الإيمان والتوحيد في علوِّه وسعتِه وشرفِه بالسماء التي هي مصعَده ومهبِطه، فمنها يهبط إلى الأرض، وإليها يصعد منها. وشبَّه تاركَ الإيمان والتوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين حيثُ
(1)
التضييقُ
(2)
الشديدُ والآلامُ المتراكمةُ، والطيرَ التي
(3)
تتخطَّف
(4)
أعضاءه، وتُمزِّقه كلَّ ممزَّق [106/ب] بالشياطين التي يرسلها الله سبحانه عليه وتؤزُّه أزًّا، وتزعجه، وتقلقه إلى مظانِّ هلاكه. فكلُّ شيطان له مُزْعةٌ من دينه وقلبه، كما أنَّ لكلِّ طير مُزْعةً من لحمه وأعضائه. والريحُ التي تهوي به في مكان سحيق هو هواه
(5)
الذي يحمله على إلقاء نفسه في أسفل مكان وأبعده من السماء.
فصل
ومنها: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا
(1)
ع: "من حيث"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
في المطبوع: "الضيق".
(3)
في النسخ كلِّها: "الذي"، ولكن الفعلين بعده مؤنثان، وتأنيث الطير أكثر من تذكيره. وكذا "التي" في المطبوع. وقد ضُبط "الطيرُ" بالرفع في المطبوع تبعًا للشيخ محمد محيي الدين، والصواب أنه منصوب لعطفه على "تاركَ"، يعني: وشبَّه الطيرَ بالشياطين، وإن قلب المصنف التشبيه، إذ حقُّه أن يقول: وشبَّه الشياطينَ بالطير.
(4)
في النسخ المطبوعة: "تخطف".
(5)
في "الكشاف" أن الريح هي الشيطان، والطير المختطفة هي الأهواء التي تتوزع أفكاره.
لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 73 - 74].
حقيقٌ على كلِّ عبد أن يستمع قلبه لهذا المثل، ويتدبَّره حقَّ تدبُّره، فإنه يقطع موادَّ الشرك من قلبه. وذلك أن المعبود أقلُّ درجاته أن يقدر على إيجادِ ما ينفع عابده وإعدامِ ما يضرُّه، والآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله لن تقدر على خلق ذبابٍ
(1)
ولو اجتمعوا كلُّهم لخلقه، فكيف ما هو أكبر منه؟ ولا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئًا مما عليهم من طِيب ونحوه، فيستنقذوه منه. فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو من أضعف الحيوان
(2)
، ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم
(3)
إياه. فلا أعجزَ من هذه الآلهة، ولا أضعفَ منها، فكيف يستحسِن عاقلٌ عبادتها من دون الله؟
وهذا المثل من أبلغِ ما أنزله الله سبحانه في بطلان الشرك، وتجهيل أهله، وتقبيح عقولهم، والشهادة على أن الشيطان قد [107/أ] تلاعَب بهم أعظمَ من تلاعُب الصبيان بالكُرة، حيث أعطوا الإلهية التي من بعض لوازمها القدرةُ على جميع المقدورات، والإحاطةُ بجميع المعلومات، والغنى عن جميع المخلوقات، وأن يُصمَد إلى الربِّ في جميع الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وإجابة الدعوات= فأعطوها
(4)
صورًا وتماثيلَ
(1)
في النسخ المطبوعة: "الذباب".
(2)
في النسخ المطبوعة: "الحيوانات".
(3)
ع: "يسلبهم".
(4)
يعني: الإلهية.
يمتنع عليها القدرةُ على أقلِّ مخلوقات الإله الحقِّ وأذلِّها، وأصغرِها وأحقرها، ولو اجتمعوا لذلك وتعاونوا عليه.
وأدلُّ من ذلك على عجزهم وانتفاء إلهيتهم أنَّ هذا الخلق الأقلَّ الأذلَّ العاجزَ الضعيفَ لو اختطف منهم شيئًا واستلبه، فاجتمعوا على أن يستنقذوه منه= لعجزوا عن ذلك، ولم يقدروا عليه
(1)
.
ثم سوَّى بين العابد والمعبود في الضعف والعجز بقوله: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} . قيل: الطالب: العابد. والمطلوب: المعبود؛ فهو عاجز متعلِّق بعاجز! وقيل: هو تسوية بين السالب والمسلوب، وهو تسوية بين الإله والذباب في الضعف والعجز. وعلى هذا فقيل: الطالب: الإله الباطل. والمطلوب: الذباب، يطلب منه ما استنقذه
(2)
منه. وقيل: الطالب: الذباب. والمطلوب: الإله، فالذباب يطلب منه ما يأخذه مما عليه
(3)
. والصحيح: أن اللفظ يتناول الجميعَ، فضعُفَ العابدُ والمعبودُ، والمستلِب [والمستلَب]
(4)
. فمَن جعل هذا إلهًا مع القوي العزيز، فما قدَره حقَّ قَدْره، ولا عرَفَه حقَّ معرفته، ولا عظَّمه حقَّ تعظيمه
(5)
.
(1)
انظر: "الكشاف"(3/ 171).
(2)
كذا في جميع النسخ الخطية. وفي النسخ المطبوعة: "استلبه"، وهو مقتضى السياق.
(3)
انظر: "زاد المسير"(3/ 250).
(4)
ما بين المعقوفين من النسخ المطبوعة.
(5)
وانظر في الكلام على هذا المثل: "الداء والدواء"(ص 321) و"الصواعق المرسلة": (2/ 466 - 467) و (4/ 1363) و"مفتاح دار السعادة"(2/ 880).
فصل
ومنها: [107/ب] قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]. فتضمَّن هذا المثل ناعقًا أي مصوِّتًا بالغنم وغيرها، ومنعوقًا به وهو الدوابّ. فقيل: الناعق: العابد، وهو الداعي للصنم. والصنم هو المنعوق به المدعو. وإنَّ حال الكافر في دعائه كحال من ينعِق بما لا يسمعه. هذا قول طائفة، منهم عبد الرحمن بن زيد
(1)
وغيره.
واستشكل صاحب "الكشاف" وجماعة معه هذا القول، وقالوا: قوله: {إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} لا يساعِد عليه، لأن الأصنام لا تسمع دعاء ولا نداء
(2)
. وقد أجيب عن هذا الاستشكال بثلاثة أجوبة
(3)
:
أحدها: أن "إلا" زائدة، والمعنى: بما لا يسمع دعاء ونداء. قالوا: وقد ذكر ذلك الأصمعيُّ
(4)
في قول الشاعر
(5)
:
(1)
رواه ابن جرير في "جامع البيان"(3/ 49) من طريق ابن وهب عنه بمعناه.
(2)
"الكشاف"(1/ 214).
(3)
يظهر أن الثلاثة مأخوذة من "البحر المحيط" لأبي حيان (2/ 105، 108) والثاني بنصِّه جواب أبي حيان.
(4)
ذكره الأصمعي معترضًا على ذي الرمة لا محتجًّا بقوله على زيادة (إلا)، كما يوهم كلام أبي حيان في "البحر"(2/ 108)، وابن هشام في "المغني"(1/ 101 - 102). وقد روى المرزباني في "الموشح"(ص 237 - 238) عن الأصمعي تخطئة أبي عمرو بن العلاء ذا الرمة، وعن المازني تخطئة الأصمعي إياه.
(5)
هو ذو الرمة، وعجز البيت:
على الخَسْفِ أو نرمي بها بلدًا قَفْرَا
انظر: "ديوانه"(3/ 1419). حراجيج: جمع حُرجُوج، وهي الناقة الطويلة القوية الضامرة. والخَسْف: أن تبيت على غير علف. وذكر الفراء في "معاني القرآن"(3/ 281) أنّ "تنفك" هنا فعل تامّ. ونقل النحاس في "إعراب القرآن"(5/ 169) قول المازني: "أخطأ الأصمعي، و (ما تنفك) كلام تامّ". وعلى هذا فسَّره ابن الشجري في "أماليه"(2/ 373) بقوله: "فالمعنى: ما تنفصل عن جهد ومشقة إلا في حال إناختها على الخسف، ورمي البلد القفر بها. أي تنتقل من شدة إلى شدة". وانظر الأقوال الأخرى في "الخزانة"(9/ 247 - 257).
حراجيجُ ما تنفكُّ إلا مناخةً
أي ما تنفكُّ مناخة
(1)
. وهذا جواب فاسد فاسد
(2)
، فإن "إلا" لا تزاد في الكلام.
الجواب الثاني: أن التشبيه وقع في مطلق الدعاء لا في خصوصيات المدعو.
الجواب الثالث: أن المعنى أن مثَل هؤلاء في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءهم كمثَل الناعق بغنمه، فلا ينتفع من نعيقه بشيء، غير أنه هو في دعاء ونداء. وكذا
(3)
المشرك ليس له من دعائه وعبادته إلا العناء.
وقيل: المعنى: ومثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقَه ما
(4)
يقول الراعي أكثر من الصوت. فالراعي هو داعي الكفار، [108/أ] والكفار هم البهائم المنعوق بها.
(1)
بعده في ح في آخر السطر: "وهي"!
(2)
كذا في ح، ولا يبعد أن يكون المصنف كرَّره للتوكيد، فحذفه بعض النساخ.
(3)
في النسخ المطبوعة: "وكذلك".
(4)
كذا في النسخ و"زاد المسير"(1/ 132). وفي النسخ المطبوعة: "مما".
قال سيبويه
(1)
: المعنى: ومثَلُك يا محمد ومثَلُ الذين كفروا كمثَل الناعق والمنعوق به. وعلى قوله، فيكون المعنى: ومثل الذين كفروا وداعيهم كمثل الغنم والناعق بها. ولك أن تجعل هذا من التشبيه المركَّب، وأن تجعله من التشبيه المفرَّق. فإن جعلته من المركَّب كان تشبيهًا للكفار في عدم فقههم وانتفاعهم بالغنم التي ينعِق بها الراعي، فلا تفقه من قوله شيئًا غيرَ الصوت المجرَّد الذي هو الدعاء والنداء. وإن جعلته من التشبيه المفرَّق فالذين كفروا بمنزلة البهائم، وداعيهم
(2)
إلى الطريق والهدى بمنزلة الذي ينعق بها، ودعاؤهم إلى الهدى بمنزلة النعيق، وإدراكُهم مجرَّدَ الدعاء والنداء كإدراك البهائم مجرَّدَ صوت الناعق
(3)
. والله أعلم.
فصل
ومنها: قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].
شبَّه سبحانه نفقةَ المنفِق في سبيله ــ سواء كان المراد به الجهاد أو جميع سُبل الخير من كلِّ بِرٍّ ــ بمن بذَر بَذْرًا، فأنبتت كلُّ حبة منه سبعَ سنابل، اشتملت كلُّ سنبلة على مائة حبة. والله يضاعف فوق ذلك لمن يشاء
(4)
،
(1)
في "الكتاب"(1/ 212)، ولكن النقل من "البحر"(2/ 106).
(2)
في النسخ: "ودعايهم"، ولعله تحريف ما أثبت، وفي النسخ المطبوعة:"ودعاء داعيهم" وزيادة "دعاء" يختل بها السياق.
(3)
وانظر: "مفتاح دار السعادة"(1/ 218).
(4)
ت: "لمن يشاء فوق ذلك". وفي ع: "يضاعف ذلك" بإسقاط "لمن يشاء فوق".
بحسب حال المنفِق وإيمانه وإخلاصه وإحسانه، ونفعِ نفقته وقدرها ووقوعها موقعها. فإن ثواب الإنفاق يتفاوت بحسب ما يقوم بالقلب من الإيمان، والإخلاص، والتثبيت عند النفقة. وهو إخراج المال [108/ب] بقلب ثابت قد انشرح صدرُه بإخراجه، وسمحت به نفسُه، وخرج من قلبه قبلَ خروجه من يده. فهو ثابت القلب
(1)
عند إخراجه، غيرُ جَزِع ولا هَلِع، ولا مُتْبِعَه نفسَه، ترجُف يده وفؤاده
(2)
. ويتفاوت بحسب نفع الإنفاق ومصارفه لمواقعه
(3)
، وبحسب طيب المنفق وزكاته
(4)
.
وتحت هذا المثل من الفقه أنه سبحانه شبَّه الإنفاق بالبذر، فالمنفقُ مالَه الطيِّبَ لله لا لغيره باذرٌ مالَه في أرض زكية. فمُغَلُّه
(5)
بحسب بَذْرِه، وطيبِ أرضه، وتعاهُدِ البذر بالسقي، ونفيِ الدَّغَل
(6)
والنباتِ الغريب عنه. فإذا اجتمعت هذه الأمور، ولم تُحرق الزرعَ نارٌ، ولا لحقته جائحةٌ= جاء أمثالَ الجبال. وكان مثله {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة: 265] وهي المكان المرتفع
(1)
في المطبوع: "ثبات القلب"، وهو خطأ.
(2)
وانظر: "مدارج السالكين"(1/ 255) و"مجموع الفتاوى"(14/ 94 - 95).
(3)
ع: "لمواقع". وفي المطبوع: "بمواقعه".
(4)
وانظر في تفسير المثل أيضًا: "طريق الهجرتين"(2/ 792 - 794).
(5)
في طبعة الشيخ محمد محيي الدين: "فمغلة". وفي المطبوع: "فمَغِلَّه" بكسر الغين وفتح اللام. والصواب ما أثبت. والمُغَلُّ اسم المفعول من أغلَّت الضَّيعة، فهو بمعنى الغلَّة. وقد كثر استعماله في كتب شيخ الإسلام والمصنف وفقهاء الشافعية والحنابلة في القرن السابع وبعده.
(6)
يعني به: النباتات الطفيلية التي تنبت حول الزرع وتزاحمه. قال في نونيّته (3/ 847):
كالزرع ينبت حوله دَغَلٌ فيَمْـ
…
نَعُه النَّما فتراه ذا نقصان
الذي تكون الجنة فيه نُصْبَ الشمس والرياح، فتتربَّى الأشجار هناك أتمَّ تربيةٍ؛ فنزَل عليها من السماء مطرٌ عظيمُ القطر متتابعٌ، فروَّاها ونمَّاها، فآتت أكلها ضعفي ما تؤتيه
(1)
غيرُها بسبب ذلك الوابل. {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} مطر صغير القَطر، يكفيها لكرم منبتها، تزكو على الطَّلِّ، وتنمي
(2)
عليه؛ مع أنَّ في ذكر نوعي الوابل والطلِّ إشارةً إلى نوعي الإنفاق الكثير والقليل. فمن الناس من يكون إنفاقه وابلًا، ومنهم من يكون إنفاقه طلًّا، والله لا يُضيع مثقال ذرة
(3)
.
فإن عرض لهذا العامل ما يُغرق أعماله ويُبطل حسناته كان بمنزلة رجلٍ {لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ [109/أ] وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [البقرة: 266]. فإذا كان يوم استيفاء الأعمال وإحراز الأجور وجد هذا العاملُ عملَه قد أصابه ما أصاب صاحبَ هذه الجنة، فحسرتُه حينئذ أشدُّ من حسرة هذا على جنته.
فهذا
(4)
مثلٌ ضربه الله سبحانه في الحسرة بسلب
(5)
النعمة عند شدة الحاجة إليها، مع عظم قدرها ومنفعتها. والذي ذهبت عنه قد أصابه الكبرُ
(1)
ت: "تؤتي"، ولم يعجم حرف المضارع في ح، ع. والمثبت من س، ف. وفي النسخ المطبوعة:"يؤتيه".
(2)
في المطبوع: "تنمو" خلافًا للنسخ.
(3)
وقد توسَّع المصنف في تفسير المثل في "طريق الهجرتين"(2/ 803 - 806).
(4)
س: "وهذا".
(5)
ع: "لسلب"، وكذا في النسخ المطبوعة.
والضعفُ فهو أحوجُ ما كان إلى نعمته. ومع هذا، فله ذرية ضعفاء لا يقدرون على نفعه والقيام بمصالحه، بل هم في عياله؛ فحاجته إلى نعمته حينئذ أشدُّ ما كانت لِضعفه وضعفِ ذريته. فكيف يكون حالُ هذا إذا كان له بستان عظيم فيه من جميع الفواكه والثمر، وسلطانُ ثمره أجلُّ الفواكه وأنفعُها، وهو ثمر النخيل والأعناب، فمُغَلُّه يقوم بكفايته وكفاية ذريته، فأصبح يومًا وقد وجده محترقًا كلَّه كالصريم، فأيُّ حسرة أعظمُ من حسرته؟
قال ابن عباس: هذا مثل الذي يُختَم له بالفساد في آخر عمره
(1)
.
وقال مجاهد: هذا مثل المفرِّط في طاعة الله حتى يموت
(2)
.
وقال السُّدِّي: هذا مثل المرائي في نفقته، الذي يُنفق لغير الله، ينقطع عنه نفعُها أحوجَ ما يكون إليه
(3)
.
وسأل عمر بن الخطاب الصحابة يومًا عن هذه الآية، فقالوا: الله أعلم. فغضب عمر، وقال: قولوا نعلم، أو لا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. [109/ب] قال: قل يا ابن أخي، ولا تَحْقِرْ نفسَك. قال: ضَرَب مثلًا لعمل. قال: لأيِّ عمل؟ قال: لرجل غنيٍّ يعمل بالحسنات،
(1)
"زاد المسير"(1/ 240). ونص قوله رواه ابن جرير في "جامع البيان"(4/ 684 - 685) من طريق ابن جريج عنه، وهو منقطع.
(2)
"زاد المسير"(1/ 240)، ورواه ابن جرير في "جامع البيان"(4/ 682)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(2771). ورواه أيضًا عبد بن حميد، كما في "الدر المنثور"(3/ 251).
(3)
"زاد المسير"(1/ 240). وروى قوله ابن جرير في "جامع البيان"(4/ 681)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(2775).
ثم بعَث الله له الشيطان، فعمِل بالمعاصي حتى أغرق أعمالَه كلَّها
(1)
.
قال الحسن: هذا مثلٌ قلَّ ــ والله ــ من يعقله من الناس. شيخ كبير ضعُفَ جسمُه، وكثُر صبيانه، أفقَرُ ما كان إلى جنته. وإنَّ أحدَكم والله أفقَرُ ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا
(2)
.
فصل
فإن عرض لهذه الأعمال من الصدقة
(3)
ما يُبطلها من المنِّ والأذى والرياء ــ فالرياءُ يمنع انعقادها سببًا للثواب، والمنُّ والأذى يُبطل الثوابَ الذي كانت سببًا له ــ فمثلُ صاحبِها وبطلانِ عمله {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} وهو الحجر الأملس {عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} وهو المطر الشديد {فَتَرَكَهُ صَلْدًا} [البقرة: 264] لا شيء عليه.
(1)
أخرجه البخاري (4538) من حديث عبيد بن عمير. وقوله: "لرجل غني يعمل بالحسنات
…
" إلخ من كلام عمر، فهو الذي فسَّر المثل، لا ابن عباس كما ذكر المصنف، والظاهر أنه نقل الأثر من "الكشاف" (1/ 314). والغريب أن الزيلعي وابن حجر كليهما خرَّجاه من البخاري، ولكن لم ينبِّها على هذا الخلل في سياق الزمخشري. وقد نقله المصنف على وجهه في "طريق الهجرتين" (2/ 807) من "صحيح البخاري".
(2)
نقله المصنف في "طريق الهجرتين"(2/ 806 - 807) أيضًا. والظاهر أن مصدره "الكشاف"(1/ 314)، ومنه نقله أبو حيان في "البحر"(2/ 671). ولم أجده بهذه السياقة في غيرهما.
(3)
ع: "الصدقات"، وكذا في النسخ المطبوعة.
وتأمَّلْ أجزاءَ هذا المثل البليغ، وانطباقَها على أجزاء الممثَّل به، تعرِفْ عظمة القرآن وجلالته. فإنَّ الحجرَ في مقابلة قلب هذا المرائي والمانِّ والمؤذي، فقلبُه في قسوته عن الإيمان والإخلاص والإحسان بمنزلة الحجر، والعملُ الذي عَمِله لغير الله بمنزلة التراب الذي على ذلك الحجر. فقسوةُ ما تحته وصلابتُه تمنعه من النبات والثبات عند نزول الوابل، فليس له مادة متصلة بالذي
(1)
يَقبل الماء ويُنبت الكلأ. وكذلك قلبُ المرائي ليس له ثبات عند وابل الأمر والنهي والقضاء والقدر، فإذا نزل عليه وابلُ الوحي انكشف عنه ذلك التراب اليسير [110/أ] الذي كان عليه، فبرز ما تحته حجرًا صلدًا لا نبات فيه. وهذا مثلٌ ضربه الله سبحانه لعمل المرائي ونفقته، لا يقدر يوم القيامة على ثوابِ شيءٍ منه أحوجَ ما كان إليه. وبالله التوفيق
(2)
.
فصل
ومنها: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 116 - 117].
هذا مثل ضربه الله تعالى لمن أنفق ماله في غير طاعته ومرضاته، فشبَّه سبحانه ما يُنفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء
(1)
كذا في ح، ت والطبعات القديمة. وقد أصلحه بعضهم في ح ليقرأ:"بالري" كما في س، ع، ف والمطبوع.
(2)
وانظر في تفسير المثل أيضًا: "طريق الهجرتين"(2/ 800 - 802).
وحسن الذكر لا يبتغون به وجهَ الله، وما ينفقونه ليصُدُّوا به عن سبيل الله واتباع رسله= بالزرع الذي زرَعه صاحبه يرجو نفعَه وخيرَه، فأصابته ريح شديدة البرد جدًّا، يُحرِق بردُها ما يمرُّ عليه من الزروع
(1)
والثمار، فأهلكَتْ ذلك الزرعَ وأيبسَتْه.
واختلف في "الصِّرِّ"، فقيل: البرد الشديد
(2)
. وقيل: النار، قاله ابن عباس
(3)
. قال ابن الأنباري
(4)
: وإنما وُصِفت النار بأنها صِرٌّ لتصويتها
(5)
عند الالتهاب. وقيل: الصِّرُّ: الصوت الذي يصحَب الريحَ من شدة هبوبها. والأقوال الثلاثة متلازمة، فهو برد شديد مُحرِق بيُبْسِه للحرث كما تُحرقه النار، وفيه صوت [110/ب] شديد.
وفي قوله: {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} تنبيه على أنَّ سببَ إصابتها لحرثهم هو ظلمُهم. فهو الذي سلَّط عليهم الريحَ المذكورة حتى أهلكت زرعهم وأيبسته، فظلمُهم هو الريح التي أهلكت أعمالهم ونفقاتهم، وأتلفتها.
(1)
ع: "الزرع"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
رواه ابن جرير في "جامع البيان"(5/ 705) عن ابن عباس. وهو قول الأكثرين.
(3)
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير"(4026).
(4)
انظر: "زاد المسير"(1/ 445).
(5)
في النسخ الخطية والمطبوعة: "لتصريتها". وكذا في "البسيط" للواحدي (5/ 527)، والظاهر أنه تصحيف وصوابه ما أثبت من "زاد المسير"(1/ 317)، وفي كليهما نقل قول ابن الأنباري، وكلاهما من مصادر المصنف، ولكنه صادر هنا عن "زاد المسير".
فصل
ومنها: قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29].
هذا مثل ضربه الله سبحانه للمشرك والموحِّد. فالمشرك بمنزلة عبدٍ يملكه جماعة متنازعون مختلفون متشاحُّون
(1)
، والرجل الشَّكِس: الضيِّق الخُلُق
(2)
. فالمشرك لما كان يعبد آلهةً شتَّى شُبِّه بعبدٍ يملكه جماعة متنافسون
(3)
في خدمته، لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين. والموحِّد لما كان يعبد الله وحده فمثلُه كمثل عبدٍ لرجل واحد، قد سلِمَ له، وعلِم مقاصدَه، وعرفَ الطريقَ إلى رضاه، فهو في راحةٍ من تشاحُن
(4)
الخلطاء فيه. بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه، مع رأفة مالكه به، ورحمته له، وشفقته عليه، وإحسانه إليه، وتولِّيه لمصالحه. فهل يستوي هذان العبدان؟
وهذا من أبلغ الأمثال، فإن الخالص لمالك واحد يستحقُّ من معونته وإحسانه والتفاته إليه وقيامه بمصالحه ما لا يستحقُّ صاحبُ الشركاء
(1)
ع، ف:"متشاحنون"، وكذا في المطبوع. والصواب ما أثبت من غيرهما، وكذا في الطبعات القديمة. في "زاد المسير"(4/ 17) ــ وهو مصدر المصنف ــ عن ابن قتيبة، قال في تفسير "متشاكسون":"أي مختلفون، يتنازعون ويتشاحُّون فيه". انظر: "غريب القرآن" له (ص 383).
(2)
نقله في "زاد المسير" عن اليزيدي. وانظر "غريب القرآن" له (ص 326).
(3)
ع: "متشاكسون".
(4)
كذا في النسخ الخطية والمطبوعة، ولعله مصحف عن "تشاكس" كما في "زاد المسير"، فالمصنف صادر عنه، ورسم الكلمة يحتمله. ويجوز:"تشاحّ".
المتشاكسين
(1)
. الحمد لله، بل أكثرهم لا يعلمون!
فصل
ومنها: قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 10 - 12]. فاشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال: مثلٍ للكفار، ومثلَين للمؤمنين.
فتضمَّن مثلُ الكفار أن الكافر يعاقَب على كفره وعداوته لله ورسوله وأوليائه، ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لُحْمةِ نسب، أو وُصْلةِ صهر، أو سبب من أسباب الاتصال؛ فإنّ الأسباب كلَّها تنقطع يوم القيامة إلا ما كان منها متصلًا بالله وحده على يد رسوله
(2)
. فلو نفعت وُصْلةُ القرابة أو المصاهرة
(3)
أو النكاح مع عدم الإيمان لنفعت الوصلة التي كانت بين نوح ولوط وامرأتيهما. فلما لم يُغنيا عنهما من الله شيئًا، وقيل
(4)
ادخلا
(1)
وانظر: "مفتاح دار السعادة"(2/ 880، 1052) و"مدارج السالكين"(1/ 254).
(2)
س، ت:"يد رسله". ع: "أيدي رسله"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
في النسخ المطبوعة: "والمصاهرة".
(4)
في النسخ المطبوعة: "قيل" دون واو العطف، فاختلّ السياق، فإن جواب لمّا:"قطعت".
النار مع الداخلين= قطعت الآيةُ حينئذ طمعَ مَن ركب معصية الله، وخالف أمره، ورجا أن ينفعه صلاحُ غيره من قريب أو أجنبي، ولو كان بينهما في الدنيا أشدُّ الاتصال. فلا اتصالَ فوق اتصال البنوة والأبوة والزوجية، ولم يُغْنِ نوح عن ابنه، ولا إبراهيم [111/ب] عن أبيه، ولا نوح ولوط
(1)
عن امرأتيهما من الله شيئًا.
قال الله تعالى: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 3].
وقال تعالى: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار: 19].
وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48]، وقال:{وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [لقمان: 33].
وهذا كلُّه تكذيبٌ لأطماع المشركين الباطلة أنَّ مَن تعلَّقوا به من دون الله من قرابة أو صهر أو نكاح أو صحبة ينفعهم يوم القيامة، أو يُجيرهم من عذاب الله، أو
(2)
يشفع لهم عند الله. وهذا أصلُ ضلال بني آدم وشركهم، وهو الشرك الذي لا يغفره الله، وهو الذي بعث الله جميعَ رسله وأنزل جميعَ كتبه بإبطاله ومحاربة أهله ومعاداتهم.
(1)
في النسخ المطبوعة: "ولا لوط".
(2)
في النسخ المطبوعة: "أو هو" بزيادة "هو".
فصل
وأما المثلان اللذان للمؤمنين، فأحدهما امرأة فرعون. ووجه المثل أن اتصال المؤمن بالكافر لا يضرُّه شيئًا إذا فارقه في كفره وعمله، فمعصيةُ العاصي
(1)
لا تضرُّ المطيعَ
(2)
شيئًا في الآخرة، وإن تضرَّر بها في الدنيا بسبب العقوبة التي تحِلُّ بأهل الأرض إذا أضاعوا أمرَ الله، فتأتي عامّةً. فلم يضُرَّ امرأةَ فرعون اتصالُها به، وهو من أكفر الكافرين. ولم ينفع امرأةَ
(3)
نوحٍ ولوطٍ اتصالُهما بهما وهما رسولا ربِّ العالمين. المثل الثاني للمؤمنين: مريم التي لا زوج لها، لا مؤمن ولا كافر.
فذكر ثلاثة أصناف النساء
(4)
: [112/أ] المرأة الكافرة التي لها وُصْلة بالرجل الصالح، والمرأة الصالحة التي لها وُصْلة بالرجل الكافر، والمرأةُ العَزَب
(5)
التي لا وصلة بينها وبين أحد. فالأولى لا ينفعها
(6)
وصلتها وسببها، والثانية لا يضرُّها وصلتها وسببها، والثالثة لا يضرُّها عدمُ الوصلة شيئًا.
(1)
ت، ف:"فمعصية الغير"، وكانت الكلمة ساقطة من ح، فاستدرك بعضهم في طرتها:"الغير". وما أثبته من ع أقعد في السياق.
(2)
في النسخ المطبوعة: "المؤمن المطيع"، فزيد فيها لفظ "المؤمن".
(3)
كذا بالإفراد في النسخ الخطية والمطبوعة جميعًا، وستأتي هكذا مرة أخرى.
(4)
في النسخ المطبوعة: "من النساء"، ولعل زيادة "من" من تصرُّف بعض النساخ أو الناشرين.
(5)
في المطبوع: "العزبة"، وتعليق المحقق يدل على ورودها في النسخ الخطية، وأنا أشك في ذلك.
(6)
كذا "ينفعها" في النسخ، ثم "يضرُّها" أيضًا بتذكير الفعل، وهو صحيح. وقد أهمل الفعلان في ع. وفي النسخ المطبوعة بالتأنيث.
ثم في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة. فإنها سيقت في ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، والتحذير من تظاهُرهنَّ عليه، وأنهن إن لم يُطِعن الله ورسوله ويُرِدن الدار الآخرة لم ينفعهن اتصالُهن برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما لم ينفع امرأةَ نوحٍ ولوطٍ اتصالُهما بهما. ولهذا إنما ضرب في هذه السورة مثل اتصال النكاح دون القرابة.
قال يحيى بن سلام
(1)
: ضرب الله المثل الأول يحذِّر عائشة وحفصة، ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرِّضُهما على التمسُّك بالطاعة.
وفي ضرب المثل للمؤمنين بمريم أيضًا اعتبار آخر، وهو أنها لم يضُرَّها عند الله شيئًا قذفُ أعداء الله اليهود لها، ونسبتُهم إياها وابنها إلى ما برَّأهما الله عنه، مع كونها الصدِّيقة الكبرى المصطفاة على نساء العالمين؛ فلا يضرُّ الرجلَ الصالحَ قدح الفجّار والفسّاق فيه.
وفي هذا تسليةٌ لعائشة أم المؤمنين إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك، وتوطينُ نفسها على ما قال فيها الكاذبون إن كانت قبلها؛ كما في ذكر التمثيل بامرأة نوح ولوط [112/ب] تحذيرٌ لها ولحفصة مما اعتمدتاه في حقِّ النبي صلى الله عليه وسلم. فتضمَّنت هذه الأمثال التحذير لهن والتخويف، والتحريض لهن على الطاعة والتوحيد، والتسلية وتوطين النفس لمن أوذي منهن وكُذِب عليه. وأسرارُ التنزيل فوق هذا وأجلُّ منه، ولا سيما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون.
(1)
انظر مختصر تفسيره لابن أبي زمنين (5/ 10 - 11)، والمصنف صادر عن "زاد المسير"(4/ 312).
قالوا: فهذا بعض ما اشتمل عليه القرآن من التمثيل والقياس، والجمع والفرق، واعتبار العلل والمعاني، وارتباطها بأحكامها تأثيرًا واستدلالًا.
قالوا: وقد
(1)
ضرب الله سبحانه الأمثال، وصرَّفها قَدَرًا وشرعًا، ويقظةً ومنامًا؛ ودلَّ عباده على الاعتبار بذلك، وعبورِهم من الشيء إلى نظيره، واستدلالهم بالنظير على النظير.
بل هذا أصل عبارة الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة، ونوع من أنواع الوحي؛ فإنها مبنية على القياس والتمثيل، واعتبار المعقول بالمحسوس. ألا ترى أن الثياب في التأويل كالقُمُص تدل على الدين، فما كان فيها من طول أو قِصَر أو نظافة أو دنَس فهو في الدين، كما أوَّل النبيُّ صلى الله عليه وسلم القميصَ بالدين والعلم
(2)
. والقدر المشترك بينهما أنّ كلًّا منهما يستُر صاحبه ويجمِّله بين الناس، فالقميص يستُر بدنه، والعلم والدين يستُر روحَه وقلبَه ويجمِّله بين الناس.
ومن هذا: تأويل اللبن بالفطرة
(3)
، لما في كلٍّ منهما من التغذية الموجبة
(1)
في النسخ المطبوعة: "قد" بإسقاط الواو.
(2)
يقصد حديث أبي سعيد الخدري، الذي أخرجه البخاري (23) ومسلم (2390) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم، رأيت الناس يُعرَضون عليَّ وعليهم قُمُصٌ، منها ما يبلغ الثُّدِيَّ، ومنها ما دون ذلك. عُرِض عليَّ عمر بن الخطاب وعليه قميصٌ يجُرُّه". قالوا: فما أوَّلتَ ذلك يا رسول الله؟ قال: "الدين". وقد ذكر المصنف أن النبي صلى الله عليه وسلم أوَّل القميص بالعلم أيضًا ولكن لم يذكر في الحديث إلا الدين.
(3)
كما في حديث الإسراء، أخرجه البخاري (3437) ومسلم (168) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
للحياة وكمال النشأة، وأنَّ الطفلَ إذا خُلِّيَ وفطرتَه لم يَعدِل عن اللبن، فهو مفطور على إيثاره على ما سواه. وكذلك فطرة الإسلام [113/أ] التي فَطَر الله عليها الناس
(1)
.
ومن هذا: تأويل البقر بأهل الدين والخير الذين بهم عمارة الأرض كما أن البقر كذلك، مع عدم شرِّها، وكثرةِ خيرها، وحاجةِ الأرض وأهلها إليها. ولهذا لما رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقرًا تُنْحَر
(2)
كان ذلك نحرًا في أصحابه.
ومن ذلك: تأويل الزرع والحرث بالعمل، لأن العامل زارع للخير والشر، ولا بد أن يخرج له ما بذَره كما يخرج للباذر زرعُ ما بذَره. فالدنيا مزرعة، والأعمال البِذار
(3)
، ويومُ القيامة يومُ طلوع الزرع
(4)
وحصاده.
ومن ذلك: تأويل الخشب المقطوع المتساند بالمنافقين، والجامعُ بينهما أن المنافق لا روح فيه ولا ظل ولا ثمر، فهو بمنزلة الخشب الذي هو كذلك. ولهذا شبَّه الله تعالى المنافقين بالخُشُب المسنَّدة، لأنهم أجسام
(1)
وانظر: "أحكام أهل الذمة"(2/ 1565).
(2)
رواه النسائي في "السنن الكبرى"(7600) من حديث جابر، وله شاهد عند البخاري (3622، 7035) ومسلم (2272) من حديث أبي موسى الأشعري، وشاهدٌ ثانٍ من حديث ابن عباس، رواه أحمد (2445)، وصححه الحاكم (2/ 128 - 129)، واختاره الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"(11/ 142)، وأصله عند الترمذي (4/ 130)، وابن ماجه (2808).
(3)
جمع البَذر. وهكذا في ح، ف. وفي س، ع:"البلدان"، تحريف. وفي ت:"البذر"، وكذا في الطبعات القديمة.
(4)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة: "للباذر".
خالية عن الإيمان والخير. وفي كونها مسندةً نكتة أخرى، وهي أن الخشب إذا انتُفِع به جُعِل في سقف أو جدار أو غيرهما من مظانِّ الانتفاع، وما دام متروكًا فارغًا غيرَ منتفَع به جُعِل مسنَدًا بعضُه إلى بعض، فشبَّه المنافقين بالخُشُب في الحالة التي لا يُنتفَع فيها بها.
ومن ذلك: تأويل النار بالفتنة، لإفساد كلٍّ منهما ما يمرُّ عليه ويتصل به. فهذه تُحرِق الأثاث والمتاع والأبدان، وهذه تُحرِق القلوب والأديان والإيمان.
ومن ذلك: تأويل النجوم بالعلماء والأشراف، لحصول هداية أهل الأرض بكلٍّ منهما، ولارتفاع الأشراف بين الناس كارتفاع النجوم.
ومن ذلك: تأويل الغيث بالرحمة [113/ب] والعلم والقرآن والحكمة وصلاح حال الناس.
ومن ذلك: خروج الدم في التأويل يدلُّ على خروج المال، والقدرُ المشتركُ أنَّ قِوام البدن بكلِّ واحد منهما.
ومن ذلك: الحدَث في التأويل يدل على الحدث في الدين. فالحدث الأصغر ذنب صغير، والأكبر ذنب كبير.
ومن ذلك: أن اليهودية والنصرانية في التأويل بدعة في الدين. فاليهودية تدل على فساد القصد واتباع غير الحق، والنصرانية تدل على فساد العلم والجهل والضلال.
ومن ذلك: الحديد في التأويل وأنواع السلاح يدل على القوة والنصر، بحسب جوهر ذلك السلاح ومرتبته.
