الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَالَ بَعضهم هُوَ لبَيَان عَظمَة الله وجلاله وَقدرته وَأَن المكونات كلهَا منقادة لإرادته ومسخرات بأَمْره
وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن الْقَبْض قد يكون بِمَعْنى الْملك وَالْقُدْرَة كَقَوْلِهِم مَا فلَان إِلَّا فِي قبضتي أَي قدرتي وَيَقُولُونَ الْأَشْيَاء فِي قَبْضَة الله أَي فِي ملكه وَقدرته وعَلى هَذَا التَّأْوِيل مخرج الْآيَة والْحَدِيث
تَنْبِيه
فِي حَدِيث مُسلم وَغَيره إِن المقسطين عِنْد الله يَوْم الْقِيَامَة على مَنَابِر من نور عَن يَمِين الرحمان وكلتا يَدَيْهِ يَمِين الَّذين يعدلُونَ فِي حكمهم وأهليهم وَمَا ولوا
قَالَ النَّوَوِيّ هُوَ من أَحَادِيث الصِّفَات إِمَّا نؤمن بهَا وَلَا نتكلم بِتَأْوِيل ونعتقد أَن ظَاهرهَا غير مُرَاد وَأَن لَهَا معنى يَلِيق بِاللَّه تَعَالَى أَو تؤول على أَن المُرَاد بكونهم على الْيَمين الْحَالة الْحَسَنَة والمنزلة الرفيعة
وَقَوله وكلتا يَدَيْهِ يَمِين فِيهِ تَنْبِيه على أَنه لَيْسَ المُرَاد بِالْيَمِينِ الْجَارِحَة وَأَن يَدَيْهِ تَعَالَى بِصفة الْكَمَال لَا نقص فِي وَاحِدَة مِنْهُمَا لِأَن الشمَال تنقص عَن الْيَمين
وَقَالَ بَعضهم وَقد تكون الْيَمين بِمَعْنى التبجيل والتعظيم
يُقَال فلَان عندنَا بِالْيَمِينِ أَي بِالْمحل الْجَلِيل وَمِنْه قَول الشَّاعِر
…
أَقُول لناقتي إِذْ بلغتني
…
لقد أَصبَحت عِنْدِي بِالْيَمِينِ
…
أَي الْمحل الرفيع
قلت أحسن من هَذَا مَا أوردته فِي كتابي القَوْل البديع فِي علم البديع فِي بَاب التَّمْثِيل مَا أنْشدهُ الرماح بن ميادة فِي قَوْله
…
ألم أك فِي يمنى يَديك جَعَلتني
…
فَلَا تجعلني بعْدهَا فِي شمالكا
…
أَرَادَ أَن يَقُول ألم أكن قَرِيبا مِنْك فَلَا تجعلني بَعيدا عَنْك فَعدل عَنهُ إِلَى لفظ التَّمْثِيل لما فِيهِ من زِيَادَة الْمَعْنى لما تعطيه لفظتا الْيَمين وَالشمَال من الْأَوْصَاف لِأَن الْيَمين أَشد قُوَّة معدة للطعام وَالشرَاب وَالْأَخْذ وَالعطَاء وكل مَا شرف وَالشمَال بِالْعَكْسِ وَالْيَمِين مُشْتَقّ من الْيمن وَهُوَ الْبركَة وَالشمَال من الشؤم فَكَأَنَّهُ قَالَ ألم أكن مكرما عنْدك فَلَا تجعلني مهانا وَكنت مِنْك فِي الْمَكَان الشريف فَلَا تجعلني فِي الوضيع
قَالَ الْبَيْهَقِيّ وَقد رُوِيَ ذكر الشمَال لله تَعَالَى من طَرِيقين فِي أَحدهمَا جَعْفَر بن الزبير وَفِي الآخر يزِيد الرقاشِي وهما
مَتْرُوكَانِ وَكَيف يَصح ذَلِك وَقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه سمى كلتا يَدَيْهِ يَمِينا وَكَأن من قَالَ ذَلِك أرْسلهُ من لَفظه على مَا وَقع لَهُ أَو على عَادَة الْعَرَب من ذكر الشمَال فِي مُقَابلَة الْيَمين
وَقَالَ الْخطابِيّ لَيْسَ فِيمَا يُضَاف إِلَى الله سُبْحَانَهُ من صفة الْيَدَيْنِ شمال لِأَن الشمَال مَحل النَّقْص والضعف وَالله أعلم
وَأما الْأَصَابِع فروى البُخَارِيّ وَمُسلم عَن ابْن مَسْعُود قَالَ جَاءَ حبر إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا مُحَمَّد أَو يَا أَبَا الْقَاسِم إِن الله يمسك السَّمَاوَات يَوْم الْقِيَامَة على إِصْبَع وَالْأَرضين على إِصْبَع وَالشَّجر على إِصْبَع وَالْمَاء وَالثَّرَى على إِصْبَع وَسَائِر الْخَلَائق على إِصْبَع ثمَّ يَهُزهُنَّ فَيَقُول أَنا الْملك أَنا الْملك فَضَحِك رَسُول الله صلى الله عليه وسلم تَعَجبا مِمَّا قَالَ الحبر وَتَصْدِيقًا لَهُ ثمَّ قَرَأَ {وَمَا قدرُوا الله حق قدره وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبضته يَوْم الْقِيَامَة وَالسَّمَاوَات مَطْوِيَّات بِيَمِينِهِ} الزمر 67
وَفِي البُخَارِيّ إِنَّه إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة جعل الله السَّمَاوَات
على إِصْبَع وَالْأَرضين على إِصْبَع وَالْخَلَائِق على إِصْبَع ثمَّ يَهُزهُنَّ ثمَّ يَقُول أَنا الْملك فَلَقَد رَأَيْت النَّبِي صلى الله عليه وسلم يضْحك حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه تَعَجبا وَتَصْدِيقًا لقَوْله ثمَّ قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم {وَمَا قدرُوا الله حق قدره} إِلَى قَوْله {يشركُونَ}
