المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ أظهر الْأَقْوَال وَإِن كنت لَا أَقُول بِهِ وَلَا - أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات

[مرعي الكرمي]

الفصل: وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ أظهر الْأَقْوَال وَإِن كنت لَا أَقُول بِهِ وَلَا

وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ أظهر الْأَقْوَال وَإِن كنت لَا أَقُول بِهِ وَلَا أختاره مَا تظاهرت عَلَيْهِ الْآي وَالْأَخْبَار والفضلاء الأخيار أَن الله سُبْحَانَهُ على عَرْشه كَمَا أخبر فِي كِتَابه بِلَا كَيفَ بَائِن من جَمِيع خلقه هَذَا جملَة مَذْهَب السّلف الصَّالح انْتهى

وَالْعجب من الْقُرْطُبِيّ حَيْثُ يَقُول وَإِن كنت لَا أَقُول بِهِ وَلَا أختاره وَلَعَلَّه خشِي من تَحْرِيف الحسدة فَدفع وهمهم بذلك

وَبِهَذَا قَالَ جمَاعَة من الْحَنَابِلَة لَكِن قَالُوا اسْتَوَى على الْوَجْه الَّذِي يسْتَحقّهُ لذاته مِمَّا لَا يُشَارِكهُ فِيهِ الْمُحدث وَلَا يشابهه وَلَا يماثله وَلَا يدل على إِثْبَات كمية وَلَا صفة كَيْفيَّة بل على الْوَجْه الَّذِي يسْتَحقّهُ الله لنَفسِهِ

قَالُوا وَإِلَى هَذَا الْإِشَارَة فِي حَدِيث أم سَلمَة رضي الله عنها الإستواء مَعْلُوم والكيف مَجْهُول وَالْإِيمَان بِهِ وَاجِب وَالسُّؤَال عِنْد بِدعَة والبحث عَنهُ كفر وَرَضي الله تَعَالَى عَن مَالك بن أنس حَيْثُ قَالَ أوكلما جَاءَنَا رجل أجدل من رجل تركنَا مَا جَاءَ بِهِ جِبْرِيل إِلَى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم لجدل هَؤُلَاءِ وكل من هَؤُلَاءِ مخصوم بِمثل مَا خصم بِهِ الآخر فَلم يبْق إِلَّا الرُّجُوع لما قَالَه الله وَرَسُوله وَالتَّسْلِيم لَهما

‌تَنْبِيه

قَالَ الْكَمَال بن الْهمام الْحَنَفِيّ بعد أَن تكلم على

ص: 132

الإستواء مَا حَاصله وجوب الْإِيمَان بِأَنَّهُ اسْتَوَى على الْعَرْش مَعَ نفي التَّشْبِيه وَأما كَون الإستواء بِمَعْنى الإستيلاء على الْعَرْش مَعَ نفي التَّشْبِيه فَأمر جَائِز الْإِرَادَة إِذْ لَا دَلِيل على إِرَادَته عينا فَالْوَاجِب عينا مَا ذكرنَا لَكِن قَالَ إِذا خيف على الْعَامَّة عدم فهم الإستواء إِلَّا بالإتصال وَنَحْوه من لَوَازِم الجسمية فَلَا بَأْس بِصَرْف فهمهم إِلَى الإستيلاء

قَالَ وعَلى نَحْو مَا ذكر كل مَا ورد مِمَّا ظَاهره الجسمية فِي الشَّاهِد كالإصبع وَالْيَد والقدم فَإِن الإصبع وَالْيَد صفة لَهُ تَعَالَى لَا بِمَعْنى الْجَارِحَة بل على وَجه يَلِيق بِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ أعلم بِهِ

وَقد تؤول الْيَد والإصبع بِالْقُدْرَةِ والقهر وَقد يؤول الْيَمين فِي قَوْله الْحجر الْأسود يَمِين الله فِي الأَرْض على التشريف وَالْإِكْرَام لما ذكرنَا من صرف فهم الْعَامَّة عَن الجسمية

