المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النوع الأول: في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة - الموافقات - جـ ٢

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌النوع الأول: في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة

‌الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَقَاصِدُ الشَّارِعِ

‌النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي وَضْعِ الشَّرِيعَةِ

1

وَفِيهِ مَسَائِلُ

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى 2:

تَكَالِيفُ الشَّرِيعَةِ تَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ مَقَاصِدِهَا فِي الْخَلْقِ، وَهَذِهِ الْمَقَاصِدُ لَا تَعْدُو ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا:

أَنْ تَكُونَ ضَرُورِيَّةً.

وَالثَّانِي:

أَنْ تَكُونَ حَاجِيَّةً.

وَالثَّالِثُ:

أَنْ تَكُونَ تَحْسِينِيَّةً.

فَأَمَّا الضَّرُورِيَّةُ، فَمَعْنَاهَا أَنَّهَا لَا بُدَّ منها في قيام مصالح الدين والدنيا،

1 هذا النوع الأول من هذه الأنواع جاء في بيان، أي: ظهور قصد الشارع في وضع الشريعة، والشارع هو الله تعالى، والشريعة والشرعة، ما سن الله من الدين وأمر به، كالصوم، والصلاة، والحج، والزكاة، وسائر أعمال البر مشتق من شاطئ البحر الذي تشرع فيه الدواب والناس، فيشربون منها ويستقون. "ماء / ص 115".

2 سيأتي في المسألة الرابعة من السنة بيان واف للمقاصد الشرعية وتفاريعها ومكملاتها وإن كان على نحو آخر "د".

قلت: انظر أيضا "مجموع فتاوى ابن تيمية""3/ 114".

ص: 17

بِحَيْثُ إِذَا فُقِدَتْ لَمْ تَجْرِ مَصَالِحُ الدُّنْيَا عَلَى اسْتِقَامَةٍ، بَلْ عَلَى فَسَادٍ وَتَهَارُجٍ1 وَفَوْتِ حَيَاةٍ، وَفِي الْأُخْرَى فَوْتُ النَّجَاةِ وَالنَّعِيمِ، وَالرُّجُوعُ بِالْخُسْرَانِ الْمُبِينِ وَالْحِفْظُ لَهَا يَكُونُ بِأَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا:

مَا يُقِيمُ أَرْكَانَهَا وَيُثَبِّتُ قَوَاعِدَهَا، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ مُرَاعَاتِهَا مِنْ جَانِبِ الْوُجُودِ2.

وَالثَّانِي:

مَا يَدْرَأُ عَنْهَا الِاخْتِلَالَ الْوَاقِعَ أَوِ الْمُتَوَقَّعَ فِيهَا، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ مُرَاعَاتِهَا3 مِنْ جَانِبِ الْعَدَمِ.

فَأُصُولُ الْعِبَادَاتِ رَاجِعَةٌ إِلَى حِفْظِ الدِّينِ مِنْ جانب الوجود، كالإيمان4.

1 أي: فتن وقتال. "ماء/ ص 115".

2 مراعاة الضروريات من جانب الوجود تكون بفعل ما به قيامها وثباتها، ومراعاتها من جانب العدم تكون بترك ما به تنعدم، كالجنايات، فلا يقال: إن مراعاتها من جانب الوجود بمثل الصلاة، وتناول المأكولات مثلا هو مراعاة لها من جانب العدم، إذ بفعل هذه الأشياء التي بها الوجود والاستقرار لا تنعدم مبدئيا أو لا يطرأ عليها العدم، فما كان مراعاة لها من جانب الوجود هو أيضا مراعاة لها من جانب العدم بهذا المعنى. "د".

قلت: انظر "شرح العضد على ابن الحاجب""2/ 238"،و"المستصفى""1/ 251"، و"شرح المحلى على جمع الجوامع""2/ 280".

3 مما ينبغي الانتباه له أن المحافظة لدى المصنف لا تعني الصيانة فقط، وإنما تتناول الإقامة أو الإنشاء، لما تلح الحاجة أو الضرورة إلى إقامته من المصالح العامة، والمرافق في الدولة، كما تتناول التنمية، فليس المقصود إذن بالمحافظة خصوص الصيانة، بل ما يتناول الإنشاء والتنمية لسائر مرافق الحياة والمصالح العامة والفردية على السواء، وفي هذا من السعة ما فيه مما يمنع التخلف والجمود الحضاري.

أفاده الأستاذ الدريني في كتابه "بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله""1/ 99".

4 قال في "التحرير" و"شرحه": "حفظ الدين يكون بوجوب الجهاد وعقوبة الداعي إلى=

ص: 18

وَالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَالْعَادَاتُ رَاجِعَةٌ إِلَى حِفْظِ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ مِنْ جَانِبِ الْوُجُودِ أَيْضًا، كَتَنَاوُلِ1 الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ، وَالْمَلْبُوسَاتِ، وَالْمَسْكُونَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَالْمُعَامَلَاتُ2 رَاجِعَةٌ إِلَى حِفْظِ النَّسْلِ وَالْمَالِ مِنْ جَانِبِ الْوُجُودِ، وَإِلَى حِفْظِ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ أَيْضًا، لَكِنْ بِوَاسِطَةِ3 الْعَادَاتِ.

وَالْجِنَايَاتُ- وَيَجْمَعُهَا4 الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عن المنكر- ترجع إلى

= البدع، ويقول الحنفية: إن وجوب الجهاد ليس لمجرد الكفر، بل لكونهم حربا علينا، ولذلك لا يحارب الذمي والمستأمن، ولا تقتل المرأة والراهب، وقبلت الجزية، وهذا لا ينافي أنه لحفظ الدين، إذ حفظ الدين لا يتم مع حربهم المفضي إلى قتل المسلم أو فتنته عن دينه". أهـ.

فأنت ترى المؤلف توسع في حفظ الدين، فجعله مقصدا لجميع التكاليف أصولها وفروعها، ولعله لا يوافق قوله بعد "فإنها مراعاة في كل ملة"، لأن ذلك قد لا يسلم بالنسبة لنحو الزكاة.... إلخ. "د".

1 أي: أصل تناول الغذاء الذي يتوقف عليه بقاء الحياة والعقل، وسيأتي في الحاجيات التمتع بالطيبات من مأكل وملبس.... إلخ، أي: مما يكون تركه غير مخل بالنفس والعقل، ولكنه يؤدي إلى الضيق والحرج، فالفرق بين المقامين واضح. "د".

2 أي: بالمقدار الذي يتوقف عليه حفظ النفس والمال، فهي بهذا المقدار من الضروري، وهذا هو الذي عناه الآمدي بجعل المعاملات من الضروري، أما مطلق البيع مثلا، فليس من الضروري، بل من الحاجي خلافا لإمام الحرمين، وبهذا يتضح لك ما يأتي للمؤلف في هذه المسألة والمسألة التي تليها. "د".

3 في "د": "بوسطه"، وفي الأصل و"ط": بوساطة".

4 جملة معترضة، والظاهر أنها مقدمة من تأخير، وأن موضعها قبل قوله:"والعبادات والعادات قد مثلت"، وهي راجعة إلى جميع ما تقدم مما يحفظ من جانبي الوجود والعدم، ومعنى كونها تجمع ذلك أنها تتعلق به جميعه وتنصب عليه من باب تكميل أبواب الشريعة، إذ ما من أمر ولا نهي إلا يتعلق به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم أخبر عن الجنايات بأنها ترجع إلى حفظ ما سبق من جانب العدم- ثم اكمل المقام بالتمثيل للمعاملات والجنايات لأنه مثل لغيرهما آنفا، وسيأتي في المسألة السابعة من مبحث الكتاب في قوله:"وجامعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ما يساعد على ما قررنه في فهم قوله هنا: "ويجمعها...." إلخ. "د".

ص: 19

حِفْظِ الْجَمِيعِ مِنْ جَانِبِ الْعَدَمِ.

وَالْعِبَادَاتُ وَالْعَادَاتُ قَدْ مُثِّلَتْ، وَالْمُعَامَلَاتُ مَا كَانَ رَاجِعًا إِلَى مَصْلَحَةِ الْإِنْسَانِ مَعَ غَيْرِهِ، كَانْتِقَالِ الْأَمْلَاكِ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، بِالْعَقْدِ عَلَى الرِّقَابِ أَوِ الْمَنَافِعِ أَوِ الْأَبْضَاعِ، وَالْجِنَايَاتُ مَا كَانَ عَائِدًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بِالْإِبْطَالِ، فَشُرِعَ فِيهَا مَا يَدْرَأُ ذَلِكَ الْإِبْطَالَ، وَيَتَلَافَى1 تِلْكَ الْمَصَالِحَ، كَالْقِصَاصِ، وَالدِّيَّاتِ -لِلنَّفْسِ، وَالْحَدِّ- لِلْعَقْلِ2، وَتَضْمِينِ 3 قِيَمِ الْأَمْوَالِ- لِلنَّسْلِ وَالْقَطْعِ وَالتَّضْمِينِ- لِلْمَالِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَمَجْمُوعُ الضَّرُورِيَّاتِ خَمْسَةٌ، وَهِيَ4: حِفْظُ الدِّينِ، وَالنَّفْسِ، وَالنَّسْلِ، وَالْمَالِ، وَالْعَقْلِ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّهَا مُرَاعَاةٌ في كل ملة5.

1 في "ط": "أو يتلافى"

2 في الأصل: "الحد - الحد".

3 الذي قاله غيره أن حفظ النسل شرع له حد الزنا جلدا ورجما، لأنه مؤد إلى اختلاط الأنساب، المؤدي إلى انقطاع التعهد من الآباء، المؤدي إلى انقطاع النسل وارتفاع النوع الإنساني من الوجود، وأما ما قاله المؤلف، فغير واضح. "د".

4 ترتيبها من العالي للنازل هكذا: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، على خلاف في ذلك، فإن بعضهم يقدم النفس على الدين "د".

5 قال في "شرح التحرير": "حصر المقاصد في هذه الخمسة ثابت بالنظر للواقع وعادات الملل والشرائع بالاستقراء" اهـ. فبعد هذا لا يقال: إن الشوكاني تأمل التوراة والإنجيل فلم يجد فيهما إلا إباحة الخمر مطلقا، على أن المعروف من لسان النصارى وقسيسهم تحريمها عندهم، وعلى فرض صحة ما عزي للشوكاني، لو قيل: إن الممنوع في جميع الشرائع ضياع العقل رأسا والخمر تذهبه وقتا ثم يعود، لكان له وجه =

ص: 20

وَأَمَّا الْحَاجِيَّاتُ1، فَمَعْنَاهَا أَنَّهَا مُفْتَقَرٌ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ التَّوْسِعَةِ وَرَفْعِ الضِّيقِ2 الْمُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إِلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ اللَّاحِقَةِ بِفَوْتِ الْمَطْلُوبِ، فَإِذَا لم تراع دخل علتى الْمُكَلَّفِينَ- عَلَى الْجُمْلَةِ3- الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ، وَلَكِنَّهُ لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَ الْفَسَادِ الْعَادِيِّ الْمُتَوَقَّعِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ.

وَهِيَ جَارِيَةٌ فِي الْعِبَادَاتِ، وَالْعَادَاتِ، وَالْمُعَامَلَاتِ، وَالْجِنَايَاتِ4:

فَفِي الْعِبَادَاتِ: كَالرُّخَصِ الْمُخَفَّفَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى لحوق المشقة بالمرض

= أما تعريض الغنائم في الأمم السابقة لحرق النار السماوية بجمعها في مكان خاص وعدم نيل شيء منها، فظاهر أنه ليس من إتلاف الإنسان للمال، وكان تحريمها عليهم لحكمة تخليص نفوسهم من قصد الغنائم بالجهاد، وقد رخص فيها في شرعنا خاصة كما في الحديث:"ولم تحل لأحد قبلي، وقصة: "فطفق مسحا بالسوق والأعناق" ليس فيها إتلاف لها، بل إما أن يكون من باب استعراضها وتفقد أحوالها بيده لا بالسيف كما حققه الفخر، وإما أن يكون ذلك تقربا إلى الله بأحب المال عنده لأكل الفقراء كما هو المشهور، أو ليكون كالوسم بالنار لحبسها في سبيل الله. "د".

قلت: قال هذا ردا على "خ" حيث قال: "أوردوا على هذه الدعوى أن الخمر كانت مباحة في الشرائع المتقدمة كما كانت مباحة في صدر الإسلام، وما أجيب به من أن المباح في تلك الشرائع هو ما لا يبلغ حد السكر غير مستقيم، قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" قد تأملت التوراة والإنجيل، فلم أجد فيهما إلا إباحة الخمر مطلقا من غير تقييد بعدم السكر، فلم يتم دعوى اتفاق الملل على التحريم".

1 انظر عنها: "مجموع فتاوى ابن تيمية""5/ 270، 274، 275، 8/ 194، 195" ط.

2 في نسخة "ماء/ ص 117ط: "التضييق".

3 أي: ليس كل المكلفين يدخل عليه الحرج بفقد هذه الحاجيات. "د".

4 يستفاد من تمثيل المصنف وكلامه الآتي أنه يفرق بين العادات والمعاملات، إذ يجعل العادات مما يفتقر إليه الناس من الحاجات والمصالح التي لا يتوقف تحصيلها على إبرام عقد، أو إنشاء علاقة في تصرف شرعي، وأما المعاملات، فهي ما ما كان ناشئا عن عقد أو تصرف شرعي أو غير شرعي تربطه بغيره، والجنايات وإن اعتبرها المصنف قسما قائما برأسه غير أنها تدخل في المعاملات بما تنشئ من علاقة بين الجاني والمجني عليه، أو بين الجاني والمجتمع أو الدولة، أفاده الدريني في "بحوث مقارنة""1/ 414".

ص: 21

وَالسَّفَرِ، وَفِي الْعَادَاتِ كَإِبَاحَةِ الصَّيْدِ وَالتَّمَتُّعِ بِالطَّيِّبَاتِ مِمَّا هُوَ حَلَالٌ، مَأْكَلًا وَمَشْرَبًا وَمَلْبَسًا وَمَسْكَنًا وَمَرْكَبًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَفِي الْمُعَامَلَاتِ، كَالْقِرَاضِ1، وَالْمُسَاقَاةِ، وَالسَّلَمِ، وَإِلْقَاءِ2 التَّوَابِعِ فِي الْعَقْدِ عَلَى المتبوعات، كمثرة الشَّجَرِ، وَمَالِ الْعَبْدِ.

وَفِي الْجِنَايَاتِ، كَالْحُكْمِ بِاللَّوْثِ، وَالتَّدْمِيَةِ، وَالْقَسَامَةِ، وَضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَأَمَّا التَّحْسِينَاتُ، فَمَعْنَاهَا الْأَخْذُ بِمَا يَلِيقُ مِنْ مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَتَجَنُّبُ الْمُدَنِّسَاتِ الَّتِي تَأْنَفُهَا الْعُقُولُ الرَّاجِحَاتُ3، وَيَجْمَعُ ذَلِكَ قِسْمُ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.

وَهِيَ جَارِيَةٌ فِيمَا جَرَتْ فِيهِ الْأُولَيَانِ:

فَفِي الْعِبَادَاتِ، كَإِزَالَةِ4 النَّجَاسَةِ -وَبِالْجُمْلَةِ الطَّهَارَاتُ كُلُّهَا- وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَأَخْذِ الزِّينَةِ، وَالتَّقَرُّبِ بِنَوَافِلِ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَاتِ وَالْقُرُبَاتِ5، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.

1 بل سائر المعاملات التي لا يتوقف عليها حفظ النفس وغيرها من الضروريات الخمس كما أشرنا إليه فيما سبق، لا ما يعطيه ظاهر أنواع الأمثلة من خصوص ما كان له أصل حظر لدخوله تحت قاعدة منع كلي، واستثنى ذلك منه حتى عد رخصة بالإطلاقات الأربعة السابقة. "د".

2 في النسخ المطبوعة: "وإلغاء"، والصواب بالقاف، وكذا في الأصل ونسخة "ماء/ ص 117" و"ط".

3 سواء كان ذلك لخائف أو آمن، فإنه يجب عليه ذلك الأخذ وذلك التجنب. "ماء/ ص 117ط".

4 في "م": "إزالة".

5 في "ط": "والقربانات".

ص: 22

وَفِي الْعَادَاتِ، كَآدَابِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَمُجَانَبَةِ الْمَآكِلِ النَّجِسَاتِ وَالْمَشَارِبِ الْمُسْتَخْبَثَاتِ، وَالْإِسْرَافِ وَالْإِقْتَارِ فِي الْمُتَنَاوَلَاتِ.

وَفِي الْمُعَامَلَاتِ، كَالْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ النَّجَاسَاتِ، وَفَضْلِ الْمَاءِ وَالْكَلَأِ، وَسَلْبِ الْعَبْدِ مَنْصِبَ1، الشَّهَادَةِ وَالْإِمَامَةِ، وَسَلْبِ الْمَرْأَةِ مَنْصِبَ الْإِمَامَةِ، وَإِنْكَاحَ نَفْسِهَا، وَطَلَبِ الْعِتْقِ وَتَوَابِعِهِ مِنَ الْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ، وَمَا أَشْبَهَهَا.

وَفِي الْجِنَايَاتِ، كَمَنْعِ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ، أَوْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالرُّهْبَانِ فِي الْجِهَادِ.

وَقَلِيلُ الْأَمْثِلَةِ يَدُلُّ عَلَى مَا سِوَاهَا مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهَا، فَهَذِهِ الْأُمُورُ رَاجِعَةٌ إِلَى مَحَاسِنَ زَائِدَةٍ عَلَى أَصْلِ الْمَصَالِحِ الضَّرُورِيَّةِ وَالْحَاجِيَّةِ، إِذْ لَيْسَ فِقْدَانُهَا بِمُخِلٍّ بِأَمْرٍ ضَرُورِيٍّ وَلَا حَاجِيٍّ، وإنما جرت مجرى التحسين والتزيين.

1 في نسخة "ماء""منصبي".

ص: 23

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:

كُلُّ مَرْتَبَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ يَنْضَمُّ إِلَيْهَا مَا هُوَ كَالتَّتِمَّةِ وَالتَّكْمِلَةِ، مِمَّا لَوْ فَرَضْنَا فَقْدَهُ لَمْ يُخِلَّ بِحِكْمَتِهَا الْأَصْلِيَّةِ1.

فَأَمَّا الْأُولَى2، فَنَحْوُ التَّمَاثُلِ فِي الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ لَا تَدْعُو إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ، وَلَا تَظْهَرُ فِيهِ شِدَّةُ حَاجَةٍ، وَلَكِنَّهُ تَكْمِيلِيٌّ3، وَكَذَلِكَ نَفَقَةُ الْمِثْلِ، وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ4، وَقِرَاضُ الْمِثْلِ5، وَالْمَنْعُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ، وَشُرْبُ قَلِيلِ الْمُسْكِرِ، وَمَنْعُ الرِّبَا، وَالْوَرَعُ اللَّاحِقُ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ، وَإِظْهَارُ شَعَائِرِ6 الدِّينِ، كَصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ، وَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَالْقِيَامُ بِالرَّهْنِ وَالْحَمِيلِ7، وَالْإِشْهَادُ فِي الْبَيْعِ إِذَا قلنا: إنه من الضروريات

1 في نسخة "ماء": ".... لو فرضنا انفقاده، لم يخل بحكمتها الأصلية فقده".

2 أي: مرتبة الضروريات. "د".

3 أي: إنما هو مكمل لحكمة القصاص، فإن قتل الأعلى بالأدنى مؤد إلى ثوران نفوس العصبة، فلا يكمل بدونه ثمرة القصاص من الزجر والحياة التي قصدها الشرع منه، ومثله تحريم قليل المسكر، لأنه بما فيه من لذة الطرب يدعو إلى الكثير المضيع للعقل، فتحريم القليل تكميل لحكمة تحريم الكثير، فيحمل كلام المؤلف على هذا الغرض. "د".

4 في "ط" زيادة ومساقاة المثل".

5 أي: إن هذه الأمثلة الثلاثة مكملة للضروري من حفظ المال للطرفين، كما أن منع النظر للأجنبية مكمل للضروري من حفظ النسل بالمنع من الزنا، لأن النظر مقدمة للزنا وداعية إليه، وتحريم داعية المحرم ثبت بها الدليل الشرعي، وكذا منع الربا تكميل لحفظ المال الذي هو ضروري، فإن الزيادة جزء من مال الدافع يذهب هدرا بدون مقابل معتبر شرعا، والورع تكميل لما هو من نوعه، فإن كان في عبادة، فمكمل لها، وإن كان في عادة أو معاملة، فمكمل لذلك. "د". قلت: انظر في هذا: "شرح العضد على ابن الحاجب""2/ 240- 241"، و"شرح ألفية البرماوي""ق313"، مخطوط في جامعة الرياض.

6 في "م": شعار".

7 كأمير: الدعي والكفيل: "قاموس".

ص: 24

وَأَمَّا الثَّانِيَةُ1، فَكَاعْتِبَارِ2 الْكُفْءِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ فِي الصَّغِيرَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَةٌ مِثْلُ الْحَاجَةِ إِلَى أَصْلِ النِّكَاحِ فِي الصَّغِيرَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْبَيْعَ مِنْ بَابِ الْحَاجِيَّاتِ، فَالْإِشْهَادُ وَالرَّهْنُ وَالْحَمِيلُ مِنْ بَابِ التَّكْمِلَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ، وَجَمْعُ الْمَرِيضِ الَّذِي يَخَافُ أَنْ يُغْلَبَ عَلَى عَقْلِهِ، فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ كَالْمُكَمِّلِ لِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، إِذْ لَوْ لَمْ يُشْرَعْ لَمْ يُخِلَّ بِأَصْلِ التَّوْسِعَةِ وَالتَّخْفِيفِ.

وَأَمَّا الثَّالِثَةُ3، فَكَآدَابِ4 الْأَحْدَاثِ، وَمَنْدُوبَاتِ الطَّهَارَاتِ، وَتَرْكِ إِبْطَالِ الْأَعْمَالِ الْمَدْخُولِ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ وَاجِبَةٍ، وَالْإِنْفَاقِ مِنْ طَيِّبَاتِ الْمَكَاسِبِ، وَالِاخْتِيَارِ فِي الضَّحَايَا وَالْعَقِيقَةِ وَالْعِتْقِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْحَاجِيَّاتِ كَالتَّتِمَّةِ لِلضَّرُورِيَّاتِ، وَكَذَلِكَ التَّحْسِينَاتُ كَالتَّكْمِلَةِ لِلْحَاجِيَّاتِ، فَإِنَّ الضَّرُورِيَّاتِ هِيَ أَصْلُ الْمَصَالِحِ5 حسبما يَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ الله تعالى.

1 أي: مرتبة الحاجيات، فما هو لها كالتكملة، فكاعتبار الكفء.... إلخ ما ذكره المصنف.

2 فإن أصل المقصود من النكاح وإن كان حاصلا بدونهما لكنهما أشد إفضاء لدوام النكاح وتمام الألفة بين الزوجين، وما به دوامه من مكملاته. "د".

3 أي: مرتبة التحسينيات، فما هو لها كالتكملة، فكآداب.... إلخ ما ذكره المصنف.

4 في الأصل: "كأدب".

5 والجميع تتمة لها.

ص: 25

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ 1:

كُلُّ تَكْمِلَةٍ فَلَهَا- مِنْ حَيْثُ هِيَ تَكْمِلَةٌ- شَرْطٌ، وَهُوَ: أَنْ لَا يَعُودَ اعْتِبَارُهَا عَلَى الْأَصْلِ بِالْإِبْطَالِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ تَكْمِلَةٍ يُفْضِي اعْتِبَارُهَا إِلَى رَفْضِ أَصْلِهَا، فَلَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُهَا عِنْدَ ذَلِكَ2، لِوَجْهَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِي إِبْطَالِ الْأَصْلِ إِبْطَالَ التَّكْمِلَةِ، لِأَنَّ التَّكْمِلَةَ مَعَ مَا كَمَّلَتْهُ كَالصِّفَةِ مَعَ الْمَوْصُوفِ، فَإِذَا كَانَ اعْتِبَارُ الصِّفَةِ يُؤَدِّي إِلَى ارْتِفَاعِ الْمَوْصُوفِ، لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ ارْتِفَاعُ الصِّفَةِ أَيْضًا، فَاعْتِبَارُ هَذِهِ التَّكْمِلَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُؤَدٍّ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهَا، وَهَذَا مُحَالٌ لَا يُتَصَوَّرُ، وَإِذَا لَمْ يُتَصَوَّرْ، لَمْ تُعْتَبَرِ التَّكْمِلَةُ، وَاعْتُبِرَ الْأَصْلُ مِنْ غَيْرِ مَزِيدٍ.

وَالثَّانِي: أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا تَقْدِيرًا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ التَّكْمِيلِيَّةَ تَحْصُلُ مَعَ فَوَاتِ الْمَصْلَحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، لَكَانَ حُصُولُ الْأَصْلِيَّةِ أَوْلَى3 لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ حِفْظَ الْمُهْجَةِ مُهِمٌّ كُلِّيٌّ، وَحِفْظُ الْمُرُوءَاتِ مُسْتَحْسَنٌ، فَحَرُمَتِ النَّجَاسَاتُ حِفْظًا لِلْمُرُوءَاتِ، وَإِجْرَاءً لِأَهْلِهَا عَلَى مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، فَإِنْ4 دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى إِحْيَاءِ الْمُهْجَةِ بِتَنَاوُلِ النَّجِسِ، كَانَ تَنَاوُلُهُ أَوْلَى.

وَكَذَلِكَ أَصْلُ الْبَيْعِ ضَرُورِيٌّ، وَمَنْعُ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ مُكَمِّلٌ، فَلَوِ اشْتَرَطَ نَفْيَ الْغَرَرِ جُمْلَةً لَانْحَسَمَ بَابُ الْبَيْعِ، وكذلك الإجارة ضرورية أو حاجية5،

1 في الأصل أدخل كلام من المسألة الثانية في هذا الموضع!

2 في نسخة "ماء": "عند أصل ذلك".

3 أي: تحصيلها أولى بالاعتبار، فيجب أن تترجح على التكميلية، لأن حفظ المصلحة يكون بالأصل، وغاية التكميلية أنها كالمساعد لما كملته، فإذا عارضته، فلا تعتبر. "د".

4 في "م": "فإذا".

5 قد تكون الإجارة ضرورية كالاستئجار لإرضاع من لا مرضعة له وتربيته، وقد تكون حاجية وهو الأكثر، ومثله يقال في البيع وسائر المعاملات باعتبار توقف حفظ أحد الضروريات الخمسة أو عدم التوقف. "د".

ص: 26

واشترط حُضُورِ الْعِوَضَيْنِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ بَابِ التَّكْمِيلَاتِ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا فِي بَيْعِ الْأَعْيَانِ مِنْ غَيْرِ عُسْرٍ، مُنِعَ مِنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ1 إِلَّا فِي السَّلَمِ، وَذَلِكَ فِي الْإِجَارَاتِ مُمْتَنِعٌ، فَاشْتِرَاطُ وُجُودِ الْمَنَافِعِ فِيهَا وَحُضُورِهَا يَسُدُّ بَابَ الْمُعَامَلَةِ بِهَا، وَالْإِجَارَةُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا، فَجَازَتْ وَإِنْ لَمْ يُحْضَرِ الْعِوَضُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ، وَمِثْلُهُ جَارٍ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَوْرَاتِ لِلْمُبَاضَعَةِ وَالْمُدَاوَاةِ وَغَيْرِهِمَا.

وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ مَعَ وُلَاةِ الْجَوْرِ قَالَ الْعُلَمَاءُ بِجَوَازِهِ، قَالَ مَالِكٌ: "لَوْ تُرِكَ ذَلِكَ كان ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَالْجِهَادُ ضَرُورِيٌّ، وَالْوَالِي فِيهِ ضَرُورِيٌّ، وَالْعَدَالَةُ فِيهِ مُكَمِّلَةٌ لِلضَّرُورَةِ، وَالْمُكَمِّلُ إِذَا عَادَ لِلْأَصْلِ بِالْإِبْطَالِ، لَمْ يُعْتَبَرْ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْأَمْرُ بِالْجِهَادِ مَعَ وُلَاةِ الْجَوْرِ2 عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم3.

1 المقابل للحضور الغيبة، والمقابل للعدم الوجود، فإما أن يقول:"واشتراط وجود العوضين"، ثم يقول:"منع بيع المعدوم إلا في السلم" وهو ظاهر، وإما أن يقول كما قال أولا ثم يقول:"منع من بيع الغائب إلا في السلم"، فيعترض عليه بأن بيع الغائب الموصوف جائز، ومقتضى قوله بعد:"فاشتراط وجود المنافع وحضورها"، ثم قوله:"وَإِنْ لَمْ يُحْضَرِ الْعِوَضُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ" أن غرضه بقوله: "واشتراط حضور العوضين" اشتراط وجودهما وحضورهما، ولما كان الحضور يحرز الوجود استغنى به عنه أولا، فيبقى الكلام في اشتراط الحضور في البيع وقد علمت ما فيه. "د".

2 الحاكم الجائر متى انطوت نفسه على أصل الاعتقاد بالإسلام يتسنى للذين أوتوا الحكمة أن يلقوا إليه بالنصيحة، ويقوموه بالموعظة، فإن لم يأتوا به إلى سبيل العدل جملة، خففوا من وطأة مظالمه شيئا كثيرا، وعلى فرض أن يتمادى في طغيانه الذي لا يخلو من رحمة تأخذه في كثير من الأحيان، فمن المتوقع انصرام أجله ورجوع الدولة إلى يد من هو أقوم سيرة وأشد رعاية للمصلحة، وترك الجهاد مع الحاكم الجائر يفضي بالأمة إلى أن يضرب عليها المخالفون سلطة قاتلة، ويضعوا بينها وبين الحياة الشريفة عقبات لا تتزلزل إلا بعد جهاد عنيف. "خ".

