المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مدخل … المستشرقون في الميزان بقلم: الأستاذ عبد العزيز القاري المدرس بالجامعة الإسلامية تاريخ حركة - المستشرقون في الميزان

[عبد العزيز القارئ]

الفصل: ‌ ‌مدخل … المستشرقون في الميزان بقلم: الأستاذ عبد العزيز القاري المدرس بالجامعة الإسلامية تاريخ حركة

‌مدخل

المستشرقون في الميزان

بقلم: الأستاذ عبد العزيز القاري

المدرس بالجامعة الإسلامية

تاريخ حركة الاستشراق متى وكيف بدأت وما هي أسباب نشوئها.

من القرن الخامس الميلادي حتى أواخر القرن الرابع عشر الميلادي فترة من تاريخ أوروبا النصرانية يسمونها هم (العصور الوسطى) ويعدونها عصورا مظلمة حيث كانت شعوب الفرنجة تعيش حياء همجية بائسة في ظلال كنيسة متسلطة مستبدة ولكن كان أبرز حدث في تاريخ هذه الفترة هي تلك النافذة التي فتحت في جنوب أوروبا الغربي لتطل منه على الحضارة الإسلامية وذلك بوصول طلائع المسلمين إلى الأندلس وإقامتهم صرح الحضارة الإسلامية فيها والتي امتدت إلى أواخر القرن الرابع عشر الميلادي أي حوالي سبعة قرون

كانت فيها الأندلس مركزا حضاريا في هذا الجزء من أوروبا يشع عليها آثاره في زحف هادئ في معظم الأحيان ثم في صورة هجمات قوية كادت تخترق فرنسا إلى قلب أوروبا في أحيان أخرى.

وكان لهذه الحضارة الإسلامية أثر كبير على حياة الشعوب الأوروبية فأخذ الفرنجة يرتادون الأندلس كمركز حضاري ثقافي عظيم ينهلون فيه من مناهل العلوم

ص: 124

والحكمة ويكفي أن نتصور قرطبة - أعظم حواضر الأندلس الإسلامية - وقد أضحت مكونة من مائتين وخمسين ألفا من القصور والمساكن الراقية يسكنها ألف ألف من المسلمين والنصارى واليهود، وأنه كان فيها دكان النسخ الواحد يستخدم مائة وسبعين جارية في نقل المؤلفات النادرة لطلاب الكتب، وأنه كان في قصر الخليفة أربعمائة ألف كتاب1.

ومهما وصفنا أو أثنينا على حضارتنا تلك فإن شهادة الأوروبيين أنفسهم أبلغ في هذا المجال فلنستمع للكاتب الأسباني بلاسكو أبانيز يقول في كتاب له اسمه ظلال الكنيسة:

في خلال سنتين اثنتين استولى الغزاة على ملك قضى مستردوه سبعة قرون كاملة في استرداده، ولم يكن في الواقع فتحا فرض على الناس برهبة السلاح بل حضارة جديدة بسطت شعابها على جميع مرافق الحياة، ولم يتخل أبناء تلك الحضارة زمنا عن فضيلة حرية الضمير وهي الدعامة التي تقوم عليها كل عظمة حقة للشعوب فقبلوا في المدن التي ملكوها كنائس النصارى وبيع النهود ولم يخش المسجد معابد الأديان التي سبقته فعرف لها حقها واستقر إلى جانبها غير حاسد لها ولا راغب في السيطرة عليها ونمت على هذا ما بين القرن الثامن والقرن الخامس عشر أجمل الحضارات وأغناها في العصور الوسطى، في الزمن الذي كانت فيه أمم الشمال فريسة للفتن الدينية والمعارك الهمجية يعيشون عيشة القبائل المستوحشة في بلادهم المتخلفة، وبينما كانت شعوب الفرنجة والسكسون والجرمان يعيشون في الأكواخ ويعتلي ملوكهم وأشرافهم قمم الصخور في القلاع المظلمة ومن حولهم رجال هم عالة عليهم يلبسون الزرد ويأكلون طعام الإنسان الأول قبل التاريخ كان العرب الأندلسيون يشيدون قصورهم القوراء ويرودون الحمامات للمساجلة في مسائل العلم والأدب وتناشد الأشعار وتناقل الأخبار. ا -هـ2.

أثر العرب في الحضارة الأوروبية للعقاد ص115-119 (ط دار المعارف بمصر 1963) .

2 أثر العرب في الحضارة الأوروبية للعقاد ص115-116.

ص: 125

ويقول ستانلي لاين بول المؤرخ الإنكليزي واصفا تلك الحضارة بعبارة موجزة مملوءة بالمعاني " " إن حكم عبد الرحمن الثالث الذي قارب خمسين سنة أدخل على أحوال إسبانيا تجديدا لا يلم الخيال - على أجمع ما يكون - بحقيقة فحواه " 1 ا-هـ.

وكانت هناك نافذة أخرى فتحت أمام أوروبا من الشرق وهي الحملات الصليبية على بلاد الإسلام فقد جلب الصليبيون معهم إلى أوروبا كثيرا من عادات المسلمين وأزيائهم وأنماط حياتهم ووسائلهم في الحرب والبناء فارتفعت الحصون والقلاع والكنائس في أوروبا متخذة في أشكالها هندسة البناء الشرقي الإسلامي، هذا إلى جانب ما حملوا هم أو حمله إليهم سفراء المسلمين وبعثاتهم من أنواع الثقافة وتحت الحضارة الإسلامية في العصور المختلفة حتى عصر العثمانيين. ولا شك أن عالم الكنيسة النصرانية أيقن أن زحف المسلمين هذا لم يكن زحفا عسكريا فحسب، بل كان حضارة تمتد وتبسط نفوذها وتنشر معالمها في كل بقعة تصل إليها فتغير من حياة الشعوب وأفكارهم وعقائدهم وأسلوب حياتهم

وكان بداية ظهور تأثير الحضارة الإسلامية على شعوب أوروبا أن ملوك الفرنجة بدءوا يحاولون التخلص من نفوذ الكنيسة وتسلطها الرهيب، وقد كانت الكنيسة في تلك العصور إذا أعطت صكا بالرضا والغفران لواحد منهم استقر ملكه واطمأن على كرسيه فإن غضبت على أحدهم فحكمت عليه بالكفر والجحيم نهش الناس ملكه ومزقوه إربا إربا..