وَفِي التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ مر يَهُودِيّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ يَا يَهُودِيّ حَدثنَا فَقَالَ كَيفَ تَقول يَا أَبَا الْقَاسِم إِذا وضع الله السَّمَاوَات على ذه وَالْأَرضين على ذه وَالْجِبَال على ذه وَالْمَاء على ذه وَسَائِر الْخلق على ذه وَأَشَارَ بِخِنْصرِهِ أَولا ثمَّ تَابع حَتَّى بلغ الْإِبْهَام فَأنْزل الله {وَمَا قدرُوا الله حق قدره}
وروى البُخَارِيّ وَمُسلم حَدِيث إِن قُلُوب بني آدم كلهَا بَين إِصْبَعَيْنِ من أَصَابِع الرحمان كقلب وَاحِد يصرفهَا كَيفَ يَشَاء ثمَّ قَالَ عليه السلام اللَّهُمَّ مصرف الْقُلُوب صرف قُلُوبنَا إِلَى طَاعَتك
قَالَ الْخطابِيّ وَذكر الْأَصَابِع لم يُوجد فِي شَيْء من الْكتاب وَالسّنة الْمَقْطُوع بِصِحَّتِهَا وَاعْترض بِأَن ذَلِك ثَابت فِي صَحِيح السّنة لَكِن الْوَاجِب فِي هَذَا أَن تمر كَمَا جَاءَت وَلَا يُقَال فِيهَا
إِن مَعْنَاهَا النعم لَا أَن يُقَال إِصْبَع أَو أَصَابِع كأصابعنا وَلَا يَد كأيدينا وَلَا قَبْضَة كقبضتنا
وَقَالَ النَّوَوِيّ هَذِه من أَحَادِيث الشُّبُهَات وفيهَا الْقَوْلَانِ أَحدهمَا الْإِيمَان بهَا من غير تعرض لتأويل وَلَا لمعْرِفَة الْمَعْنى بل نؤمن بهَا وَأَن ظَاهرهَا غير مُرَاد لقَوْله تَعَالَى {لَيْسَ كمثله شَيْء} الشورى 11 ثَانِيهمَا يتَأَوَّل بِحَسب مَا يَلِيق فعلى هَذَا فَالْمُرَاد الْمجَاز كَمَا يُقَال فلَان فِي قبضتي وَفِي كفي لَا يُرَاد أَنه حَال فِي كَفه بل المُرَاد تَحت قدرتي وَيُقَال فلَان فِي خنصري وَبَين إصبعي أقلبه كَيفَ شِئْت يَعْنِي أَنه هَين عَليّ وَالتَّصَرُّف فِيهِ كَيفَ شِئْت فَمَعْنَى الحَدِيث أَنه سُبْحَانَهُ يتَصَرَّف فِي قُلُوب عباده وَغَيرهَا كَيفَ شَاءَ لَا يمْتَنع عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْء وَلَا يفوتهُ مَا أَرَادَهُ كَمَا لَا يمْتَنع على الْإِنْسَان مَا كَانَ بَين إصبعيه فخاطب الْعَرَب كَمَا يفهمونه وَمثله بالمعاني الحسية تَأْكِيدًا لَهُ فِي نُفُوسهم فَإِن قيل قدرَة الله تَعَالَى وَاحِدَة والإصبعان للتثنية قَالَ وَالْجَوَاب أَن هَذَا مجَاز واستعارة وَاقعَة موقع التَّمْثِيل بِحَسب مَا اعتادوه غير مَقْصُود بِهِ التَّثْنِيَة وَالْجمع
وَفِي النِّهَايَة إِطْلَاق الْأَصَابِع عَلَيْهِ تَعَالَى مجَاز كإطلاق الْيَد وَالْيَمِين وَالْعين والسمع وَهُوَ جَار مجْرى التَّمْثِيل وَالْكِنَايَة عَن سرعَة تقلب الْقُلُوب وَأَن ذَلِك أَمر مَعْقُود بِمَشِيئَة الله
وَتَخْصِيص ذكر الْأَصَابِع كِنَايَة عَن إِجْرَاء الْقُدْرَة والبطش لِأَن ذَلِك بِالْيَدِ والأصابع
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ وَغَيره والإصبع قد تكون بِمَعْنى الْقُدْرَة على الشَّيْء وسهولة تقليبه كَمَا يَقُول من استسهل شَيْئا واستخفه مُخَاطبا لمن استثقله أَنا أحملهُ على إصبعي وأرفعه بإصبعي وأمسكه بخنصري فَهَذَا مِمَّا يُرَاد بِهِ الإستظهار فِي الْقُدْرَة على الشَّيْء فَلَمَّا كَانَت السَّمَاوَات وَالْأَرْض أعظم الموجودات وَكَانَ إِِمْسَاكهَا إِلَى الله كالشيء الحقير الَّذِي نجعله بَين أصابعنا ونهزه بِأَيْدِينَا ونتصرف فِيهِ كَيفَ شِئْنَا دلّ ذَلِك على قوته الْقَاهِرَة وعظمته الباهرة لَا إِلَه إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ
وَقَالَ بعض الْمُحَقِّقين هَذَا الحَدِيث من جملَة مَا يتنزه السّلف عَن تَأْوِيله كأحديث السّمع وَالْبَصَر وَالْيَد فَإِن ذَلِك يحمل على ظَاهره ويجرى بِلَفْظِهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ من غير أَن يشبه بمشبهات الْجِنْس أَو يحمل على معنى الْمجَاز والإتساع بل يعْتَقد أَنَّهَا صِفَات الله تَعَالَى لَا كَيْفيَّة لَهَا وَإِنَّمَا تنزهوا عَن تَأْوِيل هَذَا الْقسم لِأَنَّهُ لَا يلتئم مَعَه وَلَا يحمل ذَلِك على وَجه يرتضيه الْعقل إِلَّا وَيمْنَع مِنْهُ الْكتاب وَالسّنة من وَجه آخر قَالَ وَمثل هَذَا لَيْسَ فِي الْحَقِيقَة من أَقسَام الصِّفَات وَلَكِن أَلْفَاظ مشاكلة لَهَا فِي وضع الإسم