ص: 133

قَالَ وَهُوَ مُمكن أَن يُرَاد وَلَا يجْزم بإرادته على قَول أَصْحَابنَا أَنه من الْمُتَشَابه وَحكم الْمُتَشَابه انْقِطَاع معرفَة المُرَاد مِنْهُ فِي هَذِه الدَّار وَإِلَّا لَكَانَ قد علم انْتهى كَلَام ابْن الْهمام

بَاب

فِي ذكر الْوَجْه وَالْعين وَالْيَد وَالْيَمِين والأصابع والكف والأنامل وَالصُّورَة والساق وَالرجل والقدم وَالْجنب والحقو وَالنَّفس وَالروح وَنَحْو ذَلِك مِمَّا أضيف إِلَى الله تَعَالَى مِمَّا وَردت بِهِ الْآيَات وَالْأَحَادِيث مِمَّا يُوهم التَّشْبِيه والتجسيم تَعَالَى الله عَن ذَلِك علو كَبِيرا

اعْلَم أَن الله سُبْحَانَهُ مُخَالف لجَمِيع الْحَوَادِث ذَاته لَا تشبه الذوات وَصِفَاته لَا تشبه الصِّفَات لَا يُشبههُ شَيْء من خلقه وَلَا يشبه شَيْئا من الْحَوَادِث بل هُوَ مُنْفَرد عَن جَمِيع الْمَخْلُوقَات لَيْسَ كمثله شَيْء لَا فِي ذَاته وَلَا فِي صِفَاته وَلَا فِي أَفعاله لَهُ الْوُجُود الْمُطلق فَلَا يتَقَيَّد بِزَمَان وَلَا يتخصص بمَكَان والوحدة الْمُطلقَة لقِيَامه بِنَفسِهِ واستقلاله فِي جَمِيع افعاله وكل مَا توهمه قَلْبك أَو سنح فِي مجاري فكرك أَو خطر فِي بالك من حسن أَو بهاء أَو شرف أَو ضِيَاء أَو جمال أَو شبح مماثل أَو شخص متمثل فَالله تَعَالَى بِخِلَاف ذَلِك واقرأ {لَيْسَ كمثله شَيْء} أَلا ترى أَنه لما تجلى للجبل تدكدك لعَظيم هيبته فَكَمَا أَنه لَا يتجلى لشَيْء إِلَى اندك كَذَلِك لَا يتوهمه قلب إِلَّا هلك وَارْضَ لله بِمَا رضيه لنَفسِهِ وقف عِنْد خَبره لنَفسِهِ مُسلما مستسلما مُصدقا بِلَا

ص: 134

مباحثة التنقير وَلَا مقايسة التفكير وَله تَعَالَى صِفَات مُقَدَّسَة طَرِيق إِثْبَاتهَا السّمع فنثبتها وَلَا نعطلها لوُرُود النَّص بهَا وَلَا نكيفها وَلَا نمثلها

وَقد غلت طَائِفَة فِي النَّفْي فعطلته محتجين بِأَن الإشتراك فِي صفة من صِفَات الْإِثْبَات يُوجب الإشتباه فزعموا أَنه سُبْحَانَهُ لَا يُوصف بالوجود بل يُقَال إِنَّه لَيْسَ بمعدوم وَلَا يُوصف بِأَنَّهُ حَيّ وَلَا قَادر وَلَا عَالم بل يُقَال إِنَّه لَيْسَ بميت وَلَا عَاجز ولاجاهل وَهَذَا مَذْهَب أَكثر الفلاسفة والباطنية

وغلت طَائِفَة أُخْرَى فِي الْإِثْبَات فشبهته فأثبتت لَهُ الصُّورَة والجوارح حَتَّى إِن الهشامية من غلاة الرافضة زَعَمُوا كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيّ أَن معبودهم سَبْعَة أشبار بشبر نَفسه وَقَالَت الكرامية إِنَّه جسم

