المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(1 - 3) ثلاث رسائل في أصول التصحيح العلمي - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - مقدمة ٢٣

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌(1 - 3) ثلاث رسائل في أصول التصحيح العلمي

(1 - 3) ثلاث رسائل في أصول التصحيح العلمي

كان الشيخ المعلمي رحمه الله من العلماء المحققين بالمعنى الحقيقي للكلمة، ومن الطراز الأول من المحققين بمعناها الاصطلاحي المحدَث، فهو من طبقة الأستاذ عبد العزيز الميمني والشيخ أحمد شاكر والأستاذ محمود شاكر رحمهم الله.

وقد مارس الشيخ هذه الصناعة أكثر من خمس وعشرين سنة في دائرة المعارف العثمانية بحيدراباد، ولم ينقطع عنها بعد عودته إلى الحجاز واستقراره في مكتبة الحرم المكي الشريف. وآخر ما حققه الجزء السادس من كتاب الإكمال لابن ماكولا، والجزء السادس أيضًا من كتاب الأنساب للسمعاني، وذلك قبل وفاته سنة 1386 هـ. فهذه نحو 41 سنة سلخها الشيخ المعلمي في البحث والتحقيق، وأخرج كتبًا جليلة من كتب الحديث والرجال ذوات المجلدات، منها:"التاريخ الكبير" للإمام البخاري، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم، و"الإكمال" لابن ماكولا، و"الأنساب" للسمعاني. وتحقيق هذا الصنف من الكتب أصعب ما يكون، فإنها معقودة على أسماء الرجال وكناهم وألقابهم وأنسابهم، مما لا يدخل فيه القياس، ولا يعين على معرفته السياق. وقد أبان الشيخ في تحقيقه لها عن علم غزير، ونظر ثاقب، وخبرة فائقة، وإتقان بالغ.

وكان الشيخ عالمًا متفننًا كالعلماء السابقين ولكن العلم الذي برّز فيه خصوصًا هو علم الحديث والرجال. وفن التحقيق أصلًا من فنون علم الحديث، فالمحدِّثون هم الذين أسسوا قواعده وشيّدوا أركانه. ومارس الشيخ هذا الفن في مؤسسة عريقة قامت لنشر أمهات كتب الإسلام، ولها

ص: 6

طريقة معينة في التصحيح العلمي والتصحيح المطبعي. فجرَّب الشيخ هذا العمل المؤسسي زمنًا طويلًا، وعرف مواطن الإصابة ومداخل الخلل في مراحله المختلفة، وخبَرَ أحوال المصححين من زملائه وغيرهم، ثم وقف على الطرق التي كان يسلكها أصحاب المطابع لنشر الكتب القديمة في مصر وغيرها. فعزم على تأليف رسالة جامعة في أصول هذه الصناعة، وبيان أسلم الطرق الضامنة لصحة المطبوعات وللربح المادي لناشريها أيضًا. ولا ريب أن هذه الصفات العلمية والعملية التي اجتمعت في شخصيته قد جعلته أحقَّ الناس بالتأليف في هذا الموضوع وأقدرَهم عليه.

وقد وجدنا في آثار الشيخ ثلاث رسائل إحداها مبيضة، والأخريان مسودتان. وافتتح مسودته الأولى بقوله:"فإني منذ بضع سنين مشتغل بتصحيح الكتب العلمية في مطبعة "دائرة المعارف العثمانية" وتبيَّن لي بعد الممارسة قيمة التصحيح العلمية والعملية، وما ينبغي للمصحح أن يتحقق به أولًا، ثم ما يلزمه أن يعمل به ثانيًا. ورأيت غالب الناس في غفلة عن ذلك أو بعضه. فمن لم يشتغل بقراءة الكتب العلمية ومقابلتها وتصحيحها يبخس التصحيح قيمته، ويظنه أمرًا هينًا لا أهمية له، ولا صعوبة فيه. ولما كان أكثر المتولين أمور المطابع من هذا القبيل عظمت المصيبة بذلك".

وقال في مقدمة مسودته الثانية: "فإني عنيت زمانًا بتصحيح الكتب وإعدادها للطبع، ثم بتصحيحها حال الطبع، فتبيَّن لي بطول الممارسة غالب ما يحتاج إليه في هذه الصناعة. وخبرتُ أحوال جماعة من المصححين، وتصفحت مع ذلك كثيرًا من الكتب التي تطبع في مصر وغيرها، وعرفت ما اعتمده مصححوها. ورأيت مع ذلك أن أكثر الناس متهاونون بهذه الصناعة،

ص: 7

يرون أنه يكفي للقيام بها اليسير من العلم، واليسير من العمل! فأحببت أن أجمع رسالة في التصحيح، أشرح فيها ما يتعلق به".

واستهل مبيضته قائلًا: "فهذه رسالة فيما على المتصدين لطبع الكتب القديمة مما إذا وفوا به فقد أدَّوا ما عليهم من خدمة العلم والأمانة فيه، وإحياء آثار السلف على الوجه اللائق، وتكون مطبوعاتهم صالحة لأن يثق بها أهل العلم".

هذه المقدمات الثلاث التي تكشف عن الأسباب التي دعت الشيخ إلى تأليف رسالة مستقلة في فن التحقيق تقودنا إلى قضية أخرى أيضًا تتعلق بتاريخ التأليف في هذا الموضوع.

