الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النَّوْعُ الثَّالِثُ: فِي بَيَانِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي وَضْعِ الشَّرِيعَةِ لِلتَّكْلِيفِ
بِمُقْتَضَاهَا
وَيَحْتَوِي عَلَى مَسَائِلَ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ شَرْطَ التَّكْلِيفِ أَوْ سَبَبَهُ1 الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِهِ، فَمَا لَا قُدْرَةَ لِلْمُكَلَّفِ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِهِ شَرْعًا وَإِنْ جَازَ عَقْلًا2، وَلَا معنى لبيان ذلك ههنا، فَإِنَّ الْأُصُولِيِّينَ3 قَدْ تَكَفَّلُوا بِهَذِهِ الْوَظِيفَةِ، وَلَكِنْ نَبْنِي عَلَيْهَا وَنَقُولُ: إِذَا ظَهَرَ مِنَ الشَّارِعِ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ الْقَصْدُ إِلَى التَّكْلِيفِ بِمَا4 لَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ فَذَلِكَ رَاجِعٌ فِي التَّحْقِيقِ إِلَى سَوَابِقِهِ أَوْ لَوَاحِقِهِ أَوْ قرائنه،
1 لم أقف على قول بالسببية بالمعنى الذي ذكره في تعريف السبب. "د".
2 خلافا للحنفية والمعتزلة القائلين بالمنع عقلا أيضا. "د".
3 انظر على سبيل المثال: "البرهان""1/ 105" للجويني، و"المستصفى""1/ 86-88" للغزالي، و"البحر المحيط""1/ 388"، و"سلاسل الذهب""136"، كلاهما للزركشي، و"المسودة""80" لآل تيمية، و"روضة الناظر""1/ 234 - ط الرشد" و"مجموع فتاوى ابن تيمية""3/ 288، 10/ 344-348، 22/ 41-43، 100-102"، و"إعلام الموقعين""4/ 220"، و"تهذيب السنن""1/ 47"، و"بدائع الفوائد""4/ 29-31"، و"أحكام أهل الذمة""2/ 770"، كلها لابن القيم.
4 أي: بالذي
فقول الله تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1 [البقرة: 132]، قوله فِي الْحَدِيثِ:"كُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَلَا تكن عبد الله القاتل" 2، قوله: "لا تمت
1 الآية مثال للتكليف بالإسلام السابق على الموت، ولا يفيد عند المقارنة والمثال الثاني من التكليف بالسوابق أيضا، فإنه لما تعارض عليه الأمر وكان بين أن يقتل غيره أو يقتله غيره فيما لا تحل فيه النفس، أمر بإسلام الأمر لله، وعدم الإقدام على قتل الغير، والمثال الثالث يصح أن يكون من النهي عن الظالم السابق على الموت والظلم الذي يقارن الموت، كأن لا يتحلل عند الموت من الظلم، أو تبقى بعض الوسائل التي بها الظلم مقارنة للموت، كمن غصب بيتا سكنه ومات فيه، أو ثوبا بقي في حوزته مغصوبا حتى مات، وما أحسن تعبير أبي طلحة بقوله:"لا يصيبوك"، ولم يقل "فيصيبوك" تفريعا على المنهى عنه، وكان هو المتبادر، لكنه لا يريد النطق بهذه الكلمة على طريق الإثبات، وليس من الأمثلة المذكورة ما فيه اللواحق، وفيما تقدم في الأسباب في المسألة العاشرة فيمن سن سنة حسنة أو سيئة ما يؤخذ منه استنباط أمثلة اللواحق. "د".
قلت: وانظر في هذا: "الأحكام""1/ 192" للآمدي، و"الابتهاج""1/ 172"، و"البحر المحيط""1/ 220"، و"سبل السلام" 4/ 298"، و"أصول الفقه" "304" لأبي زهرة، و"رفع الحرج" "214- 215" لباحسين.
2 عزاه الرافعي في "شرح الوجيز" لحذيفة، وتعقبه ابن حجر في "التلخيص الحبير" "4/ 84" بقوله:"هذا الحديث لا أصل له من حديث حذيفة، وإن زعم إمام الحرمين في "النهاية" أنه صحيح، فقد تعقبه ابن الصلاح، وقال: لم أجده في شيء من الكتب المعتمدة، وإمام الحرمين لا يعتمد عليه في هذا الشأن".
قلت: وجاء معناه في غير حديث: منها:
- لا ما أخرجه مسلم في "صحيحه""كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، 4/ 1476/ 1847 بعد 52" بسنده إلى حذيفة، قال: قلت: يا رسول الله! إنا كنا بشر، فجاء الله بخير، فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: نعم. الحديث، وفيه:"تسمع وتطيع للأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع، وأطع".
- وما أخرجه الطبراني في "الكبير""2/ 177/ رقم 1724" عن جندب بن سفيان مرفوعا: "سيكون بعدي فتن كقطع الليل...." وفي آخره: "وليكن عبد الله المقتول ولا يكن عبد الله القاتل". =
وَأَنْتَ ظَالِمٌ"1، وَمَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ لَيْسَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ إِلَّا مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ وَهُوَ: الْإِسْلَامُ وَتَرْكُ الظُّلْمِ، وَالْكَفُّ عَنِ الْقَتْلِ، وَالتَّسْلِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
وَمِنْهُ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ حَيْثُ تَرَّسَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانَ عليه الصلاة والسلام يَتَطَلَّعُ لِيَرَى الْقَوْمَ، فَيَقُولُ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ: "لا
= وفيه شهر بن حوشب وعبد الحميد بن بهرام، وقد وثقا وفيهما ضعف، قال الهيثمي في "المجمع""7/ 303".
- وما أخرجه أحمد في المسند" "5/ 110"، والطبراني في "الكبير" "4/ 59-60/ رقم 3628-3631"، وأبو يعلى في "المسند" "3/ 176-178/ رقم 7215" عن خباب في حديث طويل، فيه: "فكن عبد الله المقتول"، وفي بعض رواياته زيادة: "ولا تكن عبد الله القاتل" على الشك وبدونه، ورجاله ثقات، إلا أن فيه مجهولا، فهو ضعيف.
قال الهيثمي في "المجمع""7/ 303": "لم أعرف الرجل الذي من عبد القيس، وبقية رجاله رجال الصحيح".
- وما أخرجه أحمد في "المسند""5/ 292"، والبخاري في "التاريخ الكبير" 3/ 138"، ونعيم بن حماد في "الفتن" "1/ 156/ رقم 399"، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "1/ 466/ رقم 646"، والحاكم في "المستدرك" "3/ 281"، والطبراني في "الكبير" "4/ 225"، والبزار في "المسند" "4/ 125/ رقم 3356 - زوائده" من طرق عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي عن خالد بن عرفطة مرفوعا: "يا خالد! إنها ستكون أحداث واختلاف وفتن، فإن استطعت أن تكون المقتول لا القاتل، فافعل".
قال البزار عقبه: "لا نعلمه يروى عن خالد بن عرفطة إلا بهذا الإسناد".
وعلي بن زيد هو ابن جدعان، ضعيف لكن اعتضد كما ترى، قاله ابن حجر في "التلخيص الحبير""4/ 84"، وعزاه فيه إلى ابن قانع، واضطرب فيه ابن جدعان، فكان يجعله من مسند سعد رفعه بلفظ:"إن استطعت أن تكون عبد الله المقتول ولا تقتل أحدا من أهل القبلة، فافعل".
أخرجه ابن عساكر في "تاريخه""ص484-485/ ترجمة عثمان"، وإسناده ضعيف.
1 لم أعثر عليه بهذا اللفظ.
تُشْرِفْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا يُصِيبُوكَ" الْحَدِيثَ1 فقوله:"لا يصيبوك" من هذا القبيل.
1 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الجهاد، باب المجن ومن يترس بترس صاحبه، 6/ 93/ رقم 2902"، وأحمد في "المسند""3/ 265"، والبيهقي في "السنن الكبرى""9/ 162"، والبغوي في "شرح السنة""10/ 401/ رقم 2661" من طريق عبد الله بن المبارك عن الأوزاعي عن إسحاق بن أبي طلحة عن أنس، قال: "كان أبو طلحة يتترس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بترس واحد، وكان أبو طلحة رضي الله عنه حسن الرمي، وكان إذا رمي يشرف النبي صلى الله عليه وسلم، ينظر إلى موضع نبله.
وأخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب الجهاد، باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال، 6/ 78 مختصرا / رقم 2880، وكتاب مناقب الأنصار، باب مناقب أبي طلحة، 7/ 128/ رقم 3811، وكتاب المغازي، باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} ، 7/ 361/ رقم 4064"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الجهاد، باب غزو النساء مع الرجال، 3/ 1443/ رقم 1811"، وأبو يعلى في "المسند""7/ 24/ رقم 3921"، ومن طريقه ابن عساكر "تاريخ دمشق""6/ 8" - تهذيب عبد القادر بدران" من طريق عبد الوارث عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بنحو اللفظ الذي أورده المصنف.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
إِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالْأَوْصَافُ الَّتِي طُبِعَ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ كَالشَّهْوَةِ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لَا يُطْلَبُ بِرَفْعِهَا، وَلَا بِإِزَالَةِ مَا غُرِزَ فِي الْجِبِلَّةِ مِنْهَا، فَإِنَّهُ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، كَمَا لَا يُطْلَبُ بِتَحْسِينِ مَا قَبُحَ مِنْ خِلْقَةِ جِسْمِهِ، وَلَا تَكْمِيلِ مَا نَقَصَ مِنْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْإِنْسَانِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَقْصِدُ الشَّارِعُ طَلَبًا لَهُ وَلَا نَهْيًا عَنْهُ، وَلَكِنْ يَطْلُبُ قَهْرَ النَّفْسِ عن الجنوح إلا مَا لَا يَحِلُّ، وَإِرْسَالَهَا بِمِقْدَارِ الِاعْتِدَالِ فِيمَا يَحِلُّ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَا يَنْشَأُ مِنَ الْأَفْعَالِ مِنْ جِهَةِ1 تِلْكَ الْأَوْصَافِ مِمَّا هُوَ داخل تحت الاكتساب
1 أي: سواء أكان مما يسبق تلك الأوصاف أم مما يلحقها وينشأ عنها كما سيبينه، فلذا عمم، وقال:"من جهة تلك الأوصاف"، ليشمل ما تكون الأوصاف هي الناشئة عنه. "د".
قلت: انظر في هذا "قواعد الأحكام""1/ 117"، و"مباحث الحكم عند الأصوليين""1/ 193-194" لمحمد سلام مدكور.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
إِنْ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ ثَمَّ أَوْصَافًا تُمَاثِلُ مَا تَقَدَّمَ فِي كَوْنِهَا مَطْبُوعًا عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ، فَحُكْمُهَا حُكْمُهَا لِأَنَّ الْأَوْصَافَ الْمَطْبُوعَ عَلَيْهَا ضَرْبَانِ:
- مِنْهَا: مَا يَكُونُ ذَلِكَ فِيهِ مشاهدا ومحسوسا كَالَّذِي تَقَدَّمَ.
- وَمِنْهَا: مَا يَكُونُ خَفِيًّا حَتَّى يَثْبُتَ بِالْبُرْهَانِ فِيهِ ذَلِكَ، وَمِثَالُهُ الْعَجَلَةُ، فَإِنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ أَنَّهَا مِمَّا طُبِعَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الْأَنْبِيَاءِ: 37] .
وَفِي "الصَّحِيحِ": "إِنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا رَأَى آدَمَ أَجْوَفَ عَلِمَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لَا يَتَمَالَكُ"1.
وَقَدْ جَاءَ أَنَّ "الشَّجَاعَةُ وَالْجُبْنُ غَرَائِزُ"2.
وَ"جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا، وبغض من أساء إليها"3.
1 أخرج مسلم في "صحيحه""كتاب البر والصلة والآداب، باب خلق الإنسان خلقا لا يتمالك، 4/ 2016/ رقم 2611" عن أنس مرفوعا: "لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به ينظر به ما هو، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك".
وأخرجه أحمد في "المسند""3/ 152، 229، 240، 254".
2 سيأتي تخريجه "ص185".
3 أخرجه ابن عدي في "الكامل""2/ 701"- ومن طريقه البيهقي في "الشعب""6/ 481/ رقم 8984"، وابن الأعرابي في "المعجم""2/ ق 21/ 22"، وأبو موسى المديني في "جزء من أدركه الخلال من أصحاب ابن منده""ق 150- 151"، وأبو نعيم في "الحلية""4/ 121"، والخطيب في "تاريخ بغداد""7/ 346"، والقضاعي في "مسند الشهاب""رقم 599، 600"، وأبو الشيخ في "الأمثال""رقم 160"، والقزويني في "تاريخ قزوين""4/ 172"، وابن الجوزي في "الواهيات""2/ 29" من طريق إسماعيل بن أبان عن الأعمش عن خيثمة عن ابن=
إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَقَدْ جُعِلَ مِنْهَا الْغَضَبُ وَهُوَ مَعْدُودٌ عِنْدَ الزُّهَّادِ مِنَ الْمُهْلِكَاتِ.
وَجَاءَ: "يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ ليس الخيانة والكذب"1.
= مسعود مرفوعًا.
قال أبو نعيم: "غريب، لم نكتبه إلا من هذا الوجه"، ونحوه عند ابن عدي، وزاد -وعنه القضاعي- "وهو معروف عن الأعمش موقوفا"، وإسماعيل بن أبان متهم بالكذب، قال أبو داود:"كان كذابا"، وقال ابن حبان في "المجروحين" "1/ 116":"كان يضع الحديث على الثقات"، ورواه ابن أخت عبد الرزاق عن عبد الرزاق عن يحيى بن العلاء عن الأعمش عن خيثمة عن عبد الله بن مسعود موقوفا، قال أبو حاتم في "العلل" "2/ 333-334":"هذا حديث منكر، وكان ابن اخت عبد الرزاق يكذب".
وأخرجه موقوفا ابن حبان في "روضة العقلاء""ص255" من الطريق المرفوعة الأولى، وهي موضوعة، والبيهقي في "الشعب" "6/ 481/ 8983" من طريق ابن أخت عبد الرزاق..... وقال:"هذا هو المحفوظ موقوفا".
قلت: لم يصح موقوفا أيضا، وإنما هو من قول الأعمش، ونقل المناوي عن الأزدي قوله في الحديث:"هذا الحديث باطل"، وقال:"ورأيت بخط ابن عبد الهادي في "تذكرته" قال مهنَّأ: سألت أحمد ويحيى عنه، فقالا: ليس له أصل، وهو موضوع" وقال السخاوي في "المقاصد": "هو باطل مرفوعا وموقوفا".
1 أخرجه أحمد في "المسند""5/ 252"، وعبد الرزاق في "المصنف""11/ 161"، وابن أبي الدنيا في "الصمت""رقم 472"، و"مكارم الأخلاق""رقم 144"، والقضاعي في "مسند الشهاب""1/ 344"، وابن أبي شيبة في "الإيمان" رقم 82"، وابن أبي عاصم في "السنة" "رقم 114"، والدارقطني في "العلل" "4/ 329"، وابن أبي حاتم في "العلل" "2/ 328-329"، والبيهقي في "الكبرى" "10/ 197"، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" "2/ 217"، والبزار وأبو يعلى كما في "المجتمع" "1/ 92" مرفوعا.
وأخرجه ابن المبارك في "الزهد""رقم 828"، وابن أبي شيبة في "المصنف""10/ 592 و11/ 18"، و"الإيمان""رقم 81"، والبيهقي في "السنن الكبرى""10/ 197"، وابن أبي الدنيا في "الصمت""رقم 491" موقوفا على سعد بن أبي وقاص.
ورجح أبو زرعة والدارقطني وقفه، وهو الصحيح.
وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة وابن مسعود موقوفا عليهم عند الطبراني في "المعجم الكبير". انظر: "مجمع الزوائد""1/ 93".
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الطَّلَبُ ظَاهِرًا مِنَ الْإِنْسَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا1 تَحْتَ كَسْبِهِ قَطْعًا، وهذا قليل، كقوله:{فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون} [الْبَقَرَةِ: 132] ، وَحُكْمُهُ أَنَّ الطَّلَبَ بِهِ مَصْرُوفٌ إِلَى مَا تَعَلَّقَ بِهِ.
وَالثَّانِي: مَا كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ كَسْبِهِ قَطْعًا، وَذَلِكَ جُمْهُورُ الْأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ بِهَا الَّتِي هِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ كَسْبِهِ، وَالطَّلَبُ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِهَا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَكَانَتْ مَطْلُوبَةً لِنَفْسِهَا أَمْ لِغَيْرِهَا.
وَالثَّالِثُ: مَا قَدْ يُشْتَبَهُ أَمْرُهُ، كَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا، فَحَقُّ النَّاظِرِ فِيهَا أَنْ يَنْظُرَ فِي حَقَائِقِهَا، فَحَيْثُ ثَبَتَتْ لَهُ مِنَ الْقِسْمَيْنِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِحُكْمِهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ أَمْرِ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَالْجُبْنِ وَالشَّجَاعَةِ وَالْغَضَبِ وَالْخَوْفِ وَنَحْوِهَا أَنَّهَا دَاخِلَةٌ عَلَى الْإِنْسَانِ اضْطِرَارًا، إِمَّا لِأَنَّهَا مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ2، فَلَا يُطْلَبُ إِلَّا بِتَوَابِعِهَا، فَإِنَّ مَا فِي فِطْرَةِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْأَوْصَافِ يَتْبَعُهَا بِلَا بُدٍّ أَفْعَالٌ اكْتِسَابِيَّةٌ، فَالطَّلَبُ وَارِدٌ عَلَى تِلْكَ الْأَفْعَالِ لَا عَلَى مَا نَشَأَتْ عَنْهُ، كَمَا لَا تَدَخُلُ الْقُدْرَةُ وَلَا الْعَجْزُ تَحْتَ الطَّلَبِ، وَإِمَّا لِأَنَّ لَهَا3 بَاعِثًا مِنْ غَيْرِهِ فَتَثُورُ فِيهِ فَيَقْتَضِي لِذَلِكَ أَفْعَالًا أُخَرَ، فَإِنْ كَانَ الْمُثِيرُ لَهَا هُوَ السَّابِقَ وَكَانَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ كَسْبِهِ، فَالطَّلَبُ يَرِدُ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ:"تهادوا تحابوا" 4، فيكون كقوله: "أحبوا
1 في "ط": "ما كان غير داخل......".
2 سيأتي تمثيلها بالشجاعة والجبن والحلم. "د".
3 أي: كالحب والبغض "د".
4 أخرجه البخاري في "الأدب المفرد""رقم 594"، والنسائي في "الكنى" -كما في=
اللَّهَ لِمَا أَسْدَى إِلَيْكُمْ مِنْ نِعَمِهِ" 1 مُرَادًا بِهِ التَّوَجُّهُ إِلَى النَّظَرِ فِي نِعَمِ اللَّهِ تعالى
= "نصب الراية""4/ 120"، وأبو يعلى في "المسند""11/ 9/ رقم 6148"، والدولابي في "الكنى""1/ 150، 2/ 7"، وتمام في "فوائده""رقم 712- ترتيبه"، وابن عدي في الكامل" "4/ 1424"، وأبو الشيخ في الأمثال""رقم 245"، والبيهقي في "الكبرى""6/ 169"، والمزي في "تهذيب الكمال""2/ ق 620" عن أبي هريرة مرفوعا بإسناد حسن، وحسنه ابن حجر في "التلخيص الحبير""3/ 70"، و" بلوغ المرام""ص116" وقال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء""2/ 40"، وتبعه السخاوي في "المقاصد الحسنة""ص166"، فقالا:"سنده جيد".
وللحديث شواهد كثيرة يتقوى بها بألفاظ مغايرة، وحسنه شيخنا في "الإرواء""رقم 1602"، و"صحيح الأدب المفرد""رقم 462".
1 أخرجه الترمذي في "الجامع""أبواب المناقب، باب مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، 5/ 664/ رقم 3789"، وعبد الله بن أحمد في "زياداته على فضائل الصحابة""2/ 986/ رقم 1952"، ومن طريقه الطبراني في "الكبير""3/ 46/ رقم 2639 و10 / 341-342/ رقم 10664"، والبخاري في "التاريخ الكبير""1/ 183" والفسوي في "المعرفة والتاريخ""1/ 497"، والحاكم في "المستدرك""3/ 149-150"، والبيهقي في "مناقب الشافعي""1/ 45"، "الشعب""1/ 288"، و"الاعتقاد""ص327، 328"، وأبو نعيم في "الحلية""3/ 211"، والخطيب في "تاريخ بغداد""4/ 160"، والشجري في "أماليه""1/ 152"، وابن عدي في "الكامل""7/ 2569-2570"، والختلي في "المحبة لله""ق1/ أ" وابن الجوزي في "الواهيات""1/ 267/ رقم 430"، وابن المستوفي في "تاريخ إربل""1/ 224"، والمزي في "تهذيب الكمال""ق 691" والذهبي في "الميزان""2/ 432"، كلهم من طريق هشام بن يوسف عن عبد الله بن سليمان النوفلي عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن ابن عباس مرفوعا بلفظ:"أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي"، وسيأتي عند المصنف "ص189".
قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه"، وقال الحاكم:"صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "التلخيص".
قال ابن عدي: "وهذا لا أعلم يرويه غير هشام بن يوسف بهذا الإسناد"، وقال: وهشام بن يوسف هذا له أحاديث حسان وغرائب، وقد روى عنه الأئمة من الناس، وهو ثقة".
قلت: إسناده ضعيف، وأعله الخطيب وتبعه ابن الجوزي بأحمد بن رزقويه والذراع، وقد توبعا، وآفة الحديث عبد الله بن سليمان النوفلي، قال الذهبي في "الميزان" "2/ 432": "فيه جهالة، ما حدث عنه سوى هشام بن يوسف بالحديث الذي
…
"وساقه".
فالحديث ضعيف، لتفرد هذا المجهول به، وضعفه شيخنا في "تخريجه لأحاديث فقه السيرة "ص23".
عَلَى الْعَبْدِ وَكَثْرَةِ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِ، وَكَنَهْيِهِ عَنِ النظر المثير للشهوة الداعية إلا مَا لَا يَحِلُّ1، وَعَيْنُ الشَّهْوَةِ لَمْ ينهَ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُثِيرُ لَهَا دَاخِلًا تحت كسبه،
1 ورد ذلك في أحاديث كثيرة، خرجناها في رسالة أبي بكر بن حبيب العامري "ت 530هـ""أحكام النظر إلى المحرمات"، منها ما أخرجه مسلم في "الصحيح""كتاب الأدب، باب نظر الفجأة/ رقم 2159" عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، فقال لي:"اصرف بصرك".
ومنها حديث على بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل بن عباس خلفه في الحج، فجاءت جارية من خثعم تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلوى النبي صلى الله عليه وسلم عنق الفضل لئلا ينظر إليها، فقال له عمه العباس: لويت عنق ابن عمك يا رسول الله؟ فقال عليه السلام: "رأيت شابا وشابة؛ فلم آمن الشيطان عليهما".
والحديث صحيح، أخرجه أحمد في "المسند""1/ 76، 157"، والترمذي في "الجامع""أبواب الحج، باب ما جاء أن عرفة كلها موقف/ رقم 885"، وأبو داود مختصرا في "السنن""كتاب المناسك، باب الصلاة بجمع / رقم 1935"، وابن ماجه مختصرا في "السنن""كتاب المناسك، باب الوقف بعرفات/ رقم 3010" والطحاوي في "مشكل الآثار""2/ 72"، وابن خزيمة في "الصحيح""4/ 262/ رقم 2837"، وابن الجارود في "المنتقى""رقم 471"، والبيهقي في "السنن الكبرى""5/ 122و 7/ 89"، وأبو يعلى في "المسند""1/ 264-265، 413-414 / رقم 312، 544" من طرق عن سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة عن زيد بن علي عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي به.
وإسناده صحيح، وتابع الثوري جماعة، منهم: المغيرة بن عبد الرحمن، ومسلم بن خالد الزنجي، كما عند عبد الله في "زوائد المسند""1/ 76، 81"، وإبراهيم بن إسماعيل -هو ضعيف- كما عند البزار في "البحر الزخَّار""رقم 479"، وقد وهم فيه، فقال:"عن عبد الرحمن".=
فَالطَّلَبُ يَرِدُ عَلَى اللَّوَاحِقِ1 كَالْغَضَبِ الْمُثِيرِ لِشَهْوَةِ الانتقام كما يثير النظر شهوة الوقاع.
= ابن الحارث عن زيد بن على عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبي رافع عن علي".
قال البزار عقبه: "وهذا الحديث قد رواه الثوري والمغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث عن عبد الرحمن بن الحارث عن زيد بن علي عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخالفهما إبراهيم بن إسماعيل في هذا الإسناد، فقال: عن عبد الرحمن بن الحارث عن زيد بن علي عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والصواب حديث الثوري والمغيرة".
قلت: وذكره الدارقطني في "العلل""رقم 411"، وقال: "هو حديث يرويه الثوري والداروردي ومحمد بن فليح والمغيرة بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن الحارث، وخالفهم إبراهيم ابن إسماعيل بن مجمع، فرواه عنه.... زاد فيه أبا رافع، ووهم، والقول قول الثوري ومن تابعه، والله أعلم.
ورواه يحيى بن عبد الله بن سالم عن عبد الرحمن بن الحارث عن زيد بن علي بن علي عن أبيه عن علي، ولم يذكر ابن أبي رافع، والصواب ما ذكر من قول الثوري ومن تابعه".
قلت: وللحديث شواهد كثيرة، منها حديث الفضل بن العباس وابن عباس وجابر، وغيرهم رضوان الله عليهم، وانظر:"التلخيص الحبير""3/ 150".
قال ابن بطال: "وفي الحديث الأمر بغض البصر خشية الفتنة"، وقال:"ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم لم يحول وجه الفضل حتى أدمن النظر إليها لإعجابه بها، فخشى الفتنة عليه" وقال: "وفيه مغالبة طباع البشر لابن آدم وضعفه عما ركب فيه من الميل إلى النساء، والإعجاب بهن" راجع: فتح الباري" "11/ 10".
1 فمثل قوله عليه الصلاة والسلام لمن قال له أوصني: "لا تغضب" مكررا ذلك، يرد النهي فيه على لاحق الغضب. "د".
قلت: فالمطلوب من المكلف حينئذ أن يكظم غيظه فلا يندفع في وقت الغضب في قول أو فعل، وأن لا يسترسل في الغضب، كما أنه مطلوب منه أن يجتنب مثيرات الغضب وأسبابه، فلا يقحم نفسه فيما يورثه ذلك. انظر:"أصول الفقه""304" لأبي زهرة.
فَصْلٌ:
وَمِنْ هَذَا الْمَلْمَحِ فِقْهُ الْأَوْصَافِ الْبَاطِنَةِ1 كُلِّهَا أَوْ أَكْثَرِهَا مِنَ الكبْر وَالْحَسَدِ وَحُبِّ الدُّنْيَا وَالْجَاهِ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي رُبْعِ الْمُهْلِكَاتِ2 وَغَيْرُهُ.
وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَكَذَلِكَ فِقْهُ الْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ، كَالْعِلْمِ، وَالتَّفَكُّرِ، وَالِاعْتِبَارِ، وَالْيَقِينِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَالْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، وَأَشْبَاهِهَا مِمَّا هُوَ نَتِيجَةُ عَمَلٍ3، فَإِنَّ الْأَوْصَافَ الْقَلْبِيَّةَ لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ عَلَى إِثْبَاتِهَا وَلَا نَفْيِهَا، أَفَلَا تَرَى أَنَّ الْعِلْمَ وَإِنْ كَانَ مَطْلُوبًا، فَلَيْسَ تَحْصِيلُهُ بِمَقْدُورٍ أَصْلًا؟ فَإِنَّ الطَّالِبَ إِذَا تَوَجَّهَ نَحْوَ مَطْلُوبٍ إِنْ كَانَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ، فَهُوَ حَاصِلٌ، وَلَا يُمْكِنُهُ الِانْصِرَافُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ضَرُورِيٍّ، لم يكن تَحْصِيلُهُ إِلَّا بِتَقْدِيمِ النَّظَرِ، وَهُوَ الْمُكْتَسَبُ دُونَ نَفْسِ الْعِلْمِ4؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ عَلَيْهِ بَعْدَ النَّظَرِ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ النَّتِيجَةَ لَازِمَةٌ لِلْمُقَدِّمَتَيْنِ، فَتَوْجِيهُ النَّظَرِ فِيهِ هُوَ الْمُكْتَسَبُ، فَيَكُونُ الْمَطْلُوبَ وَحْدَهُ، وَأَمَّا الْعِلْمُ عَلَى أَثَرِ النَّظَرِ، فَسَوَاءٌ عَلَيْنَا قُلْنَا: إِنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى كَسَائِرِ الْمُسَبَّبَاتِ مَعَ أَسْبَابِهَا -كَمَا هُوَ رَأْيُ الْمُحَقِّقِينَ-5 أَمْ لَمْ نقل ذلك، فالجميع متفقون على
1 هذا ما قرره عصري المصنف العلامة ابن خلدون أيضا، فقال في كتابه "شفاء السائل لتهذيب المسائل" "ص26":"الأعمال الظاهرة كلها في زمام الاختيار، وتحت طوع القدرة البشرية، وأعمال الباطن في الأكثر خارجة عن الاختيار متعاصية على الحكم البشري، إذ لا سلطان له على الباطن"، وهذا ما أكد عليه الغزالي في "الإحياء""4/ 373 وما بعدها".