قَالَ وَقد بَالغ بعض أهل الإغواء فَقَالَ إِنَّه على صُورَة الْإِنْسَان ثمَّ اخْتلفُوا فَمنهمْ من قَالَ إِنَّه على صُورَة شيخ أشمط الرَّأْس واللحية وَمِنْهُم من قَالَ إِنَّه على صُورَة شَاب أَمْرَد جعد قطط وَمِنْهُم من قَالَ إِنَّه مركب من لحم وَدم وَمِنْهُم من قَالَ إِنَّه على قدر مَسَافَة الْعَرْش لَا يفضل من أَحدهمَا عَن الْأُخَر شَيْء

تَعَالَى الله عَن أَقْوَالهم علو كَبِيرا وَعَن مثله نهى الله تَعَالَى بقوله {يَا أهل الْكتاب لَا تغلوا فِي دينكُمْ وَلَا تَقولُوا على الله إِلَّا الْحق} النِّسَاء 171

ص: 135

وَقَالَ ابْن تَيْمِية وَأول من قَالَ إِن الله جسم هُوَ هِشَام بن الحكم الرافضي

وَفرْقَة أُخْرَى أَثْبَتَت مَا أثْبته السّمع من نَحْو سميع بَصِير عليم قدير وامتنعت من إِطْلَاق السّمع وَالْبَصَر وَالْعلم وَالْقُدْرَة وهم الْمُعْتَزلَة كَمَا تقدم

وَفرْقَة أُخْرَى أَثْبَتَت الصِّفَات المعنوية من نَحْو السّمع وَالْبَصَر وَالْعلم وَالْقُدْرَة وَالْكَلَام وَهُوَ مَذْهَب جُمْهُور أهل السّنة وَالْجَمَاعَة وَمِنْهُم أَتبَاع أَئِمَّة الْمذَاهب الْأَرْبَعَة

ثمَّ اخْتلفُوا فِيمَا ورد بِهِ السّمع من لفظ الْعين وَالْيَد وَالْوَجْه وَالنَّفس وَالروح

ففرقة أولتها على مَا يَلِيق بِجلَال الله تَعَالَى وهم جُمْهُور الْمُتَكَلِّمين من الْخلف فعدلوا بهَا عَن الظَّاهِر إِلَى مَا بحتمله التَّأْوِيل من الْمجَاز والإتساع خوف توهم التَّشْبِيه والتمثيل

وَفرْقَة أَثْبَتَت مَا أثْبته الله وَرَسُوله مِنْهَا وأجروها على ظواهرها وَنَفَوْا الْكَيْفِيَّة والتشبيه عَنْهَا قائلين إِن إِثْبَات البارئ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا هُوَ الْكَيْفِيَّة إِثْبَات وجود بِمَا ذكرنَا لَا إِثْبَات كَيْفيَّة فَكَذَلِك إِثْبَات صِفَاته إِنَّمَا هِيَ إِثْبَات وجود لَا إِثْبَات تَحْدِيد وتكييف فَإِذا قُلْنَا يَد وَوجه وَسمع وبصر فَإِنَّمَا هِيَ صِفَات أثبتها الله لنَفسِهِ فَلَا نقُول إِن معنى الْيَد الْقُوَّة وَالنعْمَة وَلَا معنى السّمع وَالْبَصَر الْعلم وَلَا نقُول إِنَّهَا جوارح

ص: 136

وَهَذَا الْمَذْهَب هُوَ الَّذِي نقل الْخطابِيّ وَغَيره أَنه مَذْهَب السّلف وَمِنْهُم الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَبِهَذَا الْمَذْهَب قَالَ الْحَنَفِيَّة والحنابلة وَكثير من الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم وَهُوَ إِجْرَاء آيَات الصِّفَات وأحاديثها على ظَاهرهَا مَعَ نفي الْكَيْفِيَّة والتشبيه عَنْهَا محتجين بِأَن الْكَلَام فِي الصِّفَات فرع عَن الْكَلَام فِي الذَّات فَإِذا كَانَ إِثْبَات الذَّات إِثْبَات وجود لَا إِثْبَات تكييف فَكَذَلِك إِثْبَات صِفَاته إِنَّمَا هِيَ إِثْبَات وجود لَا إِثْبَات تَحْدِيد وتكييف

