المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الرسالة الأولى (مبيضة) - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - مقدمة ٢٣

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌ الرسالة الأولى (مبيضة)

*‌

‌ الرسالة الأولى (مبيضة)

أصل هذه الرسالة محفوظ في مكتبة الحرم المكي برقم 4782، وهو في أربعين ورقة من دفتر مسطّر من صُنع الهند، وكتب الشيخ في وجه واحد من الورقة، فالرسالة إذن في أربعين صفحة، وفي كل صفحة 15 سطرًا. وهي مبيضة واضحة لا نجد فيها التعديلات والإلحاقات إلا قليلًا، خلافًا لكثير من مبيضات الشيخ التي تتحول بعد أوراق إلى مسودات جديدة.

لم يضع الشيخ عنوانًا لرسالته كما سبق آنفا، فسمَّوها عند الفهرسة:"رسالة فيما على المتصدِّين لطبع الكتب القديمة" أخذًا مما جاء في فاتحة الرسالة: "فهذه رسالة فيما على المتصدين لطبع الكتب القديمة مما إذا وفوا به فقد أدَّوا ما عليهم من خدمة العلم والأمانة فيه، وإحياء آثار السلف على الوجه اللائق

". وسيأتي أن المؤلف رحمه الله سمَّى مسودته الأولى "أصول التصحيح"، ثم في هذه الرسالة أطلق على ما يسمى الآن بالتحقيق: "التصحيح العلمي" فرأينا أنسب عنوان لها "أصول التصحيح العلمي".

والرسالة مع الأسف ليست كاملة، وذكر المؤلف رحمه الله في فاتحتها أنها "مرتبة على مقدمة و

أبواب وخاتمة". فترك بياضًا قبل كلمة "أبواب"، ولا ندري كم بابًا كان في نيته، ولكن مقتضى كلمة "الأبواب" أن لا تكون أقل من ثلاثة، والرسالة في وضعها الراهن تشتمل على مقدمة وبابين فقط.

المقدمة طويلة في 16 صفحة من الأصل، فهي أكثر من ثلث الرسالة. وهي مقدمة نفيسة بدأها بالكلام على حال العلم في صدر الإسلام كيف كان يتلقَّى من أفواه العلماء ويحفظ في الصدور، ومنهم من كان يكتب. ثم اتسع

ص: 11

العلم، وأطبق أناس على الكتابة مع الحرص على الحفظ، وكانوا يبالغون في حفظ كتبهم. ثم ذكر وجوه التلقي وأحوال كتب العلماء التي كانوا يعتمدون عليها بخط أيديهم. قال:"فلما كثرت المصنفات، واشتهرت نسخها، وطالت الأسانيد، وضعفت الهمم= توسع الناس في الإجازة إلى أن صارت الرواية صورة لا روح فيها، وانحصر الأمر في كون النسخة موثوقًا بها".

ثم أشار إلى درجات الثقة بالنسخة، وأن الفرع كلّما بعد عن أصل المصنف ضعفت الثقة به.

ثم تكلم على أسباب اختلاف الفرع عن الأصل، وأفاض القول فيها. وذكر تسعة أسباب، منها: التصحيف، ومنها: اشتباه الحرف بآخر أو كلمة بأخرى في كثير من الأصول لتعليق الخط أو رداءته أو قرمطته، وأورد أمثلة لذلك من كتاب "التاريخ الكبير" للإمام البخاري. ومنها: خطأ الناقل في إقحام الحاشية في المتن، والتحريف السمعي، والتحريف الذهني، وتصرُّف النساخ، وتصرُّف القراء جهلًا أو خيانةً.

ثم انتقل من الكتاب المخطوط إلى الكتاب المطبوع، وذكر المراحل التي يمرُّ بها الكتاب عادة في المطابع، وذكر الطريقة المتبعة في دائرة المعارف العثمانية. ووصف حال هذا الكتاب واختلاف درجات صحته بحسب حال الأصل، وحال ناسخ المسودة منه، ثم حال المقابلَين على الأصل وعلى أصل آخر، ثم حال المصحح العلمي من العلم والثقة والأمانة، وما دفع له من المكافأة وما فسح له من الوقت؛ ثم حال مركبي الحروف، ثم مقابلة التجارب على المسودة. فلا عجب أن يجيء المطبوع

ص: 12

بعض الأحيان أردأ وأكثر غلطًا من الأصل الخطي. يقول الشيخ: "وقد جرَّبتُ هذا، نظرتُ في بعض الكتب المطبوعة، فهالني ما فيه من كثرة الأغلاط، ثم ظفرتُ بالأصل الخطي الذي طبع عنه ذلك الكتاب، فإذا هو بريء من كثير مما في المطبوع من الأغلاط، إن لم أقل: من أكثرها".