2 وهو في المجلد الثالث بتمامه من "الإحياء".
3 فالتكليف بها أمرا أو نهيا تكليف بالسوابق والأعمال المنتجة لها. "د".
4 بهذا التحرير يندفع ما يخطر في الذهن من استشكال القول بأن العلم من قبيل مقولة الكيف، أو الانفعال مع أنه مكلف به ولا تكليف إلا بفعل "خ".
5 القائلون بأن العلم ع3.قب النظر يستند إلى الله ابتداء على مذهبين: أحدهما أن التلازم بينهما عادي بحيث يجوز انفكاك أحدهما عن الآخر، ثانيهما أنه من قبيل اللزوم الذي لا بد منه عقلا بحيث يمتنع الانفكاك بينهما، يخرق العادة كما يمتنع خلو الجواهر عن الأعراض، ومعنى كونه جائز الترك والفعل عند أصحاب هذا الرأي أن الفاعل المختار، إما أن يخلق الملزوم واللازم، وإما أن يتركهما، فجواز ترك المقدور هنا مشروط بارتفاع مانع هو أيضا مقدور."خ".
أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ الْكَسْبِ نَفْسِهِ، وَإِذَا حَصَلَ لَمْ يُمْكِنْ إِزَالَتُهُ عَلَى حَالٍ.
وَهَكَذَا سَائِرُ مَا يَكُونُ وَصْفًا بَاطِنًا، إِذَا اعْتَبَرْتَهُ وَجَدْتَهُ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ، وَإِذَا1 كَانَتْ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، لَمْ يَصِحَّ التَّكْلِيفُ بِهَا أَنْفُسِهَا، وَإِنْ جَاءَ فِي الظَّاهِرِ مَا يَظْهَرُ مِنْهُ ذَلِكَ، فَمَصْرُوفٌ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَقَدَّمُهَا، أَوْ يَتَأَخَّرُ عَنْهَا، أَوْ يُقَارِنُهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
1 في الأصل: "وإن".
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
الْأَوْصَافُ الَّتِي لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ عَلَى جَلْبِهَا وَلَا دَفْعِهَا بِأَنْفُسِهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا:
مَا كَانَ نَتِيجَةَ عَمَلٍ، كَالْعِلْمِ وَالْحُبِّ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ:"أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا أَسْدَى إِلَيْكُمْ مِنْ نِعَمِهِ"1.
وَالثَّانِي:
مَا كَانَ فِطْرِيًّا2 وَلَمْ يَكُنْ نَتِيجَةَ عَمَلٍ، كَالشَّجَاعَةِ، وَالْجُبْنِ، وَالْحِلْمِ، وَالْأَنَاةِ الْمَشْهُودِ بِهِمَا فِي أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ3، وَمَا كَانَ نَحْوَهَا.
فَالْأَوَّلُ ظَاهِرٌ أَنَّ الْجَزَاءَ يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي الْجُمْلَةِ، مِنْ حَيْثُ كَانَتْ مُسَبَّبَاتٍ عَنْ أَسْبَابٍ مُكْتَسَبَةٍ، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ أَنَّ الْجَزَاءَ يَتَعَلَّقُ بِهَا وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَلَا قَصَدَهَا، وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْحُبُّ وَالْبُغْضُ، عَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ.
وَالثَّانِي وَهُوَ مَا كَانَ مِنْهَا فِطْرِيًّا يُنْظَرُ فِيهِ مِنْ جِهَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: مِنْ جِهَةِ مَا هِيَ مَحْبُوبَةٌ لِلشَّارِعِ أَوْ غَيْرُ مَحْبُوبَةٍ لَهُ.
وَالثَّانِيَةُ: مِنْ جِهَةِ مَا يَقَعُ عَلَيْهَا ثَوَابٌ أَوْ لَا يَقَعُ.
فَأَمَّا النَّظَرُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّ ظَاهِرَ النَّقْلِ أَنَّ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ يَتَعَلَّقُ بِهَا، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: "إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يحبهما
1 مضي تخريجه قريبا، وهو ضعيف.
2 انظره مع ما ورد في الحديث: "إنكم مجبنون ومبخلون" يخاطب الحسن وأسامة بن زيد "د".
3 سيأتيك نص الحديث قريبا.
اللَّهُ: الْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ" 1.
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ [أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مَطْبُوعٌ2 عَلَيْهِمَا، وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ] 3: "الشَّجَاعَةُ والجبن غرائز"4.
1 أخرجه مسلم في "صحيحه""كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الإسلام، 1/ 48 -49/ رقم 18"، والبخاري في "الأدب المفرد""رقم 585"، وأحمد في "المسند""3/ 23"، وابن حبان في "الصحيح""رقم 238- موارد" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وأخرجه مسلم في "الصحيح""رقم 17"، والترمذي في "الجامع""رقم 2012"، والبخاري في "الأدب المفرد""رقم 586"، والخرائطي في "مكارم الأخلاق""ص92"، و"المساوئ""رقم 339" من حديث ابن عباس رضي الله، وفي الباب عن غيرهما لا نطيل بذكر ذلك، والله الموفق.
في حاشية الأصل ما نصه: "الإناة: بالقصر: كذا في شروح مسلم من حديث وفد عبد القيس من كتاب الإيمان".
2 يريد الاستدلال على أنها فطرية وعلى تعلق الحب والبغض بها كما ترى ذلك في صنيعه كله. "د".
3 ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل ومن "ماء".
4 أخرجه ابن حبان في "المجروحين""3/ 41" من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "الجبن والشجاعة غرائز....".
وإسناده واهٍ جدا، فيه معدي بن سليمان، قال أبو زرعة:"واهي الحديث"، وقال النسائي:"ضعيف"، وقال ابن حبان:"كان ممن يروي المقلوبات عن الثقات، والملزقات عن الأثبات، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد". راجع: "الميزان""4/ 142".
وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف""12/ 333"، وسعيد بن منصور في "السنن""رقم 2534- ط القديمة و 4/ 1283/ رقم 649- ط الجديدة"، والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير في "التفسير""5/ 417/ رقم 5834، 5835 و8/ 462/ رقم 9766، 9767"، وابن المنذر وابن أبي حاتم ورستة في "الإيمان"، كما في "الدر المنثور""2/ 564"، وأبو القاسم البغوي وساق سنده ابن كثير في "مسند الفاروق""2/ 569"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق""ص307- ترجمة عمر"، وابن عبد البر في "الاستذكار" 14/ 254-255/ رقم 20259، 20260" موقوفا على عمر بلفظ المصنف، وهو أشبه. وانظر: "تغليق التعليق" "4/ 196".
وَجَاءَ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الشَّجَاعَةَ وَلَوْ عَلَى قتل حية"1.
1 جزء من حديث، أخرجه ابن عدي في "الكامل""4/ 1502" عن الزبير بن العوام، قال: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فجبذ عمامتي بيده، فالتفتُّ إليه، فقال:"يا زبير! إن باب الرزق مفتوح من لدن العرش إلى قرار بطن الأرض، فيرزق الله كل عبد على قدر همته، يا زبير! إن الله يحب السخاء ولو بفلقة تمرة، ويحب الشجاعة لو بقتل الحية والعقرب".
وأخرجه من طريق ابن عدي ابن الجوزي في "الموضوعات""2/ 179" ومن طريق آخر أبو نعيم في "الحلية""10/ 73" مختصرا دون المذكور عند المصنفد.
والحديث موضوع، مداره على عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة، يروي الموضوعات على الأثبات، لا يحل كتب حديثه، والحديث في "الدر الملتقط في بيان الغلط""ص36" للصغاني، و"شرح الإحياء" للزبيدي "8/ 182-183".
وأخرج ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج""رقم 44" بإسناد واهٍ من حديث على، وفيه:"وكن شجاعا، فإن الله تعالى يحب الشجاع".
وأخرجه البيهقي في "الزهد""رقم 952"، والسلمي في "أربعي الصوفية""رقم 6"، وأبو نعيم في "أربعي الصوفية""رقم 25"، وقال:"هذا حديث شريف يجمع من أصولهم معاني لطيفة"، والحلية" "6/ 199"، والقضاعي في "الشهاب" "رقم 1080، 1081"، و"الديلمي في "الفردوس""رقم 565"، وكما قال السخاوي في "تخريج الأربعين السلمية""ص49"، وأبو بكر المقرئ في "فوائده" -كما في "فتح الوهاب" "2/ 141"- عن عمران بن حصين ضمن حديث في آخره:"ويحب الشجاعة ولو على قتل حية".
وإسناده واهٍ بمرة، فيه عمر بن حفص العبدي، تركه أحمد والنسائي، وضعفه الدراقطني، كما في "الميزان""3/ 189"، وتفرد به كما قال البيهقي، وفيه أيضا العلاء والد هلال، قال السخاوي:"قال فيه أبو حاتم: منكر الحديث، ضعيف الحديث" وقال ابن حبان: "لا يجوز الاحتجاج به".
وهو من رواية الحسن عن عمران، أفاد الحاكم في مواطن من "مستدركه" منها "2/ 234" أن الأكثر على إثبات السماع، فقال:"اختلف مشايخنا في سماعه منه، والأكثر على إثباته"، والخلاصة: الحديث لم يثبت، ولا يوجد له إسناد قائم، والله الموفق.
وَفِي الْحَدِيثِ: "الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ" 1 وَهَذَا مَعْنَى التَّحَابِّ وَالتَّبَاغُضِ، وَهُوَ غَيْرُ مُكْتَسَبٍ.
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ"2.
وَقَدْ حُمِلَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خير وأحب إلى اللهِ
1 أخرجه البخاري في "صحيحه""6/ 369/ رقم 3336" معلقا عن عائشة رضي الله عنها، ووصله أبو يعلى في "المسند""7/ 344/ رقم 4381" بإسناد رجاله رجال الصحيح، كما في "المجمع""8/ 88"، والبخاري في "الأدب المفرد""900"، وابن عدي في "الكامل""6/ 2299 و7/ 2671"، وأبو الشيخ في "الأمثال""100" والخطيب في "التلخيص""1/ 141"، والبيهقي في "الآداب""310"، والقضاعي في "مسند الشهاب""274"، والإسماعيلي في "مستخرجه"، وابن زنبور في "فوائده" كما في "الفتح""6/ 370"، و"التغليق""4/ 7"، و"عمدة القاري""15/ 225".
والحديث صحيح، له شواهد من حديث أبي هريرة عند مسلم في "الصحيح""4/ 2031/ رقم 2638" وغيره، وابن مسعود وسلمان الفارسي وابن عمر رضي الله تعالى عنهم، وورد عن على مرفوعا بلفظ:"إن الأرواح تلاقى في الهوى، فتشام، فما تعارف منها....." أخرجه ابن منده في النفس والروح" كما قال ابن القيم في "الروح" "44"، أبو الشيخ في الأمثال""107"، والطبراني في "الأوسط" كما في المجتمع" "1/ 162"، وصوب الدارقطني في "العلل" "4/ 188"، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" "1/ 135"، وقفه على علي رضي الله عنه، وهو الأشبه.
2 أخرجه مالك في "الموطأ""2/ 953-954"، وأحمد في "المسند""5/ 229، 233، 247"، والحاكم في "المستدرك""4/ 168، 169، 170"، وابن حبان في "الصحيح""2/ 335"/ رقم 575- الإحسان، والطبراني في "الكبير""20/ رقم 150-154" والقضاعي في "مسند الشهاب""رقم 1449، 1450"، وأبو نعيم في "الحلية""5/ 206" عن معاذ مرفوعا، وهو قسم من حديث إلهي صحيح، بعض أسانيده على شرط الشيخين، وتتمته:"والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ".
مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ" 1عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْقُوَّةِ شِدَّةَ الْبَدَنِ2 وَصَلَابَةَ الْأَمْرِ؛ وَالضَّعْفُ خِلَافُ ذَلِكَ.
وَجَاءَ: "إِنَّ اللَّهَ يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها"3.
1 مضي تخريجه "1/ 356 وص 61 من هذا الجزء"، والحديث صحيح.
2 بل لو حمل على ما هو الظاهر من قوة الإرادة وصلابة العزيمة وهي خلق فطري، لكان الأمر على ما يريد من تعلق الحب بهذا الخلق الفطري، إلا أنه يريد أن يدخل فيه شدة البدن لظهور أنه فطري، فيتم له به الاستدلال على الأمرين معا، وليس من الضروري أن يكون الدليل عليهما حديثا واحدا. "د".
3 أخرجه أبو الشيخ في "حديثه""رقم 68"، والطبراني في "الأوسط""رقم 2964" و"الكبير""6/ 223/ رقم 5928" والحاكم في "المستدرك""1/ 48"، والبيهقي في "الكبرى""10/ 191"، و"الشعب""6/ 240-241"، و"الأسماء والصفات، "ص53" والسلفي في "معجم السفر" "1/ 174"، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" "رقم 2- المنتقى"، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" "2/ 226/ 1"، جميعهم من طرق عن أحمد بن عبد الله بن يونس ثنا فضيل بن عياش ثنا محمد بن ثور الصنعاني عن معمر عن أبي حازم عن سهل بن سعد رفعه، وأوله: "إن الله عز وجل كريم يحب الكرم ومعالي....".
وأخرجه البيهقي في "الشعب""6/ 241" من طريق محمد بن عبيد عن الصنعاني به. وإسناده صحيح، مع مخالفة عبد الرزاق للصنعاني "محمد بن ثور"، فقد أخرجه في "المصنف""11/ 143/ رقم 20150"، ومن طريقه البيهقي في "الكبرى""10/ 191"، و"الشعب""6/ 241"، والبغوي في "شرح السنة""13/ 82/ 83"، عن معمر عن أبي حازم عن طلحة بن كريز الخزاعي مرسلا.
وقال البيهقي: "وكذلك رواه سفيان الثوري عن أبي حازم عن طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا".
قلت: أخرجه من طريق سفيان به البخاري في "التاريخ الكبير""4/ 347"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 48" وقال:"وهذا لا يوهن حديث سهل بن سعد على ما قدمت ذكره من قبول الزيادات من الثقات، والله أعلم". قلت: أصاب الحاكم في مقولته، ولا سيما أن للحديث شواهد، منها:
- حديث الحسين بن علي، أخرجه الطبراني في "الكبير""3/ 142/ رقم 2894"، وابن عدي في "الكامل""3/ 879"، والدولابي في "الذرية الطاهرة""رقم 162"، والقضاعي في "مسند الشهاب""رقم 1076، 1077"، والخطيب في "تلخيص المتشابه""1/ 16- 17".
- حديث جابر بن عبد الله، أخرجه الطبراني في "مكارم الأخلاق""رقم 120"، وانظر "السلسلة الصحيحة""رقم 1378".
وَجَاءَ: "يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ"1.
وَقَالَ تَعَالَى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَل} [الْأَنْبِيَاءِ: 37] .
وَجَاءَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ وَالْكَرَاهِيَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ ضِدُّ الْعَجَلِ مَحْبُوبًا وَهُوَ الْأَنَاةُ.
وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ يَتَعَلَّقَانِ بِمَا يَنْشَأُ عَنْهُمَا مِنَ الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ:
أَوَّلًا: خُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ.
وَثَانِيًا: أَنَّهُمَا يَصِحُّ تَعَلُّقُهُمَا بِالذَّوَاتِ، وَهِيَ أَبْعَدُ عَنِ الْأَفْعَالِ مِنَ الصِّفَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه} الآية [المائدة: 54] .
"أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا غَذَاكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ"2.
وَ "مِنَ الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ 3 وَالْبُغْضُ في الله"4.
1 مضي تخريجه "ص177"، وهو صحيح موقوفا على سعد بن أبي وقاص.
2 مضي تخريجه "ص179"، وهو ضعيف.
3 لأن معناه أن تحب الشخص لا تحبه إلا لأجل الله لا لغرض دنيوي، فالحب فيه تعلق بالذوات. "د".
4 أخرج أبو داود في "السنن""كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، 4/ 22/ رقم 4681، والطبراني في "الكبير" "رقم 7613، 7737، 7738"، والبيهقي في "الاعتقاد" "ص178-179"، والبغوي في "شرح السنة" "13/ 54" بسند حسن عن أبي أمامة مرفوعا: "من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان".
ولا يسوغ في هذا الْمَوَاضِعِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ حُبُّ الْأَفْعَالِ فَقَطْ، فَكَذَلِكَ لَا يُقَالُ فِي الصِّفَاتِ -إِذَا تَوَجَّهَ الْحُبُّ إِلَيْهَا فِي الظَّاهِرِ- إِنَّ الْمُرَادَ الْأَفْعَالُ.
فَصْلٌ:
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَيَصِحُّ أَيْضًا أَنْ يَتَعَلَّقَ الْحُبُّ وَالْبُغْضُ بِالْأَفْعَالِ1، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النِّسَاءِ: 148] .
{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التَّوْبَةِ: 46] .
"أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ"2.
"لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ الله، من أجل ذلك مدح نفسه"3.
1 لشيخ الإسلام ابن تيمية قاعدة كاملة في المحبة، نشرها محمد رشاد سالم في الجزء الثاني من "جامع الرسائل" وقد شملت جميع هذه المعاني التي تكلم عليها الشاطبي.
2 مضي تضعيف المصنف له "1/ 200"، وهو كما قال كما بينته في التعليق عليه، والله الموفق.
3 أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب التفسير، باب {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} ، 8/ 301- 302/ رقم 4637، وكتاب النكاح، باب الغيرة، 9/ 319/ رقم 5220، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} ، 13، 283/ رقم 7403"، ومسلم في "صحيحه" -والمذكور لفظه- "كتاب التوبة، باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش، 4/ 2113/ رقم 2760" عن ابن مسعود مرفوعا.
وأخرج نحوه البخاري في "صحيحه""كتاب التوحيد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا شخص أغيرُ من الله"، 13/ 399/ رقم 7416"، مسلم في "الصحيح""كتاب اللعان، 3/ 1136/ رقم 1499" ضمن حديث طويل عن سعد بن أبي وقاص مرفوعا.
وَهَذَا كَثِيرٌ.
وَإِذَا قُلْتَ: أُحِبُّ الشُّجَاعَ وَأَكْرَهُ الْجَبَانَ، فَهَذَا حُبٌّ وَكَرَاهَةٌ يَتَعَلَّقَانِ بِذَاتٍ مَوْصُوفَةٍ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْوَصْفِ، نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 134] .
{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 146] .
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [الْبَقَرَةِ: 222] .
وَفِي الْقُرْآنِ أَيْضًا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لُقْمَانَ: 18] .
{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 57] .
وَفِي الْحَدِيثِ: "إن الله يبغض الحبر السمين"1.
1 قال أبو الليث السمرقندي في "بستانه""ص28 في الباب الرابع والأربعين": "وروي أبو أمامة الباهلي عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال "وذكره".
وكتب أبي الليث السمرقندي مليئة بالأحاديث والأخبار الموضوعة، وربما يذكر صاحبها فيها سنده، فهي مفيدة لطالب العلم الذي ينظر في الأسانيد، ويمحص عن الرواة، وهي من مظان الحكم على كثير مما هو سائد بين العوام بالوضع أو الضعف، وإن راجت على صاحبها، قال الذهبي في ترجمته في "السير" 16/ 323":"وتروج عليه الأحاديث الموضوعة"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الرد على البكري""15"، وذكر جمهور مصنفي السير والأخبار وقصص الأنبياء، ومنهم أبو الليث، قال:"فهؤلاء لا يعرفون الصحيح من السقيم، ولا لهم خبرة بالنقلة، بل يجمعون فيما يروون بين الصحيح والضعيف، ولا يميزون بينهما، لكن منهم من يروي الجميع ويجعل العهدة على الناقل".
ولذا قال السخاوي في "المقاصد الحسنة""ص124/ رقم 245" مستدركا على أبي الليث: "ولكن ما علمته في المرفوع"، ثم قال:"نعم، عند أحمد [في "المسند" "3/ 471 و 4/=
......................................................................................
= 339"] ، والحاكم في "مستدركه" ["4/ 121-122] ، والبيهقي في "الشعب"["5/ 33/ رقم 5666، 5667"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "3/ 238"] من حديث جعدة الجشمي أنه صلى الله عليه وسلم نظر إلى رجل سمين، فأومأ إلى بطنه بأصبعه، وقال:"لو كان هذا في غير هذا، لكان خير لك"، وسنده جيد.
قلت: ولكنه مرسل، ولم تثبت لجعدة صحبة، وانظر تفصيل ضعفه في "السلسلة الضعيفة""رقم 1131" لشيخنا الألباني، و"الأقوال القويمة في صحة النقل من الكتب القديمة" للبقاعي، بتحقيقنا، يسر الله إتمامه ونشره.
والمذكور عند المصنف وارد في المرفوع على أنه من التوراة في كتب التفسير في سورة الأنعام عند قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأية: 91] .
أخرج ابن جرير في "التفسير""7/ 267"، بسند ضعيف، فيه ابن حميد- وابن المنذر وابن أبي حاتم - كما في "شرح الإحياء""7/ 388"- من طريق جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير، قال: جاء رجل من اليهود يقال له "مالك بن الصيف، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين......"؟ وذكر قصة، وهو مرسل.
وذكره الواحدي في "أسباب النزول" ص 147" عن سعيد بن جبير بدون إسناد، وإليهما عزاه الزيلعي في "تخريج الكشاف" "1/ 442-443"، وتبعه ابن حجر في "الكافي الشافي" "ص62"، وكذا المناوي في "تخريج البيضاوي" "2/ 611/ رقم 499".
وأخرج البيهقي في "الشعب""5/ 33/ رقم 5668" بسند فيه مجهول ومستور عن كعب، قال: إن الله يبغض أهل البيت اللحميين والحبر السمين"، ثم أخرج عن سفيان الصوري قوله في تفسير "أهل البيت اللحميين": "هم الذين يكثرون أكل اللحم"، ثم قال: "وهذا تأويل حسن غير أن ظاهره الإكثار من أكل اللحم، وفي جمعه بينه وبين "الحبر السمين" كالدلالة على ذلك".
وأخرج أبو نعيم في "الحلية""2/ 362" في "ترجمة مالك بن دينار" بسنده إليه، قال:"قرأت في الحكمة: إن الله يبغض كل حبر سمين".
وعند أبي نعيم في "الطب النبوي" له من طريق بشر الأعور عن عمر بن الخطاب أثر طويل، في آخره:"وإن الله ليبغض الحبر السمين" ونقل الغزالي عن ابن مسعود، أنه قال:"إن الله يبغض القارئ السمين"، أفاده السخاوي في "المقاصد""ص125".
والخلاصة هذا الحديث لا يصح ألبتة مرفوعا، فذكر المصنف له على أنه حديث غير جيد، والله الموفق.
فإذن، الْحُبُّ وَالْبُغْضُ مُطْلَقٌ فِي الذَّوَاتِ1 وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، فَتَعَلُّقُهُمَا بِهَا تَعَلُّقٌ بِالْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا ذَاتٌ أَوْ صِفَةٌ أَوْ فِعْلٌ.
وَأَمَّا النَّظَرُ الثَّانِي2 وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: هَلْ يَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ -وَهِيَ غَيْرُ الْمَقْدُورَةِ [لِلْإِنْسَانِ إِذَا اتَّصَفَ بِهَا] 3- الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ أَمْ لَا يَصِحُّ؟
هَذَا يُتَصَوَّرُ فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ.
[وَالثَّانِي: أَنْ يَتَعَلَّقَا مَعًا بِهَا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ.
أَمَّا هَذَا الْأَخِيرُ، فَيُؤْخَذُ النَّظَرُ فِيهِ مِنَ النَّظَرِ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْهُمَا فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَوْصَافَ الْمَطْبُوعَ عَلَيْهَا وَمَا أَشْبَهَهَا لَا يكلَّف بِإِزَالَتِهَا وَلَا بِجَلْبِهَا شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَمَا لَا يُكَلَّفُ بِهِ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَلَا يُعَاقَبُ؛ لِأَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ تَابِعٌ لِلتَّكْلِيفِ شَرْعًا، فالأوصاف المشار إليها لا
1 قرر ابن القيم في "الداء والدواء""ص282، 292"، و"الفوائد""ص182" أنه ليس من شيء يحب لذاته إلا الله وحده.
2 قوله: وأما النظر الثاني مقابل لقوله قبلُ في المسألة الرابعة، فأما النظر الأول، فإن ظاهر النقل....." إلخ وقد وجدت في النسخة الخطية هنا زيادات يتوقف الكلام عليها كما لا يخفى على من اطلع على النسخة المطبوعةن فأثبتها. ا. هـ مصححه "خ".
3 سقط من "ط".
ثَوَابَ عَلَيْهَا وَلَا عِقَابَ] 1
وَالثَّانِي: أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ عَلَى تِلْكَ الْأَوْصَافِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ ذَوَاتِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ صِفَاتٌ2، أَوْ مِنْ جِهَةِ مُتَعَلَّقَاتِهَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، لَزِمَ فِي كُلِّ صِفَةٍ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ مُثَابًا عَلَيْهَا، كَانَتْ صِفَةً مَحْبُوبَةً أَوْ مَكْرُوهَةً شَرْعًا، وَمُعَاقَبًا عَلَيْهَا أَيْضًا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ لِلشَّيْءِ وَجَبَ لِمِثْلِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَجْتَمِعُ الضِّدَّانِ عَلَى الصِّفَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ مُتَعَلَّقَاتِهَا، فَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى الْمُتَعَلَّقَاتِ -وَهِيَ الْأَفْعَالُ وَالتُّرُوكُ- لَا عَلَيْهَا، فَثَبَتَ أَنَّهَا فِي أَنْفُسِهَا لَا يُثَابُ عَلَيْهَا وَلَا يُعَاقَبُ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَأَمَّا الثَّانِي، فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَوْصَافَ الْمَذْكُورَةَ قَدْ ثَبَتَ تَعَلُّقُ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ بِهَا، وَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِمَا نَفْسُ الْإِنْعَامِ أَوِ الِانْتِقَامِ، فَيَرْجِعَانِ إِلَى صِفَاتِ الْأَفْعَالِ عَلَى رَأْيِ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِمَا إِرَادَةُ الْإِنْعَامِ وَالِانْتِقَامِ، فَيَرْجِعَانِ إِلَى صِفَاتِ الذَّاتِ لِأَنَّ نَفْسَ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ الْمَفْهُومَيْنِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ حَقِيقَةً مُحَالَانِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى3، وَهَذَا رَأْيُ طائفة
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 هناك ثالث، وهو أنه لا يتعلق بها من جهة كونها صفة فقط، ولا من جهة ما ينشأ عنها من الأفعال والتروك فقط؛ بل من جهة كونها صفة محبوبة أو مكروهة، فلا اجتماع للضدين كما سبق له في مثل "والله يحب المحسنين"، وحينئذ، فلا يتم هذا الدليل، وسيأتي له فيه كلام من جهة أخرى. "د".
3 الآيات والأحاديث طافحة بإضافة المحبة إلى الله، ولا مانع من اعتقاد أنها صفة غير الإرادة والإحسان والثناء، فنقول: إن لله حبا ليس من نوع الحب المضاف إلى المخلوق، كما أن علمه وإرادته ليسا من نوع علم المخلوق وإرادته. "خ".
قلت: اعتقاد هذا هو الواجب، وانظر تعليقنا بعد الآتي.
أُخْرَى، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ؛ فَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ رَاجِعَانِ إِلَى نَفْسِ الْإِنْعَامِ أَوِ الِانْتِقَامِ، وَهُمَا عَيْنُ الثواب والعقاب1، فالأوصاف المذكورة -إذن- يتعلق بها الثواب والعقاب.