3 يشير إلى ما أخرجه أبو داود في "السنن" "كتاب الجهاد، باب في الغزو مع أئمة الجور،=

ص: 27

وكذلك مَا جَاءَ مِنَ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ خَلْفَ الْوُلَاةِ السوء1 فإن في ترك ذلك

= 3/ 18/ رقم 2532" من طريق سعيد بن منصور- وهو في "سننه" "رقم 2367- ط القديمة"-، والبيهقي في "الكبرى" "9/ 156"- من طريق أبي داود-، وأبو عبيد في "الإيمان "رقم 27"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" "7/ 1227/ رقم 2301" عن أنس مرفوعا:"ثلاث من أصول الإيمان"، وذكر من بينها:"والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل".

وإسناده ضعيف، فيه يزيد بن أبي نشبة السلمي، وهو مجهول، قال الزيلعي في "نصب الراية" "3/ 377":"قال المنذري في "مختصره": يزيد بن أبي نشبة في معنى المجهول، وقال عبد الحق: يزيد بن أبي نشبة هو رجل من بني سليم، لم يرو عنه إلا جعفر بن برقان".

قلت: ويشهد له ما أخرجه أبو داود في "السنن""رقم 2533"، والبيهقي في "الكبرى""3 / 121و 8/ 125"، والدراقطني في "السنن""2/ 56/ 57"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة""7/ 1226" / رقم 2299"، وابن الجوزي في "الواهيات" "1/ 422" عن أبي هريرة مرفوعا: "الجهاد واجب عليكم مع كل أمير، برا كان أو فاجرا، والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم، برا كان أو فاجرا، وإن عمل الكبائر....".

وإسناد ضعيف، وفيه انقطاع، مكحول لم يلق أبا هريرة، وفيه العلاء بن الحارث، كان اختلط، وتابعه يزيد بن يزيد بن جابر عند الدراقطني، ولكن رواه عنه أشعث وهو مجروح، وبقية لا يقوم على روايته.

وأورد الدراقطني واللالكائي وابن الجوزي والزيلعي في "نصب الراية""2/ 26- 29" أحاديث كثيرة تدل على ما ذكرها المصنف، أرجاها وأصحها الحديثان المذكوران ولذا اقتصر عليهما أبو داود في "سننه" على منهجه المعروف، ولذا، فلا داعي للإطالة في تخريجها، ولكن يعجبني ما صنعه البيهقي في "الكبرى" 9/ 56"، فإنه ذكر قبل الحديثين المذكورين حديث عروة البارقي -أخرجه الشيخان- مرفوعا: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والغنيمة"، وبوب عليها "باب الغزو مع أئمة الجور"،وحديث عروة يدل على التبويب بدلالة اللازم، فتأمل.

1 ورد في ذلك حديث أبي هريرة المرفوع المتقدم آنفا، ومعنى ما ذكره المصنف صحيح، فقد أخرج البخاري عن ابن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف.

وأخرج مسلم في صحيحه" "كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان،=

ص: 28

تَرْكَ سُنَّةِ الْجَمَاعَةِ، وَالْجَمَاعَةُ مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ الْمَطْلُوبَةِ1، وَالْعَدَالَةُ مُكَمِّلَةٌ لِذَلِكَ الْمَطْلُوبِ، وَلَا يَبْطُلُ الْأَصْلُ بِالتَّكْمِلَةِ.

وَمِنْهُ إِتْمَامُ الْأَرْكَانِ فِي الصَّلَاةِ مُكَمِّلٌ لِضَرُورَاتِهَا2، فَإِذَا أَدَّى طَلَبُهُ إِلَى أَنْ لَا تُصلَّى -كَالْمَرِيضِ غَيْرِ الْقَادِرِ-، سَقَطَ الْمُكَمِّلُ، أَوْ كَانَ فِي إِتْمَامِهَا حَرَجٌ ارْتَفَعَ الْحَرَجُ عَمَّنْ لَمْ يُكْمِلْ، وَصَلَّى عَلَى حَسَبِ مَا أَوْسَعَتْهُ الرُّخْصَةُ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ مِنْ بَابِ مَحَاسِنِ الصَّلَاةِ، فَلَوْ طُلِبَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَتَعَذَّرَ أَدَاؤُهَا على من

= 1/ 69/ رقم 49"، وأهل السنن، أن أبا سعيد الخدري صلى خلف مروان صلاة العيد في قصة تقديمه الخطبة على الصلاة، وإخراجه منبر النبي صلى الله عليه وسلم.

وأخرج البخاري في "صحيحه""كتاب الأذان، باب إمامة المفتون والمبتدع، 1/ 188/ رقم 695" عن عبيد الله بن عدي بن خيار أنه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو محصور، فقال: إنك إمام عامة، ونزل بك ما نرى، ويصلى لنا إمام فتنة ونتحرج؟! فقال:

الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساؤوا، فاجتنب إساءتهم".

ويدل عليه عموم ما أخرجه البخاري في "صحيحه""رقم 694"، وغيره عن أبي هريرة مرفوعا:"يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم".

قال الشوكاني: "ثبت إجماع أهل العصر الأول من الصحابة ومن معهم من التابعين إجماعا فعليا- ولا يبعد أن يكون قوليا- على الصلاة خلف الجائرين، لأن الأمراء في تلك الأعصار كانوا أئمة الصلوات الخمس، فكان الناس لا يؤمهم إلا أمراؤهم، في كل بلدة فيها أمير، وكانت الدولة إذ ذاك لبني أمية، وحالهم وحال أمرائهم لا يخفى".

وانظر: "نيل الأوطار""3/ 200"، و"مجموع فتاوى ابن تيمية""1/ 108- 109"، و"العلل المتناهية""1/ 418- 419".

1 أي: المكملة للضروري كما سبق له، والعدالة في الإمام مكملة لهذا المكمل. "د" وفي "ط":"شعائر الإسلام المطلوبة".

2 المناسب لضروريها، أي أن الصلاة من الضروريات الخمس، وهذا القيام مكمل لها. "د".

ص: 29

لَمْ يَجِدْ سَاتِرًا، إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِي الشَّرِيعَةِ تَفُوقُ الْحَصْرَ، كُلُّهَا جَارٍ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ

وَانْظُرْ فِيمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْكِتَابِ "الْمُسْتَظْهِرِيِّ"1 فِي الْإِمَامِ الَّذِي لَمْ يستجمع شروط الإمامة، واحمل عليه نظائره.

1 قال فيه "ص 119- 120" بعد أن ذكر شروط الإمامة:

"..... فإن خلا الزمان عن قرشي مجتهد يستجمع جميع الشروط، وجب الاستمرار على الإمامة المعقودة إن قامت له الشوكة، وهذا حكم زماننا، وإن قدر- ضربا للمثل- حضور قرشي مجتهد مستجمع للورع والكفاية وجميع شرائط الإمامة، واحتاج المسلمون في خلع الأول إلى تعرض لإثارة فتن واضطراب أمور، لم يجز لهم خلعه والاستبدال به، بل تجب عليهم الطاعة له والحكم بنفوذ ولايته وصحة إمامته، إنا نعلم بأن العلم مزية روعيت في الإمامة تحسينا للأمر وتحصيلا لمزيد المصلحة في الاستقلال بالنظر والاستغناء عن التقليد، وإن الثمرة المطلوبة من الإمامة تطفئة الفتن الثائرة في تفرق الآراء المتنافرة، فكيف يستجيز العاقل تحريك الفتنة وتشويش نظام الأمور وتفويت أصل المصلحة في الحال تشوفا إلى مزيد دقيقة في الفرق بين النظر والتقليد.

وعند هذا ينبغي أن يقيس الإنسان ما ينال الخلق بسبب عدول الإمام عن النظر إلى تقليد الأئمة بما ينالهم لو تعرضوا لخلعه واستبداله أو حكموا إمامته غير منعقدة، وإذا أحسن إيراد هذه المقالة، علم أن التفاوت بين اتباع الشرع نظرا واتباعه تقليدا قريب هين، وأنه لا يجوز أن تخرم بسببه قواعد الإمامة

" إلخ ما قال.

ص: 30

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:

الْمَقَاصِدُ الضَّرُورِيَّةُ فِي الشَّرِيعَةِ أَصْلٌ لِلْحَاجِيَّةِ وَالتَّحْسِينِيَّةِ.

فَلَوْ فُرِضَ اخْتِلَالُ الضَّرُورِيِّ بِإِطْلَاقٍ، لَاخْتَلَّا بِاخْتِلَالِهِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنِ اخْتِلَالِهِمَا [أَوِ اخْتِلَالِ أَحَدِهِمَا] اخْتِلَالُ الضَّرُورِيِّ بِإِطْلَاقٍ، نَعَمْ، قَدْ يَلْزَمُ مِنِ اخْتِلَالِ التَّحْسِينِيِّ بِإِطْلَاقٍ اخْتِلَالُ الْحَاجِيِّ بِوَجْهٍ مَا، وَقَدْ يَلْزَمُ مِنِ اخْتِلَالِ الْحَاجِيِّ بِإِطْلَاقٍ اخْتِلَالُ الضَّرُورِيِّ بِوَجْهٍ مَا، فَلِذَلِكَ إِذَا حُوفِظَ عَلَى الضَّرُورِيِّ، فَيَنْبَغِي الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْحَاجِيِّ، وَإِذَا حُوفِظَ عَلَى الْحَاجِيِّ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافَظَ عَلَى التَّحْسِينِيِّ إِذَا1 ثَبَتَ أَنَّ التَّحْسِينِيَّ يَخْدُمُ الْحَاجِيَّ، وَأَنَّ الْحَاجِيَّ يَخْدُمُ الضَّرُورِيَّ، فَإِنَّ الضَّرُورِيَّ هُوَ الْمَطْلُوبُ2.

فَهَذِهِ مَطَالِبُ خَمْسَةٌ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهَا:

أَحَدُهَا: أَنَّ الضَّرُورِيَّ أَصْلٌ لِمَا سِوَاهُ مِنَ الْحَاجِيِّ وَالتَّكْمِيلِيِّ.

وَالثَّانِي: أَنَّ اخْتِلَالَ الضَّرُورِيِّ يَلْزَمُ مِنْهُ اخْتِلَالُ الْبَاقِيَيْنِ [بِإِطْلَاقٍ]3.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنِ اخْتِلَالِ الْبَاقِيَيْنِ [بِإِطْلَاقٍ] اخْتِلَالُ الضَّرُورِيِّ [بِإِطْلَاقٍ] .

وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ يَلْزَمُ مِنِ اخْتِلَالِ التَّحْسِينِيِّ بِإِطْلَاقٍ أَوِ الْحَاجِيِّ بِإِطْلَاقٍ اخْتِلَالُ الضَّرُورِيِّ بِوَجْهٍ مَا.

وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ يَنْبَغِي الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْحَاجِيِّ وَعَلَى التَّحْسِينِيِّ لِلضَّرُورِيِّ.

1 لعل الأصل: "إذ" لا "إذا" كما يفيده السياق. "د".

2 أي: الأصلي والأشد في الطلب، وإلا، فالكل مطلوب، وسيأتي له ما يفسره في آخر المسألة. "د".

3 أي: اختلالا تاما لا يبقى معه وجود، يقابله الاختلال الجزئي بوجه ما، وفي الأصل و"خ":"واختلال الضروري"، وما بين المعقوفتين سقط من "ط".

ص: 31

بيان الأول:

أن مصالح الدين مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا اعْتُبِرَ قِيَامُ هَذَا الْوُجُودِ الدُّنْيَوِيِّ مَبْنِيًّا عَلَيْهَا، حَتَّى إِذَا انْخَرَمَتْ لَمْ يَبْقَ لِلدُّنْيَا وُجُودٌ- أَعْنِي: مَا هُوَ خَاصٌّ بِالْمُكَلَّفِينَ وَالتَّكْلِيفِ-، وَكَذَلِكَ الْأُمُورُ الْأُخْرَوِيَّةُ لَا قِيَامَ لَهَا إِلَّا بِذَلِكَ.

فَلَوْ عُدِمَ الدينُ عُدِمَ ترتُّبُ الْجَزَاءِ الْمُرْتَجَى، وَلَوْ عُدِمَ المكَلَّف1 لعُدِمَ مَنْ يَتَديَّن، وَلَوْ عَدِم الْعَقْلُ لَارْتَفَعَ التديُّن، وَلَوْ عُدِمَ النسلُ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَادَةِ بَقَاءٌ، وَلَوْ عُدِمَ المالُ لَمْ يبقَ عيشٌ- وأعني بالمال ما يقع عليه الملك ويستبد بِهِ الْمَالِكُ عَنْ غَيْرِهِ إِذَا أَخَذَهُ مِنْ وَجْهِهِ2، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَاللِّبَاسُ عَلَى اخْتِلَافِهَا، وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهَا مِنْ جَمِيعِ الْمُتَمَوِّلَاتِ، فَلَوِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَقَاءٌ، وَهَذَا كُلُّهُ مَعْلُومٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ مَنْ عَرَفَ تَرْتِيبَ أَحْوَالِ الدُّنْيَا، وَأَنَّهَا زَادٌ لِلْآخِرَةِ.

وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْأُمُورُ الْحَاجِيَّةُ إِنَّمَا هِيَ حَائِمَةٌ حَوْلَ هَذَا الْحِمَى، إِذْ هِيَ تَتَرَدَّدُ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ، تُكْمِلُهَا بِحَيْثُ تَرْتَفِعُ فِي الْقِيَامِ بها واكتسابها المشتقات، وَتَمِيلُ بِهِمْ فِيهَا إِلَى التَّوَسُّطِ وَالِاعْتِدَالِ فِي الْأُمُورِ، حَتَّى تَكُونَ جَارِيَةً عَلَى وَجْهٍ لَا يَمِيلُ إِلَى إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ.

وَذَلِكَ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ فِي الْبُيُوعِ، وَكَمَا نَقُولُ فِي رَفْعِ الْحَرَجِ عَنِ الْمُكَلَّفِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ حَتَّى يَجُوزَ لَهُ الصلاة قاعدا

1 أي: النفس.

2 هذا التعريف يعرف المال انطلاقا من كون المال محل الملك، والملك- الذي هو في حقيقته اختصاص- لا يتعلق إلا بما له قيمة بين الناس، وإلا، فلا معنى للاختصاص به، فأساس المالية هو العلاقة التي تقوم بين الناس والشيء، وذلك لحاجة الانتفاع به بوجوه الانتفاع المشروعة وانظر:"الفروق""2/ 208".

ص: 32

وَمُضْطَجِعًا، وَيَجُوزُ لَهُ تَرْكُ الصِّيَامِ فِي وَقْتِهِ إِلَى زَمَانِ صِحَّتِهِ، وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ، وَسَائِرُ مَا تَقَدَّمَ فِي التَّمْثِيلِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَإِذَا فُهِمَ هَذَا؛ لَمْ يَرْتَبِ الْعَاقِلُ فِي أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الْحَاجِيَّةَ فُرُوعٌ دَائِرَةٌ حَوْلَ الْأُمُورِ الضَّرُورِيَّةِ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي التَّحْسِينِيَّةِ، لِأَنَّهَا تُكْمِلُ مَا هُوَ حَاجِيٌّ أَوْ ضَرُورِيٌّ، فَإِذَا كَمَّلَتْ مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ، فَظَاهِرٌ، وَإِذَا كَمَّلَتْ مَا هُوَ حَاجِيٌّ، فَالْحَاجِيُّ مُكَمِّلٌ لِلضَّرُورِيِّ، وَالْمُكَمِّلُ لِلْمُكَمِّلِ مُكَمِّلٌ، فَالتَّحْسِينِيَّةُ إِذًا كَالْفَرْعِ لِلْأَصْلِ

الضَّرُورِيِّ وَمَبْنِيٌّ عَلَيْهِ.

بَيَانُ الثَّانِي:

يَظْهَرُ مِمَّا تَقَدَّمَ، لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الضَّرُورِيَّ هُوَ الْأَصْلُ الْمَقْصُودُ، وَأَنَّ مَا سِوَاهُ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ كَوَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِهِ أَوْ كَفَرْعٍ مِنْ فُرُوعِهِ، لَزِمَ مِنِ اخْتِلَالِهِ اخْتِلَالُ الْبَاقِيَيْنِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ إِذَا اخْتَلَّ اخْتَلَّ الْفَرْعُ مِنْ بَابٍ أَوْلَى1.

فَلَوْ فَرَضْنَا ارْتِفَاعَ أَصْلِ الْبَيْعِ مِنَ الشريعة، لم يمكن اعْتِبَارُ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ، وَكَذَلِكَ لَوِ ارْتَفَعَ أَصْلُ الْقِصَاصِ؛ لَمْ يُمْكِنِ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِ الْقِصَاصِ، وَمُحَالٌ أَنْ يَثْبُتَ الْوَصْفُ مَعَ انْتِفَاءِ الْمَوْصُوفِ، وَكَمَا إِذَا سَقَطَ عَنِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ أَوِ الْحَائِضِ أَصْلُ الصَّلَاةِ، لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَبْقَى عَلَيْهِمَا حُكْمُ الْقِرَاءَةِ فِيهَا، أَوِ التَّكْبِيرِ، أَوِ الْجَمَاعَةِ، أَوِ الطَّهَارَةِ الحديثة أو الخبيثة، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ ثَمَّ2 حُكْمًا هُوَ ثَابِتٌ لِأَمْرٍ فَارْتَفَعَ ذَلِكَ الْأَمْرُ، ثُمَّ بَقِيَ الْحُكْمُ مَقْصُودًا لِذَلِكَ الْأَمْرِ، كَانَ هَذَا فَرْضَ مُحَالٍ، وَمِنْ هُنَا يُعْرَفُ مَثَلًا أَنَّ الصَّلَاةَ إِذَا ارْتَفَعَتِ ارْتَفَعَ مَا هُوَ تَابِعٌ3 لَهَا وَمُكَمِّلٌ، مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالتَّكْبِيرِ وَالدُّعَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّهَا مِنْ أَوْصَافِ الصَّلَاةِ بِالْفَرْضِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَصْلَ الصَّلَاةِ هُوَ الْمُرْتَفِعُ، وَأَوْصَافُهَا بخلاف ذلك.

1 في ط: "الأولى".

2 في "م": "تم".

3 في الأصل: "ثابت".

ص: 33

وَكَذَلِكَ نَقُولُ: إِذَا كَانَ أَصْلُ الصَّلَاةِ مَنْهِيًّا عَنْهُ قَصْدًا، أَوِ الصِّيَامُ كَذَلِكَ، كَالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الصِّيَامِ فِي الْعِيدِ، فَكُلُّ مَا تَتَّصِفُ بِهِ مِنْ مُكَمِّلَاتِهَا مُنْدَرِجٌ تَحْتَ أَصْلِ النَّهْيِ، مِنْ حَيْثُ نُهِيَ عَنْ أَصْلِ الصَّلَاةِ الَّتِي لَهَا هَيْئَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ فِي الْوُقُوعِ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْعِبَادَةِ الْمَخْصُوصَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ كَذَلِكَ، وَلَا تَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهَا إِلَّا بِمَجْمُوعِ أَفْعَالِهَا وَأَقْوَالِهَا، فَانْدَرَجَتِ الْمُكَمِّلَاتُ تَحْتَ النَّهْيِ بِانْدِرَاجِ الْكُلِّ.

وَلَا يُقَالُ: إِنَّ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَقَائِقَ فِي أَنْفُسِهَا لَا تَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهَا بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهَا مُطْلَقًا، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَمْ يَلْزَمِ ارْتِفَاعُهَا بِارْتِفَاعِ مَا هِيَ تَابِعَةٌ لَهُ، فَلَا يَلْزَمُ مِنِ اخْتِلَالِ الْأَصْلِ اخْتِلَالُ الْفَرْعِ كَمَا أَصَّلْتُ.

وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْوَسَائِلَ لَهَا مَعَ مَقَاصِدِهَا هَذِهِ النِّسْبَةُ، كَالطَّهَارَةِ مَعَ الصَّلَاةِ، وَقَدْ تَثْبُتُ الْوَسَائِلُ شَرْعًا مَعَ انْتِفَاءِ الْمَقَاصِدِ، كَجَرِّ الْمُوسَى فِي الْحَجِّ عَلَى رَأْسِ مَنْ لَا شَعَرَ لَهُ، فَالْأَشْيَاءُ إِذَا كَانَ لَهَا حَقَائِقُ فِي أَنْفُسِهَا، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهَا وُضِعَتْ مُكَمِّلَةً أَنْ تَرْتَفِعَ بِارْتِفَاعِ الْمُكَمَّلِ.

لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ الْقِرَاءَةَ وَالتَّكْبِيرَ وَغَيْرَهُمَا لَهَا اعْتِبَارَانِ:

* اعْتِبَارٌ مِنْ حَيْثُ هِيَ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ.

* وَاعْتِبَارٌ مِنْ حَيْثُ أَنْفُسِهَا.

فَأَمَّا اعْتِبَارُهَا مِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي، فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي اعْتِبَارِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ أَجْزَاءٌ مُكَمِّلَةٌ لِلصَّلَاةِ، وَبِذَلِكَ الْوَجْهِ صَارَتْ بِالْوَضْعِ كَالصِّفَةِ مَعَ الْمَوْصُوفِ، وَمِنَ الْمُحَالِ بَقَاءُ الصِّفَةِ مَعَ انْتِفَاءِ الْمَوْصُوفِ، إِذِ الْوَصْفُ مَعْنًى لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ عَقْلًا، فَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي الِاعْتِبَارِ مِثْلَهُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَصِحَّ الْقَوْلُ بِبَقَاءِ المكمِّل مَعَ انْتِفَاءِ المكمَّل، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ،

ص: 34

وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ وَأَشْبَاهُهُ.

وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْوَسَائِلِ، فَأَمْرٌ آخَرُ، وَلَكِنْ إِنْ فَرَضْنَا كَوْنَ الْوَسِيلَةِ كَالْوَصْفِ لِلْمَقْصُودِ بِكَوْنِهِ مَوْضُوعًا لِأَجْلِهِ1، فَلَا يُمْكِنُ وَالْحَالُ هذه أن تبقى الوسيلة مع انتفاء القصد2، إِلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الْحُكْمِ بِبَقَائِهَا3، فَتَكُونُ إِذْ ذَاكَ مَقْصُودَةً لِنَفْسِهَا، وَإِنِ انْجَرَّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ وَسِيلَةً إِلَى مَقْصُودٍ آخَرَ، فَلَا امْتِنَاعَ فِي هَذَا، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ إِمْرَارُ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِ4 مَنْ لَا شَعَرَ لَهُ5.

وَبِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِإِمْرَارِ الموسى على مَنْ وُلِدَ مَخْتُونًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ ثَمَّ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْإِمْرَارِ مَقْصُودًا لِنَفْسِهِ، وَإِلَّا، لَمْ يَصِحَّ فَالْقَاعِدَةُ صَحِيحَةٌ، وَمَا اعْتُرِضَ بِهِ لَا نَقْضَ فِيهِ عَلَيْهَا، [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِغَيْبِهِ وَأَحْكَمُ]6.

بَيَانُ الثَّالِثِ:

أَنَّ الضَّرُورِيَّ مَعَ غيره كالموضوف مع أوصافه، ومن المعلوم

1 كطلب أنواع الطهارة لأجل الصلاة، لا يبقى هذا الطلب إذا ارتفع طلب الصلاة. "د".

2 أي: ببقاء طلبها، أي: فإذا دل دليل على طلبها بقطع النظر عن اعتبارها وسيلة إلى مقصد آخر، فذلك لا مانع منه أن يكون الشيء مقصودا لنفسه ومقصودا ليكون وسيلة لغيره باعتبارين، فالوضوء مثلا عبادة مقصودة في نفسها، ووسيلة إلى مقصود آخر هو الصلاة والطواف ومس المصحف وهكذا، فقد لا يكون طواف ولا غيره ويبقى الوضوء مطلوبا، ولكن الكلام في وسيلة اعتبرت وصفا للغير، فباعتبار هذا الوصف متى سقط المتوسل إليه بها بطل طلبها من هذه الجهة التي تعتبر فيها مكملة لغيرها. "د".

3 هكذا في الأصل، وفي "د" و"خ" و"ط":"المقصد".

4 في "د": "شعر"، وهو خطأ.

5 قال القرافي في الفرق "الثامن والخمسين""القاعدة أنه كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة، فإنها تبع له في الحكم، وقد خولفت هذه القاعدة في الحج في إمرار الموسى على رأس ما لا شعر له مع أنه وسيلة إلى إزالة الشعر، فيحتاج إلى دليل يدل على أنه مقصود في نفسه، وإلا، فهو مشكل على القاعدة". "خ".

6 ليست في الأصل، ولا في "ط".

ص: 35

أَنَّ الْمَوْصُوفَ لَا يَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِ بَعْضِ أَوْصَافِهِ، فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا لِأَنَّهُ يُضَاهِيهِ.

مِثَالُ ذَلِكَ الصَّلَاةُ إِذَا بَطَلَ مِنْهَا الذِّكْرُ أَوِ الْقِرَاءَةُ أَوِ التَّكْبِيرُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ مِنْ أَوْصَافِهَا1 لِأَمْرٍ، لَا يُبْطِلُ أَصْلَ الصَّلَاةِ.

وَكَذَلِكَ إِذَا ارْتَفَعَ اعْتِبَارُ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ، لَا يَبْطُلُ أَصْلُ الْبَيْعِ، كَمَا فِي الْخَشَبِ، وَالثَّوْبِ الْمَحْشُوِّ، وَالْجَوْزِ، وَالْقَسْطَلِ، وَالْأُصُولِ الْمُغَيَّبَةِ فِي الْأَرْضِ، كَالْجَزَرِ وَاللِّفْتِ، وَأُسُسِ الْحِيطَانِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ2.

وَكَذَا3 لَوِ ارْتَفَعَ اعْتِبَارُ الْمُمَاثِلَةِ فِي الْقِصَاصِ، لَمْ يَبْطُلْ أَصْلُ الْقِصَاصِ، وَأَقْرَبُ الْحَقَائِقِ إِلَيْهِ الصِّفَةُ مَعَ الْمَوْصُوفِ، فَكَمَا أَنَّ الصِّفَةَ لَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِهَا بُطْلَانُ الْمَوْصُوفِ [بِهَا] 4، كَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ ذَاتِيَّةً بِحَيْثُ صَارَتْ جُزْءًا مِنْ مَاهِيَّةِ الْمَوْصُوفِ، فَهِيَ إِذْ ذَاكَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْمَاهِيَّةِ، وَقَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ ذَلِكَ الْأَصْلِ، وَيَنْخَرِمُ الأصل بانخرام قاعدة من قواعده، كما [نقول] 5 فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَنَحْوِهِمَا فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَنْخَرِمُ مِنْ أَصْلِهَا بِانْخِرَامِ شَيْءٍ مِنْهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَادِرِ عَلَيْهَا، هَذَا لَا نَظَرَ فيه، والوصف

1 أي: مما ليس ركنا فيها كما يأتي بيانه. "د".

2 أكثر البيوع لا تخلو عن الغرر اليسير، ولهذا كان من المعفو عنه، وقيد الإمام المازري العفو بشرطين: أحدهما أن يكون ذلك اليسير غير مقصود، وثانيهما أن تدعو إليه الضرورة، وقدح ابن عبد السلام في هذا الشرط بأنه يقتضي أن تكون أكثر البيوع رخصة وهو باطل، وأجاب الشيخ ابن عرفة بأن الرخصة ما شرع عند الحاجة خاصة كأكل الميتة، وأما ما جاء عند الحاجة لكل الناس وفي كل الأزمنة، فليس برخصة "خ".

3 في الأصل: "وكذلك".

4 ليست في الأصل.

5 سقطت من "د".

ص: 36

الَّذِي شَأْنُهُ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ وَلَا مِنَ الْحَاجِيَّاتِ، بَلْ هُوَ1 مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ.

لَا يُقَالُ: إِنَّ مِنْ أَوْصَافِ الصَّلَاةِ مَثَلًا الْكَمَالِيَّةِ أن لا تَكُونَ فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ، وَكَذَلِكَ الذَّكَاةُ مِنْ تمامها أن لا تكون بسكين مغصوبة وما أشبه، وَمَعَ ذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ بِبُطْلَانِ أَصْلِ الصَّلَاةِ وَأَصْلِ الذَّكَاةِ، فَقَدْ عَادَ بُطْلَانُ الْوَصْفِ بِالْبُطْلَانِ عَلَى الْمَوْصُوفِ، لِأَنَّا نَقُولُ: مَنْ قَالَ بِالصِّحَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَالذَّكَاةِ، فَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْمُقَرَّرِ بَنَى، وَمَنْ قَالَ بِالْبُطْلَانِ فَبَنَى2 عَلَى اعْتِبَارِ هَذَا الْوَصْفِ كَالذَّاتِيِّ، فَكَأَنَّ الصَّلَاةَ فِي نَفْسِهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا، مِنْ حَيْثُ كَانَتْ أَرْكَانُهَا كُلُّهَا- الَّتِي هِيَ أَكْوَانٌ- غَصْبًا، لِأَنَّهَا أَكْوَانٌ حاصلة في الدار المغصوبة، وتحريم الغصب3 إِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى تَحْرِيمِ الْأَكْوَانِ، فَصَارَتِ الصَّلَاةُ نَفْسُهَا مَنْهِيًّا عَنْهَا، كَالصَّلَاةِ فِي طَرَفَيِ النَّهَارِ4، وَالصَّوْمِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ5.

وَكَذَلِكَ الذَّكَاةُ حِينَ صَارَتِ السِّكِّينُ مَنْهِيًّا عَنِ الْعَمَلِ بِهَا لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهَا غَصْبٌ، كَانَ هَذَا الْعَمَلُ الْمُعَيَّنُ وَهُوَ الذَّكَاةُ مَنْهِيًّا عَنْهُ، فَصَارَ أَصْلُ الذَّكَاةِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، فَعَادَ الْبُطْلَانُ إِلَى الْأَصْلِ بِسَبَبِ بطلان وصف 6 ذاتي بهذا الاعتبار.