وَقَالَ الطَّيِّبِيّ اعْلَم أَن للنَّاس فِيمَا جَاءَ من صِفَات الله فِيمَا يشبه صِفَات المخلوقين تَفْصِيلًا وَذَلِكَ أَن الْمُتَشَابه قِسْمَانِ قسم
يقبل التَّأْوِيل وَقسم لَا يقبله بل علمه مُخْتَصّ بِاللَّه تَعَالَى ويقفون عِنْد قَوْله تَعَالَى {وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله} آل عمرَان 7 كالنفس فِي قَوْله {تعلم مَا فِي نَفسِي وَلَا أعلم مَا فِي نَفسك} الْمَائِدَة 116 والمجيء فِي قَوْله {وَجَاء رَبك وَالْملك} الْفجْر 22 وَتَأْويل فواتح السُّور مثل آلم وحم من هَذَا الْقَبِيل
وَذكر الشَّيْخ السهروردي فِي كتاب العقائد أخبر الله تَعَالَى أَنه اسْتَوَى على الْعَرْش وَأخْبر رَسُوله بالنزول وَغير ذَلِك مِمَّا جَاءَ فِي الْيَد والقدم والتعجب فَكل مَا ورد من هَذَا الْقَبِيل دَلَائِل التَّوْحِيد فَلَا يتَصَرَّف فِيهِ بتشبيه وَلَا تَعْطِيل فلولا إِخْبَار الله تَعَالَى وإخبار رَسُوله مَا تجاسر عقل أَن يحوم حول ذَلِك الْحمى وتلاشى دونه عقل الْعُقَلَاء ولب الألباء
قَالَ الطَّيِّبِيّ هَذَا الْمَذْهَب هُوَ الْمُعْتَمد عَلَيْهِ وَبِه يَقُول السّلف الصَّالح وَمن ذهب إِلَى التَّأْوِيل شَرط فِيهِ أَن يكون مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى تَعْظِيم الله تَعَالَى وجلاله وتنزيهه وكبريائه وَمَا لَا تَعْظِيم فِيهِ فَلَا يجوز الْخَوْض فِيهِ فَكيف بِمَا يُؤَدِّي إِلَى التجسيم والتشبيه انْتهى
وَهُوَ كَلَام فِي غَايَة التَّحْقِيق إِلَّا أَن ترك التَّأْوِيل مُطلقًا وتفويض الْعلم إِلَى الله أسلم
وَأما الساعد والذراع قَالَ الْقُرْطُبِيّ أسْند الْبَيْهَقِيّ وَغَيره حَدِيث وساعد الله أَشد من ساعدك ومُوسَى الله أحد من موساك
وَذكر الْبَيْهَقِيّ أَيْضا أَن عُرْوَة بن الزبير سَأَلَ عبد الله بن عَمْرو بن العَاصِي أَي الْخلق أعظم قَالَ الْمَلَائِكَة قَالَ من مَاذَا خلقت قَالَ خلقت من نور الذراعين والصدر
قَالَ هُوَ حَدِيث مَوْقُوف على عبد الله بن عَمْرو وَرَاوِيه رجل غير مُسَمّى فَهُوَ مُنْقَطع وَقَالَ ابْن فورك روى سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ خلق الله تَعَالَى الْمَلَائِكَة من شعر ذِرَاعَيْهِ وصدره أَو من نورهما
قَالَ ابْن فورك وعبد الله لم يرفعهُ إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم قيل إِن عبد الله بن عَمْرو أصَاب وسقين من الْكتب يَوْم اليرموك فَكَانُوا يَقُولُونَ لَهُ إِذا حَدثهمْ حَدثنَا بِمَا سَمِعت من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَلَا تحدثنا عَن وسقيك يَوْم اليرموك انْتهى
قلت عبد الله بن عَمْرو أجل من أَن يحْكى عَنهُ مثل هَذَا فَإِن وَقع فِيهِ كذب فَهُوَ مِمَّن قبله وَإِن صَحَّ عَنهُ مثل هَذَا الحَدِيث فَلهُ حكم الْمَرْفُوع والتأويل مُحْتَمل فقد رَوَاهُ أُسَامَة
وَلم يقل فِيهِ ذِرَاعَيْهِ وصدره بل قَالَ من نور الذراعين والصدر مُطلقًا غير مُضَاف وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم يُنكر أَن يكون ذَلِك صَدرا وذراعين لبَعض خلقه أَو أَنَّهُمَا من أَسمَاء بعض مخلوقاته فقد وجد فِي النُّجُوم مَا يُسمى ذراعين وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ بمستنكر أَن يكون هَذَا الإسم اسْما لبَعض مخلوقاته تَعَالَى خلق مِنْهُ الْمَلَائِكَة
وَأما الساعد فَإِنَّهُ يُطلق بِمَعْنى الْقُوَّة وَالتَّدْبِير كَقَوْلِهِم جمعت هَذَا المَال بساعدي يَعْنِي بِرَأْيهِ وتدبيره وَهُوَ المُرَاد فِي الحَدِيث وَالْمعْنَى أَمر الله أنفذ من أَمرك وَقدرته أنفذ من قدرتك وَإِنَّمَا عبر عَنهُ بالساعد للتمثيل لِأَنَّهُ مَحل الْقُوَّة يُوضح ذَلِك قَوْله وموساه أحد من موساك يَعْنِي أَن قطعه فِي مقدوراته أسْرع من قَطعك فَعبر عَن الْقطع بِالْمُوسَى لسرعة قطعه