والثاني: أن لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ لَا يَرْجِعَانِ إِلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَتَعَلُّقُهُمَا بِالصِّفَاتِ، إِمَّا أَنْ يَسْتَلْزِمَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، أَوْ لَا: فَإِنِ اسْتَلْزَمَ، فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ، فَتَعَلُّقُ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ إِمَّا لِلَذَّاتِ، وَهُوَ مُحَالٌ2، وَإِمَّا لِأَمْرٍ رَاجِعٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، تَعَالَى أَنْ يَفْتَقِرَ لِغَيْرِهِ أَوْ يَتَكَمَّلَ بِشَيْءٍ، بَلْ هُوَ الْغَنِيُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَذُو الْكَمَالِ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ، وَإِمَّا لِلْعَبْدِ، وَهُوَ الْجَزَاءُ، لَا زَائِدَ3 يَرْجِعُ لِلْعَبْدِ إلا ذلك4.
1 قد يقال: إن الثواب والعقاب أخص من الإنعام والانتقام؛ لأن الأولين منظور فيهما إلى الدار الآخرة، إما الإنعام وما معه، فكما يكون في الآخرة يكون في الدنيا، فقد يحمل في هذه الموارد على الإحسان في الدنيا والنوازل فيها، فلا يتم الدل يل إلا إذا كانا عين الثواب والانتقام، وقد عرفت ما فيه. "د".
2 سبق دليله، وهو أن ما وجب للشيء وجب لمثله، إلا أنه يبقى الكلام في قوله:"للذات هل ذات الصفة، فيكون عين شق الترديد السالف، أو ذات الشخص ذي الصفة فيأتي فيه نظير الدليل المقتضي للاستحالة، إلا أنه إذا كان الغرض هذا الأخير يقال: وهل الذات غير العبد الذي سيقول فيه: "إما للعبد"؟ فيجاب بأن العبد الذات المتصفة بصفة محبوبة أو مبغضة، فلا تأتي الاستحالة المشار إليها سابقا، إلا أنه حينئذ يكون هذا هو الاحتمال الثالث الذي تركه سابقا ونبهنا عليه. "د".
3 كذا في "ط" فقط، وفي غيره:"إذ لا يرجع.....".
4 كلام المصنف رحمه الله تعالى في صفتي الحب والبغض من التأويل المردود، وليس عن منهج السلف الصالح في إثبات ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته نبيه صلى الله عليه وسلم لربه؛ فإنه سبحانه نزه نفسه ثم أعقب ذلك بمدحه رسله؛ لأنه لا يصدر عنهم إلا ما يليق به جل جلاله، وذلك في قوله:{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} .
ومن بين هذه الصفات التي وردت في الكتاب وصحيح السنة على وجه الإثبات الحب والبغض، وهي صفات الفعل لله عز وجل، نمرها كما جاءت من غير تأويل، وهي له سبحانه صفات =
.........................................................
= حقيقية على ما يليق به، ولا تشبه ما يتصف به المخلوق من ذلك، ولا يلزم منها ما يلزم في المخلوق، وهذا أوقع المصنف وغيره في حمأة التأويل الذي هو في حقيقته ضرب من ضروب التعطيل؛ لأنه نفى هذه الصفات بحجة أنها إرادة، فالحب عنده الإنعام أو إرادته، وقال غيره: إرادة الثواب والبغض والسخط والكراهة والغضب الانتقام أو إرادته، وقال غيره: إرادة العقاب، فإرجاع هذه الصفات إلى الإرادة أو إيقاع الفعل خطأ ظاهر، وخلاف مذهب السلف الصالح.
قال ابن أبي العز الحنفي في "شرح العقيدة الطحاوية""524" معلقا على مقولة الطحاوي في "عقيدته" المشهورة المجمع عليها: "والله يغضب ويرضى، لا كأحد من الورى" ما نصه: "ومذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب، والرضى، والعداوة، والولاية، والحب، والبغض، ونحو ذلك من الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة، ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله تعالى، كما يقولون مثل ذلك في السمع والبصر والكلام وسائر الصفات".
ثم قال رحمه الله تعالى: "ص525-526": "ويقال لمن تأول الغضب والرضى بإرادة الإحسان: لما تأولت هذا؟ فلا بد أن يقول: إن الغضب غليان دم القلب، والرضى الميل والشهوة، وذلك لا يليق بالله تعالى، فيقال له: غليان دم القلب في الآدمي ينشأ عن صفة الغضب، لا أنه الغضب.
ويقال له: وكذلك الإرادة والمشيئة فينا، فهي ميل الحي إلى الشيء، أو إلى ما يلائمه ويناسبه؛ فإن الحي منا لا يريد إلا ما يجلب له منفعة أو يدفع عنه مضرة، وهو محتاج إلى ما يريده ومفتقر إليه، ويزداد بوجوده، وينتقص بعدمه، فالمعنى الذي صرفت إليه اللفظ كالمعنى الذي صرفته عنه سواء، فإن جاز هذا جاز ذلك، وإن امتنع هذا امتنع ذاك.
فإن قال: الإرادة التي يوصف بها مخالفة للإرادة التي يوصف بها العبد، وإن كان كل منهماحقيقة؟ قيل له: فقل: إن الغضب والرضى الذي يوصف الله به مخالف لما يوصف به العبد، وإن كان كل منهما حقيقة.
فإذا كان ما يقوله في الإرادة يمكن أن يقال في هذه الصفات، لم يتعين التأويل، بل يجب تركه؛ لأنك تسلم من التناقض وتسلم أيضا من تعطيل أسماء الله تعالى وصفاته بلا موجب، فإن صرف القرآن عن ظاهره وحقيقته بغير موجب حرام، ولا يكون الموجب للصرف ما دل عليه عقله، إذ العقول مختلفة، فكل يقول: إن عقله دله على خلاف ما يقوله الآخر". =
......................................................................
= وهذا الذي ذكره ابن أبي العز الحنفي هو الذي قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في كثير من المناسبات فقد توجها رحمهما الله تعالى إلى من أول هذه الصفات بالنقد، وإليك بعضا من كلامهما.
قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى""3/ 17-18": ".... فإن كان المخاطب ممن يقول بأن الله حي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمعن بصير ببصر، متكلم بكلام، ويجعل ذلك حقيقة وينازع في محبته ورضاه، وغضبه وكراهته، فيجعل ذلك مجازا ويفسره إما بالإرادة وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات، فيقال له: لا فرق بين ما نفيته وما أثبته، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر.
فإن قلت: إن إرادته مثل إرادة المخلوقين، فكذلك محبته ورضاه وغضبه، وهذا هو التمثيل.
وإن قلت: إن له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به، قيل له: وكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به، وله رضى وغضب يليق به، وللمخلوق رضى وغضب يليق به.
وإن قلتك الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، فيقال له: والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة.
فإن قلت: هذه إرادة المخلوق، قيل لك: وهذا غضب المخلوق".
وبنحوه في "المجموع" أيضا "6/ 119-120".
وعرض ابن القيم شبه المأولة لهذه الصفات، وردها بحجج دامغة، فقال في "مختصر الصواعق المرسلة" "1/ 23": فإن قلت: إن إثبات الإرادة والمشيئة لا يستلزم تشبيها وتجسيما، وإثبات حقائق هذه الصفات يستلزم التشبيه والتجسيم، فإنها لا تعقل إلا في الأجسام، فإن الرحمة رقة تعتري طبيعة الحيوان، والمحبة ميل النفس لجلب ما ينفعها، والغضب غليان دم القلب لورود ما يرد عليه. قيل لك: وكذلك الإرادة هي ميل النفس إلى جلب ما ينفعها، ودفع ما يضرها، وكذلك جميع ما أثبته من الصفات إنما هي أعراض قائمة بالأجسام في الشاهد، فإن العلم انطباع صورة المعلوم في نفس العالم، أو صفة عرضية قائمة به، وكذلك السمع والبصر والحياة أعراض قائمة بالموصوف فكيف لزم التشبيه والتجسيم من إثبات تلك الصفات ولم يلزم من إثبات هذه؟! " انتهى.
فهذا كلام متين قوي للغاية، وهو في مناقشة ما أورده من تأول هذه الصفات، فالحق وأهل=
......................................................................................
= الحق يثبتون هذه الصفات لله عز وجل على أنها صفات فعلية ذاتية حقيقية له سبحانه على ما يليق به، فلا تقتضي عندهم نقصا ولا تشبيها، كما أنهم يثبتون لازم تلك الصفات، وهي إرادته سبحانه الثواب والعقاب، ولكن لا يوجبان ذلك عليه، كما تقول المعتزلة، ولا يقولون بما قد يفهم من كلام المصنف وصرح به بعض أهل التعطيل من أن تفسير سخطه وكرهه بزعمهم ما يقعون فيه من البلايا والهلكة والضيق والشدة، وآية ذلك عندهم ما يتقلب فيه من هذه الحالات، وما أشبهها، وأن حبه ورضاه عكس ذلك، فهذه دعوى ما رأينا أبطل ولا أبعد من صحيح لغات العرب والعجم منها، ففيها: إذا كان أولياء الله المؤمنون من رسله وأنبيائه وسائر أوليائه في ضيق وشدة وعوز من المآكل والمشارب، وفي خوف وبلاء، كانوا على حسب هذه الدعوى في سخط من الله وغضب وعقاب، وإذا كان الكافر في خصب ودعة وأمن وعافية، واتسعت عليه دنياه من مآكل الحرام وشرب الخمور، كانوا في رضي من الله وفي محبة، ما رأينا تأويلا أبعد عن الحق من هذا التأويل، اللهم إنا نبرأ إليك منه، ونبرأ من كل ما يخالف منهج السلف في العقيدة والدعوة والعلم والعمل، ومن كل من يطعن فيه وفي أهله قديما وحديثا، والحاصل أن تأويل الحب والبغض الوارد عند المصنف بنفس الإنعام أو الانتقام، أو أن يراد بهما إرادة الإنعام والانتقام مخالف لما عليه السلف الصالح، وفيه تعطيل لهاتين الصفتين، لأن معناه: إن الله تعالى لا يحب، وإنما محبته محبة طاعته وعبادته، وإرادته الإحسان إليهم، والذي دل عليه الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها أن الله تعالى يحب ويُحَبُّ لذاته، وأما حب ثوابه، فدرجة نازلة كما قاله الطوفي، نقله، في "أقاويل الثقات""77"، وفيه قوله أيضا:"وأول من أنكر المحبة في الإسلام الجعد بن درهم" وحكاه شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى""2/ 354" عن الجعد أيضا، والصواب إثبات صفة المحبة والبغض اللتين تليقان بجلاله. وعظمته.
قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى""2/ 354": "إن الكتاب والسنة وإجماع المسلمين أثبت محبة الله لعباده المؤمنين له، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 195] ، وقوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] ، وقوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 24] . وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7] ، {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 135] ، {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] ، {يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب =
....................................................................................
= إليه مما سواهما.....".
قلت: أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، 1/ 60/ رقم 16"، ومسلم في "الصحيح""كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، 1/ 66/ رقم 43" عن أنس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على إثبات محبة الله تعالى لعباده المؤمنين ومحبتهم له، وهذا أصل دين الخليل إمام الحنفاء عليه السلام".
قلت: ليت شعري بماذا يجيب النافون للمحبة عن مثل قول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري في "الصحيح""رقم 6040"، ومسلم في "الصحيح" "رقم 2637" عن أبي هريرة مرفوعا:"إن الله عز وجل إذا أحب عبدا قال لجبريل عليه السلام: إني أحب فلانا فأحبه. قال: فيقول جبريل عليه السلام لأهل السماء: إن ربكم عز وجل يحب فلانا فأحبوه، قال: فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغضه فمثل ذلك".
إذن، فليس للتأويلات والمقولات المذكورة وجه سائغ، ولو قدر أن بعضها فيها لازم صفتي الحب والبغض، وأنها تفسير لهما يلازمهما، فإن بعضها الآخر فيه باطل، كما قدمناه، ويعجبني بهذا الصدد ما قاله العلامة القاسمي رحمه الله تعالى في "محاسن التأويل" "6/ 253- 254": "مذهب السلف في المحبة المسندة له تعالى أنها ثابتة له تعالى بلا كيف ولا تأويل، ولا مشاركة للمخلوق في شيء من خصائصها كما تقدم في الفاتحة في {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .
فتأويل مثل الزمخشري لها بإثابته تعالى لهم أحسن الثواب، وتعظيمهم والثناء عليهم والرضا عنهم، تفسير باللازم منزع كلامي لا سلفي" انتهى.
فالتأويل المذكور منزعه اعتزالي، ولذا تعقب ابن المنير الزمخشري بكلام طويل، ومما قال في "الانتصاف" "1/ 345- 346":"فليس معلوم أكمل ولا أجمل من المعبود الحق، فاللذة الحاصلة في معرفته تعالى ومعرفة جلاله وكماله تكون أعظم، والمحبة المنبعثة عنها تكون أمكن، وإذا حصلت هذه المحبة بعثت على الطاعات والموافقات، فقد تحصل من ذلك أن محبة العبد ممكنة، بل واقعة من كل مؤمن، فهي من لوازم الإيمان وشروطه، والناس فيها متفاوتون بحسب تفاوت إيمانهم، وإذا كان كذلك وجب تفسير محبة العبد لله بمعناها الحقيقي لغة، وكانت الطاعة والموافقات كالمسبب عنها والمغاير لها، ألا ترى إلى الأعرابي الذي سأل عن الساعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أعددت لها"؟ قال: ما أعددت لها كبير عمل، ولكن حب الله ورسوله، فقال عليه الصلاة والسلام: "أنت مع من أحببت".
فهذا الحديث ناطق بأن المفهوم من المحبة لله غير الأعمال والتزام الطاعات، لأن الأعرابي نفاها وأثبت الحب، وأقره عليه الصلاة والسلام على ذلك. وانظر منه "4/ 9"، وهو بذيل"الكشاف" ط- دار المعرفة.
وَأَمْرٌ ثَالِثٌ1: وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ أَنَّهَا مَحْبُوبَةٌ أَوْ مَكْرُوهَةٌ مِنْ جِهَةِ مُتَعَلَّقَاتِهَا وَهُوَ2 الْأَفْعَالُ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ عَلَى تِلْكَ الْأَفْعَالِ مَعَ الصِّفَاتِ مِثْلَ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا بدون تلك الصفات، أولا، فَإِنْ كَانَ الْجَزَاءُ مُتَفَاوِتًا، فَقَدْ صَارَ لِلصِّفَاتِ قِسْطٌ مِنَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَ مُتَسَاوِيًا، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ حِينَ صَاحَبَهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ مُسَاوِيًا لِفِعْلِ مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِمَا وَإِنِ3 اسْتَوَيَا فِي الْفِعْلِ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَحْبُوبُ عِنْدَ اللَّهِ مُسَاوِيًا لِمَا لَيْسَ بِمَحْبُوبٍ، وَاسْتِقْرَاءُ الشَّرِيعَةِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.
وَأَيْضًا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَا هُوَ مَحْبُوبٌ لَيْسَ بِمَحْبُوبٍ4، وَبِالْعَكْسِ، وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ لِلْوَصْفِ حَظًّا مِنَ الثَّوَابِ أَوِ الْعِقَابِ، وَإِذَا ثَبَتَ [أَنَّ لَهُ] 5 حَظًّا مَا مِنَ الْجَزَاءِ ثَبَتَ مُطْلَقُ الْجَزَاءِ، فَالْأَوْصَافُ الْمَطْبُوعُ عَلَيْهَا وَمَا أَشْبَهَهَا مُجَازًى عَلَيْهَا، وَذَلِكَ مَا أردنا.
1 إنما جعله دليلا ثالثا مستقلا، ولم يبنه على مبنى الدليلين قبله، لأنه فيهما جارٍ على تعلق الحب والبغض بنفس الصفات، أما في هذا، فجعلهما متعلقين بتوابع هذه الصفات ولواحقها من الأفعال، ولذا غير الأسلوب ولم يقل من أول الأمر بثلاثة أمور. "د".
2 في "ط": "وهي".
3 الواو للحال، وإن زائدة. "د".
4 من أين هذا اللزوم؟ لا يلزم من مساواة المحبوب لغيره في حكم من الأحكام أن يكون ليس بمحبوب ولا العكس. "د".
5 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط"، ولذا جاءت التي بعدها "حظ" بالرفع.
وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَيْهَا مُشْكِلٌ.
أَمَّا الْأَوَّلُ، فَإِنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مَعَ التَّكْلِيفِ لَا يَتَلَازَمَانِ، فَقَدْ يَكُونُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى غَيْرِ الْمَقْدُورِ لِلْمُكَلَّفِ، وَقَدْ يَكُونُ التَّكْلِيفُ وَلَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ، فَالْأَوَّلُ مِثْلُ الْمَصَائِبِ النَّازِلَةِ بِالْإِنْسَانِ اضْطِرَارًا1، عَلِمَ بِهَا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَالثَّانِي كَشَارِبِ الْخَمْرِ، وَمَنْ أَتَى عَرَّافًا، فَإِنَّهُ جَاءَ "أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا" 2، وَلَا أَعْلَمَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ يَقُولُ بِعَدَمِ إِجْزَاءِ صلاته إذا استكملت
1 إنك إذا قرأت آيات الكتاب العزيز، وجدت أن الثناء والوعد بالثواب في مواضع الابتلاء إنما هو على الصبر والتسليم لله والرضى، فعليك بتتبع الآيات الكثيرة في سورة البقرة وآل عمران والعنكبوت والأحزاب وغيرها، وكذا الأحاديث مثل:"إذا أحبّ الله قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط" وعليه، فليست المصائب والنوازل هي المثاب عليها، بل هو ما يقارنها أو يعقبها من الصبر والرضا، ولا شك أن ذلك مقدور للمكلف ومطلوب منه، فلا يتم له ما أراده هنا، وبه يعلم أيضا ما في قوله:"علم بها أو لم يعلم"، فإنه إذا لم يعلم لا يتأتى منه الصبر والرضا الذي يكون به الثواب، وسيأتي تتميم لهذا الكلام قريبا. "د".
قلت: وصرح العز بن عبد السلام في "القواعد الصغرى""ص96" بما قاله المعلق: ونص عبارته: "لا أجر ولا وزر إلا على فعل مكتسب، فالمصائب لا أجر عليها لأنها غير مكتسبة، بل الأمر على الصبر عليها أو الرضى بها" ونحوه في "قواعد الأحكام""1/ 115" له أيضا.
2 أخرج مسلم في "الصحيح""كتاب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، 4/ 1751/ رقم 2230"، عن صفية عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما" وأخرج النسائي في "المجتبى""كتاب الأشربة، باب ذكر الرواية المبينة عن صلوات شارب الخمر، 8/ 314، وباب ذكر الآثام المتولدة عن شرب الخمر من ترك الصلوات، 8/ 316، وباب توبة شارب الخمر، 8/ 317"، وابن ماجه في "السنن""كتاب الأشربة"، باب من شرب الخمر لم تقبل له صلاة، 2/ 1120-1121/ رقم 3377"، وأحمد في "المسند" "2/ 176، 189، 197"، والدارمي في "السنن" "2/ 111"، والبزار في "مسنده" "رقم 2936- زوائده" والحاكم في المستدرك" 1/ 30-31 و 4/ 146" عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: "لا يشرب الخمر رجل من أمتي فيقبل الله منه صلاة أربعين يوما" وإسناده صحيح.
أَرْكَانُهَا وَشُرُوطُهَا، وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، عَدْلًا كَانَ أَوْ فَاسِقًا، وَإِذَا لَمْ يَتَلَازَمَا، لَا1 يَصِحُّ هَذَا الدَّلِيلُ.
وَأَمَّا الثَّانِي، فَقَدِ اعْتَرَضَهُ الدَّلِيلُ الثَّالِثُ الدَّالُّ عَلَى الْجَزَاءِ، فَقَوْلُهُ: إِنَّ الْجَزَاءَ وَقَعَ على الفعل أَوِ التَّرْكِ إِنْ أَرَادَ بِهِ مُجَرَّدًا كَمَا يَقَعُ دُونَ الْوَصْفِ، فَقَدْ ثَبَتَ بُطْلَانُهُ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ مَعَ اقْتِرَانِ الْوَصْفِ، فَقَدْ صَارَ لِلْوَصْفِ2 أَثَرٌ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ3، وَذَلِكَ دَلِيلٌ دَالٌّ عَلَى صِحَّةِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ لَا عَلَى نَفْيِهِ.
وَلِصَاحِبِ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَى الثَّانِي فِي أَدِلَّتِهِ:
[أَمَّا الْأَوَّلُ] 4، فَإِنَّهُ إِذَا صَارَ مَعْنَى الْحُبِّ وَالْبُغْضِ إِلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، امْتَنَعَ5 أَنْ يَتَعَلَّقَا بِمَا هُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ، وَهُوَ الصِّفَاتُ وَالذَّوَاتُ الْمَخْلُوقُ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا الثَّانِي، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ، إِذْ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَتَعَلَّقَا لِأَمْرٍ رَاجِعٍ لِلْعَبْدِ غَيْرِ الثَّوَابِ أَوِ الْعِقَابِ، وَذَلِكَ كَوْنُهُ اتَّصَفَ بِمَا هُوَ حَسَنٌ أَوْ قَبِيحٌ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَإِنَّ الْأَفْعَالَ لَمَّا كَانَتْ نَاشِئَةً عَنِ الصِّفَاتِ، فَوُقُوعُهَا عَلَى حَسَبِهَا6 فِي الْكَمَالِ أَوِ النُّقْصَانِ، فَنَحْنُ نَسْتَدِلُّ بِكَمَالِ الصَّنْعَةِ عَلَى كَمَالِ.
1 في الأصل، و"ط":"لم".
2 في الأصل: "الوصف".
3 في "ط": "أو العقاب".
4 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل و"ط" و"خ".
5 تقدم رده بأنه لا تلازم بين الثواب والعقاب، وبين أن يكون المثاب عليه مقدورا عليه بل ولا معلوما. "د".
6 أي: فيلزم من زيادة قوة الصفة زيادة في الفعل حسنا وقبحا، فلا يتأتى الاختلاف في الصفات مع تساوي الأفعال، حتى يصح الدليل الثالث. "د".
الصانع وبالضد، فكذلك ههنا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَخْتَصُّ الثَّوَابُ بِالْأَفْعَالِ، وَيَكُونُ التَّفَاوُتُ رَاجِعًا إِلَى تَفَاوُتِهَا لَا إِلَى الصِّفَاتِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّظَرَ يَتَجَاذَبُهُ الطَّرَفَانِ، وَيَحْتَمِلُ تَحْقِيقُهُ بَسْطًا أَوْسَعَ مِنْ هَذَا، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ:
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدُورِ الْمُكَلَّفِ، وَبَقِيَ النَّظَرُ فيما يدخل تحت مقدوره، لكنه شاق عليه، فَهَذَا مَوْضِعُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ إِذَا عَلِمْنَا مَنْ قَصْدِ الشَّارِعِ نَفْيَ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، أَنْ نَعْلَمَ مِنْهُ نَفْيَ التَّكْلِيفِ بِأَنْوَاعِ الْمَشَاقِّ، وَلِذَلِكَ ثَبَتَ1 فِي الشَّرَائِعِ الأُوَل التَّكْلِيفُ بِالْمَشَاقِّ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهَا التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ.
[وَأَيْضًا، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ] 2 قَدْ مَنَعَهُ جَمَاعَةٌ عُقَلَاءُ، بَلْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ من الأشعرية وغيرهم3.
1 لو قال بدليل أنه ثبت.... إلخ، لكان أظهر، أي: وحيث إنه لا تلازم بين التكليف بالمشاق والتكليف بما لا يطاق إثباتا ولا نفيا، فلا يتأتى التلازم بين العلم في النفيين، إلا أن يقال: إنه لما كان راجعا إلى الشرائع السابقة لم يأخذه على صورة دليل، بل بصورة استئناس فقط، حتى كأنه مفرع على الدعوى، وجعل الثاني دليلا لأنه من نظر علماء هذه الشريعة. "د".
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
3 انعقد الإجماع على أنه لم يقع التكليف بما لا قدرة للمكلف عليه، وهو الممتنع لنفس مفهومه كالجمع بين الضدين، أو لاستحالة تعلق قدرة العبد به مع صحة وجوده في نفسه كخلق الجواهر، أو لمجرى العادة كالطيران في الهواء، وأما ما يكون في ذاته ممكنا عقلا وعادة وإنما يمتنع حيث سبق في علم الله أنه لا يقع، فلا نزاع في جواز التكليف به ووقوعه كإيمان كثير ممن بلغتهم الدعوة وماتوا وهو كافرون. "خ".
قلت: اختار هذا الآمدي في "أحكامه""1/ 192" ونقله عن الغزالي، واختاره صاحب "المنهاج""1/ 172- مع الإبهاج"، وبه قال ابن دقيق العيد، انظر:"البحر المحيط""1/ 220".
وفصل هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى""4/ 175-177، و 8/ 469 وما بعدها" وتلميذه ابن القيم في "بدائع الفوائد""4/ 175-177" بما لا مزيد عليه، وكلام ابن القيم عليها مختصر قوي، وهو عبارة عن قواعد وضوابط، ولذا آثرت نقله بحرفه، قال رحمه الله تعالى: "الفعل بالنسبة إلى التكليف نوعان: أحدهما اتفق الناس على جوازه ووقوعه واختلفوا في =
....................................................................................
= نسبة إطلاق القول عليه بأنه لا يطاق، والثاني: اتفق الناس على أنه لا يطاق، وتنازعوا في جواز الأمر به ولم يتنازعوا في عدم وقوعه، ولم يثبت بحمد الله أمر اتفق المسلمون على أنه لا يطاق وقالوا: إنه يكلف به العبد، ولا اتفق المسلمون على فعل كلف به العبد وأطلقوا القول عليه بأنه لا يطاق.
وللمسألة ثلاثة مآخذ:
أحدها: أن الاستطاعة مع الفعل أو قبله، والصواب أنها نوعان: نوع قبله وهو المصححة للتكليف التي هي شرط فيه، ونوع مقارن له، فليست شرطا في التكليف.
المأخذ الثاني: أن تعلق علم الله سبحانه بعدم وقوع الفعل هل يخرجه عن كونه مقدورا للعبد، فمن أخرجه عن كونه مقدورا قال الأمر به أمر بما لا يطاق، ومن لم يخرجه عن كونه مقدورا لم يطلق عليه ذلك، والصواب أنه لا يخرجه عن كونه مقدورا القدرة المصححة التي هي مناط التكليف وشرط فيه، وإن أخرجه عن كونه مقدورًا القدرة الموجبة للفعل المقارنة له.
المأخذ الثالث: أن ما تعلق علم الله بأنه لا يكون من أفعال المكلفين نوعان: أحدهما: أن يتعلق بأنه لا يكون لعدم القدرة عليه، فهذا لا يكون ممكنا مقدورا ولا مكلفا به، الثاني: ما تعلق بأنه لا يكون لعدم إرادة العبد له، فهذا لا يخرج بهذا العلم عن الإمكان، ولا عن جواز الأمر به ووقوعه، ولهذا مأخذ رابع وهو من أدقها وأغمضها، وهو أن ما علم الله أنه لا يكون لعدم مشيئته له ولو شاء للعبد لفعله، هل يخرجه عدم مشيئة الرب تعالى له عن كونه مقدورا ويجعل الأمر به أمرا بما لا يطاق؟ والصواب أن عدم مشيئة الرب له لا يخرجه عن كونه ممكنا في نفسه، كما أن عدم مشيئته لما هو قادر عليه من أفعاله لا يخرجه عن كونه مقدورا له، وإنما يخرج الفعل عن الإمكان إذا كان بحيث لو أراده الفاعل، لم يمكنه فعله، وأما امتناعه لعدم مشيئته فلا يخرجه عن كونه مقدورا ويجعله محالا.
فإن قيل: هو موقوف على مشيئة الله وهي غير مقدورة للعبد، والموقوف على غير المقدور غير مقدور، قيل: إنما يكون غير مقدور إذا كان بحيث لو أراده العبد لم يقدر عليه، فيكون عدم وقوعه لعدم قدرة العبد عليه، فأما إذا كان عدم وقوعه لعدم مشيئته له، فهذا لا يخرجه عن كونه مقدورا له، وإن كانت مشيئته موقوفة على مشيئة الرب تعالى، كما أن عدم وقوع الفعل من الله لعدم مشيئته له لا يخرجه عن كونه مقدورا له، وإن كانت مشيئته تعالى موقوفة على غيرها من صفاته، كعلمه، =
وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ، فَذَلِكَ أَصْلُهُمْ1، بِخِلَافِ التَّكْلِيفِ بِمَا يَشُقُّ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْفَاضِلَةِ.