ومن ذلك: الرائحة الطيبة تدل على الثناء الحسن وطيب القول والعمل، والرائحة الخبيثة بالعكس. والميزان يدل على العدل. والجراد يدل على الجنود والعساكر والغَوغاء الذين
(1)
يموج بعضهم في بعض. والنحل يدل على من يأكل طيِّبًا ويعمل صالحًا. والديك رجلٌ عالي الهمة بعيد الصيت
(2)
. والحيَّة عدوّ أو صاحب بدعة يُهلك بسمِّه. والحشرات أوغاد الناس. والخُلْد
(3)
رجل أعمى يتكفَّف الناس بالسؤال. والذئب رجل غَشوم ظَلوم غادر فاجر. والثعلب رجل غادر محتال مكّار مُراوِغ عن الحق. والكلب عدو ضعيف كثير الصَّخَب والشَّرِّ في كلامه وسِبابه، أو رجل مبتدع متبع هواه مؤثِر له على دينه. والسنور العبد والخادم الذي يطوف على أهل الدار. والفأرة امرأة سوء فاسقة [114/أ] فاجرة. والأسد رجل قاهر مسلَّط. والكبش الرجل المنيع المتبوع.
ومن كلِّيَّات التعبير: أنَّ كلَّ ما كان وعاءً للماء فهو دالٌّ على الأثاث. وكلّ ما كان وعاء للمال كالصندوق والكِيس والجِراب فدالٌّ
(4)
على القلب. وكلّ مدخول بعضه في بعض وممتزج ومختلط فدالٌّ على الاشتراك والتعاون أو النكاح، وكلّ سُقوط وخُرور من علو إلى سفل مذموم
(5)
، وكلّ صعود وارتفاع فمحمود إذا لم يجاوز العادة وكان ممن يليق به. وكلّ ما
(1)
في المطبوع: "الذي"، ولعله خطأ مطبعي.
(2)
ع: "الصوت".
(3)
حيوان من القوارض يسمَّى الفأرة العمياء.
(4)
ع: "فهو دال"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(5)
س، ت:"فمذموم"، وكذا في النسخ المطبوعة.
أحرقته النار فجائحة، وليس يرجى صلاحه ولا حياته. وكذلك ما انكسر من الأوعية التي لا ينشعب مثلها. وكلّ ما خُطِف وسُرِق من حيث لا يُرَى خاطفه ولا سارقه فإنه ضائع لا يرجى. وما عُرِف خاطفه أو سارقه أو مكانه أو لم يغِبْ عن عين صاحبه فإنه يُرجَى عَودُه. وكلّ زيادة محمودة في الجسم والقامة واللسان والذكر واللحية واليد والرجل فزيادةُ خير، وكلّ زيادة متجاوزة للحدِّ في ذلك فمذمومةٌ وشرٌّ وفضيحة. وكلّ ما رُئي من اللباس في غير موضعه المختصِّ به فمكروه، كالعمامة في الرِّجل، والخفِّ في الرأس، والعِقْد في الساق. وكلّ من استُقْضِيَ أو استُخْلِفَ أو أُمِّر أو استُوزِر أو خَطَب ممن لا يليق به ذلك ناله بلاء من الدنيا وشرٌّ وفضيحة وشهرة قبيحة. وكل ما كان مكروهًا من الملابس فخَلَقُه أهون على لابسه من جديده.
والجوز مال مكنوز، فإن تفقَّع كان قبيحًا وشرًّا. ومن صار له ريش أو جناح صار له مال، فإن طار سافر. وخروجُ [114/ب] المريض من داره ساكتًا يدل على موته، ومتكلِّمًا يدل على حياته. والخروج من الأبواب الضيِّقة يدل على النجاة والسلامة من شرٍّ وضِيق هو فيه، وعلى توبة، ولا سيَّما إن خرج
(1)
إلى فضاء وسعة فهو خير محض. والسفرُ والنقلةُ من مكان إلى مكان انتقالٌ من حال إلى حال بحسب حال المكانين. ومن عاد في المنام إلى حالٍ كان فيها في اليقظة عاد إليه ما فارقه من خير أو شر. وموتُ الرجل ربما دلَّ على توبته ورجوعه إلى الله، لأن الموت رجوع إلى الله. قال تعالى:{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62]. والمرهونُ مأسور بدَين أو بحقٍّ عليه لله أو لعبيده. ووداعُ المريض أهله أو توديعهم له دالٌّ على موته.
(1)
س: "إذا خرج". وفي ع: "كان الخروج"، وكذا في النسخ المطبوعة.
وبالجملة، فما تقدَّم من أمثال القرآن كلُّها أصول وقواعد لعلم التعبير لمن أحسن الاستدلال بها. وكذلك مَن فهم القرآن فإنه يعبِّر به الرؤيا أحسنَ تعبير.
وأصول التعبير الصحيحة إنما أُخِذت من مشكاة القرآن. فالسفينة تعبَّر بالنجاة لقوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت: 15]، وتعبَّر بالتجارة، والخشب بالمنافقين، والحجارة بقساوة القلوب
(1)
، والبَيض بالنساء، واللباس أيضًا بهن، وشرب الماء بالفتنة، وأكلُ لحم الرجل بغيبته، والمفاتيح بالكسب والخزائن والأموال
(2)
. والفتح يعبَّر مرة بالدعاء ومرة بالنصر. وكالمَلِك يُرَى في محلَّةٍ لا عادة له بدخولها يعبَّر بإذلال أهلها وفسادها. والحبلُ يعبَّر بالعهد والحقِّ والعصمة
(3)
. والنعاس قد يعبَّر بالأمن. والبقل والبصل والثوم والعدس [115/أ] يعبَّر لمن أخذه بأنه قد استبدل شيئًا أدنى بما هو خير منه من مال أو رزق أو علم أو زوجة أو دار. والمرض يعبَّر بالنفاق والشك وشهوة الزِّنا
(4)
، والطفل الرضيع يعبَّر بالعدو لقوله تعالى:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، والنِّعاج بالنساء
(5)
، والرماد بالعمل الباطل لقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
(1)
في النسخ المطبوعة: "القلب".
(2)
ت: "والأموال والخزائن".
(3)
س، ت، ع:"العضد"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(4)
في النسخ المطبوعة: "الرياء"، تصحيف.
(5)
ت: "والنكاح بالبناء"، وفي س، ع:"والنكاح بالنساء". والصواب ما أثبت من ح، ف.
أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} [إبراهيم: 18]
(1)
. والنور يعبَّر بالهدى، والظلمة بالضلال.
ومن هاهنا قال عمر بن الخطاب لحابس بن سعد الطائي، وقد ولّاه القضاء، فقال له
(2)
: رأيتُ الشمس والقمر يقتتلان، والنجوم بينهما نصفين. فقال
(3)
: مع أيهما كنتَ؟ قال: مع القمر على الشمس. قال: كنتَ مع الآية الممحوَّة. اذهَبْ، فلست تعمَل لي عملًا، ولا تُقتَل إلا في لَبْسٍ من الأمر. فقُتِل يوم صِفِّين
(4)
.
(1)
في المطبوع زيادة: {اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} .
(2)
في النسخ المطبوعة زيادة: "يا أمير المؤمنين إني".
(3)
زيد هنا أيضًا في النسخ المطبوعة: "عمر".
(4)
رواه ابن أبي الدنيا في "الإشراف"(255)، وأبو يعلى [كما في "مسند الفاروق" لابن كثير (2/ 441)]ــ ومن طريقهما ابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق"(68/ 103 - 104، 104) ــ من رواية حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن محارب بن دثار، عن عمر، وسندُه ضعيفٌ منقطع، وفي متنه بعضُ غرابة ونكارة، وانظر:"تاريخ مدينة دمشق" لابن عساكر (68/ 105). ورواه ابن أبي شيبة (31145، 39019)، ويحيى بن سليمان الجعفي في "كتاب صِفِّين" ــ ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق"(68/ 104 - 105) ــ عن ابن فضيل، عن عطاء بن السائب: حدثني غير واحد: فذكره! وحماد وابن فضيل سمعا من عطاء بعد اختلاطه.
وقد رُوي وجهٌ غريبٌ جدًّا، علّقه ابن عساكر (68/ 105) من طريق مصبح بن (الهلقام) العجلي، عن ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن أبي البختري، عن عمر، وهو ــ على انقطاعه ــ منكرٌ لا يصح. وأشار ابن عساكر (68/ 105) إلى أنه رُوي أيضًا من وجه آخر عن الحسن البصري.
ورواه أبو العرب القيرواني في "المحن"(ص 116) من رواية شيخٍ من طيّءٍ، وسنده ضعيف منقطع أو معضل.
وقيل لعابر: رأيتُ الشمس والقمر دخلا في جوفي. فقال: تموت. واحتجَّ بقوله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} [القيامة: 7 - 10].
وقال رجل لابن سيرين: رأيتُ معي أربعة أرغفة حين طلعت
(1)
الشمس. فقال: تموت إلى أربعة أيام. ثم قرأ قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ}
(2)
[الفرقان: 45 - 46]. وأخذ هذا التأويل أنه حمل رزقَ
(3)
أربعةِ أيام.
وقال له آخر: رأيت كيسي مملوءًا أرَضةً، فقال: أنت ميت. ثم قرأ: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ} [سبأ: 14].
والنخلة تدل على الرجل المسلم وعلى الكلمة الطيبة، [115/ب] والحنظلةُ تدل على ضد ذلك. والصنم يدل على العبد السَّوء الذي لا ينفع. والبستان يدل على العمل، واحتراقُه يدل على حبوطه لما تقدَّم في أمثال القرآن. ومن رأى أنه ينقض غزلًا أو ثوبًا ليعيده مرة ثانية، فإنه ينقُض عهدًا وينكُثه. والمشي سويًّا في طريق مستقيم يدل على استقامته على الصراط المستقيم، والأخذُ في بُنَيَّات الطريق يدل على عدوله عنه إلى ما خالفه. وإذا عرضت
(4)
له
(1)
ع: "خبز طلعة". وفي طرة ت كتب بعضهم "عليّ"، يعني:"طلعت عليّ".
(2)
في ع أكملت الآية، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
في النسخ المطبوعة: "رزقه".
(4)
ع: "عرض"، وكذا في النسخ المطبوعة.
طريقان ذات يمين وذات شمال، فسلك أحدهما
(1)
، فإنه من أهلها. وظهور عورة الإنسان له: ذنبٌ يرتكبه ويُفتضَح به. وهروبه وفراره من شيء نجاة وظفر. وغرقه في الماء فتنة في دينه ودنياه. وتعلُّقُه بحبل بين السماء والأرض تمسُّكُه بكتاب الله وعهده واعتصامه بحبله، فإن انقطع به فارقَ العصمةَ؛ إلا أن يكون وليَّ أمرٍ
(2)
فإنه قد يُقتَل أو يموت.
فالرؤيا أمثال مضروبة يضربها الملَكُ الذي قد وكَّله الله بالرؤيا، ليستدلَّ الرائي بما ضرب له من المثل على نظيره، ويعبُر منه إلى شبهه. ولهذا سمِّي تأويلها تعبيرًا، وهو تفعيل من العبور؛ كما أن الاتعاظ يسمَّى اعتبارًا وعبرةً، لعبور المتعظ من النظير إلى نظيره. ولولا أنَّ حُكمَ الشيء حكمُ مثلِه وحُكمَ النظير حكمُ نظيره لبطل هذا التعبير والاعتبار، ولما وُجِد إليه سبيل. وقد أخبر الله سبحانه أنه ضرَب الأمثال لعباده في غير موضع من كتابه، وأمر باستماع أمثاله، ودعا عباده إلى [116/أ] تعقُّلها، والتفكير فيها، والاعتبار بها. وهذا هو المقصود بها.
وأما أحكامه الأمرية الشرعية، فكلُّها هكذا، تجدها مشتملةً على التسوية بين المتماثلين، وإلحاق النظير بنظيره، واعتبار الشيء بمثله، والتفريق بين المختلفين، وعدم تسوية أحدهما بالآخر. وشريعته سبحانه منزَّهة أن تنهى عن شيء لمفسدةٍ فيه، ثم
(3)
تُبيح ما هو مشتمل على تلك المفسدة أو مثلها أو أزيد منها. فمن جوَّز ذلك على الشريعة فما عرفها حقَّ معرفتها، ولا قدَرها
(1)
مقتضى السياق: "إحداهما".
(2)
في النسخ المطبوعة: "ولي أمرًا".
(3)
"ثم" ساقط من المطبوع.
حقَّ قدرها. وكيف يظن بالشريعة أنها تُبيح شيئًا لحاجةِ المكلَّف إليه ومصلحته، ثم تحرِّم ما هو أحوج إليه، والمصلحة في إباحته أظهر؟ هذا
(1)
من أمحَل المُحال
(2)
.
ولذلك كان من المستحيل أن يشرع الله ورسوله من الحِيَل ما يُسقِط به ما أوجبه، أو يُبيح به ما حرَّمه، ولعَن
(3)
فاعله، وآذَنه بحربه وحرب رسوله، وشدَّد فيه الوعيد، لما تضمَّنه من المفسدة في الدنيا والدين؛ ثم بعد ذلك يسوِّغ التحيُّلَ عليه
(4)
بأدنى حيلة. ولو أن المريض اعتمد هذا فيما يحميه منه الطبيب ويمنعه منه لكان معينًا على نفسه، ساعيًا في ضرره، وعُدَّ سفيهًا مفرطًا.
وقد فطر الله سبحانه عباده على أن حكمَ النظير حكمُ نظيره، وحكمَ الشيء حكمُ مثله، وعلى إنكار التفريق بين المتماثلين، وعلى إنكار الجمع بين المختلفين. والعقل والميزان الذي أنزله الله سبحانه شرعًا وقدرًا يأبى ذلك.
(1)
في النسخ المطبوعة: "وهذا".
(2)
الميم في "المحال" زائدة، ولكن هكذا صاغ منه الناس اسم التفضيل "أمحل" على اللفظ، فقالوا:"أمحل من الترهات"، و"أمحل من حديث خرافة". انظر:"الدرة الفاخرة"(2/ 389) لحمزة بن حسن الأصبهاني.
(3)
في النسخ كلها: "أمر"، وفي ت وحدها ضرب عليه في المتن وكتب في الطرة:"لعن". وجائز أن يكون ما في النسخ تحريفًا أو يكون من سبق القلم.
(4)
هكذا في س. وفي غيرها: "إليه". وفي النسخ المطبوعة: "التوصل"، ولعله تصرف من بعض الناشرين.
ولذلك كان الجزاء مماثلًا للعمل من جنسه في الخير والشر
(1)
. فـ"مَن ستَر مسلمًا ستَره الله، ومن يسَّر على مُعْسِر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن نفَّس عن مؤمن كربةً من كُرَب الدنيا نفَّس الله عنه كربةً مِن كُرَبِ يوم القيامة"
(2)
. و"من أقال نادمًا أقاله الله عثرتَه يوم القيامة"
(3)
، و"من تتبَّع عورةَ أخيه تتبَّع الله عورتَه"
(4)
، و"من ضارَّ مسلمًا ضارَّ الله به، ومن شاقَّ شاقَّ الله عليه"
(5)
، و"من
(1)
وانظر: "الوابل الصيب"(ص 80 - 82) و"مفتاح دار السعادة"(2/ 826) و"مدارج السالكين"(3/ 255 - 256).
(2)
أخرجه مسلم (2699) من حديث أبي هريرة. وانظر حديث ابن عمر في البخاري (2442) ومسلم (2580).
(3)
رواه البزار (8967)، والطحاوي في "بيان المشكل"(5291) من حديث أبي هريرة مرفوعا، وصححه ابن حبان (653). وانظر:"الضعفاء" للعقيلي (1/ 315)، و"العلل" للدارقطني (8/ 205). ورواه أبو داود في "المراسيل"(173) من حديث ابن جريج عن هارون بن أبي عائشة مرسلا بمعناه، وقال: رُوي متصلا، ولا يصح. وفي الباب أسانيد أخرى، يطول المقام بسردها.
(4)
رواه الترمذي (2032) من حديث ابن عمر مرفوعا، وحسنه، وصححه ابن حبان (1874)، ورواه أحمد (19776، 19801)، وأبو داود (4880) من حديث أبي برزة الأسلمي، وأحمد (22402) من حديث ثوبان، ورواه أبو يعلى في "المسند"(1675)، والروياني في "المسند"(305) من حديث البراء، وفي الباب طرق أخرى، والحديث قوي. وانظر:"الإتحاف بتخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (3/ 344 - 346) ..
(5)
رواه أحمد (15755)، وأبو داود (3635)، والترمذي (1940) ــ وحسنه ــ، وابن ماجه (2342)، والخرائطي في مساوئ الأخلاق" (583) ــ ولفظة "مسلمًا" منه ــ من حديث لؤلؤة، عن أبي صرمة مرفوعا، ولؤلؤة مجهولة، وله شاهد من حديث أبي سعيد مرفوعا، صححه الحاكم (2/ 57 - 58) على شرط مسلم! والمحفوظ إرساله بلفظ: "لاضرر ولا ضرار"، كما تراه في "الموطأ" للإمام مالك (2758).
خذَل مسلمًا في موضع يَجِب
(1)
نصرتُه فيه خَذَله الله في موضع يُحبُّ نصرتَه فيه"
(2)
، ومن سَمَح سُمِح له
(3)
(4)
، و"الراحمون يرحمهم الرحمن"
(5)
.
و"إنما يرحم الله من عباده الرحماء"
(6)
، ومنَ أَنفَق أُنفِق عليه
(7)
. ومن أوعَى أُوعيَ عليه
(8)
. ومن عفا عن حقِّه عفا الله له عن حقِّه.
(1)
في المطبوع: "يحب"، تصحيف.
(2)
رواه أحمد (16368)، وأبو داود (4884) من حديث جابر وأبي طلحة مرفوعا، وفي سنده يحيى بن سليم بن زيد وشيخُه إسماعيلُ بن بشير مجهولان.
(3)
كذا في جميع النسخ. وفي الطبعات القديمة: "
…
سمح الله له". وأثبت في المطبوع: "من سمع سمع الله به" وذهب إلى أن ما في الطبعات المذكورة تصحيف. وفي "الوابل الصيب" (ص 80) في مثل هذا السياق: "ومن سامح سامحه". ونحوه في "مفتاح دار السعادة" (2/ 826).
(4)
روى عبد الله ابن الإمام أحمد (2233) عن أبيه وجادةً، والحارث بن محمد بن أبي أسامة في "المسند"(1081 - "بغية الباحث")، والطبراني في "المعجم الأوسط"(5112)، وفي "الصغير" (1169) من حديث ابن عباس مرفوعا:"اسمحْ؛ يُسْمَحْ لك". وانظر: "المصنف" لعبد الرزاق (237، 569، 685، 686، 687، 690)، و"المصنف" لابن أبي شيبة (646، 647)، و"المقاصد الحسنة" للسخاوي (110).
(5)
روى الإمام أحمد (6494)، وأبو داود (4941)، والترمذي (1924) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح". وصححه الحاكم (4/ 159) وجماعة من الحفّاظ.
(6)
أخرجه البخاري (1284) ومسلم (923) من حديث أسامة بن زيد.
(7)
في الحديث القدسي الذي أخرجه البخاري (4684) ومسلم (993) عن أبي هريرة: "أَنْفِق أُنْفِق عليك".
(8)
في حديث أسماء: "لا تُوعي، فيوعيَ الله عليكِ". أخرجه البخاري (1434) ومسلم (1029).
ومن تجاوز تجاوز الله عنه. ومن استقصى استقصى الله عليه
(1)
.
فهذا شرع الله وقدره ووحيه وثوابه وعقابه= كلُّه قائم بهذا الأصل، وهو إلحاق النظير بالنظير، واعتبار المثل بالمثل.
ولهذا يذكر الشارع العلل والأوصاف المؤثِّرة والمعاني المعتبَرة في الأحكام القدرية والشرعية والجزائية، ليدلَّ بذلك على تعلُّقِ الحكم بها أين وُجِدت، واقتضائها لأحكامها، وعدمِ تخلُّفِها عنها إلا لمانعٍ يُعارض اقتضاءها، ويُوجب تخلُّفَ آثارها عنها، كقوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13]، وقوله:{ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ}
(2)
[غافر: 12]، {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [الجاثية: 35]، {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75]، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28]، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا [117/أ] لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} [محمد: 26]، {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت: 23].
وقد جاء التعليل في الكتاب العزيز
(3)
بالباء تارة، وباللام تارة، وبأن تارة، وبمجموعهما
(4)
تارة، وبـ"كي" تارة، و"من أجل" تارة، وترتيبِ الجزاء
(1)
"مفتاح دار السعادة"(2/ 826).
(2)
زاد في ع: {وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} . وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
وانظر: "الداء والدواء"(ص 31 - 34) و"مفتاح دار السعادة"(2/ 913 - 915) و"مدارج السالكين"(3/ 461) و"شفاء العليل"(ص 188 - 198).
(4)
ع: "وبمجموعها". وكذا في المطبوع، وهو تصحيف.
على الشرط تارة، وبالفاء المُؤْذِنة بالسببية تارة، وترتيبِ الحكم على الوصف المقتضي له تارة، وبـ"لما" تارة، وبإنَّ المشدَّدة تارة، وبـ"لعل" تارة، وبالمفعول له تارة.
فالأول كما تقدَّم. و"اللام" كقوله: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 97]، و"أن" كقوله:{أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ}
(1)
[الأنعام: 156]. ثم قيل: التقدير لئلا تقولوا، وقيل: كراهة أن تقولوا، و"أن واللام" كقوله:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] وغالب ما يكون هذا النوع في النفي، فتأمَّلْه. و"كي" كقوله:{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً} [الحشر: 7]. والشرط والجزاء كقوله: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120].
والفاء كقوله: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} [الشعراء: 139]، {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة: 10]، {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل: 16].
وترتيب الحكم على الوصف كقوله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} [المائدة: 16]، وقوله:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] وقوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170]، {وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 56]، {وَأَنَّ اللَّهَ
(2)
لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}
(1)
زاد في ع: "من قبلنا". وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
في جميع النسخ: "والله لا يهدي
…
".
[يوسف: 52].
و"لمّا" كقوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]، {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166].
وإنَّ المشدَّدة كقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا [117/ب] قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء: 77]، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء: 74].
و"لعل" كقوله: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 73]، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152].
والمفعول له كقوله: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى}
(1)
[الليل: 19 - 20]، أي لم يفعل ذلك جزاءَ نعمةِ أحدٍ من الناس، وإنما فعله ابتغاءَ وجه ربِّه الأعلى.
و"من أجل" كقوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}
(2)
[المائدة: 32].
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم علل الأحكام والأوصاف المؤثِّرة فيها، ليدل على ارتباطها بها، وتعدِّيها بتعدِّي أوصافها وعللها، كقوله في نبيذ التمر: "تمرة طيبة
(3)
وماء طهور"
(4)
.
(1)
في ع زيادة: "ولسوف يرضى". وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
في "الداء والدواء"(ص 33) زاد على المذكور هنا أداة "لو" الشرطية، وأداة "لولا" الدالة على ارتباط ما قبلها بما بعدها.
(3)
ح، ف:"تمر طيب".
(4)
رواه أحمد (3810، 4296، 4301، 4381)، وأبو داود (84)، والترمذي (88)، وابن ماجه (384) من حديث ابن مسعود مرفوعا. وقال الترمذي:"وأبو زيد رجل مجهولٌ عند أهل الحديث، لا تُعرف له رواية غير هذا الحديث". ويُنظر كتاب "الإمام" لابن دقيق العيد (1/ 171 - 185).
وقوله: "إنما جُعِل الاستئذان من أجل البصر"
(1)
.
وقوله: "إنما نهيتُكم من أجل الدَّافَّة"
(2)
.
وقوله في الهرة: "ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات"
(3)
.
ونهيه عن تغطيةِ رأس المُحْرِم الذي وَقَصَتْه ناقتُه وتقريبِه الطِّيبَ، وقوله:"فإنه يُبعَث يوم القيامة مُلبِّيًا"
(4)
.
وقوله: "إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم"
(5)
، ذكره تعليلًا لنهيه
(1)
أخرجه البخاري (6241) ومسلم (2156) من حديث سهل بن سعد الأنصاري.
(2)
أخرجه مسلم (1970) من حديث ابن عمر. والمراد بالدافة قوم من الأعراب يردون المصر. يريد أنه نهى عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل الأعراب الذين قدموا المدينة، لِتفرَّق اللحوم عليهم. انظر:"النهاية في غريب الحديث"(2/ 124).
(3)
رواه أحمد (22528، 22580، 22636)، وأبو داود (75)، والترمذي (92)، والنسائي (68، 340)، وابن ماجه (367) من حديث أبي قتادة مرفوعا. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وصححه ابن خزيمة (104)، وابن حبان (4483)، والحاكم (1/ 159 - 160). ويُنظر كتاب "الإمام" لابن دقيق العيد (1/ 232 - 237)، و"التلخيص الحبير"(1/ 67 - 69).
(4)
أخرجه البخاري (1265) ومسلم (166) من حديث ابن عباس.
(5)
رواه ابن حبان (2014)، والطبراني في "المعجم الكبير"(11931) ــ ومن طريقه الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"(12/ 118) ــ، وابن عدي في "الكامل"(5/ 262) من حديث ابن عباس مرفوعا، وسنده ضعيف. وانظر:"بيان الوهم والإيهام" لابن القطان (4/ 430 - 435)، و"سلسلة الأحاديث الضعيفة" للألباني (6528).
عن نكاح المرأة على عمَّتها وخالتها.
وقوله تعالى
(1)
: {وَيَسْأَلُونَكَ
(2)
عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، وقوله في الخمر والميسر:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ}
(3)
[المائدة: 91].
وقوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر: "أينقُص الرُّطَبُ إذا جفَّ؟ ". قالوا نعم. فنهى عنه
(4)
.
وقوله: "لا يتناجى اثنان دون الثالث، فإن ذلك يُحزنه"
(5)
.
وقوله: "إذا وقع الذباب في إناء أحدِكم [118/أ] فامقُلوه، فإنَّ في أحد
(1)
كذا وردت الآيتان في أثناء الأحاديث.
(2)
ما عدا ع: "يسألونك" دون الواو.
(3)
في النسخ المطبوعة أكملت الآية: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} .
(4)
رواه أحمد (1515، 1544، 1552)، وأبو داود (3359)، والترمذي (1225)، والنسائي (4545، 4546)، وابن ماجه (2264) من حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعًا. وقال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح". وصححه ابن حبان (1907، 5616)، والحاكم (2/ 38 - 39)، واختاره الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"(3/ 155 - 158).
(5)
أخرجه الترمذي (2825) من حديث ابن مسعود. وهو بغير هذا اللفظ في البخاري (6288) ومسلم (2184).
جناحيه داءً، وفي الآخر دواء، وإنه يتقي بالجناح الذي فيه الداء"
(1)
.
وقوله: "إنَّ الله ورسوله ينهاكم
(2)
عن لحوم الحُمُر، فإنها رجس"
(3)
.
وقوله وقد سئل عن مسِّ الذكر: هل ينقض الوضوء؟ فقال: "هل هو إلا بَضْعةٌ منك"
(4)
.
وقوله في ابنة حمزة: "إنها لا تحِلُّ لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة"
(5)
.
وقوله في الصدقة: "إنها لا تحِلُّ لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس"
(6)
.
وقد قرَّب النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأحكامَ إلى أمته بذكر نظائرها وأسبابها، وضرب لها الأمثال. فقال له عمر: صنعتُ اليوم يا رسول الله أمرًا عظيمًا: قبَّلتُ وأنا
(1)
رواه أحمد (7141)، وعنه أبو داود (3844) من حديث أبي هريرة مرفوعا. وصححه ابن خزيمة (105)، وابن حبان (1399، 4104). وانظر: "المسند" لأحمد (11643)، و"السنن" لابن ماجه (3504).
(2)
ع: "ينهيانكم"، وهو لفظ البخاري ومسلم. والوارد هنا لفظ النسائي (69، 4340).
(3)
أخرجه البخاري (4198) ومسلم (1940) من حديث أنس.
(4)
رواه أحمد (16286، 16295)، وأبو داود (182، 183)، والترمذي (85)، وابن ماجه (483)، والنسائي (165) من حديث طلق بن علي مرفوعا. وصححه ابن حبان (995، 996، 997)، واختاره الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (8/ 153). وانظر:"العلل" لابن أبي حاتم (111)، وكتاب "الإمام" لابن دقيق العيد (2/ 269 - 277)، و"التعليقة على العلل لابن أبي حاتم" لابن عبد الهادي (ص 83 - 87).
(5)
أخرجه البخاري (4251) ومسلم (1446) من حديث علي بن أبي طالب.
(6)
أخرجه مسلم (1072) من حديث عبد المطلب بن ربيعة.
صائم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيتَ لو تمضمضتَ بماء وأنت صائم؟ " فقلتُ: لا بأس بذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ففِيمَ
(1)
؟ "
(2)
.
ولولا أنَّ حكمَ المثل حكمُ مثله وأن المعاني والعلل مؤثِّرة في الأحكام نفيًا وإثباتًا لم يكن لِذكر هذا التشبيه معنى. فذَكَره لِيدلَّ به على أن حكم النظير حكم مثله، وأن نسبة القُبلة التي هي وسيلة إلى الوطء كنسبة وَضْع الماء في الفم الذي هو وسيلة إلى شربه؛ فكما أن هذا الأمر لا يضُرُّ فكذلك الآخر.
وقد قال النبي
(3)
صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله فقال: إن أبي أدركه الإسلام، وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرَّحل، والحجُّ مكتوب عليه، أفأحجُّ عنه؟
(1)
في النسخ المطبوعة: "فصم"، تحريف.
(2)
رواه أحمد (138، 372)، وأبو داود (2385)، والنسائي في "الكبرى"(3036) من حديث عمر مرفوعا. وضعفه الإمام أحمد، فقال:"هذا ريحٌ، ليس من هذا شيءٌ". نقله عنه ابن قدامة في المغني (3/ 127). وقال النسائي: "هذا حديث منكر
…
ولا ندري ممّن هذا؟! ". وأغرب ابن الجوزي فضعفه في كتابه "التحقيق" (2/ 88)، وقال: "ليث ضعيف الحديث". كذا قال! وليث هو ابن سعد الإمامُ الحافظ الحجة، وليس ابنَ أبي سليم. وقد كشف غلطه الإمامُ ابنُ تيمية وتلميذه ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" (3/ 234 - 235).
أما ابن خزيمة فصححه (1999). وصححه أيضًا الطحاوي في "شرح معاني الآثار"(2/ 89)، وابن حبان (5798)، والحاكم (1/ 431)، واختاره الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"(1/ 195، 196). وانظر: "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (3/ 236 - 237)، و"مسند الفاروق" لابن كثير (1/ 417 - 419).
(3)
لفظ "النبي" لم يرد في النسخ المطبوعة.
فقال
(1)
: "أنت أكبر ولده؟ ". قال: نعم. قال: "أرأيتَ لو كان على أبيك دَينٌ، فقضيتَه عنه، أكان يجزئ عنه؟ " قال: نعم. قال: "فحُجَّ عنه"
(2)
. فقرَّب الحكم من الحكم، وجعل دَينَ الله سبحانه في وجوب القضاء أو في قَبوله بمنزلة دَين الآدمي، وألحق [118/ب] النظير بالنظير. وأكَّد هذا المعنى بضَرْب من الأَولى، وهو قوله:"اقضُوا الله، فالله أحقُّ بالقضاء"
(3)
.
ومنه: الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وفي بُضْعِ أحدِكم صدقة"، قالوا: يا رسول الله، يأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟ قال:"أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان يكون عليه وزر؟ " قالوا: نعم. قال: "فكذلك إذا وضعها في الحلال يكون له أجر"
(4)
. وهذا من قياس العكس الجليِّ البيِّن، وهو إثبات نقيض حكم الأصل في الفرع لثبوت ضدِّ علَّته فيه.
ومنه: الحديث الصحيح: أن أعرابيًّا أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، وإني أنكرتُه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل لك من إبل؟ " قال: نعم. قال: "فما ألوانها؟ " قال: حُمْر، قال:"هل فيها من أورَق؟ ". قال: إنَّ فيها لَوُرْقًا. قال: "فأنَّى تُرى ذلك جاءها؟ " قال: يا رسولَ الله عِرْقٌ نَزَعه.
(1)
في النسخ المطبوعة: "قال".
(2)
رواه أحمد (16125)، والنسائي (2638) من حديث يوسف بن الزبير، عن عبد الله بن الزبير. ويوسف هذا مستور الحال. واختار الضياءُ المقدسي هذا الحديث في "الأحاديث المختارة"(9/ 351، 352). وانظر: "العلل الكبير" للترمذي (ص 135)، و"العلل" للدارقطني (15/ 287 - 288)، و"تحفة الأشراف" للمزي (4/ 333).
(3)
أخرجه البخاري (1852) من حديث ابن عباس.
(4)
أخرجه مسلم (1006) من حديث أبي ذر.
قال: "ولعل هذا عِرقٌ نزَعه"، ولم يرخِّص له في الانتفاء منه
(1)
. ومن تراجم البخاري على هذا الحديث: "باب مَن شبَّه أصلًا معلومًا بأصل مبيَّن قد بيَّن الله حكمَهما، لِيُفهِمَ السائلَ".
ثم ذكر بعده
(2)
حديث ابن عباس: أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إنّ أمِّي نذرت أن تحُجَّ، فماتت قبل أن تحُجَّ، أفأحجُّ عنها؟ قال:"نعم، حُجِّي عنها، أرأيتِ لو كان على أمكِ دَينٌ أكنتِ قاضيتَه؟ ". قالت: نعم. فقال: "اقضُوا الله، فإنَّ الله أحقُّ بالوفاء".
وهذا الذي ترجمه البخاري هو فصلُ النزاع في القياس، لا كما يقوله [119/أ] المُفْرِطون فيه ولا المفرِّطون. فإنَّ الناس فيه طرفان ووسط، فأحدُ الطرفين مَن ينفي العلل والمعاني والأوصاف المؤثِّرة، ويجوِّز ورودَ الشريعة بالفرق بين المتساويين والجمع بين المختلفين، ولا يثبت أن الله سبحانه شرَع الأحكام لعلل ومصالح، وربَطَها بأوصاف مؤثِّرةٍ فيها مقتضيةٍ لها طردًا وعكسًا؛ وأنه قد يوجب
(3)
الشيءَ ويحرِّم نظيرَه من كلِّ وجه، ويحرِّم الشيءَ ويُبيح نظيرَه من كلِّ وجه، وينهى عن الشيء لا لمفسدة فيه، ويأمر به لا لمصلحة بل لمحض المشيئة المجرَّدة عن الحكمة والمصلحة.
وبإزاء هؤلاء قومٌ أفرطوا فيه، وتوسَّعوا جدًّا، وجمعوا بين الشيئين اللذين فرَّق الله بينهما بأدنى جامع من شَبَهٍ أو طردٍ أو وصفٍ يتخيَّلونه علَّةً يمكن أن يكون علَّته وأن لا يكون، فيجعلونه هو السبب الذي علَّق الله
(1)
أخرجه البخاري (7314) ومسلم (1500) من حديث أبي هريرة.
(2)
برقم (7315).
(3)
يعني: ويجوِّز الطرف المذكور أن الله سبحانه قد يوجب
…
ورسوله عليه الحكمَ بالخَرْص والظن. وهذا هو الذي أجمع السلف على ذمِّه كما سيأتي إن شاء الله.
والمقصود: أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يذكر في الأحكام العِلَل والأوصاف المؤثِّرة فيها طردًا وعكسًا كقوله للمستحاضة التي سألته: هل تدع الصلاة زمنَ استحاضتها؟ فقال: "لا، إنما ذلك عِرْق، وليس بالحيضة"
(1)
. فأمرها أن تصلِّيَ مع هذا
(2)
الدم، وعلَّل بأنه دمُ عِرْق، وليس بدم حيض. وهذا قياس يتضمَّن الجمع والفرق.
فإن قيل: فشرطُ صحةِ القياس ذكرُ الأصلِ المقيس عليه، ولم يذكر في الحديث.
قيل: هذا من حسن الاختصار، والاستغناء بالوصف الذي يستلزم ذكرَ [119/ب] الأصل المقيس عليه؛ فإن المتكلِّم قد يعلِّل بعلَّة يغني ذكرُها عن ذكر الأصل، ويكون تركُه لذكر الأصل أبلغَ من ذكره، فيعرف السامع الأصلَ حين يسمع ذكر العلة، فلا يشكل عليه. ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين علَّل عدمَ وجوبِ
(3)
الصلاة مع هذا الدم بأنه عِرْقٌ صار الأصل الذي يُردّ إليه هذا الكلام معلومًا، فإن كلَّ سامعٍ سمِع هذا يفهم منه أنّ دمَ العِرْق لا يوجب ترك الصلاة. ولو قال:"هو عِرْق، فلا يوجب تركَ الصلاة كسائر دم العروق" لكان عِيًّا، وعُدَّ من الكلام الركيك، ولم يكن لائقًا بفصاحته. وإنما يليق هذا بعَجْرفة المتأخرين وتكلُّفهم وتطويلهم.
(1)
أخرجه البخاري (228) ومسلم (333) من حديث عائشة أم المؤمنين.
(2)
لم يرد "هذا" في ح، ف.
(3)
كذا في النسخ، وهو سهوٌ. ومقتضى السياق:"عدم سقوط الصلاة".
ونظير هذا: قوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن مسِّ ذكره: "هل هو إلا بَضْعة منك؟ "
(1)
. فاستغنى بهذا عن تكلُّف قوله: كسائر البَضَعات.
ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم للمرأة التي سألته: هل على المرأة من غُسْل إذا هي احتلمت؟ فقال: "نعم". فقالت أمُّ سُلَيم: أوَتحتلم المرأة يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما النساء شقائق الرجال"
(2)
. فبيَّن أن النساء والرجال شقيقان ونظيران، لا يتفاوتان ولا يتباينان في ذلك. وهذا يدل على أن من المعلوم الثابت في فِطَرهم أنَّ حكمَ الشقيقين والنظيرين حكم واحد، سواء كان ذلك تعليلًا منه صلى الله عليه وسلم للقدر أو للشرع أو لهما؛ فهو دليل على تساوي الشقيقين، وتشابُهِ القرينين، وإعطاءِ أحدهما حكمَ الآخر.
