الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي " البدر السافر " حكاية عن قاضي القضاة الجمال سليمان الزرعي: أنه كان يتردد إليه وهو شاب، قال: فجئت إليه في يوم عيد، فوجدته يأكل حريرة مدخّنة، فقال: سليمان
…
كًل فلم تطب لي، فقام أخوه وتوجه إلى السوق وأحضر شواء وحلواء، وقال له: كُلْ، فلم يأكل، فقال له: يا أخي، أهذا حرام؟ فقال: لا، ولكنه طعام الجبابرة.
وكأنه رأى المقام يقتضي ذلك، وفهم من الإعراض عن الحريرة الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أكلها، عدم الاستغناء عما اشتري وشبهه، وأنها طريقة لهم لازمة، أو لأن الحلواء المحضّرة كانت فيها زيادة تأنق وترفّه، ومن جهة كونها من سكر مثلاً، مع إضافة غيره من فستق ورائحة ونحوهما إليه، وإلا فقد كان صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء.
ولشدة ورعه لم يكن يُكثر من إقراء الشباب، بل كان يرشد من يقصده منهم للاشتغال، إلى الشيخ أمين الدين أبي العباس أحمد بن الشمس أبي بكر عبد الله بن محمد بن عبد الجبار الأشتري، الحلبي، المتوفى في سنة إحدى وثمانين وستمائة، بعد الشيخ بسنتين، لعلمه بدينه وأمانته، وكذا كان يرشدهم إلى التاج ابن الفركاح، " كما أسلفه عند ذكر الأخذ عنه " إن صحت تلك الحكاية.
وكان الشيخ رحمه الله يرى تحريم النظر مطلقاً، خلافاً للرافعي. قال العثماني قاضي صفد: إنه توجه لزيارة الزاهد الفقيه: فرج بن عبد الله الصفدي الشافعي، صحبة التاج المقدسي، فجرت مسألة النظر إلى الأمرد، وأن الرافعي يحرّم بشرط الشهوة، والنووي مطلقاً، فقال الشيخ فرح: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: لي: الحقُّ في هذه المسألة مع النووي، فصاح تاج الدين وقال: صار الفقه بالمنامات، فخضع الشيخ فرح وقال: أستغفر الله، أنا حكيت ما رأيت، والبحث له طريق، فسكن التاج وقال: نحن في بيتك، انتهى.
مناصحته لحكام عصره
وكان مواجهاً للملوك والجبابرة بالإنكار لا يأخذه في الله لومة لائم، بل كان إذا عجز عن المواجهة كتب الرسائل، ويتوصل إلى إبلاغها.
فمما كتبه وأرسلني في السعي فيه، ورقة إلى الظاهر تتضمن العدل في الرعية، وإزالة المكوس عنهم، وكتب معه في ذلك غير واحد من الشيوخ وغيرهم، منهم من مشائخي: أبو محمد عبد الرحمن بن أبي عمر شيخ الحنابلة، وأبو محمد عبد السلام بن علي بن عمر الزواوي، شيخ المالكية، وأبو بكر محمد بن أحمد الشريشي المالكي، وأبو إسحاق إبراهيم بن وليّ الله عبد الله المعروف بابن الأرميني، وأبو حامد محمد بن العلامة أبي الفضائل عبد الكريم بن الحرستاني خطيب دمشق واب خطيبها.
ووضع ورقة الظاهر في ورقة لبَيْليك الخازندار بدر الدين نصها: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله يحيى النووي، سلام الله ورحمته وبركاته على المولى الحسن، ملك الأمراء: بدر الدين، أدام الله الكريم له الخيرات، وتولاه بالحسنات، وبلّغه من خيرات الآخرة والأولى كلَّ آماله، وبارك له في جميع أعماله، آمين.
وينهي إلى العلوم الشريفة أن أهل الشام هذه السنة في ضيق عيش وضعف حال، بسبب قلة الأمطار وغلاء الأسعار، وقلّة الغلات والنبات، وهلاك المواشي، وغير ذلك، وأنتم تعلمون أنه تجب الشفقة على الراعي والرعية، ونصيحته في مصلحته ومصلحتهم، فإن الدين النصيحة.
وقد كتب خَدَمَة الشرع الناصحون للسلطان، المحبون له: كتاباً بتذكرة النظر في أحوال رعيته والرفق بهم، وليس فيه ضرر، بل هو نصيحة محضة وشفقة تامة، وذكرى لأولي الألباب.
والمسؤول من الأمير " أيده الله تعالى " تقديمه إلى السلطان " أدام الله له الخيرات " ويتكلم عليه من الإشارة بالرفق بالرعية بما يجده مدّخراً له عند الله تعالى (يوم تجد كلُّ نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذّركم الله نفسه) .
وهذا الكتاب الذي أرسله العلماء إلى الأمير، أمانة ونصيحة للسلطان " أعزّ الله أنصاره والمسلمين كلّهم في الدنيا والآخرة " فيجب عليكم إيصاله للسلطان، أعزّ الله أنصاره، وأنتم مسؤولون عن هذه الأمانة، ولا عذر لكم في التأخر عنها ولا حجة لكم في التقصير فيها عند الله تعالى، تُسألون عنها:(يوم لا ينفع مال ولا بنون) ، (يوم يفرّ المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم شأن يومئذ يغنيه) ، وأنتم بحمد الله تحبون الخير وتحرصون عليه، وتسارعون إليه، وهذا من أهم الخيرات وأفضل الطاعات، وقد أهَّلتم له وساقه الله إليكم، وهو فضل من الله.