وَلَا بُدَّ قَبْلَ الْخَوْضِ فِي الْمَطْلُوبِ مِنَ النَّظَرِ فِي مَعْنَى "الْمَشَقَّةِ"، وَهِيَ فِي
= وحكمته، فالنزاع في هذا الأصل يتنوع إلى النظر إلى المأمور به وإلى النظر إلى جواز الأمر به ووقوعه، ومن جعل القسمين واحدا أو ادعى جواز الأمر به مطلقا لوقوع بعض الأقسام التي يظنها مما لا يطاق وقاس عليها النوع الذي اتفق الناس على أنه لا يطاق، وأن وقوع ذلك النوع يستلزم لوقوع القسم المتفق على أنه لا يطاق أو على جوازه، فقد أخطأ خطأ بيِّنًا، فإن من قاس الصحيح المتمكن من الفعل القادر عليه الذي لو أراده لفعله على العاجز عن الفعل؛ إما لاستحالته في نفسه، أو لعجزه عنه لجامع ما يشتركان فيه من كون الاستطاعة مع الفعل، ومن تعلق علم الرب تعالى بعدم وقوع الفعل منهما، فقد جمع بين ما علم الفرق بينهما عقلا وشرعا وحسنا، وهذا من أفسد القياس وأبطله، والعبد مأمور من جهة الرب تعالى ومنهي، وعند هؤلاء أن أوامره تكليف لما لا يطاق، فهي غير مقدورة للعبد، وهو مجبور على ما فعله من نواهيه، فتركها غير مقدور له، فلا هو قادر على فعل ما أمر به، ولا على ترك ما ارتكبه مما نهي عنه، بل هو مجبور في باب النواهي مكلف ما بلا يطيقه في باب الأوامر، وبإزاء هؤلاء القدرية الذين يقولون: إن فعل العبد لا يتوقف على مشيئة الله ولا هو مقدور له سبحانه وأنه يفعله بدون مشيئة الله لفعله، وبتركه بدون مشيئة الله لتركه، فهو الذي جعل نفسه مؤمنا وكافرا وبرا وفاجرا ومطيعا وعاصيا، والله لم يجعله كذلك، ولا شاء منه أفعاله، ولا خلقها، ولا يوصف بالقدرة عليها، وقول هؤلاء شر من قول أولئك من وجه، وقول أولئك شر من قول هؤلاء من وجه، وكلاهما ناكب عن الحق حائد عن الصراط المستقيم".
1 لأنهم يشترطون في الأمر الإرادة، فلما اشترطوا كون الأمر مريدا لوقوع ما أمر به، استحال عندهم تكليف المستحيل وما لا يطاق؛ لأن الله إذا أمر بإيقاع أمر مستحيل، فلا شك أنه سبحانه عالم بأنه لا يقع، ومن أصلهم: أن الآمر يريد وقوع ما أمر به، والجمع بين العلم بعدم وقوعه وإرادته بأن يقع متنافٍ، وكذلك قولهم: إن القدرة قبل الفعل، وتقدم بيان ذلك في كلام ابن القيم، وهذا مراد المصنف بقوله:"فذلك أصلهم".
انظر "سلاسل الذهب""137"، و"البحر المحيط""1/ 219" للزركشي، و"المعتمد""1/ 150، 177".
أَصْلِ اللُّغَةِ مِنْ قَوْلِكَ: شَقَّ عَلَيَّ الشَّيْءُ [يَشُقُّ] شَقًّا وَمَشَقَّةً إِذَا أَتْعَبَكَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [النَّحْلِ: 7] .
وَالشِّقُّ هُوَ الِاسْمُ مِنَ الْمَشَقَّةِ1، وَهَذَا الْمَعْنَى إِذَا أُخِذَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى الْوَضْعِ الْعَرَبِيِّ، اقْتَضَى أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ اصْطِلَاحِيَّةٍ:
أَحَدُهَا:
أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ وَغَيْرِهِ، فَتَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ يُسَمَّى مَشَقَّةً، مِنْ حَيْثُ كَانَ تَطَلُّبُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِحَمْلِهِ موقعا في عناء وتعب لا يجدي، كالمعقد إِذَا تَكَلَّفَ الْقِيَامَ، وَالْإِنْسَانِ إِذَا تَكَلَّفَ الطَّيَرَانَ فِي الْهَوَاءِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَحِينَ اجْتَمَعَ مَعَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ الشَّاقِّ الْحِمْلِ إِذَا تَحَمَّلَ في نفسه الْمَشَقَّةِ، سُمِّيَ الْعَمَلُ شَاقًّا وَالتَّعَبُ فِي تَكَلُّفِ2 حَمْلِهِ مَشَقَّةً.
وَالثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الْمُعْتَادِ فِي الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ، بِحَيْثُ يُشَوِّشُ عَلَى النُّفُوسِ3 فِي تَصَرُّفِهَا، وَيُقْلِقُهَا فِي الْقِيَامِ بِمَا فِيهِ تِلْكَ الْمَشَقَّةُ.
إِلَّا أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْمَشَقَّةُ مُخْتَصَّةً بِأَعْيَانِ الْأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ بِهَا، بِحَيْثُ لَوْ وَقَعَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً لَوُجِدَتْ فِيهَا، وَهَذَا هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ الرُّخَصُ الْمَشْهُورَةُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، كَالصَّوْمِ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، وَالْإِتْمَامِ فِي السَّفَرِ، وَمَا أشبه ذلك.
والثاني: أن لا تَكُونَ مُخْتَصَّةً، وَلَكِنْ إِذَا نُظِرَ إِلَى كُلِّيَّاتِ الْأَعْمَالِ وَالدَّوَامِ عَلَيْهَا، صَارَتْ شَاقَّةً، وَلَحِقَتِ الْمَشَقَّةُ الْعَامِلَ بِهَا وَيُوجَدُ هَذَا فِي النَّوَافِلِ وَحْدَهَا إِذَا تَحَمَّلَ الْإِنْسَانُ مِنْهَا فَوْقَ مَا يَحْتَمِلُهُ عَلَى وَجْهٍ مَا، إِلَّا أَنَّهُ فِي الدَّوَامِ
1 انظر مادة "ش ق" من "اللسان" و"النهاية""2/ 491" لابن الأثير.
2 في "ط": "تطلب".
3 في "ط": "النفس".
يُتْعِبُهُ، حَتَّى يَحْصُلَ لِلنَّفْسِ بِسَبَبِهِ مَا يَحْصُلُ لَهَا بِالْعَمَلِ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي شُرِعَ لَهُ الرِّفْقُ وَالْأَخْذُ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا لَا يحصِّل مَلَلًا، حسبما نَبَّهَ عَلَيْهِ نَهْيُهُ عليه الصلاة والسلام عَنِ الْوِصَالِ1، وَعَنِ التَّنَطُّعِ2 وَالتَّكَلُّفِ3، وَقَالَ:"خُذُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَلَّ حَتَّى تَمَلُّوا"4.
وَقَوْلُهُ: "الْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغوا"5.
وَالْأَخْبَارُ هُنَا كَثِيرَةٌ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا مَوْضِعٌ آخَرُ6، فَهَذِهِ مَشَقَّةٌ نَاشِئَةٌ مَنْ أَمْرٍ كُلِّيٍّ، وَفِي الضَّرْبِ الأول ناشئة من أمر جزئي.
1 كما سيأتي "ص239".
2 كما سيأتي "ص228".
3 كما مضى "ص/ 45، 257".
4 سيأتي تخريجه في "ص405، وتقدم 1/ 526"، وهو في "الصحيحين" وغيرهما.
5 جزء من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لن ينجي أحدا منكم عمله". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرَوِّحُوا، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، والقصد القصد تبلغوا".
أخرجه البخاري في "الصحيح""رقم 6463 -واللفظ له- رقم 5673"، ومسلم في "الصحيح""17/ 159-160 / شرح النووي"، وابن ماجه في السنن" "4201"، وأحمد في "المسند" "2/ 235، 256، 264، 319، 326، 343، 344، 385-386، 390، 451-452، 466، 469، 473، 488، 495، 503، 509، 514، 519، 524، 537"، وفي "الزهد" "475"، والطيالسي في المسند""2322"، وابن حبان في "الصحيح""348، 350، 660"، وعبد الرزاق في "المصنف""20562"، والبزار كما في "كشف الأستار""3448"، والبيهقي في "الكبرى""3/ 377"، وأبو نعيم في "الحلية""7/ 129 و8 / 379"، والبغوي في "شرح السنة""4192، 4193، 4194".
وقد شرحه ابن رجب في جزء مفرد مطبوع، عنوانه "المحجة في سير الدلجة".
6 انظرها فيما يأتي.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ:
أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي تَعَبِ النَّفْسِ خُرُوجٌ عَنِ الْمُعْتَادِ فِي الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ، وَلَكِنَّ نَفْسَ التَّكْلِيفِ بِهِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَاتُ قَبْلَ التَّكْلِيفِ شَاقٌّ عَلَى النَّفْسِ، وَلِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ "التَّكْلِيفِ"، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ يَقْتَضِي مَعْنَى الْمَشَقَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ:"كَلَّفْتُهُ تَكْلِيفًا" إِذَا حَمَّلْتَهُ أَمْرًا يَشُقُّ عَلَيْهِ وأمرته به، و"تكلفت الشَّيْءَ" إِذَا تَحَمَّلْتَهُ عَلَى مَشَقَّةٍ، وَحُمِّلْتُ الشَّيْءَ تَكَلَّفْتَهُ إِذَا لَمْ تُطِقْهُ إِلَّا تَكَلُّفًا، فَمِثْلُ هَذَا يُسَمَّى مَشَقَّةً بِهَذَا الِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّهُ إِلْقَاءٌ بِالْمَقَالِيدِ1، وَدُخُولٌ فِي أَعْمَالٍ زَائِدَةٍ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا.
وَالرَّابِعُ:
أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِمَا يَلْزَمُ2 عَمَّا قَبْلَهُ، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ إِخْرَاجٌ لِلْمُكَلَّفِ عَنْ هَوَى نَفْسِهِ، وَمُخَالَفَةُ الْهَوَى شَاقَّةٌ عَلَى صَاحِبِ الْهَوَى مُطْلَقًا، وَيَلْحَقُ الْإِنْسَانَ بِسَبَبِهَا تَعَبٌ وَعَنَاءٌ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فِي الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ فِي الْخَلْقِ.
فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَوْجَهٍ مِنْ حَيْثُ النطر إِلَى الْمَشَقَّةِ فِي نَفْسِهَا، انْتَظَمَتْ فِي أَرْبَعَةٍ3:
فَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَقَدْ تَخَلَّصَ فِي الْأُصُولِ، وَتَقَدَّمَ ما يتعلق به.
وأما الثاني: وهي:
1 المقاليد: الخزائن والمفاتيح، انظر "اللسان""مادة ق ل د 3/ 366".
2 المراد قد ينشأ عنه، لا أنه لا ينفك عنه، وإلا؛ لكان الأول يتعين فيه أن يلحق الإنسان فيه تعب ومشقة، كما قال هنا؛ وفي المسألة الثامنة في شرح الرابع، وهو يخالف قوله في الثالث:"ليس فِيهِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي تَعَبِ النَّفْسِ خُرُوجٌ عن المعتاد". "د".
3 أي: لأنه أدرج اثنين منها تحت الثاني، حيث جعله ضربين. "د".
قلت: نحو المذكور عند المصنف -مع اختلاف في العرض والعد وتشابه في المضمون- تراه في "قواعد الأحكام""2/ 7، 8"، و"شرح الفروق""1/ 119" لابن الشاط.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ:
فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى التكاليف بالمشاق الْإِعْنَاتَ1 فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ2:
أَحَدُهَا:
النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الْأَعْرَافِ: 157] .
وَقَوْلِهِ: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} .... الآية [البقرة: 286] .
وَفِي3 الْحَدِيثِ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ فَعَلْتُ"4.
وَجَاءَ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الْبَقَرَةِ: 286] .
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
1 هكذا في "خ"، وفي الأصل و"ط":"بالمشاق والإعنات"، وفي "د" مثله، إلا أنه قال "بالشاق". وفي "ماء / ص166":"بالمشاق الإعنات فيه ولا في أموره".
2 انظر المسألة وبسطها مع أدلتها في "مجموع فتاوى ابن تيمية""14/ 102-104، 108-109، 137-139"، و"إعلام الموقعين""1/ 268"، و"روضة المحبين""181".
3 هو تمام الدليل؛ لأن الآية دعاء بذلك، والحديث فيه الإجابة. "د".
4 قطعة من حديث طويل أخرجه مسلم في "الصحيح""كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق 1/ 116/ رقم 126" والترمذي في "الجامع""أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة 5/ 221- 222/ رقم 2992"، والنسائي في "الكبرى""كتاب التفسير 1/ 293-294/ رقم 79"، وأحمد في "المسند""1/ 233"، والحاكم في "المستدرك""2/ 286"، وابن جرير في "التفسير""3/ 95"، والبيهقي في "الأسماء والصفات""210/ 211"، والواحدي في "أسباب النزول""ص67-68"، وابن حبان في "الصحيح""11/ 458/ رقم 5069" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الْحَجِّ: 78] .
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النِّسَاءِ: 28] .
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}
…
الآية [المائدة: 6]1.
وَفِي الْحَدِيثِ: "بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ"2.
"وَمَا خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يكن إثما"3.
1 الدليل في صدر الآية، وكذا فيما بعد الاستدراك، فلذا قال:"الآية". "د".
2 أخرجه أبو بكر بن سلمان الفقيه في "مجلس من الأمالي""16/ 1"، والخطيب في "التاريخ""7/ 209"، وابن النجار في "ذيل تاريخ بغداد "18/ 5" عن جابر مرفوعا بإسناد ضعيف، فيه مسلم بن عبد ربه، ضعفه الأزدي، وضعف إسناده العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "4/ 149"، ولكن قال العلائي؛ كما في "فيض القدير": "مسلم؛ ضعفه الأزدي، ولم أجد أحدا وثقه، ولكن له طرق ثلاث، ليس يبعد أن لا ينزل بسببها عن درجة الحسن".
قلت: أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى""1/ 192" عن حبيب بن أبي ثابت مرفوعا، وهو مرسل.
وأخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه""2/ 204" عن أبي أمامة مرفوعا: "إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكن بعثت بالحنيفية السمحاء"، وإسناده ضعيف.
وأخرجه أحمد في "المسند""6/ 116، 233"، عن عائشة، وفي آخره:"إني أرسلت بحنيفية سمحة" وسنده حسن، وحسنه ابن حجر في "تغليق التعليق" "1/ 43" وفيه:"وفي الباب عن أبي بن كعب وجابر وابن عمر وأبي أمامة وأبي هريرة وأسعد بن عبد الله الخزاعي وغيرهم"، ونحوه في "هدى الساري""ص120".
وقد خرجت بعضها في تحقيقي لرسالة السخاوي: "الجواب الذي انضبط عن لا تكن حلوا فتسترط""ص44-46".
3 أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم 6/ 566/ رقم 3560، وكتاب الأدب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا"، 10/ 524/ رقم 6126 =
وَإِنَّمَا قَالَ: "مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا"؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْإِثْمِ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ، مِنْ حَيْثُ كَانَ مُجَرَّدَ تَرْكٍ1، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَلَوْ كَانَ قَاصِدًا لِلْمَشَقَّةِ لَمَا كَانَ مُرِيدًا لِلْيُسْرِ وَلَا لِلتَّخْفِيفِ، وَلَكَانَ مُرِيدًا لِلْحَرَجِ وَالْعُسْرِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي:
مَا ثَبَتَ أَيْضًا مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الرُّخَصِ، وَهُوَ أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَمِمَّا عُلِمَ مِنْ دِينِ الْأُمَّةِ ضَرُورَةٌ، كَرُخَصِ الْقَصْرِ، وَالْفِطْرِ، وَالْجَمْعِ، وَتَنَاوُلِ الْمُحَرَّمَاتِ في الاضطرار، فإن هذا نمط يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى مُطْلَقِ رَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّعَمُّقِ وَالتَّكَلُّفِ وَالتَّسَبُّبِ فِي الِانْقِطَاعِ عَنْ دَوَامِ الْأَعْمَالِ، وَلَوْ كَانَ الشَّارِعُ قَاصِدًا لِلْمَشَقَّةِ فِي التَّكْلِيفِ، لَمَا كَانَ ثَمَّ تَرْخِيصٌ2 وَلَا تَخْفِيفٌ.
وَالثَّالِثُ:
الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ وُجُودًا فِي التَّكْلِيفِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ، و3 لو كان واقعا لحصل في الشريعة التناقض.
= وكتاب الحدود، باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله 12/ 86/ رقم 6786، وباب كم التعزيز والأدب 12/ 176/ رقم 6853"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام 4/ 1813/ رقم 2327"، ومالك في "الموطأ" "2/ 902-903"، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" "رقم 270"، وأبو داود في "سننه" "كتاب الأدب، باب التجاوز في الأمر 4/ 250/ رقم 4785"، وابن أبي داود في "مسند عائشة" "رقم 15، 92"، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه" "35، 36" من حديث عاشئة رضي الله عنها.
وكتب "خ" هنا ما نصه: "وقولها: "ما لم يكن إثما، فإن كان إثما، كان أبعد الناس منه" ينادي بأن المراد التخيير بين أمرين من أمور الدنيا، وأن المخير له غير الله من المخلوقين؛ إذ لا يصح أن يقع من الله تخيير بين إثم وغيره".
1 هذا لا يخص ترك الإثم، بل يجري في كل ترك لما فيه من الحيثية المذكورة، وبالجملة، فقوله:"وإنما قال..... إلخ" غير ظاهر. "د".
2 أي: في الضرب الأول، وقوله:"ولا تخفيف"، أي: في الضرب الثاني. "د".
3 في الحقيقة هو دليل رابع، فلو قال:"والرابع" أو "وأيضا" مثلا، لكان أظهر "د".
وَالِاخْتِلَافُ، وَذَلِكَ مَنْفِيٌّ عَنْهَا؛ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ وَضْعُ الشَّرِيعَةِ عَلَى قَصْدِ الْإِعْنَاتِ وَالْمَشَقَّةِ -وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى قَصْدِ الرِّفْقِ وَالتَّيْسِيرِ- كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا تَنَاقُضًا وَاخْتِلَافًا، وَهِيَ مُنَزَّهَةٌ على ذَلِكَ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ:
فَإِنَّهُ لَا يُنَازَعُ فِي أَنَّ الشَّارِعَ قَاصِدٌ لِلتَّكْلِيفِ بِمَا يَلْزَمُ فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ مَا، وَلَكِنْ لَا تُسَمَّى فِي الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ مَشَقَّةً، كَمَا لَا يُسَمَّى فِي الْعَادَةِ مَشَقَّةً طَلَبُ الْمَعَاشِ بِالتَّحَرُّفِ1 وَسَائِرِ الصَّنَائِعِ؛ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ مُعْتَادٌ لَا يُقْطَعُ مَا فِيهِ مِنَ الْكُلْفَةِ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْغَالِبِ الْمُعْتَادِ، بَلْ أَهْلُ الْعُقُولِ وَأَرْبَابُ الْعَادَاتِ يَعُدُّونَ الْمُنْقَطِعَ عَنْهُ كَسْلَانَ، وَيَذُمُّونَهُ بِذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْمُعْتَادُ فِي التَّكَالِيفِ.
وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يَرْجِعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا تُعَدُّ مَشَقَّةً عَادَةً، [وَالَّتِي تُعَدُّ مَشَقَّةً] 2، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْعَمَلُ يُؤَدِّي الدوامُ عَلَيْهِ إِلَى الِانْقِطَاعِ عَنْهُ، أَوْ عَنْ بَعْضِهِ، أَوْ إِلَى3 وُقُوعِ خَلَلٍ فِي صَاحِبِهِ، فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، أَوْ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ، فَالْمَشَقَّةُ هُنَا خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ، فَلَا يُعَدُّ فِي الْعَادَةِ مَشَقَّةً، وَإِنَّ سُمِّيَتْ كُلْفَةً، فَأَحْوَالُ الْإِنْسَانِ كُلُّهَا كُلْفَةٌ فِي هَذِهِ الدَّارِ، فِي أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ، وَلَكِنْ جُعِلَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَيْهَا بِحَيْثُ تَكُونُ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتُ تَحْتَ قَهْرِهِ، لَا أَنْ يَكُونَ هُوَ تَحْتَ قَهْرِ التَّصَرُّفَاتِ، فَكَذَلِكَ التَّكَالِيفُ؛ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ التَّكْلِيفُ وَمَا تَضَمَّنَ من المشقة4.
1 أي: باتخاذ الحرفة والصنعة.
2 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل ومن نسخة "ماء/ ص 167".
3 في النسخ المطبوعة: "وإلى".
4 صفوة ما حرره القرافي في هذا الصدد من الفرق "الرابع عشر" أن المشاق قسمان: قسم لا تنفك عنه العبادة، كالوضوء في البرد، والمخاطرة بالنفس في الجهاد، فهذا القسم لا يوجب تخفيفا في العبادة لأنه قرر معها، ثانيهما: المشاق التي تنفك العبادة عنها، وهي ثلاثة أنواع متفق على اعتباره في الإسقاط أو التخفيف، ومتفق على عدم اعتباره لكونه ضعيفا، ومختلف فيه لتجاذب الطرفين له، والضابط في المشاق المؤثرة يرجع إلى اجتهاد الفقيه، وهو لا يكاد يصيب الحقيقة إلا أن ينظر إلى مقام العبادة وأهميتها في نفسها، ثم إلى مقدار التعب والضرر الذي يلحق المكلف من الدخول فيها. "خ".
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَمَا تَضَمَّنَ التَّكْلِيفُ الثَّابِتُ عَلَى الْعِبَادِ مِنَ الْمَشَقَّةِ الْمُعْتَادَةِ أَيْضًا لَيْسَ بِمَقْصُودِ الطَّلَبِ لِلشَّارِعِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِ الْمَشَقَّةِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَائِدَةِ عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ1 فِي الْمَسَالَةِ قَبْلَ هَذَا.
فَإِنْ قِيلَ: مَا تَقَدَّمَ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْقَصْدِ إِلَى الْمَشَقَّةِ فِي التَّكْلِيفِ، لِأَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا:
أَنَّ نَفْسَ تَسْمِيَتِهِ تَكْلِيفًا يُشْعِرُ بِذَلِكَ، إِذْ حَقِيقَتُهُ فِي اللُّغَةِ طَلَبُ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ، وَهِيَ الْمَشَقَّةُ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الْبَقَرَةِ: 286] مَعْنَاهُ: لَا يَطْلُبُهُ بِمَا يَشُقُّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يَطْلُبُهُ بِمَا تَتَّسِعُ لَهُ قُدْرَتُهُ عَادَةً، فَقَدْ ثَبَتَ التَّكْلِيفُ بِمَا هُوَ مَشَقَّةٌ، فَقَصْدُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ يَسْتَلْزِمُ بِلَا بُدٍّ طَلَبَ الْمَشَقَّةِ، وَالطَّلَبُ إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَشَقَّةٌ، لِتَسْمِيَةِ الشَّرْعِ لَهُ تَكْلِيفًا2، فَهِيَ إذن مقصودة له، وعلى هذا النحو
1 ما تقدم في المسألة كانت الأدلة فيه على عدم قصد المشقة الخارجة عن المعتاد، وهي ما فيها الرخص وما طلب فيها التخفيف، أما هنا، فالمشقة هي المعتادة، وإذا كان الموضوع مختلفا، فالأدلة لأحدهما لا يلزم أن تكون أدلة للآخر، وإن اتحدا في عنوان المشقة، فعليك بتتبعها تجد أن بعض الآيات يصلح دليلا، وكان الدليل الأخير الذي يؤخذ من قوله:"ولو كان.... إلخ"، فإنه يؤخذ منه أنه لا يقصد المشقة لكونها مشقة مطلقا، كانت من القسم الثاني أو الثالث، لئلا يلزم التناقض مع قصده الرفق والتيسير، ولكن سيأتي في المسألة الحادية عشرة أنه كما لا يقصد حصول المشقة المعتادة، كذلك لا يقصد رفعها، وهو لا يوافق هذا الدليل الأخير بالطريق الذي قررناه، فلا يبقى إلا بعض الآيات. "د".
قلت: انظر في المسألة وأدلتها: "قواعد الأحكام""1/ 25، 29" للعز بن عبد السلام، و"رفع الحرج في الشريعة الإسلامية""ص173 وما بعدها" ليعقوب الباحسين.
2 استقرأ شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى هذه الكلمة في الكتاب والسنة، وأفادا أنه لم يأت فيهما تسمية أوامر الله وشرائعه "تكليفا"، بل سماها روحا ونورا..... وإنما جاء ذلك في جانب النفي {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ، وهذا الإطلاق إثبات لا يعرف أيضا في لسان السلف، وإنما جاء من لدن كثير من المتكلمة والمتفقهة، والله أعلم.
انظر: "مجموع الفتاوى""1/ 25-26"، و"إغاثة اللهفان""1/ 32"، و"معجم" المناهي اللفظية" "ص129 للشيخ بكر أبو زيد.
يَتَنَزَّلُ1 قَوْلُهُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الْحَجِّ: 78] وَأَشْبَاهُهُ.
وَالثَّانِي:
أَنَّ الشَّارِعَ عَالِمٌ بِمَا كَلَّفَ بِهِ وَبِمَا يَلْزَمُ عَنْهُ: وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُجَرَّدَ التَّكْلِيفِ يَسْتَلْزِمُ الْمَشَقَّةَ، فَالشَّارِعُ عالم بلزوم المشقة من غير انفكاك، فإذن يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ طَالِبًا لِلْمَشَقَّةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَاصِدَ إِلَى السَّبَبِ عَالِمًا بِمَا يَتَسَبَّبُ عَنْهُ قَاصِدٌ لِلْمُسَبِّبِ، وَقَدْ مَرَّ تَقْرِيرُ هذه المسألة في كتاب الأحكام، فاقضتى أَنَّ الشَّارِعَ قَاصِدٌ لِلْمَشَقَّةِ هُنَا.
وَالثَّالِثُ:
أَنَّ الْمَشَقَّةَ فِي الْجُمْلَةِ مُثَابٌ عَلَيْهَا إِذَا لَحِقَتْ فِي أَثْنَاءِ التَّكْلِيفِ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ ثَوَابِ التَّكْلِيفِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التَّوْبَةِ: 120] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [الْعَنْكَبُوتِ: 69] .
وَمَا جَاءَ فِي "كَثْرَةِ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ" 2 "وَأَنَّ أعظمهم أجرا أبعدهم دارا"3.
1 أي: فهذا أحد الأدلة المتقدمة. التي قلت: إنها تجري هنا- لا يدل، لأنه محمول على مشقة وحرج غير موضوع الدعوى هنا، إلا أنه لم يذكر بقية الآيات لما عرفت من أم مثل {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} تدل على دعواه هنا في قوله: وإذا تقرر هذا..... إلخ وبضميمة أن يكون متناقضا لو قصد المشقة مطلقا ولو معتادة على ما تقدم. "د".
2 قطعة من حديث في "الصحيحين" سيأتي لفظه قريبا.
3 أخرج البخاري في "صحيحه""كتاب الأذان، باب فضل صلاة الفجر في جماعة، 2/ 137/ رقم 651"، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة=
وَمَا جَاءَ فِي "إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ"1.
وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 216] الْآيَةَ، وَذَلِكَ لِمَا فِي الْقِتَالِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَشَقَّاتِ، حَتَّى قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّة} [التَّوْبَةِ: 111] ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ.
فَإِذَا كَانَتِ الْمَشَقَّاتُ -مِنْ حَيْثُ هِيَ مَشَقَّاتٌ- مُثَابًا عَلَيْهَا زِيَادَةً عَلَى معتادة التكليف، دل على أنها مقصودة لَهُ، وَإِلَّا، فَلَوْ لَمْ يَقْصِدْهَا، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا ثَوَابٌ كَسَائِرِ الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ يُكَلِّفْ بها، فأوقعها المكلف باختياره حسبما هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْمُبَاحِ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، فَدَلَّ هَذَا كُلُّهُ عَلَى قَصْدِ الشَّارِعِ لِطَلَبِ الْمَشَقَّةِ بِالتَّكْلِيفِ؛ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ التَّكْلِيفَ إِذَا وُجِّه عَلَى الْمُكَلَّفِ يُمْكِنُ الْقَصْدُ فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقْصِدَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ مَشَقَّةٌ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَقْصِدَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ مصلحة وخير للمكلف عاجلا وآجلا.