وَأما الْكَفّ والأنامل وَالصُّورَة فقد روى التِّرْمِذِيّ عَن معَاذ بن جبل قَالَ احْتبسَ عَنَّا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ذَات غَدَاة عَن صَلَاة الصُّبْح حَتَّى كدنا نتراءى عين الشَّمْس فَخرج سَرِيعا فثوب بِالصَّلَاةِ فصلى رَسُول الله فَلَمَّا سلم دَعَا بِصَوْتِهِ فَقَالَ لنا على مَصَافكُمْ كَمَا أَنْتُم ثمَّ أقبل علينا فَقَالَ أما إِنِّي سأحدثكم مَا حَبَسَنِي عَنْكُم لغداة إِنِّي قُمْت من اللَّيْل فَتَوَضَّأت وَصليت مَا قدر لي فنعست فِي صَلَاتي حَتَّى استثقلت فَإِذا أَنا بربي تبارك وتعالى فِي أحسن صُورَة فَقَالَ يَا مُحَمَّد قلت لبيْك رَبِّي قَالَ فيمَ يخْتَصم الْمَلأ الْأَعْلَى قلت لَا أَدْرِي قَالَهَا ثَلَاثًا قَالَ فرأيته وضع كَفه بَين كَتِفي فَوجدت برد أنامله بَين ثديي فتجلى لي كل شَيْء وَعرفت فَقَالَ يَا مُحَمَّد قلت
لبيْك رَبِّي قَالَ فيمَ يخْتَصم الْمَلأ الْأَعْلَى قلت فِي الْكَفَّارَات قَالَ مَا هن قلت مشي الْأَقْدَام إِلَى الْحَسَنَات وَالْجُلُوس فِي الْمَسَاجِد بعد الصَّلَوَات وإسباغ الْوضُوء على المكرهات الحَدِيث
قَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث حسن صَحِيح
وَقَالَ سَأَلت مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح
قَالَ ابْن فورك قَوْله وضع كَفه بَين كَتِفي وَرُوِيَ بَين كنفي بالنُّون
فَأَما الْكَفّ فَقيل هُوَ بِمَعْنى الْقُدْرَة كَقَوْلِه
…
هون عَلَيْك فَإِن الْأُمُور
…
بكف الْإِلَه مقادريها
…
يُرِيد فِي قدرته تقديرها وتدبيرها
وَقيل المُرَاد بالكف النِّعْمَة والْمنَّة وَالرَّحْمَة
وَأما قَوْله بَين كَتِفي فَالْمُرَاد بِهِ مَا وصف إِلَى قلبه من لطفه وبره وفوائده لِأَن الْقلب بَين الْكَتِفَيْنِ وَهُوَ مَحل الْأَنْوَار والعلوم والمعارف وَرِوَايَة بَين كنفي يُرَاد بِهِ كَقَوْل الْقَائِل أَنا فِي كنف فلَان وفنائه أَرَادَ بذلك أَنه فِي ظلّ نعْمَته وَرَحمته فَكَأَنَّهُ قَالَ أفادني الرب من رَحمته وإنعامه بِملكه وَقدرته حَتَّى علمت مَا أعلمهُ
وَقَوله فَوجدت برد أنامله يحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى برد نعمه فَإِن تَأْوِيل الأنامل على معنى الإصبع على مَا تقدم فَيكون الْمَعْنى حَتَّى وجدت آثَار إحسانه وَنعمته وَرَحمته فِي صَدْرِي فتجلى لي عِنْد ذَلِك علم مَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض برحمة الله وَفضل نعْمَته
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ وَقَوله فَإِذا أَنا بربي تبارك وتعالى فِي أحسن صُورَة أَو رَأَيْت رَبِّي فِي أحسن صُورَة هَذَا رَاجع إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَي رَأَيْته وَأَنا فِي أحسن صُورَة كَقَوْل الْقَائِل رَأَيْت الْأَمِير فِي أحسن صُورَة وَمرَاده وَأَنا فِي أحسن زيي وَحِينَئِذٍ فَالْمُرَاد أَن الله تَعَالَى زين خلقته عليه السلام وكمل صورته عِنْد رُؤْيَته لرَبه زِيَادَة إكرام وتعظيم
وَقَالَ بعض الْمُحَقِّقين مَا ملخصاه يجوز أَن يكون قَوْله فِي أحسن صُورَة رَاجعا إِلَى مُحَمَّد أَي رَأَيْته وَأَنا فِي أحسن صُورَة بِمَعْنى أَن الله حسن صورته وَنَقله إِلَى هَيْئَة يُمكنهُ مَعهَا رُؤْيَته إِذْ كَانَ الْبشر لَا يُمكنهُم رُؤْيَته تَعَالَى على صورتهم الَّتِي عَلَيْهَا حَتَّى ينقلوا إِلَى صور أخر غير صورهم كَمَا أَن أهل الْجنَّة ينقلهم الله عَن صفاتهم إِلَى صِفَات آخر أَعلَى وأشرف فَعجل الله
لنَبيه هَذِه الْكَرَامَة فِي الدُّنْيَا وَيجوز أَن يكون رَاجعا إِلَى الله بِمَعْنى أَنه رَاء ربه على أحسن مَا وعده بِهِ من إنعامه وإحسانه وإكرامه كَمَا تَقول للرجل كَيفَ كَانَت صُورَة أَمرك عِنْد لِقَاء الْملك فَيَقُول خير صُورَة أَعْطَانِي وأنعم عَليّ وأدناني من مَحل كرامته فهذان تَأْوِيلَانِ صَحِيحَانِ جاريان على أساليب كَلَام الْعَرَب
قَالَ وَقد جَاءَ فِي بعض الحَدِيث أَنه كَانَت رُؤْيَة فِي الْمَنَام فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك كَانَ التَّأْوِيل وَاضحا لِأَنَّهُ لَا يُنكر رُؤْيَة الله تَعَالَى فِي الْمَنَام كَذَلِك انْتهى