وهذا الوضع هو الذي دعا الشيخ إلى أن يقترح نظامًا لتصحيح الكتب القديمة ونشرها. فقال: "فإذا أراد المتصدي لطبع الكتب القديمة السلامة من مثل هذا، والحصول على الغاية المنشودة من خدمة العلم وحسن السمعة ورواج المطبوعات، فما عليه إلا أن يتبع النظام الآتي إن شاء الله"(ص 17).

هنا تنتهي هذه المقدمة النفيسة المستفيضة. ويأتي بعدها بابان: الأول في "الأعمال التي قبل التصحيح العلمي". وذكر تحته ستة أعمال:

1 -

انتخاب كتاب للطبع.

2 -

انتخاب نسخة للنقل وصفاتها.

3 -

انتخاب ناسخ للمسودة وصفاته.

4 -

نسخ المسودة (والأمور التي يُلزَم الناسخ بها، وهي 12 أمرًا).

5 -

مقابلة المسودة على الأصل (وصفات المقابلَين والأمور التي يجب أن يلتزما بها، وهي 11 أمرًا).

6 -

مقابلة المسودة على أصل آخر فأكثر.

ولا ننسَ أن الشيخ يتحدث هنا عن عمل مؤسسي لتصحيح الكتب القديمة ونشرها، يشترك فيه ناسخ من المخطوط، ومقابلان للنسخة المنقولة على المخطوط أو عليه وعلى مخطوطات أخرى، والمصحح العلمي، ثم

ص: 13

المصحح الطباعي.

ولكن الأمور التي ذكر الشيخ أنه يجب التزامها على الناسخ وكذلك على المقابلين أمور مهمة جدًّا، ويجب أن يؤخذ بها في العمل الفردي أيضًا. ولم أر من ذكر هذه الأمور على هذا الوجه من الدقة والتفصيل.

وفي مستهلّ هذا الباب عرض المؤلف رحمه الله فكرة عظيمة الخطر، وهي الرجوع عند انتخاب الكتب للطبع إلى هيئة علمية من كبار العلماء المتفننين، قال:"وحبذا لو أن الأزهر بمصر يقوم بهذه المهمة العظمى، وذلك بالإيعاز بجمع فهرس عام للكتب المهمة التي لم تطبع، وبيان موضعها من مكاتب العالم مع ما تيسر من وصف النسخ؛ ثم يُعرض على هيئة كبار العلماء لترتيبها على مراتب في الأهمية واستحقاق تقديم الطبع، ثم يُنشر الفهرس مرتبًا ذلك الترتيب، ويُتقدّم إلى الراغبين في طبع الكتب أن يجرُوا على حسب ذلك. ثم كلُّ من أراد طبع كتاب كان عليه أن يراجع الهيئة لتُقيِّد اسمه عندها وتُعرِّفه بما يلزم، مثل إبلاغه أن غيره قد التزم طبع الكتاب، أو تنبيهه على اطلاع الهيئة على نسخة أو أكثر زيادة على ما في الفهرس، وغير ذلك. وبهذا يأمن الراغبون في الطبع من الخطأ في الانتخاب، ومن الغلط في ظن أن الكتاب لم يطبع، ويعرفون مواضع النسخ. وفي ذلك مصلحة للعلم وأهله ولأصحاب المطابع. ويمكن توسيع دائرة التعاون إلى حد بعيد"(ص 18 - 19).

وقد أنشئ "معهد إحياء المخطوطات العربية" سنة 1946 م بالقاهرة، وكان أحد أقسام اللجنة الثقافية بجامعة الدول العربية. لم يشر الشيخ المعلمي إلى هذا المعهد لأنه لم يشتهر أمره- فيما يبدو- حينما ألَّف هذه

ص: 14

الرسالة. وقد قام المعهد بجزء من اقتراح الشيخ، وهو تصوير المخطوطات العربية وفهرستها وإعدادها للباحثين، وإن كان اقتراحه في هذه البابة أيضًا أشمل من ذلك. وتحقَّق جزء منه أيضًا فيما بعد في صورة "الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي المخطوط" الذي أصدرته مؤسسة آل البيت في عمَّان. وكان المعهد حريًّا بأن يكون مرجعًا للناشرين لتقييد أسمائهم عندها حتى لا يتكرر نشر الكتب نفسها في جهات مختلفة. ولكن ترتيب الكتب في كل فن على مراتبها من الأهمية واستحقاق تقديمها في الطبع كان يقتضي إنشاء هيئة لكبار العلماء من كل فن تُعاوِن معهد المخطوطات بهذا الصدد. ولو تحققت هذه الفكرة ــ كما وصفها الشيخ ــ لانتظمت أمور النشر، ونجت من الفوضى والتكرار، وأمكن إنقاذ كثير من الجهود والأوقات والأموال من أن تذهب هباء منثورًا؛ وإن كانت المؤسسات العلمية والأعمال الجماعية قلما تفلح في بلادنا العربية، ولا سيما إذا كانت رسمية، فسرعان ما تغتالها السياسة الفتَّانة القتَّالة!