1 كذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة بدلا من "بل هو":"ولا".

2 في "ط": "فبناء".

3 هكذا في الأصل، و"ط" ونسختي "م" و"خ"، وفي "د":"الأصل".

4 سيأتي ذلك "ص 516".

5 ورد النهي في أحاديث كثيرة أشهرها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب مسجد بيت المقدس، 3/ 70/ رقم 1197، وكتاب الصيام، باب صوم يوم الفطر، 4/ 239/ رقم 1991، ومسلم في "صحيحه""كتاب الصيام، باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى، 2/ 799، 800/ رقم 827" عن أبي سعيد الخدري أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الفطر، ويوم النحر.

وستأتي في الباب أحاديث أخر عند المصنف، انظر:"3/ 404، 469".

6 كذا في النسخ المطبوعة و"ط"، وفي الأصل:"أصل ذاتي".

ص: 37

وَيُتَصَوَّرُ هُنَا النَّظَرُ فِي أَبْحَاثٍ هِيَ مَنْشَأُ الْخِلَافِ فِي مَسْأَلَةِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَلَكِنَّهَا غَيْرُ قَادِحَةٍ فِي أَصْلِنَا الْمَذْكُورِ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ خِلَافٌ لِأَنَّ أَصْلَهُ عَقْلِيٌّ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الْخِلَافُ فِي إِلْحَاقِ الْفُرُوعِ بِهِ أَوْ عَدَمِ إِلْحَاقِهَا بِهِ1.

بَيَانُ الرَّابِعِ مِنْ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا:

أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ لَمَّا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي تَأَكُّدِ الِاعْتِبَارِ، فَالضَّرُورِيَّاتُ آكَدُهَا، ثُمَّ تَلِيهَا الْحَاجِيَّاتُ وَالتَّحْسِينَاتُ، وَكَانَ2 مُرْتَبِطًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، كَانَ فِي إِبْطَالِ الْأَخَفِّ جُرْأَةٌ عَلَى مَا هُوَ آكَدُ مِنْهُ، وَمَدْخَلٌ لِلْإِخْلَالِ بِهِ، فَصَارَ الْأَخَفُّ كَأَنَّهُ حِمًى لِلْآكَدِ، وَالرَّاتِعُ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، فَالْمُخِلُّ بِمَا هُوَ مكمِّل كَالْمُخِلِّ بالمكمَّل مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

وَمِثَالُ ذَلِكَ الصَّلَاةُ، فَإِنَّ لَهَا مكملات وهي ما3 سِوَى الْأَرْكَانِ وَالْفَرَائِضِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُخِلَّ بِهَا مُتَطَرِّقٌ لِلْإِخْلَالِ بِالْفَرَائِضِ وَالْأَرْكَانِ، لِأَنَّ الْأَخَفَّ طَرِيقٌ إِلَى الْأَثْقَلِ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام: "كَالرَّاتِعِ حول الحمى يوشك أن يقع فيه"4.

1 باعتبار الاختلاف في وصفية هذه الفروع لأصلها: هل هي أوصاف مكملة أم أوصاف ذاتية "د"

2 كذا في "د" و"خ" و"ط"، وفي الأصل و"م":"كانت".

3 كذا في "ط"، وفي غيره:"هنا"

4 قطعة من حديث أوله: "إن الحلال بين وإن الحرام بين...." وفيه: "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه"، أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، 1/ 126/ رقم 52، وكتاب البيوع، باب الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات، 4/ 290/ رقم 2051"، ومسلم في "الصحيح" كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، 3/ 1219- 1220/ رقم 1599"عن النعمان ابن بشير رضي الله عنه.

ص: 38

وَفِي الْحَدِيثِ: "لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ"1.

وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: "إِنِّي لَأَجْعَلُ بَيْنِي وَبَيْنَ الْحَرَامِ سُتْرَةً مِنَ الْحَلَالِ وَلَا أَخْرِقُهَا"2.

وَهُوَ أَصْلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَمَحَلُّ ذِكْرِهِ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْكِتَابِ.

فَالْمُتَجَرِّئُ عَلَى الْأَخَفِّ بِالْإِخْلَالِ بِهِ مُعَرَّضٌ لِلتَّجَرُّؤِ عَلَى مَا سِوَاهُ، فَكَذَلِكَ الْمُتَجَرِّئُ عَلَى الْإِخْلَالِ بِهَا يَتَجَرَّأُ عَلَى الضروريات؛ فإذًا قد يكون في

1 أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب الحدود، باب لعن السارق إذا لم يسم، 12/ 81/ رقم 6783، 6799"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الحدود، باب حد السرقة ونصابها، 3/ 1314/ رقم 1687"، والنسائي في "المجتبى""كتاب قطع السارق، باب تعظيم السرقة، 8/ 65"، وابن ماجه في "السنن""كتاب الحدود، باب حد السارق، 2/ 862/ رقم 2583"، وأحمد في "المسند""2/ 253" وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وكتب "خ" هنا ما نصه: "وقد جرى المصنف في تأويل هذا الحديث على معنى أن من يمد يده إلى سرقة الشيء الحقير لم يلبث أن يتعدى به إلى ما كان أعظم، فصح أن يعد سارق البيضة والحبل بمنزلة من وقع في سرقة المقدار الذي تقطع فيه اليد، وهذا غير تأويله على أن المراد المبالغة في التنفير من السرقة على شاكلة "من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة".

2 في النسخ المطبوعة: "ولا أحرمها" والتصويب من الأصل و"ط"،وأخرجه بهذا اللفظ أبو داود في "الزهد""رقم 320" من طريق مالك، بلغه أن عبد الله بن عمر قوله، وإسناده منقطع، ونسبه لابن عمر ابن عبد البر في "جامع بيان العلم""1/ 209".

وأخرج البلاذري في "أنساب الأشراف""ص 201- أخبار الشيخين" بسند ضعيف عن عمر، قال:"ولقد تركنا تسعة أعشار الحلال مخافة الحرام".

ص: 39

إِبْطَالِ الْكَمَالَاتِ بِإِطْلَاقٍ إِبْطَالُ الضَّرُورِيَّاتِ بِوَجْهٍ مَا.

وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ تَارِكًا لِلْمُكَمِّلَاتِ وَمُخِلًّا بِهَا بِإِطْلَاقٍ، بِحَيْثُ لَا يَأْتِي بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَإِنْ أَتَى بِشَيْءٍ مِنْهَا كَانَ نَزْرًا، أَوْ يَأْتِي بِجُمْلَةٍ مِنْهَا إِنْ تَعَدَّدَتْ؛ إِلَّا أَنَّ الْأَكْثَرَ هُوَ الْمَتْرُوكُ والمخَلُّ بِهِ، وَلِذَلِكَ لَوِ اقْتَصَرَ الْمُصَلِّي عَلَى مَا هُوَ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ، لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاتِهِ مَا يُسْتَحْسَنُ، وَكَانَتْ إِلَى اللَّعِبِ أَقْرَبَ، وَمِنْ هُنَا يَقُولُ بِالْبُطْلَانِ فِي ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْبَيْعِ: إِذَا فَاتَ فِيهِ مَا هُوَ مِنَ الْمُكَمِّلَاتِ كَانْتِفَاءِ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ؛ أَوْشَكَ أَنْ لَا يَحْصُلَ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِأَحَدِهِمَا مَقْصُودٌ، فَكَانَ وُجُودُ الْعَقْدِ كَعَدَمِهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ عَدَمُهُ أَحْسَنَ مِنْ وُجُودِهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ النَّظَائِرِ.

وَالثَّانِي:

أَنَّ كُلَّ دَرَجَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ آكَدُ مِنْهَا كَالنَّفْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ فَرْضٌ، فَسَتْرُ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ كَالْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ السُّورَةِ، وَالتَّكْبِيرُ، وَالتَّسْبِيحُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ، وَهَكَذَا كَوْنُ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ غَيْرَ نَجِسٍ، وَلَا مَمْلُوكٍ للغيرن ولا مفقود الزكاة بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَصْلِ إِقَامَةِ الْبِنْيَةِ، وَإِحْيَاءِ النَّفْسِ كَالنَّفْلِ، وَكَذَلِكَ كَوْنُ الْمَبِيعِ مَعْلُومًا، وَمُنْتَفَعًا بِهِ شَرْعًا، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَصْلِ الْبَيْعِ كَالنَّافِلَةِ.

وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ أَنَّ الْمَنْدُوبَ إِلَيْهِ بِالْجُزْءِ يَنْتَهِضُ أَنْ يَصِيرَ وَاجِبًا بِالْكُلِّ؛ فَالْإِخْلَالُ بِالْمَنْدُوبِ مُطْلَقًا يُشْبِهُ الإخلال بركن1 مِنْ أَرْكَانِ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ ذَلِكَ المندوب بمجموعه واجبا في ذلك الواجب، ولو أخل الإنسان بركن من أركان الواجب من غير2 عذر بطل أصل الْوَاجِبِ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَخَلَّ بِمَا هُوَ بِمَنْزِلَتِهِ أَوْ شَبِيهٍ بِهِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ إِبْطَالَ الْمُكَمِّلَاتِ بِإِطْلَاقٍ قد يبطل الضروريات بوجه ما.

1 كذا في "ط"، وفي غيره:"بالركن".

2 في "د": "بغير".

ص: 40

والثالث:

أن مجموع الحاجيات والتحسينات يَنْتَهِضُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الضَّرُورِيَّاتِ1، وَذَلِكَ أَنَّ كَمَالَ الضَّرُورِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ هِيَ ضَرُورِيَّاتٌ إِنَّمَا يَحْسُنُ مَوْقِعُهُ حَيْثُ يَكُونُ فِيهَا عَلَى الْمُكَلَّفِ سَعَةٌ وَبَسْطَةٌ، مِنْ غَيْرِ تَضْيِيقٍ وَلَا حَرَجٍ وَحَيْثُ يَبْقَى مَعَهَا خِصَالُ مَعَانِي2 الْعَادَاتِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مُوَفَّرَةَ الْفُصُولِ، مُكَمَّلَةَ الْأَطْرَافِ، حَتَّى يَسْتَحْسِنَ ذَلِكَ أَهْلُ الْعُقُولِ، فَإِذَا أَخَلَّ بِذَلِكَ، لَبِسَ قِسْمُ الضَّرُورِيَّاتِ لِبْسَةَ الْحَرَجِ وَالْعَنَتِ3، وَاتَّصَفَ بِضِدِّ مَا يُسْتَحْسَنُ فِي الْعَادَاتِ، فَصَارَ الْوَاجِبُ الضَّرُورِيُّ مُتَكَلَّفَ الْعَمَلِ، وَغَيْرَ صَافٍ فِي النَّظَرِ الَّذِي وُضِعَتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ، وَذَلِكَ ضِدُّ مَا وُضِعَتْ عَلَيْهِ، وَفِي الْحَدِيثِ:"بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ" 4، فَكَأَنَّهُ لَوْ فرض فقدان المكملات،

1 قرر فيما سبق "1/ 206" أن الأحكام تختلف بحسب الكلية والجزئية، فقد يكون الفعل مباحًا بالجزء لكنه واجب أو مندوب بالكل.... وبهذا الميزان قرر هذا الكلام، وشبيه به نجده عند الجويني في "البرهان""2/ 923" حيث يرى مثلا أن البيع يعتبر من الضروريات بالنظر إلى العموم، بحيث "إن الناس لو لم يتبادلوا ما بأيديهم، لجر ذلك ضرورة ظاهرة، فمستند البيع إذا آيل إلى الضرورة الراجعة إلى النوع والجملة"، أي أنه من حيث الجزء "بالنسبة للفرد للواحد"، إنما هو من الحاجيات، ولكنه بالنسبة إلى مجموع الناس أمر ضروري، فهذه الفكرة عند الجويني بذرة، وعند المصنف شجرة، إذ صقلها ووضحها وطورها ووسعها.

2 في "ط": "محاسن".

3 في "خ": "الحرج والمشقة".

4 أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير""7/ 188" و"الأدب المفرد""رقم 273".

وأحمد في المسند" "2/ 381ط، والبرجلاني في "الكرم والجود""رقم 1" وابن سعد في "الطبقات الكبرى""1/ 192" والبزار في "مسنده""رقم 2470- زوائده"، وابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق""13"، والحاكم في "المستدرك""2/ 613"، والبيهقي في "السنن الكبرى""10/ 191-192" و"الشعب""6/ 230، 231"، والسمعاني في "أدب الإملاء""ص 25".

وتمام في "الفوائد""رقم 1070- ترتيبه"، جميعهم من طرق عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ:"إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق".

وإسناده حسن، قال الهيثمي في "المجمع""9/ 15" والسخاوي في "المقاصد الحسنة"، "ص 105":"رجاله رجال الصحيح".

قلت: ابن عجلان فيه كلام يسير لا يضر إن شاء الله تعالى.

وذكره مالك في "الموطأ""2/ 904" بلاغا، وقال ابن عبد البر: "وهو متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره

مرفوعا".

وأخرجه بلفظ المصنف الطبراني في "مكارم الأخلاق""رقم 119" من حديث جابر بسند ضعيف.

ص: 41

لَمْ يَكُنِ الْوَاجِبُ وَاقِعًا عَلَى مُقْتَضَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ خَلَلٌ فِي الْوَاجِبِ ظَاهِرٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْخَلَلُ فِي الْمُكَمِّلِ لِلضَّرُورِيِّ وَاقِعًا فِي بَعْضِ ذَلِكَ1 وَفِي يَسِيرٍ مِنْهُ، بِحَيْثُ لَا يُزِيلُ حُسْنَهُ وَلَا يَرْفَعُ بَهْجَتَهُ وَلَا يُغْلِقُ بَابَ السَّعَةِ عَنْهُ، فَذَلِكَ لَا يُخِلُّ بِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.

وَالرَّابِعُ:

أَنَّ كُلَّ حَاجِيٍّ وَتَحْسِينِيٍّ إِنَّمَا هُوَ خَادِمٌ لِلْأَصْلِ الضَّرُورِيِّ وَمُؤْنَسٌ [بِهِ] 2 وَمُحَسِّنٌ لِصُورَتِهِ الْخَاصَّةِ، إِمَّا مُقَدِّمَةً لَهُ، أَوْ مُقَارِنًا، أَوْ تَابِعًا، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَهُوَ يَدُورُ بِالْخِدْمَةِ حَوَالَيْهِ، فَهُوَ أَحْرَى أَنْ يُتَأَدَّى بِهِ الضَّرُورِيُّ عَلَى أَحْسَنِ حَالَاتِهِ.

وَذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاةَ مَثَلًا إِذَا تَقَدَّمَتْهَا الطَّهَارَةُ أَشْعَرَتْ بِتَأَهُّبٍ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ، فَإِذَا اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ أَشْعَرَ التَّوَجُّهُ بِحُضُورِ الْمُتَوَجَّهِ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَحْضَرَ نِيَّةَ التَّعَبُّدِ، أثمر الخضوع والسكون، ثم يدخل فيه عَلَى نَسَقِهَا بِزِيَادَةِ السُّورَةِ خِدْمَةً لِفَرْضِ أُمِّ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ3 كَلَامُ الرَّبِّ الْمُتَوَجَّهِ إِلَيْهِ، وَإِذَا كَبَّرَ وَسَبَّحَ وَتَشَهَّدَ، فَذَلِكَ كُلُّهُ تَنْبِيهٌ لِلْقَلْبِ، وَإِيقَاظٌ لَهُ أَنْ يَغْفُلَ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنْ مُنَاجَاةِ رَبِّهِ وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهَكَذَا إِلَى آخِرِهَا، فَلَوْ قَدَّمَ قَبْلَهَا نَافِلَةً، كان ذلك تدريجا للمصلي.

1 أي: بحيث لا يقال فيه: إنه اختل بإطلاق، كما هو أصل الدعوى. "د".

2 ما بين المعقوفتين زيادة من "د" و"ط".

3 في "م": "الجمع".

ص: 42

وَاسْتِدْعَاءً لِلْحُضُورِ، وَلَوْ أَتْبَعَهَا نَافِلَةً أَيْضًا، لَكَانَ خَلِيقًا بِاسْتِصْحَابِ الْحُضُورِ فِي الْفَرِيضَةِ.

وَمِنَ1 الِاعْتِبَارِ فِي ذَلِكَ أَنْ جُعِلَتْ أَجْزَاءُ الصَّلَاةِ غَيْرَ خَالِيَةٍ مِنْ ذِكْرٍ مَقْرُونٍ بِعَمَلٍ، لِيَكُونَ اللِّسَانُ وَالْجَوَارِحُ مُتَطَابِقَةً عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْحُضُورُ مَعَ اللَّهِ فِيهَا بِالِاسْتِكَانَةِ وَالْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ وَالِانْقِيَادِ، وَلَمْ يَخْلُ مَوْضِعٌ مِنَ الصَّلَاةِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ فَتْحًا لِبَابِ الْغَفْلَةِ وَدُخُولِ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ.

فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذِهِ الْمُكَمِّلَاتِ الدَّائِرَةَ حَوْلَ حِمَى الضَّرُورِيِّ خَادِمَةٌ لَهُ وَمُقَوِّيَةٌ لِجَانِبِهِ، فَلَوْ خَلَتْ عَنْ ذَلِكَ أَوْ عَنْ أَكْثَرِهِ، لَكَانَ خَلَلًا فِيهَا، وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يَجْرِي سَائِرُ الضَّرُورِيَّاتِ مَعَ مُكَمِّلَاتِهَا لِمَنِ اعْتَبَرَهَا.

بَيَانُ الْخَامِسِ: ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الضَّرُورِيُّ قَدْ يَخْتَلُّ بِاخْتِلَالِ مُكَمِّلَاتِهِ، كَانَتِ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا لِأَجْلِهِ مَطْلُوبَةً؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا كَانَتْ زِينَةً لَا يَظْهَرُ حُسْنُهُ إِلَّا بِهَا، كَانَ مِنَ الْأَحَقِّ أَنْ لَا يُخِلَّ بِهَا.

وَبِهَذَا كُلِّهِ يَظْهَرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ فِي الْمَطَالِبِ الثَّلَاثَةِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْهَا وَهُوَ قِسْمُ الضَّرُورِيَّاتِ، وَمِنْ هُنَالِكَ كَانَ مُرَاعًى فِي كُلِّ مِلَّةٍ، بِحَيْثُ لَمْ تَخْتَلِفْ فِيهِ الْمِلَلُ كَمَا اخْتَلَفَتْ فِي الْفُرُوعِ، فَهِيَ أُصُولُ الدين، وقواعد الشريعة، وكليات الملة.

1 كذا في "ط"، وفي غيره:"وفي".

ص: 43

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ:

الْمَصَالِحُ الْمَثْبُوتَةُ فِي هَذِهِ الدَّارِ يُنْظَرُ فِيهَا مِنْ جِهَتَيْنِ:

- مِنْ جِهَةِ مَوَاقِعِ الْوُجُودِ.

- وَمِنْ جِهَةِ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ الشَّرْعِيِّ بِهَا.

فَأَمَّا النَّظَرُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّ الْمَصَالِحَ الدُّنْيَوِيَّةَ -مِنْ حَيْثُ هِيَ مَوْجُودَةٌ هُنَا- لَا يَتَخَلَّصُ كَوْنُهَا مَصَالِحَ مَحْضَةً، وَأَعْنِي بِالْمَصَالِحِ1 مَا يَرْجِعُ إِلَى قِيَامِ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَتَمَامِ عَيْشِهِ، وَنَيْلِهِ مَا تَقْتَضِيهِ أَوْصَافُهُ الشَّهْوَانِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، حَتَّى يَكُونَ مُنَعَّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهَذَا فِي مُجَرَّدِ الِاعْتِيَادِ لَا يَكُونُ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَصَالِحَ مَشُوبَةٌ بِتَكَالِيفَ وَمَشَاقَّ، قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، تَقْتَرِنُ بِهَا أَوْ تَسْبِقُهَا أَوْ تَلْحَقُهَا، كَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَاللِّبْسِ، وَالسُّكْنَى، وَالرُّكُوبِ، وَالنِّكَاحِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ2، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا تُنَالُ إِلَّا بِكَدٍّ وَتَعَبٍ.

كَمَا أَنَّ الْمَفَاسِدَ الدُّنْيَوِيَّةَ لَيْسَتْ بِمَفَاسِدَ مَحْضَةٍ مِنْ حَيْثُ مَوَاقِعِ الْوُجُودِ، إِذْ مَا مِنْ مَفْسَدَةٍ تُفْرَضُ فِي الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ إِلَّا وَيَقْتَرِنُ بِهَا أَوْ يَسْبِقُهَا أَوْ يَتْبَعُهَا مِنَ الرِّفْقِ وَاللُّطْفِ وَنَيْلِ اللَّذَّاتِ كَثِيرٌ، وَيَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ مَا هُوَ الْأَصْلُ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ وُضِعَتْ عَلَى الِامْتِزَاجِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَالِاخْتِلَاطِ بَيْنَ الْقَبِيلَيْنِ، فَمَنْ رَامَ اسْتِخْلَاصَ جِهَةٍ فِيهَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ3، وَبُرْهَانُهُ التَّجْرِبَةُ التَّامَّةُ مِنْ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ بِوَضْعِهَا عَلَى الِابْتِلَاءِ والاختبار والتمحيص،

1 انظر في تعريفها وأقسامها: "روضة الناظر""1/ 412"، و"المستصفى""1/ 286"، و"قواعد الأحكام""1/ 11-12"، و"إرشاد الفحول""215".

2 أي: مثل اكتساب المعارف الذي يقتضيه وصفه العقلي. "د".

3 في نسخة "ماء/ ص 124" زيادة: "لا من كدرها عن صفائها، ولا من صفائها عن كدرها".

ص: 44

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الْأَنْبِيَاءِ: 35]، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الْمُلْكِ:2] ، وَمَا فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:"حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ" 1، فَلِهَذَا لَمْ يَخْلُصْ فِي الدُّنْيَا لِأَحَدٍ جِهَةٌ خَالِيَةٌ مِنْ شَرِكَةِ الْجِهَةِ الْأُخْرَى.

فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ الرَّاجِعَةُ إِلَى الدُّنْيَا إِنَّمَا تُفْهَمُ عَلَى مُقْتَضَى مَا غَلَبَ، فَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ جِهَةَ الْمَصْلَحَةِ، فَهِيَ الْمَصْلَحَةُ الْمَفْهُومَةُ عُرْفًا، وَإِذَا غَلَبَتِ الْجِهَةُ الْأُخْرَى، فَهِيَ الْمَفْسَدَةُ الْمَفْهُومَةُ عُرْفًا، وَلِذَلِكَ كَانَ الْفِعْلُ ذُو الْوَجْهَيْنِ مَنْسُوبًا إِلَى الْجِهَةِ الرَّاجِحَةِ، فَإِنْ رَجَحَتِ الْمَصْلَحَةُ، فَمَطْلُوبٌ، وَيُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُ مَصْلَحَةٌ، وَإِذَا غَلَبَتْ جِهَةُ الْمَفْسَدَةِ، فَمَهْرُوبٌ عَنْهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ2 مَفْسَدَةٌ، [وَإِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْأَمْرَانِ عَلَى تساوٍ، فَلَا يُقَالُ فِيهِ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ أَوْ مَفْسَدَةٌ] عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَاتُ فِي مِثْلِهِ، فَإِنْ خَرَجَ عَنْ مُقْتَضَى الْعَادَاتِ، فَلَهُ نِسْبَةٌ أُخْرَى3 وَقِسْمَةٌ غَيْرُ هذه [القسمة]4.

1 أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب الرقاق، باب حجبت النار بالشهوات، 11/ 320/ رقم 6487"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب منه، 4/ 2174/ رقم 2823"من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

قال "خ" تعقيبًا على الحديث: "طبعت النفوس على داعية حب الراحة والانغماس في اللذائذ ولكن المعالي والشرف لا تنال إلا باقتحام مصاعب هذه الحياة والخوض في معامع الأخطار، فسعادة الأرواح تكون على قدر ما تحتمل من المتاعب وتقاسيه من آلام مخالفة الهوى، وقد رسم الشارع لها في هذا السبيل حدودًا حجر عليها أن تتعداها، وفوض ما يعدو ذلك إلى همم المكلفين ليتسابقوا في مغالبة الدواعي الزائغة ومصارعه ما يلاقونه من الشدائد".

2 في "خ" ونسخة "ماء/ ص 125": "إنما".

3 وهي غير ما يأتي الكلام عليها في الفصل بعده؛ لأنه باعتبار تعلق الخطاب لا من حيث مواقع الوجود. "د".

4 ما بين المعقوفتين زيادة من "ط" و"د".

ص: 45

هَذَا وَجْهُ النَّظَرِ فِي الْمَصْلَحَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْمَفْسَدَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، مِنْ حَيْثُ مَوَاقِعِ الْوُجُودِ فِي الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ1.

وَأَمَّا النَّظَرُ الثَّانِي2 فِيهَا مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقِ الْخِطَابَ بِهَا شَرْعًا فَالْمَصْلَحَةُ إِذَا كَانَتْ هِيَ الْغَالِبَةَ عِنْدَ مُنَاظَرَتِهَا مَعَ الْمَفْسَدَةِ فِي حُكْمِ الِاعْتِيَادِ، فَهِيَ الْمَقْصُودَةُ شَرْعًا، وَلِتَحْصِيلِهَا وَقَعَ الطَّلَبُ عَلَى الْعِبَادِ، لِيَجْرِيَ قَانُونُهَا عَلَى أَقْوَمِ طَرِيقٍ وَأَهْدَى سَبِيلٍ، وَلِيَكُونَ حُصُولُهَا أَتَمَّ وَأَقْرَبَ وَأَوْلَى بِنَيْلِ الْمَقْصُودِ عَلَى مُقْتَضَى الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنْ تَبِعَهَا مَفْسَدَةٌ أَوْ مَشَقَّةٌ، فَلَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ فِي شَرْعِيَّةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَطَلَبِهِ.، وَكَذَلِكَ الْمَفْسَدَةُ إِذَا كَانَتْ هِيَ الْغَالِبَةَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَصْلَحَةِ فِي حُكْمِ الِاعْتِيَادِ، فَرَفْعُهَا هُوَ الْمَقْصُودُ شَرْعًا، وَلِأَجْلِهِ وَقَعَ النَّهْيُ، لِيَكُونَ رَفْعُهَا على أتم وجوه الإمكان العادي

فيمثلها، حسبما يَشْهَدُ لَهُ كُلُّ عَقْلٍ سَلِيمٍ، فَإِنْ تَبِعَتْهَا مَصْلَحَةٌ أَوْ لَذَّةٌ، فَلَيْسَتْ هِيَ الْمَقْصُودَةَ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مَا غَلَبَ فِي الْمَحَلِّ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مُلْغًى فِي مُقْتَضَى النَّهْيِ، كَمَا كَانَتْ جِهَةُ الْمَفْسَدَةِ مُلْغَاةً فِي جِهَةِ الْأَمْرِ.

فَالْحَاصِلُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَصَالِحَ الْمُعْتَبَرَةَ شَرْعًا أَوِ الْمَفَاسِدَ الْمُعْتَبَرَةَ شَرْعًا هِيَ خَالِصَةٌ3 غَيْرُ مَشُوبَةٍ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَفَاسِدِ4، لا قليلا ولا كثيرا، وإن توهم

1 انظر في مسألة اختلاط المصالح بالمفاسد: "مجموع فتاوى ابن تيمية""20/ 48-61" و"شرح تنقيح الفصول""78"، و"قواعد الأحكام""1/ 7"، وقال فيه:"إن المصالح الخالصة عزيزة الوجود". وفي ط: "أو المفسدة الدنيوية

".

2 سيأتي تقييد هذا النظر في المسألة الثانية. "د".

3 في نسخة "ماء/ ص 126" زيادة: "ولا من المصالح".

4 لأنه إنما نظر فيها إلى الجهة الغالبة لا غير، وألغى مقابلها، فلا التفات إليه، وكأنه عدم؛ لأنه غير جار في الاعتياد الكسبي الذي جعله الشرع ميزانا للمصلحة والمفسدة. د.=

ص: 46

أَنَّهَا مَشُوبَةٌ، فَلَيْسَتْ فِي الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْمَغْلُوبَةَ1 أَوِ الْمَفْسَدَةَ الْمَغْلُوبَةَ2 إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا مَا يَجْرِي فِي الِاعْتِيَادِ الْكَسْبِيِّ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ إِلَى زِيَادَةٍ تَقْتَضِي الْتِفَاتَ الشَّارِعِ إِلَيْهَا عَلَى الْجُمْلَةِ، وَهَذَا الْمِقْدَارُ3 هُوَ الَّذِي قِيلَ إِنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِلشَّارِعِ فِي شَرْعِيَّةِ الْأَحْكَامِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَانِ:

أَحَدُهُمَا:

أن الجهة المغلوبة4 لَوْ كَانَتْ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ -أَعْنِي: مُعْتَبَرَةً عِنْدَ الشَّارِعِ-، لَمْ يَكُنِ الْفِعْلُ مَأْمُورًا بِهِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَا مَنْهِيًّا عَنْهُ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ كَانَ يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ حَيْثُ الْمَصْلَحَةِ، وَمَنْهِيًّا عَنْهُ مِنْ حَيْثُ الْمَفْسَدَةِ، وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ.

وَهَذَا يَتَبَيَّنُ فِي أَعْلَى الْمَرَاتِبِ في الأمر والنهي، كوجوب الإيمان وحرمة

= قلت: إلغاء المصلحة المرجوحة بحيث تجعل كأنها غير موجودة ولا قيمة لها هو رأي ابن الحاجب، وذهب الرازي وجماعة منهم البيضاوي أن النفع وإن كان قليلًا يسمى نفعا، لوجود الحقيقة فيه، فالمفسدة وإن كانت راجحة لا تجعل النفع ضررا؛ لأن قلب الحقائق لا يكون بالاعتبار، وإنما يكون بذهاب الحقيقة بذهاب أجزائها كلها، وما دام النفع باقيا، فالحقيقة لا تزال موجودة، ولكن الحكم لا يشرع عند وجود المفسدة الراجحة أو المساوية، فالخلاف إذن لفظي، ولا ثمرة فيه. وفي "ط": شرعا والمفاسد....".