(1)
سبق تخريجه قريبًا.
(2)
رواه أحمد (27118) من حديث أم سليم، وسنده ضعيف منقطع، وله شاهد من حديث عائشة رواه أحمد (26195)، وأبو داود (236)، والترمذي (113)، وأصله عند ابن ماجه (612). وفي سنده عبد الله العمري، وهو ضعيف، وقد أغرب جدّا بروايته إياه بذاك السند الرفيع عن أخيه عبيد الله، عن القاسم، عن عائشة! ولذلك استنكره الإمام أحمد، كما في "فتح الباري" لابن رجب (1/ 342).
ورواه الدارمي (791)، والبزار (6418)، وأبو عوانة (832) من حديث أنس مرفوعًا. وصححه عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الوسطى"(1/ 192)، وتبعه ابن القطان الفاسي في "بيان الوهم والإيهام"(2/ 299، 5/ 270 - 271). والصواب أنه من مناكير محمد بن كثير الصنعاني وأوابده التي رواها عن الأوزاعي. وليتَ عبد الحق مشى في "الأحكام الوسطى" على ما كان سطره في "الأحكام الشرعية الكبرى"(1/ 498).
فصل
[120/أ] وقد أقرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم معاذًا على اجتهاد رأيه فيما لم يجد فيه نصًّا عن الله ورسوله، فقال شعبة: حدثني أبو عون، عن الحارث بن عمرو، عن أناس من أصحاب معاذ، عن معاذ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال:"كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ ". قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: "فإن لم يكن في كتاب الله؟ " قال: فسنَّةُ
(1)
رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: "فإن لم يكن في سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " قال: أجتهد رأيي، لا آلو. قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري، ثم قال:"الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله لِما يُرضي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم"
(2)
.
(1)
كذا في ح وغيرها، وهو موافق لما في بعض نسخ "مسند الإمام أحمد" كما نبَّه محققوه. وفي س:"فبسنَّة"، وكذا في طبعات الكتاب، وهو المشهور.
(2)
رواه أحمد (22007، 22100)، وأبو داود (3593)، والترمذي (1328) من طرق عن شعبة، عن الحارث بن عمرو، عن أُناس من أهل حمص، عن معاذ به. ورواه أحمد (22061)، وأبو داود (3592)، والترمذي (1327) من طريقين آخرين عن شعبة به، لكنه أرسله، ولم يذكر معاذًا. وقال الترمذي:"هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتّصل".
والحارث هذا مجهول لا يُعرَف إلا بهذا الحديث، وقد تفرّد به عن هؤلاء الشيوخ المُبهَمين الذين لا يُعرَفون، وقد قال البخاري في "التاريخ الكبير" (2/ 277):"لايصح، ولا يُعرف إلا بهذا، مرسل". ونحوه في "تاريخه الأوسط"(3/ 139). ووافقه العقيلي في كتابه "الضعفاء"(1/ 565)، وابن عدي في "الكامل"(2/ 465).
وانظر: "العلل" للدارقطني (6/ 88 - 89)، و"الإحكام"(6/ 35، 7/ 111)، و"المحلى"(1/ 62) كلاهما لابن حزم، و"الأباطيل" للجورقاني (1/ 244)، و"الأحكام الوسطى" لعبد الحق الإشبيلي (3/ 342)، و"العلل المتناهية" لابن الجوزي (2/ 272 - 273)، و"بيان الوهم والإيهام" لابن القطان الفاسي (3/ 67 - 68، 549)، و"ميزان الاعتدال" للذهبي (1/ 439)، و"البدر المنير" لابن النحوي (9/ 534 - 541)، و"التلخيص الحبير" لابن حجر (4/ 336 - 337)، و"سلسلة الأحاديث الضعيفة" للألباني (881).
فهذا حديث وإن كان عن غير مسمَّين، فهم أصحاب معاذ، فلا يضرُّه ذلك؛ لأنه يدل على شهرة الحديث، وأنَّ الذي حدَّث به الحارثَ بن عمرو جماعةٌ
(1)
من أصحاب معاذ، لا واحدٌ منهم. وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحدٍ منهم ولو
(2)
سُمِّي. كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحلِّ الذي لا يخفى؟ ولا يُعرَف في أصحابه متهم ولا كذاب ولا مجروح، بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم، لا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك. كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث؟ وقد قال بعض أئمة الحديث: إذا رأيتَ شعبةَ في إسناد حديثٍ فاشدُدْ يديك به
(3)
.
قال أبو بكر الخطيب
(4)
: "وقد قيل: إن عُبادة بن نُسَيٍّ رواه عن عبد الرحمن بن غَنْم عن معاذ
(5)
. وهذا إسناد متصل، ورجاله [120/ب]
(1)
في النسخ المطبوعة: "عن جماعة"، وهو غلط أفسد السياق.
(2)
في النسخ المطبوعة: "لو" بإسقاط الواو قبلها.
(3)
سينقل المصنف هذا القول مرة أخرى، ويزيد عليه أن "من جعل شعبةَ بينه وبين الله فقد استوثق لدينه". والظاهر أن الأمر على الأغلب، فإن عاصم بن علي روى عن شعبة قوله:"لو لم أحدِّثكم إلا عن ثقة لم أحدِّثكم عن ثلاثين". انظر: "الكفاية" للخطيب (ص 90).
(4)
في "الفقيه والمتفقه"(1/ 472 - 473).
(5)
رواه ابن ماجه (55) من طريق محمد بن سعيد بن حسان، عن عبادة بن نسي، عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ مرفوعا بلفظ آخر مختصر. ومحمد بن سعيد هذا كذاب تالف، قد صُلب بسبب زندقته!
معروفون بالثقة؛ على أنَّ أهل العلم قد تقبَّلوه
(1)
واحتجُّوا به. فوقفنا بذلك على صحته عندهم، كما وقفنا على صحة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا وصية لوارث"
(2)
، وقوله في البحر:"هو الطهور ماؤه، الحِلُّ ميتته"
(3)
،
وقوله: "إذا اختلف المتبايعان في الثمن، والسلعةُ قائمةٌ، تحالفا وترادَّا البيعَ"
(4)
، وقوله:
(1)
ما عدا ح: "نقلوه"، وكذا في النسخ المطبوعة. وفي مصدر النقل ما أثبت.
(2)
رواه أحمد (17666، 17669، 18083، 18086، 18087)، والترمذي (2121) ــ وصحّحه ــ، وابن ماجه (2712)، والنسائي (3641، 3642) من حديث شهر بن حوشب، عبد الرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة مرفوعا. ورواه أحمد (22294)، وأبو داود (2870، 3565)، والترمذي (2120) ــ وحسّنه ــ، وابن ماجه (2713) من طريق إسماعيل بن عياش، عن شرحبيل بن مسلم، عن أبي أمامة مرفوعا. وانظر:"تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (4/ 250 - 252)، و"التلخيص الحبير" لابن حجر (3/ 197 - 200).
(3)
رواه أحمد (7233، 8735، 8912، 9099)، وأبو داود (83)، والترمذي (69) ــ وصحّحه ــ، وابن ماجه (386)، والنسائي (58) من حديث أبي هريرة مرفوعا.
وصحّحه أيضًا البخاري، كما في "العلل الكبير" للترمذي (33)، وابن خزيمة (111)، وابن حبان (4327، 5815)، والحاكم (1/ 141)، وغيرُهم من الحفّاظ. ورواه أحمد (15012)، وابن ماجه (388) من حديث جابر مرفوعا، وصحّحه ابن خزيمة (112)، وابن حبان (4328)، وصحّحه الحاكم (1/ 143) من طريق أخرى عن جابر.
وللحديث شواهد كثيرة يضيق هذا المجال عن سردها، وقد جمعها الحافظ ابن عبد الهادي في جزء كبير، أشار إليه في "تنقيح التحقيق" (1/ 12). وانظر:"المستدرك" للحاكم (1/ 142 - 143)، و"التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 8 - 13).
(4)
بهذا اللفظ علّقه الطحاوي في "بيان المشكل"(6/ 161)، وفي "شرح معاني الآثار"" (4/ 155). ومِن أقرب الألفاظ إليه: ما رواه الطبراني في "المعجم الكبير"(10365)، وفي "الأوسط"(3720) من حديث ابن مسعود مرفوعا بمعناه، وليس عنده: تحالفا. وفي ألفاظ الحديث وسنده اختلافٌ يُنظر فيما سرده عبد الله ابن الإمام أحمد لأبيه (4442 - 4447)، وفي "المسند" للدارمي (2591)، "السنن" لأبي داود (3511، 3512)، و"السنن" لابن ماجه (2186)، و"العلل" للدارقطني (5/ 203 - 205).
"الدية على العاقلة"
(1)
. وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد، لكن لما تلقَّتها الكافَّة عن الكافَّة غَنُوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها. فكذلك حديث معاذ لما احتجُّوا به جميعًا غَنُوا عن طلب الإسناد له" انتهى كلامه.
وقد جوَّز النبيُّ صلى الله عليه وسلم للحاكم أن يجتهد رأيه، وجعَل له على خطئه في اجتهاد الرأي أجرًا واحدًا إذا كان قصدُه معرفةَ الحق واتباعَه
(2)
.
فصل
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهدون في النوازل، ويقيسون بعض الأحكام على بعض، ويعتبرون النظير بنظيره.
قال أسد بن موسى: ثنا شعبة، عن زُبَيد اليامي، عن طلحة بن مصرِّف، عن مُرَّة الطيِّب، عن علي بن أبي طالب: كلُّ قوم على بيِّنةٍ من أمرهم، ومصلَحةٍ
(3)
(1)
رواه مسلم في "الصحيح"(1682) من حديث المغيرة بن شعبة من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم لا من قوله. ومعناه في الصحيحين من حديث أبي هريرة. وهذا القول مشهورٌ من قول عمر موقوفا، رواه الترمذي (1474، 2243) ــ وصحّحه ــ، والنسائي في "السنن الكبرى"(6329). ورواه أبو داود (2927)، وابن ماجه (2642)، والنسائي في "السنن الكبرى" (6330) عنه بلفظ:"الدية للعاقلة".
(2)
كما في حديث عمرو بن العاص، أخرجه البخاري (7352) ومسلم (1716).
(3)
كذا في النسخ، ومصدر النقل ــ وهو "الفقيه والمتفقه" ــ و"الفصول في الأصول" لأبي بكر الجصاص (4/ 50). وفي "البيان والتبيّن" (2/ 35) و"غريب الحديث" للخطابي (3/ 198) و"الفائق" للزمخشري (3/ 142):"على زينة من أمرهم ومَفْلَحة". وفسَّره الخطابي بأنهم "راضون بعملهم، مغتبطون بذلك عند أنفسهم، كقوله تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] ".
من أنفسهم، يُزْرُون
(1)
على مَن سواهم. ويُعرَف الحقُّ بالمقايسة عند ذوي الألباب
(2)
.
وقد رواه الخطيب وغيره مرفوعًا
(3)
، ورفعه غير صحيح.
وقد اجتهد الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحكام، ولم يعنِّفهم؛ كما أمرهم يوم الأحزاب أن يصلُّوا العصر في بني قريظة، فاجتهد بعضُهم، وصلَّاها في الطريق، وقال [121/أ]: لم يُرِد منَّا التأخير، وإنما أراد سرعةَ النهوض؛ فنظروا إلى المعنى. واجتهد آخرون، وأخَّروها إلى بني قريظة، فصلَّوها ليلًا؛ نظروا إلى اللفظ. وهؤلاء
(4)
سلف أهل الظاهر.
(1)
يعني: يعيبون على غيرهم. زرَى عليه فعلَه يزري زرايةً: عابه. وأزرى به: تهاونَ به. وأزرى عليه لغة قليلة.
(2)
لو ثبت أن أسد بن موسى روى هذا الخبر عن شعبة؛ لكان السند جيّدا، لكن الظاهر أن المصنّف رحمه الله تعالى وجده مرويًّا من طريقه مرفوعا، واستنكره، واستظهر أنه في الأصل موقوفٌ، وتجوّز في إيراده على ذاك الوجه الغريب.
(3)
رواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه"(1/ 476) من طريق أبي الفتح الأزدي، عن علي بن إبراهيم البلدي، عن أحمد بن محمد الكندي، عن أسد به مرفوعا. وهو منكر جدّا بهذا الإسناد، بل رفعُه باطلٌ بلا ريب، والظاهر أن آفته من البلدي، على أن في السند مغامز أخرى.
(4)
في المطبوع: "وأولئك".
وأولئك سلف أصحاب المعاني والقياس.
ولما كان عليٌّ باليمن أتاه ثلاثة نفر يختصمون في غلام، فقال كلٌّ منهم: هو ابني. فأقرع عليٌّ بينهم، فجعل الولدَ للقارع، وجعل عليه للرجلين ثلثي الدية. فبلغ ذلك
(1)
النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فضحك حتى بدت نواجذه من قضاء علي رضي الله عنه
(2)
.
واجتهد سعد بن معاذ في بني قريظة، وحكم فيهم باجتهاده، فصوَّبه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:"لقد حكمتَ فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات"
(3)
.
واجتهد الصحابيان اللذان خرجا في سفر، فحضرت الصلاة، وليس معهما ماء، فصلَّيَا. ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما ولم يُعِد الآخر. فصوَّبهما، وقال للذي لم يُعِدْ:"أصبتَ السنّة، وأجزأتك صلاتك". وقال للآخر: "لك الأجر مرّتين"
(4)
.
(1)
"ذلك" ساقط من ع، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
رواه أحمد (19329، 19342، 19344)، وأبو داود (2269، 2270)، وابن ماجه (2348)، والنسائي (3488 - 3491) من حديث زيد بن أرقم به، وفي سنده اضطراب واختلاف، ورجّح النسائي رواية مرسلة رواها هو (3492)، وأبو داود (2271). وسبقه إلى هذا الترجيح أبو حاتم، كما في "العلل" لابنه عبد الرحمن (1204، 2317). وانظر: "العلل" للدارقطني (3/ 117 - 119). وسيأتي الكلام على الحديث بشيء من التفصيل. وقد أفاض القول أيضًا في طرق الحديث ووجه إلزام القارع بثلثي الدية في: "الطرق الحكمية"(2/ 592، 598، 614 - 619). وانظر: "زاد المعاد"(5/ 385 - 386) و"تهذيب السنن"(1/ 561 - 564).
(3)
أخرجه البخاري (3804) ومسلم (1768) من حديث أبي سعيد الخدري. واللفظ الوارد هنا وقع في "مسند الحارث". انظر: "بغية الباحث"(693).
(4)
رواه أبو داود (338)، والنسائي (433) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا، وقال أبو داود:"وذِكْرُ أبي سعيد في هذا الحديث ليس بمحفوظ، هو مرسل". وأشار إلى ذلك النسائي حين أعقب الموصول بروايته إياه (434) من مرسل عطاء بن يسار. وكذا صنع الدارقطني في "السنن"(727، 728)، والبيهقي (1/ 231). أما الحاكم، فصحّحه في "المستدرك"(1/ 178 - 179) على شرط الشيخين! مع حكايته الخلافَ في وصله وإرساله.
ولما قاسَ مجزِّز المُدْلِجي وقافَ وحكَم بقياسه وقيافته على أن أقدام زيد وأسامة ابنِه بعضُها من بعض سُرَّ بذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى برَقت أساريرُ وجهه من صحة هذا القياس وموافقته للحق
(1)
. وكان زيد أبيض وابنه أسامة أسود، فألحق هذا القائفُ الفرعَ بنظيره وأصله، وألغى وصف السواد والبياض الذي لا تأثير له في الحكم.
وقد تقدَّم
(2)
قول الصديق في الكلالة: " أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمنِّي ومن الشيطان [121/ب]، أراهُ ما خلا الوالدَ والولدَ". فلما استخلف عمر قال: إني لأستحيي اللهَ
(3)
أن أرُدَّ شيئًا قاله أبو بكر
(4)
.
وقال الشعبي عن شريح قال: قال لي عمر: اقضِ بما استبان لك من كتاب الله. فإن لم تعلم كلَّ كتابِ الله فاقضِ بما استبان لك من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن لم تعلم كلَّ أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقضِ بما استبان لك من أئمة المهتدين. فإن لم تعلم كلَّ ما قضت به أئمةُ المهتدين فاجتهِدْ رأيَك،
(1)
أخرجه البخاري (3731) ومسلم (1459) من حديث عائشة.
(2)
في (ص 179) من هذا المجلد.
(3)
ع، ف:"من الله". وكذا في النسخ المطبوعة.
(4)
رواه عبد الرزاق (19191) ــ ومن طريقه ابن المنذر في "التفسير"(1443) ــ، وسعيد بن منصور في "السنن"(591 - التفسير)، والدارمي (3015)، وابن جرير في "جامع البيان"(6/ 475) من رواية الشعبي، عنه به.
واستشِرْ أهلَ العلم والصلاح
(1)
.
وقد اجتهد ابن مسعود في المفوِّضة، وقال: أقول فيها برأيي
(2)
. ووفَّقه الله للصواب.
وقال سفيان، عن عبد الرحمن الإصبهاني، عن عكرمة قال: أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسأله عن زوج وأبوين، فقال: للزوج النصف، وللأم ثلثُ ما بقي، وللأب بقية المال. فقال: تجده في كتاب الله أو تقوله برأيك؟ قال: أقوله برأيي، ولا أفضِّل أمًّا على أب
(3)
.
وقايَسَ عليَّ بن أبي طالب زيدُ
(4)
بن ثابت في المكاتَب
(5)
، وقايَسَه في الجدِّ والإخوة
(6)
.
وقاس ابن عباس الأضراسَ بالأصابع، وقال: عقلُها سواء، اعتبِروها بها
(7)
.
قال المُزَني: الفقهاء من عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا وهَلُمَّ جَرًّا استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم. قال:
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
رواه عبد الرزاق (19020)، وابن أبي شيبة (31710)، والبيهقي (6/ 228)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(1/ 496).
(4)
في النسخ المطبوعة: "كرَّم الله وجهه، وزيد".
(5)
سبق تخريجه.
(6)
سبق تخريجه.
(7)
سبق تخريجه.
وأجمعوا أنّ
(1)
نظيرَ الحقِّ حقٌّ، ونظيرَ الباطل باطلٌ. فلا يجوز لأحد إنكار القياس، لأنه التشبيه بالأمور والتمثيل عليها.
قال أبو عمر
(2)
بعد حكاية ذلك عنه: "ومن القياس المجمَع عليه: صيدُ ما عدا الكلب
(3)
من الجوارح قياسًا على الكلاب، بقوله:{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4].
وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4]، [122/أ] فدخل في ذلك المحصَنون قياسًا.
وكذلك قوله في الإماء: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، فدخل في ذلك العبد قياسًا عند الجمهور، إلا من شذَّ ممن لا يكاد يُعَدُّ قولُه خلافًا.
وقال في جزاء الصيد المقتول في الإحرام: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95]، فدخل فيه قتلُ الخطأ قياسًا عند الجمهور إلا من شذَّ.
وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، فدخل في ذلك الكتابيات قياسًا.
(1)
ع: "بأن"، وكذا في النسخ المطبوعة. والصواب ما أثبت من س، ح، ت، وكذا في مصدر النقل. وفي ف:"على أن".
(2)
في "جامع بيان العلم"(2/ 872 - 874).
(3)
في "الجامع": "الكلاب"، وفي النسخ المطبوعة:"المكلب".
وقال في الشهادة في المداينات: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]، فدخل في معنى {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282] قياسًا المواريثُ والودائعُ والغصوبُ وسائرُ الأموال.
وأجمعوا على توريث البنتين الثلثين قياسًا على الأختين. وقال عمن أعسَرَ بما بقي عليه من الربا: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، فدخل في ذلك كلُّ مُعسِر بدين حلال، وثبت ذلك قياسًا.
ومن هذا الباب: توريث الذكر ضعفي ميراث الأنثى منفردًا، وإنما ورد النصُّ في اجتماعهما بقوله:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، وقال:{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176].
ومن هذا الباب أيضًا: قياس التظاهر بالبنت على التظاهر بالأم، وقياس الرقبة في الظِّهار على الرقبة في القتل بشرط الإيمان، وقياس تحريم الأختين وسائر القرابات من الإماء على الحرائر في الجمع [122/ب] في التسرِّي".
قال: "وهذا لو تقصَّيتُه لطال به الكتاب".
قلت: بعض هذه المسائل فيها نزاع، وبعضها لا يُعرَف فيها نزاع بين السلف.
وقد رام بعض نفاة القياس إدخال هذه المسائل المجمَع عليها في العمومات اللفظية، فأدخل قذفَ الرجال في قذف المحصنات، وجعل
المحصنات صفة للفروج لا للنساء. وأدخل صيد الجوارح كلِّها في قوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} ، وقوله:{مُكَلِّبِينَ} وإن كان من لفظ الكلب فمعناه: مُضْرِين
(1)
لها على الصيد. قاله مجاهد والحسن، وهو رواية عن ابن عباس. وقال أبو سليمان الدمشقي:"مكلِّبين" معناه: معلِّمين. وإنما قيل لهم "مكلِّبين"، لأن الغالب من صيدهم إنما يكون بالكلاب
(2)
.
وهؤلاء وإن أمكنهم ذلك في بعض المسائل، كما جزموا بتحريم أجزاء الخنزير لدخوله في قوله:{فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]، وأعادوا الضمير إلى المضاف إليه دون المضاف، فلا يمكنهم ذلك في كثير من المواضع؛ وهم يُضطرُّون
(3)
فيها ــ ولا بدَّ ــ إلى القياس، أو القول بما لم يقل به غيرهم ممن تقدَّمهم.
فلا يُعلَم أحدٌ من أئمة الفتوى يقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سئل عن فأرة وقعت في سمن:"أَلقُوها وما حولها وكُلوه"
(4)
: إن ذلك مختصّ بالسَّمْن دون سائر الأدهان والمائعات. هذا مما يقطع بأن الصحابة والتابعين
(1)
كذا ضُبِط في ع، من الإضراء. ويجوز "مُضَرِّين" من التضرية. ضرِيَ الكلبُ بالصيد ضراوةً: تطعَّم بلحمه ودمه، واعتاد ذلك فلا يكاد يصبر عنه. وأضراه صاحبُه: عوَّده. وأضراه به وضرَّاه: أغراه. وفي النسخ المطبوعة: "مُغْرِين". وفي "زاد المسير": "مصرين" بالصاد المهملة، تصحيف.
(2)
"زاد المسير"(2/ 292).
(3)
س: "يضطربون"، تصحيف. وفي ع:"مضطرون"، وكذا في النسخ المطبوعة. وقد سقط من ع "فيها".
(4)
أخرجه البخاري (5538) من حديث ميمونة.
وأئمة الفتيا لا يفرِّقون فيه بين السَّمْن والزَّيت والشَّيْرَج
(1)
والدِّبْس، كما لا يفرِّقون
(2)
بين الفأرة والهرَّة في ذلك.
وكذلك نهيُ النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع [123/أ] الرُّطَب بالتمر
(3)
، لا يفرِّق عالمٌ يفهم عن الله ورسوله بين ذلك وبين بيع العنب بالزبيب.
ومن هذا أن الله سبحانه قال في المطلقة ثلاثًا: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 230]
(4)
. أي إن طلَّقها الثاني فلا جناح عليها وعلى الزوج الأول أن يتراجعا، والمراد به تجديد العقد. وليس ذلك مختصًّا بالصورة التي يطلِّق فيها الثاني فقط، بل متى تفارقا بموت أو خُلْع أو فَسخ أو طلاق حلَّت للأول قياسًا على الطلاق.
ومن ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تأكلوا في آنية الذهب والفضة، ولا تشربوا في صِحافها، فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة "
(5)
، وقوله:"الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يُجَرجِرُ في بطنه نارَ جهنم"
(6)
،
(1)
الشَّيْرَج: دهن السمسم، فارسي معرب. وقد عُرِّب بالقاف أيضًا (اللسان ــ ردق)، وأصله في الفهلوية بالكاف الفارسية وبكسر أوله. وهي في الفارسية: شِيره، بالهاء المجلوبة للاحتفاظ بفتحة آخره بعد سقوط الكاف. وهو فيها بمعنى العصارة. انظر:"برهان قاطع"(3/ 1325).
(2)
ع: "يفرق"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
أخرجه البخاري (2171) ومسلم (1538) من حديث ابن عمر.
(4)
في النسخ المطبوعة زيادة {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} .
(5)
أخرجه البخاري (5426) ومسلم (2067) من حديث حذيفة بن اليمان.
(6)
أخرجه البخاري (5634) ومسلم (2065) من حديث أم سلمة. ويقال: جَرجَر فلان الماءَ، إذا جَرَعه جرعًا متواترًا له صوت.
وهذا التحريم لا يختصُّ بالأكل والشرب، بل يعُمُّ سائرَ وجوه الانتفاع، فلا يحِلّ له أن يغتسل بها، ولا يتوضأ بها، ولا يدَّهِن فيها، ولا يكتحل منها. وهذا أمر لا يشك فيه عالم.
ومن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المُحْرِمَ عن القميص
(1)
والسراويل والعمامة والخفّين
(2)
، ولا يختصُّ ذلك بهذه الأشياء فقط، بل يتعدَّى النهيُ إلى الجِبَاب
(3)
والدُّلُوق
(4)
والمبطَّنات
(5)
والفَرَاجي
(6)
والأقبية
(7)
(1)
في النسخ المطبوعة: "ومن ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم المحرم عن لبس القميص".
(2)
أخرجه البخاري (134) ومسلم (1177) من حديث ابن عمر.
(3)
جمع الجُبَّة.
(4)
جمع الدَّلَق، وهو من ملابس القضاة والعلماء والصوفية. ذكر القلقشندي في صبح الأعشى (4/ 42) أن من القضاة والعلماء من "يلبس فوق ثيابه دلقًا متسع الأكمام طويلها مفتوحًا فوق كتفيه بغير تفريج، سابلًا على قدميه". ثم ذكر (4/ 43) أن مشايخ الصوفية: "مضاهون لطائفة العلماء في لبس الدلق إلا أنه يكون غير سابل ولا طويل الكم".
(5)
هي الثياب المحشوة بالفراء أو غيرها.
(6)
جمع الفَرَجيّة، وهي ثوب واسع طويل الأكمام كان يعمل عادة من الجَوخ ــ وهو ضرب من نسيج الصوف ــ ويكون مفرَّجًا من قدّام من أعلاه إلى أسفله، وقد يكون مفرَّجًا من خلف. انظر:"صبح الأعشى"(4/ 42، 43) و"تكملة دوزي"(8/ 34) و"المعجم العربي لأسماء الملابس"(ص 351 - 352).
(7)
جمع القَباء. قال الحميدي في "تفسير غريب الصحيحين": "هو الثوب المفرَّج المضموم وسطه". وكان يلبس فوق الثياب. وانظر: "المعجم العربي لأسماء الملابس"(ص 378 - 380) وليس فارسيًّا معرَّبًا كما قال بعضهم. انظر: "المعرب" للجواليقي طبعة دار القلم (ص 503) تعليق المحقق.
والعَرَقْشِينات
(1)
وإلى القُبْع
(2)
والطاقية والكوفية والكُلُوتة
(3)
والطَّيلَسان
(4)
والقَلَنْسُوةَ، وإلى الجَوربين والجُرموقين
(5)
والزَّرْبُول ذي الساق
(6)
، وإلى التُّبَّان
(7)
ونحوه.
ومن هذا: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط [123/ب] فليذهب معه بثلاثة أحجار"
(8)
.
(1)
جمع "العرقشين"، وهي كلمة فارسية مركبة من كلمتين "عَرَقْ چِين" وهو الذي يمتصُّ العرق، وكان يسمى في بعض البلدان "عَرَقيّة" و"مِعرقة" و"عرَّاقة". وكان يطلق عادة على طاقية تلبس تحت القلنسوة والعمامة لامتصاص العرق. ولكن يظهر أن كلَّ ما استعمل لامتصاص العرق يسمَّى "العرقشين" .. انظر:"مسالك الأبصار"(3/ 449) و"المعجم العربي لأسماء الملابس (ص 324).
(2)
هو ما يلبس تحت الخوذة لحماية الرأس، ويطلق أيضًا على طاقية صغيرة تلبس تحت العمامة. انظر: المرجع الأخير (ص 376).
(3)
غطاء للرأس مثل الطاقية والكوفية. انظر: المرجع الأخير (ص 434 - 435).
(4)
كساء يلقى على الكتف كالوشاح ويحيط بالبدن، كالذي يسمَّى الآن بالشال. انظر: المرجع الأخير (ص 306 - 307) و"المعرب" للجواليقي (ص 446).
(5)
الجُرموق: شيء يشبه الخفَّ، فيه اتساع، يُلبَس فوق الخف في البلاد الباردة. قاله النووي في "المجموع"(1/ 504). وهو عند الفقهاء خفّ فوق الخف مطلقًا. والكلمة فارسية معربَّة.
(6)
الزَّربول والزَّربون ضرب من الأحذية. انظر: "شفاء الغليل"(ص 170) و"تكملة دوزي"(5/ 299).
(7)
التُبَّان: السروال القصير الذي يستر العورة المغلَّظة فقط، يلبسه الملاحون. فارسي معرب، أصله تُنْبان. انظر:"الصحاح"(تبن) و"برهان قاطع"(1/ 514).
(8)
رواه أحمد (24771، 25012)، وأبو داود (40)، والنسائي (44) من حديث مسلم بن قرط، عن عروة، عن عائشة مرفوعا، ومسلم هذا مجهول، لا يُقبل منه تفرّده بهذا السند! وقد سلك الجادّة؛ فأخطأ بذكره عائشة رضي الله عنها، وقد خالفه هشام بن عروة، فرواه عن أبيه مرسلا. وانظر:"العلل" للدارقطني (14/ 205 - 206). لكن معنى الحديث ثابت؛ إذ له شواهد تدلّ على صحة معناه.
فلو ذهب معه بخرقة تُنظِّف
(1)
أكثرَ من الأحجار أو قطن أو صوف أو آجُرّ
(2)
ونحو ذلك جاز، وليس للشارع غرض في غير التنظيف والإزالة، فما كان أبلغ في ذلك كان مثل الأحجار في الجواز، وأولى
(3)
.
ومن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع الرجلُ على بيع أخيه أو يخطُب على خِطْبته
(4)
. ومعلوم أن المفسدة التي نهى عنها في البيع والخِطبة موجودة في الإجارة، فلا يحِلُّ له أن يؤجر على إجارته. وإن قُدِّر دخول الإجارة في لفظ البيع العام، وهو بيع المنافع، فحقيقتها غير حقيقة البيع، وأحكامها غير أحكامه.
ومن ذلك: قوله سبحانه في آية التيمم: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6]. فألحقت الأمة أنواع الحدث الأصغر على اختلافها في نقضها بالغائط، والآية لم تنصَّ من أنواع الحدث الأصغر إلا عليه أو على اللمس على قول من فسَّره بما دون الجماع، وألحقت الاحتلام
(1)
في النسخ المطبوعة: "وتنظف" بزيادة الواو قبل الفعل.
(2)
ع: "خزّ"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
في المطبوع: "بل أولى" ووضع "بل" بين حاصرتين.
(4)
أخرجه البخاري (2140) ومسلم (1413) من حديث أبي هريرة.
بملامسة النساء، وألحقت واجدَ ثمنِ الماء بواجده، وألحقت من خاف على نفسه أو بهائمه من العطش إذا توضأ بالعادم، فجوَّزت له التيمم وهو واجد للماء؛ وألحقت مَن خشي المرض من شدَّة برد الماء بالمريض في العدول عنه إلى البدل. وإدخالُ هذه الأحكام وأمثالها في العمومات المعنوية التي لا يستريب مَن له فهمٌ عن الله ورسوله في قصدِ عمومها، [124/أ] وتعليقِ الحكم به وكونه متعلَّقًا لمصلحة
(1)
العبد= أولى من إدخالها في عمومات لفظية، بعيدة التناول لها، ليست بحَرِيَّة الفهم منها
(2)
. ثم
(3)
لا ننكر
(4)
تناولَ العمومَين لها، فمن الناس من يتنبه لهذا، ومنهم من يتنبه لهذا، ومنهم من يتفطَّن لتناول العمومين لها.
ومن ذلك: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]. وقاست الأمة الرهنَ في الحضر على الرهن في السفر، والرهنَ مع وجود الكاتب على الرهن مع عدمه. فإن استُدِلَّ على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم رهَنَ درعَه في الحضر
(5)
، فلا عموم في ذلك، فإنما رهَنها على شعير استقرضه من يهودي. فلا بد من القياس إما على الآية، وإما على السنة.
(1)
س: "بمصلحة"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
في النسخ المطبوعة: "مما"، تحريف.
(3)
"ثم" ساقطة من ع، وكذا من النسخ المطبوعة، ولعل سقوطها أدَّى إلى تغيير "منها" إلى "مما".
(4)
هذا في ح، ف. وفي ت:"يُنكر"، وكذا في النسخ المطبوعة. ولم يعجم الفعل في س، ع.
(5)
أخرجه البخاري (2068) ومسلم (1603) من حديث عائشة.
ومن ذلك: أن سمُرة بن جُندُب لما باع خمر أهل الذمة، وأخذه في العُشور التي
(1)
عليهم، فبلغ عمر= قال
(2)
: قاتل الله سمرة! أمَا علِم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود! حُرِّمت عليهم الشحوم، فجمَلوها
(3)
، وباعوها، وأكلوا أثمانها"
(4)
. وهذا محض القياس من عمر رضي الله عنه، فإن تحريم الشحوم على اليهود كتحريم الخمر على المسلمين، وكما يحرُم ثمن الشحوم المحرَّمة فكذلك يحرُم ثمن الخمر الحرام.
ومن ذلك: أن الصحابة رضي الله عنهم جعلوا العبد على النصف من الحُرِّ في النكاح والطلاق والعِدّة قياسًا على ما نصَّ الله عليه من قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25].
قال عبد الرزاق
(5)
:
أنا سفيان بن عيينة [124/ب] عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن سليمان بن يسار، عن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عمر بن الخطاب قال: ينكح العبد اثنتين.
(1)
في جميع النسخ: "الذي"، والعشور: جمع العُشْر.
(2)
ع، ف:"فقال"، وكذا في النسخ المطبوعة. والصواب ما أثبت من س، ح، ت وهو جواب لمّا.
(3)
يعني: أذابوها وجمعوها.
(4)
أخرجه البخاري (2236) ومسلم (1581) من حديث جابر بن عبد الله.
(5)
في "المصنف"(12872، 13134) ورواه الشافعي في "الأم"(6/ 114، 552 - 553)، وسعيد بن منصور في "السنن"(1277، 2186)؛ ثلاثتُهم عن ابن عيينة به.
وانظر:"العلل" للدارقطني (2/ 195).
وقال عبد الرزاق
(1)
: أنا سفيان الثوري وابن جريج قالا: ثنا جعفر بن محمد، عن أبيه أن علي بن أبي طالب قال: ينكح العبد اثنتين.
وذكر الإمام أحمد
(2)
عن محمد بن سيرين قال: سأل عمر بن الخطاب الناس: كم يتزوج العبد؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: ثنتين، وطلاقه ثنتين
(3)
. وهذا كان بمحضر من الصحابة، فلم ينكره أحد.
وقال محمد بن عبد السلام الخُشَني: ثنا محمد بن المثنى، ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن ليث بن أبي سُلَيم، عن عطاء قال: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العبد لا يجمع بين النساء فوق اثنتين
(4)
.
وروى حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن أوس أن عمر قال: لو استطعت أن أجعل عدَّة الأمة حيضةً ونصفًا لفعلتُ. فقال رجل: يا
(1)
برقم (13133)، ورواه ابن أبي شيبة (16286). وهو منقطع، إذ أبو جعفر الباقر لم يُدرك عليًّا رضي الله عنه.
(2)
عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن محمد بن سيرين. انظر:"شرح الزركشي على الخرقي"(5/ 130) و"المغني"(9/ 473). ورواه عبد الرزاق (13135) بنحوه مختصرًا، ورواه ابن أبي شيبة (16293)، وسعيد بن منصور (786)، لكنْ أُبْهِمَ اسمُ الصحابي المُجيب. وسند الأثر منقطع، فابن سيرين لم يُدرك عمر رضي الله عنه.
(3)
كذا في النسخ. وفي "شرح الزركشي": "ثنتان"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(4)
رواه ابن حزم في "المحلى"(9/ 444) من طريق الخشني به. ورواه ابن أبي شيبة (16295) ــ ومن طريقه البيهقي (7/ 158) ــ عن المحاربي، عن ليث، عن الحَكَم به. ولا يبعد على ليث المختلط أن يكون اضطربَ في اسم شيخه الذي نقل عنه هذا الإجماع!
أمير المؤمنين فاجعلها شهرًا ونصفًا، فسكت
(1)
.
وقال عبد الله بن عتبة عن عمر: عدة الأمة إذا لم تحض شهرين
(2)
كعدَّتها إذا حاضت حيضتين
(3)
.
وروى ابن عيينة، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن سليمان ابن يسار، عن عبد الله بن عتبة، عن عمر: ينكح العبد امرأتين، ويطلِّق طلقتين. وتعتدُّ الأمة حَيضتين، وإن لم تكن تحيض فشهرين أو شهرًا ونصفًا
(4)
.
وقال علي: عدة الأمة حيضتان، فإن لم تكن تحيض فشهر ونصف
(5)
.