ونحن خائفون أن يزداد الأمر شدة، إن لم يحصل النظر في الرفق بهم، قال الله تعالى:(إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)، وقال تعالى:(وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم) .
والجماعة الكاتبون منتظرون ثمرة هذا، فما فعلتموه وجدتموه عند الله، (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فلما وصلت الورقتان إليه أوقف عليهما السلطان، فلما وقف عليهما ردّ جوابهما ردّاً عنيفاً، مؤلماً، فتنكدت خواطر الجماعة الكاتبين وغيرهم.
فكتب رحمه الله جواباً لجوابه صورته: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد.
من عبد الله يحيى النووي، يُنهي أن خَدَمَة الشرع الشريف كانوا كتبوا ما بلغ السلطان أعز الله أنصاره، فجاء الجواب بالإنكار والتوبيخ والتهديد، وفهمنا منه أن الجهاد ذكر في الجواب على خلاف حكم الشرع، وقد أوجب الله إيضاح الأحكام عند الحاجة إليها، فقال تعالى:(وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لِتُبَيِّنُنَّه للناس ولا تكتمونه) ، فوجب علينا حينئذ بيانه، وحرم علينا السكوت، قال الله تعالى:(ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم) .
وذُكر في الجواب: أن الجهاد ليس مختصاً بالأجناد، وهذا أمر لم نَدَّعه، ولكن الجهاد فرض كفاية، فإذا قرر السلطان له أجناداً مخصوصين، ولهم أخباز معلومة من بيت المال " كما هو الواقع " تفرّغ باقي الرعية لمصالحهم ومصالح السلطان والأجناد وغيرهم، من الزراعة والصنائع وغيرها، الذي يحتاج الناس كلهم إليها، فجهاد الأجناد مقابل بالأخباز المقررة لهم، ولا يحل أن يؤخذ من الرعية شيء ما دام في بيت المال شيء من نقد أو متاع، أو أرض أو ضياع تباع، أو غير ذلك.
وهؤلاء علماء المسلمين في بلاد السلطان أعز الله أنصاره، متفقون على هذا، وبيت الله بحمد الله معمور، زاده اله عمارة وسعة وخيراً وبركة، في حياة السلطان المقرونة بكمال السعادة له، والتوفيق والتسديد، والظهور على أعداء الدين، وما النصر إلا من عند الله، وإنما يستعان في الجهاد وغيره بالافتقار إلى الله تعالى، واتباع آثار النبي صلى الله عليه وسلم، وملازمة أحكام الشرع.
وجميع ما كتبناه أولاً وثانياً وهو النصيحة التي نعتقدها، وندين الله بها، ونسأله الدوام عليها حتى نلقاه، والسلطان يعلم أنها نصيحة له وللرعية، وليس فيه ما يلام عليه، ولم نكتب هذا للسلطان إلا لعلمنا بأنه يحب الشرع ومتابعة أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الرفق بالرعية والشفقة عليهم، وإكرامه لآثار النبي صلى الله عليه وسلم.
وكل ناصح للسلطان موافق على هذا الذي كتبنا.
وأما ما ذُكر في الجواب من كوننا لم ننكر على الكفار كيف كانوا في البلاد، فكيف يقاس ملوك الإسلام وأهل الإيمان والقرآن بطغاة الكفار؟ وبأيّ شيءٍ كنا نذكّر طغاة الكفار وهم لا يعتقدون شيئاً من ديننا.؟ وأما تهديد الرعية بسبب نصيحتنا، وتهديد طائفة، فليس هو المرجو من عدل السلطان وحلمه، وأي حيلة لضعفاء المسلمين الناصحين نصيحة للسلطان ولهم، ولا علم لهم به، وكيف يؤاخذون به لو كان فيه ما يلام عليه؟
وأما أنا في نفسي، فلا يضرني التهديد ولا أكثر منه، ولا يمنعني ذلك من نصيحة السلطان، فإني أعتقد أن هذا واجب عليّ وعلى غيري، وما ترتب على الواجب فهو خير وزيادة عند الله تعالى:(إنما هذه الحياة الدنيا متاع، وإن الآخرة هي دار القرار) ، (وأفوّض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد) ، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول الحق حيثما كنا، وأن لا نخاف في الله لومة لائم.
ونحن نحب للسلطان معالي الأمور وأكمل الأحوال، وما ينفعه في آخرته ودنياه، ويكون سبباً لدوام الخيرات له، ويبقى ذكره له على ممر الأيام، ويُخلّد في سُننه الحنيفية، ويجد نفعه (يوم تجد كلُّ نفس ما عملتْ من خير محضَراً) .
وأما ما ذُكر في تمهيد السلطان البلاد، وإدامته الجهاد، وفتح الحصون وقهر الأعداء، فهو بحمد الله من الأمور الشائعة، التي اشترك في العلم بها الخاصة والعامة، وسارت في أقطار الأرض ولله الحمد، وثواب ذلك مدّخر للسلطان إلى (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير مُحْضراً) . ولا حجة لنا عند الله إذا تركنا النصيحة الواجبة علينا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ومما اكتتبه لما احتيط على أملاك دمشق حرسها الله تعالى، بعد إنكاره مواجهةً للظاهر، وعدم إفادته وقبوله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين.