وانظر: "الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده""ص 126-127"، و"إعلام الموقعين""3/ 1 وما بعدها"، والسياسة الشرعية" "ص 6 وما بعدها" لعبد الوهاب خلاف، و"تعليل الأحكام" "ص 307 وما بعدها" لمصطفى شلبي، وانظر في معنى ما عند المصنف: "قواعد الأحكام" "1/ 106-107"، و"مفتاح دار السعادة" "2/ 14 وما بعدها".

"1و 2 لعل الأصل: "الغالبة" فيهما. د.

3 وهو الخارج الزائد عن حالة الاعتياد الكسبي. "د".

4 هكذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة:"الجهالة المعلومة"، ولا معنى لها، وصوب ما أثبتناه محققا "د" و"م".

ص: 47

الْكُفْرِ، وَوُجُوبِ إِحْيَاءِ النُّفُوسِ وَمَنْعِ إِتْلَافِهَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَكَأَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ الَّذِي لَا أَعْلَى مِنْهُ فِي مَرَاتِبِ التَّكْلِيفِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، مِنْ جِهَةِ مَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ النَّفْسِ عن1 إِطْلَاقِهَا وَقَطْعِهَا عَنْ نَيْلِ أَغْرَاضِهَا وَقَهْرِهَا تَحْتَ سُلْطَانِ التَّكْلِيفِ الَّذِي لَا لَذَّةَ فِيهِ لَهَا، وَكَانَ الْكُفْرُ الَّذِي يَقْتَضِي إِطْلَاقَ النَّفْسِ مِنْ قيد التكاليف2، وَتَمَتُّعَهَا بِالشَّهَوَاتِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مَأْذُونًا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ الْمَلْذُوذَةَ وَالْمُخْرِجَةَ عَنِ الْقُيُودِ الْقَاهِرَةِ مَصْلَحَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ مَحْضٌ، بَلِ الْإِيمَانُ مَطْلُوبٌ بِإِطْلَاقٍ، والكفر منهي عنه بإطلاق، فدل [هذا] 3 عَلَى أَنَّ جِهَةَ الْمَفْسَدَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى طَلَبِ الْإِيمَانِ وَجِهَةَ الْمَصْلَحَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّهْيِ عَنِ الْكُفْرَانِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا، وَإِنْ ظَهَرَ تَأْثِيرُهَا عَادَةً وَطَبْعًا.

وَالثَّانِي:

أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَقْصُودَ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا، لَكَانَ تَكْلِيفُ الْعَبْدِ كُلُّهُ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ بَاطِلٌ شَرْعًا، أَمَّا كَوْنُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ بَاطِلًا شَرْعًا، فَمَعْلُومٌ فِي الْأُصُولِ، وَأَمَّا بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ، فَلِأَنَّ الْجِهَةَ الْمَرْجُوحَةَ مَثَلًا مُضَادَّةٌ فِي الطَّلَبِ لِلْجِهَةِ الرَّاجِحَةِ، وَقَدْ أُمِرَ مَثَلًا بِإِيقَاعِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ مَنْهِيًّا عَنْ إِيقَاعِ الْمَفْسَدَةِ الْمَرْجُوحَةِ، فَهُوَ مَطْلُوبٌ بِإِيقَاعِ الْفِعْلِ وَمَنْهِيٌّ عَنْ إِيقَاعِهِ مَعًا، وَالْجِهَتَانِ غَيْرُ مُنْفَكَّتَيْنِ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَصَالِحَ وَالْمَفَاسِدَ غَيْرُ مُتَمَحِّضَةٍ، فَلَا بُدَّ فِي إِيقَاعِ الْفِعْلِ أَوْ عَدَمِ إِيقَاعِهِ مِنْ تَوَارُدِ4 الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعًا فَقَدْ قِيلَ لَهُ:"افْعَلْ""وَلَا تَفْعَلْ" لِفِعْلٍ وَاحِدٍ، أَيْ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ فِي الْوُقُوعِ، وَهُوَ عَيْنُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ.

لَا يُقَالُ: إِنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَكُونُ غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهَا، وَلَكِنْ مَأْذُونًا فِيهَا، فَلَا يَجْتَمِعُ الأمر والنهي معا، فلا يلزم المحظور.

1 كذا في "ط"، وفي غيره:"من".

2 في "د" و"خ": "التكليف"، وفي الأصل:"غير التكليف".

3 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"د".

4 في "ط": "تولد".

ص: 48

لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَا يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ الْمَصَالِحِ، فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ كَمَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَأْذُونًا فِيهَا، يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَأْمُورًا بِهَا، وَإِنْ سَلِمَ ذَلِكَ، فَالْإِذْنُ مُضَادٌّ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعًا، فَإِنَّ التَّخْيِيرَ مُنَافٍ لِعَدَمِ التَّخْيِيرِ، وَهُمَا وَارِدَانِ عَلَى الْفِعْلِ الْوَاحِدِ، فَوُرُودُ الْخِطَابِ بِهِمَا مَعًا خِطَابٌ بِمَا لَا يُسْتَطَاعُ إِيقَاعُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُخَاطَبِ بِهِ1، وَهُوَ مَا أَرَدْنَا بَيَانَهُ، وَلَيْسَ هَذَا كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، لِإِمْكَانِ الِانْفِكَاكِ بِأَنْ يُصَلَّى فِي غَيْرِ الدَّارِ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ.

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا التَّقْرِيرَ2 مُشِيرٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْفَلَاسِفَةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ أَنَّ الشَّرَّ لَيْسَ بِمَقْصُودِ الْفِعْلِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْخَيْرُ، فَإِذَا3 خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقًا مُمْتَزِجًا خَيْرُهُ بَشَّرِّهِ، فَالْخَيْرُ هُوَ الَّذِي خُلِقَ الْخَلْقُ لِأَجْلِهِ، وَلَمْ يُخْلَقْ لِأَجْلِ الشَّرِّ، وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا بِهِ، كَالطَّبِيبِ عِنْدَهُمْ إِذَا سَقَى المريضَ

الدَّوَاءَ الْمُرَّ الْبَشِعَ الْمَكْرُوهَ، فَلَمْ يَسْقِهِ إِيَّاهُ لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَرَارَةِ وَالْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ، بَلْ لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنَ الشِّفَاءِ وَالرَّاحَةِ، وَكَذَلِكَ الْإِيلَامُ بِالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَقَطْعِ العضو وَالرَّاحَةِ، وَكَذَلِكَ الْإِيلَامُ بِالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَقَطْعِ الْعُضْوِ

الْمُتَآكِلِ، إِنَّمَا قَصْدُهُ بِذَلِكَ جَلْبُ الرَّاحَةِ وَدَفْعُ الْمَضَارِّ، فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمْ جَمِيعُ مَا فِي الْوُجُودِ مِنَ الْمَفَاسِدِ الْمُسَبَّبَةِ عَنْ أَسْبَابِهَا، فَمَا تَقَدَّمَ شَبِيهٌ بِهَذَا مِنْ حَيْثُ قُلْتُ: إِنَّ الشَّارِعَ -مَعَ قَصْدِهِ التَّشْرِيعَ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ- لَا يَقْصِدُ وَجْهَ الْمَفْسَدَةِ، مَعَ أَنَّهَا لَازِمَةٌ لِلْمَصْلَحَةِ4.

وَهُوَ أَيْضًا مُشِيرٌ إِلَى مَذَاهِبِ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الشُّرُورَ وَالْمَفَاسِدَ غَيْرُ مَقْصُودَةِ الْوُقُوعِ، وَأَنَّ وُقُوعَهَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى خِلَافِ الْإِرَادَةِ، تَعَالَى اللَّهُ عن ذلك

1 إنما قيد بهذا حتى لا يعترض بأن إيقاعه لا ينافي التخيير كما لا ينافي الطلب، أما عدم إيقاعه، فهو الذي ينافي مقتضى الطلب فقط، فالتنافي فيه إنما يحصل مع اعتبار هذا القيد. "د".

2 هكذا في الأصل و"ط"، وفي "د":"التقدير"، وقال محققها: لعلها "التقرير".

3 في "م": "فإن".

4 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية""8/ 207- 211و 14/ 299- 302".

ص: 49

عُلُوًّا كَبِيرًا1

فَالْجَوَابُ أَنَّ كَلَامَ الْفَلَاسِفَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْقَصْدِ الْخَلْقِيِّ التَّكْوِينِيِّ، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي الْقَصْدِ التَّشْرِيعِيِّ، وَقَدْ تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّرِيعَةَ وُضِعَتْ لِمَصَالِحِ الخلق بإطلاق2 حسبما تَبَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ، فَكُلُّ مَا شُرِعَ لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ فَغَيْرُ مَقْصُودٍ فِيهِ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا [فِي] الْوُجُودِ3، فَبِالْقُدْرَةِ الْقَدِيمَةِ وَعَنِ الْإِرَادَةِ الْقَدِيمَةِ، لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَحُكْمُ التَّشْرِيعِ أَمْرٌ آخَرُ، لَهُ نَظَرٌ وَتَرْتِيبٌ آخَرُ عَلَى حَسَبِ مَا وَضَعَهُ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَا يَسْتَلْزِمَانِ إِرَادَةَ الْوُقُوعِ، أَوْ عَدَمِ الْوُقُوعِ، وَإِنَّمَا هَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَبُطْلَانُهُ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، فَالْقَصْدُ التَّشْرِيعِيُّ شَيْءٌ، وَالْقَصْدُ الْخُلُقِيُّ شَيْءٌ آخَرُ، لَا مُلَازَمَةَ بَيْنِهِمَا.

فَصْلٌ:

وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ أَوِ الْمَفْسَدَةُ خَارِجَةً4 عَنْ حُكْمِ الِاعْتِيَادِ، بِحَيْثُ لَوِ انْفَرَدَتْ لَكَانَتْ مَقْصُودَةَ الِاعْتِبَارِ لِلشَّارِعِ، فَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَمْثِيلِ ذَلِكَ ثُمَّ تَخْلِيصِ الْحُكْمِ فيه بحول الله.

1 حكى صاحب "إيثار الحق على الخلق"[ص 277] أن الشهرستاني ذكر في كتاب "نهاية الإقدام" أن إرادة الله لا يصح أن تتعلق إلا بأفعاله دون كسب العباد من طاعة أو معصية، ولكن المعروف من مذهب الأشاعرة أن الإرادة تتعلق بالمعاصي، ولما ورد عليهم أن الله تعالى يقول:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} ، والمكروه لا يكون مرادا، أجابوا بأن الكراهة تتعلق بذوات المعاصي الصادرة عن العصاة، والإرادة تتوجه إليها من جهة الحكمة المترتبة عليها. "خ".

2 في "ط": "على الإطلاق".

3 في "د": "بالوجود".

4 أي: بأن تكون مترددة بين الطرفين، وتعارضت فيها الأدلة، "د".

ص: 50

مِثَالُهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَأَكْلُ النَّجَاسَاتِ وَالْخَبَائِثِ اضْطِرَارًا، وَقَتْلُ الْقَاتِلِ، وَقَطْعُ الْقَاطِعِ؛ وَبِالْجُمْلَةِ الْعُقُوبَاتُ وَالْحُدُودُ- لِلزَّجْرِ، وَقَطَعُ الْيَدِ الْمُتَأَكِّلَةِ1، وَقَلْعُ الضِّرْسِ الْوَجِعَةِ، وَالْإِيلَامُ بِقَطْعِ الْعُرُوقِ وَالْفَصْدِ وَغَيْرُ ذَلِكَ لِلتَّدَاوِي، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي [لَوِ] 2 انْفَرَدَتْ عَمَّا غَلَبَ عَلَيْهَا لَكَانَ النَّهْيُ عَنْهَا مُتَوَجِّهًا، وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ مَا تَعَارَضَتْ فِيهِ الْأَدِلَّةُ، فَلَا يَخْلُو أَنْ تَتَسَاوَى الْجِهَتَانِ، أَوْ تَتَرَجَّحَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى.

فَإِنْ تَسَاوَتَا، فَلَا حُكْمَ مِنْ جِهَةِ الْمُكَلَّفِ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، إِذَا ظَهَرَ التَّسَاوِي بِمُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ، وَلَعَلَّ هَذَا غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ فُرِضَ وُقُوعُهُ، فَلَا تَرْجِيحَ إِلَّا بِالتَّشَهِّي مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَذَلِكَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ، وَأَمَّا أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ مُتَعَلِّقٌ بِالطَّرَفَيْنِ مَعًا: طَرَفِ الْإِقْدَامِ، وَطَرَفِ الْإِحْجَامِ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، إِذْ قَدْ فَرَضْنَا تَسَاوِيَ الْجِهَتَيْنِ عَلَى الْفِعْلِ الْوَاحِدِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمَرَ بِهِ وَيُنْهَى عَنْهُ مَعًا، وَلَا يَكُونُ أَيْضًا الْقَصْدُ غَيْرَ مُتَعَلِّقٍ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، إِذْ قَدْ فَرَضْنَا أَنَّ3 تَوَارُدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعًا، وهما4 علمان على القصد على الجملة حسبما يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، إِذْ لَا أَمْرَ وَلَا نَهْيَ مِنْ غَيْرِ اقْتِضَاءٍ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِإِحْدَى الْجِهَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ ذَلِكَ لِلْمُكَلَّفِ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّوَقُّفِ5.

وَأَمَّا إِنْ تَرَجَّحَتْ إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إن قصد

1 بالتشديد.

2 زيادة من "خ".

3 لعل كلمة "أن" زائدة، وقد فرض ذلك بقوله:"وبالجملة كان ما تعارضت فيه الأدلة". "د".

4 في الأصل: "وما معه"، وفي "خ" و"ط":"وهما معا".

5 أي: أو التخيير كما ذكروه عند تعارض الأدلة وتساويها. "د".

ص: 51

الشَّارِعِ مُتَعَلِّقٌ1 بِالْجِهَةِ [الرَّاجِحَةِ -أَعْنِي فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ- وَغَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْجِهَةِ] 2 الْأُخْرَى، إِذْ لَوْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْجِهَةِ الْأُخْرَى لَمَا صَحَّ التَّرْجِيحُ، [وَلَكَانَ الْحُكْمُ كَمَا إِذَا تَسَاوَتِ الْجِهَتَانِ، فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ3، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ مَعَ وُجُودِ التَّرْجِيحِ] 4، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْجِهَتَيْنِ مَعًا عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ مُعْتَبَرَتَانِ، إِذْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمَقْصُودَةَ لِلشَّارِعِ، وَنَحْنُ إِنَّمَا كُلِّفْنَا بِمَا يَنْقَدِحُ5 عِنْدَنَا أَنَّهُ مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ، لَا بِمَا هُوَ مَقْصُودُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَالرَّاجِحَةُ -وَإِنْ تَرَجَّحَتْ- لَا تَقْطَعُ إِمْكَانَ كَوْنِ الْجِهَةِ الْأُخْرَى هِيَ الْمَقْصُودَةَ لِلشَّارِعِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْإِمْكَانَ مُطَّرَحٌ فِي التَّكْلِيفِ إِلَّا عِنْدَ تَسَاوِي الْجِهَتَيْنِ، وَغَيْرُ مُطَّرَحٍ فِي النَّظَرِ، وَمِنْ هَنَا نَشْأَتْ6 قَاعِدَةُ مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ عِنْدَ طَائِفَةٍ من الشيوخ7.

1 لعل صوابها غير متعلق، يعني: وحينئذ، فليس للشارع إلا جهة واحدة تقصد بالطلب، فمن أصابها أصاب وله أجران، ومن أخطأها فقد أخطأ وله أجر، وهذا القول للمخطئة. "د".

2 زيادة من الأصل و"ط" ونسخة "ماء/ ص 127"، وسقطت من النسخ المطبوعة، وبهذا يظهر عدم الحاجة إلى تعليق "د" السابق.

3 في النسخ المطبوعة: "الوقف".

4 سقطت من الأصل.

5 فالحكم الشرعي بالنسبة للمجتهد ومن يقلده هو ما انقدح في نفس المجتهد، وحينئذ يمكن تعدد الحكم الشرعي في الواقعة الواحدة، وهذا هو رأي المصوبة حيث قالوا: إن كل صورة لا نص فيها ليس لها حكم معين عند الله، بل ذلك تابع لظن المجتهد، وعلى هذا يكون الإمكان الثاني مبنيا على قاعدة المصوبة والإمكان قبله على قاعدة المخطئة، فلعل في النسخة تحريفا فيما يأتي له بعد."د".

6 لأنه لولا أنه يجوز أن تكون الجهة الأخرى معتبرة، ما كان لمن بيده دليل قائم على إحدى الجهتين أن يراعي الجهة الأخرى، ويبني عليها حكما. "د".

7 مراعاة الخلاف هي إعمال المجتهد لدليل خصمه في لازم مدلوله الذي أعمل في عكسه دليلا آخر، وقد اعترضه القاضي عياض بوجهين:

أحدهما:

أنه مخالف للقياس الشرعي، إذ يجب على المجتهد أن يجري على مقتضى دليله ومراعاة الخلاف جرى على خلاف ما يقتضيه الدليل.

ثانيهما:

أنه غير متطرد في كل مسألة خلاف، وتخصيصه ببعض مسائل الخلاف تحكم أي ترجيح بلا مرجح، وقد اعتنى المصنف بهذه المسألة، فكتب فيها إلى الشيوخ سؤالا ومراجعة، وسيوافيك بحثها مبسوطا في هذا الكتاب. "خ".

قلت: انظره في آخر المسألة الثالثة من الطرف الأول من كتاب الاجتهاد.

ص: 52

وَالْإِمْكَانُ الْأَوَّلُ جَارٍ1 عَلَى طَرِيقَةِ الْمُصَوِّبِينَ، وَالثَّانِي جَارٍ2 عَلَى طَرِيقَةِ الْمُخَطِّئِينَ.

وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَالَّذِي تَلَخَّصَ3 مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْجِهَةَ الْمَرْجُوحَةَ غَيْرُ مَقْصُودَةِ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا4 عِنْدَ اجْتِمَاعِهَا مَعَ الْجِهَةِ الرَّاجِحَةِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ لَاجْتَمَعَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مَعًا عَلَى الْفِعْلِ الْوَاحِدِ فَكَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ الْحُكْمُ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ كُلِّهَا، سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَقُلْنَا: إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أَمْ لَا، فَلَا فَرْقَ إِذًا بَيْنَ مَا كَانَ مِنَ الجهات المرجوحة جارية عَلَى الِاعْتِيَادِ أَوْ خَارِجًا عَنْهُ، فَالْقِيَاسُ مُسْتَمِرٌّ، وَالْبُرْهَانُ مُطْلَقٌ فِي الْقِسْمَيْنِ، وَذَلِكَ مَا أَرَدْنَا بَيَانَهُ.

فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَا تَكُونُ الْجِهَةُ الْمَغْلُوبَةُ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، فَإِنَّ مَقَاصِدَ الشَّارِعِ تَنْقَسِمُ إِلَى ذَيْنَكَ الضَّرْبَيْنِ.

فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَصْدَ الثَّانِيَ إِنَّمَا يَثْبُتُ إِذَا لَمْ يُنَاقِضِ الْقَصْدَ الْأَوَّلَ، فَإِذَا نَاقَضَهُ، لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ وَلَا بِالْقَصْدِ الثَّانِي، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي موضعه من هذا الكتاب، وبالله التوفيق.

"1، 2" علمت ما فيهما. "د".

3 في النسخ المطبوعة: "يلخص".

4 أي: في التكليف، لأن هذا هو محل الاتفاق، وهو مناط الاستدلال بعده. "د".

ص: 53

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ:

لَمَّا كَانَتِ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: دُنْيَوِيَّةٍ، وَأُخْرَوِيَّةٍ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الدُّنْيَوِيَّةِ، اقْتَضَى الْحَالُ الْكَلَامَ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ الْأُخْرَوِيَّةِ، فَنَقُولُ: إِنَّهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:

أَحَدُهُمَا:

أَنْ تَكُونَ خَالِصَةً لَا امْتِزَاجَ لِأَحَدِ الْقَبِيلَيْنِ بِالْآخَرِ، كَنَعِيمِ أَهْلِ الْجِنَانِ، وَعَذَابِ أَهْلِ الْخُلُودِ فِي النِّيرَانِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنَ النَّارِ وَأَدْخَلَنَا الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ.

الثاني:

أَنْ تَكُونَ مُمْتَزِجَةً، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، فِي حَالِ كَوْنِهِ فِي النَّارِ خَاصَّةً، فَإِذَا أُدْخِلَ الْجَنَّةَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ رَجَعَ إِلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وهذا كله حسبما جَاءَ فِي الشَّرِيعَةِ، إِذْ لَيْسَ لِلْعَقْلِ فِي الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ مَجَالٌ، وَإِنَّمَا تَتَلَقَّى أَحْكَامَهَا مِنَ السَّمْعِ.

أَمَّا كَوْنُ هَذَا الْقِسْمِ الثَّانِي مُمْتَزِجًا فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ النَّارَ لَا تَنَالُ مِنْهُمْ مَوَاضِعَ السُّجُودِ1، وَلَا مَحَلَّ الْإِيمَانِ2، وَتِلْكَ مَصْلَحَةٌ ظَاهِرَةٌ.

1 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب الأذان، باب فضل السجود، 2/ 292- 293/ رقم 806، وكتاب الرقاق، باب الصراط جسر جهنم، 11/ 444- 445/ رقم 6573، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، 13/ 419- 420/ 7437"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، 1/ 163- 166/ رقم 182" عن أبي هريرة ضمن حديث مرفوع طويل جدا، فيه:".... فيعرفونهم في النار، يعرفونهم بأثر السجود، تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود".

وفي لفظ البخاري: "فكل ابن آدم تأكله النار، إلا أثر السجود".

2 في هذا يحتاج لدليل! "استدراك1".

ص: 54

وَأَيْضًا، فَإِنَّمَا تَأْخُذُهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ1، وَأَعْمَالُهُمْ لَمْ تَتَمَحَّضْ لِلشَّرِّ خَاصَّةً، فَلَا تَأْخُذُهُمُ النَّارُ أَخْذَ مَنْ لَا خَيْرَ فِي عَمَلِهِ عَلَى حَالٍ، وَهَذَا كَافٍ فِي حُصُولِ الْمَصْلَحَةِ النَّاشِئَةِ عَنِ2 الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، ثُمَّ الرَّجَاءُ الْمُعَلَّقُ بِقَلْبِ الْمُؤْمِنِ رَاحَةٌ مَا، حَاصِلَةٌ لَهُ مَعَ التَّعْذِيبِ، فَهِيَ تُنَفِّسُ عَنْهُ مِنْ كُرَبِ النَّارِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ الْآتِيَةِ فِي الشَّرِيعَةِ، مَنِ اسْتَقْرَاهَا أَلْفَاهَا.

وَأَمَّا كَوْنُ الْأَوَّلِ مَحْضًا، فَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزُّخْرُفِ: 75] .

وَقَوْلِهِ: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} الآية [الحج: 19]

وقوله: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [طه: 74] .

وَهُوَ أَشَدُّ مَا هُنَالِكَ، إِلَى سَائِرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِبْعَادِ مِنَ الرَّحْمَةِ.

وَفِي الْجَنَّةِ آيَاتٌ أُخَرُ وَأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنْ لا عذاب ولا مشقة ولا

1 يشير المصنف إلى ما أخرجه مسلم في "صحيحه""كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين، 4/ 2185" عن سمرة مرفوعا: "إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى حجزته، ومنهم من تأخذه إلى عنقه".

وفي لفظ: "منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته، ومنهم من تأخذه إلى ترقوته".

وفي لفظ: "حقويه" مكان "حجزته".

وفي "صحيح مسلم "رقم 185" عن أبي سعيد ضمن حديث: "ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم".

وانظر: "الباب الثامن والعشرين في ذلك حال الموحدين في النار، وخروجهم منها برحمة أرحم الراحمين وشفاعة الشافعين" من كتاب ابن رجب: "التخويف من النار" بتحقيقنا يسر الله إتمامه ونشره، ففيه كثير من الأحاديث تدل على ما ذكره المصنف، والله الموفق.

2 هكذا في الأصل و"ط"، وفي النسخ المطبوعة:"من".

ص: 55

مَفْسَدَةَ، كَقَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون، ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ

} إِلَى قَوْلِهِ: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الْحِجْرِ: 45- 48]

وَقَوْلِهِ: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزُّمَرِ: 73] .

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ.

وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ رَبُّنَا بِقَوْلِهِ فِي الْجَنَّةِ: "أَنْتِ رَحْمَتِي"، وَفِي النَّارِ:"أَنْتِ عَذَابِي 1 " 2، فسمَّى هَذِهِ بِالرَّحْمَةِ مُبَالَغَةً، وَهَذِهِ بِالْعَذَابِ مُبَالَغَةً.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ فِي النَّارِ دَرَكَاتٍ بَعْضُهَا أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ، كَمَا أَنَّهُ جَاءَ فِي الْجَنَّةِ أَنَّ فِيهَا دَرَجَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ أَهْلِ النَّارِ أَنَّهُ فِي ضَحْضَاحٍ3 مَعَ أَنَّهُ مِنَ الْمُخَلَّدِينَ، وَجَاءَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ مَنْ يُحْرَمُ بَعْضَ نَعِيمِهَا، كَالَّذِي يَمُوتُ مُدْمِنَ خَمْرٍ وَلَمْ يتب منها4، وإذا كانت

1 في نسخة "ماء/ ص 128" زيادة: "أي: أهل حزن وسكت على الغم".

2 قطعة من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب التفسير،، باب {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} ، 8/ 595/ رقم 4850"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 4/ 2186/ رقم 2846" عن أبي هريرة: وفيه: "قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذاب أعذب بك من أشاء من عبادي" لفظ البخاري.

ولفظ مسلم: "أنت عذابي أعذب بك من أشاء"، وأوله:"تحاجت الجنة والنار......".

3 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب، 7/ 193/ رقم 3883، وكتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، 11/ 417/ رقم 6564"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الإيمان، باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه، 1/ 195/ رقم 210" عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب، فقال:"لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من نار، يبلغ كعبيه، يغلي منه دماغة" وفي "ط": "أنه منها في ضحضاح".

4 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الأشربة، باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلام} "10/ 30 /5575" ومسلم في صحيحه، "كتاب الأشربة" "كتاب عقوبة من شرب الخمر إذا لم يكن منها" "3/ 1588 رقم 2003" عن ابن عمر مرفوعا: "من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة".

ص: 56

دَرَكَاتُ الْجَحِيمِ -أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا- بَعْضُهَا أَشَدُّ، فَالَّذِي دُونَ الْأَشَدِّ أَخَفُّ مِنَ الْأَشَدِّ، وَالْخِفَّةُ مِمَّا يَقْتَضِيهِ وَصْفُ الرَّحْمَةِ الَّتِي تُحَصِّلُ مَصْلَحَةً مَا.

وَأَيْضًا، فَالْقَدْرُ الَّذِي وَصَلَ إِلَيْهِ الْعَذَابُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يُتَوَهَّمُ فَوْقَهُ خَفِيفٌ، كَمَا أَنَّهُ شَدِيدٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ دُونَهُ، وَإِذَا تُصُوِّرَتِ الْخِفَّةُ وَلَوْ بِنِسْبَةٍ مَا، فَهِيَ مَصْلَحَةٌ فِي ضِمْنِ مَفْسَدَةِ الْعَذَابِ، كَمَا أَنَّ دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ كَذَلِكَ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ عَلَى قَدْرِ1 الْعَمَلِ، وَإِذَا كَانَ عَمَلُ الطَّاعَةِ قَلِيلًا بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْمُخَالَفَةِ، كَانَ الْجَزَاءُ على تلك بالنسبة، وَمَعْلُومٌ أَنَّ رُتْبَةَ آخِرِ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ليست كرتبة من لم يعص الله [تعالى] 2 وَدَأَبَ عَلَى الطَّاعَاتِ عُمُرَهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَجْلِ عَمَلِ الْأَوَّلِ السَّبَبِيِّ، فَكَانَ جَزَاؤُهُ عَلَى الطَّاعَةِ فِي الْآخِرَةِ نَعِيمًا كَدَّرَهُ عَلَيْهِ كَثْرَةُ الْمُخَالَفَةِ، وَهَذَا مَعْنَى مُمَازَجَةِ الْمَفْسَدَةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالْقِسْمَانِ مَعًا قِسْمٌ وَاحِدٌ3.

فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي الْمَنْقُولِ أَلْبَتَّةَ أَنْ تَكُونَ الْجَنَّةُ مُمْتَزِجَةَ النَّعِيمِ بِالْعَذَابِ، وَلَا أَنَّ فِيهَا مَفْسَدَةً مَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، هَذَا مُقْتَضَى نَقْلِ الشَّرِيعَةِ، نَعَمِ، الْعَقْلُ لَا يُحِيلُ ذَلِكَ، فَإِنَّ أَحْوَالَ الْآخِرَةِ لَيْسَتْ4 جَارِيَةً عَلَى مُقْتَضَيَاتِ الْعُقُولِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي النَّارِ: إِنَّ فِيهَا لِلْمُخَلَّدِينَ رَحْمَةً تَقْتَضِي مَصْلَحَةً مَا، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى:{لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:75]

1 هكذا في الأصل، وفي النسخ المطبوعة و"ط":"حسب".

2 زيادة من خ".

3 لا بد فيه من الامتزاج كحالة الدنيا. "د".

4 في "ط": "غير".

ص: 57

فَلَا حَالَةَ1، هُنَالِكَ يَسْتَرِيحُونَ2 إِلَيْهَا وَإِنْ قَلَّتْ، كَيْفَ وَهِيَ دَارُ الْعَذَابِ؟! عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْهَا.