1 أخرج مسلم في "صحيحه""كتاب الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره 1/ 219/ رقم 251" عن أبي هريرة مرفوعا: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ " قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط".
فَأَمَّا الثَّانِي: فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ مَقْصُودُ الشَّارِعِ بِالْعَمَلِ، وَالشَّرِيعَةُ كُلُّهَا نَاطِقَةٌ1 بِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ هَذَا الْكِتَابِ.
وَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ قَصَدَ ذَلِكَ، وَالْقَصْدَانِ لَا يَلْزَمُ اجْتِمَاعُهُمَا، فَإِنَّ الطَّبِيبَ يَقْصِدُ بِسَقْيِ الدَّوَاءِ الْمُرِّ الْبَشِعِ، وَالْإِيلَامِ بِفَصْدِ الْعُرُوقِ وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ الْمُتَأَكِّلَةِ، نَفْعَ الْمَرِيضِ لَا إِيلَامَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ حُصُولِ2 الْإِيلَامِ، فَكَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ فِي قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَى مَصَالِحِ الْخَلْقِ بِالتَّكْلِيفِ، فِي الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ، وَالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ يَقْصِدُ بِالتَّكْلِيفِ الْمَصَالِحَ عَلَى الْجُمْلَةِ3، فَالنِّزَاعُ فِي قَصْدِهِ لِلْمَشَقَّةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ تَكْلِيفًا بِاعْتِبَارِ مَا يَلْزَمُهُ، عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِمَا يَلْزَمُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي الِاسْتِعْمَالِ غَيْرَ مَقْصُودٍ حسبما هُوَ مَعْلُومٌ فِي عِلْمِ الِاشْتِقَاقِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَجَازًا بَلْ عَلَى حَقِيقَةِ الوضع اللغوي4.
1 مكانها بياض في الأصل.
2 في الأصل: "محصول".
3 ذكر هذا الإجماع أيضا الآمدي في "الإحكام""3/ 380، 411"، وابن الحاجب في "منتهى الوصول""ص184"، ونقل الدهلوي في "حجة الله البالغة""1/ 6" إجماع السلف عليه، وهذا ما تبناه ابن القيم في "إعلام الموقعين""1/ 196-200"، ودافع عنه بقوة، ومما قال في "مفتاح السعادة" "2/ 22":"والقرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مملوآن من تعليل الأحكام بالحكم والمصالح، وتعليل الخلق بهما، والتنبيه على وجوه الحكم التي لأجلها شرع تلك الأحكام، ولأجلها خلق تلك الأعيان، ولو كان هذا في القرآن والسنة نحو مئة موضع أو مئتين، لسقناها، ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة"، وانتقد ابن السبكي في "الإبهاج""3/ 62" الإجماع المذكور.
4 فاللفظ موضوع له وضعا أوليا، بدون ملاحظة علاقة، ولا توقف على قرينة، فيكون حقيقة لا مجازا. "د".
قلت: انظر ما قدمناه قريبا عن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بهذا الخصوص.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي أَنَّ الْعِلْمَ بِوُقُوعِ الْمُسَبَّبُ عن السبب -وإن ثبت أنه يقوم1 الْقَصْدِ إِلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ- فَإِنَّمَا هُوَ جارٍ مَجْرَى الْقَصْدِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ؛ أَعْنِي: فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ بِالتَّسَبُّبِ متعدٍّ عَلَى الْجُمْلَةِ، لَا مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ قَاصِدٌ لِلْمَفْسَدَةِ الْوَاقِعَةِ، إِذْ قَدْ فَرَضْنَاهُ لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ، وَإِذَا2 كَانَ غَيْرَ قَاصِدٍ، فَهُوَ الْمَطْلُوبُ هُنَا فِي حَقِّ الشَّارِعِ، إِذْ هُوَ قَاصِدٌ نَفْسَ الْمَصْلَحَةِ لَا مَا يَلْزَمُ فِي طَرِيقِهَا مِنْ بَعْضِ الْمَفَاسِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِهَذَا تَقْرِيرٌ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَأَيْضًا، لَوْ لَزِمَ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَى التَّكْلِيفِ بِمَا يَلْزَمُ عَنْهُ مَفْسَدَةٌ فِي طَرِيقِ الْمَصْلَحَةِ قَصْدُهُ إِلَى إِيقَاعِ الْمَفْسَدَةِ شَرْعًا، لَزِمَ بُطْلَانُ مَا تَقَدَّمَ الْبُرْهَانُ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ لِلْمَصَالِحِ لَا لِلْمَفَاسِدِ، وَلَزِمَ فِي خُصُوصِ مَسْأَلَتِنَا أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا لِرَفْعِ الْمَشَقَّةِ3 وَإِيقَاعِهَا مَعًا، وَهُوَ مُحَالٌ بَاطِلٌ عَقْلًا وَسَمْعًا.
وَأَيْضًا؛ فَلَا يَمْتَنِعُ قَصْدُ الطَّبِيبِ لِسَقْيِ الدَّوَاءِ الْمُرِّ، وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ المتآكلة، وقلع الأضراس الوجعة، وبط الجراحات [الواجعة] 4، وَأَنْ يَحْمِيَ الْمَرِيضَ مَا يَشْتَهِيهِ، وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُ مِنْهُ إِذَايَةُ الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِنَّمَا هو5
1 أي: فقد يكون عالما بالمسبب ولا يقصده، وإنما يقصد نفع نفسه فقط بقطع النظر عن كونه يلزمه التعدي على الغير بمفسدة تلحقه، ولكن الشارع في هذه الحالة يجعله كأنه قاصد له، ويلزمه نتيجة التعدي على الغير، ويقيم علمه بوقوع المسبب مقام القصد إليه، فالشارع هنا أيضا، وإن كان عالما بالمفسدة التي تكون في طريق المصلحة، لكنه لا يقصدها". "د".
2 في الأصل: "وإن".
3 أي: بأدلة قصده التخفيف واليسر ونحو ذلك، وقوله:"وإيقاعها"، أي: بمقتضى هذا الاعتراض الثاني. "د".
4 ما بين المعقوفتين من الأصل، وسقط من النسخ المطبوعة و"ط".
5 في الأصل: "هي".
الْمَصْلَحَةُ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ وَأَشَدُّ1 فِي الْمُرَاعَاةِ مِنْ مَفْسَدَةِ الْإِيذَاءِ الَّتِي هِيَ بِطْرِيقِ اللُّزُومِ، وَهَذَا شَأْنُ الشَّرِيعَةِ أَبَدًا، فَإِذَا كَانَ التَّكْلِيفُ عَلَى وَجْهٍ، فَلَا بُدَّ مِنْهُ وَإِنْ أَدَّى إِلَى مَشَقَّةٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَصْلَحَةُ، فَالتَّكْلِيفُ أَبَدًا جارٍ عَلَى هَذَا الْمَهْيَعِ، فَقَدْ عُلِمَ مِنَ الشَّارِعِ أَنَّ الْمَشَقَّةَ يُنْهَى عَنْهَا، فَإِذَا أَمَرَ بِمَا تَلْزَمُ عَنْهُ فَلَمْ يَقْصِدْهَا، إِذْ لَوْ كَانَ قَاصِدًا لَهَا لَمَا نَهَى عَنْهَا، وَمِنْ هُنَا لَا يُسَمَّى مَا يَلْزَمُ عَنِ الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّاتِ مَشَقَّةً عَادَةً.
وَتَحْصِيلُهُ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِالْمُعْتَادَاتِ وَمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهَا لَا مَشَقَّةَ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَمَا يَلْزَمُ عَنِ التَّكْلِيفِ2 لَا يُسَمَّى مَشَقَّةً، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِوُقُوعِهَا يَسْتَلْزِمُ طَلَبَهَا أَوِ الْقَصْدَ إِلَيْهَا.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ أَنَّ الثَّوَابَ حَاصِلٌ مِنْ حَيْثُ كَانَتِ الْمَشَقَّةُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهَا لُزُومًا عَنْ مُجَرَّدِ التَّكْلِيفِ، وَبِهَا حَصَلَ الْعَمَلُ الْمُكَلَّفُ بِهِ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ كالمقصودة، لَا أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ مُطْلَقًا، فَرَتَّبَ الشَّارِعُ فِي مُقَابَلَتِهَا أَجْرًا زَائِدًا عَلَى أَجْرِ إِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ، وَلَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ النَّصَب مَطْلُوبٌ أَصْلًا3، وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ الثَّوَابَ يَحْصُلُ بِسَبَبِ الْمَشَقَّاتِ وَإِنْ لَمْ تَتَسَبَّبْ عَنِ الْعَمَلِ الْمَطْلُوبِ، كَمَا يُؤَجَرُ4 الْإِنْسَانُ وَيُكَفَّرُ عَنْهُ مِنْ سَيِّئَاتِهِ بِسَبَبِ مَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالْمَشَقَّاتِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:"مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَب وَلَا نَصَب وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَن حَتَّى الشَّوْكَةٍ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ" 5 وَمَا أشبه ذلك.
1 في "ط": "أعظم وآكد".
2 في ط: "التكاليف".
3 انظر كلاما قويا حول هذا في "مجموع فتاوى ابن تيمية""10/ 621-623".
4 التكفير صريح الحديث، لكن من أين الأجر على مجرد ما يلحقه بدون عمل له كالصبر؟ "د".
5 أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض، 10 =
وَأَيْضًا، فَالْمُبَاحُ إِذَا عُلِم أَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْهُ مَمْنُوعٌ لَا يَكُونُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ كَالْقَصْدِ إِلَى نَفْسِ الْمَمْنُوعِ، وَكَذَلِكَ يُتَّفَقُ عَلَى مَنْعِ الْقَصْدِ إِلَى نَفْسِ الْمَمْنُوعِ اللَّازِمِ عَنِ الْمُبَاحِ، وَيَخْتَلِفُونَ إِذَا لَمْ يَقْصِدْ إِلَيْهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ، وسيأتي تقريره إن شاء الله تعالى.
= 103/ رقم 5640، 5641، 5642"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك 4/ 1992/ رقم 2572" عن عائشة بلفظ مقارب.
وأخرجه مسلم في"صحيحه""رقم 2573" عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما.
قال في "فتح الباري""10/ 105/ رقم 5640" في شرح هذا الحديث: "وفي هذا الحديث تعقب على الشيخ عز الدين بن عبد السلام في "قواعد الأحكام" "1/29"، حيث قال: "ظن بعض الجهلة أن المصاب مأجور، وهو خطأ صريح، فإن الثواب والعقاب إنما هو بالكسب، والمصائب ليست منها، بل الأجر على الصبر والرضا، ووجه التعقب أن الأحاديث الصحيحة صريحة في ثبوت الأجر بمجرد حصول المصيبة، أما الصبر والرضا فقدر زائد يمكن أن يثاب عليها زيادة على ثواب المصيبة، قال القرافي: المصائب كفارات جزما، سواء اقترن بها الرضا أم لا، لكن إن اقترن بها الرضا عظم التكفير، وإلا قلَّ. كذا قال؛ والتحقيق أن المصيبة كفارة لذنب يوازيها، وبالرضا يؤجر على ذلك" "انتهى كلام ابن حجر*.
قال "د" عقبه: "أقول: ولعل هذا التحقيق في كلام القرافي جمع بين القولين فالتكفير غير الثواب والجزاء، فلا مانع أن يكون "لا" في مقابلة عمل من المكلَّف، أما الأجر والثواب، فالمعقول ومغزى الآيات القرآنية أنه متعلق بالصبر والرضا والتسليم، وهذا التحقيق لا ينافي كلام العز؛ لأنه لا ينفي التكفير، وإنما نفى الأجر، وهو وجيه".
وقال "خ": هذا مذهب بعض أهل العلم أخذا بالظاهر من هذا الحديث وما شاكله، وذهب الشيخ عز الدين بن عبد السلام في "القواعد" إلى أن المصائب والآلام لا ثواب عليها، وإنما الثواب على الصبر عليها، إذ هو الذي يدخل تحت كسب الإنسان".
_________
* وله في "الفتح""10/ 110" كلام متين في هذا الباب ينبغي أن يُراجَع.
فَصْلٌ:
وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا أَصْلٌ آخَرُ:
وَهُوَ أَنَّ الْمَشَقَّةَ لَيْسَ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَقْصِدَهَا فِي التَّكْلِيفِ نَظَرًا إِلَى عِظَمِ أَجْرِهَا1، وَلَهُ أَنْ يَقْصِدَ الْعَمَلَ الَّذِي يَعْظُمُ أَجْرُهُ لِعِظَمِ مَشَقَّتِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَمَلٌ.
أَمَّا هَذَا الثَّانِي؛ فَلِأَنَّهُ شَأْنُ التَّكْلِيفِ فِي الْعَمَلِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقْصِدُ نَفْسَ الْعَمَلِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ الْأَجْرُ، وَذَلِكَ هُوَ قَصْدُ الشَّارِعِ بِوَضْعِ التَّكْلِيفِ بِهِ، [وَمَا جَاءَ] 2 عَلَى مُوَافَقَةِ قَصْدِ الشَّارِعِ هُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، وَالْمَقَاصِدُ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ كَمَا يُذْكَرُ3 فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا يَصْلُحُ مِنْهَا إِلَّا مَا وَافَقَ قَصْدَ الشَّارِعِ، فَإِذَا كَانَ قَصْدُ الْمُكَلَّفِ إِيقَاعَ الْمَشَقَّةِ، فَقَدْ خَالَفَ قَصْدَ الشَّارِعِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الشَّارِعَ4 لَا يَقْصِدُ بِالتَّكْلِيفِ نَفْسَ الْمَشَقَّةِ، وَكُلُّ قَصْدٍ يُخَالِفُ قَصْدَ الشَّارِعِ باطل، فالقصد إلى المشقة باطل5، فهو إذن مِنْ قَبِيلِ مَا يُنْهَى عَنْهُ، وَمَا يُنْهَى عَنْهُ لَا ثَوَابَ فِيهِ، بَلْ فِيهِ الْإِثْمُ إِنِ ارْتَفَعَ النَّهْيُ عَنْهُ إِلَى دَرَجَةِ التَّحْرِيمِ، فَطَلَبُ الْأَجْرِ بِقَصْدِ الدُّخُولِ فِي الْمَشَقَّةِ قَصْدٌ مناقض.
1 قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى""10/ 620": "قول بعض الناس: "الثواب على قدر المشقة" ليس بمستقيم على الإطلاق"؛ ثم فصل في ذلك، وانظر أيضا في رد عموم هذه القاعدة:"رفع الحرج في الشريعة الإسلامية""ص171 وما بعدها".
2 ساقط من الأصل و"خ" و"ط"، واستظهر ناسخ الأصل كلمة الإتيان وهو قريب كما ترى.
3 في "ط": "سيذكر".
4 في الأصل: "إذ الشارع".
5 انظر في هذا: "الاعتصام" للمصنف "1/ 341".
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا فِي "الصَّحِيحِ" مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ1، قَالَ: خَلَتِ الْبِقَاعُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ، فَأَرَادَ بَنُو سَلَمَةَ أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى قرب المسجد، فبلغ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُمْ:"إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ". قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَرَدْنَا ذَلِكَ. فَقَالَ:"بَنِي سَلِمَةَ! دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ، دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ! ".
وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالُوا: مَا كَانَ يَسُرُّنَا أَنَّا كُنَّا تَحَوَّلْنَا2.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَتْ دِيَارُنَا نَائِيَةً عَنِ الْمَسْجِدِ، فَأَرَدْنَا أَنْ نَبِيعَ بُيُوتَنَا فَنَقْتَرِبَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"إِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ خُطْوَةٍ دَرَجَةً"3.
وَفِي "رَقَائِقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ" عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، أَنَّهُ كَانَ فِي سَفِينَةٍ فِي الْبَحْرِ مَرْفُوعٍ شِرَاعُهَا، فَإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ:"يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ! قِفُوا" سَبْعَ مِرَارٍ، فَقُلْنَا: أَلَا تَرَى عَلَى أَيِّ حَالٍ نَحْنُ؟ ثُمَّ قَالَ فِي السَّابِعَةِ: "لَقَضَاءٌ قَضَاهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ مَنْ عَطَّشَ لِلَّهِ نَفْسَهُ فِي يَوْمٍ [حَارٍّ] مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا شَدِيدِ الْحَرِّ، كَانَ [حَقًّا] عَلَى اللَّهِ أَنْ يَرْوِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". فَكَانَ أَبُو مُوسَى يَتَتَبَّعُ اليوم المعمعاني الشديد.
1 أخرجه مسلم في "الصحيح""كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد 1/ 462/ رقم 665 بعد 280" عن جابر، وأخرجه البخاري عن أنس مختصرا، وسيأتي.
2 أخرجه مسلم في "صحيحه""كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، "1/ 462/ رقم 665 بعد 281" عن جابر.
3 أخرجه مسلم في "الصحيح""كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، 1/ 461/ رقم 464" عن جابر رضي الله عنه.
قلت: وفي الأصل و"ط" والنسخ المطبوعة كلها: "فنتقرب" وما أثبتناه من "صحيح مسلم".
الْحَرِّ فَيَصُومُهُ1.
وَفِي الشَّرِيعَةِ مِنْ هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَصْدَ الْمُكَلَّفِ إِلَى التَّشْدِيدِ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْعِبَادَةِ وَسَائِرِ التَّكَالِيفِ صَحِيحٌ مُثَابٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَحَبُّوا الِانْتِقَالَ أَمَرَهُمْ عليه الصلاة والسلام بِالثُّبُوتِ لِأَجْلِ عِظَمِ الْأَجْرِ بِكَثْرَةِ الْخُطَا، فَكَانُوا كَرَجُلٍ لَهُ طَرِيقَانِ إِلَى الْعَمَلِ: أَحَدُهُمَا سَهْلٌ، وَالْآخَرُ صَعْبٌ، فأُمِرَ بِالصَّعْبِ ووُعِدَ عَلَى ذَلِكَ بِالْأَجْرِ، بَلْ جَاءَ نَهْيُهُمْ عَنْ ذَلِكَ إِرْشَادًا إِلَى كَثْرَةِ الْأَجْرِ.
وَتَأَمَّلْ أَحْوَالَ أَصْحَابِ الْأَحْوَالِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، فَإِنَّهُمْ رَكِبُوا فِي التَّعَبُّدِ إِلَى رَبِّهِمْ أَعْلَى مَا بَلَغَتْهُ طَاقَتُهُمْ، حَتَّى كَانَ مِنْ أَصْلِهِمُ الْأَخْذُ بِعَزَائِمِ الْعِلْمِ، وَتَرْكِ الرُّخَصِ جُمْلَةً، فَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ مَا تَقَدَّمَ.
وَفِي "الصَّحِيحِ" أَيْضًا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بَيْتُهُ أَقْصَى بَيْتٍ فِي الْمَدِينَةِ، فَكَانَ لَا تُخْطِئُهُ الصَّلَاةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَتَوَجَّعْنَا لَهُ، فَقُلْنَا لَهُ: يَا فُلَانُ! لَوْ أَنَّكَ اشْتَرَيْتَ حِمَارًا يَقِيكَ مِنَ الرَّمْضَاءِ وَيَقِيكَ مِنْ هوام الأرض؟ فقال: أم وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ بَيْتِي مُطْنَبٌ بِبَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَحَمَلْتُ بِهِ2 حَتَّى أَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: فَدَعَاهُ، فَقَالَ له مثل
1 أخرجه ابن المبارك في الزهد" "رقم 1309 وأبو نعيم في "الحلية""1/ 260"، وابن أبي الدنيا في "الهواتف""رقم 13"، وابن شاهين في "فضائل الأعمال""رقم 133" بسند حسن، وحسنه شيخنا الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب""رقم 975".
وأخرج البزار في "مسنده""1/ 488/ رقم 1039- زوائده" من وجه آخر عن ابن عباس، وحسنه شيخنا أيضا في "صحيح الترغيب والترهيب""رقم 974".
وفي إسناد ابن شاهين عبد الله بن المؤمل المخزومي، وهو ضعيف.
قلت: وما بين المعقوفتين في الموطن الأول ساقط من "د"، وفي الموطن الأخير ساقط من الأصل.
2 في "ط": "به حملا".
ذَلِكَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ يَرْجُو لَهُ فِي أَثَرِهِ الأجر. فقال النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللَّهَ مَا احْتَسَبْتَ"1.
فَالْجَوَابُ أَنْ نَقُولَ:
أَوَّلًا:
إِنَّ هذه أخبار آحاد في قصية وَاحِدَةٍ2 لَا يَنْتَظِمُ مِنْهَا اسْتِقْرَاءٌ قَطْعِيٌّ، وَالظَّنِّيَّاتُ لَا تُعَارِضُ الْقَطْعِيَّاتِ، فَإِنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الْقَطْعِيَّاتِ.
وَثَانِيًا:
إِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى قَصْدِ نَفْسِ الْمَشَقَّةِ، فَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ قَدْ جَاءَ فِي "الْبُخَارِيِّ" مَا يُفَسِّرُهُ، فَإِنَّهُ زَادَ فِيهِ:"وَكَرِهَ أَنْ تُعَرَّى الْمَدِينَةُ قِبَلَ ذَلِكَ، لِئَلَّا تَخْلُوَ نَاحِيَتُهُمْ مِنْ حِرَاسَتِهَا".
وَقَدْ رَوَى عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا نَازِلًا بِالْعَقِيقِ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقِيلَ لَهُ عِنْدَ نُزُولِهِ الْعَقِيقَ3: لِمَ تَنْزِلُ الْعَقِيقَ فَإِنَّهُ يَشُقُّ بُعْدُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ؟ فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحِبُّهُ وَيَأْتِيهِ4، وَأَنَّ بَعْضَ الأنصار
1 أخرجه مسلم في "الصحيح""كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخطا إلى المساجد، 1/ 460/ رقم 663" عن أبي بن كعب رضي الله عنه.
2 هي البعد عن المسجد والمشقة في التردد إليه من المساكن البعيدة، وهذه القضية الواحدة هي التي وردت فيها أحاديث الآحاد، أما ما بقي من نقل ابن المبارك وعمل أصحاب الأحوال، فسيأتي الجواب عنه. "د".
3 إن كان العقيق هو مساكن بني سلمة، فلا مانع أن يكون للمحل فضيلة يفسرها الحديث بقوله:"وكره أن تعرى المدينة" فكان موضع رباط يثاب المرء على قصد وجوده فيه من هذه الوجهة، فلا تنافي بين فهم مالك وما يؤخذ من بقية الحديث لتفسيره، وإن كانت مساكنهم في غير العقيق، وأن مالكا إنما يتكلم عن أنصار غيرهم، وحادثة غير حادثتهم، فالأمر ظاهر، وسنزيدك بيانا. "د".
4 أخرج ابن شبَّة في"تاريخ المدينة""1/ 147/ 148"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار""4/ 195" والطبراني في "الكبير""7/ 6/ رقم 6222"، والبيهقي في "المعرفة" "2/ 367- 368" عن سلمة بن الأكوع في حديث في آخره:"إني أحب العقيق".
وإسناده ضعيف، فيه موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، واختلف عليه فيه وقال البيهقي:"وأما حديث موسى بن محمد بن إبراهيم، فهو حديث ضعيف، تفرد به موسى بن محمد، وكان يحيى بن معين يضعفه، ويقول: لا يكتب حديثه، وكذلك غيره من الأئمة قد أنكرواعليه ما روى من المناكير التي لم يتابع عليها". وانظر له "الميزان""4/ 218".
ويغني عنه ما أخرجه البخاري في "الصحيح""رقم 1534، 2337" عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: "أتاني آتٍ من ربي، فقال: صلِّ في هذا الوادي المبارك، وقل عمرة في حج".
و"الآتِ" هو جبريل، كما في رواية عند البيهقي، وانظر:"فتح الباري""3/ 392".
أَرَادُوا النَّقْلَةَ مِنْهُ إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَمَا تَحْتَسِبُونَ خُطَاكُمْ" 1، فَقَدْ فَهِمَ مَالِكٌ أَنَّ قَوْلَهُ:"أَلَا تَحْتَسِبُونَ خُطَاكُمْ" لَيْسَ مِنْ جِهَةِ إِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ فَضِيلَةِ الْمَحِلِّ2 الْمُنْتَقَلِ عنه.
1 أخرج البخاري في "الصحيح""كتاب الأذان، باب احتساب الآثار 2/ 139/ رقم 655" عن أنس مرفوعا: "يا بني سلمة! ألا تحتسبون آثاركم؟ " وقال عقبه: "قال مجاهد في قوله: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} . قال: خطاهم.
وأخرجه أيضا رقم "655" عن أنس بلفظ: "إن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم فينزلوا قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم: "قال: فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعَرُّوا المدينة، فقال:"ألا تحتسبون آثاركم؟ " قال مجاهد: خطاهم: آثارهم، أن يُمشى في الأرض بأرجلهم".
وأخرجه أيضا في "صحيحه""كتاب فضائل المدينة، باب كراهية النبي صلى الله عليه وسلم أن تُعرى المدينة 4/ 99/ رقم 1887" بنحو اللفظ الثاني.
2 كما ورد في البخاري في "صحيحه""رقم 1534، 2337، 7343"، وأبي داود في "السنن""رقم 1800" عن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي العقيق يقول: "أتاني آتٍ من ربي، فقال: صلِّ في هذا الوادي، وقل: عمرة وحجة".
وأخرج أبو داود عن مالك، قال:"لا ينبغي لأحد أن يجاوز المعرس إذا قفل إلى المدينة حتى يصلي ركعتين أو ما بدا له، وهو على مسافة ستة أميال من المدينة، ويؤخذ من حديث الترمذي: "كانت بنو سلمة في ناحية المدينة"، ومن كون العقيق على ستة أميال من المدينة أن العقيق غير مساكن بني سلمة، فإذا تم هذا، كانت الفضيلة هنا غير الفضيلة في مساكن بني سلمة، فهذه كأنها رباط وحراسة للمدينة، بخلاف العقيق، فالأشبه أن يكون تعبُّدًا، إلا أن الأمر يحتاج إلى إثبات أنها حادثة أخرى. "د".
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ الْمُبَارَكِ فَإِنَّهُ حُجَّةٌ مِنْ عَمَلِ الصَّحَابِيِّ إِذَا صَحَّ سَنَدُهُ عَنْهُ1، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا فِيهِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ عِظَمَ الْأَجْرِ ثَابِتٌ لِمَنْ عَظُمَتْ مَشَقَّةُ الْعِبَادَةِ عَلَيْهِ2، كَالْوُضُوءِ عند الكريهات، والظمأ والنصب في الجهاد، فإذن اخْتِيَارُ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه لِلصَّوْمِ فِي الْيَوْمِ الْحَارِّ كَاخْتِيَارِ مَنِ اخْتَارَ الْجِهَادَ عَلَى3 نَوَافِلِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَا أَنَّ فِيهِ قَصْدَ التَّشْدِيدِ عَلَى النَّفْسِ؛ لِيَحْصُلَ الْأَجْرُ بِهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ قَصْدُ الدُّخُولِ فِي عِبَادَةٍ عَظُمَ أَجْرُهَا؛ لِعِظَمِ مَشَقَّتِهَا، فَالْمَشَقَّةُ فِي هَذَا الْقَصْدِ تَابِعَةٌ لَا مَتْبُوعَةٌ، وَكَلَامُنَا إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمَشَقَّةُ فِي الْقَصْدِ غَيْرَ تَابِعَةٍ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الْأَنْصَارِيِّ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِ التَّشْدِيدِ، وَإِنَّمَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِ الصَّبْرِ عَلَى مَشَقَّةِ بُعْدِ الْمَسْجِدِ لِيَعْظُمَ أَجْرُهُ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا فِي هَذَا الْمَعْنَى.
وَأَمَّا شَأْنُ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ، فَمَقَاصِدُهُمُ الْقِيَامُ بِحَقِّ مَعْبُودِهِمْ، مَعَ اطِّرَاحِ النَّظَرِ فِي حُظُوظِ نُفُوسِهِمْ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ قَصَدُوا مُجَرَّدَ التَّشْدِيدِ عَلَى النُّفُوسِ وَاحْتِمَالِ الْمَشَقَّاتِ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَلِمَا سَيَأْتِي بعدُ إن شاء الله.