قال الله تعالى: (وذكِّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) وقال تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لَتُبَيِّننَّه للناس ولا تكتمونه)، وقال تعالى:(وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) .
وقد أوجب الله على المكلفين نصيحة السلطان أعز الله أنصاره، ونصيحة عامة المسلمين، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" الدين النصيحة لله وكتابه وأئمة المسلمين وعامتهم ".
ونصيحة السلطان " وفقه الله لطاعته "، وتولاه بكرامته " أن تُنهَى إليه الأحكام إذا جرت على خلاف قواعد الإسلام، وأوجب الله تعالى الشفقة على الرعية، والاهتمام بالضعفاء وإزالة الضرر عنهم، قال الله تعالى: (واخفض جناحك للمؤمنين) ، وفي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم ". وقال صلى الله عليه وسلم: " من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا، كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما كان الله في عون أخيه "، وقال صلى الله عليه وسلم: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته "، وقال صلى الله عليه وسلم: " إن المقسطين على منابر من نور ن يمين الرحمن، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا ".
وقد أنعم الله تعالى علينا وعلى سائر المسلمين بالسلطان أعز الله أنصاره، فقد أقامه لنصرة الدين والذب عن المسلمين، وأذل له الأعداء من جميع الطوائف، وفتح عليه الفتوحات المشهورة في المدة اليسيرة، وأوقع الرعب منه في قلوب أعداء الدين، وسائر الماردين، ومهد له البلاد والعباد، وقمع بسببه أهل الزيغ والفساد، وأمده بالإعانة واللطف والسعادة، فله الحمد على هذه النعم المتظاهرة، والخيرات المتكاثرة، ونسأل الله الكريم دوامها له وللمسلمين، وزيادتها في خير وعافية، آمين.
وقد أوجب الله شكر نعمته، ووعد الزيادة للشاكرين، فقال تعالى:(لئن شكرتم لأزيدنكم) ، وقد لحق المسلمين بسبب هذه الحوطة على أملاكهم، أنواع من الضرر لا يمكن التعبير عنها، وطُلب منهم إثبات لا يلزمهم، فهذه الحوطة لا تحل عند أحد من علماء المسلمين، بل في يده شيء فهو ملكه، لا يحل الاعتراض عليه، ولا يكلّف بإثباته.
وقد اشتهر من سيرة السلطان أنه يحب العمل بالشرع ويوصي نوابه به، فهو أولى من عمل به.
والمسؤول: إطلاق الناس من هذه الحوطة، والإفراج عن جميعهم. فأطلقْهم طلقك الله من كل مكروه فهم ضعفاء، وفيهم الأيتام والأرامل والمساكين، والضعفاء والصالحون، وبهم تنصر وتغاث وترزق، وهم سكان الشام المبارك، جيران الأنبياء صلاة الله وسلامه عليهم، وسكان ديارهم، فلهم حرمات من جهات.
ولو رأى السلطان ما يلحق الناس من الشدائد لاشتد حزنه عليهم، وأطلقهم في الحال ولم يؤخرهم، ولكن لا تُنهي إليه الأمور على وجهها، فبالله أغث المسلمين يغثك الله، وارفق بهم يرفق الله بك، وعجّل لهم الإفراج قبل وقوع الأمطار وتلف غلاتهم، فإن أكثرهم ورثوا هذه الأملاك من أسلافهم، ولا يمكنهم تحصيل كتب شراء، وقد نُهبت كتبهم.
وإذا رفق السلطان بهم، حصل له دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن أرفق بأمته، ويُظهره على أعدائه، فقد قال الله تعالى:(إن تنصروا الله ينصركم) ، وتتوفر له من رعيته الدعوات، وتظهر في مملكته البركات، ويُبَارَك له في جميع ما يقصده من الخيرات، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة "، فنسل الله الكريم أن يوفق السلطان للسن الحسنة التي يذكر بها إلى يوم القيامة، ويحميه من السنن السيئة.
فهذه نصيحتنا الواجبة علينا للسلطان، ونرجو من فضل الله تعالى أن يلهمه فيها القبول.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته والحمد لله رب العالمين، وصلواته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه.
قلت: وكان السبب في هذه الحوطة " كما صرح به صاحب " البدر السافر " " أن السلطان الظاهر بيبرس، لما ورد دمشق بعد قتال التتار ونزوحهم عن البلاد، ولّى وكالة بيت المال شخصاً من الحنفية، فقال: إن هذه الأملاك التي بدمشق، كان التتار قد استولوا عليها، فتملكوها على مقتضى مذهب أبي حنيفة رحمه الله، فوضع السلطان يده عليها، فقام جماعة من أهل العلم في ذلك، وكان الشيخ منهم. قلت: بل هو أعظمهم. قال: فكلم السلطان في ذلك كلاماً فيه غلظة، فظن السلطان أن له مناصب يعز له عنها، فقيل له حاله، انتهى كلام البدر.
وقال القطب اليونيني: إنه واقَف الظاهر غير مرة بدار العدل، بسبب الحوطة على بساتين دمشق وغير ذلك. وحكي عن الظاهر أنه قال: أنا أفزع منه، " أو ما هذا معناه "، ولقد شاهدته مرة طلع إلى زاوية الشيخ خضر بالجبل المشرف على المزة، وحدثه في أمر، وبالغ معه وأغلظ له، فسمع الشيخ خضر كلاماً مؤلماً، فأمر بعض من عنده بإخراجه ودفعه " ولعله يقصد الخوف على الشيخ "، فما تأثر الشيخ في ذلك في ذات الله عز وجل، ولا رجع عن قصده لنفع يجلبه إلى بعض المسلمين، فقد كانت مقاصده جميلة، وأفعاله لله تعالى.