وَمَا جَاءَ فِي حِرْمَانِ الْخَمْرِ، فَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْمَرَاتِبِ، فَلَا يَجِدُ مَنْ يُحْرَمُهَا أَلَمًا بِفَقْدِهَا، كَمَا لَا يَجِدُ الْجَمِيعُ أَلَمًا بِفَقْدِ شَهْوَةِ الْوَلَدِ، أَمَّا الْمُخْرَجُ إِلَى الضَّحْضَاحِ، فَأَمْرٌ خَاصٌّ، كَشَهَادَةِ خُزَيْمَةَ3، وَعَنَاقِ أَبِي بُرْدَةَ4، وَلَا نَقْضَ بِمِثْلِ ذَلِكَ عَلَى الْأُصُولِ الِاسْتِقْرَائِيَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَجِبُ النَّظَرُ هُنَا فِي وَجْهِ تَفَاوُتِ الدَّرَجَاتِ وَالدَّرَكَاتِ، لِمَا يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ الْفِقْهِيَّةِ لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى.

وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرَاتِبَ- وَإِنَّ تَفَاوَتَتْ- لَا يَلْزَمُ مِنْ تَفَاوُتِهَا نَقِيضٌ وَلَا ضِدٌّ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ:"فُلَانٌ عَالِمٌ"، فَقَدْ وَصَفْتَهُ بِالْعِلْمِ، وَأَطْلَقْتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ إِطْلَاقًا بِحَيْثُ لَا يُسْتَرَابُ فِي حُصُولِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لَهُ عَلَى كَمَالِهِ، فَإِذَا قُلْتَ:"وَفُلَانٌ فَوْقَهُ فِي الْعِلْمِ"، فَهَذَا الْكَلَامُ يَقْتَضِي أَنَّ الثَّانِيَ حَازَ رُتْبَةً فِي الْعِلْمِ فَوْقَ رُتْبَةِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَقْتَضِي أَنَّ الْأَوَّلَ مُتَّصِفٌ بِالْجَهْلِ وَلَوْ عَلَى وَجْهٍ مَا، فَكَذَلِكَ إِذَا قُلْتَ:"مَرْتَبَةُ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْجَنَّةِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْعُلَمَاءِ"، فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ نَقْصًا مِنَ النَّعِيمِ وَلَا غَضًّا مِنَ الْمَرْتَبَةِ بِحَيْثُ يُدَاخِلُهُ ضِدُّهُ، بَلِ الْعُلَمَاءُ مُنَعَّمُونَ نَعِيمًا لَا نَقْصَ فِيهِ، وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَوْقَ ذَلِكَ فِي النَّعِيمِ الَّذِي

1 في الأصل: "حجة".

2 كذا في "ط"، وفي غيره:"ليستريحوا".

3 أي: حين شهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في البيعة التي أنكرها الأعرابي، فجعل شهادته بشهادة اثنين كما في حديث أبي داود والنسائي. "د".

قلت: سيأتي تخريجه "ص 469".

4 أي: التي كانت دون السن المجزئة في الضحية، وصرح بأنها لا تجزئ لغيره كما في حديث البخاري. "د".

قلت: سيأتي تخريجه "ص 410".

ص: 58

لَا نَقْصَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْعَذَابِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ. كُلٌّ فِي الْعَذَابِ لَا يُدَاخِلُهُ رَاحَةٌ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ أَشَدُّ عَذَابًا مِنْ بَعْضٍ.

وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَمَّا سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ خَيْرِ دُورِ الْأَنْصَارِ، أَجَابَ بِمَا عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي تَرْتِيبِهِمْ فِي الْخَيْرِيَّةِ بِقَوْلِهِ:"خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ، ثُمَّ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ، ثُمَّ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ بَنُو سَاعِدَةَ"، ثُمَّ قَالَ:"وَفِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ" 1 رَفْعًا لتوهم الضد، من حيث كانت أفعل التفضيل قد تستعمل

1 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب مناقب الأنصار، باب فضل دور الأنصار، 7/ 115/ رقم 3789، 3790، وباب منقبة سعد بن عبادة، 7/ 126/ 3807، وكتاب الأدب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ"، 10/ 471/ رقم 6053" وفي "التاريخ الكبير""7/ 299"، ومسلم في "صحيحه "كتاب فضائل الصحابة، باب في خير دور الأنصار رضي الله عنهم، 4/ 1949- 1950/ رقم 2511"، والطيالسي في "المسند" "2/ 136- مع المنحة"، والترمذي في "جامعه" "أبواب المناقب، باب في أي دور الأنصار خير، 5/ 716- 717/ رقم 3911"، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، والنسائي في "الكبرى"، كما في "التحفة" "8/ 341"، ومن طريقه ابن حيويه في "من وافقت كنيته" "41- بتحقيقي"، وأحمد في "المسند" "3/ 497"، و"فضائل الصحابة" "2/ 805/ رقم 1450و 1453"، والبيهقي في "السنن الكبرى" "6/ 371" عن أبي أسيد الساعدي.

وأخرجه البخاري في "الصحيح""9/ 439"، والترمذي في الجامع" "5/ 716"، وأحمد في "فضائل الصحابة" "2/ 801و 803- 804"، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" "6/ 354" من حديث أنس بن مالك.

وأخرجه مسلم في "الصحيح""4/ 1951/ رقم 2512"، ومعمر في "الجامع""11/ 61/ رقم 19910"، وأحمد في "المسند""2/ 267"، و"فضائل الصحابة""2/ 800/ رقم 1436" من حديث أبي هريرة.

وله شاهد آخر عن أبي حميد الساعدي، كما عند البخاري في "الصحيح""3/ 344/ رقم 1481و 7/ 115/ رقم 3791"، ومسلم في "الصحيح""4/ 1785/ رقم 1392".

ووقع اختلاف في تقديم بني النجار على بني عبد الأشهل في بعض الروايات، ورجح الحافظ في "الفتح""7/ 116" تقديم بني النجار بناء على أن أنسا من بني النجار، فله مزيد عناية بحفظ فضائلهم.

ص: 59

عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الْأَعْلَى: 16] وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ تَفْضِيلُهُ عليه الصلاة والسلام بَعْضَ دُورِ الْأَنْصَارِ عَلَى بَعْضٍ تَنْقِيصًا بِالْمَفْضُولِ، وَلَوْ قُصِدَ ذَلِكَ، لَكَانَ أَقْرَبَ إِلَى الذَّمِّ مِنْهُ إِلَى الْمَدْحِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْحَدِيثُ هَذَا الْمَعْنَى الْمُقَرَّرَ، فَإِنَّ فِي آخِرِهِ: فَلَحِقَنَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ نَبِيَّ الله خير الأنصار، فجعلنا خيرا؟ فَقَالَ:"أَوَلَيْسَ بِحَسْبِكُمْ أنْ تَكُونُوا مَنِ الْأَخْيَارِ؟ "1، لَكِنَّ التَّقْدِيمَ فِي التَّرْتِيبِ يَقْتَضِي [رَفْعَ الْمَزِيَّةِ، وَلَا يَقْتَضِي] 2 اتِّصَافَ الْمُؤَخَّرِ بِالضِّدِّ، لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا.

وَكَذَلِكَ يَجْرِي حُكْمُ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَشْخَاصِ، وَبَيْنَ الْأَنْوَاعِ، وَبَيْنَ الصِّفَاتِ، وَقَدْ قَالَ الله تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ} [البقرة: 253] .

1 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب مناقب الأنصار، باب فضل دور الأنصار، 7/ 115/ رقم 3789، 3790، وباب منقبة سعد بن عبادة، 7/ 126/ رقم 3807، وكتاب الأدب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ"، 10/ 471/ رقم 6053"، ومسلم في "صحيحه""كتاب فضائل الصحابة، باب في خير دور الأنصار رضي الله عنهم، 4/ 1949- 1950/ رقم 2511"، عن أبي أسيد الساعدي.

قلت: هكذا الرواية في الأصول، وفي "صحيح البخاري" "3791":"فجعلنا آخرا". وسعد هنا يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له صلى الله عليه وسلم:"..... الخيار".

والخيار هكذا في الأصل و"ط".

وقلت: وعلق عليه في "خ": "وقعت المفاضلة بين الأنصار بحسب السبق في الإسلام وعلى قدر تفاوتهم في نصرة الدين وإعلاء كلمته، وكذلك نظر الشارع لا يعتد بوجه من الوجوه التي يذكرها الناس في قبيل الشرف سوى العمل الصالح، ولا سيما ما يكون له أثر في تخليص الجماعات من ظلمات الباطل ورفع شأنهم إلى مستوى الحرية والسيادة".

2 ساقط من الأصل.

ص: 60

{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الْإِسْرَاءِ: 55]

وَفِي الْحَدِيثِ: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ"1.

وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ تَرْتِيبَ أَشْخَاصِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَقِيقَةِ النَّوْعِ لَا يُمْكِنُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَمْتَازُ بِهِ بَعْضُ الْأَشْخَاصِ مِنَ الْخَوَاصِّ وَالْأَوْصَافِ الْخَارِجَةِ عَنْ حَقِيقَةِ ذَلِكَ النَّوْعِ، وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ جِدًّا، مَنْ تَحَقَّقَهُ هَانَتْ عَلَيْهِ مُعْضِلَاتٌ وَمُشْكِلَاتٌ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ، كَالتَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ2 عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَزِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ وَالْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ، الَّتِي زَلَّتْ بِسَبَبِ الْجَهْلِ بِهَا أَقْدَامُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

1 أخرجه مسلم في "الصحيح""كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله، 4/ 2052/ رقم 2664" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومضى تخريجه "1/ 356".

2 فالأنبياء مثلا متساوون في حقيقة النبوة، فليس يفضل بعضهم بعضا فيها، إنما التفاضل بالمزايا من كثرة الأتباع والمهتدين، ومن التفوق في الصبر على ما لاقوا في هذا السبيل، حتى عد بعضهم من أولى العزم، وكذا يقال في الإيمان: زيادته ونقصه ليست في نفس الحقيقة، وإنما هي بالمزايا والثمرات وهكذا. "د".

قلت: سيأتي تفصيل هذه المسألة في الطرف الثاني من "الفتوى" في المسألة الثالثة.

ص: 61

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ:

إِذًا1، ثَبَتَ أَنَّ الشَّارِعَ قَدْ قصد بالتشريع إقامة المصالح الأخروية والدنيوية، فذلك1 عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْتَلُّ لَهَا بِهِ نِظَامٌ، لَا بِحَسَبِ الْكُلِّ وَلَا بِحَسَبِ الْجُزْءِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الضَّرُورِيَّاتِ أَوِ الْحَاجِيَّاتِ أَوِ التَّحْسِينِيَّاتِ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَوْضُوعَةً بِحَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يَخْتَلَّ نِظَامُهَا أَوْ تَنْحَلَّ2 أَحْكَامُهَا، لَمْ يَكُنِ التَّشْرِيعُ مَوْضُوعًا لَهَا، إِذْ لَيْسَ كَوْنُهَا مَصَالِحَ إِذْ ذَاكَ بِأَوْلَى مِنْ كَوْنِهَا مَفَاسِدَ، لَكِنَّ3 الشَّارِعَ قَاصِدٌ بِهَا أَنْ تَكُونَ مَصَالِحَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَضْعُهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ أَبَدِيًّا وَكُلِّيًّا وَعَامًّا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّكْلِيفِ وَالْمُكَلَّفِينَ من جميع4 الْأَحْوَالِ، وَكَذَلِكَ وَجَدْنَا الْأَمْرَ فِيهَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

وَأَيْضًا، فَسَيَأْتِي بَيَانُ أَنَّ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ كُلِّيَّةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، لَا تَخْتَصُّ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنْ تَنَزَّلَتْ إِلَى الْجُزْئِيَّاتِ، فَعَلَى [وَجْهٍ] 5 كُلِّيٍّ، وَإِنْ خَصَّتْ بَعْضًا، فَعَلَى نَظَرِ الْكُلِّيِّ6، كَمَا أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ كُلِّيَّةً، فَلِيَدْخَلَ تَحْتَهَا الْجُزْئِيَّاتُ، فَالنَّظَرُ الْكُلِّيُّ فِيهَا مَنْزِلٌ لِلْجُزْئِيَّاتِ، [وَتَنَزُّلُهُ لِلْجُزْئِيَّاتِ] 7 لَا يَخْرِمُ كَوْنَهُ كُلِّيًّا، وَهَذَا الْمَعْنَى إِذَا ثَبَتَ دَلَّ عَلَى كَمَالِ النِّظَامِ فِي التَّشْرِيعِ، وَكَمَالُ النِّظَامِ فِيهِ يَأْبَى أَنْ يَنْخَرِمَ مَا وُضِعَ له، وهو المصالح.

1 أي: بمجموع ما تقدم من أول كتاب المقاصد ثبت أن الشارع..... إلخ، فإذن منونة، وزاد هنا التصريح بكون ذلك أبديا وكليا وعاما لا يختل نظامها. "د".

2 في النسخ المطبوعة: "تخل"، وما أثبتناه من الأصل ونسخة "ماء/ ص 129".

3 في نسخة "ماء/ ص 129": "ولكن".

4 في النسخ المطبوعة و"ط": "......... والمكلفين وجميع الأحوال"،وما أثبتناه من نسخة "ماء"والأصل.

"5، 7" سقط من الأصل.

6 في "ط": "الكل".

ص: 62

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ:

الْمَصَالِحُ الْمُجْتَلَبَةُ شَرْعًا وَالْمَفَاسِدُ الْمُسْتَدْفَعَةُ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ مِنْ حَيْثُ تُقَامُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لِلْحَيَاةِ الْأُخْرَى1، لَا مِنْ حَيْثُ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ فِي جَلْبِ مَصَالِحِهَا الْعَادِيَّةِ، أَوْ دَرْءِ مَفَاسِدِهَا الْعَادِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ:

أَحَدُهَا:

مَا سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى من أَنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا جَاءَتْ لِتُخْرِجَ الْمُكَلَّفِينَ عَنْ دَوَاعِي أَهْوَائِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا عِبَادًا لِلَّهِ2، وَهَذَا الْمَعْنَى إِذَا ثَبَتَ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ فَرْضِ أَنْ يَكُونَ وَضْعُ الشَّرِيعَةِ عَلَى وَفْقِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ، وَطَلَبِ مَنَافِعِهَا الْعَاجِلَةِ كَيْفَ كَانَتْ، وَقَدْ قال ربنا سبحانه3:

1 يلزم أن تقيد المسألة الخامسة بهذا حتى لا يتنافى مع ظاهر الكلام هناك في النظر الأول والثاني الذي انبنى عليه، فإنه قال في الأول:"وَأَعْنِي بِالْمَصَالِحِ مَا يَرْجِعُ إِلَى قِيَامِ حَيَاةِ الإنسان في نفسه.... إلخ" وقال بعد: "إن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة، إِذْ مَا مِنْ مَفْسَدَةٍ تُفْرَضُ فِي الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ إِلَّا وَيَقْتَرِنُ بِهَا أَوْ يَسْبِقُهَا أَوْ يلحقها رفق ونيل لذات"، ثم قال:"فالمصالح والمفاسد إنما تفهم على مقتضى ما غلب" ثم قال في النظر الثاني: "فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة في حكم الاعتياد، فهي المقصودة شرعا، ولتحصيلها وقع الطلب"، فقد بنى المصلحة والمفسدة على ما غلب منهما باعتبار قيام الحياة ونيل الشهوات التي تقتضيها أوصاف الإنسان الشهوانية، فجعلها مما ينبني عليه كونها مصلحة تطلب أو مفسدة تدفع، وهنا يقول: إن مجرد كونها مصلحة في نظر الشخص لا تعتبر، والمعتبر أن تكون بحيث تقوم بها الحياة الدنيا للأخرى، وذلك طبعا لا يكون إلا تبعا لرسم الشرع الذي يعلم المصلحة من هذه الحيثية موفقا بينها وبين ما أجراه في سنة الوجود. "د".

قلت: ما أحسن ما قاله العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام""1/ 8": "ورب شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا وعذابا وبيلا".

2 أي: اختيارا، كما أنهم عبيد له اضطرارا. "د".

3 راجع "روح المعاني" في معاني الآية، تجدها كلها مناسبة للاستدلال الذي يريده المؤلف. "د".

ص: 63

{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} الْآيَةَ1 [الْمُؤْمِنُونَ: 71]

وَالثَّانِي:

مَا تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ2 مِنْ أَنَّ الْمَنَافِعَ الْحَاصِلَةَ لِلْمُكَلَّفِ مَشُوبَةٌ بِالْمَضَارِّ عَادَةً، كَمَا أَنَّ الْمَضَارَّ مَحْفُوفَةٌ بِبَعْضِ الْمَنَافِعِ3، كَمَا نَقُولُ: إِنَّ النُّفُوسَ مُحْتَرَمَةٌ مَحْفُوظَةٌ وَمَطْلُوبَةُ الْإِحْيَاءِ، بِحَيْثُ إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ إِحْيَائِهَا وَإِتْلَافِ الْمَالِ عَلَيْهَا، أَوْ إِتْلَافِهَا وَإِحْيَاءِ المال، كان إحياؤها أولى، فإن عرض إِحْيَاؤُهَا إِمَاتَةَ الدِّينِ، كَانَ إِحْيَاءُ الدِّينِ أَوْلَى وَإِنْ أَدَّى إِلَى إِمَاتَتِهَا، كَمَا جَاءَ فِي جِهَادِ الْكُفَّارِ، وَقَتْلِ الْمُرْتَدِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَمَا إِذَا عَارَضَ إِحْيَاءُ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِمَاتَةَ نُفُوسٍ كَثِيرَةٍ فِي الْمُحَارِبِ مَثَلًا، كَانَ إِحْيَاءُ النُّفُوسِ الْكَثِيرَةِ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ4 إِذَا قُلْنَا: الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِيهِ إِحْيَاءُ النُّفُوسِ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ ظَاهِرَةٌ، مَعَ أَنَّ فِيهِ مِنَ الْمَشَاقِّ وَالْآلَامِ فِي تَحْصِيلِهِ ابْتِدَاءً وَفِي اسْتِعْمَالِهِ حَالًا وَفِي لَوَازِمِهِ وَتَوَابِعِهِ انْتِهَاءً كَثِيرًا.

وَمَعَ ذَلِكَ، فَالْمُعْتَبَرُ إِنَّمَا هُوَ الْأَمْرُ الْأَعْظَمُ، وَهُوَ جِهَةُ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، لَا مِنْ حَيْثُ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ- حَتَّى إِنَّ الْعُقَلَاءَ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى هَذَا النَّوْعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكُوا مِنْ تَفَاصِيلِهَا قَبْلَ الشَّرْعِ مَا أَتَى بِهِ الشرع،

1 بقيتها أيضا فيه الدليل، فإنه تشنيع عليهم بأنهم أعرضوا عما فيه ذكرهم وشرفهم اتباعا لأهوائهم الباطلة. "د".

2 مجرد هذا لا يفيد بعدما اعتبر سابقا أن ما غلبت فيه جهة المنفعة، فهو المصلحة، وما ترجحت فيه المضرة، فهو المفسدة، وأما قوله بعد:"وَمَعَ ذَلِكَ، فَالْمُعْتَبَرُ إِنَّمَا هُوَ الْأَمْرُ الْأَعْظَمُ وهو جهة المصلحة....إلخ"، فهو دعوى أخرى خاصة لا يدل عليها ذلك العام المتقدم، ولذا قلنا: إنه يلزم لصحة الكلام تقييد ما سبق بهذا، فإذا كان محط الاستدلال هو أن العقلاء اتفقوا على أن المعتبر هُوَ الْأَمْرُ الْأَعْظَمُ، وَهُوَ جِهَةُ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي هي عماد الدين والدنيا بقطع النظر عن أهواء النفوس، فذلك يصح أن يكون دليلا، لكن لا حاجة إلى توسيط المقدمات السالفة قبله. "د".

3 في نسخة "ماء/ ص 130" بعدها: "وهو معني وعكس يتبع".

4 بدلها في نسخة "ماء/ ص 130": "كما".

ص: 64

فَقَدِ اتَّفَقُوا فِي الْجُمْلَةِ عَلَى اعْتِبَارِ إِقَامَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لَهَا أَوْ لِلْآخِرَةِ1، بِحَيْثُ مَنَعُوا مِنِ اتِّبَاعِ جُمْلَةٍ مِنْ أَهْوَائِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ، هَذَا وَإِنْ كَانُوا بِفَقْدِ الشَّرْعِ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ، فَالشَّرْعُ لَمَّا جَاءَ بَيَّنَ هَذَا كُلَّهُ، وَحَمَلَ الْمُكَلَّفِينَ عَلَيْهِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لِيُقِيمُوا أَمْرَ دُنْيَاهُمْ لِآخِرَتِهِمْ.

وَالثَّالِثُ:

أَنَّ الْمَنَافِعَ وَالْمَضَارَّ عَامَّتَهَا أَنْ تَكُونَ إِضَافِيَّةً لَا حَقِيقِيَّةً، وَمَعْنَى كَوْنِهَا إِضَافِيَّةً أَنَّهَا مَنَافِعُ أَوْ مَضَارُّ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، أَوْ وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، فَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ مَثَلًا مَنْفَعَةٌ لِلْإِنْسَانِ ظَاهِرَةٌ، وَلَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ دَاعِيَةِ الْأَكْلِ، وَكَوْنِ الْمُتَنَاوَلِ لَذِيذًا طَيِّبًا، لَا كَرِيهًا وَلَا مُرًّا، وَكَوْنِهِ لَا يُوَلِّدُ ضَرَرًا عَاجِلًا وَلَا آجِلًا، وَجِهَةُ اكْتِسَابِهِ لَا يَلْحَقُهُ بِهِ ضَرَرٌ عَاجِلٌ وَلَا آجِلٌ، وَلَا يَلْحَقُ غَيْرَهُ بِسَبَبِهِ أَيْضًا ضَرَرٌ عَاجِلٌ وَلَا آجِلٌ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ2 قَلَّمَا تَجْتَمِعُ، فَكَثِيرٌ مِنَ الْمَنَافِعِ تَكُونُ ضَرَرًا عَلَى قَوْمٍ لَا مَنَافِعَ، أَوْ تَكُونُ ضَرَرًا فِي وَقْتٍ أَوْ حَالٍ، وَلَا تَكُونُ ضَرَرًا فِي آخَرَ، وَهَذَا كُلُّهُ بَيِّنٌ فِي كَوْنِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ مَشْرُوعَةً أَوْ مَمْنُوعَةً لِإِقَامَةِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، لَا لِنَيْلِ الشَّهَوَاتِ3، وَلَوْ كَانَتْ مَوْضُوعَةً لِذَلِكَ، لَمْ يَحْصُلْ ضَرَرٌ مَعَ مُتَابَعَةِ الْأَهْوَاءِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَصَالِحَ وَالْمَفَاسِدَ لَا تَتْبَعُ الْأَهْوَاءَ.

وَالرَّابِعُ:

أَنَّ الْأَغْرَاضَ فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ تَخْتَلِفُ، بِحَيْثُ إِذَا نَفِذَ غَرَضُ بَعْضٍ وَهُوَ مُنْتَفِعٌ بِهِ تَضَرَّرَ آخَرُ لِمُخَالِفَةِ غَرَضِهِ، فَحُصُولُ الِاخْتِلَافِ في الأكثر

1 في خ": "الآخرة".

2 في الأصل و"ط": "أمور".

3 يؤيد ما قلناه من وجود شبه التنافي بين ما هنا وما سبق في المسألة الخامسة حيث يقول هناك: وأعني بالمصلحة

" إلى أن قال: "ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية"، ثم بنى عليه أن ما غلب فيه المنفعة، فهو المصلحة، ولأجلها وقع الطلب. "د".

ص: 65

يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَضْعُ الشَّرِيعَةِ عَلَى وَفْقِ الْأَغْرَاضِ، وَإِنَّمَا يَسْتَتِبُّ1 أَمْرُهَا بِوَضْعِهَا عَلَى وفق المصالح مطلقا، وافقت الأغرض أَوْ خَالَفَتْهَا.

فَصْلٌ:

وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا انْبَنَى عَلَيْهِ قَوَاعِدُ:

- مِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَسْتَمِرُّ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِذْنُ، وَفِي الْمَضَارِّ الْمَنْعُ، كَمَا قَرَّرَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ2، إِذْ لَا يَكَادُ يُوجَدُ انْتِفَاعٌ حَقِيقِيٌّ وَلَا ضَرَرٌ حَقِيقِيٌّ، وَإِنَّمَا عَامَّتُهَا أَنْ تَكُونَ إِضَافِيَّةً.

وَالْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ إِذَا كَانَتْ رَاجِعَةً إِلَى خِطَابِ الشَّارِعِ -وَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ خِطَابِهِ أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْأَوْقَاتِ3 حَتَّى يَكُونَ الِانْتِفَاعُ الْمُعَيَّنُ مَأْذُونًا فِيهِ فِي وَقْتٍ أَوْ حَالٍ أَوْ بِحَسَبِ شَخْصٍ، وَغَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ إِذَا كَانَ

1 في نسخة "ماء / ص 131": "يثبت".

2 لا مانع أن يحمل الإطلاق في كلام الرازي على أنه بعد التحقق من كونه الشيء منفعة أو مضرة من استقراء مقاصد الشرع يكون الحكم ما قاله من أن المنفعة الأصل فيها الإذن، والمضرة المنع، لا أن مراده أن الأصل في كل ما يطلق عليه أحدهما ولو بوجه من الوجوه يعتبر له حكمه، وهذا الذي أشرنا إليه هو الذي يصح أن يفهم به كلام مثل الإمام الرازي، على أن هذا هو بعينه الذي جرى عليه المؤلف في النظر الثاني في المسألة الخامسة، ولذا قلنا: إنه يلزم أن تكون المسألة الثامنة مقيدة لإطلاق المسألة الخامسة. "د".

قلت: وكلام الرازي في "المحصول""1/ 158وما بعدها، و 6/ 97 وما بعدها"، وانظر في المسألة:"البرهان""1/ 99"، والمستصفى" "1/ 41"، و"الإحكام" "1/ 130".

للآمدي، و"الإحكام""1/ 58/ 68" لابن حزم، و"شرح التنقيح""ص 92"، و"شرح الكوكب""1/ 325"، و"سلاسل الذهب""423- 424"، و"المسودة""ص 474"، "وتيسير التحرير""2/ 167" و"نشر البنود""1/ 27"، و"مذكرة الشنقيطي""19".

3 لكن على وجه عام كلي كما سبقت الإشارة إليه. "د".

ص: 66

عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ-، فَكَيْفَ يُسَوِّغُ إِطْلَاقُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْإِذْنُ وَفِي الْمَضَارِّ الْمَنْعُ؟

وَأَيْضًا، فَإِذَا كَانَتِ الْمَنَافِعُ لَا تَخْلُو مِنْ مَضَارَّ وَبِالْعَكْسِ، فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ الْإِذْنُ وَالنَّهْيُ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَكَيْفَ يُقَالُ: "أَنَّ الأصل في الخمر مثلا الإذان مِنْ حَيْثُ مَنْفَعَةِ الِانْتِشَاءِ وَالتَّشْجِيعِ1 وَطَرْدِ الْهُمُومِ، وَالْأَصْلُ فِيهَا أَيْضًا الْمَنْعُ مِنْ حَيْثُ مَضَرَّةِ سَلْبِ الْعَقْلِ وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ، وَهُمَا لَا يَنْفَكَّانِ2، أَوْ يُقَالُ: الْأَصْلُ فِي شُرْبِ الدَّوَاءِ الْمَنْعُ لِمَضَرَّةِ شُرْبِهِ لِكَرَاهَتِهِ وَفَظَاعَتِهِ وَمَرَارَتِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْإِذْنُ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَهُمَا غَيْرُ مُنْفَكَّيْنِ؟ فَيَكُونُ الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ الْإِذْنَ وَعَدَمَ الْإِذْنِ مَعًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ.

فَإِنْ قِيلَ: الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ التَّعَارُضِ الرَّاجِحُ، فَهُوَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْحُكْمُ، وَمَا سِوَاهُ فِي حُكْمِ المغفَل المطرَح.

فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مِمَّا يَشُدُّ مَا تَقَدَّمَ3، إِذْ هُوَ دَلِيلٌ على أن المنافع ليس

1 بعدها في نسخة "ماء/ ص 131 زيادة: "والتجويد"، ولها وجه قوي لما سيأتي "ص 123" في فوائد الخمر: "وتبعث البخيل على البذل"، وهي في "ط" كذلك.

2 ادعى أبو بكر الجصاص أن في قوله تعالى: {قُلْ فِيهمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} دليلًا كافيًا في تحريم الخمر، وأن عمر بن الخطاب فهم منها وجه التحريم، وإنما قال بعد نزولها:"اللهم بين لنا في الخمر"؛ لأن بعض المسلمين وجدوا للتأويل فيها مساغًا، فتمادوا على تناولها، ويقدح في هذه الدعوى أن الآية لو نزلت لتقرير حكم الحرمة لرجع عمر بن الخطاب بهؤلاء المُؤَوِّلين إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ليبين لهم ما نزل إليهم "خ".

3 نقول: وهذا أيضًا يشد ما تقدم في الجواب عن الرازي، إذ لا يعقل أن يعني أن كل ما فيه اسم مصلحة ما مأذون فيه كالخمر مثلا، وما فيه مفسدة ما ممنوع كمرارة الدواء، بل ما يعتبر مثله مصلحة أو مفسدة في نظر الشارع، فالاعتراض إن كان بمعنى التنبيه على غرض الرازي، فظاهر، وإلا فلا. "د".

