الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثامناً: أمر الجهاد موكول إلى إمام المسلمين واجتهاده:
ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (1)؛ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني، فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني)) (2)، وفي حديث حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له:((تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع)) (3).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمر واجبة؛ لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر فأجره على الله، ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم وإن منعوه عصاهم: فما له في الآخرة من خلاق)) (4).
ومن طاعة ولي الأمر عدم الجهاد إلا بإذنه؛ لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال: ((أحيٌّ
(1) سورة النساء، الآية:59.
(2)
متفق عليه: أخرجه البخاري، في كتاب الأحكام، باب قول الله تعالى:{أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} ، برقم 7137، ومسلم، في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، برقم 1835.
(3)
أخرجه مسلم، في كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال، برقم 1847/ 52.
(4)
فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 35/ 16 - 17.
والداك))؟ قال: نعم، قال:((ففيهما فجاهد)) (1)؛ ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّما الإمام جُنَّة يُقاتل من ورائه، ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل كان له بذلك أجر، وإن أمر بغيره كان عليه منه)) (2)، ومما يفسر ذلك قول الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى:((وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك)) (3)، وقال الإمام الخرقي رحمه الله:((وواجب على الناس إذا جاء العدو أن ينفروا: المقلّ منهم والمُكثر، ولا يخرجون إلى العدوِّ إلا بإذن الأمير، إلا أن يفجأهم عدوٌّ يخافون كلبَهُ – أي شرّه وأذاه – فلا يُمْكِنهم أن يستأذنوه)) (4)، قال الإمام ابن قدامة رحمه الله:((فإذا ثبت هذا فإنهم لا يخرجون إلا بإذن الأمير؛ لأن أمر الحرب موكول إليه، وهو أعلم بكثرة العدو وقلّتهم، ومكامن العدو، وكيدهم، فينبغي أن يُرجع إلى رأيه؛ لأنه أحوط للمسلمين إلا أن يتعذر استئذانه؛ لمفاجأة عدوهم لهم، فلا يجب استئذانه؛ لأن المصلحة تتعين في قتالهم، والخروج إليه؛ لتعيّن الفساد في تركهم، ولذلك لما أغار الكفار على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم فصادفهم سلمة بن الأكوع خارجاً من المدينة تبعهم فقاتلهم من غير إذن، فمدحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (5): ((وخير رجَّالتنا سلمة)) فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم سهمين: سهم الفارس،
(1) متفق عليه: البخاري، برقم 3004، ومسلم، برقم 2549، وتقدم تخريجه في استئذان الوالدين في الخروج إلى الجهاد في سبيل الله تعالى.
(2)
أخرجه مسلم، في كتاب الإمارة، باب الإمام جنة يقاتل به من ورائه أو يتقى به، برقم 1841.
(3)
المغني لابن قدامة، 13/ 16.
(4)
مختصر الخرقي المطبوع مع المغني، 3/ 33.
(5)
المغني لابن قدامة، 13/ 33 - 34.
وسهم الراجل (1)، وذكر الإمام الخرقي وابن قدامة أيضاً أنه لا يجوز حتى الخروج من العسكر إلا بإذن الأمير، ولا يُحدث حدثاً إلا بإذنه (2)؛ لقول الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالله وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (3)؛ ولأن الأمير أعرف بحال العدو، ومكامنهم، ومواضعهم، وقربهم، وبعدهم، فإذا خرج خارج بغير إذنه لم يأمن أن يصادف كميناً للعدوِّ فيأخذه
…
)) (4).
ولِما تقدّم لا يجوز لأحد من أفراد رعية الإمام المسلم – وإن كان عاصياً – أن يخرج إلى الجهاد إلا بإذنه على حسب ما تقدم. قال الإمام الخرقي رحمه الله: ((ويُغزى مع كلِّ برٍّ وفاجرٍ))، قال ابن قدامة:((يعني مع كل إمام)) (5).
ولا يجوز لأحد من رعية الإمام أن يدعو الناس إلى الجهاد بدون إذن الإمام؛ لما في ذلك من المفاسد، والأضرار، ومخالفة إمام المسلمين الذي أمرنا الله بطاعته، وعلى كل مسلم أن يسأل أهل العلم إن لم يعلم؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((والواجب أن يُعتبر في أمور
(1) أخرجه مسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة ذي قرد وغيرها، برقم 1807.
(2)
المغني لابن قدامة، 13/ 37.
(3)
سورة النور، الآية:62.
(4)
المغني لابن قدامة، 13/ 38.
(5)
المرجع السابق، 13/ 14.
الجهاد برأي أهل الدين الصحيح، في الباطن الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا، فأما أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين فلا يُؤخذ برأيهم، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا)) (1).
ومما يُؤكد أهمية السمع والطاعة ما حصل لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع رسول الله عليه الصلاة والسلام في صلح الحديبية حينما اشتد عليهم الكرب بمنعهم من العمرة، وما رأوا من غضاضة على المسلمين في الظاهر، ولكنهم امتثلوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان ذلك فتحاً قريباً، وخلاصة ذلك أن سهيل بن عمرو قال للنبي صلى الله عليه وسلم حينما كتب: بسم الله الرحمن الرحيم: اكتب باسمك اللهم، فوافق معه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولم يوافق سهيل على كَتب محمد رسول الله، فتنازل النبي صلى الله عليه وسلم وأمر أن يكتب محمد بن عبد الله، ومنع سهيل في الصلح أن تكون العمرة في هذا العام، وإنما في العام المقبل، وفي الصلح أن من أسلم من المشركين يردُّه المسلمون، ومن جاء من المسلمين إلى المشركين لا يُردّ، وأول من نُفِّذ عليه الشرط أبو جندل بن سهيل بن عمرو، فردَّهُ النبي صلى الله عليه وسلم بعد محاورة عظيمة، وحينئذٍ غضب الصحابة لذلك حتى قال عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: ألست نبيّ الله حقّاً؟ قال: ((بلى))، قال: ألسنا على الحق، وعدوُّنا على الباطل؟ قال صلى الله عليه وسلم:((بلى))، قال: فلم نُعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: ((إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري))، قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً، فلما فرغ الكتاب أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن ينحروا ويحلقوا فلم يفعلوا، فدخل على أم سلمة رضي الله عنها، فشكا ذلك، فقالت: انحر واحلق،
(1) الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص449.
فخرج فنحر، وحلق، فنحر الناس وحلقوا حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً (1)، فحصل بهذا الصلح من المصالح ما الله به عليم، ونزلت سورة الفتح، ودخل في السنة السادسة والسابعة في الإسلام مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر، ثم دخل الناس في دين الله أفواجاً بعد الفتح في السنة الثامنة.
وهذا ببركة طاعة الله ورسوله؛ ولهذا قال سهيل بن حنيف رضي الله عنه: ((اتهموا رأيكم، رأيتني يوم أبي جندل لو أستطيع أن أردّ أمر النبي صلى الله عليه وسلم لرددته)) (2)، وهذا يدل على مكانة الصحابة رضي الله عنهم، وتحكيمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحصل لهم من الفتح والنصر ما حصل ولله الحمد والمنة.
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري، في كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد، برقم 2731، 2732، ومسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية، برقم 1784.
(2)
متفق عليه: أخرجه البخاري، في كتاب الجزية والموادعة، باب رقم 18، برقم 3181، ومسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية، برقم 1785/ 95.