وقال العماد ابن كثير: إنه قام على الظاهر في دار العدل في قضية الغوطة لما أرادوا وضع الأملاك على بساتينها، فردّ عليهم ذلك، ووقى الله شرّها، بعد أن غضب السلطان وأراد البطش به، ثم بعد ذلك أحبه وعظّمه، حتى كان يقول: أنا أفزع منه، انتهى كلام ابن كثير.
والظاهر المشار إليه هو: ركن الدين أبو الفتوح بيبرس، البندقداري، الصالحي، النجمي، الأيوبي، التركي، صاحب مصر والشام، الذي أفرد سيرته ابن عبد الظاهر، وابن شدّاد، ومات بدمشق قبل الشيخ بيسير، في العشر الأخير من المحرم من السنة التي مات الشيخ فيها.
وأما خضر فهو: ابن أبي بكر بن موسى المِهْراني العدوي، أحد من كان الظاهر المذكور يعتقده لكونه كان أخبر بتملّكه قبل وقوعه، حتى كان يتردد لزيارته في الأسبوع مرة ومرتين وأكثر، ولا يخرج عن ريه، وبنى له عدة زوايا وأماكن، منها الزاوية التي بالقرب من الجامع الظاهر من الحسينية، وبها محل دفنه، ثم تغيّر عليه لكثرة ما رُمي به عنده من الفواحش، واستشار في أمره، فأشار بعض خواصه من الأمراء بقتله، فقال خضر مخاطباً للسلطان: اسمع ما أقول لك: إن أجلي قريب من أجلك، بيننا أيام يسيرة، فوجم السلطان من ذلك وعدل عن قتله، ثم حبس بمكان مُعدٌّ له بالقلعة، لم يمكّن من الدخول عليه إلا من يثق به غاية الوثوق، مع التوسعة عليه بالأطعمة الفاخرة والفواكه والملابس، حتى مات بالقاهرة في يوم الخميس سادس المحرم المذكور، ولما ورد البريد على السلطان بموته صرخ وقال: مات! ثم انتقل من مكانه إلى غيره، ولم يستكمل قراءة البريد، بل ولا قرئ عليه شيء " كأنه خوفاً من قوله الذي أسلفه "، فكان كذلك، لم يلبث أن مات " كما تقدم " بدمشق، في العشر الأخير من الشهر المذكور.
وأما بَيْليك، فهو الأمير بدر الدين الخازندار الظاهري، نائب المملكة وأتابك الجيوش المنصورة، وكان موصوفاً بكثرة المعروف، ومحبة الصلحاء والعلماء، وحُسْن السيرة، مع الحظ الحسن، وفهم وذكاء، واعتناء بمطالعة التواريخ وسماع الحديث، ومات أيضاً قبيل الشيخ بيسير، وبعيد الظاهر، وذلك في ربيع الآخر من السنة أيضاً، انتهى.
ومما كتبه رسالة تتعلق بالمكوس والحوادث الباطلة، وأبطل الله ذلك على يد من شاء من عباده، في دولة السعيد بن الظاهر.
قلت: والسعيد هذا هو ناصر الدين محمد بركة خان بن الظاهر ركن الدين المذكور، استقر في المملكة بعد أبيه، وخُلع منها بعد سنتين وشهرين وثمانية أيام، انتهى.
ومما كتبه بسبب الفقهاء، لمّا رُسم بأن الفقيه لا يكون منزّلا في أكثر من مدرسة واحدة، وصورته: بسم الله الرحمن الرحيم، خَدَمَة الشرع يُنهون أن الله تعالى أمرنا بالتعاون على البر والتقوى، ونصيحة ولاة الأمور وعامة المسلمين، وأخذ على العلماء العهد بتبليغ أحكام الدين ومناصحة المسلمين، وحثّ على تعظيم حرماته، وإعظام شعائر الدين، وإكرام العلماء وأتباعهم.
وقد بلغ الفقهاء بأنه رُسم في حقهم بأن يغيّروا عن وظائفهم، ويُقطعوا عن بعض مدارسهم، فتنكّدت بذلك أحوالهم، وتضرروا بهذا التضييق عليهم، وهو محتاجون ولهم عيال، وفيهم الصالحون والمشتغلون بالعلوم، وإن كان فيهم أفراد لا يلتحقون بمراتب غيرهم فهم منتسبون إلى العلم ومشاركون فيه، ولا تخفى مراتب أهل العلم وفضلهم، وثناء الله تعالى عليهم، وبيانه مزيّتهم على غيرهم، وأنهم ورثة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وأن الملائكة عليهم السلام تضع أجنحتها لهم، ويستغفر لهم كل شيء حتى الحيتان.
واللائق بالجناب العالي إكرام هذه الطائفة والإحسان إليهم، ومعاضدتهم ودفع المكروهات عنهم، والنظر في أحوالهم بما فيه من الرفق بهم، فقد ثبت في " صحيح مسلم " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" اللهم مَن وَلِي من أمر أمتي شيئاً فارفق بهم، فارفق بهم "، وروى أبو عيسى الترمذي بإسناده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أنه كان يقول لطلبة العلم مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن رجالاً يأتونكم يتفقهون في الدين، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً ".