1 وسنده إليه حسن، وله شاهد به يصح، كما قدمنا.
وقال "خ": "اتفقوا على أن مذهب الصحابي ليس بحجة على غيره من الصحابة، واختلفوا في كونه حجة على التابعي فما دونه، والتحقيق أنه إذا لم يصرح بسنده في القضية لم يجب على المجتهد اتباعه؛ إذ لم يقم دليل على تكليف المجتهد باتباع من لم تثبت عصمته".
2 انظر: "فتاوى ابن تيمية""26/ 85، 86".
3 هذا اختار نوعا من العبادة كانت المشقة من لوازمه، فلا يظهر فيه قصد المشقة، أما تحرى أبي موسى لليوم الشديد الحرارة ليصومه دون اليوم القليل الحرارة لا يصومه، فإنه ظاهر في تحريه هذا قصد المشقة ليعظم أجره، اتباعا لنصيحة الرجل الذي ناداهم، ولعل محل الجواب قوله:"إنما فيه قصد الدخول..... إلخ". "د".
وَثَالِثًا:
إِنَّ مَا اعْتُرِضَ بِهِ مُعَارَضٌ بِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ أَرَادُوا التَّشْدِيدَ بِالتَّبَتُّلِ، حِينَ قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا، فَأَصُومُ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أنا، فأقوم وَلَا أَنَامُ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَّا أَنَا، فَلَا آتِي النِّسَاءَ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَأَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَقَالَ:"مَنْ رغب من سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي"1.
وَفِي الْحَدِيثِ: "وردَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم التَّبَتُّلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا"2.
"وردَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، فَأَمَرَهُ بِإِتْمَامِ صِيَامِهِ، وَنَهَاهُ عَنِ الْقِيَامِ فِي الشَّمْسِ"3.
وَقَالَ: "هلك المتنطعون"4.
1 مضى تخريجه "1/ 522"، وهو صحيح.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب النكاح، باب ما يكره من التبتل والخصاء 9/ 117/ رقم 5073، 5074" ومسلم في "الصحيح""كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة 2/ 1020/ رقم 1402"، والترمذي في "الجامع""أبواب النكاح، باب ما جاء في النهي عن التبتل 3/ 394/ رقم 1083"- وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، والنسائي في "المجتبى""كتاب النكاح، باب النهي عن التبتل، 6/ 58"، وابن ماجه في "السنن""كتاب النكاح، باب النهي عن التبتل 1/ 593/ 1848"، وأحمد في "المسند""1/ 173، 175، 176"، وعبد الرزاق في "المصنف""6/ 168"، والدارمي في "السنن""2/ 133"، وأبو يعلى في "المسند""2/ 120، 128/ رقم 778، 802"، والبيهقي في "الكبرى""7/ 79"، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، 11/ 586/ رقم 6704" من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
4 أخرجه مسلم في "صحيحه""كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، 4/ 2055/ رقم 2670"، وأحمد في "المسند""1/ 386"، وأبو داود في "السنن""كتاب السنة، باب لزوم السنة 4/ 201/ رقم 4608"، والطبراني في "الكبير""10/ 216".
وَنَهْيُهُ عَنِ التَّشْدِيدِ شَهِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ، بِحَيْثُ صَارَ أَصْلًا فِيهَا قَطْعِيًّا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ التَّشْدِيدُ عَلَى النَّفْسِ، كَانَ قَصْدُ الْمُكَلَّفِ إِلَيْهِ مُضَادًّا لِمَا قَصَدَ الشَّارِعُ مِنَ التَّخْفِيفِ الْمَعْلُومِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، فَإِذَا خَالَفَ قَصْدُهُ قَصْدَ الشَّارِعِ، بَطَلَ وَلَمْ يَصِحَّ، وَهَذَا وَاضِحٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَصْلٌ:
وَيَنْبَنِي أَيْضًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَصْلٌ آخَرُ:
وَهُوَ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمَأْذُونَ فِيهَا، إِمَّا وُجُوبًا، أَوْ نَدْبًا، أَوْ إِبَاحَةً، إِذَا تَسَبَّبَ عَنْهَا مَشَقَّةٌ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُعْتَادَةً فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ، أَوْ لَا تَكُونَ مُعْتَادَةً؛ فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَادَةً، فَذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَتِ الْمَشَقَّةُ فِيهِ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ مِنْ جِهَةِ مَا هِيَ مَشَقَّةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعْتَادَةً، فَهِيَ أَوْلَى أن لا تَكُونَ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ، وَلَا يَخْلُو عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ حَاصِلَةً بِسَبَبِ الْمُكَلَّفِ وَاخْتِيَارِهِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ لَا يَقْتَضِيهَا بِأَصْلِهِ، أَوْ لَا.
فَإِنْ كَانَتْ حَاصِلَةً بِسَبَبِهِ كَانَ ذَلِكَ مَنْهِيًّا عَنْهُ1 وَغَيْرَ صَحِيحٍ فِي التَّعَبُّدِ بِهِ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَا يَقْصِدُ الْحَرَجَ فِيمَا أَذِنَ فيه، ومثال هذا حديث2 الناذر للصيام
1 أي: في الأنواع الثلاثة، وقوله: غير صحيح في التعبد به" خاص بنوعي الواجب والمندوب، ولا يأتي في المباح. "د".
2 أخرج البخاري في "صحيحه""كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي المعصية 11/ 586/ رقم 6704"، وأبو داود في "السنن""كتاب الأيمان والنذور، باب ما جاء في النذر في المعصية 3/ 235/ رقم 3300"، وابن ماجه في "السنن""كتاب الكفارات، باب من خلط في نذره طاعة بمعصية 1/ 690/ رقم 2136" عن ابن عباس، قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس، فسأل عنه، قالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم. قال:"مُرْهُ؛ فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه".
قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ1 فِي أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ بِإِتْمَامِ الصَّوْمِ وَأَمْرِهِ لَهُ بِالْقُعُودِ وَالِاسْتِظْلَالِ:"أَمَرَهُ أَنْ يُتِمَّ مَا كَانَ لِلَّهِ طَاعَةً، وَنَهَاهُ عَمَّا كَانَ لِلَّهِ مَعْصِيَةً"؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ تَعْذِيبَ النُّفُوسِ سَبَبًا لِلتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَلَا لِنَيْلِ مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، إِلَّا أَنَّ هَذَا النَّهْيَ مَشْرُوطٌ2 بِأَنْ تَكُونَ الْمَشَقَّةُ أَدْخَلَهَا عَلَى نَفْسِهِ مُبَاشَرَةً، لَا بِسَبَبِ الدُّخُولِ فِي الْعَمَلِ، كَمَا فِي الْمِثَالِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ بيِّن.
وأما إن كانت تابعة للعمل كالمريض غير الْقَادِرِ عَلَى الصَّوْمِ أَوِ الصَّلَاةِ قَائِمًا، والحاجِّ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا، إِلَّا بِمَشَقَّةٍ خَارِجَةٍ عَنِ الْمُعْتَادِ فِي مِثْلِ الْعَمَلِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي جَاءَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [الْبَقَرَةِ: 185] ، وَجَاءَ فِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ الرُّخَصِ.
وَلَكِنَّ صَاحِبَ هَذَا إِنْ عَمِلَ بِالرُّخْصَةِ، فَذَاكَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ3 عَامِلًا لِمُجَرَّدِ حَظِّ نَفْسِهِ، وَأَنْ يَكُونَ4 قَبِلَ الرُّخْصَةَ مِنْ رَبِّهِ؛ تَلْبِيَةً لِإِذْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِالرُّخْصَةِ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ أَوْ يَظُنَّ أَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ جِسْمِهِ أَوْ عَقْلِهِ أَوْ عَادَتِهِ فسادٌ يَتَحَرَّجُ بِهِ وَيَعْنَتُ، وَيَكْرَهُ بِسَبَبِهِ الْعَمَلَ، فَهَذَا أَمْرٌ لَيْسَ لَهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ وَلَا ظَنَّ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا دَخَلَ فِي الْعَمَلِ دَخَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَحُكْمُهُ الْإِمْسَاكُ عَمَّا أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْمُشَوِّشُ.
وَفِي مِثْلِ هَذَا جَاءَ: "لَيْسَ مِنَ الْبَرِّ الصِّيَامُ في السفر"5.
1 في "الموطأ""2/ 476- رواية يحيى".
2 هذا أصل الفرض في كلامه، حيث قال:"مع أن ذلك العمل لا يقتضيها"، فهذا الشرط كالتأكيد لموضوع الكلام. "د".
"3، 4" وتقدم الفرق بينهما، هو أنه في الأولى لا ثواب له، إلا أنه دفع عن نفسه الحرج، وفي الثاني له ثوابه مع رفع الحرج "د".
5 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظُلِّلَ عليه واشتد الحر: "ليس من البر الصوم في السفر"، 4/ 183/ رقم 1946"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر" 2/ 786/ رقم 1115" عن جابر رضي الله عنه.
وَفِي نَحْوِهِ نُهِي عَنِ الصَّلَاةِ وَهُوَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ أَوْ وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ1،
وَقَالَ: "لَا يقضِ الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ"2.
وَفِي الْقُرْآنِ: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النِّسَاءِ: 43] .
إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا نَهَى عَنْهُ بِسَبَبِ عَدَمِ اسْتِيفَاءِ الْعَمَلِ الْمَأْذُونِ فِيهِ عَلَى كَمَالِهِ، فَإِنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى عَمَلِ الْعَبْدِ لِيَكُونَ خَالِصًا مِنَ الشَّوَائِبِ، وَالْإِبْقَاءُ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ فِي ترفُّهٍ وسعةٍ حالَ دخولِهِ فِي رِبْقَةِ التَّكْلِيفِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَعْلَمَ أَوْ يَظُنَّ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْفَسَادُ، وَلَكِنْ فِي الْعَمَلِ مَشَقَّةٌ غَيْرُ مُعْتَادَةٍ، فَهَذَا أَيْضًا مَوْضِعٌ لِمَشْرُوعِيَّةِ الرخصة على الجملة، وينفصل الْأَمْرُ فِيهِ3 فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ زِيَادَةَ الْمَشَقَّةِ مِمَّا يَنْشَأُ عَنْهَا الْعَنَتُ، بَلِ الْمَشَقَّةُ فِي نَفْسِهَا هِيَ الْعَنَتُ وَالْحَرَجُ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا، فَهِيَ مِمَّا لَا يُقْدَرُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهِ عَادَةً.
1 مضي تخريجه "1/ 489".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب الأحكام، باب هل يقضي الحاكم أو يفتي وهو غضبان، 13/ 136/ 7158"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان 3/ 1342-1343/ رقم 1717"، والنسائي في "المجتبى""كتاب آداب القضاة، باب ذكر ما ينبغي للحاكم أن يجتنبه، 8/ 237- 238"، وابن ماجه في "السنن""كتاب الأحكام، باب لا يحكم الحاكم وهو غضبان، 2/ 776/ رقم 2316" من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
3 أي: في أي الأمرين أفضل، أهو الأخذ بالرخصة أم بالعزيمة؟ وقد شفى العليل في ذلك رحمه الله. "د".
إِلَّا أَنَّ هُنَا وَجْهًا ثَالِثًا1، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْمَشَقَّةُ غَيْرَ مُعْتَادَةٍ، لَكِنَّهَا صَارَتْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ النَّاسِ كَالْمُعْتَادَةِ، وَرُبَّ شَيْءٍ هَكَذَا، فَإِنَّ أَرْبَابَ الْأَحْوَالِ مِنَ العُبّاد وَالْمُنْقَطِعِينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، الْمُعَانِينَ عَلَى بَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي التَّكَالِيفِ قَدْ خُصوا بِهَذِهِ الْخَاصِّيَّةِ، وَصَارُوا مُعانين عَلَى مَا انْقَطَعُوا إِلَيْهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قوله تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [الْبَقَرَةِ: 45] ، فَجَعَلَهَا كَبِيرَةً عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَاسْتَثْنَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ كَانَ إِمَامَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ الَّذِي كَانَتْ قُرَّةُ عَيْنِهِ فِي الصَّلَاةِ2، حَتَّى كَانَ يَسْتَرِيحُ إِلَيْهَا مِنْ تَعَبِ الدُّنْيَا3، وَقَامَ حَتَّى تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهُ4، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَمَنْ خُصّ بِوِرَاثَتِهِ فِي هَذَا النَّحْوِ نَالَ مِنْ بَرَكَةِ هَذِهِ الْخَاصِّيَّةِ5.
وَهَذَا الْقِسْمُ6 يَسْتَدْعِي كَلَامًا يَكُونُ فِيهِ مَدُّ بَعْضِ نَفَسٍ، فَإِنَّهُ مَوْضِعٌ مُغْفَلٌ قَلَّ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ، مَعَ تَأَكُّدِهِ فِي أصول الشريعة.
1 هو بعض ما دخل في الثاني، فالمشقة غير معتادة، ويعلم أو يظن أنها لا تدخل فسادا، إلا أنها صارت بالنسبة له كأنها معتادة. "د".
2 كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "وجعلت قرة عيني في الصلاة"، وسيأتي تخريجه "ص240"، وهو صحيح"
3 كما سيأتي "ص240".
4 كما سيأتي "ص241".
5 من أقبل على العبادة بيقين ساطع وجد فيها من الارتياح ما يود معه لو أن الحياة لا تطالبه بما يلفته عنها ولو لحظة، فليس العابد ببصيرة وضاءة كما يحسب أسارى الأهواء في ضائقة من حرج النفس واقتحام المكاره، بل هو في لذة لا تنقص عند من يذوق طعمها عن لذة إدراك المعارف السامية والحكمة الغامضة. "خ".
6 أي: الثاني بنوعيه، وهو أَنْ يَعْلَمَ أَوْ يَظُنَّ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عليه في العمل به فساد في نفسه أو عقله..... إلخ، فقوله: "وَيَنْتَظِمُ تَحْتَ هَذَا الْمَعْنَى الْخَوْفُ مِنْ إِدْخَالِ الفساد عليه في جسمه أو عقله
…
إلخ" لا ينافي أصل موضوع هذا القسم؛ لأن الخوف من ذلك أو من التقصير غير العلم أو الظن بحصول هذا الفساد...... إلخ، الذي جعله أول الوجهين في الفصل السابق، هذا وقد تكلم في هذا الفصل على الوجه الأول من وجهي رفع الحرج وهو الخوف من الانقطاع.....إلخ، وسيأتي في الفصل بعده تفصيل الوجه الثاني، وهو الخوف من التقصير عند المزاحمة.... إلخ، هذا باعتبار النظر في الموضع هنا، وسيأتي لنا في آخر المسألة مناقشة المؤلف في صنيعه فيها بوجه عام. "د".
فَصْلٌ:
فَاعْلَمْ أَنَّ الْحَرَجَ مَرْفُوعٌ عَنِ الْمُكَلَّفِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْخَوْفُ مِنَ الِانْقِطَاعِ مِنَ الطَّرِيقِ، وَبُغْضِ الْعِبَادَةِ، وَكَرَاهَةِ التَّكْلِيفِ، وَيَنْتَظِمُ تَحْتَ هَذَا الْمَعْنَى الْخَوْفُ مِنْ إِدْخَالِ الْفَسَادِ عَلَيْهِ فِي جِسْمِهِ أَوْ عَقْلِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ حَالِهِ.
وَالثَّانِي: [خَوْفُ التَّقْصِيرِ] 1 عِنْدَ مُزَاحَمَةِ الْوَظَائِفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَبْدِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَنْوَاعِ، مِثْلِ قِيَامِهِ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، إِلَى تَكَالِيفَ أُخَر تَأْتِي فِي الطَّرِيقِ، فَرُبَّمَا كَانَ التَّوَغُّلُ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ شَاغِلًا عَنْهَا، وَقَاطِعًا بِالْمُكَلَّفِ دُونَهَا، وَرُبَّمَا أَرَادَ الْحَمْلَ لِلطَّرَفَيْنِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِقْصَاءِ، فَانْقَطَعَ عَنْهُمَا.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَإِنَّ اللَّهَ وَضَعَ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الْمُبَارَكَةَ حَنِيفِيَّةً سَمْحَةً سَهْلَةً، حَفِظَ2 فِيهَا عَلَى الْخَلْقِ قُلُوبَهُمْ، وَحَبَّبَهَا لَهُمْ بِذَلِكَ، فَلَوْ عَمِلُوا عَلَى خِلَافِ السَّمَاحِ وَالسُّهُولَةِ، لَدَخَلَ عَلَيْهِمْ فِيمَا كُلِّفُوا بِهِ مَا لَا تَخْلُصُ بِهِ أَعْمَالُهُمْ3، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الْحُجُرَاتِ: 7] إِلَى آخِرِهَا، فَقَدْ أَخْبَرَتِ الْآيَةُ أَنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ بِتَيْسِيرِهِ وَتَسْهِيلِهِ، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِنَا بِذَلِكَ، وَبِالْوَعْدِ الصادق بالجزاء عليه.
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 أي: من النفرة من تكاليفها. "د".
3 انظر أثر وقوع ذلك في "مجموع فتاوى ابن تيمية""20/ 114/ 115".
وَفِي الْحَدِيثِ: "عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا" 1
وَفِي حَدِيثِ قِيَامِ رَمَضَانَ:
"أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ شَأْنُكُمْ، وَلَكِنْ خشيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا"2.
وَفِي حَدِيثِ الْحَوْلَاءِ بِنْتِ تُوَيْتٍ حِينَ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ رضي الله عنها: هَذِهِ الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ، زَعَمُوا أَنَّهَا لَا تَنَامُ اللَّيْلَ. فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:"لَا تَنَامُ اللَّيْلَ؟! خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لَا يَسْأَمُ اللَّهُ حَتَّى تَسْأَمُوا"3.
وَحَدِيثِ أَنَسٍ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بين ساريتين،
1 سيأتي تخريجه في "ص405،وتقدم 1/ 526"، وهو في "الصحيحين" وغيرهما.
2 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، 4/ 251/ رقم 2012"، ومسلم في "الصحيح""كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، 1/ 524/ رقم 761 بعد 178" عن عائشة مرفوعا، والمذكور لفظ مسلم.
قال "خ" هنا ما نصه" "قد يكون في العمل نفسه وجه من الوجوه الداعية إلى التكليف به على سبيل الوجوب كالصلوات الخمس وقد يكون إيجابه منوطا بحالة تعرض له كأدب الوفاء والصدق مع الخالق في تقرير حكمة إيجاب النذر، ومن الجائز أن يقع في الشريعة قسم ثالث وهو ما يكون سببه قيام الجماعة بالعمل ومداومتهم عليه حتى ينتظم في إعلام هدايتهم ويصبح من مظاهر طاعتهم، ويقرب من هذا إيجاب بعض المندوبات على الفرد متى دخل في عملها، وهذا ما وقع في نفس النبي عليه الصلاة والسلام ومن أجله ترك الاستمرار على صلاة التراويح في جماعة".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب التهجد، باب ما يكره من التشديد في العبادة، 3/ 36/ رقم 1151"، ومسلم في "الصحيح""كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، 1/ 542/ رقم 785" وغيرهما.
قال في حاشية الأصل: "تويت: بتاءين مصغر كما تقدم في حاشية على هذا الكتاب".
فَقَالَ: "مَا هَذَا؟ " قَالُوا: حَبْلٌ لِزَيْنَبَ تُصَلِّي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به فقال: "حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فَتَرَ، قَعَدَ"1.
وَحَدِيثِ مُعَاذٍ حِينَ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام: "أفتانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ" 2 حِينَ أَطَالَ الصَّلَاةَ بِالنَّاسِ، وَقَالَ:"إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ، وَالْكَبِيرَ، وَذَا الْحَاجَةِ"3.
وَنَهَى عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ4.
وَنَهَى عَنِ النَّذْرِ، وَقَالَ:"إِنَّ اللَّهَ يَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ، وَإِنَّهُ لَا يُغْنِي مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا" 5، أَوْ كَمَا قَالَ، لَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ مُعَلَّلٌ معقول المعنى بما دل عليه.
1 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب التهجد" باب ما يكره من التشديد في العبادة، 3/ 36/ رقم 1151"، ومسلم في "صحيحه" "كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، 1/ 541-542/ رقم 785".
2 سيأتي لفظ الحديث في "ص248"، وسيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى هناك.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الأذان، باب تخفيف الإمام في القيام وإتمام الركوع والسجود 2/ 197-198/ رقم 702، وكتاب الأحكام، باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان 13/ 136/ رقم 7159"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام 1/ 340/ رقم 466" من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه،
4 قطعة من حديث سيأتي لفظه عند المصنف قريبا.
5 أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب القدر، باب إلقاء العبد النذر إلى القدر، 11/ 499/ رقم 6608، وكتاب الأيمان والنذور، باب الوفاء بالنذر، 11/ 575/ رقم 6692 و 3393"، ومسلم في "صحيحه""كتاب النذر، باب النهي عن النذر وأنه لا يردُّ شيئا 3/ 1260-1261 / رقم 1639"، وأبو داود في "سننه""كتاب الأيمان والنذور، باب النهي عن النذر 3/ 231- 232/ رقم 3287"، والنسائي في "المجتبى""كتاب الأيمان والنذور، النهي عن النذر 7/ 15- 16، 16"، والدارمي في "السنن""كتاب النذور والأيمان، باب النهي عن النذر 2/ 185، وابن ماجه في "السنن" "كتاب الكفارات، باب النهي عن النذر، 1/ 686/ رقم 2122"، وأحمد في المسند""2/ 61"، والبيهقي في "السنن الكبرى""10/ 77" عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
وفي الباب عن أبي هريرة عند البخاري "رقم 6694"، ومسلم "رقم 1640"، والترمذي "رقم 1538"، وابن الجارود" "رقم 932"، وأحمد "2/ 235، 242، 314، 373، 412، 463"، وغيرهم.
ما تقدم من السآمة والمل وَالْعَجْزِ، وَبُغْضِ الطَّاعَةِ وَكَرَاهِيَتِهَا1.
وَقَدْ جَاءَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ:"إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُبَغِّضُوا إِلَى أَنْفُسِكُمْ عبادةَ اللَّهِ، فَإِنَّ المُنبَتَّ لَا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى"2.
1 انظر في هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية""25/ 272 وما بعدها".
2 تكلم عليه السخاوي في "الأجوبة المرضية""ق 2، 3"، بكلام بديع، نسوق نصه، ونزيد عليه في حنايا كلامه، ونضع ذلك بين معقوفتين، ثم نتبع ذلك بما فاته.
قال رحمه الله تعالى: حديث: "المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى" البزار في "مسنده"[كشف الأستار 74"، "مجمع الزوائد" "1/ 67"، وقال عقبه: "وهذا روي عن ابن المنكدر مرسلا، ورواه عبيد الله بن عمرو عن سوقة عن ابن المنكدر عن عائشة، وابن المنكدر لم يسمع من عائشة] ، وأبو نعيم في بعض تصانيفه، والحاكم في "علوم الحديث" له [ص 95و 96] ، والبيهقي في "سننه""عنه ["3/ 18] ، وابن طاهر في "صفوة التصوف" من طريق الحاكم، [والقضاعي في مسنده "الشهاب" "1147و 1148"، والقزويني في "التدوين" "1/ 237- 238"، وأبو الشيخ في "الأمثال" "رقم 229"، والخطابي في "العزلة" "111"، والعسكري في "الأمثال" "1/ 544- 545"] ، كلهم من حديث خلاد بن يحيي عن أبي عقيل يحيى بن المتوكل عن محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى"، قال الحاكم عقب تخريجه" "هذا حديث غريب المتن والإسناد، وكل ما روي فيه فهو من الخلاف =
.........................................................................................
= على محمد بن سوقة، فأما ابن المنكدر عن جابر، فليس يرويه غير محمد بن سوقة وعنه أبو عقيل، وعنه خلاد بن يحيى" انتهى.
وقال البخاري في ترجمة محمد بن سوقة من "تاريخه"[1/ 1/ 102] : "قال لي إسحاق: أخبرنا عيسى بن يونس حدثنا محمد بن سوقة حدثني ابن محمد بن المنكدر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين"، قال عيسى: أنا نصصت ابن سوقه عنه، فقال ابن محمد المنكدر، ورواه أبو عقيل عن ابن سوقة عن ابن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم والأول أصح" انتهى.
وأبو عقيل ضعفه ابن المبارك، وعلي بن المديني [في "سؤالات محمد بن عثمان بن أبي شيبة" له رقم 64] ، والنسائي [في الضعفاء والمتروكين] له "635"] وغيرهم وقال، وقال حرب:"قلت لأبي عبد الله -يعني: أحمد بن حنبل- كيف حديثه؟ فكأنه ضعفه" وقال أبو زرعة: "لين"
وقال ابن حبان [في المجروحين" "3/ 116] : "ينفرد بأشياء ليس لها أصول، ولا يرتاب الممعن في الصناعة أنها معمولة"، وقال ابن عدي [في الكامل" "7/ 2665"] :"عامة أحاديثه غير محفوظة" وقال الساجي: منكر الحديث: وقال أبو أحمد الحاكم: "ليس بالقوي عندهم"، وقال ابن عبد البر:"هو عند جميعهم ضعيف"، [وانظر "تهذيب الكمال" "31/ 511"] .
ولحديثه شاهد، لكنه ضعيف أيضا، أخرجه البيهقي في "سننه"["3/ 19"، و"الشعب" "3886]، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ -هو الحاكم- أخبرنا محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى حدثنا الفضل بن محمد الشعراني حدثنا أبو صالح -يعني: عبد الله بن صالح كاتب الليث- حدثنا الليث -هو ابن سعد- عن ابن عجلان -يعني محمدا- عن مولى لعمر بن عبد العزيز عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك، فإن المنبت لا سفرا قطع ولا ظهرا أبقى، فاعمل عمل امرئ يظن أن لا يموت أبدا، واحذر حذرا تخشى أن تموت غدا"، والفضل بن محمد، قال أبو حاتم:"تكلموا فيه" وقال الحاكم [كما في "السير" "13/ 317"، و"سؤالات السجزي" "224] : "كان أديبا فقيها عابدا عارفا بالرجال، وكان يرسل شعره فلقب بالشعراني، وهو ثقة، لم يطعن فيه بحجة، وقد سئل عنه الحسين بن محمد القباني فرماه بالكذب، وقال: سمعت أبا عبد الله ابن الأخرم يسأل عنه، فقال: صدوق، إلا أنه كان غاليا في التشيع، والمولى- يعنى: المبهم المتقدم في إسناد الحديث- لم أقف على اسمه وما عرفته، والله أعلم".
......................................................................................
= [وضعفه شيخنا في "الضعيفة" 1/ 64-65] .
وله طريق ثالثة، لكنها مختصرة، أخرجها عبد الله ابن الإمام أحمد في "مسند أبيه"[3/ 199]، قال: وجدت في كتاب أبي بخط يده: حدثنا زيد بن الحباب أخبرني عمرو بن حمزة حدثنا خلف أبو الربيع إمام مسجد سعيد بن أبي عروبة حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال خلف أبو الربيع إمام مسجد سعيد بن أبي عروبة حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق"، وخلف هذا غير خلف بن مهران العدوي الذي روى له النسائي في "المجتبى" ["رقم 4446"] حديث:"من قتل عصفورا عبثا...."، وإن كان صنيع المزي في "تهذيبه"["8/ 296"] يقتضي أنهما واحد، فإن البخاري قد فرق بينهما في ["تاريخه" "3/ رقم 653، 655"] ، فجعل خلف بن مهران إمام مسجد بني عدي غير خلف أبي الربيع إمام مسجد سعيد بن أبي عروبة، وكذا قال أبو حاتم [في "الجرح والتعديل" "3/ رقم 1678، 1679"] ، وذكر أن إمام مسجد سعيد يروي عن أنس، قال البخاري:"وعنه عمرو بن حمزة القيسي، لا يتابع في حديثه"، وقال ابن خزيمة:"لا أعرف خلفا بعدالة ولا جرح"، وكذا قال في الراوي عنه، وتوقف في صحة حديثهما، وقال ابن عدي في الراوي عنه [في "الكامل" "5/ 1793"] :"مقدار ما يرويه غير محفوظ" وقال الدارقطني: "ضعيف".