ص: 67

أَصْلُهَا الْإِبَاحَةَ بِإِطْلَاقٍ، وَأَنَّ الْمَضَارَّ لَيْسَ أَصْلُهَا الْمَنْعَ بِإِطْلَاقٍ، بَلِ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ مَا تَقُومُ بِهِ الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الطَّرِيقِ ضَرَرٌ مَا مُتَوَقَّعٌ، أَوْ نَفْعٌ مَا مُنْدَفِعٌ.

- وَمِنْهَا: أَنَّ الْقَرَافِيَّ أَوْرَدَ إِشْكَالًا فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَلَمْ يُجِبْ عَنْهُ، وَهُوَ عِنْدَهُ لَازِمٌ لِجَمِيعِ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبِرِينَ لِلْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، فَقَالَ:

"الْمُرَادُ بِالْمَصْلَحَةِ والمفسدة إن كان مسماها كَيْفَ كَانَا، فَمَا مِنْ مُبَاحٍ إِلَّا وَفِيهِ فِي الْغَالِبِ مَصَالِحُ وَمَفَاسِدُ، فَإِنَّ أَكْلَ الطَّيِّبَاتِ وَلُبْسَ اللَّيِّنَاتِ فِيهَا مَصَالِحُ الْأَجْسَادِ وَلَذَّاتُ النُّفُوسِ، وَآلَامٌ وَمَفَاسِدُ فِي تَحْصِيلِهَا، وَكَسْبِهَا، وَتَنَاوُلِهَا، وَطَبْخِهَا، وَإِحْكَامِهَا، وَإِجَادَتِهَا بِالْمَضْغِ، وَتَلْوِيثِ الْأَيْدِي.... إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَوْ خُيِّرَ الْعَاقِلُ بَيْنَ وُجُودِهِ وَعَدِمِهِ لَاخْتَارَ عَدَمَهُ، فَمَنْ يُؤْثِرُ وَقِيدَ1 النِّيرَانِ وَمُلَابَسَةَ الدُّخَانِ وَغَيْرَ ذَلِكَ2؟ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَبْقَى مُبَاحٌ أَلْبَتَّةَ.

وَإِنْ أَرَادُوا3 مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِهِمَا مَعَ أَنَّ مَرَاتِبَ الْخُصُوصِ مُتَعَدِّدَةٌ، فَلَيْسَ بَعْضُهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ؛ وَلِأَنَّ الْعُدُولَ4 عَنْ أَصْلِ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ تَأْبَاهُ قَوَاعِدُ الِاعْتِزَالِ، فَإِنَّهُ سَفَهٌ.

وَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا5: إِنَّ ضَابِطَ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَصْلَحَةٍ تَوَعَّدَ الله على

"1، 2" انظر: "الاستدراك 2".

3 أي: حتى تبقى المباحثات قائمة. "د".

4 أي: فإن أراد المعتزلة الخلوص من هذه الورطة بالعدول عن جعل المصلحة والمفسدة مبنى الحكم بالإذن والمنع، نقضوا مذهبهم المعلل بأنه لو لم يكن هذا البناء، لكان تحكما وسفها وخلوا عن الحكمة، تعالى الله عن ذلك. "د".

5" أي: جوابا عن الإشكال بأن إرادة المطلق الذي هو مسمى المصلحة والمفسدة لا تبقي شيئا من المباح، يعني: فإن قالوا: "نختار هذا المطلق، ولكن باعتبار مجرد توعد الله على الفعل والترك بدون تخصيص، حتى لا يقال: إن مراتب التخصيص ليس بعضها أولى من بعض، وبهذا الاعتبار يبقى المباح قائما ويندفع الإشكال"، نقول لهمك يلزمكم الدور. "د".

ص: 68

تَرْكِهَا، وَكُلَّ مَفْسَدَةٍ1 تَوَعَّدَ اللَّهُ عَلَى فِعْلِهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ، وَمَا أَهْمَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ داخل في مقصدونا، فَنَحْنُ نُرِيدُ مُطْلَقَ الْمُعْتَبَرِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، فَيَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْوَعِيدُ عِنْدَكُمْ وَالتَّكْلِيفُ تَابِعٌ لِلْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ، وَيَجِبُ عِنْدَكُمْ بِالْعَقْلِ أَنْ يَتَوَعَّدَ اللَّهُ عَلَى2 تَرْكِ الْمَصَالِحِ وَفِعْلِ الْمَفَاسِدِ، فَلَوِ اسْتَفَدْتُمُ الْمَصَالِحَ وَالْمَفَاسِدَ الْمُعْتَبَرَةَ مِنَ الْوَعِيدِ، لَزِمَ الدَّوْرُ3، وَلَوْ صَحَّتِ الِاسْتِفَادَةُ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ [مِنَ الْوَعِيدِ] ، لَلَزِمَكُمْ4 أَنْ تُجَوِّزُوا أَنْ يَرِدَ التَّكْلِيفُ بِتَرْكِ الْمَصَالِحِ وَفِعْلِ الْمَفَاسِدِ، وَتَنْعَكِسُ الْحَقَائِقُ حِينَئِذٍ، فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ5 التَّكْلِيفُ، فَأَيُّ شَيْءٍ كَلَّفَ اللَّهُ بِهِ كَانَ مَصْلَحَةً، وَهَذَا يُبْطِلُ أَصْلَكُمْ".

قَالَ: "وَأَمَّا حَظُّ أَصْحَابِنَا مِنْ هذا الإشكال، فهو أنه6 يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَاعَى مُطْلَقَ الْمَصْلَحَةِ وَمُطْلَقَ الْمَفْسَدَةِ عَلَى سَبِيلِ التفضيل7؛ لأن المباحت فِيهَا ذَلِكَ وَلَمْ يُرَاعَ، بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّ الله ألغى بعضها

"1، 2، 5، 6" انظر: "الاستدراك 3".

3 وتقريره أنهم يقولون: إن العقل يتأتى له الاستقلال بفهم أكثر المصالح والمفاسد، ويأتي الشرع كاشفا ومقررا لما أدركه العقل، ويقولون أيضا: إنه يجب عقلا أن يتوعد الله على ترك المصلحة، فكأنهم يقولون: إن التوعد على ترك المصلحة يفهمه العقل تبعا لإدراكه المصلحة، فلو قالوا: إن إدراك المصلحة يعلم من التوعد الوارد من الشرع، لزم توقف علم المصلحة على التوعد، وقدكان علم التوعد موقوفا على علم المصلحة، وهذا هو الدور بعينه. "د".

4 وذلك؛ لأنهم يقولون: المصالح والمفاسد منضبطة متمايزة، وهي حقيقية لا اعتبارية، فإذا كانت تابعة لاعتبار الشرع أيا كان، فقد ينعكس الأمر فيعتبر الشرع ما ليس كذلك؛ لأنا لم نتقيد حينئذٍ إلا بأنه أمر به أو نهي عنه فقط. "د".

7 أي: فقد يفضل مطلق المصلحة في الفعل على ما فيه من مطلق المفسدة فيوجبه، وبالعكس، لا يمكنهم الإجابة بهذا؛ لأن المباحثات فيها المطلقان موجودان، وبقي مباحا لم يوجب ولم يمنع، ولكن يمكنهم الجواب بأنه تعالى ألغى هذه المطلقات في المباحات، فبقي الطرفان كما هما لا إيجاب ولا تحريم، واعتبرها في غير المباحات مفضلا مطلق المصلحة في بعضها، فجعله مطلوبا، ومطلق المفسدة في بعض آخر فجعله محظورا، ولا حجر عليه تعالى في ذلك، هذا إلا أنه يقال عليه: إنه تسليم بأن كون الفعل معتبرًا مصلحة أو مفسدة متوقف على النص بإيجابه أو تحريمه، فالقياس إنما يكون دليلا عند النص على علة القياس واعتباره لها، أما مسالك العلة الأخرى أو بعضها على الأقل، فإنه حينئذ لا يصح الاعتماد عليها في استنباط الأحكام، فتأمله، وهو داخل فيما أشار إليه بقوله: "وإن كان يخل بنمط من الاطلاع

" إلخ. "د". "استدراك 4".

ص: 69

فِي الْمُبَاحَاتِ، وَاعْتَبَرَ بَعْضَهَا، وَإِذَا سُئِلُوا عَنْ ضَابِطِ الْمُعْتَبَرِ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَبَرَ عسر الجواب، بل سبيلهم استقراء الواقع فَقَطْ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ يُخِلُّ بِنَمَطٍ مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى بَعْضِ أَسْرَارِ الْفِقْهِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ:{وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إِبْرَاهِيمَ: 27]، وَ {يَحْكُمُ مَا يُرِيْدُ} [الْمَائِدَةِ: 1] ، وَيَعْتَبِرُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ، وَيَتْرُكُ مَا يَشَاءُ لَا غَرْوَ فِي ذَلِكَ1، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ يُوجِبُونَ ذَلِكَ عَقْلًا، فَيَكُونُ هَذَا الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا فَتَحُوا هَذَا الْبَابَ2 تَزَلْزَلَتْ قَوَاعِدُ الِاعْتِزَالِ". هَذَا مَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ3.

وَأَنْتَ إِذَا رَاجَعَتْ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ وَمَا تَقَدَّمَ قَبْلَهَا، لَمْ يَبْقَ لِهَذَا الْإِشْكَالِ مَوْقِعٌ، أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْأَشَاعِرَةِ، فَإِنَّ اسْتِقْرَاءَ الشَّرِيعَةِ دَلَّ عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ مِمَّا لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يُحَصِّلُ ضَوَابِطَ ذَلِكَ4، وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ فِي ذَلِكَ اسْتِقْرَاءُ أَحْوَالِ الْجَارِينَ عَلَى جَادَّةِ الشَّرْعِ من غير [إخلال بالخروج5 في

1 في "د": "لا غيره"، وفي الأصل و"خ":"لا غير وفي ذلك"، وكتب "م":"الذي يظهر لي أن أصل العبارة "لا غير ذلك" يعني إنهم يتمسكون بهذا الكلام، ولا يذكرون غيره"، والمثبت من "ط" و"النفائس".

2 أي: باب أنه يعتبر ما يشاء ويترك ما يشاء، بقطع النظر عن مصلحة ومفسدة. "د".

3 ذكر ذلك في النفائس" "1/ 352-353"، وانظر مناقشته في "شرح الأسنوي" "1/ 130- ط السلفية".

4 جواب عما لزمهم من أنهم إذا سئلوا عن الضابط عسر الجواب. "د".

5 أي: مصور بالخروج عن الجادة، وقوله:"في جريانها" راجع لاستقراء الأحوال، أي: فإننا عند استقراء أحوالهم نجدها جارية على الصراط المستقيم، معطين كل ذي حق حقه، فلا يخلون بنظام، أي لا تفوتهم مصلحة، ولا تنهدم في عملهم قاعدة من قواعد الدين، كما أننا نجد الأمر بخلاف ذلك عند استقراء أحوال الذين لا يلتزمون الجادة، فبمقدار ما خالفوا نجد الخلل في أحوالهم بفوات المصالح، فقوله:"وفي وقوع الخلل" عطف على المعنى. "د".وفي "ط": "إخلال بالحدود".

ص: 70

جَرَيَانِهَا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَإِعْطَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ] 1 إِخْلَالٍ بِنِظَامٍ، وَلَا هَدْمٍ لِقَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، وَفِي وُقُوعِ الْخَلَلِ فِيهَا بِمِقْدَارِ مَا يَقَعُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فِي حُدُودِ الشَّرْعِ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الشَّرْعِ، وَكُلِّ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ التَّكْلِيفِ، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ2، لِلْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ، حَصَلَ لَهُمْ بِهِ ضَوَابِطُ فِي كُلِّ بَابٍ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِهِمْ، وَمَبْسُوطٌ3 فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ.

وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَكَذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْتَبِرُونَ الْمَصَالِحَ وَالْمَفَاسِدَ بِحَسَبِ مَا أَدَّاهُمْ إِلَيْهِ الْعَقْلُ فِي زَعْمِهِمْ، وَهُوَ الْوَجْهُ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ صَلَاحُ الْعَالَمِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ فِي الْمَصَالِحِ، أَوْ يَنْخَرِمُ بِهِ فِي الْمَفَاسِدِ، وَقَدْ جَعَلُوا الشَّرْعَ كَاشِفًا لِمُقْتَضَى مَا ادَّعَاهُ الْعَقْلُ عِنْدَهُمْ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَشَاعِرَةِ فِي مَحْصُولِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في المدرك4.

1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.

2 أي: إذا حصل استقراؤهم لأحوال الجارين على الجادة، واستقراؤهم لوقوع الخلل بمقدار ما يقع من المخالفة، حصل لهم ضوابط في كل باب لما يعتبره الشرع مصلحة وما يعتبره مفسدة، فلا يعسر عليهم الجواب، ولا يحصل خلل بنمط معرفة أسرار الأحكام الشرعية. "د".

3 يفيد أن ضوابط المصلحة والمفسدة المعتبرتين شرعا في كل باب من أبواب الشرع مبسوطة في علم الأصول، وهو كذلك؛ لأن هذه الضوابط هي عبارة عن القواعد الأصولية الكلية التي بملاحظتها يمكن تفريع الأحكام، ومعرفة الحلال والحرام بمراعاة الأدلة الجزئية من الكتاب والسنة وغيرهما، كما سيأتي في المسألة الأولى من كتاب الأدلة. "د".

4 فالأشاعرة يقولون: لم نتعرفها إلا من تتبع موارد الشرع، وقبله لا قبل للعقل بإدراكها والمعتزلة يقولون: بل العقل يدركها في أكثر الأبواب قبل الشرع، والشرع ورد كاشفا ومثبتًا ما فهمه العقل في هذه الأبواب، فالنتيجة في الموضوع واحدة، وهي أن المصالح والمفاسد معتبرة في الأحكام الشرعية، ولا يرد اعتراض القرافي. "د".

ص: 71

وَاخْتِلَافُهُمْ فِيهِ لَا يَضُرُّ فِي كَوْنِ الْمَصَالِحِ مُعْتَبَرَةً شَرْعًا وَمُنْضَبِطَةً1 فِي أَنْفُسِهَا.

وَقَدْ نَزَعَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا2 فِي كَلَامِهِ عَلَى الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ، حِينَ فَسَّرَهَا الْإِمَامُ الرَّازِيُّ بِأَنَّهَا "جَوَازُ الْإِقْدَامِ مَعَ قِيَامِ الْمَانِعِ"، قَالَ:

"هُوَ3 مُشْكَلٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَوَاتُ وَالْحُدُودُ وَالتَّعَازِيرُ وَالْجِهَادُ وَالْحَجُّ رُخْصَةً، إِذْ يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَفِيهِ مَانِعَانِ: ظَوَاهِرُ النُّصُوصِ الْمَانِعَةِ مِنْ إِلْزَامِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الْحَجِّ: 78] ، وَفِي الْحَدِيثِ: "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ" 4، وَذَلِكَ مَانِعٌ من وجوب

1 أي: فلا يفتحون باب أنه يعتبر ما يشاء، ويترك ما يشاء بقطع النظر عن المصلحة حتى يترتب عليه ما رتبه القرافي من تزلزل قواعدهم."د".

2 أي: الترديد في معنى المصلحة والمفسدة، وأنه ما من فعل إلا وفيه شيء من المصلحة وشيء من المفسدة، فجعل المشاق والمضار في كل الأفعال موانع، وما من فعل إلا وفيه ذلك، فكل ما في الشريعة من الأحكام المباحة أو المطلوبة يكون رخصة متى جرينا على تفسير الإمام الرازي لها بناء على ما فهمه القرافي فيه، هذا ولم يتعرض المؤلف لتصحيح كلام الرازي هنا، ولو فسر المانع في كلام الرازي بما قاله الجمهور عند تعريف الرخصة وأن المراد بها الدليل على الأصل الذي استثنيت منه هذه الرخصة كما سبق بيانه جوابا عن استدراك المؤلف على تعريف الجمهور للرخصة، لكان تفسير الرازي لها جيدا، نعم، لو فسر المانع في كلامه بما يكون مفسدة ومضرة تلحق الشخص مثل مشقات الصلاة وسجوده على الجبهة التي هي أشرف أعضاء الإنسان المكرم وأمثال ذلك، لاتجه إشكال القرافي على هذا التفسير ثم عجزه أخيرًا عن ضبط الرخصة كما ذكره في كتابيه المذكورين. "د". قلت: انظر كلام الرازي في "المحصول""1/ 120".

3 في "ط": "وهو".

4 ورد من حديث عبادة بن الصامت، وابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وجابر، وعائشة، وعمرو بن عوف، وثعلبة بن أبي مالك القرظي، وأبي لبابة.

فحديث عبادة رواه ابن ماجه في "السنن""كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، 2/ 784/ رقم 2340"، وعبد الله بن أحمد في "زوائد المسند""5/ 326-327"،=

ص: 72

.......................................................

= والبيهقي في "السنن""10/ 133"، وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان""1/ 344"، كلهم من رواية موسى بن عقبة عن إسحاق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن لا ضرر ولا ضرار، وقال أبو نعيم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضرر ولا ضرار"، قال ابن عساكر في "الأطراف":"وأظن إسحاق لم يدرك جد أبيه عبادة"، نقله الزركشي في "المعتبر""رقم 295"، وابن حجر في "التهذيب""1/ 256"، والهيثمي في "المجمع""4/ 205"، ومع ذلك، فقد ضعفه ابن عدي وقال:"عامة أحاديثه غير محفوظة".

وحديث ابن عباس رواه عبد الرزاق في "المصنف" وأحمد في "المسند""1/ 313" عنه وابن ماجه في "السنن""2/ 784/ 2341"، والبيهقي في "السنن""6/ 69"، من طريقه أيضًا، عن معمر عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار، وللرجل أن يجعل خشبة في حائط جاره، والطريق الميتاء سبعة أذرع"، وتابع عبد الرزاق: محمد بن ثور كما عند الطبراني في "الكبير""11/ 302/ رقم 11806"، وجابر الجعفي فيه مقال كثير معروف، لكن الحديث ورد من وجه آخر خرجه "الدارقطني في "السنن" "4/ 228"، وأبو يعلى في "المسند" "4/ 397/ رقم 2520" من طريق عبيد الله بن موسى عن إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للجار أن يضع خشبة على جدار جاره وإن كره، والطريق الميتاء سبع أذرع، ولا ضرر ولا ضرار".

وإبراهيم بن إسماعيل مختلف فيه، وثقة أحمد، وضعفه أبو حاتم، وروايات داود عن عكرمة مناكير، فإسناده ضعيف.

وتابع إبراهيم بن إسماعيل سعيد بن أيوب كما عند الطبراني في "الكبير""11/ 228-229/ رقم 11576"، ثنا أحمد بن رشدين، ثنا روح بن صلاح، ثنا سعيد، عن داود به موقوفًا على ابن عباس.

وإسناده واه بمرة، روح ضعيف، وابن رشدين متهم.

وأخرجه الخطيب في "الموضح""2/ 96-97" من طريق يعقوب بن سفيان عن روح به مرفوعًا.

وأخرجه ابن أبي شيبة -كما في "نصب الراية""4/ 384"- ثنا معاوية بن عمر، ثنا زائدة، عن سماك، عن عكرمة به.

وإسناده رجاله كلهم ثقات، وفي رواية سماك عن عكرمة اضطراب.=

ص: 73

............................................................................

= وحديث أبي سعيد رواه الدينوري في "المجالسة"، والدارقطني في "السنن""4/ 228"، والحاكم في "المستدرك""2/ 57"، والبيهقي في "الكبرى""6/ 69-70"، وابن عبد البر في "التمهيد""20/ 159"، كلهم من طريق الدراوردي عن عمر بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري به بلفظ:"لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضره الله، ومن شاق شق الله عليه"، وقال الدينوري:"لا ضرورة ولا ضرار، من ضار ضر الله به...." الحديث، وقال الحاكم:"صحيح الإسناد على شرط مسلم"، وهو كما قال: وقال البيهقي: "تفرد به عثمان بن محمد عن الداروردي".

ورواه مالك -يعني في "الموطأ""2/ 745"- عن عمرو بن يحيى عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا ضرار ولا ضرار" مرسلا.

وأفاد ابن التركماني في "الجوهر النقي" أن عثمان لم ينفرد به، كما قال البيهقي، بل تابعه على روايته عن الدراوردي موصولا عبد الملك بن معاذ النصيبي، أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد"، وقال:"إن هذا الحديث لا يسند من وجه صحيح"، وقال:"وأما معنى هذا الحديث، فصحيح في الأصول".

وليس كما قال أيضا، فالداروردي حافظ ثقة، وقد أسنده عنه اثنان، ومالك علم من حاله أنه يرسل كثيرا ما هو عنده موصول، ورجح ابن رجب في "جامع العلوم والحكم""2/ 208" رواية الإرسال.

وحديث أبي هريرة أخرجه الدارقطني في "السنن""4/ 228" بإسناد فيه يعقوب بن عطاء وهو ضعيف، وأبو بكر بن عياش مختلف فيه، كما في "نصب الراية""4/ 385"، وحديث جابر أخرجه الطبراني في "الأوسط" كما في "مجمع البحرين""رقم 2002" و"نصب الراية""4/ 386"، من طريق ابن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان به.

قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم""2/ 209": "وهذا إسناد مقارب، وهو غريب، لكن خرجه أبو داود في "المراسيل" "رقم 407" من رواية عبد الرحمن بن مغراء عن ابن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع مرسلًا، وهو أصح"، ولأبي لبابة ذكر فيه.

وحديث عائشة أخرجه الدارقطني في "السنن""4/ 227" وفيه الواقدي وهو متروك، ومن طريق آخر ضعيف أيضًا، الطبراني في "الأوسط" كما في "مجمع البحرين""رقم 2003"، وحديث ثعلبة أخرجه الطبراني في "الكبير""رقم 1377"، وفي إسناده إسحاق بن إبراهيم بن سعيد الصواف، وهو لين الحديث.

وحديث عوف بن عمرو أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد""20"، وقال:"إسناده غير صحيح"، فالحديث صحيح لشواهده الكثيرة، ولذا قال النووي عن شواهده في "أربعينه":"يقوي بعضها بعضا" وقال ابن الصلاح: "مجموعها يقوي الحديث ويحسنه، وقد تقبله جماهير أهل العلم واحتجوا به"، وعد أبو داود السجستاني هذا الحديث من الأحاديث التي يدور عليها الفقه، وهذا مشعر بأنه يراه حجة، والله أعلم.

وانظر: "الإرواء""3/ 408-414"، و"السلسلة الصحيحية""رقم 250".

ص: 74

هَذِهِ الْأُمُورِ، وَالْآخَرُ أَنَّ صُورَةَ الْإِنْسَانِ مُكَرَّمَةٌ لِقَوْلِهِ:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الْإِسْرَاءِ: 70]، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التِّينِ: 4] ، وَذَلِكَ يُنَاسِبُ أَنْ لَا يُهْلِكَ بِالْجِهَادِ، وَلَا يُلْزِمُهُ الْمَشَاقَّ وَالْمَضَارَّ.

وَأَيْضًا الْإِجَارَةُ رُخْصَةٌ مِنْ بَيْعِ الْمَعْدُومِ، وَالسَّلَمُ كَذَلِكَ، وَالْقِرَاضُ وَالْمُسَاقَاةُ رُخْصَتَانِ لِجَهَالَةِ الْأُجْرَةِ، وَالصَّيْدُ رُخْصَةٌ لِأَكْلِ الْحَيَوَانِ بِدَمِهِ، وَلَمْ تُعَدَّ مِنْهَا، وَاسْتِقْرَاءُ الشَّرِيعَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا مَصْلَحَةَ إِلَّا وَفِيهَا مَفْسَدَةٌ وَبِالْعَكْسِ، وَإِنْ قَلَّتْ عَلَى الْعَبْدِ كَالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهِمَا؟

وَعَلَى هَذَا مَا فِي الشَّرِيعَةِ حُكْمٌ إِلَّا وهو مع المانع الشرعين؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ1 أَنْ يُرَادَ بِالْمَانِعِ مَا سَلِمَ عَنِ الْمَعَارِضِ الرَّاجِحِ، فَإِنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وغيره.

1 أي: لا يمكن الجواب بأن المراد المانع القوي الذي لم يعارضه ما هو راجح، يعني: وهذه الأمور المستشكل بها من صلاة وحدود وغيرها ليس فيها مانع قوي، بل هو ضعيف في مقابلة المثبت لها بخلاف الرخص، فإن المانع فيها قوي، فذلك كانت رخصا -قال: إن هذا الجواب لا يحسم الإشكال؛ لأن بعض الرخص- كرخصة أكل الميتة طلب الرخصة فيها أقوى من معارضه الذي يطلب الأصل وهو التحريم، وإذا، فالمراد بالمانع ما هو أعم من أن يكون راجحا أو مرجوحا، فتدخل أحكام الشريعة كلها؛ لأنها لا تخلو من مانع ولو ضعيفا، مثل الموانع التي أشرنا إليها في صدر الإشكال، هذا ويمكنك أن

تنقض للقرافي رده على الجواب، وذلك أنه جاء في رده بما هو من مواضع الرخصة الواجبة، وقد علمت سابقا أن تسميتها رخصة تسمح، وأن الرخصة الحقيقة لا تعدو حكم الإباحة بأحد المعنيين، فالمانع فيها سلم عن المعارض الراجح، وقد عالج المؤلف سابقا توجيه تسمية الواجبة رخصة بعد ما قرر ما ذكرنا واستدل عليه، فللرازي أن يلتزم أن كل الميتة للمضطر ليس رخصة، بل هو واجب شرعا. "د". وفي "ط":"لأنه يمكن" بحذف "لا".

ص: 75

وُجِدَ فِيهِ مُعَارِضٌ رَاجِحٌ عَلَى مَفْسَدَةِ الْمَيْتَةِ، فَحِينَئِذٍ مَا الْمُرَادُ إِلَّا الْمَانِعُ الْمَغْمُورُ بِالرَّاجِحِ، وَحِينَئِذٍ تَنْدَرِجُ جَمِيعُ الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ فِيهِ مَانِعٌ مَغْمُورٌ بِمُعَارِضِهِ".

ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حَالُهُ فِي شَرْحَيِ "التَّنْقِيحِ" وَ"الْمَحْصُولِ"1 الْعَجْزُ عَنْ ضَبْطِ الرُّخْصَةِ.

وَمَا تَقَدَّمَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى يُغْنِي فِي الْمَوْضِعِ2، مَعَ مَا ذُكِرَ فِي الرُّخْصَةِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ.

- وَمِنْهَا: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِذَا فُهِمَتْ حَصَلَ بِهَا فَهْمُ كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَأَحْكَامِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [الْبَقَرَةِ: 29] .

وَقَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الْجَاثِيَةِ: 13] .

وَقَوْلِهِ: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} 3 الآية [الأعراف: 22] .

1 انظر: "المحصول""1/ 120"، وشرحه "نفائس الأصول""1/ 331 وما بعد".

2 لأن ما اعترض به القرافي كلام الرازي مبني على أنه ما من مصلحة إلا وفيها مفسدة وقد جعلها مانعا، وقد علمت أن الأمر ليس كذلك، بل المصالح متمايزة عن المفاسد شرعا، سواء عند المعتزلة والأشاعرة، وبهذا ينحسم إشكاله على الرخص، كما انحسم إشكاله الذي أورده على جميع العلماء في أصل الموضوع هنا، وأيضًا كلام المؤلف في باب الرخصة كاف في دفع استشكاله وتحيره في ضبط الرخصة "د".

3 صدرها وإن كان فيه إنكار التحريم فقط، إلا أن بقيتها فيه التصريح بالحل المطلق. "د".

ص: 76

وَمَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِهَا بِإِطْلَاقٍ، بَلْ بِقُيُودٍ تَقَيَّدَتْ بها، حسبما دَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ فِي وَضْعِ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

- وَمِنْهَا: أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ1 قَالَ: "إِنَّ مَصَالِحَ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَمَفَاسِدَهَا لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِالشَّرْعِ، وَأَمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ، فَتُعْرَفُ بِالضَّرُورَاتِ وَالتَّجَارِبِ وَالْعَادَاتِ وَالظُّنُونِ الْمُعْتَبَرَاتِ".

قَالَ: "وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ الْمُنَاسَبَاتِ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، رَاجِحَهَا مِنْ مَرْجُوحِهَا، فَلْيَعْرِضْ ذَلِكَ عَلَى عَقْلِهِ2 بِتَقْدِيرِ أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَرِدْ بِهِ، ثُمَّ يَبْنِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ، فَلَا يَكَادُ حُكْمٌ مِنْهَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ، إِلَّا التَّعَبُّدَاتُ الَّتِي لَمْ يُوقَفْ عَلَى مَصَالِحِهَا أَوْ مَفَاسِدِهَا". هَذَا قَوْلُهُ.

وَفِيهِ بِحَسَبِ مَا تَقَدَّمَ نَظَرٌ، أَمَّا أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالشَّرْعِ، فَكَمَا قَالَ: وَأَمَّا مَا قَالَ فِي الدُّنْيَوِيَّةِ، فَلَيْسَ كَمَا قَالَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بَلْ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ دُونَ بَعْضٍ، وَلِذَلِكَ لَمَّا جَاءَ الشَّرْعُ بَعْدَ زَمَانِ فَتْرَةٍ، تَبَيَّنَ بِهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْفَتْرَةِ مِنِ انْحِرَافِ الْأَحْوَالِ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ، وَخُرُوجِهِمْ عَنْ مُقْتَضَى الْعَدْلِ فِي الْأَحْكَامِ.

وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ بِإِطْلَاقٍ، لَمْ يَحْتَجْ فِي الشَّرْعِ إِلَّا إِلَى بَثِّ مَصَالِحِ الدَّارِ الْآخِرَةِ خَاصَّةً، وَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِمَا يُقِيمُ أَمْرَ الدُّنْيَا وَأَمْرَ الْآخِرَةِ مَعًا، وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ بِإِقَامَةِ الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ3، فَلَيْسَ بِخَارِجٍ عَنْ كَوْنِهِ

1 هو العز بن عبد السلام، والمذكور قوله في "قواعد الأحكام""1/ 10".

2 أشبه بمذهب المعتزلة. "د".