والمسؤول: أن لا يغيَّر على هذه الطائفة شيء، وتُستجلب دعوتهم لهذه الدولة القاهرة، وقد ثبت في " صحيح البخاري " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " هل تُنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم ".
وقد أحاطت العلوم بما أجاب به الوزير نظام الملك حين أنكر عليه السلطان صَرْفَ الأموال الكثيرة في جهة طلبة العلم، فقال: أقمت بها جنداً لا تردّ سهامهم، فاستصوب فعله وساعده عليه.
والله الكريم يوفق الجناب دائماً لمرضاته، والمسارعة إلى طاعته، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
وله رحمه الله رسائل كليات تتعلق بالمسلمين، وجزئيات في إحياء سنن نيرات، وفي إماتة بدع مظلمات، وكلام طويل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرات، مواجهاً به أهل الرتب العاليات.
قلت: منها رسالة إلى نائب السلطنة بدمشق، بطلب جميع الناس للاستسقاء، كتبها في يوم الأحد حادي عشر جمادى الأولى، سنة ثمان وستين وستمائة، وهو الخامس من كانون الأصم، ونصها: خَدَمَة الشرع العلماء بدمشق المحروسة، يُنهون أن الله سبحانه وتعالى أخذ عليهم العهد بتبليغ الشرع إلى المكلفين، ونصيحة الله تعالى وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وولاة الأمر، وعامة المسلمين. ونصيحة الله ورسوله امتثال أمرهما، ومن نصيحة ولاة الأمر تبليغهم شرائع الأحكام، وإرشادهم إلى شعائر الإسلام، والإشارة عليهم بفعلها، وإشاعتها ونشرها. ونصيحة عامتهم الاعتناء بمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، والحث عليها، والمسارعة إليها.
ومما هو من ذلك: الاستسقاء عند الحاجة إليه، والضرورة الحاملة عليه، فإن الاستسقاء سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه الأخيار، الكرام الأبرار، رضي الله عنهم، ولم يزل المسلمون عليه فيما تقدم وتأخر من الأعصار. وقد قال تعالى في كتابه العزيز، الذي يجب على كل مكلف الانقياد إليه، والخضوع له والعمل بما فيه:(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)، وقال تعالى:(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)، وقال تعالى:(وما أتاكم الرسول فخذوه)، وقال تعالى:(وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) .
وثبت في صحيحي إمامي المحدثين، وعمدتي المسلمين: أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، رضي الله عنهما، من طرق كثيرات، بروايات متظاهرات: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى مرات. وفي الصحيح أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى، واستسقى معاوية فَمَن بعده رضي الله عنهم، ولم يزل المسلمون على فعل الاستسقاء عند الحاجة إليه.
وهذه السنّة التي حالها ما ذكرنا، ومحلُّها ما وصفنا، تشتمل مع ذلك على مصالح كثيرة من مهمات الآخرة والدنيا، عامة للبلاد والعباد، والشجر والدواب، ويشترك فيها الخواص والعوام. فيتوجه على وليّ الأمر وفقه الله تعالى الكريم لطاعته، وتولاّه بكرامته، وأدام نعمه عليه، وضاعف الخيرات لديه: الاهتمام بشأنها، والاعتناء بأمرها، والمسارعة إليها، والتحريض عليها.
وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ". وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجتهد لهم وينصح، إلا لم يدخل معهم الجنة " ونصوص الشرع الكريم بنحو ما ذكرناه كثيرة مشهورة.
والمسؤول: التقدم إلى قاضي القضاة " أدام الله له الخيرات " بجمع الناس للاستسقاء على الوجه الشرعي، فإن خذّل عن هذا الأمر جاهل، وزعم أنه يحالف التوكّل، أو أنه اعتراض على الله تعالى، فهذا المخذّل مخطئ جاهل، بل إن اعتقد هذا كان كافراً، لأن ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحق والصواب، الذي يجب على كل مكلّف الانقياد له، والمسارعة إلى قبوله، وانشراح الصدر به، قال الله تعالى:(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكمونك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)، وقال تعالى:(إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) .
وكل ما خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو البدعة والضلالة، والغباوة والجهالة، والسفاهة والنذالة، بل هذه طريقة الكفار في مدافعة دين الإسلام:(ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) .
ويجب على وليّ الأمر " وفّقه الله لطاعته " إذا سمع كلام هذا الزاعم الجاهل، الضال الغاشم المتجاهل، وغيره ممن يقول نحو هذا القول في مدافعة الحق والاعتراض على سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يؤدبه تأديباً بليغاً ينزجر به هو وأمثاله، ويُشْهَر أمره، لينكف أهل الجهالة والضلالة عن مثل فعله، وليُعْلَم أن المراد بالاستسقاء امتثال أمر الله تعالى، والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مصلحة ناجزة، وسعادة معجّلة، ومنّة من الله تعالى يُشكر على التوفيق لها.
وأما نزول المطر فهو إلى الله تعالى، وليس المراد الاستسقاء تيقّن نزول المطر، فإن علم الغيب وإنزال الغيث وغيره من الكائنات، إلى رب العالمين. ولقد أمرنا الله تعالى بدعائه ووعدنا الإجابة، وهو لا يخلف الميعاد، قال الله تعالى:(ادعوني أستجب لكم)، وقال تعالى:(ادعوا ربكم تضرّعاً وخفية)، وقال تعالى:(وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعانِ فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) .