وروى أَحْمد وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم أَنه عليه السلام قَالَ خلق الله آدم على صورته وَطوله سِتُّونَ ذِرَاعا الحَدِيث وَفِيه وكل من يدْخل الْجنَّة على صُورَة آدم طوله سِتُّونَ ذِرَاعا فَلم تزل الْخلق تنقص بعده حَتَّى الْآن
وَفِي لفظ آخر إِذا قَاتل أحدكُم أَخَاهُ فليجتنب الْوَجْه فَإِن الله خلق آدم على صورته
قَالَ النَّوَوِيّ هَذَا من أَحَادِيث الصِّفَات وَمذهب السّلف
أَنه لَا يتَكَلَّم فِي مَعْنَاهَا بل يَقُولُونَ يجب علينا أَن نؤمن بهَا ونعتقد لَهَا معنى يَلِيق بِجلَال الله تَعَالَى من اعتقادنا أَنه {لَيْسَ كمثله شَيْء} وَهَذَا القَوْل اخْتَارَهُ جمَاعَة من محققي الْمُتَكَلِّمين قَالَ وَهُوَ أسلم وَالثَّانِي أَنَّهَا تؤول على مَا يَلِيق على حسب مواقعها
قَالَ الْمَازرِيّ وَقد غلط ابْن قُتَيْبَة فِي هَذَا الحَدِيث فأجراه على ظَاهره وَقَالَ الله صُورَة لَا كالصور قَالَ وَهَذَا كَقَوْل المجسمة جسم لَا كالأجسام لما رَأَوْا أهل السّنة يَقُولُونَ الله تَعَالَى شَيْء لَا كالأشياء وَالْفرق أَن لَفْظَة شَيْء لَا تفِيد الْحُدُوث وَلَا تَتَضَمَّن مَا يَقْتَضِيهِ وَأما جسم وَصُورَة فيتضمنان التَّأْلِيف والتركيب وَذَلِكَ دَلِيل الْحُدُوث
وَقَالَ أهل التَّأْوِيل مَا قَالَه الْخطابِيّ إِن الضَّمِير فِي صورته يعود على آدم بِمَعْنى أَن الله تَعَالَى خلقه ابْتِدَاء على صورته الَّتِي أوجده عَلَيْهَا وَلم يردده فِي أطوار الْخلقَة كبنيه نُطْفَة ثمَّ علقَة ثمَّ مُضْغَة ثمَّ أجنة ثمَّ أطفالا وَفِي الحَدِيث الْأُخَر الضَّمِير يعود على الْمَضْرُوب
وَقَالَ بعض الْمُحَقِّقين مَا ملخصه يجوز عود الضَّمِير على آدم وعَلى الله فَإِن عَاد على آدم فالغرض مِنْهُ الرَّد على الدهرية وَالْيَهُود وَهُوَ من جَوَامِع الْكَلم فَإِن الدهرية قَالَت إِن الْعَالم لَا أول لَهُ فَلَا حَيَوَان إِلَّا من حَيَوَان آخر قبله وَلَا زرع إِلَّا من بذر قبله فأعلمنا عليه السلام أَن الله خلق آدم على صورته
الَّتِي شوهد عَلَيْهَا ابْتِدَاء
وَقَالُوا أَيْضا إِن للطبيعة وَالنَّفس الْكُلية فعلا فِي المحدثات المتكونة غير فعل الله فأعلمنا أَنه أوجده كَذَلِك دون مُشَاركَة من طبيعة أَو نفس
وَالْيَهُود قَالَت إِن آدم فِي الذَّنب كَانَ على خلاف صورته فِي الْجنَّة فَلَمَّا خرج مِنْهَا نقص قامته وَغير خلقته فأعلمنا بكذبهم وَأَنه خلق فِي أول أمره على صورته الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا عِنْد هُبُوطه
وَإِن عَاد الضَّمِير على الله فإضافة صُورَة آدم إِلَيْهِ على وَجه التشريف والتخصيص لَا على مَا يسْبق للوهم من مَعَاني الْإِضَافَة كَقَوْلِهِم الْكَعْبَة بَيت الله وَإِنَّمَا خصصه بِالْإِضَافَة إِلَى الله دون غَيره لِأَن الله خلقه دفْعَة وَاحِدَة من غير ذكر وَأُنْثَى وَلَا ضمته الْأَرْحَام وخلقه بِيَدِهِ وأسجد لَهُ مَلَائكَته وَهُوَ أَبُو الْبشر فنبهنا عليه السلام بِإِضَافَة صورته إِلَى الله على ذَلِك وَهُوَ نَظِير قَوْله تَعَالَى {ونفخت فِيهِ من روحي} الْحجر 29 وَقَوله {وَلَا أعلم مَا فِي نَفسك} الْمَائِدَة 116 وَقَوله {لما خلقت بيَدي} ص 75
فَكَمَا لَا تدل هَذِه الْإِضَافَة على أَن لَهُ نفسا وروحا ويدين فَكَذَلِك إِضَافَة الصُّورَة إِلَيْهِ تَعَالَى لَا تدل على أَن لَهُ صُورَة
قَالَ وَأَيْضًا فالعرب تسْتَعْمل الصُّورَة على وَجْهَيْن
أَحدهمَا الصُّورَة الَّتِي هِيَ شكل مخطط مَحْدُود بالجهات
وَالثَّانِي بِمَعْنى صفة الشَّيْء كَقَوْلِهِم مَا صُورَة أَمرك فَكيف كَانَت صُورَة نَفسك وَهَذَا هُوَ المُرَاد هُنَا فَإِن الله جعله خَليفَة فِي
أرضه يعلم وَيَأْمُر وَينْهى ويسوس وَيُدبر وسخر لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض انْتهى