ووضع كثير من المفكرين الذين فتحت الحضارة الإسلامية أعينهم وضعوا الكنيسة موضع المناقشة والاتهام، حتى تجلت تلك المناقشات عن حركة انشقاقية في قلب الكنيسة عرفت فيما بعد باسم الكنيسة البروتستانتية..

المصدر السابق ص116.

ص: 126

وحاولت الكنيسة في رومة إيقاف هذا المد ففتحت محاكم التفتيش تنكل وتحرق وتقتل كل من رفع راية العصيان في وجهها أو حاول التخلص من سيطرتها فعرف الأوروبيون حينذاك أبشع عصور الاضطهاد الديني والفكري فحنقوا ليس على الكنيسة فحسب بل على الدين الذي حملت تلك الكنيسة رايته وارتكبت الفظائع باسمه وكان بداية نشوء العلمانية..

ورغم بطش الكنيسة فإنها عجزت عن إيقاف التيار فاضطرت إلى أن تدافع عن نفسها بطريقة أخرى، فبدأت بالاهتمام بدراسة اللغات الشرقية وفي مقدمتها اللغة العربية..

فكانت طلائع المستشرقين من القسس والرهبان فانكبوا على دراسة اللغة العربية وكان رجال الكنيسة يشكلون وحدهم الطبقة المتعلمة في أوروبا ويهيمنون على الجامعات ومراكز العلم فيها..

وأنشئ أول مركز لدراسة اللغة العربية في الفاتيكان لتخريج أهل جدل يقارعون فقهاء المسلمين ويجادلون البروتستانت..

ورحل أول فريق من الرهبان إلى المغرب للغاية نفسها فقتل منهم هناك عدد كثير ورحل آخرون إلى المشرق، إلى سوريا ومصر..

وأمر الفاتيكان بإدخال اللغة العربية واللغات الشرقية الأخرى في مدارس الأديرة والكاتدرائيات، وعمل على إنشاء كراسٍ لهذه اللغات في الجامعات في إسبانيا وفرنسا وإيطاليا، وأصبحت جامعة باريس تشكل أهم مركز للدراسات العربية والشرقية.. واستعين بعدد من علماء اللاهوت وبعدد من المستشرقين اليهود ممن أجادوا تلك اللغات للقيام بتدريسها في تلك المدارس ولتولى تلك الكراسي في الجامعات..

ثم توسعت الدراسات الشرقية والعربية أكثر عندما أمر بابا الفاتيكان الخامس في أوائل القرن الرابع عشر بإنشاء كراسٍ للغات: العربية والعبرية والكلدانية في عدد من الجامعات الرئيسية في أوروبا وهي:

ص: 127

جامعة باريس، وأكسفورد، وبولونيا، وجامعة الفاتيكان نفسه مع تنصيب أستاذين لكل من هذه اللغات في كل كرسي، وتكليفهم بترجمة نصوص عربية وعبرية وكلدانية للرد على منتقدي الدين المسيحي..1

كان أول ما اتجه إليه المستشرقون في دراستهم العربية: كتب الفلسفة والمنطق والرياضيات فترجموا كتب ابن رشد والغزالي وابن سينا وأرسطو ونحوهم ثم توجهوا إلى العناية بآداب اللغة العربية والحضارة الإسلامية، وإلى دراسة الإسلام نفسه..

وذلك حسبما يستجد من ظروف ومقتضيات، إذ أن الجامعات الأوروبية وقد كانت تحت السيطرة الكاملة للكنيسة تعتمد دراسة اللاهوت فحسب حتى أوائل العصر الصناعي فبدأت تهتم بالاختصاصات المختلفة تحت ضغوط النهضة الصناعية..

ولكن الذي لا ننساه أن الاستشراق بدأ من الفاتيكان، ورواد الاستشراق هم من رجال الكنيسة وعلماء اللاهوت وظلوا هم المشرفين على هذه الحركة المسيرين لها وكان هدفهم الدفاع عن الكنيسة ومواجهة الضغوط الشديدة المتزايدة من المفكرين المتمردين على سلطانها ممن فتحت الحضارة الإسلامية متنفسا لهم ومهدت لهم الفرصة للتفكير والنهوض..

ولذلك بدأت تلك الدراسات العربية ضيقة ومحدودة بحدود الأهداف التي أنشئت من أجلها، فكانت اللغة العربية تدرس كواحدة من اللغات السامية ولم تحظ باهتمام كاف كلغة لحضارة مستقلة كان لها تأثير كبير وفضل عظيم على أوروبا..

إلى أن فوجئت الدول الاستعمارية بالعالم الإسلامي يبدأ انتفاضاته من جديد بعد أن قضى قرونا طويلة يرزح تحت نير استعمارها البغيض.. فاضطرت مراكز الدراسات الإسلامية إلى أن توسع دائرة دراستها حسب مقتضيات الوضع الجديد..

1) المستشرقون لنجيب العقيقى 1/134.

ص: 128