والمقصود: أن الصحابة رضي الله عنهم نصَّفوا ذلك قياسًا على تنصيف الله سبحانه الحدَّ على الأمة.
ومن ذلك: [125/أ] أن الصحابة قدَّموا الصدِّيق في الخلافة، وقالوا:
(1)
رواه سعيد بن منصور في "السنن"(1271) ــ ومن طريقه البيهقي (7/ 426) ــ عن حماد بن زيد به. وعمرو بن أوس سمع الخبر من رجل ثقفي لا يُعرف؛ فقد رواه الإمام الشافعي في "الأم"(6/ 553)، وعبد الرزاق (12874)، وسعيد بن منصور في "السنن"(1272)، وابن أبي شيبة (19103) عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن أوس قال: أخبرني رجلٌ من ثقيف
…
(فذكره).
(2)
كذا في جميع النسخ و"السنن الكبرى". وفي النسخ المطبوعة: "شهران".
(3)
رواه القاضي إسماعيل بن إسحاق الجهضمي، ومن طريقه البيهقي (7/ 425).
(4)
رواه الإمام الشافعي في "الأم"(6/ 552 - 553)، وعبد الرزاق (12872)، وسعيد بن منصور (1277، 2186).
(5)
رواه ابن أبي شيبة (19096) من طريق الحسن (وهو البصري)، عنه به، ولم يسمع الحسن من علي رضي الله عنه.
رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا؟
(1)
. فقاسوا الإمامة الكبرى على إمامة الصلاة.
وكذلك اتفاقهم على كتابة المصحف وجمع القرآن فيه
(2)
. وكذلك اتفاقهم على جمع الناس على مصحف واحد وترتيب واحد وحرف واحد
(3)
. وكذلك منعُ عمر
(4)
وعلي
(5)
من بيع أمهات الأولاد برأيهما
(6)
. وكذلك تسوية الصدِّيق بين الناس في العطاء برأيه
(7)
، وتفضيل عمر
(1)
رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 167)، والبلاذري في "أنساب الأشراف"(1/ 558، 10/ 66)، وأبو بكر الخلال في "السنة"(333)، والآجري في "الشريعة"(1193، 1303، 1824، 1828)، وابن بطة في "الإبانة"(9/ 755)، وأبو نعيم الأصبهاني في "فضائل الخلفاء"(ص 151)، وقوام السنة الأصبهاني في "الحجة"(2/ 371)، وابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق"(30/ 265) من طريقين عن أبي بكر الهذلي (وهو متروك)، عن الحسن، عن علي رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (4986) من حديث زيد بن ثابت.
(3)
أخرجه البخاري (4987) من حديث أنس بن مالك.
(4)
رواه الإمام مالك (2871)، وعبد الرزاق (13210، 13225، 13228، 13229)، وسعيد بن منصور (2049، 2053، 2054)، وابن أبي شيبة (22010، 22011، 22013، 22015، 22016).
(5)
يُوازَنُ ما في "المصنف" لابن أبي شيبة (22014) بـ "المصنف" لعبد الرزاق (13212، 13213، 13224)، و"السنن" لسعيد بن منصور (2046 - 2048)، و"المصنف" لابن أبي شيبة (22010، 22015).
(6)
وانظر: "الطرق الحكمية"(1/ 44 - 46).
(7)
رواه أبو عبيد في "الأموال"(647، 648، 649)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى"(3/ 195، 276)، والبيهقي (6/ 348).
برأيه
(1)
. وكذلك إلحاق عمر حدَّ الخمر بحدِّ القذف برأيه
(2)
، وأقرَّه الصحابة. وكذلك توريث عثمان بن عفان المبتوتةَ في مرض الموت برأيه
(3)
ووافقه الصحابة. وكذلك قال
(4)
ابن عباس في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه.
قال: أحسب كلَّ شيء بمنزلة الطعام
(5)
.
وكذلك عمر وزيد لما ورَّثَا الأمَّ ثُلُثَ ما بقي في مسألة زوج وأبوين، وامرأة وأبوين
(6)
= قاسا وجود الزوج على ما إذا لم يكن زوج، فإنه حينئذ
(1)
يعني: تفضيله البدريين في العطاء. انظر ما علَّقه البخاري (4022) عن قيس بن أبي حازم.
(2)
رواه النسائي في "السنن الكبرى"(5269، 5270) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الحاكم (4/ 376). ويُوازَن سندُه بما في "الموطأ" للإمام مالك (3117).
(3)
رواه الإمام مالك (2113، 2114، 2115، 2116)، والإمام الشافعي في "الأم"(6/ 643)، وعبد الرزاق (12191 - 12197)، وسعيد بن منصور (1958، 1959، 1970)، وابن أبي شيبة (19339)، وعمر بن شبة في "أخبار المدينة"(3/ 965، 966).
(4)
في النسخ المطبوعة: "قول".
(5)
أخرجه البخاري (2135) ومسلم (1525).
(6)
أثر عمر رضي الله عنه رواه سفيان الثوري في كتاب "الفرائض"(13)، وعبد الرزاق (19015)، وسعيد بن منصور (6، 7، 8)، وابن أبي شيبة (31700، 31701، 31703، 31704، 31708)، والدارمي (2907، 2914)، وعبد الله ابن الإمام أحمد في زياداته على "فضائل الصحابة" لأبيه (352)، وصححه الحاكم (4/ 335 - 336). وأثر زيد بن ثابت رضي الله عنه رواه عبد الرزاق (19017، 19020، 19021)، وسعيد بن منصور (5، 11، 12)، وابن أبي شيبة (31698، 31710، 31713، 31714)، والدارمي (2912، 2915، 2917).
يكون للأب ضعف
(1)
ما للأم، فقدَّرا أن
(2)
الباقي بعد الزوج والزوجة كلُّ المال. وهذا من أحسن القياس، فإن قاعدة الفرائض أن الذكر والأنثى إذا اجتمعا وكانا في درجة واحدة فإما أن يأخذ الذكرُ ضِعفَ ما تأخذ
(3)
الأنثى كالأولاد وبني الأب، وإما أن تُساويه كولد الأم. وأما أن الأنثى تأخذ ضِعفَ ما يأخذ الذكر، مع مساواتها له
(4)
في درجته
(5)
، فلا عهد به في الشريعة. فهذا من أحسن الفهم عن الله [125/ب] ورسوله.
وكذلك أخذُ الصحابة في الفرائض بالعَول وإدخال النقص على جميع ذوي الفروض، قياسًا على إدخال النقص على الغُرَماء إذا ضاق مالُ المفلس عن توفيتهم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للغرماء:"خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك"
(6)
. وهذا محضُ العدل، على أنَّ تخصيصَ بعض المستحقِّين بالحرمان وتوفيةَ بعضهم بأخذ نصيبه فليس
(7)
من العدل.
وقال عبد الرزاق
(8)
: أنا معمر، عن أيوب السختياني، عن عكرمة أن عمر بن الخطاب شاور الناس في حدِّ الخمر، وقال: إن الناس قد شربوها
(1)
في المطبوع: "ضعفي".
(2)
زاد بعدها في المطبوعة بين حاصرتين: "يكون".
(3)
في النسخ المطبوعة: "تأخذه".
(4)
لم يرد "له" في ح، ف. وفي ع:"مساواته لها"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(5)
في المطبوع: "الدرجة".
(6)
أخرجه مسلم (1556) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(7)
كذا في جميع النسخ. وفي النسخ المطبوعة: "ليس" على الجادة.
(8)
برقم (13542).
واجترؤوا عليها. فقال له علي: إن السكران إذا سكِر هذَى، وإذا هذى افترى، فاجعله حدَّ الفِرْية. فجعله عمر حدَّ الفرية ثمانين.
ورواه مالك
(1)
عن ثور بن زيد الدِّيلي
(2)
أن عمر شاور الناس.
ورواه وكيع
(3)
: ثنا ابن أبي خالد عن الشعبي قال: استشارهم عمر، فذكره.
ولم ينفرد عليٌّ بهذا القياس، بل وافقه عليه الصحابة. قال الزهري: أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن وَبْرة الكلبي
(4)
قال: بعثني خالد بن الوليد إلى عمر، فأتيته، وعنده علي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف
(5)
متكئون في المسجد. فقلت له: إن خالد بن الوليد يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إن الناس انبسطوا
(6)
في الخمر، وتحاقروا العقوبة، فما ترى؟ فقال عمر: هم هؤلاء عندك. قال: فقال عليٌّ: أراه إذا سكِر هذَى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون. فاجتمعوا على ذلك، فقال عمر: بلِّغ صاحبك ما قالوا. فضرب [126/أ] خالد ثمانين،
(1)
برقم (3117).
(2)
في جميع النسخ: "الايلي"، وهو تحريف.
(3)
من طريقه رواه ابن حزم في "الإحكام"(7/ 158).
(4)
في النسخ الخطية والمطبوعة: "الصلتي"، تصحيف.
(5)
في الأثر الوارد في مصادر التخريج هم خمسة وأولهم عثمان، ولكن المصنف صادر عن "الإحكام" لابن حزم (7/ 161).
(6)
في "الإحكام": "انتهكوا"، ولا يبعد أن يكون "انبسطوا" في النسخ مصحَّفًا منه. وفي مصادر التخريج:"انهمكوا".
وضرب عمر ثمانين. قال: وكان عمر إذا أُتِي بالرجل القوي المنتهك
(1)
في الشراب ضربه ثمانين، وإذا أُتي بالرجل الذي كان منه الزلة الضعيفِ ضربه أربعين. وجعل ذلك عثمان أربعين وثمانين
(2)
.
وهذه مراسيل ومسندات من وجوه متعددة يقوِّي بعضُها بعضًا، وشهرتها تغني عن إسنادها.
وقال عبد الرزاق
(3)
: ثنا سفيان الثوري، عن عيسى بن أبي عيسى الخبَّاط
(4)
، عن الشعبي قال: كره عمر الكلام في الجَدّ حتى صار جَدًّا. فقال: إنه كان من أبي بكر
(5)
أن الجدَّ أولى من الأخ، وذكر الحديث. وفيه: فسأل عنها زيدَ بن ثابت، فضرَبَ له مثلًا شجرةً
(6)
خرجت ولها أغصان.
(1)
في "المستدرك" و"الإحكام": "المنهمك".
(2)
رواه الدارقطني (3321) ــ ومن طريقه البيهقي (8/ 320) ــ، وصححه الحاكم (4/ 375).
(3)
برقم (19058). ورواه أيضًا ابن وهب في "المسند"(178)، والبيهقي (6/ 247، 248). وعيسى بن أبي عيسى متروك، لكن الخبر محفوظٌ مختصرًا، رواه الحاكم (4/ 339)، وابن حزم في "الإحكام"(7/ 170)، والبيهقي (6/ 247).
(4)
هكذا في ح. وفي غيرها والنسخ المطبوعة: "الخياط". ويقال له: "الحنَّاط" أيضًا. قال يحيى بن معين في "تاريخه ــ رواية الدوري"(3/ 554): "كان خيَّاطًا"، ثم ترك ذاك وصار حنَّاطًا، ثم ترك ذاك وصار يبيع الخبط". والحناط: الذي يبيع القمح. والخبَط ما يُخبط من الشجر من الأوراق، فكان يبيعه علفًا للدواب. وانظر:"الأنساب" للسمعاني (5/ 35).
(5)
كذا في النسخ كلها وكتاب "الإحكام"، وهو مصدر النقل. وفي النسخ المطبوعة:"من رأي أبي بكر". وفي "المصنّف": "من رأيي ورأي أبي بكر".
(6)
في النسخ المطبوعة: "بشجرة". وفي "الإحكام" كما أثبت من النسخ.
قال: فذكر شيئًا لا أحفظه، فجعل له الثلث. قال الثوري: وبلغني أنه قال: يا أمير المؤمنين، شجرةٌ نبتت، فانشعب منها غصن، فانشعب من الغصن غصنان، فما جعل الغصنَ الأول أولى من الغصن الثاني، وقد خرج الغصنان من الغصن الأول؟ قال: ثم سأل عليًّا، فضرب له مثلًا واديًا سال فيه سيل، فجعله أخًا فيما بينه وبين ستة، فأعطاه السدس. وبلغني أنّ عليًّا حين سأله عمر جعله سيلًا. قال: فانشعب منه شعبة، ثم انشعبت شعبتان، فقال: أرأيت لو أن هذه الشعبة الوسطى تَيْبَس أما كان يرجع
(1)
إلى الشعبتين جميعا؟ قال الشعبي: فكان زيد يجعله أخًا حتى يبلغ ثلاثةً هو ثالثهم، فإن زادوا على ذلك أعطاه الثلث. وكان علي يجعله أخًا ما بينه وبين ستة وهو سادسهم، ويعطيه السدس. [126/ب] فإن زادوا على ستة أعطاه السدس، وصار ما بقي بينهم.
وقال القاضي إسماعيل بن إسحاق: ثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه أن عمر بن الخطاب لما استشار في ميراث الجدِّ والإخوة قال زيد: وكان رأيي يومئذ أن الإخوة أحقُّ بميراث أخيهم من الجدِّ، وعمر بن الخطاب يرى يومئذ أن الجدَّ أولى بميراث ابن ابنه من إخوته. فتحاورتُ أنا وعمر محاورة شديدة، فضربتُ له في ذلك مثلًا، فقلت: لو أنّ شجرةً تشعَّب من أصلها غصنٌ، ثم تشعَّب في ذلك الغصن خُوطان
(2)
، ذلك الغصن يجمع الخُوطَين دون الأصل ويغذوهما. ألا ترى يا أمير المؤمنين أنَّ أحدَ
(1)
يعني الماء. وفي النسخ المطبوعة: "كانت ترجع" ..
(2)
الخُوط: الغصن الناعم.
الخُوطين أقرب إلى أخيه منه إلى الأصل؟ قال زيد: فأنا أعيد له
(1)
، وأضرب له هذه الأمثال، وهو يأبى إلا أن الجدَّ أولى من الإخوة، ويقول: والله لو أني قضيتُه اليوم لبعضهم لقضيتُ به للجدِّ كلِّه، ولكن لعلِّي لا أخيِّب منهم أحدًا، ولعلهم أن يكونوا كلُّهم ذوي حقٍّ
(2)
.
وضرب علي وابن عباس لعمر يومئذ مثلًا معناه: لو أنَّ سيلًا سال، فخَلَج منه خليج، ثم خلَج من ذلك الخليج شعبتان
(3)
.
ورأيُ الصدِّيق أولى من هذا الرأي وأصحُّ في القياس، لعدَّة أوجه
(4)
ليس هذا موضع ذكرها والجوابِ عن هذه الأمثلة، إذ المقصود
(5)
أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستعملون القياس في الأحكام، ويعرفونها بالأمثال والأشباه والنظائر. ولا يُلتفت إلى مَن يقدح في كلِّ سند [127/أ] من هذه
(1)
س: "أعدله". وفي غيرها من النسخ الخطية والمطبوعة: "أعذله" بالذال المعجمة، ولعل الصواب ما أثبت من "المحلَّى"، وفي مطبوعة "الإحكام":"أعبر له".
(2)
رواه ابن حزم في "الإحكام"(7/ 170) و"المحلى"(8/ 320) من طريق إسماعيل به. ورواه أيضًا الحاكم (4/ 339)، والبيهقي (6/ 247). وانظر:"المسند" لابن وهب (176)، و"السنن" للدارقطني (4140).
(3)
رواه ابن وهب في "المسند"(168)، والبيهقي (6/ 247).
(4)
س، ت، ع:"لعشرة أوجه"، وكذا في النسخ المطبوعة. وسيفرد المصنف مسألة ميراث الجد مع الإخوة بفصل طويل يذكر فيه عشرين وجهًا على صحة قول أبي بكر رضي الله عنه.
(5)
في المطبوع: "والجواب عن هذه الأمثلة: أن المقصود" وجعله بداية فقرة جديدة. وقد تابع طبعة الشيخ محمد محيي الدين. وهو خطأ مخلّ بالسياق ومفسِد للمعنى. وقد ورد النص في طبعة الشيخ عبد الرحمن الوكيل على الصواب.
الأسانيد وأثر من هذا الآثار
(1)
، فهذه في تعددها واختلاف وجوهها وطُرقها جارية مجرى التواتر المعنوي الذي لا شكَّ
(2)
فيه، وإن لم يثبُت كلُّ فردٍ فردٍ
(3)
من الأخبار به.
وقال عبد الرزاق
(4)
: ثنا ابن جريج قال: أخبرني عمرو، قال: أخبرني حُيَيّ
(5)
بن يعلى بن أمية أنه سمع أباه يقول ــ وذكر قصة الذي قتلته امرأة أبيه وخليلها ــ: إنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليَّ أن اقتُلْهما، فلو اشترك فيه أهلُ صنعاء كلُّهم لقتلتُهم. قال ابن جريج: فأخبرني عبد الكريم وأبو بكر قالا جميعًا: إن عمر كان يشكُّ فيها حتى قال له عليٌّ: يا أمير المؤمنين أرأيتَ لو أن نفرًا اشتركوا في سرقةِ جَزُور، فأخذ هذا عضوًا وهذا عضوًا، أكنتَ قاطِعَهم؟ قال: نعم. قال: وذلك حين استخرج
(6)
له الرأي.
(1)
يشير المصنف إلى ابن حزم. انظر: "المحلَّى"(8/ 321 - 322).
(2)
في المطبوع: "يشك" متابعة لطبعة الشيخ محمد محيي الدين. وفي طبعة الشيخ الوكيل كما أثبت من النسخ.
(3)
كلمة "فرد" وردت في المطبوع مرة واحدة.
(4)
في "المصنف"(18077). ويُنظر "المصنف" لعبد الرزاق (18073 - 18076، 18079)، و"المصنف" لابن أبي شيبة (28266 - 28268)، و"السنن الكبير" للبيهقي (8/ 40 - 41). وقال الحافظ في "الفتح" (12/ 227): وهذا الأثر موصول إلى عمر بأصح إسناد.
(5)
غيَّره بعضهم في ت إلى "يحيى". وفي "المصنَّف": "حي" بالتكبير، وكذا ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"(3/ 274). أما بالتصغير كما في النسخ و"الإحكام"(7/ 176) فهو المشهور، وكذا ذكره البخاري في "التاريخ الكبير"(3/ 74).
(6)
كذا في النسخ الخطية والمطبوعة، وفي مطبوعة "الإحكام" وقع سقط بعد كلمة "حين". وفي "المصنف":"استمدح". ويظهر أن كليهما تصحيف "استهرج". وبهذا اللفظ أخرجه الخطابي في "غريب الحديث"(2/ 83 - 84) بسنده عن عبد الرزاق. وقال في تفسيره: "أصله في الكلام: السعة والكثرة
…
والمعنى: أن رأيه قد قوي في ذلك واتسع لوضوح الدلالة وقرب التمثيل". ولخَّص الهروي في "الغريبين" (6/ 1926) كلام الخطابي وقال: "أي قوي واتَّسع". وقال الزمخشري في "الفائق" (4/ 101): "أي اتسع وانفرج، من قولهم للفرس الواسع الجري: مِهْرَج وهرَّاج". ويؤكد ذلك أن الحافظ ابن حجر أيضًا أخرجه بسنده عن عبد الرزاق بهذا اللفظ في "موافقة الخُبر الخبر" (2/ 420) وقال: "يعني: وضح".
وقال عبد الله بن وهب
(1)
، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشجِّ، عمَّن حدَّثه، عن ابن عباس قال: أرسلني عليٌّ إلى الحَروريَّة لأكلِّمهم، فلما قالوا:"لا حكم إلا لله"، قلتُ: أجل، صدقتم، لا حكم إلا لله. وإنَّ الله قد حكَّم في رجل وامرأته، وحكَّم في قتل الصيد؛ فالحكمُ في رجل وامرأته والصيد أفضل أم الحكمُ في الأُمّة يَرجع بها، ويحقِن دماءَها، ويلُمُّ شَعَثَها؟
وقال عبد الله بن المبارك
(2)
: ثنا عكرمة بن عمار، ثنا سِمَاك الحنفي قال: سمعت ابن عباس يقول: قال عليٌّ: لا تقاتلوهم حتى يخرجوا، فإنهم
(1)
في كتاب "الموطأ"(65 - عقب المحاربة)، ومن طريقه ابن حزم في "الإحكام"(7/ 175)، ومنه ينقل المؤلف. ورجاله ثقات سوى الرجل المُبْهَم.
(2)
لم أجده من روايته في كتبه المطبوعة ولا المصادر الأخرى بين أيدينا. فقد رواه عبد الرزاق (18678) عن عكرمة بن عمار به، والفسوي في "المعرفة والتاريخ"(1/ 522 - 524) من طريق موسى بن مسعود، والنسائي في "الكبرى"(8522) من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن عكرمة بن عمار به، وأحمد (3187) مختصرًا. والطبراني (10598) من طريق عبد الرزاق وموسى بن مسعود كلاهما عن عكرمة بن عمار به. ووقع عند عبد الرزاق والطبراني أن عدد الحرورية كان أربعة وعشرين ألفًا ورجع منهم عشرون ألفًا.
سيخرجون. قال: قلت: يا أمير المؤمنين أَبرِدْ بالصلاة، فإني أريد أن أدخل عليهم، فأسمع من كلامهم وأكلِّمهم. فقال علي: أخشى عليك منهم. قال: وكنتُ رجلًا حسَن [127/ب] الخُلق لا أوذي أحدًا. قال: فلبِستُ أحسنَ ما يكون من اليمنية
(1)
وترجَّلتُ
(2)
، ثم دخلتُ عليهم وهم قائلون. فقالوا لي: ما هذا اللباس؟ فتلوتُ عليهم القرآن: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، ولقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس أحسنَ ما يكون من اليمنية. فقالوا: لا بأس، فما جاء بك؟ فقلت: أتيتُكم من عند صاحبي، وهو ابن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وخَتَنُه، وأصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بالوحي منكم، وعليهم نزل القرآن، أبلِّغكم عنهم وأبلِّغهم عنكم، فما الذي نقَمتم؟ فقال بعضهم: إن قريشًا قوم خَصِمون، قال الله عز وجل:{بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}
(3)
[الزخرف: 58]. فقال بعضهم: كلِّموه.
فانتحى لي رجلان منهم أو ثلاثة، فقالوا: إن شئتَ تكلَّمْ
(4)
وإن شئتَ تكلَّمنا. فقلت: بل تكلَّموا. فقالوا: ثلاثٌ نقَمناهن عليه: جعل الحُكمَ إلى الرجال، وقال الله:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]. فقلتُ: قد جعل الله الحكمَ من أمره إلى الرجال في رُبع درهمٍ في الأرنب
(5)
، وفي المرأة وزوجها: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ
(1)
يعني من حُلَل اليمن.
(2)
ترجَّلَ الشعرَ: رجَّله، أي سرَّحه وسوَّاه.
(3)
في س، ح، ت:"بل أنتم"، وكذا كان في ف، ثم غُيِّر.
(4)
كذا في جميع النسخ. وفي النسخ المطبوعة: "تكلمتَ"، وهو أشبه.
(5)
يعني قوله سبحانه في صيد المحرم: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95].
وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35]، أفخرجت من هذه؟ قالوا: نعم. قالوا: وأخرى: محا نفسَه أن يكون أمير المؤمنين، فإن لم يكن أميرَ المؤمنين فأميرُ الكافرين هو؟ فقلت لهم: أرأيتم إن قرأتُ من كتاب الله عليكم وجئتكم به من سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أترجعون؟ قالوا: نعم. قلت: قد سمعتم أو أُراه قد بلَغكم أنه لما كان يومُ الحديبية جاء سهيل بن عمرو إلى رسول [128/أ] الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعليٍّ: "اكتُبْ: هذا ما صالح عليه محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم". فقالوا: لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعليٍّ: "امحُ يا عليُّ". أفخرجتُ من هذه؟ قالوا: نعم. قال: وأما قولكم: قتَلَ ولم يَسْبِ ولم يغنَم، أفتسبُون أمَّكم وتستحِلُّون منها ما تستحِلُّون من غيرها؟ فإن قلتم نعم فقد كفرتم بكتاب الله وخرجتم من الإسلام، فأنتم بين ضلالتين. وكلَّما جئتُهم بشيء من ذلك أقول: أفخرجتُ منها؟ فيقولون: نعم. قال: فرجع منهم ألفان، وبقي ستة آلاف.
وله طرق عن ابن عباس
(1)
، وقياسه المذكور من أحسن القياس وأوضحه.
وقد أنكر ابن عباس على زيد بن ثابت مخالفته للقياس في مسألة الجدِّ والإخوة، فقال: ألا يتقي الله زيد؟ يجعل ابن الابن ابنًا، ولا يجعل أب الأب أبًا
(2)
.
وهذا محض القياس.
(1)
انظر: "أنساب الأشراف" للبلاذري (2/ 360 - 361).
(2)
رواه محمد بن محمد ابن الباغندي في "ما رواه الأكابر عن الأصاغر"(14) بمعناه.
ولما خصَّ الصدِّيقُ أمَّ الأم بالميراث دون أمِّ الأب قال له بعض الأنصار: لقد ورَّثتَ امرأةً من ميِّت لو كانت هي الميتة لم يرثها، وتركت امرأةً لو كانت هي الميتة ورِث جميعَ ما تركت. فشرَّك بينهما
(1)
.
قال عبد الرزاق
(2)
: أنا ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد قال: جاءت جدَّتان إلى أبي بكر، فأعطى الميراث أمَّ الأم دون أمِّ الأب، فقال له رجل من الأنصار من بني حارثة يقال له عبد الرحمن بن سهل: يا خليفة رسول الله، قد أعطيتَ الميراث التي لو ماتت لم يرثها. فجعل الميراثَ بينهما.
ولما شهد أبو بكرة وأصحابه [128/ب] على المغيرة بن شعبة بالحد ولم يكملوا النصاب حدَّهم عمر قياسًا لهم
(3)
على القاذف، ولم يكونوا قَذَفة بل شهودًا
(4)
.
وقال عثمان لعمر: إن نتَّبِع رأيَك فرأيُك أسدُّ، وإن نتَّبِع رأيَ مَن قبلك فلنعم ذو الرأي كان
(5)
.
وقال علي: اجتمع رأيي ورأيُ عمر في بيع أمهات الأولاد أن لا يُبَعن،
(1)
رواه الإمام مالك (1872)، وسعيد بن منصور (81، 82)، وابن أبي شيبة (31942).
(2)
في "المصنف"(19084).
(3)
"لهم" ساقط من النسخ المطبوعة.
(4)
رواه عبد الرزاق (13564، 13565، 13566).
(5)
رواه عبد الرزاق (19051، 19052)، والدارمي (655، 2959)، وعمر بن شبة في "أخبار المدينة"(3/ 924)، والحاكم (4/ 340) وصححه، والبيهقي (6/ 246).
ثم رأيتُ بيعهن. فقال له قاضيه عَبِيدة السلماني: يا أمير المؤمنين رأيك مع رأي عمر في الجماعة أحبُّ إلينا من رأيك وحدك في الفرقة
(1)
.
ولما أرسل عمر إلى المرأة فأسقطت جنينها استشار الصحابة، فقال له عبد الرحمن بن عوف وعثمان: إنما أنت مؤدِّب ولا شيء عليك. وقال له عليٌّ: أما المأثم فأرجو أن يكون محطوطًا عنك، وأرى عليك الدية
(2)
.
فقاسه عثمان وعبد الرحمن على مؤدِّب امرأته وغلامه وولده، وقاسه عليٌّ على قاتل الخطأ، فاتبع عمر قياس علي.
ولما احتُضِر الصدِّيق أوصى بالخلافة إلى عمر
(3)
، وقاس ولايته لمن بعده إذ هو صاحب الحَلِّ والعقد على ولاية المسلمين له إذ كانوا هم أهل الحل والعقد. وهذا من أحسن القياس.
وقال عليٌّ: سألني أمير المؤمنين عمر عن الخيار، فقلت: إن اختارت زوجها فهي واحدة، وهو أحقُّ بها، وإن اختارت نفسها فهي واحدة بائنة. فقال: ليس كذلك، إن اختارت نفسها فهي واحدة، وهو أحقُّ بها، وإن اختارت زوجها فلا شيء. فاتبعتُه على ذلك. فلما خلَص الأمرُ إليَّ وعلمتُ أني أُسأل عن الفروج عدتُ إلى ما كنت أرى. فقال له زاذان:[129/أ] لَأمرٌ جامعتَ عليه أميرَ المؤمنين وتركتَ رأيك له أحبُّ إلينا من أمر انفردتَ به. فضحك وقال: أما إنه قد أرسل إلى زيد بن ثابت، وخالفني وإياه، وقال: إن اختارت زوجها فهي
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
رواه عبد الرزاق (18010)، والبيهقي (6/ 123)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه"(2/ 122)، وسنده منقطع.
(3)
انظر: "تاريخ مدينة دمشق" لابن عساكر (44/ 248 - 257).
واحدة، وزوجها أحقُّ بها، وإن اختارت نفسها فهي ثلاث
(1)
.
وهذا رأي منهم كلِّهم رضي الله عنهم، ورأي عمر أقوى وأصح.
وقال عمر لعلي
(2)
: إنِّي قد رأيتُ في الجدِّ رأيًا فاتبعوني، فقال علي: إن نَتَّبعْ رأيَك فرأيك رشيد، وإن نتَّبع رأيَ مَن قبلك فنعم ذو الرأي كان
(3)
.
وهل مع زيد بن ثابت في مسائل الجَدِّ والإخوة، والمعادَّة
(4)
، والأكدرية
(5)
نصٌّ من قرآن أو سنة أو إجماع إلا مجرد الرأي؟
ومن ذلك اختلافهم في قول الرجل لامرأته: أنتِ عليَّ حرام. فقال شيخا الإسلام وبصرُ الدين
(6)
وسمعُه أبو بكر وعمر: هو يمين
(7)
، وتبعهما
(1)
رواه الإمام الشافعي في "الأم"(8/ 425)، والطحاوي في "شرح المعاني"(3/ 309)، والبيهقي (7/ 345).
(2)
كذا وقع هنا، ولم أقف على المصدر الذي نقل منه المصنف هذا الخبر وما قبله. والصواب أن عمر قاله لعثمان بن عفان كما سيأتي عن "مسند الدارمي".
(3)
يُوازَن ما في "السنن الكبير" للبيهقي (6/ 249)، بـ "المصنف" لعبد الرزاق (19051، 19052)، و"المسند" للدارمي (655، 2959)، و"أخبار المدينة" لعمر بن شبة (3/ 924)، و"المستدرك" للحاكم (4/ 340)، و"السنن الكبير" للبيهقي (6/ 246).
(4)
صورتها: أخ لأب وأم، وأخ لأب، وجدّ. وانظر:"المصنف" لابن أبي شيبة (31911)، و"السنن الكبير" للبيهقي (6/ 251).
(5)
صورتها: زوج، وأخت، وأم، وجدّ. وانظر:"المصنف" لعبد الرزاق (19074)، و"السنن" لسعيد بن منصور (5)، و"المسند" للدارمي (2973)، و"المصنف" لابن أبي شيبة (31890)، و"السنن الكبير" للبيهقي (6/ 250).
(6)
في النسخ المطبوعة: "بَصَرا الدين" بالتثنية.
(7)
رواه ابن أبي شيبة (18507) من طريق جُويبر، عن الضحاك، عنهما، وسنده تالف معضل. ورواه عبد الرزاق (11360، 11361)، وابن أبي شيبة (18496، 18497) عن عمر وحده، بأسانيد منقطعة.
حَبْر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس.
وقال
(1)
عليٌّ
(2)
وزيد
(3)
: هو طلاق ثلاث. وقال ابن مسعود: طلقة واحدة
(4)
.
وهذا من الاجتهاد والرأي.
فالصحابة
(5)
رضي الله عنهم مثَّلوا الوقائعَ بنظائرها، وشبَّهوها بأمثالها، وردُّوا بعضها إلى بعض في أحكامها، وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد، ونهجوا لهم طريقه، وبيَّنوا لهم سبيله.
وهل يستريب عاقل في أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان"
(6)
، إنما كان ذلك لأنَّ الغضب يشوِّش عليه قلبه وذهنه، ويمنعه من كمال الفهم، ويحول بينه وبين استيفاء النظر، ويُعْمِي عليه طريقَ العلم والقصد؟ فمن قَصَر [129/ب] النهيَ على الغضب وحده، دون الهمِّ
(1)
في النسخ المطبوعة بعده: "سيف الله علي"!
(2)
رواه عبد الرزاق (11380)، وابن أبي شيبة (18486، 18487). ورواه عبد الرزاق (11379) أيضًا بمعناه. ويُوَازَنُ بـ "المصنف" لعبد الرزاق (11383)، و"المصنف" ابن أبي شيبة (18509).
(3)
رواه عبد الرزاق (11372)، وابن أبي شيبة (18494، 18495).
(4)
وازن بـ "المصنف" لعبد الرزاق (11366)، و"المصنف" لابن أبي شيبة (18488، 18490).
(5)
ت، ع:"والصحابة".
(6)
أخرجه البخاري (7158) ومسلم (1717) من حديث أبي بكرة.
المزعج، والخوف المقلق، والجوع والظمأ الشديد، وشغلِ القلب المانع من الفهم= فقد قلَّ فقهه وفهمه.
والتعويلُ في الحكم على قصد المتكلم، والألفاظُ لم تُقصَد لنفسها وإنما هي مقصودة للمعاني، والتوصُّلِ بها إلى معرفة مراد المتكلم. ومرادُه يظهر من عموم لفظه تارةً، ومن عموم المعنى الذي قصده تارةً. وقد يكون فهمُه من المعنى أقوى، وقد يكون من اللفظ أقوى، وقد يتقاربان؛ كما إذا قال الدليل لغيره: لا تسلك هذا الطريقَ، فإنَّ فيها مَن يقطع الطريق، أو هي مَعْطَشة مَخُوفة= علِمَ هو وكلُّ سامع أنَّ قصدَه أعمُّ من لفظه، وأنه أراد نهيه عن كلِّ طريق هذا شأنها. فلو خالفه وسلك طريقًا أخرى عطِبَ بها حَسُن لومه، ونُسِب إلى مخالفته ومعصيته. ولو قال الطبيب للعليل وعنده لحم ضأن: لا تأكل الضأن فإنه يزيد في مادة المرض، لَفهِمَ كلُّ عاقل منه أنّ لحم البقر والإبل
(1)
كذلك، ولو أكل منهما لَعُدَّ مخالفًا، والتحاكم في ذلك إلى فِطَر الناس وعقولهم. ولو منَّ عليه غيرُه بإحسانه، فقال: والله لا أكلتُ له لقمة، ولا شربتُ له ماء؛ يريد خلاصه من منَّته عليه، ثم قبل منه الدراهم والذهب والثياب
(2)
والشَّاء
(3)
ونحوها لَعدَّه العقلاءُ واقعًا في أعظمِ
(4)
ما حلَف عليه، ومرتكبًا لذِروة سنامه. ولو لامه عاقل على كلامه لمن لا يليق به
(1)
ف: "الإبل والبقر"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
ع: "والنثار".
(3)
من س، ت، وهامش ح. وفي ع:"الشِّياه"، وهو جمع الشاة كالشَّاء. وفي النسخ المطبوعة:"الشاة".
(4)
ع: "في أعظم حلفٍ". وفي النسخ المطبوعة: "فيما هو أعظم مما"، ولعله تصرُّف من بعضهم، وهو غير ملائم لقوله:"ومرتكبًا لذروة سنامه".
محادثتُه من امرأة أو صبي، فقال: والله لا كلَّمتُه، ثم رآه خاليًا به يؤاكله ويشاربه ويعاشره ولا يكلِّمه= لَعَدُّوه مرتكبًا لأشدِّ ما حلَف
(1)
[130/أ] عليه وأعظَمِه.
وهذا مما فطر الله عليه عبادَه. ولهذا فهمت الأمة من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] جميعَ وجوه الانتفاع من اللبس والركوب والمسكن وغيرها. وفهمت من قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ
(2)
لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] إرادةَ النهي عن جميع أنواع الأذى بالقول والفعل، وإن لم ترد نصوص أخرى بالنهي عن عموم الأذى. فلو بصَق رجلٌ في وجه والديه، وضرَبهما بالنعل، وقال: إني لم أقل لهما أُفٍّ= لعدَّه الناسُ في غاية السخافة والحماقة والجهل، من مجرَّدِ تفريقه بين التأفيف المنهيِّ عنه وبين هذا الفعل قبل أن يبلغه نهيُ غيره. ومنعُ هذا مكابرةٌ للعقل والفهم والفطرة.
فمتى
(3)
عُرِف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وجب اتباعُ مراده. والألفاظ لم تُقصَد لذواتها، وإنما هي أدلَّة يُستدلُّ بها على مراد المتكلم؛ فإذا ظهر مراده ووضَح بأيِّ طريق كان عُمِل بمقتضاه، سواء كان بإشارة، أو كناية
(4)
، أو إيماء، أو دلالة عقلية، أو قرينة حالية، أو عادة له مطَّردة لا يُخِلُّ
(1)
في النسخ المطبوعة: "مما حلف"، وهو أيضًا خطأ، فإنه لو أراد هذا لقال بعده:"وأعظم منه".
(2)
في النسخ كلها: "ولا تقل".
(3)
ع: "فمن"، وكذا في النسخ المطبوعة. والصواب ما أثبت من النسخ الأخرى.
(4)
ف: "كتابة"، وكذا في النسخ المطبوعة. وفي ح، ع لم ينقط التاء. ولعل الصواب ما أثبت من س، ت.
بها، أو من مقتضى كماله وكمال أسمائه وصفاته، وأنه يمتنع منه إرادةُ ما هو معلوم الفساد وتركُ إرادة ما هو متيقَّن مصلحته، وأنه يُستدَلُّ على إرادته للنظير بإرادة نظيره ومثله ومُشْبِهه
(1)
، وعلى كراهة الشيء بكراهة مثله ونظيره ومُشْبِهه= فيقطع العارفُ به وبحكمته وأوصافه على أنه يريد هذا ويكره هذا، ويُحِبّ هذا ويُبغض هذا.