يستوقفنا أولًا قول الشيخ في مقدمة مسودته الأولى: "فإني منذ بضع سنين مشتغل بتصحيح الكتب العلمية في مطبعة دائرة المعارف العثمانية، وتبين لي بعد الممارسة

".

كلمة "بضع" تستعمل في اللغة للكناية عن العدد من الثلاثة إلى التسعة، وقد أشار الشيخ إلى ممارسته للتصحيح، وثلاث سنوات أو أربع قليلة لمثل هذه الممارسة، فإذا فرضنا أنه أراد بكلمة "بضع" سبع سنوات، فمعنى ذلك أنه سوّد هذه الرسالة سنة 1352 (1933 م) وإن كان المقصود أقصى ما يراد بها فقد سوَّدها سنة 1354 (1935 م) أو قريبًا منها، فإنه التحق بالدائرة العثمانية في أوائل سنة 1345. وأنت خبير بأن المستشرق الألماني برجشتراسر ألقى محاضراته "أصول نقد النصوص ونشر الكتب" في كلية الآداب بجامعة القاهرة سنة 1931 م، ولكنها نشرت سنة 1969 م. فيكون زمن تسويد الشيخ لرسالته مقاربًا لزمن محاضرات برجشتراسر.

ص: 8

وفي فصل تجده في المسودة الثانية ذكر الشيخ أن تحت يده الآن للتصحيح كتاب "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم. وقد حقق الشيخ كتاب "تقدمة الجرح والتعديل (وأرَّخ مقدمته في 23 شوال سنة 1371) والمجلدين الأول والثاني والقسم الأول من المجلد الرابع، وكلها طبعت في سنتي 1371 - 1372 (1952 - 1953 م)، فلا شك أن تحقيقها قد تم قبل ذلك، وربما في سنتي 1369 - 1370 (1950 - 1951 م).

ولما ذكر الشيخ في المبيضة مراحل المقابلة وتصحيح التجارب قال: "والعادة في مطبعتنا" يعني: مطبعة دائرة المعارف العثمانية، وهذا يدل على أنه بيَّض الرسالة وهو في حيدراباد. وقد وصل الشيخ إلى مكة المكرمة سنة 1371 (1952 م). وأنت خبير أيضًا بأن كتاب الأستاذ عبد السلام هارون "تحقيق النصوص ونشرها" صدر سنة 1954 م.

وتبيَّن من هذا التفصيل أن رسائل الشيخ هذه من أول ما كُتِب باللغة العربية في فن التحقيق، وأن الشيخ المعلمي رحمه الله أول عالم أفرد كتابًا في أصول هذا الفن. ورسالته المبيضة مع عدم تمامها قد عالجت المسائل التي هي من لبِّ الموضوع وصميمه معالجة علمية دقيقة منظمة. وقد ألحقنا بها المسودتين لاشتمالهما على فصول وفوائد وأمثلة لا تجدها في المبيضة، وإن أدى ذلك إلى بعض التكرار.

سمَّى الشيخ مسودته الأولى "أصول التصحيح"، أما المسودة الثانية والمبيضة فلم يضع لهما عنوانًا، فسميتهما "أصول التصحيح العلمي". وقد آثر الشيخ "التصحيح العلمي" على مصطلح "التحقيق"، فقال في المبيضة:"اصطلح المصريون أخيرًا على تسمية التصحيح العلمي "تحقيقًا" تمييزًا له

ص: 9

عن التصحيح الطباعي، والأوضح: التمييز بالصفة، كما ترى". يعني: إذا أردت التمييز بين نوعي التصحيح وصفتَه بالطباعي أو العلمي، وإلا اكتفيت بكلمة التصحيح، والسياق يبيِّن المقصود، فلن يخيَّل إلى أحد إذا رأى على غلاف الكتاب:"صحَّحه فلان" أن المقصود: صحح تجاربه!

وإذا رأى المرء ما ابتليت به كلمةُ "التحقيق" في زماننا من الهوان والامتهان تمنَّى لو استمرَّ الباحثون على كلمة "التصحيح" التي لم تكن قاصرة عن أداء المقصود، وظلَّت كلمة التحقيق ومشتقاتها مصونة من أيدي العابثين المبطلين.

وأهل الفارسية لا يزالون يسمُّون هذه الصناعة "التصحيح"، بل ترى من كبار محققيهم من يقتصرـ مع استفراغ وسعه في تحقيق النص وإتقانه إتقانًا بالغًا ــ على أن يثبت على غلاف الكتاب:"باهتمام فلان" أي باعتنائه، أو "بكُوشِشِ فلان" أي بسعيه. والعمل هو الذي يشهد بدرجة اعتنائه ومبلغ سعيه.

وغفر الله لشيخ العروبة أحمد زكي باشا الذي أثبت على بعض كتبه كلمة "التحقيق"، فتبعه الآخرون. ثم استُهتر بها الناس، وكثير منهم لا يعنيهم مفهومها وحقيقتها بقدر ما يعنيهم لفظها ورنينها، فيثبتها أحدهم على غلاف كتابه مزهوًّا بها، ويمشي في الأرض مرحًا، وإن كان عمله في الكتاب لم يزده إلا فسادا.

ولنستعرض الآن محتويات الرسائل الثلاث مع وصف أصولها الخطية.

ص: 10