وليُعلم أنه ليس للاستسقاء شروط تُعتبر في صحته سوى اجتماع الناس والصلاة، وهذا متيسر لا مانع منه، لكن قال العلماء: يستحب لولي الأمر أن يأمر الناس قبل الخروج للاستسقاء بالتوبة من المعاصي ومصالحة الأعداء، والصدقة، وصيام ثلاثة أيام، ويخرجون في اليوم الرابع صياماً، وهذا أدب مستحب وليس بواجب ولا شرط، ولو تُرك صح الاستسقاء، ومع هذا فهو هيّن بحمد الله تعالى لا كلفة فيه، فإن معناه أن ولي المر يأمر بعض نوابه أن ينادي في الناس بذلك، وليس معناه أن يحكم على قلوبهم بفعله، فإن ذلك لا يقدر عليه إلا رب العالمين، بل هو يأمرهم به، فمن وفِّق له فهو نعمة من الله تعالى عليه، ومن حرمه فلا يضر إلا نفسه، ويُرجى للمسلمين الرحمة والخير بامتثال الموفّقين.
وما يخلو هذا الأمر من مصالح كثيرة، من صلاة وصيام وصدقة، وذكر وتوبة، وقلاع عن معاص، وإقبال على الطاعات، لا سيّما وقد منّ الله تعالى " وله الحمد والنعمة " على المسلمين بما وُفِّق له السلطان، زاده الله فضلاً وخيراً، وتمكيناً وعلوّاً ونصراً، وأدامه ظاهراً على أعداء الدين وسائر المخالفين، آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكرات، مبطلاً للحوادث، مُظهراً للمحاسن والخيرات، بما فعله من إزالة هذا المنكر العظيم، الفاحش الجسيم، الذي لم يُسبق إلى إزالته:(وليَنْصُرَنّ الله من ينصره) .
فهذه نصيحة الخدمة أنهوها إلى الأمير، وهم راجون من فضل الله تعالى مسارعته إلى هذه المصلحة، وقد ضاق الوقت عن تأخيرها، وهذه المصلحة لا تحصل بفعل آحاد الناس، بل باجتماع الناس كلهم، وفيهم العلماء والصالحون، والصغار والضعفاء، والمساكين والمضطرون، وقد ثبت في الصحيح إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم " والله يوفق الأمير لكل مكرمة، ويديمه أمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، حاثا على الاهتمام بشعائر الدين ومصالح المسلمين، آمين. والحمد لله رب العالمين، وسلام على عباده الذي اصطفى، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ولما وصلت الرسالة لولّي الأمر " وفّقه الله تعالى " أمر محتسب البلد فنادى ساعته في الناس بصيام ثلاثة أيام، أولها يوم الاثنين، الثاني عشر من جمادى الأولى المذكور، وبالصدقة والمعروف ومصالحة الأعداء، وغير ذلك مما هو من آداب الاستسقاء. ثم خرج ولّي والناس يوم الخميس، الخامس عشر من الشهر المذكور، واستسقوا، ثم سقوا بعد ذلك بتسعة أيام سقيا عامة، وترادفت أمطار كثيرة، بعد أن حصل لكثير من الناس قنوط. فلله الحمد على نعمه والتوفيق لإظهار شعائر دينه، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والاعتناء بسنّته، ومسارعة المسلمين إليها.
وكتب وليّ الأمر إلى نوابه في البلدان يأمرهم بالاستسقاء في اليوم الذي يستسقي في أهل دمشق، فامتثلوا أمره في ذلك، فسقوا كلهم في بلدانهم في الوقت المذكور، ثم وقعت في البلدان ثلوج كثيرة لم ير في تلك السنين مثلها، وأبطل تضمين الخانات والخمور، وأريقت على كل من وجدت عنده، في دمشق وسائر بلاد الشام، ورفعت المنكرات " ولله الحمد " رفعا تاما، بعد أن كانت شائعة أفحش الشياع وذلك في ربيع الآخر من السنة، ثم جعل الله الكريم في الغلات أنواع البركات، وأخصبت الغلات في جميع بلاد الشام إلى حد لم يعهد مثله من نحو ثلاثين سنة. ثم أعقب ذلك رخص " لكثرة الغلات " لم يعهد مثله من نحو خمس عشر سنة، حتى بيعت غرارة القمح بثلاثين درهما وبأربعين وما بينهما، والشعير بأربعة عشر درهماً، وقلت رغبة الناس في الغلات، لكثرتها، والله الحمد والمنة.
وهذا كله لفظ الشيخ، وأردفه بفضل في صفة الاستسقاء وآدابه، وقرأ جميع ذلك عليه تلميذه ابن العطار، في يوم السبت خامس عشر ربيع الآخر سنة خمس وسبعين وستمائة بالرواحية بدمشق، ثم حدّث بن البرهان أبو إسحاق إبراهيم بن الضياء أحمد بن إبراهيم بن فلاح بن محمد الإسكندري، عن العلاء ابن العطار، إجازة إن لم يكن سماعا، وأنبأني به العز أبو محمد الحنفي، عن أبي إسحاق المذكور انتهى.