وأنت تجد من له اعتناء شديد بمذهب رجل وأقواله [130/ب] كيف يفهم مرادَه من تصرُّفه ومذاهبه؟ ويُخبر عنه بأنه يفتي بكذا ويقوله، وأنه لا يقول بكذا ولا يذهب إليه، لما لا يوجد في كلامه صريحًا. وجميع أتباع الأئمة مع أئمتهم بهذه المثابة. وهذا أمر يعُمُّ أهلَ الحق والباطل، لا يمكن دفعُه. فاللفظ الخاص قد يُنقل
(2)
إلى معنى العموم بالإرادة، والعامُّ قد يُنقَل إلى معنى
(3)
الخصوص بالإرادة. فإذا دُعي إلى غداء، فقال: والله لا أتغدَّى؛ أو قيل له: "نم" فقال: والله لا أنام؛ أو: " اشرب هذا الماء"، فقال: والله لا أشرب= فهذه كلُّها ألفاظ عامَّة نُقِلت إلى معنى الخصوص بإرادة المتكلِّم التي يقطع السامعُ عند سماعها بأنه لم يُرد النفي العام إلى آخر العمر.
والألفاظ ليست تعبُّديّة، والعارف يقول: ماذا أراد؟ واللفظي يقول: ماذا قال؟ كما كان الذين لا يفقهون إذا خرجوا من عند النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: {مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16]. وقد أنكر الله سبحانه عليهم وعلى أمثالهم بقوله:
(1)
في النسخ المطبوعة: "وشبهه".
(2)
ت، ع:"ينتقل" هنا وفيما بعد، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
"معنى" ساقط من النسخ المطبوعة.
{فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78]، فذمَّ من لم يفقه كلامه. والفقه أخصُّ من الفهم، وهو فهمُ مراد المتكلِّم من كلامه. وهذا قدر زائد على مجرَّدِ فهمِ وضعِ اللفظ في اللغة. وبحسب تفاوت مراتب الناس في هذا تفاوتُ
(1)
مراتبهم في الفقه والعلم.
وقد كان الصحابة يستدلُّون على إذن الرَّبِّ تعالى وإباحته، بإقراره وعدم إنكاره عليهم في زمن الوحي. وهذا استدلال على المراد بغير لفظ، بل بما عُرِف من موجَب أسمائه وصفاته، وأنه لا يُقِرُّ على باطل حتى يبيِّنه.
وكذلك استدلال الصدِّيقة الكبرى أم المؤمنين خديجة [131/أ] بما عرفته من حكمة الربِّ تعالى وكمال أسمائه وصفاته ورحمته أنه لا يُخزي محمَّدًا صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يصل الرحم، ويحمِل الكَلَّ، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق
(2)
؛ وأنَّ من كان بهذه المثابة فإنَّ العزيز الرحيم الذي هو أحكم الحاكمين وإله العالمين لا يخزيه ويسلِّط
(3)
عليه الشيطان. وهذا استدلال منها قبل ثبوت النبوة والرسالة، بل استدلال على صحتها وثبوتها في حقِّ مَن هذا شأنه. فهذا معرفة منها بمراد الربِّ تعالى وما يفعله من أسمائه وصفاته وحكمته ورحمته وإحسانه ومجازاته للمحسن
(4)
بإحسانه، وأنه لا يُضِيع أجر المحسنين.
(1)
في النسخ المطبوعة: "تتفاوت".
(2)
انظر: حديث عائشة في "صحيح البخاري"(3) ومسلم (160).
(3)
ف: "ولا يسلِّط"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(4)
في النسخ المطبوعة: "المحسن".
وقد كانت الصحابة أفهمَ الأمةِ لمراد نبيها وأتبعَ له، وإنما كانوا يُدَنْدِنون حول معرفة مراده ومقصوده. ولم يكن أحد منهم يظهر له مرادُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يعدل عنه إلى غيره البتّة.
والعلم بمراد المتكلم يُعرَف تارةً من عموم لفظه، وتارةً من عموم علَّته. والحوالة على الأول أوضح لأرباب الألفاظ، وعلى الثاني أوضح لأرباب المعاني والفهم والتدبر. وقد يعرض لكلٍّ من الفريقين ما يُخِلُّ بمعرفة مراد المتكلم، فيعرض لأرباب الألفاظ التقصيرُ بها عن عمومها وهضمُها تارةً، وتحميلُها فوق ما أريد بها تارةً. ويعرض لأرباب المعاني فيها نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ. فهذه أربع آفات هي منشأ غلط الفريقين. ونحن نذكر بعض الأمثلة لذلك ليعتبر به غيره، فنقول:
(1)
[المائدة: 90]. فلفظ "الخمر" عامٌّ في كلِّ مسكر، فإخراجُ بعض الأشربة المسكِرة عن شمول اسم الخمر لها تقصيرٌ به وهضمٌ لعمومه، بل الحقُّ ما قاله صاحب الشرع:"كلُّ مسكِر خمرٌ"
(2)
، وإخراجُ بعض أنواع المَيْسِر عن شمول اسمه لها تقصيرٌ أيضًا به، وهضمٌ لمعناه. فما الذي جعل النَّرْدَ الخالي عن العوض من الميسر وأخرج
(3)
الشطرنج عنه؟ مع أنه من أظهر أنواع الميسر، كما قال غير واحد من السلف: إنه
(1)
في ع، ف أكملت الآية، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
أخرجه مسلم (2003) من حديث ابن عمر.
(3)
ما عدا س: "إخراج"، ثم أصلح بطمس الألف أو الضرب عليها في ح، ع، ف.
ميسر
(1)
. وقال عليٌّ: هو ميسر العجم
(2)
.
وأما تحميل اللفظ فوق ما يحتمله، فكما حُمِّل لفظُ قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، وقوله في آية البقرة [282]:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} مسألةَ العِينة التي هي ربًا بحيلة، وجعلُها من التجارة. ولَعمرُ الله إنَّ الربا الصريح تجارة للمُرْبي
(3)
، وأي تجارة! وكما حُمِّل قولُه تعالى:{فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] مسألةَ
(4)
التحليل، وجُعِل التَّيسُ المستعار الملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم
(5)
داخلًا
(1)
انظر: "المصنف" لابن أبي شيبة (26674)، و"الأدب المفرد" للبخاري (1019)، و"الأمر بالمعروف" لأبي بكر الخلال (159)، و"تحريم النرد والشطرنج" للآجري (26، 28، 29)، و"الجامع لشعب الإيمان" للبيهقي (6098)، و"السنن الكبير" له (10/ 212، 217).
(2)
رواه البيهقي في "السنن الكبير"(10/ 212)، و"السنن الصغير"(4/ 174)، وقال:"هذا مرسل، ولكن له شواهد". قصد بالإرسال: الانقطاع بين أبي جعفر محمد الباقر رحمه الله وجدِّ جدِّه عليٍّ رضي الله عنه.
(3)
من أربى الرجلُ: دخل في الربا. وفي النسخ المطبوعة: "للمرابي"، ولعله تصرُّف من بعض الناشرين.
(4)
في النسخ المطبوعة زيدت قبلها "على".
(5)
رواه أحمد (4283، 4284، 4308، 4403)، والترمذي (1120) ــ وقال:"هذا حديث حسن صحيح" ــ، والنسائي (3416). وله شواهد كثيرة عن جماعة من الصحابة؛ منها: حديث علي عند أحمد (635، 660، 671، 721، 844، 980، 1120، 1289، 1364)، وأبي داود في "السنن"(2076، 2077)، والترمذي (1119)، وابن ماجه (1935)، وحديث ابن عباس عند ابن ماجه (1934)، وحديث عقبة بن عامر عند ابن ماجه (1936)، وصححه الحاكم (2/ 199).
وانظر: "العلل الكبير" للترمذي (273، 274)، و"العلل" لابن أبي حاتم (1232، 1237)، و"العلل" للدارقطني (3/ 154 - 156)، و"تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (4/ 363)، و"التلخيص الحبير" لابن حجر (3/ 349 - 351).
في اسم الزوج. وهذا في التجاوز يقابل الأول في التقصير.
ولهذا كان معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله أصل العلم وقاعدته وآخيَّته
(1)
التي يَرجع
(2)
إليها، فلا يُخرج شيئًا من معاني ألفاظه عنها، ولا يُدخل فيها ما ليس منها، بل يعطيها حقَّها، ويفهم المراد منها.
ومن هذا: لفظ الأيمان والحَلِف. أخرجت طائفة منه الأيمان الالتزامية التي يلتزم صاحبها بها إيجابَ شيء أو تحريمَه، وأدخلت طائفة فيها التعليقَ المحضَ الذي لا يقتضي حضًّا ولا منعًا. والأول نقص [132/أ] من المعنى، والثاني تحميل له فوق معناه.
ومن ذلك: لفظ الربا. أدخلت فيه طائفة ما لا دليل على تناول اسم الربا له كبيع الشَّيْرَج
(3)
بالسِّمسِم، والدِّبْس بالعنب، والزيت بالزيتون، وكلِّ ما استُخرج من ربويِّ وعُمِل منه بأصله؛ وإن خرج عن اسمه ومقصوده وحقيقته. وهذا لا دليل عليه يوجب المصيرَ إليه، لا من كتاب ولا من سنة ولا إجماع ولا ميزان صحيح. وأدخلت فيه من مسائل مُدِّ عَجْوة
(4)
ما هو
(1)
الآخيَّة: عروة يثبّت طرفاها في أرض أو حائط، وتشدُّ فيها الدابة.
(2)
يعني العالِم، وهو مفهوم من السياق.
(3)
سبق تفسيره.
(4)
ضابطها أن يبيع ربويًّا بجنسه ومعهما أو مع أحدهما صنف آخر من غير جنسه. وسيأتي الكلام عليها.
أبعدُ شيء عن الربا.
وأخرجت طائفة أخرى منه ما هو من الربا الصريح حقيقةً وقصدًا وشرعًا كالحيل الربوية التي هي أعظم مفسدة من الربا الصريح، ومفسدةُ الربا البَحْت الذي لا يتوصَّل إليه بالسلاليم أقلُّ بكثير. وأخرجت منه طائفة بيعَ الرُّطَب بالتمر، وإن كان كونه من الربا أخفى من كون الحيل الربوية منه، فإن التماثل موجود فيه في الحال دون المآل، وحقيقة الربا في الحيل الربوية أكمل وأتم منها في العقد الربوي الذي لا حيلة فيه.
ومن ذلك: لفظ البينة. قصَّرت بها طائفة، فأخرجت منه الشاهد واليمين وشهادةَ العَبيد العدول الصادقين المقبولي القول على الله ورسوله، وشهادةَ النساء منفردات في المواضع التي لا يحضرهن فيه الرجال كالأعراس والحمامات، وشهادةَ الزوج في اللَّعان إذا نكَلَت المرأة، وأيمانَ المدَّعين للدم
(1)
إذا ظهر اللَّوث ونحو ذلك مما يبيِّن الحقَّ أعظم من بيان الشاهدين، وشهادةَ القاذف، وشهادةَ الأعمى على ما [132/ب] يتيقنه، وشهادةَ أهل الذمة على الوصية في السفر إذا لم يكن هناك مسلم، وشهادةَ الحال في تداعي الزوجين متاعَ البيت وتداعي النجار والخياط آلتهما ونحو ذلك.
وأدخلت فيه طائفة ما ليس منه كشهادة مجهول الحال الذي لا يُعرَف بعدالة ولا فسق، وشهادةِ وجوه الآجُرِّ ومَعاقِد القُمُط
(2)
ونحو ذلك.
(1)
في النسخ المطبوعة: "الدم".
(2)
جمع قِماط وهو ما يُشَدُّ به من ليف أو خوص أو غيره. وضبطه الجوهري بكسر القاف وسكون الميم. انظر: "الصحاح" و"النهاية في غريب الحديث"(قمط).
والصواب: أنّ كلَّ ما بيَّن الحقَّ فهو بينة
(1)
. ولم يعطِّل الله ولا رسوله حقًّا بعدما تبيَّن بطريق من الطرق أصلًا، بل حكمُ الله ورسوله الذي لا حكم له سواه أنه متى ظهر الحق ووضَح بأيِّ طريق كان وجب تنفيذه ونصره، وحَرُم تعطيله وإبطاله. وهذا باب يطول استقصاؤه، ويكفي المستبصرَ التنبيهُ عليه. وإذا فُهِم هذا في جانب اللفظ فُهِم نظيرُه في جانب المعنى سواء.
وأصحاب الرأي والقياس حمَّلوا معاني النصوص فوق ما حمَّلها الشارع، وأصحاب الألفاظ والظواهر قصَّروا بمعانيها عن مراده. فأولئك قالوا: إذا وقعت قطرة من دم في البحر فالقياس أنه ينجس، ونجَّسوا بها الماء الكثير مع أنه لم يتغير منه شيء البتة بتلك القطرة. وهؤلاء قالوا: إذا بال جَرَّةً من بول وصبَّها في الماء لم تُنجِّسه، وإذا بال في الماء نفسِه ولو أدنى شيء نجَّسه.
ونجَّس أصحابُ الرأي والمقاييس القناطيرَ المقنطرةَ، ولو كانت ألف ألف قنطار، من سَمْن أو زيت أو شَيْرج، بمثل رأسِ الإبرة من البول والدم، والشعرةِ الواحدة من الكلب والخنزير عند من ينجِّس شعرَهما. وأصحاب الظواهر والألفاظ [133/أ] عندهم لو وقع الكلب والخنزير بكماله أو أي ميتة كانت في أيِّ ذائب كان من زيت أو شَيرج أو خلّ أو دِبس أو وَدَك غير السَّمْن ألقيت الميتة فقط، وكان ذلك المائع حلالًا طاهرًا كلّه، فإن وقع ما عدا الفأرة في السَّمْن من كلب أو خنزير أو أي نجاسة كانت فهو طاهر حلال ما لم يتغير.
(1)
انظر ما سبق من تفسير "البينة" في شرح قول عمر: "البينة على المدعي".
ومن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنتقِبُ المرأة، ولا تلبس القُفَّازين"
(1)
يعني في الإحرام، فسوَّى بين يديها ووجهها في النهي عما صُنِع على قدر العضو، ولم يمنعها من تغطية وجهها، ولا أمَرها بكشفه البتة. ونساؤه صلى الله عليه وسلم أعلم الأمة بهذه المسألة، وقد كنّ يَسْدُلن على وجوههن إذا حاذاهن الرُّكبان، فإذا جاوزوهن كشفن وجوههن
(2)
. وروى وكيع، عن شعبة، عن يزيد الرِّشْك
(3)
، عن معاذة العدَوية قالت: سألت
(4)
عائشة: ما تلبس المحرمة؟ فقالت: لا تنتقب، ولا تتلثَّم، وتسدُل الثوب على وجهها
(5)
.
فجاوزت طائفة ذلك، ومنعتها من تغطية وجهها جملةً. قالوا: وإذا سدَلت على وجهها فلا تدع الثوب يَمسُّ وجهها، فإن مسَّه افتدت. ولا دليل على هذا البتة. وقياسُ قول هؤلاء أنها إذا غطَّت يدها افتدت، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سوَّى بينهما في النهي، وجعلهما كبدن المحرم، فنهى عن لبس القميص والنقاب والقُفَّازين. هذا للبدن، وهذا للوجه، وهذا لليدين. ولا يحرُم سترُ
(1)
أخرجه البخاري (1838) من حديث ابن عمر.
(2)
رواه أحمد (24021)، وأبو داود (1833)، وابن ماجه (2935) من حديث عائشة رضي الله عنها، وسنده ضعيف، وله شاهد من حديث فاطمة بنت المنذر عن جدّتها أسماء رضي الله عنها، رواه الإمام مالك (1176)، وإسحاق بن راهويه في "المسند"(2255)، وصححه ابن خزيمة (2690)، والحاكم (1/ 454). وانظر:"المحلى" لابن حزم (7/ 91). ويشهد له أيضًا الحديث التالي.
(3)
ما عدا ع: "عن الرشك" أو "بن الرشك".
(4)
ساقط من ع. وفيما عدا س: "سئلت" بالبناء للمجهول.
(5)
علّقه ابن حزم في "المحلى"(7/ 91) عن وكيع به. وتابعه معاذ بن معاذ العنبري، ومن طريقه رواه البيهقي (5/ 47).
البدن، فكيف يحرم سترُ الوجه في حقِّ المرأة، مع أمر الله لها أن تُدني عليها من جلبابها لئلا تُعرَف ويُفتتَن بصورتها؟ ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم:"ولا يخمَّر رأسُه"
(1)
لجاز تغطيته بغير العمامة. وقد روى الإمام أحمد عن خمسة من الصحابة: عثمان، وابن عباس، وعبد الله بن الزبير، وزيد بن ثابت، وجابر= أنهم كانوا يخمِّرون وجوههم وهم مُحرمون
(2)
. فإذا كان هذا في حقِّ الرجل وقد أُمِر بكشف رأسه، فالمرأة بطريق الأولى والأحرى.
وقصَّرت طائفة أخرى، فلم تمنع المحرمة من البرقع ولا اللثام. قالوا: إلا أن يدخلا في اسم النقاب، فتُمنع منه. وعذر هؤلاء أن المرجع إلى ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل في لفظ المنهيِّ عنه فقط.
والصواب: النهيُ عما دخل في عموم لفظه، وعموم معناه وعلته؛ فإن البرقع واللثام وإن لم يسمَّيا نقابًا فلا فرق بينهما وبينه. بل إذا نُهيت عن النقاب، فالبرقع واللثام أولى؛ ولذلك منعتها أم المؤمنين من اللثام
(3)
.
ومن ذلك: لفظ الفدية. أدخل فيها طائفة خُلْعَ الحيلة على فعل المحلوف عليه مما هو ضدّ الفدية، إذ المراد بقاء النكاح بالخلاص من الحِنْث، وهي إنما شرعت لزوال النكاح عند الحاجة إلى زواله. وأخرجت
(1)
أخرجه البخاري (1265) ومسلم (1206) من حديث ابن عباس.
(2)
انظر: "الموطأ" للإمام مالك (1171)، و"الأم" للإمام الشافعي (8/ 674)، و"المصنف" لابن أبي شيبة (14450، 14451، 14454، 14455، 14458، 14459)، و"المحلى" ابن حزم (7/ 91)، و"السنن الكبير" للبيهقي (5/ 54)، و"معرفة السنن والآثار" له (4/ 17).
(3)
وانظر: "بدائع الفوائد"(3/ 1072 - 1075)، و"تهذيب السنن"(1/ 352 - 354).
منه طائفة ما فيه حقيقة الفدية ومعناها، واشترطت له لفظًا معيّنًا، وزعمت أنه لا يكون فديةً وخلعًا إلا به. وأولئك تجاوزوا به، وهؤلاء قصَّروا به.
والصواب: أن كلَّ ما دخله المال فهو فدية بأيِّ لفظ كان. والألفاظ لم تُرَد لذواتها ولا تُعُبِّدنا بها، وإنما هي وسائل إلى المعاني. فلا فرق قطُّ بين [134/أ] أن تقول: اخلَعْني بألف، أو فادِني
(1)
بألف، لا حقيقةً ولا شرعًا، ولا لغةً ولا عرفًا. وكلام ابن عباس والإمام أحمد عامٌّ في ذلك، لم يقيِّده أحدهما بلفظ، ولا استثنى لفظًا دون لفظ. بل قال ابن عباس: عامة طلاق أهل اليمن الفداء
(2)
.
وقال الإمام أحمد: الخُلْع فرقة، وليس بطلاق
(3)
. وقال: الخلع ما كان من جهة النساء
(4)
. وقال: ما أجازه المال فليس بطلاق
(5)
. وقال: إذا خالَعها بعد تطليقتين فإن شاء راجعها، فتكون معه على واحدة.
(1)
في جميع النسخ: "فارقني". والصواب ما أثبت من النسخ المطبوعة، وهو مقتضى السياق.
(2)
كذا، وإنما ذكره إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص لابن عباس رضي الله عنهما، كذلك رواه عبد الرزاق في "المصنف"(11765). وذكره الإمام ابن تيمية على الصواب، كما يُرَى في "مجموع فتاويه"(32/ 290، 297).
(3)
انظر: "مسائل عبد الله"(ص 339)، و"مسائل الكوسج"(4/ 1902، 1974)، (9/ 4606)، و"الروايتين والوجهين"(2/ 136).
(4)
انظر: "مسائل عبد الله"(ص 339).
(5)
في "اختيارات البعلي"(ص 566): "قال عبد الله: رأيت أبي يذهب إلى قول ابن عباس، وابن عباس صحَّ عنه أنه كل ما أجازه المال فليس بطلاق". وقد أخرجه عبد الرزاق (11768، 11769).
وقال في رواية أبي طالب: الخُلْع مثل حديث سَهْلة
(1)
. إذا كرهت المرأة الرجل، وقالت: لا أبَرُّ لك قسمًا، ولا أطيع لك أمرًا، ولا أغتسل لك من جنابة
(2)
= فقد حلَّ له أن يأخذ منها ما أعطاها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ترُدِّين عليه حديقته؟ "
(3)
.
قلتُ: وقد قال في الحديث: "اقبل الحديقة، وطلِّقها تطليقةً"، وجعل أحمد ذلك فداء.
وقال ابن هانئ
(4)
: سئل أبو عبد الله عن الخلع: أفسخُ نكاحٍ هو [أم خلعُ طلاقٍ]
(5)
أم تذهب إلى حديث ابن عباس، كان يقول: فرقة وليس بطلاق
(6)
؟ فقال أبو عبد الله: كان ابن عباس يتأول هذه الآية: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ
(1)
هذا الجزء من الرواية نقله ابن قدامة أيضًا في "المغني"(10/ 271) و"الكافي"(3/ 96)، وكذا وقع اسم المختلعة "سهلة" في الرواية في كتابنا وكتابَي ابن قدامة ومَن نقل منه. وكذا في رواية الكوسج (9/ 4771) سئل الإمام أحمد: كيف الخلع؟ فقال: "إذا أخذ المال فهي فرقة. قال النبي صلى الله عليه وسلم لسهلة: "أتردين حديقته؟ ". وذكر ابن الجوزي في "كشف المشكل" (2/ 428) ثلاثة أقوال في اسم هذه المختلعة، ثالثها أنها "سهلة بنت حبيب". قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (9/ 399): "ما أظنّه إلا مقلوبًا، والصواب: حبيبة بنت سهل".
(2)
انظر: "المحلَّى"(9/ 522 - 523).
(3)
أخرجه البخاري (5273) من حديث ابن عباس.
(4)
في "مسائله"(1/ 232).
(5)
الزيادة من "المسائل". وفي المطبوع: "أفسخ [نكاح] أم [خلع] طلاق هو". وفي الطبعات السابقة: أفسخ أم طلاق هو".
(6)
رواه الدارقطني (3869).
فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]. وكان ابن عباس يقول: هو فداء
(1)
. قال ابن عباس: ذكر الله الطلاق في أول الآية، والفداء في وسطها، وذكر الطلاق بعد. فالفداء ليس هو بطلاق، وإنما هو فداء
(2)
.
فجعل ابن عباس وأحمد الفداء فداءً لمعناه، لا للفظه. وهذا هو الصواب، [134/ب] فإن الحقائق لا تتغير بتغيُّر
(3)
الألفاظ، وهذا باب يطول تتبُّعه.
والمقصود: أن الواجب فيما علَّق عليه الشارع الأحكام من الألفاظ والمعاني أن لا يُتجاوز بألفاظها ومعانيها، ولا يُقصَّر بها، ويُعطى اللفظُ حقَّه والمعنى حقَّه. وقد مدح الله سبحانه أهلَ الاستنباط في كتابه، وأخبر أنهم أهل العلم. ومعلوم أن الاستنباط إنما هو استنباط المعاني والعلل ونسبة بعضها إلى بعض، فيعتبرَ
(4)
ما يصحُّ منها بصحة مثله ومُشبِهه ونظيره، ويلغى ما لا يصح. هذا الذي يعقله الناس من الاستنباط.
(1)
انظر: "المصنف" لعبد الرزاق (11765).
(2)
روى (معناه) عبد الرزاق (11767، 11771)، وسعدان بن نصر في "جزئه"(57) ــ ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبير"(7/ 316)، وفي "السنن الصغير"(3/ 106) ــ، وابن المنذر في "التفسير" ــ كما في "الدر المنثور" للسيوطي (2/ 681) ــ.
(3)
س: "بتغيير"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(4)
ح: "فنعتبر"، وكذا "نلغي" فيما بعد.
قال الجوهري
(1)
: "الاستنباط كالاستخراج". ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرَّدِ فهم اللفظ، فإن ذلك ليس طريقة الاستنباط؛ إذ موضوعات الألفاظ لا تنال بالاستنباط، وإنما تنال به العِلل والمعاني والأشباه والنظائر ومقاصد المتكلِّم. والله سبحانه ذمَّ مَن سمع ظاهرًا مجرَّدًا، فأذاعه وأفشاه؛ وحَمِد مَن استنبط
(2)
من أولي العلم حقيقته ومعناه.
يوضِّحه أن الاستنباط استخراج الأمر الذي من شأنه أن يخفى على غير مستنبطه. ومنه: استنباط الماء من أرض البئر والعين. ومن هذا: قول علي بن أبي طالب وقد سئل: هل خصَّكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ فقال: لا، والذي فلَق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهمًا يؤتيه الله عبدًا في كتابه
(3)
. ومعلوم أنَّ هذا الفهم قدر زائد على معرفة موضوع اللفظ وعمومه أو خصوصه، فإنَّ هذا قدر مشترك بين سائر من يعرف لغة العرب. وإنما هذا فهمُ لوازم المعنى ونظائره ومرادِ المتكلِّم بكلامه، ومعرفةُ حدود [135/أ] كلامه، بحيث لا يدخل فيها غيرُ المراد، ولا يخرج منها شيءٌ من المراد.
وأنت إذا تأمَّلتَ قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 77 - 79]، وجدتَ الآية من أظهر الأدلة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنَّ هذا القرآن جاء من عند الله، وأنَّ الذي جاء به روح
(1)
في "الصحاح"(نبط) ولفظه: "الاستنباط: الاستخراج". وقال في مادة (خرج): "الاستخراج كالاستنباط".
(2)
ح: "استنباط"، ولعله سهو، فأصلح في ف هكذا:"مِن استنباط أولي العلم".
(3)
أخرجه البخاري (3047).
مطهَّرة
(1)
، فما للأرواح الخبيثة عليه سبيل؛ ووجدتَ الآيةَ أخت قوله:{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 210 - 211]، ووجدتَها دالّةً بأحسن الدلالة على أنه لا يمسُّ المصحفَ إلا طاهر
(2)
. ووجدتَها دالّةً أيضًا بألطف الدلالة على أنه لا يجد حلاوته وطعمه إلا مَن آمن به وعمل به، كما فهمه البخاري
(3)
من الآية، فقال في "صحيحه" في باب قوله:{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} [آل عمران: 93]: {لَا يَمَسُّهُ} : لا يجد طعمَه ونفعَه إلا مَن آمن بالقرآن، ولا يحمله بحقِّه إلا المؤمن
(4)
، لقوله
(1)
في النسخ المطبوعة: "مطهر" خلافًا للنسخ الخطية.
(2)
ذكر المصنف في "التبيان"(ص 331 - 336) عشرة وجوه احتج بها على أن المراد في الآية هو الكتاب الذي بأيدي الملائكة. وساق جملة منها في "المدارج"(2/ 390 - 391) وعزاها إلى شيخ الإسلام. وقد ذكرها شيخ الإسلام في "شرح العمدة"(1/ 383 - 384). أما الاستدلال بالآية على أن المصحف لا يمسّه إلا طاهر، فنقل عنه في "التبيان"(ص 338) أن "هذا من باب التنبيه والإشارة. وإذا كانت الصحف التي في السماء لا يمسُّها إلا المطهرون، فكذلك الصحف التي بأيدينا من القرآن لا ينبغي أن يمسَّها إلا طاهر. والحديث مشتقٌّ من هذه الآية
…
". وانظر نحو هذا الاستدلال في "شرح العمدة" (1/ 384).
(3)
نقل المصنف كلام الإمام البخاري في "التبيان"(ص 340) أيضًا، ولكن ليس ذلك من فهم البخاري كما قال. وإنما هو قول بعض المتقدمين من باب الإشارة لا تفسير الآية. وقد عزاه الثعلبي في "الكشف والبيان"(9/ 219) والبغوي (8/ 23) وابن كثير (4/ 299) وغيرهم إلى الفرَّاء، والحق أن الفرّاء حكاه في "معاني القرآن"(3/ 130) بلفظ "يقال"، بعد ما نقل تفسير الآية عن ابن عباس ..
(4)
أثبت في المطبوع: "الموقن" خلافًا للنسخ الخطية والمطبوعة، وذكر في التعليق أن التصحيح من "صحيح البخاري". وذهب عليه أن لفظ "المؤمن" الوارد في النسخ هو الثابت في رواية المستملي. انظر:"صحيح البخاري"(9/ 155 - الطبعة السلطانية) و"فتح الباري"(13/ 509).
تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]. وتجد تحته أيضًا أنَّه لا ينال معانيه ويفهمه كما ينبغي إلا القلوب الطاهرة، وأنَّ القلوب النجسة ممنوعة من فهمه، مصروفة عنه
(1)
. فتأمَّلْ هذا النسب القريب وعقدَ هذه الأخوة بين هذه المعاني وبين المعنى الظاهر من الآية، واستنباطَ هذه المعاني كلِّها من الآية بأحسن وجه وأبينه. فهذا من الفهم الذي أشار إليه علي رضي الله عنه.
وتأمَّلْ قولَه تعالى لنبيِّه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] كيف تفهم
(2)
منه أنه إذا كان وجودُ بدنه وذاته فيهم دفَعَ عنهم العذاب وهم أعداؤه، فكيف وجودُ سرِّه، والإيمانُ به، ومحبّتُه، ووجودُ ما جاء به= إذا كان في قوم أو كان في شخص؟ أفليس دفعُه العذابَ عنهم بطريق الأولى والأحرى؟
وتأمَّلْ قولَه تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]، كيف تجد تحته بألطف دلالة وأدقِّها وأحسنها أنه من اجتنب الشرك جميعَه كُفِّرت عنه كبائره، وأن نسبة الكبائر إلى الشرك كنسبة الصغائر إلى الكبائر. فإذا وقعت الصغائر مكفَّرةً باجتناب الكبائر، فالكبائر تقع مكفَّرةً باجتناب الشرك. وتجد الحديث الصحيح كأنه مشتقٌّ من
(1)
في "مجموع الفتاوى"(13/ 242) أن هذا يروى عن طائفة من السلف. وانظر أيضًا: "مجموع الفتاوى"(5/ 551) و"جامع المسائل"(4/ 65) و"التبيان"(ص 340).
(2)
لم ينقط حرف المضارع إلا في ف. وفي النسخ المطبوعة: "يفهم".
هذا المعنى، وهو قوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربِّه تبارك وتعالى: "ابنَ آدم،
(1)
لو لقيتَني بقُرابِ الأرض خطايا ثم لقيتَني لا تُشرك بي شيئًا لقيتُك بقُرابها مغفرة"
(2)
. وقوله: "إنَّ الله حرَّم على النار مَن قال لا إله إلا الله مخلصًا
(3)
من قلبه"
(4)
. بل محوُ التوحيد ــ الذي هو توحيد
(5)
ــ للكبائر
(6)
أعظم من محو اجتناب الكبائر للصغائر
(7)
.
وتأمَّلْ قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 12 - 14]، كيف نبَّههم بالسفر الحِسِّي على السفر إليه؟ وجمع لهم بين السفرين، كما جمع لهم بين الزادين في قوله:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]، فجمع لهم بين زاد سفرهم وزاد معادهم؟ وكما جمع بين اللباسين في قوله: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ
(1)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة: "إنك".
(2)
رواه الترمذي (3540) من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعا، وقال:"حسن غريب". وفي سنده لينٌ، لكن يشهد لصحة هذا الجزء منه حديث أبي ذر رضي الله عنه عند الإمام أحمد (21315)، ومسلمٍ (2687).
(3)
في النسخ المطبوعة: "خالصًا".
(4)
أخرجه البخاري (425) ومسلم (33) من حديث عِتبان بن مالك. ولفظه: "
…
لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله".
(5)
يعني: الذي هو توحيد حقيقي لا شائبة فيه. وفي ف: "هو محو". وفي ح وضع بعضهم إشارة بعد "هو"، ثم كتب في الهامش "محو" مع علامة صح، وهو غلط.
(6)
س، ع:"الكبائر"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(7)
ع: "الصغائر".
أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26]، فذكر زينةَ ظواهرهم وزينةَ بواطنهم، ونبَّههم بالحِسِّي على المعنوي. وفهمُ هذا [136/أ] قدرٌ
(1)
زائدٌ على فهمِ مجرَّد اللفظ ووضعه في أصل اللسان، والله المستعان
(2)
.
فصل
قد أتينا على ذكر فصول نافعة وأصول جامعة في تقرير القياس والاحتجاج به، لعلك لا تظفر بها في غير هذا الكتاب، ولا بقريب منها! فلنذكر مع ذلك ما قابلها من النصوص والأدلَّة الدالّة على ذمِّ القياس، وأنه ليس من الدين، وحصولِ الاستغناء عنه والاكتفاء بالوحيين. وها نحن نسوقها مفصّلةً مبيّنةً بحمد الله.
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]. وأجمع المسلمون على أن الردَّ إلى الله سبحانه هو الردُّ إلى كتابه، والردَّ إلى الرسول ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ هو الردُّ إليه في حضوره وحياته، وإلى سنَّته في غيبته وبعد مماته. والقياس ليس بهذا ولا هذا.
ولا يقال: الردُّ إلى القياس هو من الردِّ إلى الله ورسوله، لدلالة كتاب الله وسنة رسوله عليه
(3)
كما تقدَّم تقريره؛ لأن الله سبحانه إنما ردَّنا إلى كتابه
(1)
في النسخ المطبوعة: "القدر".
(2)
في النسخ المطبوعة بعده: "وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله".
(3)
"عليه" ساقط من ع. وفي النسخ المطبوعة: "عليه السلام"، فزيدت كلمة "السلام" خطأً.
وسنة رسوله، ولم يردَّنا إلى قياس عقولنا وآرائنا قط. بل قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]، وقال:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، ولم يقل: بما رأيتَ أنت. وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47].
وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 3]. وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ [136/ب] تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}
(1)
[النحل: 89] وقال: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]. وقال: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ: 50]، فلو كان القياس هدًى لم ينحصر الهدى في الوحي.
وقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]، فنفى الإيمان حتى يوجد تحكيمُه وحدَه، وهو تحكيمه في حال حياته وتحكيم سنَّته فقط بعد وفاته.
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]، أي لا تقولوا حتى يقول. قال
(2)
نفاة القياس: والإخبار عنه بأنه حرَّم ما
(1)
في جميع النسخ: "وأنزلنا إليك".
(2)
س، ح، ت، ف:"قالوا"، وذكر في طرة ع أن في أصلها "قالوا".
سكت عنه أو أوجبه قياسًا على ما تكلَّم بتحريمه أو إيجابه تقدُّمٌ بين يديه، فإنه إذا قال:"حرَّمتُ عليكم الربا في البُرِّ"، فقلنا: ونحن نقيس على قولك البَلُّوط
(1)
، فهذا محض التقدم.
قالوا: وقد حرَّم سبحانه أن نقول عليه ما لا نعلم، وإذا
(2)
فعلنا ذلك فقد واقعنا هذا
(3)
المحرَّم يقينًا، فإنا غير عالمين بأنه أراد من تحريم الربا في الذهب والفضة تحريمَه في القَديد من اللحوم. وهذا قفوٌ منَّا ما ليس لنا به علم، وتعدٍّ لما حَدَّ لنا، {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1]، والواجب أن نقف عند حدوده، ولا نتجاوزها ولا نقصِّر بها.
ولا يقال: فإبطالُ القياس وتحريمُه والنهيُ عنه تقدُّمٌ بين يدي الله ورسوله، وتحريمُ ما لم ينصَّ على تحريمه، وقفوٌ منكم ما ليس لكم به علم. قالوا: لأنا نقول: الله سبحانه أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا، وأنزل علينا [137/أ] كتابه، وأرسل إلينا رسوله يعلِّمنا الكتاب والحكمة. فما علَّمَناه وبيَّنه لنا فهو من الدين، وما لم يعلِّمناه ولا بيَّن لنا أنه من الدين فليس من الدين ضرورةً. وكلُّ ما ليس من الدين فهو باطل، فليس بعد الحق إلا الضلال.
وقد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فالذي أكمله الله سبحانه وبيَّنه هو ديننا، لا دين لنا سواه، فأين فيما أكمله لنا: "قِيسُوا ما
(1)
في طرة ح نقل بعضهم تفسير البلوط من "القاموس المحيط" بأنه "شجر كانوا يغتذون بثمره قديمًا".
(2)
في النسخ المطبوعة: "فإذا".
(3)
"هذا" ساقط من ت، ف.
سكتُّ عنه على ما تكلَّمتُ بإيجابه أو تحريمه أو إباحته، سواء كان الجامع بينهما علّةً أو دليلَ علّةٍ أو وصفًا شَبَهيًّا
(1)
، فاستعمِلوا ذلك كلَّه، وانسُبوه إليَّ وإلى رسولي وإلى ديني، واحكموا به عليَّ"!
قالوا: وقد أخبر سبحانه: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، وأخبر رسوله:"أنَّ الظنَّ أكذَبُ الحديث"
(2)
، ونهى عنه. ومن أعظم الظنِّ ظنُّ القيَّاسين
(3)
، فإنهم ليسوا على يقين أن الله سبحانه حرَّم بيعَ السِّمسِم بالشَّيرج، والحلوى بالعنب، والنَّشا بالبُرّ. وإنما هي ظنون مجرَّدة لا تغني من الحق شيئًا.