وَاعْترض بَعضهم هَذِه الْأَجْوِبَة وَقَالَ الْوَاجِب أَن تمر الْأَحَادِيث كَمَا جَاءَت بِلَا تَأْوِيل وَلَا تكييف فَإِن الضَّمِير إِذا كَانَ عَائِدًا على آدم لَا فَائِدَة فِيهِ إِذْ لَيْسَ يشك أحد أَن الله خَالق الْإِنْسَان على صورته وَالسِّبَاع والأنعام على صورها فَأَي فَائِدَة فِي الْحمل على ذَلِك وَلَا جَائِز أَن يُقَال عَائِد على الْمَضْرُوب إِذْ لَا فَائِدَة فِيهِ لِأَن الْخلق عالمون بِأَن آدم خلق على خلق وَلَده وَوَجهه على وُجُوههم
قلت وَفِي هَذَا الإعتراض نظر فَإِنَّهُ لَا يرد بعد إبراز مَا تقدم من النكات وَالْحكم
نعم مِمَّا يُقَوي الإعتراض قَوْله عليه السلام فِي حَدِيث آخر لاتقبحوا الْوَجْه فَإِن ابْن آدم خلق على صُورَة الرحمان وَقَول الْمَازرِيّ فِي هَذَا الحَدِيث إِنَّه لَيْسَ بِثَابِت عِنْد أهل الحَدِيث فِيهِ مَا فِيهِ فقد رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن جرير عَن الْأَعْمَش عَن حبيب بن أبي ثَابت عَن عَطاء بن أبي رَبَاح عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَهَذَا غَايَة مَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ يحْتَمل أَن لفظ هَذَا الحَدِيث كَمَا فِي الحَدِيث الآخر فأداه الْبَعْض الرواه على مَا وَقع فِي قلبه من مَعْنَاهُ وَالله أعلم
ثمَّ رَأَيْت الْحَافِظ ابْن حجر قَالَ وَقد أنكر الْمَازرِيّ وَمن تبعه صِحَة هَذِه الرِّوَايَة وَقد أخرجهَا ابْن أبي عَاصِم فِي السّنة وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث ابْن عمر بِإِسْنَاد رِجَاله ثِقَات وأخرجها ابْن أبي عَاصِم أَيْضا من طَرِيق أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ يرد التَّأْوِيل الأول قَالَ من قَاتل فليجتنب الْوَجْه فَإِن صُورَة وَجه الْإِنْسَان على صُورَة وَجه الرحمان قَالَ فَتعين إِجْرَاء ذَلِك على مَا تقررد بَين أهل السّنة من إمراره كَمَا جَاءَ من غير اعْتِقَاد تَشْبِيه قَالَ وَزعم بَعضهم أَن الضَّمِير يعود على آدم أَي على صفته أَي خلقه مَوْصُوفا بِالْعلمِ الَّذِي فضل بِهِ على الْحَيَوَان قَالَ وَهَذَا مُحْتَمل
وَقيل الضَّمِير لله وَتمسك قَائِله بِمَا فِي بعض طرقه على صُورَة الرحمان فَالْمُرَاد بالصورة الصّفة أَي إِن الله خلقه على صفته من الْعلم والحياة والسمع وَالْبَصَر وَغير ذَلِك وَإِن كَانَت صِفَات الله لَا يشبهها شَيْء انْتهى
قلت لَكِن التَّعْلِيل بإتقاء الْوَجْه يرد جَمِيع التَّأْوِيل وَلم يبْق إِلَّا التعويل على مَذْهَب من سلف من أَئِمَّة السّلف
وروى ابْن عَبَّاس إِن مُوسَى عليه السلام ضرب الْحجر لبني إِسْرَائِيل فتفجر فَقَالَ اشربوا يَا حمير فَأوحى الله إِلَيْهِ عَمَدت إِلَى خلق من خلقي على صُورَتي فشبهتهم بالحمير فَمَا برح حَتَّى عُوقِبَ
قَالَ الْقُرْطُبِيّ ذكره القتيبي فِي مُخْتَلف الحَدِيث وَقَالَ القتيبي وَالَّذِي عِنْدِي وَالله أعلم أَن الصُّورَة لَيست بِأَعْجَب من الْيَدَيْنِ وَالْيَمِين وَالْعين وَإِنَّمَا وَقعت الألفة لتِلْك لمجيئها فِي الْقُرْآن وَوَقعت الوحشة من هَذِه لِأَنَّهَا لم تأت فِي الْقُرْآن وَنحن نؤمن بِالْجَمِيعِ وَلَا نقُول فِي شَيْء مِنْهُ بكيفية وَلَا حد انْتهى
وَفِي البُخَارِيّ وَمُسلم حَدِيث هَل نرى رَبنَا يَوْم الْقِيَامَة وَفِيه فيأتيهم الله فِي صُورَة غير صورته الَّتِي يعْرفُونَ فَيَقُول أَنا ربكُم فَيَقُولُونَ نَعُوذ بِاللَّه مِنْك هَذَا مَكَاننَا حَتَّى يأتينا رَبنَا فَإِذا أَتَانَا عَرفْنَاهُ فيأتيهم الله فِي الصُّورَة وَفِي لفظ آخر فِي صورته الَّتِي يعْرفُونَ فَيَقُول أَنا ربكُم فَيَقُولُونَ أَنْت رَبنَا فيتبعونه الحَدِيث
وَقَالَ بعض أهل التَّأْوِيل إِن فِي بِمَعْنى الْبَاء كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام} الْبَقَرَة 210 أَي بظلل فَيكون معنى الْإِتْيَان هُنَا أَنه يحضر لَهُم تِلْكَ الصُّورَة وَيذكر أَنه ملك عَظِيم يَقُولُونَ لَهُم بِأَمْر الله أَنا ربكُم
وَأما الصُّورَة الثَّانِيَة فَهِيَ صفته تَعَالَى لَا يُشَارِكهُ فِيهَا شَيْء وَهُوَ الْوَصْف الَّذِي كَانُوا عرفوه فِي الدُّنْيَا بقوله {لَيْسَ كمثله شَيْء} وَلذَلِك قَالُوا إِذا جَاءَنَا رَبنَا عَرفْنَاهُ