وَقَالُوا إِنَّا لَا نلتفت فِي ذَلِك إِلَى تَأْوِيل لسنا مِنْهُ على ثِقَة ويقين لإحتمال أَن يكون المُرَاد غَيره لِأَن التَّأْوِيل إِنَّمَا هُوَ أَمر مَأْخُوذ بطرِيق الظَّن والتجويز لَا على سَبِيل الْقطع وَالتَّحْقِيق فَلَا يجوز أَن يبْنى الإعتقاد على أُمُور مظنونة ويعرض عَن مَا ثَبت بِالْقطعِ وَالنَّص وَهَذَا مَذْمُوم عِنْد السّلف

قَالَ القَاضِي أَبُو يعلى فِي كتاب إبِْطَال التَّأْوِيل لَا يجوز رد هَذِه الْأَخْبَار وَلَا التشاغل بتأويلها وَالْوَاجِب حملهَا على ظَاهرهَا وَأَنَّهَا صِفَات لله لَا تشبه صِفَات الْخلق وَلَا نعتقد التَّشْبِيه فِيهَا لَكِن على مَا رُوِيَ عَن الإِمَام أَحْمد وَسَائِر الْأَئِمَّة وَذكر بعض كَلَام الزُّهْرِيّ وَمَكْحُول وَمَالك وَالثَّوْري وَاللَّيْث وَحَمَّاد بن زيد وَحَمَّاد بن سَلمَة وَابْن عُيَيْنَة والفضيل بن عِيَاض ووكيع وعبد الرحمان بن مهْدي وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَأبي عبيد وَمُحَمّد بن جرير الطَّبَرِيّ وَغَيرهم فِي هَذَا الْبَاب وَفِي حِكَايَة ألفاظهم طول إِلَى أَن قَالَ وَيدل على إبِْطَال التَّأْوِيل أَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ حملوها على ظواهرها وَلم يتَعَرَّضُوا لتأويلها وَلَا صرفهَا عَن ظَاهرهَا فَلَو كَانَ التَّأْوِيل سائغا لكانوا إِلَيْهِ أسبق لما فِيهِ من

ص: 137

إِزَالَة التَّشْبِيه وَرفع الشُّبْهَة انْتهى

وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ قَالَ الإِمَام التِّرْمِذِيّ بعد ذكره حَدِيث مَا تصدق أحد بِصَدقَة إِلَّا أَخذهَا الرحمان بِيَمِينِهِ وَقد قَالَ غير وَاحِد من أهل الْعلم فِي هَذَا الحَدِيث وَمَا أشبه هَذَا من الرِّوَايَات من الصِّفَات ونزول الرب تبارك وتعالى كل لَيْلَة إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا نثبت الرِّوَايَات فِي هَذَا ونؤمن بهَا وَلَا نتوهم وَلَا يُقَال كَيفَ هَكَذَا رُوِيَ عَن مَالك بن أنس وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وعبد الله بن الْمُبَارك وَهَذَا وَقَول أهل الْعلم من أهل السّنة والجماة وَأما الْجَهْمِية فأنكرت هَذِه الرِّوَايَات وَقَالُوا هَذَا تَشْبِيه وَقد ذكر الله تَعَالَى فِي غير مَوضِع من كِتَابه الْيَد وَنَحْوهَا فتأولت الْجَهْمِية هَذِه الْآيَات وفسروها على غير مَا فسر أهل الْعلم فَقَالُوا إِن الله لم يخلق آدم بِيَدِهِ وَقَالُوا معنى الْيَد هَا هُنَا الْقُدْرَة