قالوا: وإن لم يكن قياس الضُّراط على "السلام عليكم" من الظن الذي نُهينا عن اتباعه وتحكيمه، وأُخبرنا أنه لا يغني من الحق شيئًا= فليس في الدنيا ظن باطل، فأين الضراط من "السلام عليكم"! وإن لم يكن قياسُ الماء الذي لاقى الأعضاء الطاهرة الطيبة عند الله، في إزالة الحدث، على الماء الذي لاقى أخبثَ العَذِرات والميتات والنجاسات= ظنًّا، فلا ندري ما الظنُّ الذي حرَّم الله سبحانه القولَ به، وذمَّه في كتابه، وسلَخه من الحق. وإن لم يكن قياسُ أعداء الله ورسوله من عُبَّاد الصُّلبان [137/ب] واليهود الذين هم أشدُّ الناس عداوةً للمؤمنين، على أوليائه وخيارِ خلقه وساداتِ الأمة وعلمائها وصلحائها، في تكافؤ دمائهم وجَرَيانِ القصاص بينهم
(4)
= فليس
(1)
في المطبوع: "شبيهًا"، ولعله خطأ مطبعي.
(2)
أخرجه البخاري (6064) ومسلم (2563) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
في النسخ المطبوعة: "القياسيين".
(4)
يعني: ظنًّا، وكأنه ساقط سهوًا.
في الدنيا ظنٌّ يُذَمُّ اتباعُه.
قالوا: ومن العجب أنكم قِسْتم أعداءَ الله على أوليائه في جريان القصاص بينهم، فقتلتم ألفَ وليٍّ لله قتلوا نصرانيًّا واحدًا يجاهرهم بسبِّ الله ورسوله وكتابه علانية، ولم تقيسوا مَن ضرَبَ رأس رجل بدبُّوس
(1)
، فنثَر دماغه بين يديه، على مَن طعنه بمِسَلَّة
(2)
، فقتَلَه!
قالوا: وسنبيِّن لكم من تناقض أقيستكم واختلافها وشدة اضطرابها ما يبيِّن أنها من عند غير الله.
قالوا: والله تعالى لم يكِلْ بيانَ شريعته إلى آرائنا وأقيستنا واستنباطنا، وإنما وكَلَها إلى رسوله المبيِّن عنه. فما بيَّنه عنه وجب اتباعه، وما لم يبيِّنه فليس من الدين. ونحن نناشدكم الله: هل اعتمادكم في هذه الأقيسة الشَّبَهية والأوصاف الحدسية التخمينية على بيان الرسول، أم على آراء الرجال وظنونهم وحدسهم؟ قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فأين بيَّن الرسول
(3)
صلى الله عليه وسلم أنِّي إذا حرَّمتُ شيئًا أو أوجبتُه أو أبحتُه، فاستخرِجوا وصفًا مَّا شبهيًّا جامعًا بين ذلك وبين جميع ما سكتُّ عنه، فألحِقوه به، وقِيسوا عليه؟
قالوا: والله تعالى قد نهى عن ضرب الأمثال له، فكما لا تُضرَب له الأمثال لا تُضرَب لدينه. وتمثيلُ ما لم ينُصَّ على حكمه بما نصَّ عليه لشبهٍ
(1)
الدبُّوس: عمود على شكل هراوة مدملكة الرأس (المعجم الوسيط).
(2)
هي المخيط الكبير.
(3)
ع: "النبي"، وكذا في النسخ المطبوعة.
مَّا ضربُ الأمثال لدينه. وهذا بخلاف ما [138/أ] ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمثال في كثير من الأحكام التي سئل عنها، كما أمرهم بقضاء الصلاة التي ناموا عنها فقالوا: ألا نصلِّيها لوقتها من الغد؟ فقال: "أينهاكم عن الربا، ويقبله منكم؟ "
(1)
.
وكما قال لعمر، وقد سأله عن القُبلة للصائم:"أرأيت لو تمضمضتَ بماء ثم مججتَه"
(2)
.
وكما قال لمن سألته عن الحج عن أبيها: "أرأيت لو كان على أبيكِ دَينٌ"
(3)
. وكما قال لمن سأله: هل يثاب على وطء زوجته: "أرأيتم لو وضعها في الحرام"
(4)
.
ومن أحسن هذه الأمثال وأبلغها وأعظمها تقريبًا إلى الأفهام: ما رواه الإمام أحمد والترمذي
(5)
من حديث الحارث الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله سبحانه أمرَ يحيى بن زكريا بخمس كلمات، ليعمل بها، ويأمر بني
(1)
رواه أحمد (19964)، وصححه ابن خزيمة (994)، وابن حبان (3804، 6379).
وانظر: "الإمام" لابن دقيق العيد (3/ 593 - 594).
(2)
تقدّم الحديث دون لفظتَيْ "ثمّ مَجَجْتَه"، وقد أدرجهما كثير من الفقهاء والأصوليّين في الحديث، ولا أصل لهما فيه.
(3)
أخرجه البخاري (1853) ومسلم (1335) من حديث الفضل بن عباس. واللفظ لمالك في "الموطأ"(1/ 464 - رواية أبي مصعب).
(4)
أخرجه مسلم (1006) من حديث أبي ذر.
(5)
رواه أحمد (17170، 17800)، والترمذي (2863، 2864)، وقال:"هذا حديث حسن صحيح غريب". وصححه أيضًا ابن خزيمة (930، 1895)، وابن حبان (1145)، والحاكم (1/ 118، 236، 421 - 422).
إسرائيل أن يعملوا بها. وإنه كاد أن يبطئ بها، فقال عيسى: إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها؛ فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم. فقال يحيى: أخشى إن سبقتَني أن يُخسَف بي أو أعذَّب. فجمع الناسَ في بيت المقدس، فامتلأ المسجد، وقعدوا على الشُّرَف، فقال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعملَ بهنَّ وآمرُكم أن تعملوا بهن: أولهن
(1)
: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا. وإنَّ مثَلَ من أشرك بالله كمثَل رجلٍ اشترى عبدًا من خالص ماله بذهب أو وَرِق، فقال: هذه داري وهذا عملي، فاعمَلْ وأدِّ إلي. فكان يعمل ويؤدِّي إلى غير سيِّده، فأيُّكم يرضى أن يكون عبدُه كذلك؟ وإنَّ الله أمركم بالصلاة، فإذا صلَّيتم فلا تلتفتوا، فإنَّ الله ينصِب وجهَه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت. وآمركم
(2)
بالصيام، فإنَّ مثَلَ ذلك كمثل رجل في عصابةٍ معه [138/ب] صُرّةُ مِسك
(3)
، وكلُّهم يعجبه ريحُها، وإنَّ ريح الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك. وآمركم بالصدقة، فإنَّ مثَل ذلك كمثل رجلٍ أسَره العدوُّ، فأوثقوا شدَّه
(4)
إلى عنقه، وقدَّموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفتدي منكم بكلِّ قليل وكثير، ففدَى نفسَه منهم. وآمركم أن تذكروا الله، فإنَّ مثل ذلك كمثل رجل خرج العدوُّ في أثره سراعًا حتَّى إذا أتى على حصن حصين، فأحرزَ نفسه منهم. كذلك العبدُ لا يُحرِز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله". قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وأنا آمركم بخمسٍ، اللهُ
(1)
في النسخ المطبوعة: "أولاهن".
(2)
في النسخ المطبوعة هنا وفيما بعد: "وأمركم"، وهي قراءة محتملة. وأثبت كما جاء في "جامع الترمذي".
(3)
س: "صرّةٌ فيها مسك"، وكذا في النسخ المطبوعة و"جامع الترمذي".
(4)
ع: "يده"، وكذا في "جامع الترمذي". وفي النسخ المطبوعة:"يديه" ..
أمرني بهن: السمع، والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة. فإنه مَن فارق الجماعة قِيدَ شِبْرٍ فقد خلع رِبقةَ الإسلام عن عنقه إلا أن يراجع. ومن ادَّعى دعوى الجاهلية فإنه مِن جُثا
(1)
جهنم"، قالوا: يا رسول الله، وإن صلَّى وصام
(2)
؟ قال: "وإن صلَّى وصام. فادعُوا بدعوى الله الذي سمَّاكم المسلمين المؤمنين عبادَ الله". حديث صحيح.
وفي "الصحيحين"
(3)
من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه خمسَ مرّات، هل يبقى من درَنِه شيء؟ " قالوا: لا. قال: "فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا".
ومثَّلَ صلى الله عليه وسلم المؤمنَ القارئَ للقرآن بالأُتْرُجَّة في طيب الطعم والريح، وضدَّه بالحنظلة. والمؤمنَ الذي لا يقرأ بالتمرة في طيب الطعم وعدم الريح، والفاجرَ القارئَ بالرَّيحانة
(4)
.
ومثَّل المؤمنَ بالخامة من الزرع لا تزال الرياح تُميلها ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء. ومثَّل [139/أ] المنافقَ بشجرة الأَرْز ــ وهي الصنوبرة ــ لا تهتزُّ
(1)
جمع الجُثْوة، وهي الشيء المجموع. قال أبو عبيد في "غريب الحديث" (3/ 53) فكأن معنى الحديث أنه من جماعات جهنم. وانظر:"النهاية"(1/ 239). وفي المطبوع: "جُثَّاء"!
(2)
ع: "وإن صام" هنا وفيما بعد. وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
البخاري (528) ومسلم (667).
(4)
أخرجه البخاري (5020) ومسلم (797) من حديث أبي موسى الأشعري. وزاد في آخره في النسخ المطبوعة: "ريحها طيب وطعمها مر" كما جاء في الحديث.
ولا تميل حتى تُقلَع
(1)
مرة واحدة
(2)
.
ومثَّل المؤمنَ بالنخلة في كثرة خيرها ومنافعها، وحاجة الناس إليها، وانتيابهم لها لمنافعهم بها
(3)
.
وشبَّه أمته بالمطر في نفع أوله وآخره
(4)
وحياة الوجود به.
(1)
في النسخ المطبوعة: "تقطع"، ولعله تصحيف.
(2)
أخرجه البخاري (5643) ومسلم (2810) من حديث كعب بن مالك.
(3)
أخرجه البخاري (61) ومسلم (2811) من حديث ابن عمر. وانظر: "زاد المعاد"(4/ 364 - 366) و"مفتاح دار السعادة"(2/ 655).
(4)
رواه أحمد (12327، 12461)، والترمذي (2869) من حديث حماد بن يحيى الأبح، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه مرفوعا، وقال: "حديث حسن غريب
…
". والظاهر أن حماد بن يحيى الأبح لزم الجادّة، فزلق. وقد أشار إلى ذلك الإمام أحمد حين ساق عقب حديثه هذا في "المسند" (12462) روايةَ سَمِيِّه حمادِ بن سلمةَ عن ثابتٍ وحُميدٍ ويونسَ، عن الحسن مرسلا. ثم رأيتُه صرّح بذلك فيما نقله عنه ابنُه عبد الله في "العلل ومعرفة الرجال" (5400 - 5402)، وعنه الخلال في "العلل" (كما في "المنتخب منه" (12) لابن قدامة)، والعقيلي في "الضعفاء" (2/ 166)، وابن الجوزي "تلقيح فهوم أهل الأثر" (ص 427). وهذا هو المحفوظ عن الحسن البصري، وقد خلّط دهماءُ الرواةِ ما شاؤوا في تعيين من أسند عنه الحسن هذا الحديث.
وللحديث طرقٌ أخرى، منها ما رواه أحمد (18881) من حديث الحسن، عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما، وهو غلط من راوِيه زيادٍ أبي عمر الفرّاء. وقد صححه ابن حبان (3959) من طريق أخرى منكرة عن عمار رضي الله عنه. ويُنظر:"شرح العلل" لابن رجب (2/ 137 - 138).
ومثَّل أمته والأمتين الكتابيتين قبلها فيما خصَّ الله به أمتَه وأكرمَها به، بأُجَراء عملوا بأجر مسمًّى لرجل يومًا على أن يوفِّيهم أجورهم، فلم يكملوا بقية يومهم وتركوا العمل من أثناء النهار، فعملت أمته بقية النهار، فاستكملوا أجر الفريقين
(1)
. وضرب له ولأمته جبريل وميكائيل مثلَ ملِكٍ اتخذ دارًا، ثم بنى فيها بيتًا، ثم جعل مائدةً، ثم بعث رسولًا يدعو الناس إلى طعامه؛ فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه. فالله هو الملِك، والرسول محمد
(2)
، والدار الإسلام، والبيت الجنة. فمن أجابه دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل دار المَلك وأكل منها. ومن لم يُجِبه لم يدخل داره، ولم يأكل منها
(3)
.
(1)
رواه البخاري (558، 2271).
(2)
ع: "ومحمد الداعي"، وكذا في المطبوع. وفي الطبعات السابقة:"والرسول محمد الداعي".
(3)
رواه الترمذي (2860)، وقال:"هذا حديث مرسل، سعيد بن أبي هلال لم يُدرك جابر بن عبد الله". وظاهرُ رواية البخاري الوقف، وليست صريحة في الرفع، ولذلك عزّزها البخاري بسياق رواية سعيد بن أبي هلال المرفوعة، ساقها عن شيخهما قتيبة (مساق المتابعات)، واقتصر على سند الحديث دون متنه؛ لأنه ليس على شرطه، ولظهور انقطاعه وعدم اتصاله. ولا يضرُّ الحديث وقفُ ابنِ ميناءَ إيّاه؛ فإن له حكم الرفع بلا ريب، ولذلك لم يتحرّج البخاري من تخريجه في كتابه الصحيح. وبين سياقَي السعيدَيْن اختلافٌ يظهر من الموازنة بينهما، ومِنَ النظر في فتح الباري لابن حجر (13/ 255 - 256).
وللحديث شواهد، منها حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا، رواه الترمذي في الجامع (2861)، وحسّنه، وحديث ربيعة الجرشي مرسلا، عند الدارمي في المسند (11)، ومحمد بن نصر المروزي في السنة (109).
وفي "المسند" والترمذي
(1)
من حديث النوَّاس بن سَمْعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله ضرب مثلًا صراطًا مستقيمًا، على كنَفَي الصراط سُوران لهما أبواب مفتَّحة، وعلى الأبواب ستور مُرخاة، وعلى باب الصراط داع. يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعًا ولا تَعرَّجُوا
(2)
، وداعٍ يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال: ويحك، لا تفتحه! فإنك إن تفتحه تَلِجْه. فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتَّحة محارم الله. فلا يقع [139/ب] أحد في حدٍّ من حدود الله حتى يُكشَف السِّتْر. والداعي على رأس الصراط كتاب الله. والداعي من فوقُ
(3)
واعظُ الله في قلب كلِّ مسلم".
فليتأمَّل العارف قدرَ هذا المثل، وليتدبَّره حقَّ تدبُّره، ويزِنْ نفسَه به
(4)
، وينظر أين هو منه؟ وبالله التوفيق.
وقال: "مثَلي ومثلُ الأنبياء قبلي كمثَل رجلٍ بنَى دارًا، فأكملها، وأحسنها إلا موضع لَبِنة. فجعل الناسُ يدخلونها، ويتعجبُّون منها، ويقولون: لولا
(1)
رواه أحمد (17634، 17636)، والترمذي (2859) ــ وقال:"هذا حديث حسن غريب" ــ، والنسائي في "السنن الكبرى"(11169) من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه مرفوعا.
وصححه الحاكم (1/ 73).
(2)
كذا في النسخ دون ضبطه. وفي ع، ف غُيِّر إلى "تعوجوا"، وكذا في المطبوع وبعض مصادر التخريج. وفي أخرى:"لا تتعرجوا" و"لا تتعوجوا".
(3)
في النسخ المطبوعة: "من فوق الصراط".
(4)
في النسخ المطبوعة: "به نفسه".
موضعُ تلك اللبنة. فكنتُ أنا موضعَ تلك اللَّبِنة". رواه مسلم
(1)
.
وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة
(2)
وأبي سعيد
(3)
عنه صلى الله عليه وسلم: "إنما مثَلي ومثَلُ أمتي كمثَل رجلٍ استوقد نارًا، فجعل الدوابُّ والفَراشُ يقَعن فيها. فأنا آخُذ بحُجَزكم من النار، وأنتم تَقَحَّمون
(4)
فيها".
ومثَّل مَن وقع في الشبهات بالراعي يرعى حول الحِمَى، وإنه يوشك أن يرتع
(5)
فيه
(6)
.
وقال الحافظ أبو محمد بن خلّاد الرامهرمزي
(7)
: ثنا أبو شعيب
(8)
الحَرَّاني، ثنا يحيى بن عبد الله البابَلُتِّيُّ
(9)
، ثنا صفوان بن عمرو قال: حدّثني سُلَيم بن عامر قال: قال النبي
(10)
صلى الله عليه وسلم: "نُصِرتُ بالرعب
(11)
، وأوتيتُ
(1)
من حديث أبي هريرة (2286) وجابر (2287).
(2)
أخرجه البخاري (6483)، ومسلم (2284).
(3)
كذا في النسخ الخطية والمطبوعة. وإنما أخرجاه من حديث أبي هريرة، وأخرجه مسلم من حديث جابر (2285) أيضًا.
(4)
في النسخ المطبوعة: "تقتحمون".
(5)
في النسخ المطبوعة: "الحمى يوشك أن يقع".
(6)
انظر حديث النعمان بن بشير، أخرجه البخاري (52) ومسلم (1599).
(7)
في "أمثال الحديث"(ص 21 - 22). وسنده ضعيف لإرساله، ولضعف البابلتي، وتفرُّده بالحديث دون الثقات من أصحاب صفوان بن عمرو.
(8)
في جميع النسخ: "أبو سعيد"، تصحيف.
(9)
كذا ضبط في س بفتح الباء الثانية، وكذا قيَّدها المزي في "تهذيب الكمال" بخطه كما ذكر محققه (31/ 409). وضبطها السمعاني في "الأنساب"(2/ 14) بسكونها.
(10)
ح، ف:"رسول الله".
(11)
في النسخ المطبوعة زيادة: "مسيرة شهر".
جوامعَ الكلم، وأوتيتُ الحكمةَ، وضُرب لي من الأمثال مثلُ القرآن. وإني بينا أنا نائم إذ أتاني ملكان، فقام أحدهما عند رأسي، وقام الآخر عند رجلي. فقال الذي
(1)
عند رأسي: اضرب مثلًا [فقال الذي عند رجلي: بل اضرِبْ مثلًا]
(2)
وأنا أفسِّره. فقال الذي عند رأسي وأهوَى إليَّ: لِتَنَمْ عينُك، وَلْتسمَعْ أذنُك، وَلْيَعِ قلبُك. قال: فكنتُ كذلك: أمَّا الأذن فتسمع، وأما القلب فيعي، وأما العين فتنام. قال: فضرب [140/أ] مثلًا، فقال: بِركةٌ فيها شجرة ثابتة
(3)
، وفي الشجرة غصن خارج، فجاء ضاربٌ فضرَبَ الشجرة، فوقع الغصن ووقع معه ورق كثير، كلُّ ذلك في البِركة لم يَعْدُها، ثم ضرب الثانيةَ، فوقع ورق كثير، كلُّ ذلك في البِركة لم يعدُها. ثم ضرب الثالثة، فوقع ورق كثير، لا أدري ما وقع فيها أكثرُ أو ما خرج منها.
قال: ففسَّر الذي عند رجلي
(4)
، فقال: أما البِركة فهي الجنة، وأما الشجرة فهي الأمّة، وأما الغصن فهو النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الضارب فملَك الموت، ضرَب الضربة الأولى في القرن الأول، فوقع النبي صلى الله عليه وسلم وأهل طبقته. وضرب الثانية في القرن الثاني، فوقع كلُّ ذلك في الجنة. ثم ضرب الثالثةَ في القرن الثالث، فلا أدري ما وقع فيها أكثرُ أم ما خرج منها".
وفي "المسند"
(5)
من حديث جابر: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرَّت
(1)
في النسخ المطبوعة: "للذي".
(2)
ما بين الحاصرتين ساقط لانتقال النظر من النسخ الخطية والمطبوعة.
(3)
أهمل أول الكلمة في ح، ت. والمثبت من غيرهما، وكذا في النسخ المطبوعة. وفي مطبوعة "الأمثال":"نابتة".
(4)
أثبت في المطبوع هنا ومن قبل: "رجلاي"!
(5)
برقم (14630، 14984). وأخرجه مسلم (867).
عيناه، وعلا صوته، واشتَّد غضبه، حتَّى كأنه نذيرُ جيش يقول:"صبَّحكم ومسَّاكم". ثم يقول: "بُعِثتُ أنا والساعة كهاتين". ويقرُن بين إصبعَيه السبابة والوسطى.
وفي حديث المستورد: "بُعِثتُ في نفَسِ الساعة، سبقتُها كما سبقَتْ هذه هذه". وأشار بإصبعيه
(1)
.
وفي "المسند" عنه
(2)
: "إن مثَلي ومثَلَ ما بعثني الله به
(3)
كمثَلِ رجلٍ أتى قومَه فقال: يا قومِ إني رأيتُ الجيش بعيني، وأنا النذير العريان، فالنجاءَ. فأطاعه طائفة منهم، فأدلجوا على مَهَلِهم فنجَوا. وكذَّبته طائفة، فأصبحوا [140/ب] مكانَهم فصبَّحهم الجيشُ، فأهلكهم، واجتاحهم. كذلك
(4)
مثلُ من أطاعني واتبع ما جئتُ به، ومثلُ من عصاني وكذَّب بما جئتُ به من الحق".
(1)
رواه الترمذي (2213) من حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه مرفوعا، وقال:"هذا حديث غريب من حديث المستورد بن شداد، لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
وفي سنده مجالد بن سعيد، ويحيى الأرحبي، وكلاهما فيه لينٌ.
وأصل الحديث عند البخاري (5301، 6503 - 6505) ومسلم (867/ 43، 2951). وانظر: "فتح الباري"(11/ 348).
(2)
كذا، وهذه الأحاديث التي عزاها المصنِّف ــ رحمه الله تعالى ــ إلى "المسند"، أُراه نقلها من كتاب "أمثال الحديث" للرامهرمزي (6، 8، 9، 10). والحديث الآتي رواه الرامهرمزي في "أمثال الحديث"(ص 29) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وليس من حديث المستورد. وقد رواه أيضا البخاري (7283)، ومسلم (2283) من حديث أبي موسى.
(3)
"به" ساقط من النسخ المطبوعة.
(4)
في النسخ المطبوعة: "وكذلك" إلا طبعة الشيخ عبد الرحمن الوكيل.
وفي "الصحيحين"
(1)
عنه: "مثلي ومثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصاب أرضًا، فكان منها طائفة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. وكانت
(2)
منها أجادِبُ
(3)
أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا، وزرعوا، وسقَوا. وأصاب طائفة أخرى منها الماء، وهي
(4)
قِيعانٌ لا تُمسِك ماء، ولا تُنبِت كلأ. فذلك مثلُ من فقُه في دين الله، ونفعه
(5)
بما بعثني الله به، فعلِم وعلَّم؛ ومثلُ من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أُرسِلتُ به"
(6)
.
وفي "الصحيحين"
(7)
عنه صلى الله عليه وسلم أنه خطب الناس، فقال:"والله ما الفقرَ أخشى عليكم، وإنما أخشى عليكم ما يُخرج الله لكم من زهرة الدنيا". فقال رجل: يا رسول الله، أوَ يأتي الخير بالشرِّ؟ فصمَت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:"كيف قلت؟ ". فقال: يا رسول الله، أوَ يأتي الخير بالشرِّ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1)
من حديث أبي موسى أيضًا. البخاري (79) ومسلم (2282). والنقل من "أمثال الرامهرمزي"(ص 36 - 37).
(2)
في النسخ المطبوعة: "وكان".
(3)
الأجادب: صِلاب الأرض التي تمسك الماء فلا تشربه سريعًا. (النهاية ـ جدب).
(4)
في النسخ المطبوعة: "منها إنما هي". وفي "الأمثال" كما أثبت من النسخ.
(5)
ح: "وتفقه". وفي المطبوع: "ونفعه الله" بزيادة لفظ الجلالة.
(6)
وانظر شرح المثل في "طريق الهجرتين"(1/ 210 - 211) و"مفتاح دار السعادة (1/ 162 - 164) و"الرسالة التبوكية" (ص 61 - 64).
(7)
البخاري (1465) ومسلم (1052) من حديث أبي سعيد الخدري. والنقل من "أمثال الرامهرمزي"(ص 61 - 62). وقوله: "والله ما الفقر أخشى عليكم" من حديث عمرو بن عوف الأنصاري في البخاري (3158) ومسلم (2961).
"إنَّ الخير لا يأتي إلا بالخير، وإنَّ مما يُنبت الربيعُ ما يقتل حَبَطًا
(1)
أو يُلِمُّ
(2)
، إلا آكلةَ الخَضِر أكلَتْ حتى إذا امتدَّت خاصرتاها استقبلت الشمسَ، فثلَطت
(3)
وبالت، ثم اجترَّت، فعادت
(4)
، فأكلت. فمن أخذ مالًا بحقِّه يبارَك له فيه، ومن أخذ مالًا بغير حقِّه فمثلُه كمثل الذي يأكل ولا يشبع".
وقالت ميمونة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص: "الدنيا خَضِرة [141/أ] حُلوة، فمن اتقى الله فيها وأصلح، وإلا فهو كالذي يأكل ولا يشبع. وبين الناس في ذلك كبعد الكوكبين، أحدهما يطلع في المشرق، والآخر يغيب في المغرب"
(5)
.
ومثَّل نفسَه صلى الله عليه وسلم في الدنيا براكب مرَّ بأرضٍ فَلاةٍ، فرأى شجرةً، فاستظلَّ تحتها، ثم راح وتركها
(6)
.
(1)
الحبط: انتفاخ بطن الدابة من الامتلاء أو من المرض.
(2)
يعني: أو يكاد يقتل.
(3)
الثلط: الرجيع الرقيق.
(4)
في النسخ المطبوعة: "وعادت".
(5)
رواه أبو يعلى (7099)، والرامهرمزي في "أمثال الحديث"(ص 73 - 74) من حديث ميمونة رضي الله عنها مرفوعًا. وفيه المثنى بن الصباح، وهو ضعيف. وانظر شرح الحديث في "عدة الصابرين"(ص 454 - 455).
(6)
رواه أحمد (3709، 4208)، والترمذي (2377) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه (4109) من حديث ابن مسعود مرفوعًا. ورواه أحمد (2744) من حديث ابن عباس مرفوعًا، وصححه ابن حبان (7340)، والحاكم (4/ 309 - 310). وانظر شرح المثل في "عدة الصابرين"(ص 449).
وفي "المسند" والترمذي
(1)
عنه: "ما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدُكم إصبعَه في اليَمِّ، فلينظر بم يرجع؟ ".
ومرَّ مع أصحابه
(2)
بسَخْلة منبوذة فقال: "أترون هذه هانت على أهلها، فوالذي نفسي بيده، لَلدُّنيا
(3)
أهونُ على الله من هذه على أهلها"
(4)
.
وقال: "إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قومٍ سلكوا مفازةً غبراءَ، لا يدرُون ما قطعوا منها أكثرُ أو ما بقي منها. فحسَرت
(5)
ظهورُهم، ونفِد زادهم، وسقطوا بين ظهرَي المفازة، فأيقنوا بالهلكة. فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجلٌ في حُلّةٍ يقطرُ رأسه، فقالوا: إن هذا لحديثُ عهدٍ بريف، فانتهى إليهم، فقال: يا هؤلاء، ما شأنكم؟ فقالوا: ما ترى كيف حسَرت ظهورنا، ونفِدت أزوادنا بين ظهرَي هذه المفازة، لا ندري ما قطعنا منها أكثرُ أم ما بقي؟ فقال: ما تجعلون لي إن أوردتُكم ماءً رَواءً
(6)
ورياضًا خُضْرًا؟ قالوا: حكمَك. قال: تعطوني عهودكم ومواثيقكم أن لا تعصُوني، ففعلوا،
(1)
"المسند"(18008، 18009، 18012، 18014) و"جامع الترمذي"(2323). وأخرجه مسلم (2858). وانظر: "أمثال الرمهرمزي"(ص 83).
(2)
في النسخ المطبوعة: "الصحابة".
(3)
في النسخ: "الدنيا"، تصحيف.
(4)
رواه أحمد (18013، 18020، 18021)، والترمذي (2321) ــ وقال:"حديث حسن" ــ، وابن ماجه (4111) من حديث المستورد بن شداد مرفوعا، وفي سنده مجالد بن سعيد، وهو ضعيف. وله شواهد، منها حديث جابر عند مسلم (2957).
(5)
حسَرت الدابة: تعبت وأعيت.
(6)
الماء الرَّواء بفتح الراء: الماء الكثير الذي يُروي وارده.
فمال بهم، فأوردهم ماء رَواءً ورياضًا خُضْرًا. فمكث يسيرًا، ثم قال: هلُمُّوا إلى رياض أعشبَ من رياضكم هذه، وماءٍ أروى من مائكم هذا. فقال جُلُّ القوم: ما قدَرنا على هذا حتى كدنا أن لا نقدر عليه. [141/ب] وقالت طائفة منهم: ألستم قد جعلتم لهذا الرجل عهودكم ومواثيقكم أن لا تعصُوه؟ قد
(1)
صدَقكم في أول حديثه، فآخِرُ حديثه مثلُ أوله. فراح، وراحوا معه، فأوردهم رياضًا خضرًا، وماء رَواءً. وأتى الآخرين العدوُّ من ليلتهم، فأصبحوا ما بين قتيل وأسير"
(2)
.
وقال: "مثَلُ المؤمن مثَلُ
(3)
النحلة أكلَتْ طيِّبًا، ووضعَتْ طيِّبًا، وإنَّ مثَل المؤمن مثلُ القطعة الجيدة من الذهب، أُدخلَتْ النارَ، فنُفِخَ عليها، فخرجت جيِّدةً"
(4)
.
(1)
ف: "فقد"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
قال الإمام ابن المبارك في كتاب "الزهد"(507): بلغنا عن الحسن: (فذكره مرسلا). ورواه الرامهرمزي في "أمثال الحديث"(ص 84 - 85) من طريق ابن المبارك، قال: حدثنا غير واحد عن الحسن
…
(فذكره مرسلا). ورواه ابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا"(178) من حديث هشام بن حسان، عن الحسن مرسلا. وله شواهد، منها ما رواه أحمد (2402) من حديث ابن عباس مرفوعا، وفي سنده علي بن زيد ابن جدعان ضعيف.
(3)
ع: "كمثل" هنا وفيما بعد، وكذا في النسخ المطبوعة.
(4)
رواه أحمد (6872)، والحسين المروزي في زياداته على "الزهد" لابن المبارك (1610)، والرامهرمزي في "أمثال الحديث"(ص 99 - 100)، وأبو الشيخ في "الأمثال"(343)، والحاكم (1/ 75 - 76) وصحّحه، والبيهقي في "البعث"(155)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعًا. وفي سنده أبو سبرة الهذلي مجهول. وأما سند الرامهرمزي، ففيه آفاتٌ أخرى واضحة، فلن أُطِيلَ بسردها.
وروى ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر يرفعه:"مثلُ المؤمن مثلُ النخلة ــ أو النحلة ــ إن شاورتَه نفَعَك، وإن ماشَيتَه نفَعك، وإن شاركتَه نفَعك"
(1)
.
وقال: "مثلُ المؤمن والإيمان كمثل الفرس في آخِيَّته
(2)
، يجُول ما يجول ثم يرجع إلى آخِيَّته. وكذلك المؤمن يقترف ما يقترف
(3)
، ثم يرجع إلى الإيمان"
(4)
.
وقال: "مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم كمثل الجسد، إذا اشتكى شيءٌ منه تداعَى سائره بالسهَر والحُمَّى
(5)
"
(6)
.
وقال: "مثلُ المنافق كمثل الشاة العائرة
(7)
بين الغنمَين، تكُرُّ إلى هذه
(1)
رواه أبو يعلى في "المسند الكبير" كما في "إتحاف الخيرة المهرة" للبوصيري (6/ 151)، و"المطالب العالية" لابن حجر (3/ 118)، والرامهرمزي في "أمثال الحديث"(ص 104)، وأبو الشيخ في "الأمثال"(353)، والطبراني في "المعجم الكبير"(13541)، وليث هو ابن أبي سليم، ضعيف مخلّط، وقد أدخل مرّة بينه وبين مجاهدٍ محمدَ بن طارق.
(2)
سبق تفسير "الآخية".
(3)
ت: "يفترق ما يفترق". وفي ع: "يفرق ما يفرق"، وكلاهما تصحيف.
(4)
رواه أحمد (11526) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا، وصححه ابن حبان (3837)، مع أن في سنده أبا سليمان الليثي، وهو مجهول، والراوي عنه عبد الله بن الوليد مستور الحال، لم يوثقه من يُعتدّ بتوثيقه. بل قال الدارقطني: لا يُعتبر به.
(5)
ت: "بالحمى والسهر".
(6)
أخرجه البخاري (6011) ومسلم (2586) من حديث النعمان بن بشير، والنقل من "أمثال الحديث"(ص 127).
(7)
يعني المشرّدة بين القطيعين من الغنم.
مرةً، وإلى هذه مرةً"
(1)
.
وقال: "مثلُ القرآن كمثل الإبل المعقَّلة
(2)
، إن تعاهَدَ
(3)
صاحبها عقْلَها أمسَكَها، وإن أغفلها ذهبت. وإذا قام صاحبُ القرآن به ذكَره، وإذا لم يقُم به نسِيَه"
(4)
.
وقال موسى بن عبيدة، عن ماعز بن سُويَد العَرْجي، عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(5)
: "مثلُ
(6)
الذي لا يُتِمُّ صلاته مثلُ المرأة
(7)
، حملَتْ حتَّى إذا دنا نفاسها أسقطَتْ، فلا حامل ولا ذات رضاع. ومثلُ المصلِّي كمثل التاجر لا يخلُص له الربحُ حتى يخلُص له رأسُ ماله
(8)
. وكذلك [142/أ] المصلِّي لا تُقبَل
(9)
له نافلة حتى يؤدِّي الفريضة"
(10)
.
(1)
أخرجه مسلم (2784) من حديث ابن عمر. والنقل من "أمثال الحديث"(ص 130).
(2)
المعقَّلة: المربوطة بالعقال، وهو الحبل.
(3)
في النسخ المطبوعة: "تعهد".
(4)
أخرجه البخاري (5031) ومسلم (789) من حديث ابن عمر. والنقل من "أمثال الحديث"(ص 135).
(5)
"قال" من هامش ت، ومصادر التخريج.
(6)
في النسخ المطبوعة: "مثل المؤمن"، ولم ترد هذه الزيادة في النسخ الخطية ولا في مصادر التخريج.
(7)
في النسخ المطبوعة: "المرأة التي" بزيادة "التي"، وهي كالزيادة السابقة، خلت منها النسخ الخطية ومصادر التخريج.
(8)
في النسخ المطبوعة: "رأس المال"، وفي المصادر كما أثبت من النسخ الخطية.
(9)
ع: "لا يقبل الله"، وكذا في النسخ المطبوعة. والمثبت من النسخ الأخرى موافق لما في المصادر.
(10)
رواه الرامهرمزي في "أمثال الحديث"(ص 139 - 140)، وأبو القاسم ابن بشران في "الأمالي"(1542)، والبيهقي (2/ 387)، وموسى بن عبيدة الربذي ضعيف. وصالح بن سويد العرجي مجهول لم يرو عنه إلا موسى الربذي، ولم يثبت إدراكه عليًّا رضي الله عنه؛ فسند الحديث واهٍ، وهو غريبٌ جدًّا، منكرٌ سندًا ومتنًا. وورد عن موسى الربذي على لون آخر؛ فقد رواه ابن أبي شيبة في "المسند" [كما في "إتحاف الخيرة المهرة" للبوصيري (ح: 1321/ 1)]، والبيهقي (2/ 387) من طريقين عنه، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن علي به مرفوعا.
وهذا من تخليط موسى واضطرابه، فإن إبراهيم روى عن أبيه، عن علي حديث النهي عن القراءة في الركوع والسجود. وتأمّل ما في "المسند" لأبي يعلى الموصلي (315)، و"الترغيب والترهيب" لقوام السنة الأصبهاني (1913).
وقال حماد بن سلَمة، عن علي بن زيد، عن أوس بن خالد، عن أبي هريرة يرفعه: "مثلُ الذي يسمع الحكمةَ ولا يحمِل إلا شرَّها كمثل رجلٍ أتى راعيًا فقال: أجْزِرْني
(1)
شاةً من غنمك. فقال: انطلِقْ، فخُذْ بأذن شاةٍ منها. فذهب، فأخذ بأذن كلب الغنم! "
(2)
.
وقال عبد الله بن المبارك
(3)
: ثنا عبد الرحمن بن يزيد
(4)
بن جابر،
(1)
الكلمة مهملة في ح، ع، ف. وفي س، ت:"أحرزني"، وفي النسخ المطبوعة:"آجرني" وكلاهما تصحيف ما أثبت من "المسند" و"سنن ابن ماجه" و"أمثال الحديث"(ص 144) وغيرها. وأجزِرني شاةً، أي أعطِني شاةً تصلح للذبح. انظر:"النهاية"(جزر).
(2)
رواه أحمد (8639، 9260، 10606)، وابن ماجه (4172)، وعلي بن زيد (وهو ابن جدعان) ضعيف، وأوس مجهولٌ، لم يَرْوِ عنه غير ابن جدعان.