قَالَ الْقُرْطُبِيّ وَلَا يستبعد إِطْلَاق الصُّورَة بِمَعْنى الصّفة فَمن المتداول أَن يُقَال صُورَة هَذَا الْأَمر كَذَا أَي صفته وَقيل الْكَلَام خرج مخرج المشاكلة للفظ الصُّورَة وَالله أعلم وَمذهب السّلف أسلم
وَمن الْمُتَشَابه السَّاق فِي قَوْله تَعَالَى {يَوْم يكْشف عَن سَاق وَيدعونَ إِلَى السُّجُود} الْقَلَم 42
وَقَوله عليه السلام فِي حَدِيث البُخَارِيّ وَمُسلم قَالُوا يَا رَسُول الله هَل نرى رَبنَا يَوْم الْقِيَامَة وَفِيه فَيَقُول هَل بَيْنكُم وَبَينه آيَة تعرفونه بهَا فَيَقُول نعم فَيكْشف عَن سَاق فَلَا يبْقى من كَانَ يسْجد لله من تِلْقَاء نَفسه إِلَّا أذن الله لَهُ بِالسُّجُود وَلَا يبْقى من كَانَ اتقاء ورياء إِلَّا جعل الله ظَهره طبقَة وَاحِدَة كلما أَرَادَ أَن يسْجد خر على قَفاهُ الحَدِيث
وَفِي بعض طرق البُخَارِيّ يكْشف رَبنَا عَن سَاقه
قَالَ الْخطابِيّ هَذَا الحَدِيث مِمَّا تهيب القَوْل فِيهِ شُيُوخنَا فأجروه على ظَاهر لَفظه وَلم يكشفوا عَن بَاطِن مَعْنَاهُ على نَحْو مَذْهَبهم فِي التَّوْقِيف عِنْد تَفْسِير كل مَا لَا يُحِيط الْعلم بكنهه من هَذَا الْبَاب
وَقَالَ أهل التَّأْوِيل هَذَا يؤول على معنى شدَّة الْأَمر وهوله
قَالَ الْجَوْهَرِي وَغَيره فِي قَوْله تَعَالَى {يَوْم يكْشف عَن سَاق} أَي عَن شدَّة كَمَا يُقَال قَامَت الْحَرْب على سَاق
وروى الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك من طَرِيق عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس أَنه سُئِلَ عَن قَوْله تَعَالَى {يَوْم يكْشف عَن سَاق} فَقَالَ إِذا خَفِي عَلَيْكُم شَيْء من الْقُرْآن فابتغوه من الشّعْر فَإِنَّهُ ديوَان الْعَرَب أما سَمِعْتُمْ قَول الشَّاعِر
…
قد سنّ لي قَوْمك ضرب الْأَعْنَاق
…
وَقَامَت الْحَرْب بِنَا على سَاق
…
قَالَ ابْن عَبَّاس هَذَا يَوْم كرب وَشدَّة
وَعَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى
{يَوْم يكْشف عَن سَاق} قَالَ هُوَ الْأَمر الشَّديد المفظع من الهول يَوْم الْقِيَامَة
وَقَالَ بعض الْأَعْرَاب وَكَانَ يطرد الطير عَن الزَّرْع فِي سنة جدبة
…
عجبت من نَفسِي وَمن إشفاقها
…
وَمن طرادي الطير عَن أرزاقها
…
فِي سنة قد كشفت عَن سَاقهَا
…
وَفِي الْبَيْضَاوِيّ {يَوْم يكْشف عَن سَاق} أَي يَوْم يشْتَد الْأَمر ويصعب الْخطب وكشف السَّاق مثل فِي ذَلِك أَو يَوْم يكْشف عَن أصل الْأَمر وَحَقِيقَته بِحَيْثُ يصير عيَانًا مستعار من سَاق الشّجر وسَاق الْإِنْسَان
وَفِي الْقَامُوس {والتفت السَّاق بالساق} آخر شدَّة الدُّنْيَا بِأول شدَّة الْآخِرَة يذكرُونَ السَّاق إِذا أَرَادوا شدَّة الْأَمر والإخبار عَن هوله انْتهى
وَقَالَ بَعضهم لَا يُنكر أَن الله سُبْحَانَهُ قد يكْشف لَهُم عَن سَاق لبَعض المخلوقين من مَلَائكَته أَو غَيرهم وَيجْعَل ذَلِك سَببا لما شَاءَ من كَلمته فِي أهل الْإِيمَان والنفاق
قَالَ الْخطابِيّ وَفِيه وَجه آخر لم أسمعهُ من قدوة وَقد
يحْتَملهُ معنى اللُّغَة سَمِعت أَبَا عَمْرو يذكر عَن أَحْمد بن يحيى النَّحْوِيّ قَالَ والساق النَّفس وَمِنْه قَول عَليّ رضي الله عنه حِين رَاجعه أَصْحَابه فِي قتال الْخَوَارِج وَالله لأقاتلهم وَلَو تلفت ساقي يُرِيد نَفسه
قَالَ الْخطابِيّ فقد يحْتَمل على هَذَا أَن يكون المُرَاد التجلي لَهُم وكشف الْحجب حَتَّى إِذا رَأَوْهُ سجدوا لَهُ
قَالَ وَلست أقطع بِهِ القَوْل وَلَا أرَاهُ وَاجِبا فِيمَا أذهب إِلَيْهِ من ذَلِك
قَالَ الْقُرْطُبِيّ هَذَا أصح مَا قيل فِي ذَلِك وَقد ورد بِمَعْنَاهُ حَدِيث ذَكرْنَاهُ فِي كتَابنَا التَّذْكِرَة انْتهى
وَجَاء من حَدِيث روح بن جنَاح مَرْفُوعا فِي قَوْله تَعَالَى {يَوْم يكْشف عَن سَاق} قَالَ عَن نور عَظِيم لَهُ سجدوا لَكِن قَالَ الْبَيْهَقِيّ روح بن جنَاح يَأْتِي بِأَحَادِيث مُنكرَة لَا يُتَابع عَلَيْهَا وَالله تَعَالَى أعلم