3 في الأصل: "الآخرة".

ص: 77

قَاصِدًا لِإِقَامَةِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا1، حَتَّى يَتَأَتَّى فِيهَا سُلُوكُ طَرِيقِ الْآخِرَةِ، وَقَدْ بَثَّ فِي ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، وَحَسَمَ مِنْ أَوْجُهِ الْفَسَادِ الَّتِي كَانَتْ جَارِيَةً مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، فَالْعَادَةُ تُحِيلُ اسْتِقْلَالَ الْعُقُولِ فِي الدُّنْيَا بِإِدْرَاكِ مَصَالِحِهَا وَمَفَاسِدِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ2 هَذَا الْقَائِلُ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ بِهَا تَحْصُلُ بِالتَّجَارِبِ وَغَيْرِهَا، بَعْدَ وَضْعِ الشَّرْعِ أُصُولَهَا، فَذَلِكَ لَا نزاع فيه.

1 ورود الشريعة لإقامة مصالح الدنيا اقتضى أن يكون في تعاليمها قواعد كلية تندرج فيها أحكام الوقائع التي تعرض للأفراد والجماعات، وليس على الراسخين في العلم بها سوى النظر في الوقائع وفحص ما يترتب عليها من آثار المصالح والمفاسد حتى يصوغوا لها من تلك القواعد القيمة حكما عادلا، وإذا كان الإسلام يقوم على هذه الحقيقة، فمن المتعين على علمائه أن يبحثوا في حال الاجتماع، ويدرسوا شؤون الأمم حتى تكون فتاويهم مفرغة في حكمه وسداد، والرئيس الذي يحاول صرفهم عن الخوض في مذاهب السياسة وحصرهم في دائرة ضيقة من التعليم إنما يفعل ما يفعل جهلا بحقائق الإسلام أو قصدًا للعبث بذلك النظام الذي بهر جهابذة الفلسفة، فأطرقوا لحكمته خاضعين. "خ". وفي "ط":"صلاح الدنيا".

2 وهو بعيد من قوله: "بتقدير أن الشرع لم يرد". "د".

ص: 78

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ:

كَوْنُ الشَّارِعِ قَاصِدًا لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الثَّلَاثِ: الضَّرُورِيَّةِ، وَالْحَاجِيَّةِ وَالتَّحْسِينِيَّةِ، لَا بُدَّ عليه من دليل يستند غليه، وَالْمُسْتَنَدُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا ظَنِّيًّا أَوْ قَطْعِيًّا، وَكَوْنُهُ ظَنِّيًّا بَاطِلٌ، مَعَ أَنَّهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، بَلْ هو أصل أصولها، وأصول الشريعة قطعية، حسبما تَبَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ، فَأُصُولُ أُصُولِهَا أَوْلَى أَنْ تَكُونَ قَطْعِيَّةً، وَلَوْ جَازَ إِثْبَاتُهَا بِالظَّنِّ، لَكَانَتِ الشَّرِيعَةُ مَظْنُونَةً أَصْلًا وَفَرْعًا، وَهَذَا بَاطِلٌ، فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ قَطْعِيَّةً، فَأَدِلَّتُهَا قَطْعِيَّةٌ بِلَا بُدٍّ.

فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَكَوْنُ هَذَا الْأَصْلِ مُسْتَنِدًا إِلَى دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَقْلِيًّا أَوْ نَقْلِيًّا.

فَالْعَقْلِيُّ لَا مَوْقِعَ لَهُ هُنَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى تَحْكِيمِ الْعُقُولِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ نَقْلِيًّا.

وَالْأَدِلَّةُ النَّقْلِيَّةُ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ نُصُوصًا جَاءَتْ مُتَوَاتِرَةَ السَّنَدِ، لَا يَحْتَمِلُ مَتْنُهَا التَّأْوِيلَ عَلَى حَالٍ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ نُصُوصًا، أَوْ كَانَتْ وَلَمْ يَنْقُلْهَا أَهْلُ التَّوَاتُرِ، فَلَا يَصِحُّ اسْتِنَادُ مِثْلِ هَذَا إِلَيْهَا؛ لِأَنَّ مَا هَذِهِ صِفَتُهُ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ، وَإِفَادَةُ الْقَطْعِ هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَتْ نُصُوصًا لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ وَمُتَوَاتِرَةَ السَّنَدِ، فَهَذَا مُفِيدٌ لِلْقَطْعِ، إِلَّا أَنَّهُ مُتَنَازَعٌ فِي وُجُودِهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.

وَالْقَائِلُ بِوُجُودِهِ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ تُفْرَضُ فِي الشَّرِيعَةِ، بَلْ يُوجَدُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ دُونَ بَعْضٍ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ أَنَّ مَسْأَلَتَنَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ.

وَالْقَائِلُ بِعَدَمِ وُجُودِهِ فِي الشَّرِيعَةِ يَقُولُ: إِنَّ التَّمَسُّكَ بِالدَّلَائِلِ النَّقْلِيَّةِ إِذَا كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً مَوْقُوفٌ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ عَشْرٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا ظَنِّيَّةٌ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى

ص: 79

الظَّنِّيِّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ظَنِّيًّا، فَإِنَّهَا تَتَوَقَّفُ عَلَى نَقْلِ اللُّغَاتِ وَآرَاءِ النَّحْوِ، وَعَدَمِ الِاشْتِرَاكِ، وَعَدَمِ الْمَجَازِ، وَعَدَمِ النَّقْلِ الشَّرْعِيِّ أَوِ العادي، وعدم الإضمار، و [عدم] 1 التخصيص للعموم، و [عدم] 1 التَّقْيِيدِ لِلْمُطْلَقِ، وَعَدَمِ النَّاسِخِ، وَعَدَمِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَعَدَمِ الْمُعَارِضِ الْعَقْلِيِّ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ أُمُورٌ ظَنِّيَّةٌ.

ومن المعترفين بوجود مَنِ اعْتَرَفَ بِأَنَّ الدَّلَائِلَ فِي أَنْفُسِهَا لَا تُفِيدُ قَطْعًا، لَكِنَّهَا إِذَا اقْتَرَنَتْ بِهَا قَرَائِنُ مشاهدة أو منقولة، فقد تفيد اليقين، وهذا لَا يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنَّ دَلِيلَ مَسْأَلَتِنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ لِأَنَّ الْقَرَائِنَ الْمُفِيدَةَ لِلْيَقِينِ غَيْرُ لَازِمَةٍ لِكُلِّ دَلِيلٍ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ2 كُلُّهَا قَطْعِيَّةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ، وَإِذَا كَانَتْ لَا تَلْزَمُ، ثُمَّ وَجَدْنَا أَكْثَرَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ظَنِّيَّةَ الدَّلَالَةِ أَوِ الْمَتْنِ وَالدَّلَالَةِ مَعًا، وَلَا سِيَّمَا مَعَ افْتِقَارِ الْأَدِلَّةِ إِلَى النَّظَرِ فِي جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اجْتِمَاعَ الْقَرَائِنِ الْمُفِيدَةِ لِلْقَطْعِ3 وَالْيَقِينِ نَادِرٌ عَلَى قَوْلِ الْمُقِرِّينَ بِذَلِكَ، وَغَيْرُ مَوْجُودٍ عَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ.

فَثَبَتَ أَنَّ دَلِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى التَّعْيِينِ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ.

وَلَا يقال: إن الإجماع كاف، وهو دليل قطعين؛ لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا

أَوَّلًا:

مُفْتَقِرٌ إِلَى نَقْلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى اعْتِبَارِ تِلْكَ الْقَوَاعِدِ الثَّلَاثِ شَرْعًا، نَقْلًا مُتَوَاتِرًا عَنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ، وَهَذَا يَعْسُرُ إِثْبَاتُهُ، وَلَعَلَّكَ لَا تَجِدُهُ، ثُمَّ نَقُولُ:

1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط"، وفيه:"أو التخصيص".

2 أي: التي هي من النصوص المتواترة التي لا تحتمل تأويلًا كما هو موضوع الكلام، لا أنه يلزم أن يكون كل دليل ولو كان ظني الدلالة أو المتن كذلك، فإنه لا يلزم مع أخذ الموضوع كما قلنا. "د".

3 في "خ": "للدليل القطعي"، وفي الأصل:"للدليل القطع".

ص: 80

ثَانِيًا:

إِنْ فُرِضَ وُجُودُهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ يَكُونُ مُسْتَنَدَهُمْ، وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ قَطْعِيٌّ، فَقَدْ يَجْتَمِعُونَ عَلَى دَلِيلٍ ظَنِّيٍّ، فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةً لَا قَطْعِيَّةً، فَلَا تُفِيدُ الْيَقِينَ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا يَكُونُ قَطْعِيًّا عَلَى فَرْضِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى مَسْأَلَةٍ قَطْعِيَّةٍ لَهَا مُسْتَنَدٌ قَطْعِيٌّ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى مُسْتَنَدٍ ظَنِّيٍّ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ خَالَفَ1 فِي كَوْنِ هَذَا الْإِجْمَاعِ حُجَّةً2 فَإِثْبَاتُ الْمَسْأَلَةِ بِالْإِجْمَاعِ لَا يَتَخَلَّصُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَصْعُبُ الطَّرِيقُ إِلَى إِثْبَاتِ كَوْنِ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ مُعْتَبَرَةً شَرْعًا بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ الْقَطْعِيِّ.

وَإِنَّمَا الدَّلِيلُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ ثَابِتٌ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ هُوَ رُوحُ الْمَسْأَلَةِ، وَذَلِكَ3 أَنَّ هَذِهِ الْقَوَاعِدَ الثَّلَاثَ لَا يَرْتَابُ فِي ثُبُوتِهَا شَرْعًا أَحَدٌ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى الِاجْتِهَادِ مِنْ أَهْلِ الشَّرْعِ، وَأَنَّ اعْتِبَارَهَا مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ.

وَدَلِيلُ ذَلِكَ اسْتِقْرَاءُ الشَّرِيعَةِ، وَالنَّظَرُ فِي أَدِلَّتِهَا الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ، وَمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ عَلَى حَدِّ الِاسْتِقْرَاءِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي لَا يُثْبَتُ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ، بَلْ بِأَدِلَّةٍ مُنْضَافٍ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، مُخْتَلِفَةِ الْأَغْرَاضِ، بِحَيْثُ يَنْتَظِمُ مِنْ مَجْمُوعِهَا أَمْرٌ وَاحِدٌ تَجْتَمِعُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَدِلَّةُ، عَلَى حَدِّ مَا ثَبَتَ عِنْدَ الْعَامَّةِ جُودُ حَاتِمٍ، وَشَجَاعَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ4، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَمْ يعتمد

1 على أن بعض من قال: إنه حجة لا يقول إنها قطعية كما هو الغرض هنا. "د".

2 جرى الخلاف في استناد الإجماع إلى اجتهاد وقياس، فمنعه الظاهرية لإنكارهم أصل القياس وابن جرير الطبري نظرًا إلى أن الإجماع الصادر عن القياس لم ينعقد على مستند قاطع، فلا يكون حجة، والراجح لدى الجمهور أنه واقع وحجة، ومن أمثلته إجماع الصحابة على إمامة أبي بكر الصديق مستندين إلى الاجتهاد الملوح إليه بقول جماعة منهم رضيه "رسول الله لديننا أفلا نرضاه لدنيانا". "خ".

3 في "خ": "كذلك".

4 انظر في تخريج ذلك: "موافقة الخبر الخبر" لابن حجر "1/ 193"، وما مضى "1/ 29".

ص: 81

النَّاسُ فِي إِثْبَاتِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي هَذِهِ الْقَوَاعِدِ عَلَى دَلِيلٍ مَخْصُوصٍ، وَلَا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، بَلْ حَصَلَ لَهُمْ ذَلِكَ مِنَ الظَّوَاهِرِ وَالْعُمُومَاتِ، وَالْمُطْلَقَاتِ وَالْمُقَيَّدَاتِ، وَالْجُزْئِيَّاتِ الْخَاصَّةِ، فِي أَعْيَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَوَقَائِعَ مُخْتَلِفَةٍ، فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ، حَتَّى أَلْفَوْا أَدِلَّةَ الشَّرِيعَةِ كُلَّهَا دَائِرَةً عَلَى الْحِفْظِ عَلَى تِلْكَ الْقَوَاعِدِ، هَذَا مَعَ مَا يَنْضَافُ إِلَى ذَلِكَ مِنْ قَرَائِنِ أَحْوَالٍ مَنْقُولَةٍ وَغَيْرِ مَنْقُولَةٍ.

وَعَلَى هَذَا السَّبِيلِ أَفَادَ خَبَرُ التَّوَاتُرِ الْعِلْمَ، إِذْ لَوِ اعْتُبِرَ فِيهِ آحَادُ الْمُخْبِرِينَ، لَكَانَ إِخْبَارُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى فَرْضِ عَدَالَتِهِ مُفِيدًا لِلظَّنِّ، فَلَا يَكُونُ اجْتِمَاعُهُمْ يَعُودُ بِزِيَادَةٍ عَلَى إِفَادَةِ الظَّنِّ، لَكِنْ لِلِاجْتِمَاعِ خَاصِّيَّةٌ لَيْسَتْ لِلِافْتِرَاقِ، فَخَبَرٌ وَاحِدٌ مُفِيدٌ لِلظَّنِّ مَثَلًا، فَإِذَا انْضَافَ إِلَيْهِ آخَرُ قَوِيَ الظَّنُّ، وَهَكَذَا خَبَرٌ آخَرُ وَآخَرُ، حَتَّى يَحْصُلَ بِالْجَمِيعِ الْقَطْعُ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ1، فَكَذَلِكَ هَذَا، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ إِفَادَةِ الْعِلْمِ بِالْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْأَخْبَارُ.

وَهَذَا بُيِّنَ فِي كِتَابِ الْمُقَدِّمَاتِ2 مِنْ هَذَا الْكِتَابِ.

فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَمَنْ كَانَ مِنْ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ النَّاظِرِينَ فِي مُقْتَضَاهَا، وَالْمُتَأَمِّلِينَ لِمَعَانِيهَا، سَهُلَ عَلَيْهِ التَّصْدِيقُ بِإِثْبَاتِ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ فِي [إِثْبَاتِ] 3 هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الثلاث.

1 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية""20/ 258-259".

2 تقدم له في المقدمة الثالثة بيان أوسع من هذا في صحة الاعتماد على هذا الاستقراء، وجعله من باب التواتر المعنوي، ولكنه هنا بسط الكلام في بيان أنه لا يمكن الاعتماد في إثبات هذا الأصل المهم على العقل ولا على النقل الأحادي ولا على الإجماع، وتوصل ذلك إلى أن لا بد من الرجوع لشبه التواتر، فما أوجزه هناك بسطه هنا، وبالعكس، فلا يقال: إن هذه المسألة تكرار محض مع ما تقدم هناك. "د".

3 سقط من "ط".

ص: 82

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ:

هَذِهِ الْكُلِّيَّاتُ الثَّلَاثُ إِذَا كَانَتْ قَدْ شُرِعَتْ لِلْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ بِهَا، فَلَا يَرْفَعُهَا تَخَلُّفُ1 آحَادِ الْجُزْئِيَّاتِ.

وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ2: أَمَّا فِي الضَّرُورِيَّاتِ، فَإِنَّ الْعُقُوبَاتِ مَشْرُوعَةٌ لِلِازْدِجَارِ، مَعَ أَنَّا نَجِدُ مَنْ يُعَاقَبُ فَلَا يَزْدَجِرُ عَمَّا عُوقِبَ عَلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَأَمَّا فِي الْحَاجِيَّاتِ، فَكَالْقَصْرِ فِي السَّفَرِ، مَشْرُوعٌ لِلتَّخْفِيفِ وَلِلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ، وَالْمَلِكُ الْمُتَرَفِّهُ لَا مَشَقَّةَ لَهُ، وَالْقَصْرُ فِي حَقِّهِ مَشْرُوعٌ، وَالْقَرْضُ أُجِيزَ لِلرِّفْقِ بِالْمُحْتَاجِ مَعَ أَنَّهُ جَائِزٌ أَيْضًا مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ، وَأَمَّا فِي التَّحْسِينِيَّاتِ، فَإِنَّ الطَّهَارَةَ شُرِعَتْ لِلنَّظَافَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ مَعَ أَنَّ بَعْضَهَا عَلَى خِلَافِ النَّظَافَةِ كَالتَّيَمُّمِ.

فَكُلُّ هَذَا غَيْرُ قَادِحٍ فِي أَصْلِ الْمَشْرُوعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْكُلِّيَّ إِذَا ثَبَتَ كُلِّيًّا، فَتَخَلُّفُ بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ عَنْ مُقْتَضَى الْكُلِّيِّ لَا يخرجه عن كونه كليا، وأيضًا3،

1 أي: بأن تكون مع كونها داخلة في الكلي آخذة حكما آخر، أو تكون آخذة حكمه، ولكن المصلحة المعتبرة في الكلي ليست متحققة فيها، هذا هو الذي يقتضيه النظر في ذاته، ويقتضيه أيضا قوله الآتي: "وَأَيْضًا، فَالْجُزْئِيَّاتُ الْمُتَخَلِّفَةُ قَدْ يَكُونُ تَخَلُّفُهَا لِحِكَمٍ خَارِجَةٍ عَنْ مُقْتَضَى الْكُلِّيِّ، فَلَا تَكُونُ دَاخِلَةً

إلخ"، فإن ذلك ليس إلا في الغرض الأول الذي فرضناه هنا، وهو ما يكون داخلا في الكلي ولكنه أخذ حكما آخر، فيكون الجواب أنه ليس داخلا؛ لأنه أخرجه عنه حكمة غير حكمه هذا الكلي جعلته خارجا عنه. "د".

2 هذه الأمثلة للنوع الثاني، وهو ما يكون تخلف الجزئي بمعنى أخذه حكم الكلي، ولكنه ليس في المصلحة المعتبرة في الكلي، وقد يمثل للأول بأن حكمة وجوب الزكاة الغنى، وهي موجودة في مالك الجواهر النفيسة كالماس مثلا، ومع ذلك أخذ حكما آخر وهو عدم وجوب الزكاة "د".

3 لو جعل هذا دليلًا على ما قبله، لكان أوضح من جعله دليلا مستقلا؛ لأن ما قبله كدعوى لا تتم إلا بهذا. "د".

ص: 83

فَإِنَّ الْغَالِبَ الْأَكْثَرِيَّ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرِيعَةِ اعْتِبَارَ الْعَامِّ الْقَطْعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُتَخَلِّفَاتِ الْجُزْئِيَّةَ لَا يَنْتَظِمُ مِنْهَا كُلِّيٌّ يُعَارِضُ هَذَا الْكُلِّيَّ الثَّابِتَ.

هَذَا شَأْنُ الْكُلِّيَّاتِ الِاسْتِقْرَائِيَّةِ1 وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّاتِ الْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّهَا أَقْرَبُ شَيْءٍ إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَبِيلَيْنِ أَمْرًا وَضْعِيًّا لَا عَقْلِيًّا، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ تَخَلُّفُ بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ قَادِحًا فِي الْكُلِّيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ، كَمَا نَقُولُ:"مَا ثَبَتَ لِلشَّيْءِ ثَبَتَ لِمِثْلِهِ عَقْلًا"، فَهَذَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّخَلُّفُ أَلْبَتَّةَ، إِذْ لَوْ تَخَلَّفَ لَمْ يَصِحَّ الْحُكْمُ بِالْقَضِيَّةِ الْقَائِلَةِ:"مَا ثَبَتَ لِلشَّيْءِ ثَبَتَ لِمِثْلِهِ".

فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالْكُلِّيَّةُ فِي الِاسْتِقْرَائِيَّاتِ صَحِيحَةٌ، وَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْ مُقْتَضَاهَا بَعْضُ الْجُزْئِيَّاتِ.

وَأَيْضًا2، فَالْجُزْئِيَّاتُ الْمُتَخَلِّفَةُ3 قَدْ يَكُونُ تَخَلُّفُهَا لِحِكَمٍ خَارِجَةٍ عَنْ مُقْتَضَى الكلي، فلا يكون دَاخِلَةً تَحْتَهُ أَصْلًا4، أَوْ تَكُونُ دَاخِلَةً لَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَنَا دُخُولُهَا، أَوْ دَاخِلَةً عِنْدَنَا، لَكِنْ عَارَضَهَا عَلَى الْخُصُوصِ مَا هِيَ بِهِ أولى5،

1 في "ط": "الاستقرائيات".

2 هذا الجواب بمنع التخلف، أي فنقول: إنه لا تخلف أصلا، وأن ما يظهر فيه أنه تخلف هو في الواقع كذا أو كذا. "د".

3 في "خ": المختلفة".

4 أي: فلا تكون من جزئيات الكلي، فلا يصح الاعتراض بتخلفها؛ لأنها خارجة عنه حتى في نظرنا. "د".

قلت: كلام المصنف هذا أشبه ما يكون بما يسمى اليوم بـ "مناهج العلوم"، فكأني به يريد أن يثبت أن للشريعة منهجا لا يمكن خلطه بالطرق العقلية المجردة، وانظر عن الاستقراء وحجيته وأقسامه:"شرح القطب على الشمسية""ص 315 وما بعدها"، و" البحر المحيط""2/ 103و 6 / 110" للزركشي، و" المنطق الحديث""ص 32" لمحمود القاسم، والمرشد السليم في المنطق الحديث والقديم" "ص 183 وما بعدها" لعوض الله حجازي.

5 أي: وإن لم نقف عليه، فيأخذ الجزئي حكما آخر لحكمة خفيت علينا، وإن كان مقتضى الظاهر أنه يأخذ حكم الكلي؛ لأنه في نظرنا مندرج فيه. "د".

ص: 84

فَالْمَلِكُ الْمُتَرَفِّهُ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْمَشَقَّةَ تَلْحَقُهُ، لَكُنَّا لَا نَحْكُمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ لِخَفَائِهَا، أَوْ نَقُولُ1 فِي الْعُقُوبَاتِ الَّتِي لَمْ يَزْدَجِرْ صَاحِبُهَا: إِنِ الْمَصْلَحَةَ لَيْسَتِ الِازْدِجَارَ فَقَطْ، بَلْ ثَمَّ أَمْرٌ آخَرُ وَهُوَ كَوْنُهَا كَفَّارَةً؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا، وَإِنْ كَانَتْ زَجْرًا أَيْضًا عَنْ2 إِيقَاعِ الْمَفَاسِدِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ خَادِمٌ لِلْكُلِّيِّ.

فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا اعْتِبَارَ بِمُعَارَضَةِ الْجُزْئِيَّاتِ فِي صِحَّةِ وَضْعِ الْكُلِّيَّاتِ لِلْمَصَالِحِ.

1 هذا انظر آخر في الجواب، أي: قد نفهم أحيانا أن الحكمة كذا، ويكون الواقع أن هذا بعض ما يراعيه الشارع في الحكمة، ويكون هناك أمر آخر أعم منه يراعي ويكون مطردا، كالكفارات في الحدود مثلا. "د".

2 كذا في ط"،وفي غيره: "على".

ص: 85

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:

مَقَاصِدُ الشَّارِعِ فِي بَثِّ الْمَصَالِحِ فِي التَّشْرِيعِ أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً عَامَّةً، لَا تَخْتَصُّ بِبَابٍ دُونَ بَابٍ، وَلَا بِمَحَلٍّ دُونَ مَحَلٍّ، وَلَا بِمَحَلِّ وِفَاقٍ دُونَ مَحَلِّ خِلَافٍ1، وَبِالْجُمْلَةِ الْأَمْرُ فِي الْمَصَالِحِ مُطَّرِدٌ مُطْلَقًا فِي كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ وَجُزْئِيَّاتِهَا.

وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مُطْلَقِ الْمَصَالِحِ، وَأَنَّ الْأَحْكَامَ مَشْرُوعَةٌ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَلَوِ اخْتَصَّتْ لَمْ تَكُنْ مَوْضُوعَةً لِلْمَصَالِحِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَكِنَّ2 الْبُرْهَانَ قَامَ عَلَى ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَصَالِحَ فِيهَا غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ.

وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ- وَهُوَ الْقَرَافِيُّ3- أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمَصَالِحِ إِنَّمَا يَسْتَمِرُّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُصِيبَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَاحِدٌ، لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الْعَقْلِيَّةَ أَنَّ الرَّاجِحَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الشَّيْءَ وَالنَّقِيضَ4، بل متى كان أحدهما

1يشير إلى ما سيأتي عن القرافي وابن عبد السلام، وقد عقد هذه المسألة للرد عليهما، وبيان ما هو الواقع فيما ادعياه، وقد أصاب كل الإصابة، وملك عليهما جميع النوافذ، رحمه الله. "د".

2 في نسخة "ماء/ ص 134": "ولكن".

3 في كتابه "نفائس الأصول""9/ 3901".

4 أي: لأن المصلحة الغالبة في المحل- أي: الراجحة التي يعتبرها الشرع- واحدة لا تتعدد، أي: فلا يسلم العقل بأن المصلحة الراجحة التي يراعيها أحدهما يكون نقيضها مصلحة راجحة أخرى يراعيها القائل الآخرن فلا يتأتى مع القول بإصابة كل مجتهد أن تكون الأحكام تابعة للمصالح، كما لا يتأتى معه أيضا القول بالقياس، لأنه مبني على وجود العلة التي هي المصلحة المراعاة في المقيس عليه. "د".

قلت: وفي هذا الموضع من الأصل: "أن يكون هو النقيضين"،وكذا في "النفائس".

ص: 86

رَاجِحًا كَانَ الْآخَرُ مَرْجُوحًا، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُصِيبُ وَاحِدًا وَهُوَ الْمُفْتِي بِالرَّاجِحِ، وَغَيْرُهُ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا، لِأَنَّهُ مفتٍ بِالْمَرْجُوحِ، فَتَتَنَاقَضُ قَاعِدَةُ الْمُصَوِّبِينَ مَعَ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ، وَأَنَّ الشَّرَائِعَ تَابِعَةٌ لِلْمَصَالِحِ.

هَذَا مَا قَالَ.

وَنَقَلَ عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ1 فِي الْجَوَابِ أنه يتعين على هؤلاء أن يقولوا: عن هَذِهِ الْقَاعِدَةَ لَا تَكُونُ2 إِلَّا فِي الْأَحْكَامِ الْإِجْمَاعِيَّةِ، أَمَّا فِي مَوَاطِنِ الْخِلَافِ، فَلَمْ يَكُنِ الصَّادِرُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ الْحُكْمَ تَابِعٌ3 للراجح في نفس الأمر، بل ما4 فِي الظُّنُونِ فَقَطْ، كَانَ رَاجِحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ مَرْجُوحًا، وَسُلِّمَ أَنَّ قَاعِدَةَ التَّصْوِيبِ تَأْبَى قَاعِدَةَ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ لِتُعِينَ الرَّاجِحَ، وَكَانَ يَقُولُ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْقَائِلِ بِالتَّصْوِيبِ أَنْ يَصْرِفَ الخطأ في حديث الحاكم5 إلى

1 في "م": "عن شيخه العز في

".

2 ويكون معناها أنهم حيث اتفقوا على الحكم وصادفوا هدفا واحدا، فكلهم مصيب وهذا في غاية البعد بعد الاطلاع على أدلة الطرفين وتقرير ردودهما، وانظر كتاب "التحرير" في مسألة "لا حكم في المسائل الاجتهادية التي لا قاطع فيها من نص أو إجماع" فقد جعلوا هذا محل القاعدة، لا المسائل الإجماعية. "د".

3 أي: إن الحكم الذي يجب على المجتهد العمل به ليس تابعا لما في نفس الأمر حتى يكون صوابا دائما، فيتأتى أن كل مجتهد مصيب، بل هذا الحكم تابع لما ترجح في ظنه فقط، ولو كان مخالفا لما في نفس الأمر، فالظنون الموافقة صواب، والمخالفة خطأ، وإن وجب عليه العمل بها ما دام ظنه بأرجحيتها قائما، أي فلا يتأتى أن يكون كل مجتهد مصيبا. "د".

4 كذا في "النفائس"، وفي جميع النسخ:"فيما".

5 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الاعتصام، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، 13/ 318/ رقم 7352"، ومسلم في "الصحيح""كتاب الأقضية، باب بيان آجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، 3/ 1342/ رقم 1716" عن أبي هريرة مرفوعا: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ، فله أجر".

قال "د": "أي أن الخطا الوارد في الحديث ليس موجها إلى الحكم، بل إلى وسائل الاجتهاد التي اتبعت في استنباطه والخطأ في ذلك لا نزاع فيه، فحمل كلام الشارع عليه أولى من حمله على نفس الحكم، لأن في تخطئة المجتهد في نفس الحكم خلافا".

ص: 87

الْأَسْبَابِ، لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْخَطَأَ يَقَعُ فِيهَا، وَحَمْلُ كَلَامِ الشَّارِعِ عَلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَوْلَى. هَذَا مَا نُقِلَ عَنْهُ.

وَيَظْهَرُ أَنَّ الْقَاعِدَةَ جَارِيَةٌ عَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ عَلَى [تصويب] 1 مَذْهَبِ التَّصْوِيبِ إِضَافِيَّةٌ2، إِذْ حُكْمُ اللَّهِ عِنْدَهُمْ تَابِعٌ لِنَظَرِ الْمُجْتَهِدِ وَالْمَصَالِحُ تَابِعَةٌ3 لِلْحُكْمِ أَوْ مَتْبُوعَةٌ4 لَهُ فَتَكُونُ الْمَصَالِحُ أَوِ الْمَفَاسِدُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ثَابِتَةً بِحَسَبِ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ وَفِي ظَنِّهِ5، وَلَا فَرْقَ هُنَا بَيْنَ الْمُخَطِّئَةِ وَالْمُصَوِّبَةِ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمَالِكِيِّ أَنَّ رِبَا الْفَضْلِ فِي الْخُضَرِ وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ جَائِزٌ، فَجِهَةُ الْمَصْلَحَةِ عِنْدَهُ هِيَ الرَّاجِحَةُ، وَهِيَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فِي ظَنِّهِ، لِأَنَّهَا عِنْدَهُ خَارِجَةٌ عَنْ حُكْمِ الرِّبَا الْمُحَرَّمِ، فَالْمُقْدِمُ عَلَى التَّفَاضُلِ فِيهَا مُقْدِمٌ عَلَى مَا هُو جَائِزٌ، وَمَا هُوَ جَائِزٌ لَا ضَرَرَ فِيهِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، بَلْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِأَجْلِهَا أُجِيزَ، وَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الرِّبَا فِيهَا غَيْرُ جَائِزٍ، فَهِيَ عِنْدُهُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ حُكْمِ الرِّبَا الْمُحَرَّمِ، وُجْهَةُ الْمَصْلَحَةِ عِنْدَهُ هِيَ الْمَرْجُوحَةُ لَا الرَّاجِحَةُ، وَهِيَ كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ

1 زيادة من الأصل و"ط".