(3)
في "الزهد"(596) ــ والنقل من "أمثال الحديث" للرامهرمزي (ص 153 - 154). ورواه ابن ماجه (4035) من طريق الوليد بن مسلم، عن ابن جابر به مختصرًا، مقتصرًا على طرفه الأول. ثم روى (4199) طرفه الآخر من طريق الوليد أيضًا. وصححه ابن حبان (4501، 4502، 4629، 4918).
(4)
ما عدا ت: "زيد"، تصحيف.
حدثني أبو هريرة
(1)
قال: سمعتُ معاوية يقول على هذا المنبر: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما بقي من الدنيا بلاء وفتنة، وإنما مثلُ عملِ أحدكم كمثل الوعاء، إذا طاب أعلاه طاب أسفلُه، وإذا خبُث أعلاه خبُث أسفلُه".
وفي "المسند"
(2)
من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ رجلًا كان فيمن كان قبلكم استضاف قومًا، فأضافوه، ولهم كلبة تنبح. قال: فقالت الكلبة: والله لا أنبَحُ ضيفَ أهلي الليلةَ. قال: فعوَى جِراؤها في بطنها. فبلغ ذلك نبيًّا لهم أو قَيْلًا لهم، فقال: مثَلُ هذه مثَلُ أمّةٍ تكون بعدكم، يقهر سفهاؤها حلماءَها
(3)
، ويغلب سفهاؤها علماءَها".
وفي "صحيح البخاري"
(4)
من حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم: "مثلُ القائمِ في حدود الله والواقعِ فيها كمثل قومٍ استهَموا
(5)
على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلَها. فكان الذين في أسفلها إذا استقَوا من الماء مرُّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خَرْقًا ولم نُؤذِ مَن فوقنا! فإن هم تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن
(6)
أخذوا على
(1)
كذا في جميع النسخ، ونسخة الإسكوريال من "أمثال الحديث" المقروءة على الحافظ ابن حجر، كما في المطبوع (ص 153). فالظاهر أن هذا التصحيف كان في النسخة التي اعتمد عليها ابن القيم أيضًا. والصواب:"أبو عبد ربِّه".
(2)
برقم (6588)، والنقل من "أمثال الرامهرمزي"(ص 154 - 155). وفي سنده عطاء بن السائب، وكان قد اختلط.
(3)
في النسخ المطبوعة: "حكماءها"، تصحيف.
(4)
برقم (2493).
(5)
أي اقترعوا فيما بينهم ليأخذ كلٌّ منهم نصيبه من السفينة.
(6)
ت: "وإن هم".
أيديهم نجَوا ونجَوا [142/ب] جميعًا".
وفي "المعجم الكبير"
(1)
عنه من حديث سهل بن سعد قال: "إياكم ومحقَّراتِ الذنوب، فإنَّ مثلَ ذلك كمثلِ قومٍ نزلوا بطنَ واد، فجاء هذا بعود وهذا بعود، حتى حملوا ما أنضَجوا به خبزَهم. وإنَّ محقَّراتِ الذنوب متى يؤخَذْ بها صاحبُها تُهلِكْه".
وفي "المسند"
(2)
من حديث أبي بن كعب يرفعه: "إنَّ مطعمَ ابن آدم قد ضُرِب مثلًا للدنيا، فانظر ما يخرج من ابن آدم، وإن قزَّحه
(3)
وملَّحه، قد
(1)
برقم (5872)، وفي "الأوسط"(7323)، وفي "الصغير"(904)، وأحمد (22808)، والرمهرمزي في "أمثال الحديث"(ص 163). ورواه عبد الرزاق (20278)، وابن أبي شيبة (35670) عن ابن مسعود موقوفا عليه.
(2)
برقم (21239) من زيادات عبد الله بن أحمد. ورواه الحسين المروزي في زياداته على "الزهد" لابن المبارك (494)، وابن أبي الدنيا في "الجوع"(165)، وابن أبي عاصم في "ذكر الدنيا
…
" (205)، وابن حبان (4591)، والضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (1245، 1246) من طريقين عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن عُتي، عن أبيّ مرفوعًا.
ورواه ابن أبي الدنيا في "التواضع والخمول"(216)، وفي "الجوع"(166)، وابن صاعد في زياداته على "الزهد" لابن المبارك (493) من هذا الوجه موقوفا، وقفه هُشيم وابن عُليّة عن يونس. ورواه أبو أحمد الزبيري عن سفيان، عن يونس، عن الحسن به موقوفا، رواه عنه ابن أبي شيبة (35977). ورواه الإمام ابن المبارك في "الزهد"(546)، والطيالسي (550) من حديث الحسن عن أبيّ موقوفا (لم يذكر عُتيًّا). ووقع مثله في كتاب "الزهد" المنسوب إلى أبي حاتم الرازي (33).
(3)
من القِزْح، وهو التابل الذي يُطرح في القِدر كالكمون والكزبرة ونحو ذلك. انظر:"النهاية"(قزح).
عَلِم إلى ما يصير".
وقال أبو محمد بن خلّاد
(1)
:
ثنا عبد الله بن أحمد بن معدان، ثنا يوسف بن مسلم المِصِّيصي، ثنا حجّاج الأعور، عن أبي بكر الهذلي، عن الحسن، عن أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّي ضَربتُ للدنيا مثلًا، ولابن آدم عند الموت. مثَلُه مثَلُ رجلٍ له ثلاثة أخِلَّاء، فلما حضره الموت قال لأحدهم: إنك كنتَ لي خليلًا، وكنتَ أبر الثلاثة
(2)
عندي، وقد نزل بي من أمر الله ما ترى، فماذا عندك؟ " قال: "يقول: وماذا عندي؟ وهذا أمرُ الله قد غلبني، ولا أستطيع أن أنفِّس كُربتَك، ولا أفرِّج غمَّك، ولا أؤخِّر سعيَك
(3)
. ولكن ها أنا ذا بين يديك، فخذني
(4)
زادًا تذهب به معك، فإنه ينفعك".
قال: "ثم دعا الثاني، فقال: إنك كنتَ لي خليلًا، وكنت آثَرَ
(5)
الثلاثة
(1)
أي الرامهرمزي في "أمثال الحديث"(ص 170 - 172)، وأبو بكر الهذلي متروك.
وفي الباب: حديثٌ رواه أبو الشيخ في "الأمثال"(308)، والحاكم (1/ 74 - 75، 372) من حديث حماد بن سلمة، عن سماك، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، وصححه على شرط مسلم! وقد رواه أبو داود في "الزهد"(382) من الوجهِ نفسِه موقوفا على النعمان. ورواه ابن أبي شيبة (35868) عن أبي الأحوص، عن سماك، عن النعمان به موقوفًا. وله شاهد من حديث أنس رضي الله عنه، رواه الحاكم (1/ 74)، وصححه على شرط الشيخين، وآخر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، رواه أبو الشيخ في "الأمثال"(309)، والبيهقي في "الجامع لشعب الإيمان"(9993).
(2)
في "الأمثال": "وكنت لي مكرمًا مؤثِرًا".
(3)
في النسخ المطبوعة: "ساعتك" هنا وفيما يأتي. وفي "الأمثال" كما أثبت من النسخ.
(4)
في "الأمثال""فخذ منّي". وكذا فيما يأتي.
(5)
في (ع) والنسخ المطبوعة: "أبرّ". وهو تصحيف صوابه ما أثبت من س، ح، ف و"الأمثال". والكلمة مهملة في ت.
عندي، وقد نزل بي من أمر الله ما ترى، فماذا عندك؟ " قال: "يقول: وماذا عندي؟ وهذا أمر الله قد غلبني، ولا أستطيع أن أنفِّس كربتك، ولا أفرِّج غمَّك، ولا أؤخِّر سعيَك، ولكن سأقوم عليك في مرضك. فإذا مِتَّ [143/أ] أنقيتُ
(1)
غسلَك، وجدَّدتُ
(2)
كِسوتك، وسترتُ جسدك وعورتك".
قال: "ثم دعا الثالث، فقال: قد نزل بي من أمر الله ما ترى، وكنت أهونَ الثلاثة عليَّ، وكنتُ لك مضيعًا، وفيك زاهدًا، فما
(3)
عندك؟ قال: عندي أنّي قرينك
(4)
وحليفك في الدنيا والآخرة، أدخل معك قبرك حين تدخله، وأخرج منه حين تخرج منه، ولا أفارقك أبدًا".
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا ماله وأهله وعمله. أما الأول الذي قال: خذني زادًا، فماله. والثاني أهله، والثالث عمله". وقد رواه أيضًا
(5)
بسياق آخر من
(1)
مهملة في ح. وفي غيرها كما أثبت، وكذا في النسخ المطبوعة. وفي "الأمثال":"أتقنت".
(2)
في "الأمثال": "وجوّدت".
(3)
ت: "فماذا"، وكذا في "الأمثال".
(4)
في "الأمثال": "قريبك".
(5)
في "أمثال الحديث"(ص 172 - 176). ورواه العقيلي في "الضعفاء"(3/ 274 - 277)، وأبو الشيخ في "الأمثال" (307) من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا بسند ظاهر الافتعال والتركيب. وآفته: عبد الله بن عبد العزيز، قال أبو حاتم: "هذا حديث منكر من حديث الزهري، لا يُشبه أن يكون حقًّ [كذا]، وعبد الله بن عبد العزيز ضعيف الحديث، عامّة حديثه خطأ
…
". نقله عنه ابنه عبد الرحمن في "العلل" (1848). ونقل في "الجرح والتعديل" (5/ 103) عنه قوله: "منكر الحديث
…
لا يُشتغَل بحديثه، ليس في وزن [أن] يُشتغَل بخطئه
…
لا أعلم له حديثًا مستقيمًا
…
". وقال العقيلي (3/ 274): "حديثه غير محفوظ، ولا يُعرَف إلّا به، وليس له أصلٌ من حديث الزهري".
حديث أُبَيّ
(1)
أيضًا، ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومًا لأصحابه: "أتدرون ما مثَلُ أحدِكم ومثلُ أهله وماله
(2)
وعمله؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. فقال: "إنما مثلُ أحدكم ومثلُ [ماله و] أهله وولده وعمله
(3)
كمثل رجلٍ له ثلاثة إخوة، فلما حضرته الوفاة دعا بعضَ إخوته، فقال: إنه قد نزل بي من الأمر ما ترى، فمالي عندك؟ وما لديك؟ فقال: لك عندي أن أمرِّضَك ولا أزايلك، وأن أقوم بشأنك. فإذا مِتَّ غسَّلتُك، وكفَّنتُك، وحملتُك مع الحاملين، أحملك طورًا وأميط عنك طورًا. فإذا رجعتُ أثنيتُ عليك بخيرٍ عند من يسألني عنك. هذا أخوه الذي هو أهله، فما ترونه؟ ". قالوا: لا نسمع طائلًا يا رسول الله.
(1)
كذا في جميع النسخ الخطية والمطبوعة، وهو وهم، فالحديث عن عائشة، كما تقدم.
(2)
ت، ع:"ماله وأهله"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
ف: "ومثل أهله وماله وعمله"، وكذا في النسخ المطبوعة. وما بين الحاصرتين من مصدر النقل، وقد أشير إليه في حاشية ت.
"ثم يقول للأخ الآخر: أترى ما قد نزل بي؟ فمالي لديك؟ ومالي عندك؟ فيقول: ليس عندي غَناءٌ إلا وأنت في الأحياء. فإذا مِتَّ ذهب بك مذهبٌ، وذهب بي مذهبٌ. هذا [143/ب] أخوه الذي هو مالُه، كيف ترونه؟ " قالوا: لا نسمع طائلًا يا رسول الله.
"ثم يقول لأخيه الآخر: أترى ما قد نزل بي، وما ردَّ عليَّ أهلي ومالي؟ فمالي عندك؟ وما لي لديك؟ فيقول: أنا صاحبُك في لحدك، وأنيسُك في وحشتك. وأقعُد يوم الوزن في ميزانك، فأُثقِّل ميزانَك. هذا أخوه الذي هو عملُه، كيف ترونه؟ ". قالوا: خيرُ أخٍ وخيرُ صاحبٍ يا رسول الله، قال:"فإنَّ الأمر هكذا".
وقال
(1)
صلى الله عليه وسلم: "مثلُ الجليس الصالح مثلُ حاملِ المِسك
(2)
، إما أن يُحذِيَك
(3)
، وإما أن يبيعك، وإما أن تجد منه ريحًا طيبةً. ومثلُ جليس السَّوء كمثل صاحب الكِير
(4)
، إن لم يُصبك من شرره أصابك من ريحه"
(5)
.
وفي "الصحيح"
(6)
عنه أنه قال: "مثلُ المنفِق والبخيل مثلُ رجلين عليهما جُبَّتان ــ أو جُنَّتان ــ من حديد من لدن ثُدِيِّهما إلى تراقيهما. فإذا أراد
(1)
في ع: "وقال رسول الله" دون الصلاة والسلام عليه. وكذا في النسخ المطبوعة معهما.
(2)
في النسخ المطبوعة: "صاحب المسك".
(3)
أي يعطيك.
(4)
الكِير: مِنفاخ الحدَّاد.
(5)
أخرجه البخاري (5534) ومسلم (2628) من حديث أبي موسى الأشعري. وقد أخرجه الرمهرمزي في "أمثال الحديث"(ص 177) بعد الحديث السابق، ولكن المصنف لم ينقله بلفظه ولا لفظ "الصحيحين".
(6)
ساقه المصنِّف من رواية الرامهرمزي في "أمثال الحديث"(ص 181 - 182)، والحديث أخرجه البخاري (1443، 2917، 5299) ومسلم (1021) من حديث أبي هريرة.
المنفِق أن يُنفق سبَغَتْ عليه حتى تُجِنَّ
(1)
بَنانَه وتعفو أثرَه
(2)
. وإذا أراد البخيل أن يُنفِق قلَصتْ ولزمتْ كلُّ حلقة موضعَها، فهو يوسِّعها ولا تتسع".
وقال: "مثلُ الذين يغزون من أمتي ويتعجَّلون أجورَهم كمثل أمِّ موسى تُرضِع ولدَها وتأخذ أجرَها"
(3)
.
فصل
قالوا: فهذه وأمثالها من الأمثال التي ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقريب المراد، وتفهيم المعنى، وإيصاله إلى ذهن السامع وإحضاره في نفسه بصورة المثال الذي مَثَّل به؛ فإنه يكون
(4)
أقرَب إلى تعقُّله وفهمه، وضبطه واستحضاره له باستحضار نظيره؛ فإنَّ النفس تأنَس بالنظائر والأشباه الأُنْسَ التامَّ، [144/أ] وتنفِر من الغُربة والوحدة وعدم النظير. ففي الأمثال من تأنيس
(1)
أي تُخفي، كما في ت، وروايةِ البخاري (1443). وفي النسخ المطبوعة:"يجر"، تصحيف.
(2)
أي تستر أثره إذا مشى، لسُبوغها. وانظر شرح المثل في "فتح الباري"(3/ 306 - 307).
(3)
رواه سعيد بن منصور (2361)، وعنه أبو داود في "المراسيل"(332)، ــ ومن طريقهما البيهقي (9/ 27) ــ، وابن أبي شيبة (19881)، وابن قتيبة في "عيون الأخبار"(1/ 218)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة"! (2/ 525) من حديث معدان بن حدير، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه مرسلا. والحديث ــ مع إرساله ــ فيه معدان هذا، مستور الحال، لم يُوثَّق. والأشبه بالصواب أن أصل الحديث موقوفٌ مرويٌّ عن معاوية رضي الله عنه، التبس على معدان فرفعه، فانظر:"السنن" لسعيد بن منصور (2362).
(4)
ت: "قد يكون"، وكذا في النسخ المطبوعة.
النفس وسرعةِ قبولها وانقيادِها لما ضُرب لها مثلُه من الحقِّ أمرٌ لا يجحده أحدٌ ولا ينكره. وكلَّما ظهرت لها الأمثال ازداد المعنى ظهورًا ووضوحًا. فالأمثال شواهد للمعنى
(1)
المراد، ومزكِّية
(2)
له. فهو
(3)
{كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح: 29]، وهي خاصَّةُ العقل ولبُّه وثمرتُه.
ولكن أين في الأمثال التي ضربها الله ورسوله على هذا الوجه، فهِمنا أن الصُّداق لا يكون أقلَّ من ثلاثة دراهم أو عشرة
(4)
قياسًا وتمثيلًا على أقلِّ ما يُقطَع فيه السارق؟ هذا بالألغاز والأحاجيِّ أشبَهُ منه بالأمثال المضروبة للفهم! كما قال إمام الحديث محمد بن إسماعيل البخاري في "جامعه الصحيح"
(5)
"باب من شبَّه أصلًا معلومًا بأصلٍ مبيَّن قد بيَّن الله حكمَهما لِيفهم السامع"
(6)
.
فنحن لا ننكر هذه الأمثال التي ضربها الله ورسوله، ولا نجهل ما أريد بها؛ وإنما ننكر أن يستفاد وجوبُ الدم
(7)
على من قطع من جسده أو رأسه ثلاث شعرات أو أربعًا
(8)
من قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ
(1)
ع: "المعنى"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
ع، ف:"مركبة". ت: "تزكية".
(3)
يعني: المعنى. وفيما عدا س: "وهي". وفي النسخ المطبوعة: "فهي".
(4)
"أو عشرة" لم ترد في ح، ف.
(5)
في كتاب الاعتصام قبل الحديث (7314).
(6)
كذا في جميع النسخ الخطية والمطبوعة. وفي "الصحيح": "ليفهم السائل".
(7)
ح، ع، ف:"تحريم وجوب الدم".
(8)
ع: "أربع"، وكذا في النسخ المطبوعة.
مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، وأن الآية تدل على ذلك.
وأنَّ قوله صلى الله عليه وسلم في صدقة الفطر: "صاع من تمر
(1)
أو صاع من شعير، أو صاع من أقِط، أو صاع من بُرٍّ
(2)
، أو صاع من زبيب"
(3)
يُفهَم منه أنه لو أعطى صاعًا من إهْلِيلَجٍ
(4)
جاز، وأنه يدل على ذلك بطريق التمثيل والاعتبار.
وأنَّ [144/ب] قوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش"
(5)
، يستفاد منه ومن دلالته: أنه لو قال له الوليُّ بحضرة الحاكم: زوَّجتُك ابنتي ــ وهو بأقصى الشرق، وهي بأقصى الغرب ــ فقال: قبلتُ هذا التزويج وهي طالقٌ ثلاثًا؛ فأتت بعد ذلك بولد لأكثر من ستة أشهر= أنه ابنه، وقد صارت فراشًا بمجرَّد قوله: قبلت هذا التزويج. ومع هذا لو كانت له سُرِّيَّةٌ يطؤها ليلًا ونهارًا لم تكن فراشًا له، ولو أتت بولد لم يلحقه نسبه إلا أن يدَّعيه ويستلحقه. فإن لم يستلحقه فليس
(1)
ع: "من بُرّ". وسقط منها "أو صاع من برّ" فيما يأتي.
(2)
ح، ف:"تمر"، وقد تكرر سهوًا.
(3)
هو حديث مُلفَّق من أحاديث؛ فليُنظر: "الصحيح" للبخاري (1503)، و"الصحيح" لمسلم (984)، و"السنن" للدارقطني (2086، 2090 - 2093، 2100، 2117)، و"المستدرك" للحاكم (1/ 411 - 412).
(4)
ثمر طبي معروف، أصله من الهند. والكلمة معرَّبة، وهي في الفارسية الحديثة: هليله، وتكون في الفهلوية:"هَلِيلك" بالكاف الفارسية، ومنها عُرِّبت. انظر:"المعرب" للجواليقي ــ تعليق المحقق (ص 133).
(5)
أخرجه البخاري (2053) ومسلم (1457) من حديث عائشة.
بولده
(1)
.
وأن
(2)
يُفهَمَ من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن في قتل الخطأ شبهِ العَمْد ما كان بالسوط والعصا مائةً من الإبل"
(3)
أنه لو ضربه بحجَر المَنْجَنيق أو بكُوذِينِ
(4)
(1)
سيذكر المؤلف هذه المسألة مرتين أخريين في هذا الكتاب. وقد ذكرها أيضًا في "زاد المعاد"(5/ 371 - 372) و"الطرق الحكمية"(1/ 22 - 23).
(2)
معطوف على ما سبق. وفي النسخ المطبوعة: "وأين".
(3)
رواه أبو داود (4547، 4548، 4588، 4589)، وابن ماجه عقب الحديث (2627)، والنسائي (4793) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعا. وصححه ابن حبان (4080). وفي سنده اختلاف؛ فليُنظر:"المسند" للإمام أحمد (4583، 6533، 15388 - 15390)، و"السنن" لأبي داود (4549)، و"السنن" لابن ماجه (2627، 2628)، و"المجتبى" للنسائي (4791 - 4800)، و"السنن الكبرى" له (6967 - 6975)، و"سؤالات ابنِ الجنيد لابن معين"(183)، و"العلل" لابن أبي حاتم (1389)، و"العلل" للدارقطني (12/ 438)، و"تحفة الأشراف" للمزي (6/ 22، 365، 375).
(4)
في النسخ المطبوعة: "بكُور"، وهو تحريف. وكُور الحداد هو الذي فيه الجمر، وهو مبني من الطين، فليس من آلات الضرب. وفي (ت، ع): "بكودين" بالدال المهملة، وهي لغة فيها، وبها جاءت في المعاجم الفارسية. قال الجواليقي في "تكملة إصلاح ما تغلط فيه العامة" (ص 93):"ويقولون لمُدُقِّ القصّار: "الكُوذين"، والكلامُ: الكُذَيْنق". وهذا يدل على أن الصواب في قراءة قوله في "المعرَّب"(ص 294 - شاكر): "
…
وهو الذي تدعوه العامة كُوذِينًا" بالتنوين، لا "كُوذينَا" كما قرأ المحقق، وظنَّها غير "كُوذين"، فأثبتهما في الفهرس (ص 396) على أنهما كلمتان. وقد تكررت الكلمة في كتب الفقه الحنبلي وفُسِّرت في بعضها. انظر مثلًا: "الهداية" (ص 504) و"الفروع" (9/ 351) و"المبدع" (7/ 193). وقال شمس الدين البعلي (ت 709 هـ) في "المطلع على ألفاظ المقنع" (1/ 434): "وأما الكُوذين فلفظ مولَّد أيضًا. وهو عند أهل زماننا عبارة عن الخشبة الثقيلة التي يدقّ بها الدقّاق الثياب" .. قلت: الصواب أنه دخيل من الفارسية، وفيه عدة لغات: كُدِين، وكُدِينة، وكُدَنْك، وكُدَنكه (الكاف الثانية في الأخيرتين فارسية). انظر: "المعرَّب" (ص 557 - دار القلم) و"برهان قاطع" (3/ 1606، 1607). وقول المصنف: "الحداد" قد يكون سهوًا، فإن الكوذين آلة القصار كما سبق. وقد ذكر دوزي في "التكملة" (9/ 49، 51) من معانيه: المعصرة والمكبس أيضًا.
الحدّاد أو بمَرازبِ
(1)
الحديد العظام، حتَّى خلط دماغَه بلحمه وعظمه= أنَّ هذا خطأٌ شبهُ عَمْد لا يوجب قوَدًا.
وأن
(2)
يُفهَمَ من قوله صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن يكن له مَخرج فخلُّوا سبيله، فإنَّ الإمام أن يخطئ في العفو خيرٌ له من أن يخطئ في العقوبة"
(3)
أنَّ مَن عقد على أمِّه أو ابنته أو أخته ووطئها فلا حدَّ عليه، وأن هذا مفهوم من قوله:"ادرؤوا الحدود بالشبهات"
(4)
، فهذا في
(1)
جمع المِرزبَة، وهي المطرقة الكبيرة التي تكون للحداد. انظر:"تاج العروس"(2/ 495).
(2)
هنا أيضًا في النسخ المطبوعة: "وأين".
(3)
رواه الترمذي (1424) من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا وموقوفا، وضعّف المرفوع، ورجّح عليه الموقوف، على أن مداره (مرفوعا وموقوفا) على يزيد بن زياد الدمشقي، وهو واهٍ متروك، وقد رواه عن الزهري، عن عروة، عن عائشة! ولا ريب في بطلانه بهذا السند! أما الحاكم، فقد صححه (4/ 384 - 385)، وكأنّ مردّ ذلك إلى أن ابن زياد نُسِبَ عنده أشجعيًّا، وهذا غلطٌ من أحد الرواة، والأشجعيُّ كوفيٌّ لا يروي عن الزهريِّ البتّة. ويُنظر:"السنن الكبير" للبيهقي (8/ 238)، و"البدر المنير" لابن النحوي (8/ 612 - 613)، و"التلخيص الحبير" لابن حجر (4/ 104 - 105).
(4)
رواه الحافظ ابن عدي في جزء خرّجه من "حديث أهل مصر والجزيرة" من طريق ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعا، وهو ضعيف منكر جدّا. ووازِن بـ "موافقةِ الخُبْرِ الخَبَرَ" لابن حجر (1/ 444، 447). ورواه عبد الله بن محمد الحارثي في "مسند أبي حنيفة"(127) من طريق أخرى غريبة جدًّا من حديث أبي حنيفة، عن مقسم، عن ابن عباس مرفوعا، وهي رواية منكرة لا تصح .. ورواه أبو سعد عبد الكريم السمعاني في "الذيل على تاريخ مدينة السلام" ــ كما في "المقاصد الحسنة" للسخاوي (46) ــ، وابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق"(68/ 189 - 191)، وأبو محمد الرشاطي في "اقتباس الأنوار" ــ ومن طريقه ابن الأبار في "معجم أصحاب أبي علي الصدفي"(ص 219 - 222) ــ من رواية محمد بن علي الشامي، عن أبي عمران الجوني، عن عمر بن عبد العزيز مرسلا. وفي متنه نكارة، وفي سنده ضعف وجهالة.
معنى الشبهة التي تُدرأ بها الحدود، وهي الشبهة في المحلّ
(1)
، أو في الفاعل، أو في الاعتقاد، ولو عُرض هذا على فَهمِ مَن فُرِض من العالمين لم يفهمه من هذا اللفظ بوجه من الوجوه. وأنَّ من يطأ خالته وعمَّته
(2)
بملك اليمين فلا حدَّ عليه مع علمِه [145/أ] بأنها خالته وعمته، وتحريمِ الله لذلك، ويُفهَم هذا من "ادرؤوا الحدود بالشبهات"! وأضعاف أضعاف هذا
(3)
مما لا يكاد ينحصر.
فهذا التمثيل والتشبيه
(4)
هو الذي ننكره، وننكر أن يكون في كلام الله ورسوله دلالةٌ على فهمه بوجهٍ ما.
(1)
ح، ف:"محلّ".
(2)
في النسخ المطبوعة: "أو عمَّته" هنا وفيما يأتي. وقد غيَّر بعضهم في ع في هذا الموضع واو العطف إلى "أو".
(3)
ت: "أضعافه". ع: "وأضعاف هذا" بإسقاط "أضعاف" الأولى.
(4)
ت: "التنبيه والتمثيل".
قالوا: ومن أين يفهم من قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} [النحل: 66]، ومن قوله:{فَاعْتَبِرُوا} ، تحريمُ بيعِ الكَشْك
(1)
باللبن، وبيعِ الخَلِّ بالعنب، ونحو ذلك؟
قالوا: وقد قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، ولم يقل "إلى قياساتكم وآرائكم" ولم يجعل الله آراء الرجال وأقيستها حاكمةً بين الأمة أبدًا.
وقالوا: وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. فإنما منعهم من الخِيَرة عند حكمه وحكم رسوله، لا عند آراء الرجال وأقيستهم وظنونهم. وقد أمر سبحانه رسوله باتباع ما أوحاه إليه خاصةً، وقال:{إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50]، وقال:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49].
وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ
(1)
في "المغرب"(1/ 409): "مدقوق الحنطة والشعير". وفي "المطلع"(1/ 473): "هذا المعروف الذي يعمل من القمح واللبن". وفي "المصباح المنير"(2/ 534): "ما يعمل من الحنطة وربما عمل من الشعير". قال الزبيدي في "التاج"(27/ 314): "قولهم: إنه يعمل من الحنطة، أي: واللبنِ، وينشَّف، ويرفَع. يطبخونه مع اللحم". وانظر: "المجموع شرح المهذب"(11/ 178). وقد يطلق على ماء الشعير أيضًا كما في "المحكم"(6/ 398) وغيره. وفي "شمس العلوم"(9/ 5840): "ماء الشعير يطبخ بخلٍّ أو لبن". وانظر: "تكملة دوزي"(9/ 98 - 99). والكلمة فارسيَّة. انظر: "برهانِ قاطع"(3/ 1651).
اللَّهُ} [الشورى: 21]. قالوا: فدلَّ هذا النصُّ على أنَّ ما لم يأذن به الله من الدين فهو شرعُ غيرِه الباطل.
قالوا: وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ربِّه تبارك وتعالى أنَّ كلَّ ما سكت عن إيجابه أو تحريمه فهو عفوٌ عفا عنه لعباده
(1)
،
مباحٌ
(2)
إباحةَ العفو. فلا يجوز تحريمه ولا إيجابه قياسًا على ما أوجبه أو حرَّمه بجامع بينهما، فإنَّ ذلك يستلزم رفعَ هذا القسم بالكلِّية وإلغاءه؛ إذ المسكوتُ عنه لا بدَّ أن يكون بينه وبين المحرَّم شبه [145/ب] ووصف جامع
(3)
، أو بينه وبين الواجب، فلو جاز إلحاقه به لم يكن هناك قسمٌ قد عُفِي عنه، ولم يكن ما سكَت عنه قد عفا عنه، بل يكون ما سكَت عنه قد حرَّمه قياسًا على ما حرَّمه. وهذا لا سبيل إلى دفعه، وحينئذ فيكون تحريمُ ما سكَت عنه تبديلًا لحكمه، وقد ذمَّ تعالى مَن بدَّل غيرَ القول الذي أُمِر به، فمن بدَّل غيرَ الحكم الذي
(1)
رواه الترمذي (1726)، وابن ماجه (3367) من حديث سلمان رضي الله عنه مرفوعا، واستغربه الترمذي ورجّح وقفه، ونقل ذلك عن الإمام البخاري رحمهما الله.
أما الحاكم، فصححه (4/ 115). وله شاهد من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعا، رواه البزار في "المسند"(4087)، وقال:"إسنادُه صالحٌ". وصححه الحاكم (2/ 375)، وسنده ضعيف منقطع. ويُنظر:"العلل الكبير" للترمذي (513)، و"سؤالات البرذعيِّ أبا زرعةَ الرازيَّ"(302)، و"العلل ومعرفة الرجال" لعبد الله ابن الإمام أحمد (3948)، و"الضعفاء" للعقيلي (3/ 31 - 33)، و"العلل" لابن أبي حاتم (1503)، و"السنن الكبير" للبيهقي (10/ 12)، و"جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 151 - 152).
(2)
في النسخ المطبوعة: "يباح".
(3)
في جميع النسخ الخطية: "شبهًا ووصفًا جامعًا"، وهو خطأ.
شُرِع له فهو أولى بالذم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ من أعظم المسلمين في المسلمين جُرمًا من سأل عن شيء لم يحرَّم، فحُرِّم على الناس من أجل مسألته"
(1)
. فإذا كان هذا فيمن تسبَّب إلى تحريم الشارع صريحًا بمسألته عن حُكمِ ما سكتَ عنه، فكيف بمن حرَّم المسكوتَ عنه بقياسه ورأيه
(2)
؟
يوضِّحه: أن المسكوت عنه لما كان عفوًا عفا الله لعباده عنه، وكان البحث عنه سببًا لتحريم الله إياه لما فيه من مقتضى التحريم، لا لمجرَّدِ السؤال عن حكمه، وكان الله قد عفا عن ذلك وسامَح به عبادَه كما يعفو عما فيه مفسدةٌ من أعمالهم وأقوالهم= فمن المعلوم أنَّ سكوته عن ذكرِ لفظٍ عامٍّ يحرِّمه يدل على أنه عفوٌ عنده
(3)
، فمن حرَّمه بسؤاله عن علة التحريم وقياسه على المحرَّم بالنصِّ كان أدخلَ في الذمِّ ممن سأل
(4)
عن حكمه لحاجته إليه، فحُرِّم من أجل مسألته. بل كان الواجب عليه أن لا يبحث عنه، ولا يسأل عن حكمه، اكتفاءً بسكوت الله عن عفوه عنه؛ فهكذا الواجبُ
(5)
أن لا يحرَّم المسكوتُ عنه بغير النصِّ [146/أ] الذي حرَّم
(6)
أصلَه الذي يُلحَق به.
(1)
أخرجه البخاري (7289) ومسلم (2358) من حديث سعد بن أبي وقاص. وفيهما: "أعظم المسلمين" دون "من".
(2)
ع: "وبرأيه"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
في النسخ المطبوعة: "عنه".
(4)
في النسخ المطبوعة: "سأله".
(5)
في النسخ المطبوعة بعده زيادة "عليه".
(6)
ع: "حرَّم الله" بزيادة لفظ الجلالة، وكذا في النسخ المطبوعة.
قالوا
(1)
: وقد دلَّ على هذا كتابُ الله حيث يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة: 101 - 102]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "ذروني ما تركتُكم، فإنما هلك الذين مِن قبلكم بكثرة سؤالهم
(2)
، واختلافهم على أنبيائهم. فإذا نهيتُكم عن شيءٍ فاجتنبوه، وإذا أمرتُكم بشيء فَأْتُوا منه ما استطعتم"
(3)
. فأمَرهم أن يتركوه من السؤال ما تركهم. ولا فرق في هذا بين حياته وبعد مماته، فنحن مأمورون أن نتركه صلى الله عليه وسلم وما نصَّ عليه، فلا نقول له: لِمَ حرَّمتَ كذا؟ لِنُلحِق به ما سكتَ عنه. بل هذا أبلغ في المعصية من أن نسأله عن حكمِ شيءٍ لم يحكُم فيه، فتأمَّلْه فإنه واضح.
ويدل عليه قوله في نفس
(4)
الحديث: "وإذا نهيتُكم عن شيء فاجتَنِبوه، وإذا أمرتُكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". فجعل الأمور ثلاثة، لا رابع لها: مأمورٌ به، فالفرضُ عليهم فعلُه بحسب الاستطاعة. ومنهيٌّ عنه، ففرْضٌ
(5)
عليهم اجتنابُه بالكلِّيَة. ومسكوتٌ عنه، فلا تتعرَّضوا
(6)
للسؤال والتفتيش عنه.
(1)
قارن بكتاب "الإحكام"(8/ 14 - 16).
(2)
ع: "مسائلهم"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
لفظ "نفس" ساقط من ت.
(5)
كذا مضبوطًا في س. وهو ساقط من ح، ف. وفي ع:"فالفرض"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(6)
في النسخ المطبوعة: "يتعرض".
وهذا حكم لا يختصُّ بحياته فقط، ولا يخُصُّ الصحابةَ دون من بعدهم، بل فرَضَ علينا نحن امتثالَ أمره بحسب الاستطاعة، واجتنابَ نهيه، وتركَ البحث والتفتيش عما سكت عنه. وليس ذلك الترك جهلًا وتجهيلًا لحكمه، بل إثباتٌ لحكم العفو [146/ب] وهو الإباحة العامة ورفعُ الحرج عن فاعله. فقد استوعب الحديث أقسامَ الدين كلَّها، فإنها إما واجب، وإما حرام، وإما مباح. والمكروه والمستحب فرعان على هذه الثلاثة غيرُ خارجين عن المباح.
وقد قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18 - 19]، فوكل بيانه إليه سبحانه، لا إلى القيَّاسين
(1)
والآرائيين
(2)
.
وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]، فقسم الحكم إلى قسمين: قسم أذن فيه وهو الحق، وقسم افتُرِي عليه وهو ما لم يأذن فيه. فأين أذِن
(3)
لنا أن نقيس البَلُّوطَ على التَّمر في جرَيان الربا فيه، وأن نقيس القَزْديرَ
(4)
على الذهب والفضة، والخَردلَ على البُرِّ؟ فإن كان الله ورسوله وصَّانا بهذا فسمعًا وطاعةً لله ورسوله، وإلا فإنَّا قائلون لمنازعينا:{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} [الأنعام: 144]، فما لم تأتنا به
(1)
في النسخ المطبوعة: "القياسيين"، والصواب ما أثبت من النسخ الخطية.
(2)
ع: "القياس والآراء"، وذكر ناسخها في طرتها أن في الأصل:"القياسين".
(3)
ف: "أذن الله"، وزاد بعضهم لفظ الجلالة في طرّة ح أيضًا.
(4)
ع: "القديد"، تصحيف. والقزدير هو القصدير. وهو معرَّب من اليونَانية. انظر:"تكملة دوزي"(8/ 290). و"القول الأصيل" للدكتور ف. عبد الرحيم (ص 182).
وصية من عند الله على لسان رسوله فهو عين الباطل. وقد أمرنا الله بردِّ ما تنازعنا فيه إليه وإلى رسوله، فلم يُبِحْ لنا قطُّ أن نردَّ ذلك إلى رأي ولا قياس ولا تقليد إمام، ولا منام ولا كشوف ولا إلهام ولا حديث قلب، ولا استحسان ولا معقول، ولا شريعة الديوان ولا سياسة الملوك، ولا عوائد الناس التي ليس على شرائع المسلمين أضرُّ منها. فكلُّ هذه طواغيت، مَن يتحاكَمْ
(1)
إليها أو دعا مُنازِعَه إلى التحاكم إليها فقد حاكم إلى الطاغوت.