وكان بدمشق شخص يقال له ابن النجار، سعى في إحداث أمور على المسلمين باطلة، فقام الشيخ ومعه جماعة من العلماء حتى أزالوها، فغضب ابن النجار، وراسل الشيخ يتهدده ويقول له: أنت الذي حركت العلماء لهذا، فكتب إليه الشيخ ما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، من يحيى النواوي، اعلم أيها المقصر في التأهب لمعاده، التارك مصلحة لنفسه في تهيئة جهازه له وزاده، أني كنت لا أعلم كراهتك لنصرة الدين، ونصيحة السلطان والمسلمين، حملا مني لك على ما هو شان المؤمنين، من إحسان الظن بجميع الموحدين، وربما كنت أسمع في بعض الأحيان من يذكرك بغش المسلمين، فأنكر عليه بلساني وقلبي، لأنها غيبة لا أعلم صحتها.
ولم أزل على هذا الحال إلى هذه الأيام، فجرى ما جرى من قول قائل للسلطان، " وفقّه الله الكريم للخيرات ": إن هذه البساتين يحل انتزاعها من أهلها عند بعض العلماء، وهذا من الافتراء الصريح، والكذب القبيح، فوجب عليّ وعلى جميع من علم هذا من العلماء، أن يبين بطلان هذه المقالة ودحض هذه الشناعة، وأنها خلاف إجماع المسلمين، وأنه لا يقول بها أحد من أئمة الدين، وأن ينهوا ذلك إلى سلطان المسلمين، فإنه يجب على الناس نصيحته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:" الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله وأئمة المسلمين وعامتهم "، وإمام المسلمين في هذا العصر هو السلطان، وفّقه الله تعالى لطاعته، وتولاه بكرامته.
وقد شاع بين الخواص والعوام إن السلطان كثير الاعتناء بالشرع، ويحافظ على العمل به، وأنه بنى المدرسة لطوائف العلماء، ورتب القضاة من المذهب الأربعة، وأمر بالجلوس في دار العدل لإقامة الشرع وغير ذلك مما هو معروف من اعتناء السلطان " أعز الله أنصاره " بالشرع، وأنه إذا طلب طالب منه العمل بالشرع أمر ذلك ولم يخالفه. فلما افترى هذا القائل في أمر البساتين ما إفتراه، ودلّس على السلطان وأظهر أن انتزاعها جائز عند بعض العلماء، وغش السلطان في ذلك، وبلغ ذلك علماء البلد، وجب عليهم نصيحة السلطان وتبيين الأمر له على وجهه.
وإن هذا خلاف إجماع للمسلمين، فإنه يجب عليه نصيحة الدين والسلطان وعامة المسلمين، فوفّقهم الله تعالى على كتب كتاب يتضمن ما ذكرته، على جهة النصيحة للدين والسلطان والمسلمين، ولم يذكروا فيه أحداً بعينه، بل قالوا: من زعم جواز انتزاعها فقد كذب. وكتب علماء المذاهب الأربعة خطوطهم بذلك، لما يجب عليهم من النصيحة المذكورة، واتفقوا على تبليغها وليَّ الأمر، " أدام الله نعمه عليهم "، لينصحوه ويبينوا حكم الشرع.
ثم بلّغني جماعات متكاثرات في أوقات مختلفات، حصل لي العلم بقولهم: إنك كرهت سعيهم في ذلك، وشرعت في ذم فاعل ذلك، وأسندت معظم ذلك كله إليّ، ويا حبذا ذلك من صنيع، وبلّغني عنك قول هؤلاء الجماعات أنك قلت: قولوا ليحيي هذا الذي سعى في هذا، فينكفّ عنه، وإلا أخذت منه دار الحديث، وبلّغني عنك هؤلاء الجماعات أنك حلفت مرات بالطلاق الثلاث أنك ما تكلمت في انتزاع هذه البساتين، وأنك تشتهي إطلاقها.
قيا ظالم نفسه، أما تستحيي من هذا الكلام المتناقض؟ فكيف يصح الجمع بين شهوتك في إطلاقها، وأنك ما تتكلم فيها، وبين كراهتك السعي في إطلاقها، ونصيحة السلطان والمسلمين؟ ويا ظالم نفسه، هل تعرّض لك أحد بمكروه، أو تكلم فيك أحد بعينك؟ وإنما قال العلماء؛ من قال هذا للسلطان فقد كذبه، ودسّ عليه وغشه، ولم ينصحه، فإن السلطان ما يفعل هذا إلا لاعتقاده أنه حلال عند بعض العلماء، فبينوا أنه حرام عند جميعهم، وأنت فقد قلت: إنك لم تتكلم فيها، وحلفت على هذا بالطلاق الثلاث، فأيّ ضرر عليك في إبطال قول كاذب على الشرع، غاشّ مدلِّس على السلطان، وقد قلتَ: أنه غيرك؟ وكيف تكره السعي على شيء قد أجمع الناس على استحسانه؟ بل هو واجب على من قدر عليه، وأنا بحمد الله من القادرين عليه بالطريق الذي سلكتُ. وأما نجاحه فهو إلى الله تعالى مقلّب القلوب والأبصار.