قَالَ الْخطابِيّ إِنَّهَا لَيست بجوارح وَلَا أَعْضَاء وَلَا أَجزَاء

ص: 138

وَلكنهَا صِفَات لَا كَيْفيَّة لَهَا وَلَا تتأول فَيُقَال معنى الْيَد النِّعْمَة أَو الْقُوَّة وَمعنى السّمع وَالْبَصَر الْعلم وَمعنى الْوَجْه الذَّات على مَا ذهب إِلَيْهِ نفات الصِّفَات

وَقَالَ ابْن عبد البر أهل السّنة مجمعون على الْإِقْرَار بِالصِّفَاتِ الْوَارِدَة كلهَا فِي الْقُرْآن وَالسّنة وَالْإِيمَان بهَا وَحملهَا على الْحَقِيقَة لَا الْمجَاز إِلَّا أَنهم لَا يكيفون شَيْئا من ذَلِك وَلَا يحدون فِيهِ صفة مَخْصُوصَة

وَأما أهل الْبدع الْجَهْمِية والمعتزلة كلهَا والخوارج فكلهم ينكرها وَلَا يحمل شَيْئا مِنْهَا على الْحَقِيقَة ويزعمون أَن من أقرّ بهَا مشبه وهم عِنْد من أقرّ بهَا نافون للمعبود

وَالْحق فِيمَا قَالَه الْقَائِلُونَ بِمَا نطق بِهِ كتاب الله وَسنة رَسُوله وهم أَئِمَّة الْجَمَاعَة انْتهى كَلَام الْحَافِظ ابْن عبد البر إِمَام أهل الْمغرب فِي عصره

وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ قَالَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم إِنَّمَا يكون التَّشْبِيه إِذا قَالَ يَد كيد أَو مثل يَد أَو سمع كسمع أَو مثل سمع فَإِذا قَالَ سمع كسمع أَو مثل سمع فَهَذَا التَّشْبِيه وَأما إِذا قَالَ لله تَعَالَى يَد وَسمع وبصر وَلَا يَقُول كيد وَلَا مثل سمع وَلَا كسمع فَهَذَا لَا يكون تَشْبِيها وَهُوَ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ {لَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} الشورى 11

ص: 139

وروى حَرْمَلَة بن يحيى قَالَ سَمِعت عبد الله بن وهب يَقُول سَمِعت مَالك بن أنس يَقُول من وصف شَيْئا من ذَات الله تَعَالَى مثل قَوْله {وَقَالَت الْيَهُود يَد الله مغلولة} الْمَائِدَة 64 فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عُنُقه قطعت وَمثل قَوْله {وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} فَأَشَارَ إِلَى عَيْنَيْهِ أَو أُذُنَيْهِ أَو شَيْء من بدنه قطع ذَلِك مِنْهُ لِأَنَّهُ شبه الله تَعَالَى بِنَفسِهِ

وَقَالَ بعض الْمُحَقِّقين إِن صِفَات الرب تَعَالَى مَعْلُومَة من حَيْثُ الْجُمْلَة والثبوت غير معقولة من حَيْثُ التكييف والتحديد فَيكون الْمُؤمن بهَا مبصرا من وَجه أعمى من وَجه مبصرا من حَيْثُ الْإِثْبَات والوجود أعمى من حَيْثُ التكييف والتحديد

قَالَ وَلِهَذَا يحصل الْجمع بَين الْإِثْبَات لما وصف الله بِهِ نَفسه وَبَين نفي التحريف والتشبيه وَالْوُقُوف وَذَلِكَ هُوَ مُرَاد الرب منا فِي إبراز صِفَاته لنا لنعرفه بهَا ونؤمن بحقائقها وننفي عَنْهَا التَّشْبِيه وَلَا نعطلها بالتحريف والتأويل وانْتهى

قَالَ الْخطابِيّ فَإِن قيل كَيفَ يَصح الْإِيمَان بِمَا لَا نحيط علما بحقيقته أَو كَيفَ نتعاطى وَصفا بِشَيْء لَا دَرك لَهُ فِي عقولنا