وقال تعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [147/أ] إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74]. قالوا
(2)
: ومن تأمَّلَ هذه الآية حقَّ التأمُّل تبيَّن له أنها نصٌّ على إبطال القياس وتحريمه، لأن القياس كلَّه ضربُ الأمثال للدين، وتمثيلُ ما لا نصَّ فيه بما فيه نصٌّ؛ ومن مثَّل ما لم ينصَّ الله سبحانه على تحريمه أو إيجابه بما حرَّمه أو أوجبه فقد ضرب لله الأمثال. ولو علِم سبحانه أن الذي سكت عنه مثلُ الذي نصَّ عليه لأعلَمَنا به، ولما أغفله سبحانه، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]، وليبيِّن لنا ما نتَّقي كما أخبر عن نفسه بذلك إذ يقول سبحانه:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] ولَمَا وَكَله إلى آرائنا ومقاييسنا التي ينقض بعضُها بعضًا، فهذا يقيس ما يذهب إليه على ما يزعم أنه نظيره، فيجيء منازِعُه فيقيس ضدَّ قياسه من كلِّ وجه، ويبدي من الوصف الجامع مثلَ ما أبداه منازعُه
(3)
أو أظهر منه، ومحال
(1)
في النسخ المطبوعة: "تحاكم".
(2)
قارِن بكتاب "الإحكام"(8/ 20).
(3)
ع: "منازعوه"، وكذا في النسخ المطبوعة.
أن يكون القياسان معًا من عند الله، وليس أحدهما أولى من الآخر، فليسا من عنده، وهذا وحده كافٍ في إبطال القياس.
وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، وقال:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. فكلُّ ما بيَّنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فعن ربِّه سبحانه بيَّنه بإذنه وأمره
(1)
. وقد علمنا يقينًا وقوعَ كلِّ اسمٍ في اللغة على مسمَّاه فيها، وأنَّ اسم البُرِّ لا يتناول الخَردل، واسم التمر لا يتناول البَلُّوط، واسم الذهب والفضة لا يتناول القَزْدير
(2)
؛ وأنَّ تقديرَ نصاب السرقة لا يدخل فيه تقديرُ المَهْر، [147/ب] وأنَّ تحريمَ أكل الميتة لا يدل على أن المؤمن الطيِّب عند الله حيًّا وميِّتًا إذا مات صار نجسًا خبيثًا؛ وأنَّ هذا عن البيان الذي ولَّاه الله رسوله وبعَثَه به أبعدُ شيءٍ، وأشدُّه منافاةً له، فليس هو مما بُعِث به الرسولُ قطعًا، فليس إذن من الدين.
وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "ما بعَث الله من نبيٍّ إلا كان حقًّا عليه أن يدلَّ أمته على خير ما يعلَمه لهم، وينهاهم عن شرِّ ما يعلَمه لهم"
(3)
، ولو كان الرأي والقياس خيرًا لهم لدلَّهم عليه، وأرشدهم إليه، ولقال لهم: إذا أوجبتُ عليكم شيئًا أو حرَّمتُه فقيسوا عليه ما كان بينه وبينه وصف جامع أو ما أشبهه، أو قال ما يدل على ذلك أو يستلزمه، ولما حذَّرهم من ذلك أشدَّ الحذر كما ستقف عليه إن شاء الله.
وقد أحكم اللسان كلَّ اسمٍ على مسمَّاه، لا على غيره. وإنما بعث الله
(1)
ع: "بأمره وإذنه"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
ما عدا س، ت:"القديد"، تحريف.
(3)
أخرجه مسلم (1844) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
سبحانه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالعربية التي يفهمها العرب من لسانها، فإذا نصَّ سبحانه في كتابه أو نصَّ رسولُه على اسم من الأسماء وعلَّق عليه حكمًا من الأحكام وجب أن لا يوقَع ذلك الحكمُ إلا على ما اقتضاه ذلك الاسم، ولا يتعدَّى به الوضع الذي وضعه الله ورسوله فيه، ولا يخرج عن ذلك الحكم شيء مما يقتضيه الاسم. فالزيادة على ذلك زيادة في الدين، والنقص منه نقص من الدين. فالأول القياس، والثاني التخصيص الباطل، وكلاهما ليس من الدين
(1)
. ومن لم يقف مع النصوص فإنه تارة يزيد في النص
(2)
ما ليس منه، ويقول: هذا قياس. ومرةً ينقص منه بعضَ ما يقتضيه، ويُخرجه عن حكمه، ويقول: هذا تخصيص. ومرة يترك النصَّ جملةً، ويقول:[148/أ] ليس العمل عليه، أو يقول: هذا خلاف القياس، أو خلاف الأصول
(3)
.
قالوا: ولو كان القياس من الدين لكان أهله أتبعَ الناس للأحاديث، وكان كلَّما توغَّل فيه الرجل كان أشدَّ اتباعًا للأحاديث والآثار.
قالوا: ونحن نرى أن كلما اشتدَّ توغُّلُ الرجل فيه اشتدت مخالفته للسنن، ولا نرى خلاف السنن والآثار إلا عند أصحاب الرأي والقياس. فللّه كم من سنّةٍ صحيحة صريحة قد عُطِّلت به! وكم من أثرٍ درَسَ حكمُه بسببه! فالسننُ والآثارُ عند الآرائيين القيَّاسين
(4)
خاويةٌ على عروشها، معطلةٌ
(1)
ت: "في الدين"، وكذا في النسخ المطبوعة. والجملة "والنقص
…
الدين" ساقطة من ع.
(2)
ح، ف:"بالنص".
(3)
قارن هذه الفقرة في الاستدلال بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ} الآية، بكتاب "الإحكام"(8/ 20 - 21).
(4)
ع: "القياسة"، فإن صح فهو كالخيّالة. وفي ت:"والقياسين". وفي النسخ المطبوعة: "والقياسيين".
أحكامها، معزولةٌ عن سلطانها وولايتها. لها الاسم، ولغيرها الحكم! لها السِّكّة والخطبة، ولغيرها الأمر والنهي! وإلا فلماذا تُرك حديثُ العَرايا
(1)
، وحديثُ قسم الابتداء وأن للزوجة حقَّ العقد سبع ليال إن كانت بكرًا، أو ثلاثًا إن كانت ثيبًّا، ثم يقسم بالسويّة
(2)
؛ وحديثُ تغريب الزاني غير المحصَن
(3)
، وحديث الاشتراط في الحج وجواز التحلل بالشرط
(4)
، وحديث المسح على الجوربين
(5)
، وحديث عمران بن حصين
(6)
وأبي هريرة
(7)
في أن كلام الناسي والجاهل لا يبطل الصلاة، وحديث دفع اللُّقَطة إلى من جاء فوصف وعاءها ووكاءها وعِفاصها
(8)
،
وحديث المصرَّاة
(9)
، وحديث القرعة بين العَبيد إذا أُعتقوا في المرض ولم يحملهم الثلث
(10)
، وحديث
(1)
سبق تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري (5213) ومسلم (1461) من حديث أنس.
(3)
أخرجه مسلم (1690) من حديث عبادة بن الصامت.
(4)
أخرجه البخاري (5089) ومسلم (1207) من حديث عائشة.
(5)
رواه أحمد (18206)، وأبو داود (159)، والترمذي (99) ــ وصحّحه ــ، وابن ماجه (559)، والنسائي في "السنن الكبرى"(129) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه مرفوعا. وصحّحه أيضًا ابن خزيمة (198)، وابن حبان (5835). وأعلّه أكثر النقاد السابقين، فليُنظر:"السنن الكبير" للبيهقي (1/ 284)، و"معرفة السنن والآثار" له (1/ 349)، و"تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 342 - 346).
(6)
أخرجه مسلم (574).
(7)
أخرجه البخاري (482) ومسلم (573).
(8)
أخرجه البخاري (91) ومسلم (1722) من حديث زيد بن خالد الجهني ..
(9)
أخرجه البخاري (2148) ومسلم (1524) من حديث أبي هريرة.
(10)
أخرجه مسلم (1668) عن عمران بن حصين رضي الله عنه.
خيار المجلس
(1)
، وحديث إتمام الصَّوم لمن أكل ناسيًا
(2)
، وحديث إتمام الصبح
(3)
لمن طلعت عليه الشمس وقد صلَّى منها ركعة، وحديث الصوم عن الميِّت
(4)
، وحديث الحج عن المريض المأيوس من برئه
(5)
، وحديث الحكم بالقافة
(6)
، وحديث من وَجد متاعَه عند رجلٍ قد أفلس
(7)
، وحديث النهي عن بيع الرطب بالتمر
(8)
، وحديث بيع المدبَّر
(9)
، [148/ب] وحديث القضاء بالشاهد مع اليمين
(10)
، وحديث الولد للفراش إذا كان من أمة
(11)
وهو سبب الحديث، وحديث تخيير الغلام بين أبويه إذا افترقا
(12)
،
(1)
أخرجه البخاري (2107) ومسلم (1531) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه البخاري (1933) ومسلم (1155) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
يعني: صلاة الفجر. وفي النسخ المطبوعة: "صلاة الصبح". وهو من حديث أبي هريرة، أخرجه البخاري (579) ومسلم (608).
(4)
أخرجه البخاري (1952) ومسلم (1147) عن عائشة رضي الله عنها.
(5)
أخرجه البخاري (1513) ومسلم (1334) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(6)
أخرجه البخاري (3555) ومسلم (1459) عن عائشة رضي الله عنها.
(7)
أخرجه البخاري (2402) ومسلم (1559) عن أبي هريرة رضي الله عنه
(8)
سبق تخريجه.
(9)
أخرجه البخاري (2141) ومسلم (997) عن جابر.
(10)
سبق تخريجه.
(11)
سبق تخريجه.
(12)
رواه أحمد (7352، 9771)، وأبو داود (2277)، والترمذي (1357) ــ وصحّحه ــ، وابن ماجه (2351)، والنسائي (3496)، في "السنن الكبرى"(5660) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
مرفوعا .. وصحّحه أيضًا ابن حبان [كما في "موارد الظمآن" للهيثمي (1200)، و"إتحاف الخيرة المهرة" للبوصيري (5/ 411)، و"إتحاف المهرة" لابن حجر (16/ 273)]، والحاكم (4/ 97)، وابن القطان في "بيان الوهم والإيهام"(5/ 207 - 209).
وحديث قطع السارق في ربع دينار
(1)
، وحديث رجم الكتابيين في الزِّنى
(2)
، وحديث مَن تزوَّج امرأة أبيه أُمِر بضرب عنقه وأخذِ ماله
(3)
، وحديث "لا يقتل مؤمن بكافر"
(4)
، وحديث "لعن الله المحلِّلَ والمحلَّلَ له"
(5)
، وحديث "لا نكاح إلا بولي"
(6)
، وحديث المطلَّقة ثلاثًا لا سكنى لها
(1)
أخرجه البخاري (6789) ومسلم (1684) عن عائشة رضي الله عنها.
(2)
أخرجه البخاري (1329) ومسلم (1699) عن ابن عمر.
(3)
رواه أحمد (18557)، وأبو داود (4457)، والترمذي (1362) ــ وحسّنه ــ، وابن ماجه (2607)، والنسائي (3332)، في "السنن الكبرى"(5465) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه مرفوعا. وصحّحه ابن حبان (2450)، والحاكم (2/ 191). ويُنظر:"العلل الكبير" للترمذي (372)، و"العلل" لابن أبي حاتم (1207، 1277)، و"العلل" للدارقطني (6/ 20 - 22، 12/ 127)، و"تحفة الأشراف" للمزي (11/ 127).
(4)
أخرجه البخاري (111) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(5)
رواه أحمد (4283، 4284، 4308، 4403)، والترمذي (1120) ــ وصحَّحه ــ، والنسائي (3416) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا. وللحديث شواهد كثيرة، ويُنظر:"تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (4/ 363 - 364).
(6)
رواه أحمد (19518، 19710، 19746)، وأبو داود (2085)، والترمذي (1101)، وابن ماجه (1881) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعًا. وصحّحه جماعة من الحفاظ؛ منهم: علي ابن المديني، والبخاري، والترمذي، والبزّار (8/ 115)، وابن حبّان (3983، 3984، 4074)، والحاكم (2/ 170، 172). وللحديث شواهد كثيرة، ويُنظر:"إرواء الغليل" للألباني (6/ 235 - 243).
ولا نفقة
(1)
، وحديث "أعتقَ صفيةَ وجعل عِتقَها صَداقَها"
(2)
وحديث "أصْدِقْها ولو خاتمًا من حديد"
(3)
، وحديث إباحة لحوم الخيل
(4)
، وحديث "كلُّ مسكِر حرام"
(5)
، وحديث "ليس فيما دون خمسة أوسُقٍ صدقة"
(6)
، وحديث المزارعة والمساقاة
(7)
، وحديث "ذكاة الجنين ذكاة أمه"
(8)
، وحديث الرهن مركوب ومحلوب
(9)
،
وحديث النهي عن تخليل
(1)
أخرجه مسلم (1480) من حديث فاطمة بنت قيس.
(2)
أخرجه البخاري (5086) ومسلم (1365) عن أنس رضي الله عنه ..
(3)
أخرجه البخاري (5029) ومسلم (1425) عن سهل بن سعد رضي الله عنه.
(4)
أخرجه البخاري (4219) ومسلم (1941) من حديث جابر رضي الله عنه.
(5)
أخرجه البخاري (5575) ومسلم (2003) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(6)
أخرجه البخاري (1405) ومسلم (979) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(7)
أخرجه البخاري (2285) ومسلم (1551) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(8)
رواه أحمد (11260، 11343، 11414، 11495)، وأبو داود (2827)، والترمذي (1476) ــ وحسّنه ــ، وابن ماجه (3199) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
مرفوعا. وصحّحه ابن حبان (4102). وله شواهد، منها حديث جابر رضي الله عنه
مرفوعا، رواه أبو داود (2828)، وصحّحه الحاكم (4/ 114). ويُنظر:"سؤالات أبي عبيد الآجريِّ أبا داود"(7)، و"التلخيص الحبير" لابن حجر (4/ 288 - 289).
(9)
رواه البزار في "المسند"(9223)، والقطيعي في "جزء الألف دينار"(283)، وابن المقرئ في "المعجم"(141)، والدارقطني (2930)، والحاكم (2/ 58) ــ وصححه على شرط الشيخين! ــ والبيهقي (6/ 38) من حديث أبي هريرة مرفوعا.
والمحفوظ أنه موقوف، ويُنظر:"المصنف" لعبد الرزاق (15066)، و"العلل" لابن أبي حاتم (1113)، و"الكامل" لابن عدي (1/ 441 - 442، 3/ 208 - 209، 8/ 289، 9/ 160 - 161)، و"العلل" للدارقطني (10/ 112 - 114).
الخمر
(1)
، وحديث قسمة الغنيمة للراجل سهم وللفارس ثلاثة
(2)
، وحديث "لا تحرِّم المَصَّة والمصتان"
(3)
، وأحاديث حرَم المدينة
(4)
، وحديث إشعار الهدي
(5)
، وحديث "إذا لم يجد المحرم الإزار فليلبس السراويل"
(6)
، وحديث منع الرجل من تفضيل بعض ولده على بعض وأنه جَور لا تجوز الشهادة عليه
(7)
، وحديث "أنت ومالُك لأبيك"
(8)
، وحديث القسامة
(9)
، وحديث الوضوء من لحوم الإبل
(10)
، وأحاديث المسح على العمامة
(11)
.
وحديث الأمر بإعادة الصلاة لمن صلَّى خلف الصف وحده
(12)
،
(1)
أخرجه مسلم (1983) عن أنس رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (4228) ومسلم (1762) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه مسلم (1450) عن عائشة رضي الله عنها.
(4)
منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري (1869) ومسلم (1372). ومنها حديث جابر رضي الله عنه، أخرجه مسلم (1362)، وحديث أبي سعيد رضي الله عنه، أخرجه مسلم أيضًا (1374).
(5)
أخرجه البخاري (1696) ومسلم (1321) عن عائشة.
(6)
أخرجه البخاري (1841) ومسلم (1178) عن ابن عباس. وأخرجه مسلم (1179) عن جابر.
(7)
أخرجه البخاري (2586) ومسلم (1623) عن النعمان بن بشير.
(8)
سبق تخريجه.
(9)
سبق تخريجه.
(10)
أخرجه مسلم (360) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه.
(11)
منها حديث عمرو بن أمية الضَمْري أخرجه البخاري (205)، وحديث المغيرة أخرجه مسلم (274) وحديث بلال رضي الله عنه أخرجه مسلم أيضًا (275).
(12)
رواه أحمد (18000، 18002 - 18005، 18007)، وأبو داود (682)، والترمذي (230، 231) ــ وحسّنه ــ، وابن ماجه (1004) من حديث وابصة بن معبد رضي الله عنه مرفوعا. وصحّحه ابن حبان (1048، 1049، 1050، 1051). وله شاهد من حديث علي بن شيبان رضي الله عنه مرفوعا، رواه أحمد (16297)، وابن ماجه (1003)، وصححه ابن خزيمة (1569)، وابن حبان (1052، 1053). ويُنظر: "العلل الكبير" للترمذي (95)، و"العلل" لابن أبي حاتم (271، 281)، و"تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (2/ 497 - 499)، و"فتح الباري" لابن رجب (7/ 127 - 131).
وحديث مَن دخل والإمام يخطُب يصلِّي تحيةَ المسجد
(1)
، وحديث الصلاة على الغائب
(2)
، وحديث الجهر بآمين في الصلاة
(3)
،
[149/أ] وحديث جواز رجوع الأب فيما وهبه لولده ولا يرجع غيره
(4)
، وحديث الكلب الأسود يقطع الصلاة
(5)
، وحديث الخروج إلى العيد من الغد إذا علِم بالعيد
(1)
أخرجه البخاري (930) ومسلم (875) من حديث جابر رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (1245) ومسلم (951) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
رواه أحمد (18842)، وأبو داود (932، 933)، والترمذي (248، 249) ــ وحسّنه ــ، وابن ماجه (855)، والنسائي (879) من حديث وائل بن حجر رضي الله عنه مرفوعا.
ويُنظر: "التمييز" لمسلم (36 - 38 - مختصره)، و"العلل الكبير" للترمذي (98)، و"تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (2/ 200 - 201)، و"التلخيص الحبير" لابن حجر (1/ 427 - 429).
(4)
رواه أحمد (2119، 2120، 4810، 5493)، وأبو داود (3539)، والترمذي (1299، 2132) ــ وصححه ــ، وابن ماجه (2377)، والنسائي (3690، 3703) من حديث ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا. وصحّحه ابن حبان (2703)، والحاكم (2/ 46 - 47)، واختاره الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (11/ 41 - 45). ويُنظر:"المجتبى" للنسائي (3689، 3692، 3704، 3705)، و"السنن الكبرى" له (6483 - 6500)، و"العلل" للدارقطني (12/ 441).
(5)
أخرجه مسلم عن أبي ذر (510) وأبي هريرة (511).
بعد الزوال
(1)
، وحديث نَضْحِ بول الغلام الذي لم يأكل الطعام
(2)
، وحديث الصلاة على القبر
(3)
، وحديث "مَن زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيءٌ، وله نفقته"
(4)
، وحديث بيع جابر بعيرَه واشتراط ظهره
(5)
،
(1)
رواه أحمد (20579، 20584)، وأبو داود (1157)، وابن ماجه (1653)، والنسائي (1557) من حديث أبي عمير بن أنس، عن عمومةٍ له من الصحابة رضي الله عنهم مرفوعا. وصححه الخطابي في "معالم السنن"(1/ 252)، وابن حزم في "المحلى"(5/ 92)، والبيهقي (3/ 316)، ثم حسنه فيه (4/ 249)، وسبقه إلى تحسينه الدارقطني في "السنن" (2203). وقال ابن المنذر في "الأوسط" (4/ 338):(الحديث) ثابتٌ، والقول به يجب.
ويُوازَنُ "المسند الصحيح" لابن حبان (1434) بـ "العلل الكبير" للترمذي (193)، و"المسند" للبزار (7164)، و"العلل" لابن أبي حاتم (683)، و"العلل" للدارقطني (12/ 134). ويُنظر:"بيان الوهم والإيهام" لابن القطان (2/ 597، 5/ 44 - 45)، و"المُحرَّر" لابن عبد الهادي (465)، و"التلخيص الحبير" لابن حجر (2/ 177).
(2)
أخرجه البخاري (223) ومسلم (287) عن أم قيس بنت محصن. وانظر حديث عائشة رضي الله عنها أيضًا في البخاري (222) ومسلم (286).
(3)
أخرجه البخاري (458) ومسلم (956) عن أبي هريرة. وأخرجاه عن ابن عباس أيضًا: البخاري (857) ومسلم (954).
(4)
رواه أحمد (15821، 17269)، وأبو داود (3403)، والترمذي (1366)، وابن ماجه (2466)، من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه مرفوعا. وحسنه البخاري والترمذي. ويُنظر:"العلل الكبير" للترمذي (377)، و"العلل" لابن أبي حاتم (1427)، و"الكامل" لابن عدي (5/ 29)، و"معالم السنن" للخطابي (3/ 96)، و"السنن الكبير" للبيهقي (6/ 136)، و"معرفة السنن والآثار" له (4/ 476 - 477)، و"المُحرَّر" لابن عبد الهادي (922).
(5)
أخرجه البخاري (2097) ومسلم (715) عن جابر رضي الله عنه.
وحديث النهي عن جلود السباع
(1)
، وحديث "لا يمنَعْ أحدُكم جارَه أن يغرز خشبةً في جداره"
(2)
، وحديث "إنَّ أحقَّ الشروط أن تُوفُوا به ما استحللتم به الفروج"
(3)
، وحديث "من باع عبدًا وله مال فماله للبائع"
(4)
، وحديث إذا أسلم وتحته أختان اختار أيتهما شاء
(5)
، وحديث الوتر على الراحلة
(6)
، وحديث
(1)
رواه أحمد (20706، 20712)، وأبو داود (4132)، والترمذي (1770)، والنسائي (4253) من حديث أسامة بن عمير رضي الله عنه مرفوعا. ورجّح الترمذي (1771) كونَه من مرسل أبي المليح بن أسامة. أما الحاكم، فصححه (1/ 144)، واختاره الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (4/ 183 - 185). ويُنظر:"العلل الكبير" للترمذي (534 - 536)، و"المسند للبزار"(2330 - 2333). وللحديث شواهد، منها ما رواه أبو داود (4131)، والنسائي (4255) من حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه مرفوعا به.
(2)
أخرجه البخاري (2463) ومسلم (1609) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (2721) ومسلم (1418) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.
(4)
رواه أحمد (4552) ــ وعنه أبو داود (3433) ــ، والنسائي في "السنن الكبرى"(4972) من حديث ابن عمر مرفوعا. وأصل الحديث في "الصحيح" للبخاري (2379)، و"الصحيح" لمسلم (1543) (80) بمعناه. ويُنظر:"الجامع" للترمذي (1244)، و"السنن الكبرى" للنسائي (2279، 4961 - 4975، 11693 - 11702)، و"العلل" للدارقطني (13/ 120 - 123).
(5)
رواه أحمد (18040، 18041)، وأبو داود (2243)، والترمذي (1129، 1130) ــ وحسّنه ــ، وابن ماجه (1951) من حديث فيروز الديلمي رضي الله عنه مرفوعا. وصحّحه ابن حبان (1099)، والبيهقي في "معرفة السنن والآثار" له (5/ 317).
ويُنظر: "التاريخ الكبير" للبخاري (3/ 248 - 249، 249، 4/ 333)، و"الضعفاء" للعقيلي (2/ 301 - 302)، و"بيان الوهم والإيهام" لابن القطان (3/ 494 - 495)، و"تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (4/ 357 - 358).
(6)
أخرجه البخاري (999) ومسلم (700) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
"كلُّ ذي ناب من السباع حرام"
(1)
، وحديث من السُّنَّة وضعُ اليمنى على اليسرى في الصلاة
(2)
، وحديث "لا تجزئ صلاةٌ لا يقيم الرجلُ فيها صلبَه من ركوعه وسجوده"
(3)
، وأحاديث رفع اليدين في الصلاة عند الركوع والرفع منه
(4)
، وأحاديث الاستفتاح
(5)
، وحديث "كان للنبي صلى الله عليه وسلم سكتتان في الصلاة"
(6)
،
(1)
أخرجه مسلم (1933) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (740) عن سهل بن سعد، ومسلم (401) من حديث وائل بن حجر.
(3)
رواه أحمد (17073)، وأبو داود (855)، والترمذي (265) ــ وصححه ــ، وابن ماجه (870)، والنسائي (1027، 1111) من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه مرفوعا. وصححه أيضًا ابن خزيمة (591، 592، 666)، وابن حبان (2719، 3661)، والدارقطني في "السنن"(1315)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 116)، والبيهقي (2/ 88)، وفي "معرفة السنن والآثار"(1/ 583 - 584)، والبغوي في "شرح السنة" (3/ 97 - 98). ويُنظر للفائدة:"العلل" للدارقطني (6/ 175 - 177). ورواه أيضًا أحمد (16297)، وابن ماجه (871) من حديث علي بن شيبان رضي الله عنه مرفوعا. وصححه ابن خزيمة (593، 667، 872)، وابن حبان (2669)، والبوصيري في "مصباح الزجاجة"(324).
(4)
منها حديث ابن عمر، أخرجه البخاري (735) ومسلم (390)، وحديث مالك بن الحويرث أخرجه البخاري (737) ومسلم (391). وانظر: جزء "رفع اليدين في الصلاة" للبخاري. وكتاب "رفع اليدين في الصلاة" للمصنف.
(5)
منها حديث أبي هريرة، أخرجه البخاري (744) ومسلم (598)، وحديث علي أخرجه مسلم (771).
(6)
رواه أحمد (20081، 20166، 20228، 20243، 20245)، وأبو داود (777 - 780)، والترمذي (251) ــ وحسنه ــ، وابن ماجه (844، 845) من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه مرفوعا. وصحّحه ابن حبان (6238)! وحسنه ابن حجر في "نتائج الأفكار"(2/ 24) .. ويُنظر: "بيان الوهم والإيهام" لابن القطان (4/ 153)، و"إرواء الغليل" للألباني (2/ 284 - 288)، و"سلسلة الأحاديث الضعيفة" له (547).
وحديث "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم"
(1)
.
وحديث حمل الصبيَّة في الصلاة
(2)
، وأحاديث القرعة
(3)
، وأحاديث العقيقة
(4)
، وحديث "لو أنَّ رجلًا اطَّلع عليك بغير إذنك"
(5)
، وحديث "أيَدَع
(1)
رواه أحمد (1006، 1072)، وأبو داود (61، 618)، والترمذي (3)، وابن ماجه (275) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعا. وقال الترمذي: "هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن
…
". وقال عقب الحديث (238): "وحديث علي
…
أجود إسنادًا وأصح
…
". وحسنه البغوي في "شرح السنة" (3/ 17)، واختاره الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة" (2/ 341 - 343).
(2)
أخرجه البخاري (516) ومسلم (543) عن أبي قتادة الأنصاري.
(3)
منها حديث القرعة بين العبيد. وقد سبق تخريجه آنفًا.
(4)
رواه أحمد (20083، 20133، 20139، 20188، 20193، 20194، 20256)، وأبو داود (2837، 2838)، والترمذي (1522) ــ وصححه ــ، وابن ماجه (3165)، والنسائي (4220) من حديث سمرة بن جندب- رضي الله عنه مرفوعا.
…
وله شواهد، منها: حديث سلمان بن عامر رضي الله عنه مرفوعا، رواه أحمد (16226، 16229، 16230، 16232، 16236، 16234، 16238 - 16241، 17871، 17873، 17875، 17877 - 17879، 17881، 17882، 17885، 17886)، وأبو داود (2839)، والترمذي (1515) ــ وصححه ــ، وابن ماجه (3164)، والنسائي في "المجتبى"(4214)، وفي "السنن الكبرى"(4525، 4526). وصححه أيضًا ابن خزيمة (2067). ويُتأمَّلُ في سياقِ البخاريِّ الحديثَ في "الصحيح"(5471).
(5)
أخرجه البخاري (6902) ومسلم (2158/ 44) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
يدَه في فيك تقضَمُها كما يقضَم الفحلُ"
(1)
، وحديث "إنَّ بلالًا يؤذِّن بليل"
(2)
، وحديث النهي عن صوم يوم الجمعة
(3)
، وحديث النهي عن الذبح بالسِّنِّ والظُّفْر
(4)
، وحديث صلاة الكسوف والاستسقاء
(5)
، وحديث النهي عن عَسْب الفحل
(6)
، وحديث المحرِم إذا مات لم يخمَّر رأسُه ولم يقرَبْ طِيبًا
(7)
، إلى أضعاف [149/ب] ذلك من الأحاديث التي كان تركُها من تَرِكة
(8)
القول بالقياس والرأي.
فلو كان القياس حقًّا لكان أهلُه أتبعَ الأمةِ للأحاديث ولا حُفِظ لهم تركُ حديث واحد إلا لنصٍّ ناسخ له. فحيث رأينا كلَّ مَن كان أشدَّ توغُّلًا في القياس والرأي كان أشدَّ مخالفةً للأحاديث الصحيحة الصريحة علِمنا أنَّ القياس ليس من الدين، وأنَّ شيئًا تُترك له السننُ لَأبينُ شيءٍ منافاةً للدين. فلو كان القياس من
(1)
أخرجه البخاري (2265) ومسلم (1674) عن يعلى بن أمية.
(2)
أخرجه البخاري (617) ومسلم (1092) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه البخاري (1985) ومسلم (1144) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
أخرجه البخاري (2488) ومسلم (1968) عن رافع بن خديج رضي الله عنه.
(5)
من أحاديث صلاة الكسوف التي أخرجها الشيخان: حديث ابن مسعود أخرجه البخاري (1041) ومسلم (911). ومن أحاديث صلاة الاستسقاء: حديث عبد الله بن زيد المازني، أخرجه البخاري (1005) ومسلم (894).
(6)
أي بيع ماء الذكر من الإبل وغيرها. وحديث النهي عنه أخرجه البخاري (2284) عن ابن عمر، ومسلم (1565) عن جابر رضي الله عنهم.
(7)
أخرجه البخاري (1267) ومسلم (1206) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(8)
س: "بركة"، وكأنه مغيَّر، وإن جاز تهكُّمًا. وفي ع:"ترك"، خطأ. وفي النسخ المطبوعة:"من أجل"، ولعله تغيير من بعض النسَّاخ أو الناشرين.
عند الله لطابق السنةَ أعظمَ مطابقة، ولم يخالف أصحابه حديثًا واحدًا منها، ولكانوا أسعدَ بها من أهل الحديث، فَلْيُرُوا أهلَ الحديث والأثر حديثًا واحدًا صحيحًا قد خالفوه، كما أريناهم آنفًا ما خالفوه من السنة بجريرة القياس!
قالوا: وقد أخذ الله الميثاق على أهل الكتاب وعلينا بعدهم أن لا نقول على الله إلا الحقَّ، فلو كانت هذه الأقيسة المتعارضة المتناقضة التي ينقض بعضُها بعضًا، بحيث لا يدري الناظر فيها أيُّها الصواب= حقًّا لكانت متفقةً يصدِّق بعضُها بعضًا كالسنَّة التي يصدِّق بعضُها بعضًا.
وقال تعالى: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [يونس: 82]. [فأخبر أنه سبحانه إنما يحقُّ الحقَّ بكلماته]
(1)
لا بآرائنا ولا مقاييسنا
(2)
. وقال: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4]، فما لم يقله سبحانه ولا هدى إليه فليس من الحق. وقال تعالى:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50]. فقسم الأمور إلى قسمين
(3)
لا ثالث لهما: اتباع لما دعا إليه الرسول، واتباع الهوى.
فصل
(4)
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يدعُ أمته إلى القياس قطُّ، بل قد صحَّ عنه أنه أنكر على عمر وأسامة محضَ القياس في شأن الحُلَّتين اللتين أرسل بهما إليهما،
(1)
ما بين الحاصرتين جاء في طرر النسخ ما عدا س، ع مع علامة "صح"، وجائز أن يكون قد سقط لانتقال النظر، وإن كانت العبارة مستقيمة دونها.
(2)
في النسخ المطبوعة: "ولامقايسينا" بتكرار "لا".
(3)
ع: "الأمور قسمين"، وكذا في المطبوع.
(4)
قارن هذا الفصل بكتاب "الإحكام" لابن حزم (8/ 22 - 26).
فلبِسها أسامة قياسًا لِلُّبس على التملُّك والانتفاع والبيع [150/أ] وكسوتها لغيره، وردَّها عمر قياسًا لتملُّكها على لُبسها. فأسامة أباح، وعمر حرَّم قياسًا. فأبطل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كلَّ واحد من القياسين، وقال لعمر:"إنما بعثتُ بها إليك لتستمتع بها"، وقال لأسامة: "إنِّي لم أبعث بها
(1)
إليك لتلبسَها، ولكن بعثتُ بها إليك لِتشقِّقَها خُمُرًا بين نسائك
(2)
"
(3)
. والنبي صلى الله عليه وسلم إنما تقدَّم إليهم في الحرير بالنصِّ على تحريم لُبسه فقط، فقاسا قياسًا أخطآ فيه، فأحدهما قاس اللُّبسَ على الملك، وعمر قاس التملُّكَ على اللُّبس. والنبيُّ صلى الله عليه وسلم بيَّن أن ما حرَّمه من اللبس لا يتعدَّى إلى غيره، وما أباحه من التملُّك لا يتعدَّى إلى اللبس. وهذا عين إبطال القياس
(4)
.
وصحَّ عنه
(5)
ما رواه أبو ثعلبة الخُشَني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض فرائض فلا تضيِّعوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدُوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً لكم غيرَ نسيانٍ فلا تبحثوا عنها". وهذا الخطاب كما يعُمُّ أولُه للصحابة ولمن بعدهم فهكذا آخرُه، فلا يجوز أن نبحث عما سكت عنه لنحرِّمه أو نوجبه
(6)
.
(1)
ع: "أبعثها"، وكذا في النسخ المطبوعة.
(2)
في النسخ المطبوعة: "لنسائك".
(3)
أخرجه البخاري (886) ومسلم (2068) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(4)
انظر: "الإحكام" لابن حزم (8/ 23 - 24).
(5)
تقدّم أنه لم يصح، وهو حديث منقطع مُعَلٌّ. وأخرجه ابن حزم في "الإحكام"(8/ 24 - 25) ولم يصحّحه.
(6)
في النسخ المطبوعة: "ليحرمه أو يوجبه"، وحرف المضارع مهمل في النسخ إلا س ففيها:"لتحريمه أو توجبه"، وهو تصحيف.
وقال عبد الله بن المبارك
(1)
: ثنا عيسى بن يونس، عن حَريز بن عثمان، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنةً على أمتي قومٌ يقيسون الأمور برأيهم، فيُحِلُّون الحرام، ويحرِّمون الحلال".
قال قاسم بن أصبغ
(2)
: ثنا محمد بن إسماعيل الترمذي، ثنا نعيم بن حماد، ثنا عبد الله، فذكره.
وهؤلاء كلُّهم أئمة ثقات حُفَّاظ إلا حَريز
(3)
بن عثمان فإنه كان منحرفًا عن علي، ومع هذا فاحتجَّ به البخاري في [150/ب]"صحيحه"، وقد روي عنه أنه تبرَّأ مما نُسب إليه من الانحراف عن علي
(4)
. ونُعَيم بن حماد إمام جليل، وكان سيفًا على الجهمية، روى عنه البخاري في "صحيحه"
(5)
.
وقد صحَّ عنه صحةً تقرب من التواتر أنه قال: "ذروني ما تركتُكم، فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم. ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتُكم به فأتُوا منه ما استطعتم"
(6)
، فتضمَّن هذا الحديث
(1)
الصواب أن الذي رواه عن عيسى بن يونس هو نعيم بن حماد، ولم يَرْوِه عنه ابن المبارك قط، وقد تقدم تخريجه.
(2)
رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(1997)، وابن حزم في "الإحكام"(8/ 25) من طريق قاسم بن أصبغ به.
(3)
تصحف في النسخ إلى "جرير".
(4)
انظر: "الإحكام"(8/ 25).
(5)
مقرونًا بغيره، كما قال الذهبي في "السير"(10/ 596).
(6)
تقدَّم تخريجه.
أنَّ ما أمَر به أمرَ إيجابٍ فهو واجب، وما نهى عنه فهو حرام، وما سكت عنه فعَفوٌ مباح
(1)
؛ فبطل ما سوى ذلك، والقياس خارج عن هذه الوجوه الثلاثة فيكون باطلًا. والمقيسُ مسكوتٌ عنه بلا ريب، فيكون عفوًا بلا ريب، فإلحاقُه بالمحرَّم تحريمٌ لما عفا الله عنه. وفي قوله:"ذروني ما تركتكم" بيان جلي أن ما لا نصَّ فيه فليس بحرام ولا واجب. ودل الحديث على أن أوامره على الوجوب حتى يجيء ما يرفع ذلك، أو يبيِّن أن مراده الندب، وأن ما لا نستطيعه فساقط
(2)
عنَّا.
وقد روى ابن المغلِّس، ثنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن، ثنا أبو قِلابة الرَّقَاشي، ثنا أبو الربيع الزهراني، ثنا سيف بن هارون البُرْجُمي، عن سليمان التَّيمي، عن أبي عثمان النَّهدي، عن سلمان رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء، فقال:"الحلال ما أحلَّ الله، والحرام ما حرَّم الله، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه". وهذا إسناد جيد مرفوع
(3)
.
* * *
(1)
ع: "فهو مباح". وفي النسخ المطبوعة: "فهو عفو مباح".
(2)
ت: "ساقط".
(3)
تقدّم تخريجُه، وأن البخاري والترمذي رجّحا وقفَه. وحكم بنكارته الإمام أحمد، وأعلّه أيضًا أبو حاتم الرازي وغيرُه.
هذا، وبعد قوله:"مرفوع" زيادة في النسخ المطبوعة: "والله المستعان، وعليه التكلان".