ثم أي أتعجب غاية العجب من اتخاذك إياي خصماً، ويا حبذا من اتخاذٍ، فإني " بحمد الله " أُحب في الله تعالى وأُبغض فيه، فأحبّ من أطاعه، وأبغض من خالفه. وإذا أخبرت عن نفسك بكراهتك السعي في مصلحة المسلمين ونصيحة السلطان، فقد دخلت في جماعة المخالفين وصرت ممن نبغضه لله رب العالمين، فإن ذلك من الإيمان كما جاءت به الآثار، الصحيحة المنقولة بأسانيد الأئمة الأخيار:
أرض لمن غاب عنك غيبته
…
فذاك ذنب عقابُه فيهِ
ويا ظالم نفسه، أنا ما خاصمتك أو كالمتك أو ذكرتك، أو بيني وبينك مخاصمة أو منازعة أو معاملة في شيء، فما بالك تكره فعل الخير يسّرني الله الكريم له؟ (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) ، بل أنت لسوء نظرك لنفسك تنادي على نفسك، وتشهد الشهود بكراهة هذه النصيحة التي هي مصرَّحة بأنك أنت الذي تكلمت في هذه البساتين، وأن الطلاق وقع عليك، وما أبعد أن تكون شبيهاً بمن قال الله فيهم:(ولتعرفَنَّهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم) .
ويا عدوَّ نفسه أتراني أكره معاداة في سلك طريقتك هذه؟ بل والله أحبها وأوثرها وأفعلها بحمد الله تعالى، فإن الحب في الله والبغض فيه، وأجب عليّ وعليك وعلى جميع المكلفين.
ولست أدري أي غرض لك في حرصك على الإنكار على الساعين في إعظام حرمات الدين، ونصيحة السلطان والمسلمين؟ فيا ظالم نفسه، انتهي عن هذا، وارجع عن طريقة المباهتين المعاندين.
وأعجب من هذا، تكرير الإرسال إليّ بزعمك الفاسد كالمتوعد، إن لم ينكفّ أخذت من دار الحديث. فيا ظالم نفسه، وجاهل الخير وتاركه، أأطّلعت على قلبي أني متهافت عليها؟ أو علمت أني منحصر فيها أو تحققت أني معتمد عليها، مستند إليها؟ أو عرفت أني أعتقد انحصار رزقي فيها؟ وما علمت لو أنصفت كيف كان ابتدأ أمرها؟ أو ما كنت حاضراً مشاهدا أخذي لها؟ ولو فرض تهافتي عليها: أكنت أوثرها على مصلحة عامة للمسلمين مشتملة على نصيحة الله وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم، والسلطان وعامة المسلمين، هذا لم أفعله ولا أفعله إن شاء الله تعالى وكيف تتوهم أني أترك نصيحة الله ورسوله وسلطان المسلمين وعامتهم، مخافة من خيالاتك؟ إن هذه لغباوة منك عظيمة.
ويا عجباً منك! كيف تقول هذا؟ أأنت رب العالمين بيدك خزائن السماوات والأرضين، وعليك رزقي ورزق الخلائق أجمعين؟ أم أنت سلطان الوقت تحكم في الرعية بما تريد؟ فلو كنت عاقلاً ما تهجمت على التفوّه بهذا الذي لا ينبغي أن يقوله إلَاّ ربُّ العالمين أو سلطان الوقت، مع أن سلطان الوقت منزّه عن قولك الباطل، مرتفع المحل عن فعل ما ذكرت يا ظالم، فإن كنت تقول هذا استقلالاً منك فقد أفتتَّ عله واجترأت على أمر عظيم، ونسبته إلى الظلم عدواناً، وإن كنت تقول عنه فقد كذبت عليه، فإنه " بحمد الله " حسن الاعتقاد في الشرع، وذلك من نعم الله تعالى عليه، والسلطان " بحمد الله وفضله " أكثر اعتقاداً في الشرع من غيره ويعظم حرماته، وليس هو ممن يقابل ناصحه بهذيانات الجاهلين وترّهات المخالفين، بل يقبل نصائحهم كما أمر الله تعالى.
واعلم أيها الظالم نفسه، إني والله الذي لا إله إلا هو، لا أترك شيئاً أقدر عليه من السعي من مناصحة الدين والسلطان والمسلمين في هذه القضية، وإن رغمت أنوف الكارهين، وإن كره ذلك أعداد المسلمين، وفرق حزب المخذّلين، وسترى مما أتكلم به إن شاء الله تعالى عند هذا السلطان، وفّقه الله تعالى لطاعته، وتولاه ببركاته، في هذه القضية، غيرة على الشرع، وإعظاماً لحرمات الله تعالى وإقامة للدين، ونصيحة للسلطان وعامة المسلمين.
ويا ظالم نفسه، واجلب بخيلك ورجلك إن قدرت، واستعن بأهل المشرقين وما بين الخافقين، فإني بحمد الله في كفاية تامة، وأرجو من فضل الله تعالى أنك لا تقوى لمنابذة أقل الناس مرتبة، وأنا بحمد الله تعالى ممن يود القتل في طاعة الله تعالى. أتقوى يا ضعيف الحيل لمنابذتي؟ أبلغك يا هذا أني لا أؤمن بالقتل؟ أو بلغك أني أعتقد أن الآجال تنقص، وأن الأرزاق، تتغيّر؟ أما تفكر في نفسك في قبيح ما أتيته من الفعال، وسوء ما نطقت به من المقال؟ أيا ظالم نفسه، من طلب رضا الله تعالى، تردّه خيالاتك وتمويهاتك وأباطيلك وترهاتك؟ وبعد كل هذا أرجو من فضل الله أن يوفّق السلطان " أدام الله نعمه عليه " لإطلاق هذه البساتين، وأن يفعل فيها ما تقرُّ به أعين المؤمنين، وترغم به أنف المخالفين، فإن الله تعالى قال:(والعاقبة للمتقين) .