قيل لَهُ إِن إيمَاننَا صَحِيح بِحَق مَا كلفناه مِنْهَا وَعلمنَا يُحِيط بِالْأَمر الَّذِي ألزمناه فِيهَا وَإِن لم نَعْرِف لماهيتها حَقِيقَة وَكَيْفِيَّة وَقد أمرنَا أَن نؤمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر وَالْجنَّة وَنَعِيمهَا وَالنَّار وأليم عَذَابهَا وعقابها وَمَعْلُوم أَنا لَا نحيط بِكُل شَيْء مِنْهَا على التَّفْصِيل وَإِنَّمَا كلفنا الْإِيمَان بهَا جملَة أَلا ترى أَنا نعلم عدد أَسمَاء الْأَنْبِيَاء وَكثير من الْمَلَائِكَة وَلَا نحيط

ص: 140

بصفاتهم وَلَا نعلم خَواص معانيهم وَلم يكن ذَلِك قادحا فِي إيمَاننَا بِمَا أمرنَا أَن نؤمن بِهِ من أَمرهم وَقد حجب عَنَّا علم الرّوح وَمَعْرِفَة كيفيته مَعَ علمنَا بِأَنَّهُ آلَة التَّمْيِيز وَبِه تدْرك المعارف وَهَذِه كلهَا مخلوقة لله فَمَا ظَنك بِصِفَات رب الْعَالمين سُبْحَانَهُ

إِذا تقرر هَذَا فَمن الْمُتَشَابه الْوَجْه فِي قَوْله تَعَالَى {وَيبقى وَجه رَبك} الرَّحْمَن 27 وَقَوله {فأينما توَلّوا فثم وَجه الله} الْبَقَرَة 115 وَقَوله {إِنَّمَا نطعمكم لوجه الله} الْإِنْسَان 9

وَفِي الحَدِيث من بنى مَسْجِدا يَبْتَغِي بِهِ وَجه الله

وَفِي حَدِيث آخر أعوذ بِوَجْهِك وَالْأَحَادِيث كَثِيرَة

وتأويله عِنْد أهل التَّأْوِيل أَن المُرَاد بِالْوَجْهِ الذَّات المقدسة فَأَما صفة زَائِدَة على الذَّات فَلَا وَهُوَ قَول الْمُعْتَزلَة وَجُمْهُور الْمُتَكَلِّمين

ويروى عَن ابْن عَبَّاس الْوَجْه عبارَة عَنهُ عز وجل كَمَا قَالَ {وَيبقى وَجه رَبك}

وَقَالَ ابْن فورك قد تذكر صفة الشَّيْء وَالْمرَاد بِهِ الْمَوْصُوف

ص: 141

توسعا كَمَا يَقُول الْقَائِل رَأَيْت علم فلَان وَنظرت إِلَى علمه وَالْمرَاد بذلك نظرت إِلَى الْعَالم

وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ قَالَ الحذاق الْوَجْه رَاجِح إِلَى الْوُجُود والعبارة عَنهُ بِالْوَجْهِ من مجَاز الْكَلَام إِذْ كَانَ الْوَجْه أظهر الْأَعْضَاء فِي الْمُشَاهدَة

وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي وَأما الْوَجْه فَالْمُرَاد بِهِ وجود البارئ تَعَالَى عِنْد مُعظم أَئِمَّتنَا وَالدَّلِيل على ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَيبقى وَجه رَبك} والموصوف بِالْبَقَاءِ عِنْد تعرض الْخلق للفناء هُوَ وجود البارئ تَعَالَى

وَقَوله تَعَالَى {إِنَّمَا نطعمكم لوجه الله} المُرَاد بِهِ لله الَّذِي لَهُ الْوَجْه أَي الْوُجُود

وَكَذَلِكَ قَوْله {إِلَّا ابْتِغَاء وَجه ربه الْأَعْلَى} اللَّيْل 20 أَي الَّذِي لَهُ الْوَجْه