أما الباب الثاني فعنوانه: "تصحيح الكتاب". ذكر في أوله أن التصحيح يطلق على عملين: الأول: التصحيح العلمي لكتاب بنفي ما في الأصل أو الأصول من الخطأ وترتيب مسودة صحيحة. والثاني: تصحيح الطبع بنفي ما يقع في تركيب حروف الطبع من الخطأ وتطبيق المطبوع على المسودة الصحيحة. ثم قال: إن هذا الباب معقود للتصحيح العلمي، وفيه مباحث.

ومما يبعث على الأسف أنه لم يوجد في الأصل إلا المبحث الأول في الحاجة إلى التصحيح العلمي، ولا ندري ماذا كان يريد أن يتكلم عليه في المباحث الأخرى.

ص: 15

ذكر في هذا المبحث أولًا أربعة آراء أو طرق لطباعة الكتب القديمة وتصحيحها استظهرها من ممارسته ودراسته للكتب المطبوعة، مع ذكر عيوب كل طريقة منها، ثم بيَّن الرأي المختار عنده.

الرأي الأول منها: أنه يكفي في إحياء الكتاب إذا وجدت منه نسخة قديمة جيدة أن يطبَّق المطبوع عليها. ولاحظ الشيخ على هذا الرأي أنه لا يمكن تطبيق المطبوع على الأصل المخطوط، وفصَّل أسباب ذلك ومفاسد هذا الرأي تفصيلًا.

والرأي الثاني: أن لا يُطبع كتاب إلى أن يحصل على نسختين أو أكثر، فتُجعل واحدة أصلًا، وينبَّه في الحواشي على فروق الأخرى.

والثالث كالذي قبله إلا أنه يزيد بمراجعة كثير من المظان مع التنبيه على الاختلافات.

وفي الرابع يقول الشيخ: "يظهر من تصفح كثير من المطبوعات أنه اعتمد فيها التصحيح العلمي إلا أن مصححيها أغفلوا التنبيه على ما خالفوا فيه الأصل أو بعض الأصول، واقتصروا على إثبات ما رأوه الصواب". ثم بيَّن خلل هذه الطريقة من ثلاث جهات.

بعد هذه الطرق الأربعة وبيان مفاسدها، تكلم الشيخ على الرأي المختار عنده فقال: "تصحيح الكتاب معناه: جعله صحيحًا، ولصحة المطبوع ثلاثة اعتبارات: الأول: مطابقته لما في الأصل القلمي فأكثر. الثاني: مطابقة ما فيه لما عند المؤلف. الثالث: مطابقة ما فيه للواقع في نفس الأمر

فالتصحيح العلمي حقُّه مراعاة الأوجه الثلاثة" (ص 37).

ص: 16

وقد مثَّل الشيخ باسم "عرابي بن معاوية"، وهو الصحيح، وذكره البخاري بغين معجمة وراء (غرابي). فإذا وقع في نسخة من تاريخ البخاري:"عزابي" بعين مهملة وزاي، فإن أثبت كذلك في المتن كان صحيحًا بالنظر إلى ما في الأصل، لكنه خطأ بالنظر إلى ما عند المؤلف. وإن أثبت "عرابي" كان صحيحًا بالنظر إلى ما في نفس الأمر لكنه مخالف لما في الأصل ولما عند المؤلف. وإن أثبت "غرابي" صح بالنظر لما عند المؤلف، ولكنه مخالف لما في الأصل وخطأ في نفس الأمر. وإذا أثبت أحد الأوجه الثلاثة دون التنبيه على خلافه كان الظاهر أنه كذلك في النسخة وعند المؤلف وفي نفس الأمر، فيكون ذلك خطأ وكذبًا من وجهين حسب قول الشيخ.

يقول الشيخ: "فالتصحيح العلمي حقُّه مراعاة الأوجه الثلاثة

والصواب في هذا المثال أن يثبت في المطبوع بالغين المعجمة والراء، لأن الكتاب كتاب البخاري، والمقصود فيه نقل كلامه بأمانته، وأهل العلم ينقلون عن الكتاب فيقول أحدهم: قال البخاري في التاريخ: "

" فيسوق العبارة كما يجدها في المطبوع. ثم لْيُنبَّه في الحاشية على الوجهين الأخيرين، كأن يقول: "هكذا يقوله البخاري بدليل "

"، ووقع في الأصل "عزابي"، وقال فلان "

" فيذكر ما صححه أهل العلم من أنه "عرابي" بالعين المهملة والراء (38).

ثم ذكر الشيخ ماذا ينبغي أن يعمل إذا لم يعرف ما عند المؤلف، أو لم يعرف ما في نفس الأمر، وعند اختلاف الأصول، أو اختلاف كتب المؤلف، وحالات أخرى.

ثم عقد فصلًا لشرح الأمور الضامنة للوفاء بما تقدم، فإنه "ليس بالأمر

ص: 17