وَأما الرجل والقدم فَفِي صَحِيح البُخَارِيّ وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ عَن أنس بن مَالك رضي الله عنه أَن نَبِي الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا تزَال جَهَنَّم تَقول هَل من مزِيد حَتَّى يضع رب الْعِزَّة فِيهَا قدمه
فَتَقول قطّ قطّ وَعزَّتك وتزوي بَعْضهَا إِلَى بعض
وَفِي البُخَارِيّ فَيَضَع الرب قدمه عَلَيْهَا فَتَقول قطّ قطّ فهناك تمتلئ وينزوي بَعْضهَا إِلَى بعض
وَفِي بعض الطّرق حَتَّى يضع الْجَبَّار فِيهَا قدمه
وَفِي مُسلم فَلَا يزَال فِي الْجنَّة فضل حَتَّى ينشئ الله لَهَا خلقا فيسكنهم فضل الْجنَّة
قَالَ التِّرْمِذِيّ وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم رِوَايَات كَثِيرَة فِي مثل هَذَا وَالْمذهب فِي هَذَا عَن أهل الْعلم من الْأَئِمَّة مثل سُفْيَان الثَّوْريّ وَمَالك بن أنس وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَابْن الْمُبَارك ووكيع وَغَيرهم أَنهم قَالُوا نروي هَذِه الْأَحَادِيث ونؤمن بهَا وَلَا يُقَال كَيفَ وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ أهل الحَدِيث أَن يرووا هَذِه الْأَشْيَاء كَيفَ جَاءَت ويؤمن بهَا وَلَا تفسر وَلَا يتَوَهَّم وَلَا يُقَال كَيفَ قَالَ وَهَذَا أَمر أهل الْعلم الَّذِي أختاروه وذهبوا إِلَيْهِ
وَقَالَ الْخطابِيّ كَانَ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام وَهُوَ أحد
أنهياء أهل الْعلم يَقُول نَحن نروي هَذِه الْأَحَادِيث وَلَا نريغ لَهَا الْمعَانِي
قَالَ الْخطابِيّ وَنحن أَحْرَى أَن لَا نتقدم فِيمَا تَأَخّر عَنهُ من هُوَ أَكثر منا علما وأقدم زَمَانا وسنا وَلَكِن الزَّمَان الَّذِي نَحن فِيهِ قد صَار أَهله حزبين مُنكر لما يرْوى من هَذِه الْأَحَادِيث ومكذب بِهِ أصلا وَفِي ذَلِك تَكْذِيب الْعلمَاء الَّذين رووا هَذِه الْأَحَادِيث وهم أَئِمَّة الدّين وثقة السّنَن والواسطة بَيْننَا وَبَين رَسُول الله صلى الله عليه وسلم
والطائفة الْأُخْرَى مسلمة للرواة فِيهَا ذَاهِبَة فِي تَحْقِيق الظَّاهِر مِنْهَا مذهبا يكَاد يُفْضِي إِلَى القَوْل بالتشبيه وَنحن نرغب عَن الْأَمريْنِ مَعًا وَلَا نرضى بِوَاحِد مِنْهُمَا فيحق علينا أَن نطلب لما يرد من هَذِه الْأَحَادِيث إِذا صحت من طَرِيق النَّقْل والسند تَأْوِيلا
وَقَالَ أهل التَّأْوِيل الْقدَم هَا هُنَا يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ من قدمهم الله للنار من أَهلهَا وكل شَيْء قَدمته فَهُوَ قدم وَالْعرب تطلق الْقدَم على السَّابِقَة فِي الْأَمر
قَالَ النَّضر بن شُمَيْل فِي معنى قَوْله حَتَّى يضع الْجَبَّار فِيهَا قدمه أَي من سبق فِي علمه أَنه من أهل النَّار
قَالَ الْخطابِيّ وَقد تَأَول بَعضهم الرجل على نَحْو هَذَا
قَالَ وَالْمرَاد بِهِ عدد اسْتِيفَاء الْجَمَاعَة الَّذين استوجبوا دُخُول النَّار وَالْعرب تسمي جمَاعَة الْجَرَاد رجلا كَمَا سموا جمَاعَة الظباء سربا واستعير ذَلِك لجَماعَة النَّاس
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ وَقيل إِن هَؤُلَاءِ قوم تَأَخّر دُخُولهمْ فِي النَّار وهم جماعات لِأَن أَهلهَا يلقون فِيهَا فوجا فوجا كَمَا قَالَ تَعَالَى {كلما ألقِي فِيهَا فَوْج سَأَلَهُمْ خزنتها} الْملك 8 فالخزنة تنْتَظر أُولَئِكَ الْمُتَأَخِّرين إِذْ قد علموهم بِأَسْمَائِهِمْ وأوصافهم فَإِذا استوفى كل وَاحِد مِنْهُم مَا أَمر بِهِ وَلم يبْق أحد قَالَت الخزنة قطّ قطّ أَي حَسبنَا حَسبنَا أَي اكتفينا اكتفينا وَحِينَئِذٍ تنزوي جَهَنَّم على من فِيهَا وتنطبق إِذْ لم يبْق أحد ينْتَظر فَعبر عَن ذَلِك الْجمع المنتظر بِالرجلِ والقدم لَا أَن الله تَعَالَى جسم من الْأَجْسَام تَعَالَى الله عَن ذَلِك
وَقَالَ بَعضهم الْقدَم خلق من خلق الله تَعَالَى يخلقه يَوْم الْقِيَامَة فيسميه قدما ويضعه فِي النَّار فتمتلئ مِنْهُ
وَقَالَ بَعضهم المُرَاد بالقدم هُنَا قدم خلقه
وَقَالَ ابْن فورك قَالَ بَعضهم الْقدَم خلق من خلق الله يخلقه يَوْم الْقِيَامَة فيسميه قدما ويضيفه إِلَيْهِ من طَرِيق الْفِعْل يَضَعهُ فِي النَّار فتمتلئ مِنْهُ