2 هذا الوجه صرح به الإمام الغزالي وهو ناصر مذهب المصوبة في "كتاب المستصفى". "خ".

"3، 4" أي: على ما تقدم من مذهب الأشاعرة، ومذهب المعتزلة، إذ تفهم من الحكم على الأول، ويفهم الحكم منها على الثاني. "د".

5 أي: فهي إضافية أيضا، فيتأتى تعدد المصلحة الراجحة بالإضافة، فلا فرق بين مصوب ومخطئ حينئذ "د".

ص: 88

على ما ظنه، فالضرر1 لَاحِقٌ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، فَحُكْمُ المصوب ههنا حُكْمُ الْمُخَطِّئِ

وَإِنَّمَا يَكُونُ2 التَّنَاقُضُ وَاقِعًا إِذَا عُدَّ الرَّاجِحُ مَرْجُوحًا مِنْ نَاظِرٍ وَاحِدٍ، بَلْ هُوَ مِنْ نَاظِرَيْنِ، ظَنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعِلَّةَ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا الْحُكْمَ مَوْجُودَةً فِي الْمَحَلِّ بِحَسَبِ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عِنْدَهُ وَفِي ظَنِّهِ3، لَا مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ، إِذْ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ إِلَّا فِي مسائل الإجماع4، فههنا اتَّفَقَ الْفَرِيقَانِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا بَعْدُ، فَالْمُخَطِّئَةُ حَكَمَتْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ هُوَ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عِنْدَهُ وَفِي ظَنِّهِ، وَالْمُصَوِّبَةُ حكمت بناء على أن لاحكم فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ هُوَ مَا ظَهَرَ الْآنَ، وَكِلَاهُمَا بانٍ حكمَه عَلَى عِلَّةٍ مَظْنُونٍ بِهَا أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

وَيَتَّفِقُ ههنا مَنْ يَقُولُ بِاعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ لُزُومًا أَوْ تُفَضُّلًا، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَصَالِحَ وَالْمَفَاسِدَ مِنْ صِفَاتِ الْأَعْيَانِ5، أَوْ لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ الْأَعْيَانِ6، وَهَذَا مَجَالٌ يَحْتَمِلُ بَسْطًا أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَهُوَ مِنْ مَبَاحِثِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ

1 كذا في "ط"، وفي غيره:"فلا ضرر"، وكتب "د":"كان المناسب أن يقول: ففيه ضرر لاحق به في الدنيا أو الآخرة".

2 هو روح الجواب عن قوله: "لأن القاعدة العقلية أن الراجح

إلخ"، وقوله "من نظر واحد" أي: أو من ناظرين يعتبران الواقع ونفس الأمر في ذاته بقطع النظر عن الظن. "د".

3 توكيد لقوله: "ظن كل واحد.... إلخ"، وتمهيد لقوله:"لا ما هو عليه في نفسه"، أي: الذي لو كان لكان التناقض حاصلا. "د" وفي "ط": "وظنه لا على ما....".

4 أي: الإجماع القطعي السند لأن الجميع قاطع فيه بأن العلة كذا 1في نفس الأمر، أما الإجماع الظني السند؛ فالاتفاق فيه على أن العلة كذا في نفس الأمر من باب المصادفة فقط، وإلا، فالمعتبر فيه ظن كل واحد عنه نفسه أنها العلة، كمواضع الخلاف، ولكن اتفق اتحاد ظنهم ذلك. "د".

"5، 6" هو الخلاف بين القدماء من المعتزلة وغير القدماء منهم في أن الحسن والقبح من ذات الفعل أو من صفة عارضة. "د".

ص: 89

هَذَا، لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى الِاعْتِذَارِ الَّذِي اعْتَذَرَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَارْتَفَعَ إِشْكَالُ الْمَسْأَلَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.

وَتَأَمَّلْ، فَإِنَّ الْجُوَيْنِيَّ نَقَلَ اتِّفَاقَ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّصْوِيبِ اجْتِهَادًا وَحُكْمًا1، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَصَوُّرَ اجْتِمَاعِ قَاعِدَةِ التَّصْوِيبِ عِنْدَهُمْ مَعَ الْقَوْلِ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ، وَأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الذَّوَاتِ2، فَكَلَامُ الْقَرَافِيِّ مُشْكِلٌ عَلَى كُلِّ تقدير، والله أعلم

1 أي: فلا يلتزمون صرف الخطأ المشار إليه بحديث الحاكم إلى الأسباب، بل يقولون إن كل مجتهد بشرطه مصيب في اجتهاده ووسائله، وفي حكمه الذي استنبطه مع أنهم يقولون بالمصالح عقلا، فيجمعون بين القول بها والتصويب، لا في الاجتهاد فقط، بل وفي نفس الحكم "د".

قلت: انظر: "البرهان""2/ 1316- 1329".

2 أي: الحسن أو القبح جاء من ذات الفعل، كما يقوله قدماء المعتزلة، فإنهم يقولون: حسن الفعل وقبحه لذات الفعل لا لصفة توجبه، وقال بعضهم: بل لصفة توجبه لا لذات الفعل.... إلخ ما قرره في هذا الخلاف، فقوله:"وأن ذلك راجع إلى الذوات" ليس من محل الاتفاق بينهم، ولكنه اختاره لأن إشكال القرافي يكون عليه أوجَه مما إذا قالوا: لصفة توجبه لا لذات الفعل، لأنه حينئذ يمكن الانفكاك. "د".

وقال "خ""إذا كانت الوقائع منشأ للمصالح والمفاسد، وكانت الأحكام قائمة على رعايتها، فالواقعة الواحدة إنما يكون لها حكم واحد، وهو الذي يطابق ما تقتضيه مصلحتها أو مفسدتها، ومن أداه اجتهاده إلى هذا الحكم، فهو مصيب وغير مخطئ، فلا يظهر وجه استقامة القول بتصويب كل مجتهد مع القول بأن الأحكام تفصل على مقتضى المصالح والمفاسد في نفس الأمر".

ص: 90

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ:

إِنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الْمُبَارَكَةَ معصومة، كما أن صاحبها صلى الله عليه وسلم مَعْصُومٌ، وَكَمَا كَانَتْ أُمَّتُهُ فِيمَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ مَعْصُومَةً1..

وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا:

الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ تَصْرِيحًا وَتَلْوِيحًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الْحِجْرِ: 9] وَقَوْلِهِ {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هُودٍ: 1] .

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الْحَجِّ: 52] ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَحْفَظُ آيَاتِهِ وَيُحْكِمُهَا حَتَّى لَا يُخَالِطَهَا غَيْرُهَا وَلَا يُدَاخِلَهَا التَّغْيِيرُ وَلَا التَّبْدِيلُ، وَالسُّنَّةُ وَإِنْ لَمْ تُذْكَرْ، فَإِنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لَهُ وَدَائِرَةٌ حَوْلَهُ، فَهِيَ مِنْهُ وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ فِي مَعَانِيهَا، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُعَضِّدُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَقَالَ تَعَالَى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا} [الْمَائِدَةِ: 3] .

حَكَى أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي "طَبَقَاتِ الْقُرَّاءِ"2 لَهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْمُنْتَابِ، قَالَ:

كُنْتُ يَوْمًا عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي إِسْحَاقَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، فَقِيلَ لَهُ: لم

1 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية""27/ 447".

2 قال ابن الجرزي في "غاية النهاية""1/ 505": "كتاب "طبقات القراء" في أربعة أسفار، عظيم في بابه، لعلي أظفر بجميعه"، وهذا الكتاب عزيز منذ القدم، كما أفاد المقري في "نفح الطيب""4/ 474" ولم أظفر بأي نسخة خطية منه في المكتبات اليوم.

ص: 91

جَازَ التَّبْدِيلُ عَلَى أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَلَمْ يَجُزْ عَلَى أَهْلِ الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ الْقَاضِي: قَالَ اللَّهُ عز وجل فِي أَهْلِ التَّوْرَاةِ: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [الْمَائِدَةِ: 44] ، فَوَكَلَ الْحِفْظَ إِلَيْهِمْ، فَجَازَ التَّبْدِيلُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ فِي الْقُرْآنِ:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الْحِجْرِ: 9] ، فَلَمْ يَجُزِ التَّبْدِيلُ عَلَيْهِمْ، قَالَ عَلِيٌّ: فَمَضَيْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَحَامِلِيِّ، فَذَكَرْتُ لَهُ الْحِكَايَةَ، فَقَالَ: مَا سَمِعْتُ كَلَامًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا1.

وَأَيْضًا مَا جَاءَ مِنْ حَوَادِثِ الشُّهُبِ أَمَامَ بِعْثَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَنْعِ الشَّيَاطِينِ مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ لَمَّا كَانُوا يَزِيدُونَ فِيمَا سَمِعُوا مِنْ أَخْبَارِ السَّمَاءِ، حَيْثُ كانوا يسمعون الكلمة فيزيدون معها مئة كِذْبَةٍ أَوْ أَكْثَرَ2، فَإِذَا كَانُوا قَدْ مُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ فِي السَّمَاءِ، فَكَذَلِكَ فِي الْأَرْضِ، وَقَدْ عَجَزَتِ الْفُصَحَاءُ اللُّسُنُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ

1 ذهب بعض أهل العلم كالرازي إلى أن تحريف أهل الكتاب للتوراة والإنجيل إنما هو بسوء تأويلهما وحمل نصوصهما على ما يطابق أهواءهم، وقد تتبع فريق من العلماء المحققين، كابن حزم، وابن تيمية، والشيخ رحمة الله الهندي جملة من نسخهما، وأفاضوا في بيان ما دخل عليها من تحريف اللفظ وتبديل العبارة، وتحريف الكلم بالتأويل الباطل قد دخل في تفسير القرآن كما مني به غيره من الكتب المتقدمة، ولكن الله وقاه من تحريف اللفظ، ولم تستطع أيدي الزنادقة أن تمسه بسوء. "خ".

قلت: انظر نحو الحكاية المذكورة في: تفسير القرطبي" "10/ 5-6"، و"حاشية الجمل على الجلالين" "2/ 606".

2 يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، 6/ 304/ رقم 2210"، ومسلم في "صحيحه""كتاب السلام" باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، 4/ 1750/ رقم 2228" عن عائشة مرفوعا:"إن الملائكة تنزل في العنان -وهو السحاب- فتذكر الأمر قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع، فتسمعه، فتوحيه إلى الكهان، فيكذبون منها مائة كذبة من عند أنفسهم" لفظ البخاري. وفي "ط": "أو أكثر من مائة كذبة".

ص: 92

مَنْ مِثْلِهِ، وَهُوَ كُلُّهُ مِنْ جُمْلَةِ1 الْحِفْظِ، وَالْحِفْظُ2 دَائِمٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تدلُّك عَلَى حِفْظِ الشَّرِيعَةِ وَعِصْمَتِهَا عَنِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ

وَالثَّانِي:

الِاعْتِبَارُ الْوُجُودِيُّ الْوَاقِعُ مِنْ زَمَنِ3 رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْآنَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل وفَّر دَوَاعِيَ الْأُمَّةِ لِلذَّبِّ عَنِ الشَّرِيعَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ عَنْهَا بِحَسَبِ الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ.

أَمَّا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، فَقَدْ قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ حَفَظَةً بِحَيْثُ لَوْ زِيدَ فِيهِ حَرْفٌ وَاحِدٌ لَأَخْرَجَهُ آلَافٌ مِنَ الْأَطْفَالِ الْأَصَاغِرِ، فَضْلًا عَنِ الْقُرَّاءِ الْأَكَابِرِ4.

وَهَكَذَا جَرَى الْأَمْرُ فِي جُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ، فَقَيَّضَ اللَّهُ لِكُلِّ عِلْمٍ رِجَالًا حَفِظَهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ.

فَكَانَ مِنْهُمْ قَوْمٌ يَذْهَبُونَ الْأَيَّامَ الْكَثِيرَةَ فِي حِفْظِ اللُّغَاتِ وَالتَّسْمِيَاتِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ، حَتَّى قَرَّرُوا لُغَاتِ الشَّرِيعَةِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ -وَهُوَ الْبَابُ الْأَوَّلُ مِنْ أَبْوَابِ فِقْهِ الشَّرِيعَةِ، إِذْ أَوْحَاهَا اللَّهُ إِلَى رَسُولِهِ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ.

ثم قيض رجالا يبحثون يَبْحَثُونَ عَنْ تَصَارِيفِ هَذِهِ اللُّغَاتِ فِي النُّطْقِ فِيهَا5 رَفْعًا وَنَصْبًا، وَجَرًّا وَجَزْمًا، وَتَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَإِبْدَالًا وَقَلْبًا، وَإِتْبَاعًا وَقَطْعًا، وَإِفْرَادًا وَجَمْعًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ تَصَارِيفِهَا فِي الْإِفْرَادِ وَالتَّرْكِيبِ، وَاسْتَنْبَطُوا لِذَلِكَ قَوَاعِدَ ضَبَطُوا بِهَا قَوَانِينَ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَسَهَّلَ اللَّهُ بذلك.

1 في الأصل: "جهة".

2 في خ: "أو الحفظ".

3 في الأصل و"ط": زمان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

4 في نسخة "ماء / ص135" زيادة: "وكذلك لو نقص لرده آلاف".

5 في نسخة "ماء/ ص 135": "بها".

ص: 93

الفهم عنه في كتابه، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خِطَابِهِ.

ثُمَّ قَيَّضَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ رِجَالًا يَبْحَثُونَ عن الصحيح مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَنْ1 أَهْلِ الثِّقَةِ وَالْعَدَالَةِ مِنَ النَّقَلَةِ، حَتَّى مَيَّزُوا بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ، وَتَعَرَّفُوا التَّوَارِيخَ وَصِحَّةَ الدَّعَاوَى فِي الْأَخْذِ لِفُلَانٍ عَنْ فُلَانٍ، حَتَّى اسْتَقَرَّ الثَّابِتُ الْمَعْمُولُ بِهِ مِنْ أَحَادِيثِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم.

وَكَذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ الْعَظِيمُ لِبَيَانِ السُّنَّةِ عَنِ الْبِدْعَةِ نَاسًا مِنْ عَبِيدِهِ بَحَثُوا عَنْ أَغْرَاضِ الشَّرِيعَةِ كِتَابًا وَسُنَّةً، وَعَمَّا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُونَ، وَدَاوَمَ2 عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَرَدُّوا عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ، حَتَّى تَمَيَّزَ أَتْبَاعُ الْحَقِّ عَنْ أَتْبَاعِ الْهَوَى.

وَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عِبَادِهِ قُرَّاءً3 أَخَذُوا كِتَابَهُ تَلَقِّيًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَلَّمُوهُ لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ حِرْصًا عَلَى مُوَافَقَةِ الْجَمَاعَةِ فِي تَأْلِيفِهِ فِي الْمَصَاحِفِ، حَتَّى يَتَوَافَقَ الْجَمِيعُ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَقَعَ فِي الْقُرْآنِ اخْتِلَافٌ مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ.

ثُمَّ فيض اللَّهُ تَعَالَى نَاسًا يُنَاضِلُونَ عَنْ دِينِهِ، وَيَدْفَعُونَ الشُّبَهَ بِبَرَاهِينِهِ، فَنَظَرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاسْتَعْمَلُوا الْأَفْكَارَ، وَأَذْهَبُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَا يَشْغَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَاتَّخَذُوا الْخَلْوَةَ أَنِيسًا، وَفَازُوا بِرَبِّهِمْ جَلِيسًا، حَتَّى نَظَرُوا إِلَى عَجَائِبِ صُنْعِ اللَّهِ فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، وَهُمُ الْعَارِفُونَ مِنْ خَلْقِهِ، وَالْوَاقِفُونَ مَعَ أَدَاءِ حَقِّهِ، فَإِنْ عَارَضَ دِينَ الْإِسْلَامِ مُعَارِضٌ، أَوْ جَادَلَ فِيهِ خصم

1 في الأصل و"ط": "وعلى".

2 في الأصل و"ط": "ودام".

3 ليس تكرارا مع قوله: "قيض الله له حفظة.... إلخ"؛ لأن ذلك في الحفظ، وهذا في طريق وضعه في المصاحف، وضبط ترتيبه وكلماته، ووقوفه وفواصل آياته. "د".

ص: 94

مُنَاقِضٌ، غَبَّرُوا فِي وَجْهِ شُبُهَاتِهِ بِالْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ1، فهُم جُنْدُ الْإِسْلَامِ وَحُمَاةُ الدِّينِ.

وَبَعَثَ اللَّهُ مِنْ هَؤُلَاءِ سَادَةً فَهِمُوا عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَنْبَطُوا أَحْكَامًا فَهِمُوا مَعَانِيَهَا مِنْ أَغْرَاضِ الشَّرِيعَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، تَارَةً مِنْ نَفْسِ الْقَوْلِ، وَتَارَةً مِنْ مَعْنَاهُ، وَتَارَةً مِنْ عِلَّةِ الْحُكْمِ، حَتَّى نزَّلوا الْوَقَائِعَ الَّتِي لَمْ تُذْكَرْ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَسَهَّلُوا لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ طَرِيقَ ذَلِكَ، وَهَكَذَا جَرَى الْأَمْرُ فِي كُلِّ عِلْمٍ تَوَقَّفَ فَهْمُ الشَّرِيعَةِ عَلَيْهِ أَوِ احْتِيجَ [فِي] 2 إِيضَاحِهَا إِلَيْهِ.

وَهُوَ عَيْنُ الْحِفْظِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الأدلة المنقولة، [وبالله التوفيق]3.

1يتعين على علماء الشريعة أن يكون لهم اطلاع واسع على ما يقوله المخالفون أو يكتبونه في حق الإسلام، حتى يقضوا على الشبه والأراجيف التي يلقونها كالعثرات في سبيل الدين، ويتصدوا لإماطتها بدلائل تلائم أذواق الناشئين بأسلوب بيانها وطرق منطقها، وكم من عقيدة ارتخت وفطرة كانت صافية فأغبرت وإنما أتاها البلاء من فساد طريقة التعليم وقلة مراعاة حال العصر وإخراج الحقائق في عبارات سائغة ونظام مألوف. "خ".

2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.

3 ما بين المعقوفتين سقط من "ط".

ص: 95

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ:

كَمَا أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ قاعدة كلية في الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات، فَلَا تَرْفَعُهَا آحَادُ الْجُزْئِيَّاتِ كَذَلِكَ نَقُولُ: إِذَا ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ قَاعِدَةٌ كُلِّيَّةٌ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَوْ فِي آحَادِهَا1، فَلَا بُدَّ مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَقُومُ بِهِ الْكُلِّيُّ وَذَلِكَ الْجُزْئِيَّاتُ، فَالْجُزْئِيَّاتُ مَقْصُودَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي إِقَامَةِ الْكُلِّيِّ أَنْ2 لَا يَتَخَلَّفَ الْكُلِّيُّ فَتَتَخَلَّفَ مَصْلَحَتُهُ الْمَقْصُودَةُ بِالتَّشْرِيعِ،

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ:

- مِنْهَا: وُرُودُ الْعَتَبِ عَلَى التَّارِكِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، كَتَرْكِ الصَّلَاةِ، أَوِ الْجَمَاعَةِ، أَوِ الْجُمْعَةِ، أَوِ الزَّكَاةِ، أَوِ الْجِهَادِ، أَوْ مُفَارَقَةِ الْجَمَاعَةِ لِغَيْرِ أَمْرٍ مَطْلُوبٍ أَوْ مَهْرُوبٍ عَنْهُ، كَانَ الْعَتَبُ وَعِيدًا أَوْ غَيْرَهُ، كَالْوَعِيدِ بِالْعَذَابِ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي الْوَاجِبَاتِ، وَالتَّجْرِيحِ فِي غَيْرِ الْوَاجِبَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

- وَمِنْهَا: أَنَّ عَامَّةَ التَّكَالِيفِ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِأَنَّهَا دَائِرَةٌ على القواعد الثلاث، والأمر والنهي فيما قَدْ جَاءَ حَتْمًا، وَتَوَجَّهَ الْوَعِيدُ عَلَى فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْهَا أَوْ تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ، مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ وَلَا مُحَاشَاةٍ، إِلَّا فِي مَوَاضِعِ الْأَعْذَارِ الَّتِي تُسْقِطُ أَحْكَامَ الْوُجُوبِ أَوِ التَّحْرِيمِ، وَحِينَ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْجُزْئِيَّاتِ دَاخِلَةٌ مَدْخَلَ الْكُلِّيَّاتِ فِي الطَّلَبِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا.

- وَمِنْهَا: أَنَّ الْجُزْئِيَّاتِ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُعْتَبَرَةً مَقْصُودَةً فِي إِقَامَةِ الْكُلِّيِّ، لَمْ يَصِحَّ الْأَمْرُ بِالْكُلِّيِّ مِنْ أَصْلِهِ، لِأَنَّ الْكُلِّيَّ مِنْ حَيْثُ هُوَ كُلِّيٌّ لَا يَصِحُّ الْقَصْدُ فِي التَّكْلِيفِ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ رَاجِعٌ لِأَمْرٍ مَعْقُولٍ لَا يَحْصُلُ فِي الْخَارِجِ إِلَّا فِي ضِمْنِ الْجُزْئِيَّاتِ، فَتَوَجُّهُ الْقَصْدِ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ التَّكْلِيفُ بِهِ تَوَجُّهٌ إِلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ،

1 في "ط": "أحدها".

2 بدل من إقامة "د".

ص: 96

وَذَلِكَ مَمْنُوعُ الْوُقُوعِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا كَانَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِحُصُولِ الْجُزْئِيَّاتِ، فَالْقَصْدُ الشَّرْعِيُّ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْجُزْئِيَّاتِ1.

وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكُلِّيِّ هُنَا أَنْ تَجْرِيَ أُمُورُ الْخَلْقِ عَلَى تَرْتِيبٍ وَنِظَامٍ وَاحِدٍ لَا تَفَاوُتَ فيه ولا اختلاف، وإهمال القصد في الجزئيات2 يَرْجِعُ إِلَى إِهْمَالِ الْقَصْدِ فِي الْكُلِّيِّ، فَإِنَّهُ مع الإهمال لا يرجي كُلِّيًّا بِالْقَصْدِ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ مَقْصُودًا، هَذَا خُلْفٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ صِحَّةِ الْقَصْدِ إِلَى حُصُولِ الْجُزْئِيَّاتِ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ فِي ذَلِكَ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ، فَانْحَتَمَ الْقَصْدُ إِلَى الْجَمِيعِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.

1 هذا وحده غير كاف في الدليل، لأنه محتاج إلى إثبات أن ذلك في جميع الجزئيات وسيأتي تكميله بقوله:"وَلَيْسَ الْبَعْضُ فِي ذَلِكَ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ.... إلخ"، إلا أنه يبقى الكلام في تأخير هذه المقدمة عن الدليل المشار إليه بقوله: وأيضا، فإن القصد.... إلخ"، فهل ذلك لأنه محتاج إليها في إكماله؟ كما أن هذا محتاج إليها، فإن كان كذلك، كان تأخرها لتعود إليهما معا تكملة لهما، وربما يساعد على أن هذا غرضه قوله في نهاية الدليل الثاني: "فلا بد من صحة القصد إلى حصول الجزئيات"، فيكون مساويا لما فرعه على الدليل الذي نحن بصدده حيث قال: "فالقصد الشرعي متوجه إلى الجزئيات، يعني: ويكون كل من الدليلين محتاجا إلى هذه التكملة الأخيرة.

ولكن الذي يظهر أن الدليل الأخير لا يحتاج إليها؛ لأن القصد بالكلي أن لا يكون تفاوت بين الخلق في الترتيب والنظام، فإذا أهمل القصد في بعض الجزئيات، اقتضى أن لا يجري كليا بالقصد، أي: فتخلف أي جزئي ينافي هذا القصد الكلي، وعليه يتم الدليل، ولا حاجة لقوله:"وليس البعض أولى.... إلخ".

وإذا تم هذا، كان المناسب تقديم هذه المقدمة قبل قوله:"وأيضا"، ولو قال قائل: إنها مؤخرة عن موضعها بعمل النساخ لم يبعد. "د".

2 أي: في أي جزئي، هذا الذي يقتضيه روح الدليل بعد تقرير الدليل قبله، لأنه لا يناسب أن يقال: إنه يكفي النظر إلى الجزئيات مطلقا كلا أو بعضا، لأن هذا هو ما قبله من لزوم النظر إلى الجزئيات الخارجية التي يكون بها التكليف، وأيضا، فقد قال:"لا يجري كليا بالقصد إذا أهملت الجزئيات"، فتعين قصد جميع الجزئيات لا بعضها، فتنبه لتقف على وجه ما قلناه من أن الدليل الأخير تام بدون التكملة. "د".

ص: 97

فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُعَارِضُ الْقَاعِدَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ أَنَّ الْكُلِّيَّاتِ لَا يَقْدَحُ فِيهَا تَخَلُّفُ آحَادِ الْجُزْئِيَّاتِ.

فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقَاعِدَةَ صَحِيحَةٌ، وَلَا مُعَارَضَةَ فِيهَا لِمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مُعْتَبَرٌ مِنْ حَيْثُ السَّلَامَةِ مِنَ الْعَارِضِ الْمُعَارِضِ، فَلَا شَكَّ فِي انْحِتَامِ الْقَصْدِ إِلَى الْجُزْئِيِّ1، وَمَا تَقَدَّمَ مُعْتَبَرٌ مِنْ حَيْثُ وُرُودِ الْعَارِضِ عَلَى الْكُلِّيِّ، حَتَّى إِنَّ تَخَلُّفَ الْجُزْئِيِّ هُنَالِكَ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْجُزْئِيِّ فِي كُلِّيِّهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، كَمَا نَقُولُ: إِنَّ حِفْظَ النُّفُوسِ مَشْرُوعٌ- وَهَذَا كُلِّيٌّ مَقْطُوعٌ بِقَصْدِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرَعَ الْقِصَاصَ حِفْظًا لِلنُّفُوسِ، فَقَتْلُ النَّفْسِ فِي الْقِصَاصِ مُحَافَظَةٌ عَلَيْهَا بِالْقَصْدِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَخَلُّفُ جُزْئِيٍّ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْكُلِّيِّ الْمُحَافَظِ عَلَيْهِ، وَهُوَ إِتْلَافُ هَذِهِ النَّفْسِ لِعَارِضٍ عَرَضَ وَهُوَ الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ، فَإِهْمَالُ هَذَا الْجُزْئِيِّ فِي كُلِّيِّهِ [مِنْ جِهَةِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى جُزْئِيٍّ فِي كَلَيِّهِ أَيْضًا، وَهُوَ النَّفْسُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهَا، فَصَارَ عَيْنُ اعْتِبَارِ الْجُزْئِيِّ فِي كُلِّيٍّ] 2 هُوَ عَيْنُ إِهْمَالِ الْجُزْئِيِّ3، لَكِنْ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى كُلِّيِّهِ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَهَكَذَا سائر ما يرد من هذا الباب.

1 أي: الذي بقي سالما من المعارض، أما ما تقدم، فهو في موضوع أنه يتخلف الجزئي عن الكلي لمعارض أخرجه من هذا الكلي وأدخله في كلي آخر، أو يكون عارضه اعتبار جزئي آخر لهذا الكلي ورجح عليه، وليس معناه أنه مع بقائه داخلا في هذا الكلي بدون معارضة يتخلف عنه ولا يأخذ حكمه من أمر أو نهي، فشتان ما بين الموضعين، ومثاله فيه إهمال لجزئي من قاعدة حفظ النفس لاعتبار جزئي آخر منها يعارضه اعتبار هذا المهمل، وإن كان في كل منهما أصل المحافظة على الكلي، لكنه أهمل أحدهما وهو المحافظة على الجاني بسبب جنايته. "د".

2 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وفي "ط":"كليه هو عين....".

3 أي: إن اعتبار الجزئي وهو حفظ النفس المجني عليها إهمال للجزئي الآخر من هذا الكلي، وهو حفظ النفس الجانية، فأهمل هذا وأتلفت. "د".

ص: 98

فَعَلَى هَذَا تَخَلُّفُ آحَادِ الْجُزْئِيَّاتِ عَنْ مُقْتَضَى الْكُلِّيِّ إِنْ كَانَ لِغَيْرِ عَارِضٍ، فَلَا يَصِحُّ شَرْعًا، وَإِنْ كَانَ لِعَارِضٍ، فَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى ذَلِكَ الْكُلِّيِّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، أَوْ عَلَى كُلِّيٍّ آخَرَ1، فَالْأَوَّلُ يَكُونُ قَادِحًا تَخَلُّفُهُ فِي الْكُلِّيِّ، وَالثَّانِي لَا يَكُونُ تَخَلُّفُهُ قادحا.

1 أي: كلي آخر أشد رعاية من هذا الكلي، كقتل تارك الصلاة عمدا، لم يحافظ على هذا الجزئي من كلي حفظ النفس، رعاية لكلي آخر أقوى منه في الرعاية وهو حفظ الدين "د".

ص: 99