وَقيل فِي قَوْله {فأينما توَلّوا فثم وَجه الله} أَي فثم رضَا الله وثوابه و {إِنَّمَا نطعمكم لوجه الله} أَي لرضاه وَطلب ثَوَابه وَمِنْه من بنى مَسْجِدا يَبْتَغِي بِهِ وَجه الله

وَقيل المُرَاد فثم الله وَالْوَجْه صلَة أَو الْوَجْه عبارَة عَن الذَّات أَي فثم ذَاته بِمَعْنى الْحُصُول العلمي أَي فَعلمه مَعكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُم

ص: 142

وَقيل المُرَاد بِالْوَجْهِ الْجِهَة الَّتِي وجهنا الله إِلَيْهَا أَي الْقبْلَة

وَحكى الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي {فأينما توَلّوا فثم وَجه الله} أَي فثم الْوَجْه الَّذِي وجهكم إِلَيّ أَي فهناك جِهَته وقبلته الَّتِي أَمر بهَا

وَمذهب السّلف أَن الْوَجْه صفة ثَابِتَة لله ورد بهَا السّمع فتتلقى بِالْقبُولِ

وَيبْطل مَذْهَب أهل التَّأْوِيل مَا قَالَه الْبَيْهَقِيّ والخطابي فِي قَوْله تَعَالَى {وَيبقى وَجه رَبك ذُو الْجلَال} فأضاف الْوَجْه إِلَى الذَّات وأضاف النَّعْت إِلَى الْوَجْه فَقَالَ {ذُو الْجلَال} وَلَو كَانَ ذكر الْوَجْه صلَة وَلم يكن صفة للذات لقَالَ ذِي الْجلَال فَلَمَّا قَالَ {ذُو الْجلَال} علمنَا أَنه نعت للْوَجْه وَأَن الْوَجْه صفة للذات

وَقَالَت الْحَنَابِلَة لتأييد مَذْهَب السّلف إِنَّه قد ثَبت فِي الْخطاب الْعَرَبِيّ الَّذِي أجمع عَلَيْهِ أهل اللُّغَة أَن تَسْمِيَة الْوَجْه فِي أَي مَحل وَقع من الْحَقِيقَة وَالْمجَاز يزِيد على قَوْلنَا ذَات فَأَما فِي الْحَيَوَان فَذَلِك مَشْهُور حَقِيقَة وَلَا يُمكن دَفعه وَأما فِي مقامات الْمجَاز فَكَذَلِك أَيْضا لِأَنَّهُ يُقَال فلَان وَجه الْقَوْم لَا يُرَاد بِهِ ذَوَات الْقَوْم إِذْ ذَوَات الْقَوْم غَيره قطعا وَيُقَال هَذَا وَجه الثَّوْب لما هُوَ أجوده وَيُقَال هَذَا وَجه الرَّأْي أَي أَصَحه وأقومه وأتيت بالْخبر على وَجهه أَي على حَقِيقَته إِلَى غير ذَلِك مِمَّا

ص: 143

يُقَال فِيهِ الْوَجْه

فَإِذا كَانَ هَذَا هُوَ المستقر فِي اللُّغَة وَجب أَن يحمل الْوَجْه فِي حق البارئ على وَجه يَلِيق بِهِ صفة زَائِدَة على تَسْمِيَة قَوْلنَا ذَات

فَإِن قيل يلْزم أَن يكون عضوا وجارحة ذَات كمية وَكَيْفِيَّة وَهُوَ بَاطِل

فَالْجَوَاب مَا قَالُوهُ إِن هَذَا لَا يلْزم لِأَن مَا ذكره الْمُعْتَرض ثَبت بِالْإِضَافَة إِلَى الذَّات فِي حق الْحَيَوَان الْمُحدث لَا من خصيصة صفة الْوَجْه وَلَكِن من جِهَة نِسْبَة الْوَجْه إِلَى جملَة الذَّات فِيمَا ثَبت للذات من الْمَاهِيّة المركبة وَذَلِكَ أَمر أدركناه بالحس فِي جملَة الذَّات فَكَانَت الصِّفَات مُسَاوِيَة للذات بطرِيق أَنَّهَا مِنْهَا ومنتسبة إِلَيْهَا نِسْبَة الْجُزْء من الْكل

فَأَما الْوَجْه الْمُضَاف للبارئ سُبْحَانَهُ فَإنَّا ننسبه إِلَيْهِ فِي نَفسه نِسْبَة الذَّات إِلَيْهِ

وَقد ثَبت أَن الذَّات فِي حق البارئ لَا تُوصَف بِأَنَّهَا جسم مركب تدخله الكمية وتتسلط عَلَيْهَا الْكَيْفِيَّة وَلَا نعلم لَهَا مَاهِيَّة فصفته الَّتِي هِيَ الْوَجْه كَذَلِك لَا يُوصل لَهَا إِلَى مَا هية وَلَا يُوقف لَهَا على كَيْفيَّة وَلَا تدْخلهَا التجزئة الْمَأْخُوذَة من الكمية لِأَن هَذِه إِنَّمَا هِيَ صِفَات الْجَوَاهِر المركبة أجساما وَالله منزه عَن ذَلِك وَلَو جَازَ هَذَا الإعتراض فِي الْوَجْه لقيل مثله فِي السّمع وَالْبَصَر وَالْعلم فَإِن الْعلم فِي الشَّاهِد عرض قَائِم بقلب يثبت بطرِيق ضَرُورَة أَو اكْتِسَاب وَذَلِكَ غير لَازم فِي حق البارئ لِأَنَّهُ مُخَالف للشَّاهِد

ص: 144

فِي الذاتية وَغير مشارك لَهَا فِي إِثْبَات مَاهِيَّة أَو كمية أَو كَيْفيَّة

وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ إِن الله على عَرْشه كَمَا قَالَ {الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى} وَإِن لَهُ يدين بِلَا كَيفَ كَمَا قَالَ {خلقت بيَدي} ص 75 وَإِن لَهُ عينين بِلَا كَيفَ كَمَا قَالَ {تجْرِي بأعيننا} الْقَمَر 14 وَإِن لَهُ وَجها بِلَا كَيفَ كَمَا قَالَ {وَيبقى وَجه رَبك} وَإنَّهُ يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة هُوَ وَمَلَائِكَته كَمَا قَالَ {وَجَاء رَبك وَالْملك صفا صفا} الْفجْر 22 وَإنَّهُ يقرب من عباده كَيفَ شَاءَ كَمَا قَالَ {وَنحن أقرب إِلَيْهِ من حَبل الوريد} وندين أَنه يقلب الْقُلُوب بَين إِصْبَعَيْنِ من أَصَابِعه وَأَنه يضع السَّمَاوَات على إِصْبَع وَالْأَرضين على إِصْبَع كَمَا جَاءَت بِهِ الرِّوَايَة إِلَى أَن قَالَ ونصدق بِجَمِيعِ الرِّوَايَات الَّتِي يثبتها أهل النَّقْل من النُّزُول إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا وَأطَال الْكَلَام فِي هَذَا وَأَمْثَاله فِي كِتَابه الَّذِي سَمَّاهُ الْإِبَانَة فِي أصُول الدّيانَة وَقد ذكر أَصْحَابه أَنه آخر كتاب صنفه وَعَلِيهِ يعتمدون فِي الذب عَنهُ عِنْد من يطعن عَلَيْهِ

وَقَالَ القَاضِي ابْن الباقلاني فَإِن قَالَ قَائِل فَمَا الدَّلِيل على أَن لله وَجها ويدا قيل لَهُ قَوْله {وَيبقى وَجه رَبك} وَقَوله {لما خلقت بيَدي} فَأثْبت لنَفسِهِ وَجها ويدا

وَقد تقدم كَلَام الإِمَام أبي حنيفَة رحمه الله حَيْثُ قَالَ

ص: 145