قلت: وزعم الهيثمي [في "مجمع الزوائد" "1/ 67"] أن رجاله موثقون، وأن خلفا لم يدرك أنسا ويتعقب عليه بما تقدم، [وزاد الزبيدي في "اتحاف السادة المتقين" "9/ 41" نسبته للضياء، وعزاه ابن رجب في "المحجة" "70" لحميد بن زنجويه] .
وعلى كل حال، فالحديث ضعيف، إلا أن هذه الطريق على اختصارها أجود من اللتين قبلها، وبالله التوفيق، انتهى كلام السخاوي، ثم تحدث عن شرح الحديث، فراجعه إن شئت، وهو في "فتاويه""1/ 14/ 19" المطبوعة حديثا.
وله طريق رابعة أخرجه البيهقي في "الشعب""رقم 3885"، أخبرنا أبو الحسين بن بشران أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد المصري حدثنا عبد الله بن أبي مريم حدثنا علي بن معبد حدثنا عبيد الله بن عمرو عن محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره وقال:"ورواه أبو عقيل يحيى بن المتوكل عن محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر، ورواه أبو معاوية عن محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن النبي مرسلا وهو الصحيح، وقيل غير ذلك".
وذكره ابن حجر في "فتح الباري""11/ 297" من حديث جابر، ثم قال:"وله شاهد في "الزهد" ابن المبارك "رقم 1334" من حديث عبد الله بن عمرو موقوف" والحديث مرفوعا ضعيف، والله أعلم.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: نَهَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ: قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ. فَقَالَ: "إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي"1.
وَحَاصِلُ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ النَّهْيَ لِعِلَّةٍ مَعْقُولَةِ الْمَعْنَى مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالنَّهْيُ دَائِرٌ مَعَ الْعِلَّةِ وُجُودًا وَعَدَمًا، فَإِذَا وُجِدَ مَا عَلَّلَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، كَانَ النَّهْيُ مُتَوَجِّهًا وَمُتَّجِهًا، وَإِذَا لَمْ تُوجَدْ، فَالنَّهْيُ مَفْقُودٌ، إِذِ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَيْدَانِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
ضَرْبٌ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ إِدْخَالِ نَفْسِهِ فِي الْعَمَلِ تِلْكَ الْمَشَقَّةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْمُعْتَادِ، فَتُؤَثِّرُ فِيهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ فَسَادًا، أَوْ تُحْدِثُ لَهُ ضَجَرًا وَمَلَلًا، وَقُعُودًا عَنِ النَّشَاطِ إِلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي الْمُكَلَّفِينَ، فَمِثْلُ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَكِبَ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا فِيهِ ذَلِكَ بَلْ يَتَرَخَّصُ فِيهِ بِحَسَبِ مَا شُرِعَ لَهُ فِي التَّرَخُّصِ، إِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، أَوْ يَتْرُكُهُ إِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ تَرْكُهُ، وَهُوَ مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:"لَا يقضِ الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ" 2، وَقَوْلُهُ:"إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا" 3، وهو الذي أشار به عليه.
1 أخرجه البخاري في "الصحيح" كتاب الصوم، باب الوصال، 4/ 202/ رقم 1964"،وإسحاق بن راهويه في "المسند" "4/ ق 77/ ب" ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" "4/ 282"- وأحمد في "المسند" "6/ 242، 258"، والفريابي في "الصيام" "29" وغيرهم.
2 مضى تخريجه "ص231"، وهو في "الصحيحين".
3 جزء من حديث، وفيه قصة ستأتي عند المصنف قريبا "ص247- 248" أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع، 4/ 209/ رقم 1968، وكتاب الأدب، باب صنع الطعام والتكلف للضيف، 10/ 534/ رقم 6139"، ومسلم في صحيحه" "كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر، 2/ 813/ رقم 182".
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّهُ يَسْرُدُ الصَّوْمَ، وَقَدْ قَالَ بَعْدَ الْكِبَرِ: لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي شَأْنُهُ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَلَلُ وَلَا الْكَسَلُ، لِوَازِعٍ هُوَ أَشَدُّ2 مِنَ الْمَشَقَّةِ أَوْ حَادٌّ يَسْهُلُ بِهِ الصَّعْبُ أَوْ لِمَا لَهُ فِي الْعَمَلِ مِنَ الْمَحَبَّةِ، وَلِمَا حَصَلَ لَهُ فِيهِ مِنَ اللَّذَّةِ، حَتَّى خَفَّ عَلَيْهِ مَا ثَقُلَ عَلَى غَيْرِهِ، وَصَارَتْ تِلْكَ الْمَشَقَّةُ فِي حَقِّهِ غَيْرَ مَشَقَّةٍ، بَلْ يَزِيدُهُ كَثْرَةُ الْعَمَلِ وَكَثْرَةُ الْعَنَاءِ فِيهِ نُورًا وَرَاحَةً، أَوْ يُحْفَظُ عَنْ تَأْثِيرِ ذَلِكَ الْمُشَوِّشِ فِي الْعَمَلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:"أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ"3.
وَفِي الْحَدِيثِ: "حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ...."، قال:"وجعلت قرة عيني في الصلاة"4.
1 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الصوم، باب حق الجسم في الصوم، 4/ 217- 218/ رقم 1975" ومسلم في "صحيحه""كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، 2/ 813- 814/ رقم 1159"، والمذكور لفظ البخاري.
ولمسلم في رواية "لأن أكون قبلت الثلاث الأيام التي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أحب إلى من أهلي ومالي". وله في رواية: "فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله صلى الله عليه وسلم".
2 في "ط": "أشق".
3 أخرجه أبو داود في "السنن""كتاب الآداب، باب في صلاة العتمة، "4/ 296-297/ رقم 4985، 4986"، وأحمد في "المسند" "5/ 394، 371" من حديث رجل من الصحابة، وإسناده صحيح، وسماه الطبراني في "المعجم الكبير" "6/ 276-277/ رقم 6214"، فأخرجه من مسند سلمان بن خالد الخزاعي.
وانظر: "تخريج أحاديث الإحياء""3/ 101"، و"صحيح الجامع الصغير""رقم 7892"، و"مشكاة المصابيح""رقم 1253".
4 أخرجه أحمد في "المسند""3/ 128، 199، 285"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى""8/ 39"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب عشرة النساء، باب حب النساء، 7/ 61،=
وَقَالَ لَمَّا قَامَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ أَوْ تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهُ: "أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟! "1.
وَقِيلَ لَهُ عليه الصلاة والسلام: أَنَأْخَذُ عَنْكَ فِي الْغَضَبِ والرضى؟ قال: "نعم"2.
= والحاكم في "المستدرك""2/ 160"، ومحمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة""1/ 331، 332 / رقم 322 و323"، وأبو يعلى في "المسند""6/ 199-200، 237/ رقم 3482، 3530"، والبيهقي في "السنن الكبرى""7/ 78"، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم "ص98، 229-230"، والطبراني في "المعجم الصغير" "1/ 262"، وسنده حسن، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وصححه ابن القيم في "زاد المعاد" "1/ 150-151" وقال: "ومن رواه "حبب إليَّ من دنياكم ثلاث"، فقد وهم، ولم يقل صلى الله عليه وسلم:"ثلاث" والصلاة ليست من أمور الدنيا التي تضاف إليها".
وقال ابن كثير في "الشمائل""ص38" في الرواية التي فيها "من دنياكم": "وليس بمحفوظ بهذا، فإن الصلاة ليست من أمور الدنيا وإنما هي من أهم شئون الآخرة".
وكذا قال العراقي وابن حجر والسخاوي، وانظر:"التلخيص الحبير""3/ 116"، و"المقاصد الحسنة""ص180".
1 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب التفسير"، باب " {يَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر} ، 8/ 584/ رقم 4837"، ومسلم في "صحيحه""كتاب صفة القيامة والجنة والنار، 4/ 2172/ رقم 2820" من حديث عائشة رضي الله عنها.
وأخرجه البخاري في "الصحيح""رقم 4836"، ومسلم في "الصحيح""رقم 2819"، وغيرهما من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
2 أخرج نحوه أبو داود في السنن" "كتاب العلم، باب في كتابة العلم، 3/ 318/ رقم 3646"، وأحمد في المسند "2/ 162، 192، 207، 215"، وابن أبي شيبة "المصنف" "9/ 49" والدارمي في "السنن" "1/ 125"، والحاكم في "المستدرك" "1/ 105-106"، والخطيب البغدادي في "تقييد العلم" "77-80"، وابن عبد البر في "الجامع" "رقم 388، 389" من طرق عن عبد الله بن عمرو، وبعضها صحيح. قال ابن حجر في "الفتح" "1/ 207": ولهذا طرق عن عبد الله بن عمرو يقوي بعضها بعضا".
وَهُوَ الْقَائِلُ فِي حَقِّنَا: "لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ" 1 وَهَذَا2 وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِهِ، فَالدَّلِيلُ صَحِيحٌ.
وَجَاءَ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنِ احْتِمَالِ الْمَشَقَّةِ فِي الْأَعْمَالِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا دَائِمًا كَثِيرٌ.
وَيَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ يَلِيهِمْ رضي الله عنهم مِمَّنِ اشْتَهَرَ بِالْعِلْمِ وَحَمْلِ الْحَدِيثِ وَالِاقْتِدَاءِ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ، كَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ؛ وَمِنَ التَّابِعِينَ، كَعَامِرِ بْنِ عَبْدِ قَيْسٍ، وَأُوَيْسٍ، وَمَسْرُوقٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، وَالرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَاهِبِ قُرَيْشٍ، وَكَمَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ، وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَهُشَيْمٍ وَزِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، وَمَنْ سِوَاهُمْ مِمَّنْ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ، وَهُمْ مِنِ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا مَا هُمْ.
وَمِمَّا جَاءَ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ يَقْرَأُ فِيهَا الْقُرْآنَ كله3.
1 مضى تخريجه "ص231" وهو في "الصحيحين".
2 ولا يخفى عليك استيفاؤه لأمثلة الأنواع الثلاثة للضرب الثاني في الأحاديث المذكورة، مع مراعاة أنها كلها ليس فيها العلم أو الظن بأنه يدخل على نفسه بسببها فسادا
…
إلخ، إن كان قد يحصل ذلك كما هو أحد الأقسام الثلاثة التي أشارت إليها الأحاديث. "د".
3 رواه ابن أبي شيبة في "المصنف""1/ 367، 368، 2/ 292-293، 502-503"، وسعيد بن منصور في "السنن""2/ 469/ رقم 158"، وابن شبة في "تاريخ المدينة""4/ 1272"، وابن المبارك في "الزهد""رقم 1275، 1277"، وعبد الرزاق في "المصنف" "3/ =
وَكَمْ مِنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ صلَّى الصُّبْحَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ كَذَا وَكَذَا سَنَة، وَسَرَدَ الصِّيَامَ كَذَا وَكَذَا سَنَةٍ1.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا كَانَا يُوَاصِلَانِ الصِّيَامَ، وَأَجَازَ مَالِكٌ صِيَامَ الدَّهْرِ2.
وَكَانَ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ يَقُومُ لَيْلَةً حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَقُولُ: بَلَغَنِي أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا سجودًا أبدًا3.
= 124/ 4635"،وابن سعد في "الطبقات الكبرى" "3/ 75، 76"، وأبو عبيد في فضائل القرآن""رقم 277، 278"، والطحاوي في "شرح معاني الآثار""1/ 294"، وأحمد في "الإيمان""ق 49/ ب"، والطبراني في "الكبير""1/ 87/ رقم 135" وأبو نعيم في "حلية الأولياء""1/ 56، 57"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق""225، 226، 227، 228"، والبيهقي في "الكبرى""3/ 24-25"، وفي "الشعب""5/ 145-146/ رقم 1993" من طرق عن ابن سيرين عن نائلة زوج عثمان، قالت: إن تدعوه أو تقتلوه فهو كان يحيى الليل بركعة يجمع فيها القرآن -يعني: يوترها"-
وبعضهم أسقط "نائلة"، وابن سيرين لم يسمع من عثمان.
ورواه أيوب عن نائلة كما عند ابن الأعرابي في "المعجم""1/ ق 120/ ب" ومسعر عنها كما عند ابن شبة في "تاريخ المدينة""4/ 1272"، ورواه أبو نعيم في "الحلية""1/ 56-57"، وقال أنس بن مالك؛ وهو وهم والأثر صحيح بمجموع طرقه، وتعدد استشهاد المصنف به في موطن آخر، وانظر: الاعتصام" "1/ 399"- دار ابن عفان".
1 ترى أمثلة كثيرة من ذلك في "إقامة الحجة" للكنوي مع التعليق عليها، وكذا في الحلية" "3/ 163"، وذكره المصنف في "الاعتصام" "1/ 399" مع زيادة: "وكانوا هم العارفين بالسنة، لا يميلون عنها لحظة".
2 كذا في "الاعتصام" "1/ 399 أيضًا.
3 انظر: "الحلية""2/ 87، 88"، ففيها نحو المذكور، وذكره عنه المصنف في "الاعتصام" "1/ 399" ط ابن عفان" وعلق على الخبر بقوله:"يريد أنه كان يتنفل بالصلاة، فتارة يطول فيها القيام، وتارة الركوع، وتارة السجود" وفي "ط" زيادة عليه: ثم يركع أخرى حتى يصبح، ثم يقول:"بلغني أن لله عبادا ركوعا أبدا" ثم يسجد حتى يصبح، ثم يقول:"بلغني ان لله عبادا سجودا أبدا".
وَنَحْوُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ1
وَعَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ كَانَ يُجْهِدُ نَفْسَهُ فِي الصَّوْمِ وَالْعِبَادَةِ، حَتَّى يَخْضَرَّ جَسَدُهُ وَيَصْفَرَّ، فَكَانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ لَهُ: وَيْحَكَ! لِمَ تُعَذِّبُ هَذَا الْجَسَدَ؟ فَيَقُولُ: إِنَّ الْأَمْرَ جِدٌّ2، [إِنَّ الأمر جد] .
وعن [أنس] ابن سِيرِينَ أَنَّ امْرَأَةَ مَسْرُوقٍ قَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فَرُبَّمَا جَلَسْتُ أَبْكِي خَلْفَهُ مِمَّا أَرَاهُ يَصْنَعُ بِنَفْسِهِ3.
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: غُشِيَ عَلَى مَسْرُوقٍ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ وَهُوَ صَائِمٌ، فَقَالَتْ لَهُ ابْنَتُهُ: أَفْطِرْ! قَالَ: مَا أَرَدْتِ بِي؟ قَالَتِ: الرِّفْقَ. قَالَ: يَا بُنَيَّةُ! إِنَّمَا طَلَبْتُ الرِّفْقَ لِنَفْسِي فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ4.
إِلَى سَائِرِ مَا ذُكِرَ5 عَنِ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ الَّتِي لَا يُطِيقُهَا إِلَّا الْأَفْرَادُ؛ هَيَّأَهُمُ اللَّهُ لَهَا وَهَيَّأَهَا لَهُمْ وَحَبَّبَهَا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَكُونُوا بِذَلِكَ مُخَالِفِينَ لِلسُّنَّةِ بَلْ كَانُوا مَعْدُودِينَ فِي السَّابِقَيْنِ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا نُهِيَ عَنِ الْعَمَلِ الشَّاقِّ مَفْقُودَةٌ فِي حَقِّهِمْ، فَلَمْ يُنْتَهِضِ النَّهْيُ فِي حَقِّهِمْ، كَمَا أنه لما
1 انظر ترجمته في "العبر""1/ 110".
2 ترى ذلك في ترجمته في "زهد الثمانية من التابعين""ص53-54"، و"الحلية""2/ 103"، والسير" "4/ 52"، و"الاعتصام" "1/ 399" للمصنف.
3 الخبر في "العبر""1/ 68"، و"السير""4/ 65"، و"الاعتصام""1/ 399، 400" للمصنف، "مرآة الجنان" 6/ 39"، و"إقامة الحجة" "ص66"، وما بين المعقوفتين من الأصل.
4 ذكره الذهبي في ترجمته في "السير""4/ 67-68"، والمصنف في "الاعتصام""1/ 400".
5 في الأصل: "ذكره".
قَالَ: لَا يقضِ الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ"1 وَكَانَ وَجْهُ النَّهْيِ وَعِلَّتُهُ تَشْوِيشَ الْفِكْرِ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْحُجَجِ اطَّرد النَّهْيُ مَعَ كُلِّ مَا يُشَوِّشُ الْفِكْرَ، وَانْتَفَى عِنْدَ انْتِفَائِهِ، حَتَّى إِنَّهُ منتفٍ مَعَ وُجُودِ الْغَضَبِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا يُشَوِّشُ، وَهَذَا صَحِيحٌ مَلِيحٌ.
فَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ حَالُهُ حَالُ مَنْ يَعْمَلُ بِحُكْمِ عَهْدِ الْإِسْلَامِ وَعَقْدِ الْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ زَائِدٍ، وَالثَّانِي حَالُهُ حَالُ مَنْ يَعْمَلُ بِحُكْمِ غَلَبَةِ الْخَوْفِ، أَوِ الرَّجَاءِ، أَوِ الْمَحَبَّةِ، فَالْخَوْفُ سَوْطٌ سَائِقٌ، وَالرَّجَاءُ حادٍ قَائِدٌ وَالْمَحَبَّةُ تَيَّارٌ حَامِلٌ، فَالْخَائِفُ يَعْمَلُ مَعَ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الْخَوْفَ مِمَّا هُوَ أَشَقُّ يَحْمِلُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى مَا هُوَ أَهْوَنُ وَإِنْ كَانَ شَاقًّا وَالرَّاجِي يَعْمَلُ مَعَ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ أَيْضًا، غَيْرَ أَنَّ الرَّجَاءَ فِي تَمَامِ الرَّاحَةِ يَحْمِلُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى تَمَامِ التَّعَبِ، وَالْمُحِبُّ يَعْمَلُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ شَوْقًا إِلَى الْمَحْبُوبِ، فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ الصَّعْبُ، وَيَقْرُبُ عَلَيْهِ الْبَعِيدُ، وَيَفْنَى الْقَوِيُّ وَلَا يَرَى أَنَّهُ أَوْفَى بِعَهْدِ الْمَحَبَّةِ وَلَا قَامَ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ، وَيُعَمِّرُ
الْأَنْفَاسَ وَلَا يَرَى أَنَّهُ قَضَى نَهْمَتَهُ، وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ عَلَى النَّفْسِ أَوِ الْعَقْلِ أَوِ الْمَالِ يَمْنَعُ مِنَ الْعَمَلِ الْمُسَبِّبِ لِذَلِكَ إِنْ كَانَ لِخَيْرَةِ الْإِنْسَانِ، وَيُرَخَّصُ لَهُ فِيهِ إِنْ كَانَ لَازِمًا لَهُ، حَتَّى لَا يَحْصُلَ فِي مَشَقَّةِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَشْوِيشَ النَّفْسِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَلَكِنَّ الْعَمَلَ2 الْحَاصِلَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؛ هَلْ يَكُونُ مُجَزِئًا أَمْ لَا إِذَا خَافَ تَلَفَ نَفْسِهِ أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ أَوْ عَقْلِهِ؟
هَذَا مِمَّا فِيهِ نَظَرٌ يُطَّلَعُ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فِيهِ مِنْ قَاعِدَةِ "الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ" وَقَدْ نُقِلَ مَنْعُ الصَّوْمِ إِذَا خَافَ التَّلَفَ بِهِ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَنَّهُ لَا يُجَزِئُهُ إِنْ فَعَلَ، وَنُقِلَ الْمَنْعُ فِي الطَّهَارَةِ عِنْدَ خَوْفِ التَّلَفِ، وَالِانْتِقَالُ إِلَى التَّيَمُّمِ، وَفِي خَوْفِ الْمَرَضِ أَوْ تلف المال احتمال3، والشاهد للمنع قوله
1 مضى تخريجه "ص231"، وهو في "الصحيحين".
2 في الأصل زيادة كلمة: "الصالح. وفي "ط": ".... يكون مجزئة".
3 انظر بسط المسألة في "الخلافيات""2/ 477، 483" مع تعليقي عليه.
تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمَ} [النِّسَاءِ: 29] ، وَإِذَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَشْبَاهِهَا بِسَبَبِ الْخَوْفِ، لَا مِنْ جِهَةِ إِيقَاعِ نَفْسِ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ، فَالْأَمْرَانِ مُفْتَرِقَانِ؛ فَإِنَّ إِدْخَالَ الْمَشَقَّةِ الْفَادِحَةِ1 عَلَى النَّفْسِ يُعْقَلُ النَّهْيُ عَنْهَا مُجَرَّدَةً عَنِ الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ يُعْقَلُ الْأَمْرُ بِهَا مُجَرَّدَةً عَنِ الْمَشَقَّةِ، فَصَارَتْ ذَاتَ قَوْلَيْنِ2.
وَأَيْضًا، فَيَدْخُلُ فِيهَا النَّظَرُ مِنْ قَاعِدَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنْ يُقَالَ: هَلْ قَصَدَ الشَّارِعُ رَفْعَ الْمَشَقَّةِ لِأَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِلَّهِ، أَمْ لِأَجْلِ أَنَّهَا حَقٌّ لِلْعَبْدِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا حَقٌّ لِلَّهِ، فَيَتَّجِهُ الْمَنْعُ حَيْثُ وَجَّهَهُ الشَّارِعُ، وَقَدْ رَفَعَ الْحَرَجَ فِي الدِّينِ، فَالدُّخُولُ فِيمَا فِيهِ الْحَرَجُ مُضَادٌّ لِذَلِكَ الرفع، وإن قلنا: إنه حق العبد، فإذ سَمَحَ الْعَبْدُ لِرَبِّهِ بِحَظِّهِ كَانَتْ عِبَادَتُهُ صَحِيحَةً، وَلَمْ يَتَمَحَّضِ النَّهْيُ عَنْ تِلْكَ الْعِبَادَةِ.
وَالَّذِي يُرَجِّحُ هَذَا الثَّانِيَ أُمُورٌ:
- مِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] قد دَلَّ بِإِشَارَتِهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الرِّفْقِ بِالْعِبَادِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النِّسَاءِ: 29] يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى رَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِهِمْ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 107] وَأَشْبَاهُهَا3 مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَضْعِ الشَّرِيعَةِ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ.
- وَمِنْهَا: مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ وَإِرَادَةِ الْيُسْرِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ النَّهْيُ منتهضا مع فرض الحجر وَالْعُسْرِ، فَإِذَا فُرِضَ ارْتِفَاعُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَوْمٍ ارْتَفَعَ النَّهْيُ، وَمِمَّا يَخُصُّ مَسْأَلَتَنَا قِيَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهُ، أَوْ تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ4، وَالْعِبَادَةُ إِذَا صَارَتْ إِلَى هَذَا الْحَدِّ شَقَّتْ وَلَا بُدَّ، وَلَكِنَّ المر في طاعة
1 هكذا في الأصل و"ط" بالفاء، وفي "د" القادحة.
2 أي: كما في الصلاة في الدار المغصوبة كما قال؛ لأن الأمر والنهي المتوجهين إلى العمل يمكن انفكاكهما، والخلاف جارٍ فيما لم يكن هناك تلازم كمسألة الصلاة المذكورة. "د"
3 في "ط": "وما أشبهها".
4 مضى تخريجه "ص241".
إليه يَحْلُو لِلْمُحِبِّينَ، وَهُوَ عليه الصلاة والسلام كَانَ إمامهم، وكذلك جاء السَّلَفِ تَرْدَادُ الْبُكَاءِ حَتَّى عَمِيَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ، قَالَ:
رَأَيْتُ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ بِوَاسِطٍ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ عَيْنَيْنِ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ وَقَدْ ذَهَبَتْ عَيْنَاهُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا خَالِدٍ! مَا فَعَلَتِ الْعَيْنَانِ الْجَمِيلَتَانِ؟ فَقَالَ: ذَهَبَ بِهِمَا بُكَاءُ الْأَسْحَارِ1.
وَمَا تَقَدَّمَ فِي احْتِمَالِ مُطْلَقِ الْمَشَقَّةِ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ عَاضِدٌ لهذا المعنى، فإذن مَنْ غَلَّب جَانِبَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَنَعَ بِإِطْلَاقٍ، وَمَنْ غلَّب جَانِبَ حَقِّ الْعَبْدِ لَمْ يَمْنَعْ بِإِطْلَاقٍ، وَلَكِنْ جَعَلَ ذَلِكَ إِلَى خِيَرَتِهِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الثَّانِي، فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ مَطْلُوبٌ بِأَعْمَالٍ وَوَظَائِفَ شَرْعِيَّةٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا، وَلَا مَحِيصَ لَهُ عَنْهَا، يَقُومُ فِيهَا بِحَقِّ رَبِّهِ تعالى، فإذا أوغل في عمل شَاقٍّ، فَرُبَّمَا قَطَعَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَلَا سِيَّمَا حُقُوقُ الْغَيْرِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهِ، فَيَكُونُ عِبَادَتُهُ أَوْ عَمَلُهُ الدَّاخِلُ فِيهِ قَاطِعًا عَمَّا كَلَّفَهُ اللَّهُ بِهِ، فَيُقَصِّرُ فِيهِ، فَيَكُونُ بِذَلِكَ مَلُومًا غَيْرَ مَعْذُورٍ؛ إِذِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْقِيَامُ بِجَمِيعِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُخِلُّ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَلَا بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ فِيهَا2.
ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ -وَهِيَ زَوْجُهُ- مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ لَهُ: كُلْ فَإِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ: مَا أنا بآكل حتى
1 أخرجه بسنده إلى الحسن بن عرفة به الخطيب في "تاريخه""14/ 341-342".
2 انظر "منهج التربية الإسلامية""1/ 169-170"، ففيه تفصيل حسن لنحو المذكور هنا.
تَأْكُلَ، فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، فَقَالَ: نَمْ. فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَقُومَ، فَقَالَ: نَمْ. فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الْآنَ، فَصَلَّيْنَا1، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ:"إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فأعطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقِّهِ". فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"صَدَقَ سَلْمَانُ"2.
وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام لِمُعَاذٍ: "أفتَّان أَنْتَ، أَوْ أَفَاتِنٌ أَنْتَ؟ " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ"، فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بِـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، و {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشَّمْسِ: 1] ، وَ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [اللَّيْلِ: 1] ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الْحَاجَةِ": وَكَانَ الشَّاكِيَ بِهِ رَجُلٌ أَقْبَلَ بِنَاضِحَيْنِ وَقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ، فَوَافَقَ مُعَاذًا يُصَلِّي، فَتَرَكَ نَاضِحَيْهِ وَأَقْبَلَ إِلَى مُعَاذٍ، فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ، فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ. انْظُرْهُ فِي الْبُخَارِيِّ3.
وَكَذَلِكَ حَدِيثُ: "إِنِّي لَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صلاتي" الحديث4.
1 مقتضى السياق "فصليا" بالغائب، فتراجع الرواية، والذي في البخاري "صليا" بألف الغائب، ولم يذكروا فيه رواية أخرى. "د".
2 مضى تخريجه "ص239"، والحديث في "الصحيحين وغيرهما.
3 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الأذان، باب إذا طول الإمام وكان للرجل حاجة، فخرج، فصلى 2/ 192/ رقم 700، 701، وباب من شكا إمامه إذا طول 2/ 200/ رقم 705، وكتاب الأدب، باب من لم يرَ إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا، 1/ 515-516/ رقم 6106"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الصلاة، باب القراءة في العشاء 1/ 339-340/ رقم 465" من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. وانظر في تعيين الشاكي: "تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم""رقم 244، 245" مع تعليقي عليه.
4 أخرجه البخاري في الصحيح" "كتاب الأذان، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي 2/ 202/ رقم 709، 710"، ومسلم في "صحيحه" كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام 2/ 342/ 343/ رقم 470" وغيرهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
وَيُرْوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّهُ دَخَلَ صَوَامِعَ الْمُنْقَطِعِينَ وَمَوَاضِعَ الْمُتَعَبِّدِينَ، فَرَأَى رَجُلًا يَبْكِي بكاء عظيما بسبب أن فاتته صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي الْجَمَاعَةِ لِإِطَالَتِهِ الصَّلَاةَ مِنَ اللَّيْلِ.
وَأَيْضًا، فَقَدْ يَعْجِزُ الْمُوغِلُ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ عَنِ الْجِهَادِ أَوْ غَيْرِهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْغِنَاءِ فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ فِي دَاوُدَ عليه السلام:"كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلَا يفرُّ إِذَا لَاقَى"1.
وَقِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: وَإِنَّكَ لتقلُّ الصَّوْمَ. فَقَالَ: "إِنَّهُ يَشْغَلُنِي عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وقراءة القرآن أحب إليَّ منه"2.
1 أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الصوم، باب صوم داود عليه السلام 4/ 224 / رقم 1979، 1980"، ومسلم في "الصحيح""كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، 2/ 815/ رقم 1159 بعد 186" عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
قال "خ": "لم تغضِ الشريعة عن حق الجسم وتترك شأنه لصاحبه الذي ربما تغالى به السعي في تكميل نفسه إلى أن يصرف عنه النظر جملة، بل رسمت له في سيره حدودا لا يسوغ له اختراقها ووقوفه عند هذه الحدود مما يجعله سائرا في سبيل لا يلاقي فيها عقبات ولا ينقطع به قبل الوصول إلى الغاية المطلوبة، وانظر إلى قوله في هذا الحديث: "ولا يفر إذا لاقى" بعد قوله: "كان يصوم يومًا ويفطر يومًا" فإن في ذلك إيماء إلى أن عدم سرد داود عليه السلام للصوم إنما هو ليتقوى بالفطر على واجب أعظم وهو جهاد العدو والصبر على مكافحته بقلب لا يجبن وعزم لا ينثني".
2 أخرجه عبد الرزاق في "المصنف""7903"، والطبراني في "الكبير""9/ 195-197 / رقم 8868-8870، 8872، 8874، 8878" بأسانيد عنه، وبعضها صحيح، وانظر:"مجمع الزوائد""2/ 257".
وَنَحْوُ هَذَا مَا حَكَى عِيَاضٌ1 عَنِ ابْنِ وهب أنه آلى أن لا يَصُومَ يَوْمَ عَرَفَةَ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْمَوْقِفِ يَوْمًا صَائِمًا، وَكَانَ شَدِيدَ الْحَرِّ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ. قَالَ: فَكَانَ النَّاسُ يَنْتَظِرُونَ الرَّحْمَةَ وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْإِفْطَارَ.
وَكَرِهَ مَالِكٌ إِحْيَاءَ اللَّيْلِ كُلِّهِ2 وَقَالَ: لَعَلَّهُ يُصْبِحُ مَغْلُوبًا، وَفِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ، ثُمَّ قَالَ:"لَا بَأْسَ بِهِ مَا لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ، فَإِنْ كَانَ يَأْتِيهِ الصُّبْحُ وَهُوَ نَائِمٌ، فَلَا، وَإِنْ كَانَ وَهُوَ بِهِ فُتُورٌ أَوْ كَسَلٌ، فَلَا بَأْسَ بِهِ".
فَإِذَا ظَهَرَتْ عِلَّةُ النَّهْيِ عَنِ الْإِيغَالِ فِي الْعَمَلِ، وَأَنَّهُ يُسَبِّبُ تَعْطِيلَ وَظَائِفَ، كَمَا أَنَّهُ يُسَبِّبُ الْكَسَلَ وَالتَّرْكَ وَيُبَغِّضُ الْعِبَادَةَ، فَإِذَا وُجِدَتِ الْعِلَّةُ أَوْ كَانَتْ مُتَوَقَّعَةً، نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فالإيغال فيه حسن3، وسبب القيام
1 في "ترتيب المدارك""1/ 430- ط بيروت"، وفيه "نذر ابن وهب....".
2 ودليله ما أخرجه أبو داود في "سننه""كتاب الصلاة، باب في صلاة الليل 2/ 41/ رقم 1342" عن عائشة ضمن حديث طويل، فيه: ولم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة يتمها إلى الصباح"، ولفظ الدارمي في "سننه" "1/ 346": "وما قام نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح"، ولفظ مسلم "6/ 27- مع شرح النووي": "ولا صلى ليلة إلى الصبح"، وفي رواية له "6/ 29": وما رأيته قام ليلة حتى الصباح".
قلت: والتعليل الآتي يشهد له ما أخرجه مالك في "الموطأ""1/ 131- رواية يحيى" عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، قال: إن عمر بن الخطاب فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح، وإن عمر غدا إلى السوق، وسكنُ سليمان بين المسجد والسوق، فمر على الشفاء أم سليمان، فقال لها: لم أرَ سليمان في الصبح، فقالت: إنه بات يصلي، فغلبته عيناه. فقال عمر:"لإن أشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إلى من أقوم ليلة"، وكذلك من يقوم الليل ويسرد الصوم إن كان ذلك بحيث يفوت من حضور الجماعات وصلاة الجنائز، ونشر العلم بالتدريس والتصنيف ونحو ذلك، لا ينبغي له ذلك، قاله اللكنوي في "إقامة الحجة""ص148-149".
3 هذا ما قرره اللكنوي في كتابه "إقامة الحجة" بتفصيل وإسهاب مع تمثيل من حياة السلف والصالحين والعلماء بما لا مزيد عليه.
بِالْوَظَائِفِ مَعَ الْإِيغَالِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ غَلَبَةِ الْخَوْفِ أَوِ الرَّجَاءِ أَوِ الْمَحَبَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: دُخُولُ الْإِنْسَانِ فِي الْعَمَلِ وَإِيغَالُهُ فِيهِ- وَإِنْ كَانَ لَهُ وَازِعُ الْخَوْفِ، أَوْ حَادِي الرَّجَاءِ، أَوْ حَامِلُ الْمَحَبَّةِ- لَا يُمْكِنُ مَعَهُ اسْتِيفَاءُ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا اللَّيْلَ، صَائِمًا النَّهَارَ، واطئنا أَهْلَهُ، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنْ مُوَاصَلَةِ الصِّيَامِ مَعَ الْقِيَامِ عَلَى الْكَسْبِ لِلْعِيَالِ، أَوِ الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الْجِهَادِ عَلَى كَمَالِهَا، وَكَذَلِكَ إِدَامَةُ الصَّلَاةِ مَعَ إِعَانَةِ الْعِبَادِ، وَإِغَاثَةِ اللَّهْفَانِ، وَقَضَاءِ حَوَائِجِ النَّاسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْهَا تُضَادُّ أَعْمَالًا أُخَر بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الِاجْتِمَاعُ فِيهَا، وَقَدْ لَا تُضَادُّهَا، وَلَكِنْ تُؤَثِّرُ فِيهَا نَقْصًا، وَتَزَاحُمُ الْحُقُوقِ عَلَى الْمُكَلَّفِ مَعْلُومٌ غَيْرُ مَجْهُولٍ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْقِيَامُ بِجَمِيعِ الْحُقُوقِ أَوْ بِأَكْثَرِهَا وَالْحَالَةُ1 هَذِهِ؟ وَلِهَذَا جَاءَ:"مَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبْهُ"2.
وَأَيْضًا، فَإِنْ سُلِّمَ مِثْلُ هَذَا فِي أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ وَمُسْقِطِي الْحُظُوظِ، فَكَيْفَ الْحَالُ مَعَ إِثْبَاتِهَا وَالسَّعْيِ فِيهَا وَالطَّلَبِ لَهَا؟
فَالْجَوَابُ أَنَّ النَّاسَ كَمَا تَقَدَّمَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا:
أَرْبَابُ الْحُظُوظِ، وَهَؤُلَاءِ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنِ اسْتِيفَاءِ حُظُوظِهِمُ الْمَأْذُونِ لَهُمْ فِيهَا شَرْعًا، لَكِنْ بِحَيْثُ لَا يُخِلُّ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَضُرُّ بِحُظُوظِهِمْ.
فَقَدْ وَجَدْنَا عَدَمَ التَّرَخُّصِ فِي مَوَاضِعِ التَّرَخُّصِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ مُوقِعًا فِي مَفْسَدَةٍ أَوْ مَفَاسِدَ يَعْظُمُ مَوْقِعُهَا شَرْعًا، وَقَطْعُ الْعَوَائِدِ المباحة قد يوقع في
1 في الأصل: "الحال".
2 قطعة من حديث أوله: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه"، أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الإيمان، باب الدين يسر، 1/ 93/ رقم 39" عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الْمُحَرَّمَاتِ، وَكَذَلِكَ وَجَدْنَا الْمُرُورَ مَعَ الْحُظُوظِ مُطْلَقًا خُرُوجًا عَنْ رِبْقَةِ الْعُبُودِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَرْسِلَ فِي ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ تَقْيِيدٍ ملقٍ حِكْمَةَ الشَّرْعِ عَنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ فَسَادٌ كَبِيرٌ، وَلِرَفْعِ هَذَا الِاسْتِرْسَالِ جَاءَتِ الشَّرَائِعُ، كَمَا أَنَّ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ مُسَخَّرٌ لِلْإِنْسَانِ1.
فَالْحَقُّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الأمرين تحت تظر الْعَدْلِ، فَيَأْخُذُ فِي الْحُظُوظِ مَا لَمْ يُخِلَّ بِوَاجِبٍ، وَيَتْرُكُ الْحُظُوظَ مَا لَمْ يُؤَدِّ التَّرْكُ إِلَى مَحْظُورٍ، وَيَبْقَى فِي الْمَنْدُوبِ وَالْمَكْرُوهِ عَلَى تَوَازُنٍ، فَيَنْدُبُ إِلَى فِعْلِ الْمَنْدُوبِ الَّذِي فِيهِ حَظُّهُ كَالنِّكَاحِ مَثَلًا، وَيَنْهَى عَنِ الْمَكْرُوهِ الَّذِي لَا حَظَّ فِيهِ عَاجِلًا كَالصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، وَيَنْظُرُ فِي الْمَنْدُوبِ الَّذِي لَا حَظَّ لَهُ فِيهِ، وَفِي الْمَكْرُوهِ الَّذِي لَهُ فِيهِ حَظٌّ -أَعْنِي: الْحَظَّ الْعَاجِلَ-، فَإِنْ كَانَ تَرْكُ حَظِّهِ فِي الْمَنْدُوبِ2 يُؤَدِّي لِمَا يُكْرَهُ شَرْعًا، أَوْ لِتَرْكِ مَنْدُوبٍ هُوَ أَعْظَمُ أَجْرًا، كَانَ اسْتِعْمَالُهُ الْحَظَّ وَتَرْكُ الْمَنْدُوبِ أَوْلَى، كَتَرْكِ التَّمَتُّعِ بزوجته المؤدي إلى التشوف إلى الأجنبيات، حسبما نَبَّهَ عَلَيْهِ حَدِيثُ3:"إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ امْرَأَةً فأعجبته....."4.
1 ومهيأ لحظوظه، فالمطلوب الاعتدال، فلا حرمان مما هيأه الله له، ولا استرسال فيه. "د".
قلت: وفي الأصل "مسخرة للإنسان".
2 أي: فإن كان ترك حظ من حظوظه بسبب فعله مندوبا لا حظ لنفسه فيه يؤدي إلى فعل مكروه شرعا، أو إلى ترك مندوب آخر أفضل منه، كان استعماله لحظه بترك هذه المندوب المؤدي فعله لأحد هذين الأمرين أولى به، وذلك كما إذا كان اشتغاله بنافلة الصلاة يحول بينه وبين التمتع بزوجته، فيؤدي ذلك إلى تطلعه للأجنبيات وتشوقه للنظر إليهن، فيكون ترك النافلة وتمتعه بزوجه أولى. "د".
3 أي، فإنه يفيد أن التمتع بالزوجة يكسر من الشهوة حتى لا ينبعث إلى النظر للأجنبية. "د".
4 أخرجه مسلم في "صحيحه" "كتاب النكاح، باب ندب من رأى امرأة فوقعت في نفسه =
إِلَخْ.
وَكَذَلِكَ [تَرْكُ] 1 الصَّوْمِ2 يَوْمَ عَرَفَةَ3، أَوْ لأجل أن يقوى على قراءة القرآن.
= إلى أن يأتي امرأته أو جاريته فيواقعها، 2/ 1021/ رقم 1403"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الرضاع، باب ما جاء في الرجل يرى المرأة تعجبه3/ 464/ رقم 1158" -والمذكور لفظه، وتتمته: "فليأت أهله، فإن معها الذي معها"- وأحمد في المسند""3/ 330، 341، 395" بألفاظ منها المذكور عن جابر رضي الله عنه.
وفي الباب عن ابن مسعود عند الدارمي في "السنن""2/ 146"، وعن أبي كبشة الأنماري عند البخاري في "التاريخ الكبير""6/ 139"، وأحمد في "المسند""4/ 231"، وأبي نعيم في "الحلية""2/ 20"، وإسناده حسن، وانظر له:"العلل""5/ 196" للدارقطني.
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وفي "ط":"وكترك".
2 مثال لما كان فيه فعل المندوب يؤدي إلى ما يكره شرعا، وهو كراهة العبادة والملل منها، وما بعده مثال لما يؤدي إلى ترك مندوب هو أعظم منه أجرًا -ومثله ما في الحديث بعده- ويؤخذ منه أن قراءة القرآن أفضل من الصوم، والمثالان إشارة لما تقدم عن ابن مسعود وابن وهب. "د".
3 يدل عليه ما أخرجه البخاري في "الصحيح""كتاب الصوم، باب صوم يوم عرفة، 4/ 236-237/ رقم 1988"، وغيره عن أم الفضل بنت الحارث، أن ناسا تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه".
وفطره صلى الله عليه وسلم يوم عرفة كان لحكمة، واختلفوا فيها، فقالت طائفة: ليتقوى على الدعاء، وهو قول الخرقي وغيره، وقال غيرهم -منهم شيخ الإسلام ابن تيمية: الحكمة فيه أنه عيد لأهل عرفة، فلا يستحب صومه لهم، قال:"والدليل عليه الحديث الذي في "السنن" عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام منى عيدنا أهل الإسلام".
قلت: أخرجه أبو داود "كتاب الصوم، باب صيام أيام التشريق 2/ 320/ رقم 2419"، والترمذي في الجامع" "أبواب الصوم، باب ما جاء في كراهية الصوم في أيام التشريق 3/ 143/ رقم 773"، والنسائي في "المجتبى" "كتاب مناسك الحج، باب النهي عن صوم يوم عرفة، 5/ 252"، وأحمد "4/ 152"، وابن أبي شيبة في المصنف""3/ 104 و4/ 21"، والدارمي "2/ 23"، والطحاوي "1/335"، وابن حبان "8/ 368/ رقم 3603- الإحسان"، وابن خزيمة في "صحيحه""رقم 2100"، والطبراني في "الكبير""17/ رقم 803"، والحاكم "1/ 434"، والبيهقي "4/ 298"، والبغوي "1796" عن عقبة بن عامر، وإسناده صحيح.
قال ابن تيمية: "وإنما يكون يوم عرفة عيدا في حق أهل عرفة، لاجتماعهم فيه، بخلاف أهل الأمصار، فإنهم إنما يجتمعون يوم النحر، فكان هو العيد في حقهم". انظر: "زاد المعاد""1/ 61-62".
وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّكُمْ قَدِ اسْتَقْبَلْتُمْ عَدُّوَّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ"1.
وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ تَرْكُ الْمَكْرُوهِ الَّذِي لَهُ فِيهِ حَظٌّ يُؤَدِّي إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ كَرَاهَةً مِنْهُ، غُلِّبَ الْجَانِبُ الْأَخَفُّ، كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ طَاعَةُ الْوَالِدَيْنِ فِي تَنَاوُلِ الْمُتَشَابِهَاتِ2، عَلَى التَّوَرُّعِ عَنْهَا مَعَ عَدَمِ طَاعَتِهِمَا، فَإِنَّ تَنَاوُلَ الْمُتَشَابِهَاتِ2 لِلنَّفْسِ فِيهَا حَظٌّ، فَإِذَا كَانَ فِيهَا اشْتِبَاهٌ طُلِبَ التَّوَرُّعُ عَنْهَا وَكُرِهَ تَنَاوُلُهَا لِأَجْلِهِ، فَإِنْ كان في تناولها رضى الْوَالِدَيْنِ، رُجِّحَ جَانِبُ الْحَظِّ هُنَا بِسَبَبِ مَا هُوَ أَشَدُّ فِي الْكَرَاهِيَةِ، وَهُوَ مُخَالَفَةُ الْوَالِدَيْنِ، وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أنَّ طَلَبَ الرِّزْقِ فِي شُبْهَةٍ أَحْسَنُ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى النَّاسِ3.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحُظُوظَ لِأَصْحَابِ الْحُظُوظِ تُزَاحِمُ الْأَعْمَالَ، فَيَقَعُ التَّرْجِيحُ بَيْنَهَا فَإِذَا تَعَيَّنَ الرَّاجِحُ ارْتُكِبَ وَتُرِكَ مَا عَدَاهُ، وَبَسْطُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هِيَ عُمْدَةُ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فِي تَفَارِيعِ الْفِقْهِ.
1 أخرجه مسلم في "الصحيح""كتاب الصيام، باب أجر المفطر في السفر إذا تولى العمل، 2/ 789/ رقم 1120"، عن أبي سعيد الخدري، بلفظ:"إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم"، و"إنكم مُصَبِّحُو عدوكم، والفطر أقوى لكم".
2 في "ط": "المشتبهات".
3 الوجه في ذلك أن الحاجة إلى الناس مما يترامى بالنفوس على أبواب المهانة، وقد عنيت الشريعة بما يرفعها إلى مراقي العز والشرف حتى أسقطت للمحافظة على كرامة النفس وصيانة ماء المحيا بعض الواجبات، كما أجازت للرجل أن يتيمم ولا يقبل الماء ممن يقدمه له على وجه الهبة لما في مثل ذلك من المنة المكروهة لدى النفوس المتطلعة إلى عز شامخ ومجد أثيل. "خ".
وَالثَّانِي:
أَهْلُ إِسْقَاطِ الْحُظُوظِ، وَحُكْمُهُمْ حُكْمُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْأَعْمَالِ، غَيْرَ أَنَّ سُقُوطَ حُظُوظِهِمْ لِعُزُوفِ1 أَنْفُسِهِمْ عَنْهَا مَنَعَ الْخَوْفَ عَلَيْهِمْ مِنَ الِانْقِطَاعِ وَكَرَاهِيَةِ الْأَعْمَالِ، وَوَفَّقَهُمْ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْحُقُوقِ، وَأَنْهَضَهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ بِمَا لَمْ يَنْهَضْ بِهِ غَيْرُهُمْ، فَصَارُوا أَكْثَرَ أَعْمَالًا، وَأَوْسَعَ مَجَالًا فِي الْخِدْمَةِ، فَيَسَعُهُمْ مِنَ الْوَظَائِفِ الدِّينِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ مَا يَسْتَعْظِمُهُ غَيْرُهُمْ وَيَعُدُّهُ فِي خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَأَمَّا أَنَّهُ2 يُمْكِنُهُمُ الْقِيَامُ بِجَمِيعِ مَا كُلِّفَهُ الْعَبْدُ وَنُدِبَ إِلَيْهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَمُتَعَذِّرٌ، إِلَّا فِي الْمَنْهِيَّاتِ، فَإِنَّهُ تَرْكٌ بِإِطْلَاقٍ، وَنَفْيُ أَعْمَالٍ لَا إِعْمَالٍ، وَالنَّفْيُ الْعَامُّ مُمْكِنُ الْحُصُولِ بِخِلَافِ الْإِثْبَاتِ الْعَامِّ، وَلَمَّا سَقَطَتْ حُظُوظُهُمْ صَارَتْ عِنْدَهُمْ لَا تُزَاحِمُ الْحُقُوقَ إِلَّا مِنْ حَيْثُ الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِ:"إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا"3، وَحَقُّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَقٌّ لَهُ ضَعِيفٌ عِنْدَهُ أَوْ سَاقِطٌ، فَصَارَ غَيْرُهُ عنده أقوى من حظ نفسه، فحظه إذن4 آخِرُ الْأَشْيَاءِ الْمُسْتَحَقَّةِ، وَإِذَا سَقَطَتِ الْحُظُوظُ لَحِقَ مَا هُوَ بَدَلٌ عَنْهَا5؛ لِأَنَّ زَمَانَ طَلَبِ الْحَظِّ لَا يَبْقَى خَالِيًا، فَدَخَلَ فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ كَثِيرٌ، وَإِذَا عَمِلَ عَلَى حَظِّهِ مِنْ حَيْثُ الْأَمْرِ، فَهُوَ عِبَادَةٌ كَمَا سَيَأْتِي، فَصَارَ عِبَادَةً بَعْدَ مَا كَانَ عَادَةً، فَهُوَ سَاقِطٌ مِنْ جِهَتِهِ، ثَابِتٌ مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ كَسَائِرِ الطَّاعَاتِ، وَمِنْ هُنَا صَارَ مُسْقِطُ الْحَظِّ أَعْبَدَ النَّاسِ، بَلْ يَصِيرُ أَكْثَرُ عَمَلِهِ فِي الْوَاجِبَاتِ، وَهُنَا مَجَالٌ رَحْبٌ لَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا.
فَصْلٌ 6:
مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا كَانَ مِنَ الْأَعْمَالِ يَتَسَبَّبُ عَنْهُ مَشَقَّةٌ وَهُوَ من
1 كذا في "ط"، وفي غيره:"عزوب".
2 في الأصل و"خ": "أن".
3 مضى تخريجه "ص239"، وهو صحيح.
4 كذا في "ط" وفي غيره: "أيضًا".
5 في "ط": "منها".
6 تكميل للمقام ببيان أن الأعمال المنهي عنها إذا تسبب عنها مشقة، فإن الشارع لا يقصد فيها المشقة أيضا، وإن جاءت في الطريق بسبب المكلف. "د".
الْمَأْذُونِ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ وَتَسَبَّبَ عَنْهُ مَشَقَّةٌ فَادِحَةٌ، فَهُوَ أَظْهَرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ التَّسَبُّبِ؛ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى ارْتِكَابِ النَّهْيِ إِدْخَالَ الْعَنَتِ وَالْحَرَجِ عَلَى نَفْسِهِ.
إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الشَّرْعِ1 سَبَبًا لِأَمْرٍ شَاقٍّ عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ قَصْدٌ مِنَ الشَّارِعِ لِإِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَصْدُ الشَّارِعِ جَلْبُ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءُ مَفْسَدَةٍ، كَالْقِصَاصِ وَالْعُقُوبَاتِ النَّاشِئَةِ عَنِ الْأَعْمَالِ الْمَمْنُوعَةِ، فَإِنَّهَا زَجْرٌ لِلْفَاعِلِ، وَكَفٌّ لَهُ عَنْ مُوَاقَعَةِ مِثْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَعِظَةٌ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقَعَ فِي مِثْلِهِ أَيْضًا، وَكَوْنُ هَذَا الْجَزَاءِ مُؤْلِمًا وَشَاقًّا مضاهٍ لِكَوْنِ قَطْعِ الْيَدِ الْمُتَأَكِّلَةِ وَشُرْبِ الدَّوَاءِ البشع مُؤْلِمًا وَشَاقًّا، فَكَمَا لَا يُقَالُ لِلطَّبِيبِ: إِنَّهُ قَاصِدٌ لِلْإِيلَامِ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ، فَكَذَلِكَ هُنَا، فَإِنَّ الشَّارِعَ هُوَ الطَّبِيبُ الْأَعْظَمُ.
وَالْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ وَلَا يُرِيدُ جَعْلَهُ فِيهِ، وَيُشْبِهُ هَذَا مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ:"مَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْمَوْتِ" 2؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَمَّا كَانَ حَتْمًا عَلَى الْمُؤْمِنِ وَطَرِيقًا إِلَى وُصُولِهِ إِلَى رَبِّهِ، وَتَمَتُّعِهِ بِقُرْبِهِ فِي دَارِ الْقَرَارِ، صَارَ فِي الْقَصْدِ إِلَيْهِ مُعْتَبَرًا، وَصَارَ مِنْ جِهَةِ الْمَسَاءَةِ فِيهِ مَكْرُوهًا3، وَقَدْ يَكُونُ لَاحِقًا بِهَذَا الْمَعْنَى النُّذُورُ الَّتِي يَشُقُّ على الإنسان
1 لعل فيه سقط: "ما يكون""د".
2 قطعة من آخر حديث طويل أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب الرقائق، باب التواضع، 11/ 340-341/ رقم 6502" عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفا، وقد استشكل بعضهم "التردد" الوارد في الحديث، وانظر له لزاما:"مجموع فتاوى ابن تيمية""18/ 129-131 و 10/ 58-59"، و"السلسلة الصحيحة" "رقم 1640". وفي "ط":"ولا بد منه".
3 أي: غير مقصود ما فيه من جهة المكروهية، ولكنه مقصود من جهة أنه موصل إلى السعادة، وإنما كان شبيها ولم يكن مما تقدم؛ لأنه ليس في موضوع التكاليف الدنيوية. "د".
قلت: وبنحو هذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى""18/ 129-131 و 10/ 58-59".
الْوَفَاءُ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَمَّا أُرِيحَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهَا كَانَ الْتِزَامُهَا مَكْرُوهًا، فَإِذَا وَقَعَ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ عِبَادَاتٌ وَإِنْ شَقَّتْ، كَمَا لَزِمَتِ الْعُقُوبَاتُ بِنَاءً عَلَى التَّسَبُّبِ فِيهَا، حَتَّى إِذَا كَانَتِ النُّذُورُ فِيمَا لَيْسَ بِعِبَادَةٍ، أَوْ كَانَتْ فِي عِبَادَةٍ لَا تُطَاقُ وَشُرِعَتْ لَهَا تَخْفِيفَاتٌ، أَوْ كَانَتْ مُصَادِمَةً لِأَمْرٍ ضَرُورِيٍّ أَوْ حَاجِيٍّ فِي الدِّينِ سَقَطَتْ، كَمَا إِذَا حَلَفَ بِصَدَقَةِ مَالِهِ، فَإِنَّهُ يُجَزِئُهُ الثُّلْثُ، أَوْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى مَكَّةَ رَاجِلًا فَلَمْ يَقْدِرْ، فَإِنَّهُ يَرْكَبُ وَيُهْدِي، أَوْ كَمَا إِذَا نَذَرَ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ أَوْ لَا يَأْكُلَ الطعام [الفلاني] ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ حُكْمُهُ، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ، فَانْظُرْ كَيْفَ صَحِبَهُ الرِّفْقُ الشَّرْعِيُّ فِيمَا أَدْخَلَ نَفْسَهُ فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّاتِ.
فَعَلَى هَذَا كَوْنُ الشَّارِعِ لَا يَقْصِدُ إِدْخَالَ الْمَشَقَّةِ عَلَى الْمُكَلَّفِ1 عَامٌّ فِي الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ.
وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 194] ، فَسُمِّيَ الْجَزَاءُ اعْتِدَاءً، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْقَصْدَ إِلَى الِاعْتِدَاءِ، وَمَدْلُولُهُ الْمَشَقَّةُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمُعْتَدِي.
لِأَنَّا نَقُولُ: تسمية الجزاء المرتب على الاعتداء اعتداء مجاز مَعْرُوفٌ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ2، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] .
1 في الأصل: "العبد".
2 قلت: كلام المصنف في صفة الاستهزاء والمكر وغيرهما من صفات الفعل لله عز وجل من الأمور المردودة غير المقبولة، ومنهج السلف في فهم الأسماء والصفات على خلافها، وما الداعي لهذا المعنى وذات الله غير ذواتنا، وبالتالي أسماؤه وصفاته غير أسمائنا وصفاتنا، فإن التأويل=
.........................................................................
= لا يكون إلا بعد الوقوع في التشبيه، وحينئذ يكون هنالك داع لصرف اللفظ عن معناه، وهو في حقيقته تعطيل.
واعلم وفقني الله وإياك للصواب، أن الصفات إذا كانت كمالا في حال، ونقصا في حال، لم تكن جائزة في حق الله، ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق، فلا تثبت له إثباتا مطلقا، ولا تنفى عنه نفيا مطلقا، بل لا بد من التفصيل، فتجوز في الحال التي تكون كمالا، وتمتنع في الحال التي تكون نقصا، وذلك كالمكر، وهذه الصفات وغيرها من صفات الأفعال كالكيد والخداع، فهذه تكون كمالا إذا كانت في مقابلة من يعاملون الفاعل بمثلها؛ لأنها حينئذ تدل على أن فاعلها قادر على مقابلة عدوه بمثل فعله أو أشد، وتكون نقصا في غير هذه الحال، ولهذا لم يذكرها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم على أنها من صفاته سبحانه بإطلاق، وإنما ذكرها في مقابلة من يعاملونه ورسوله بمثلها: كقوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]، وقوله:{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا، وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15-16]، وقوله:{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 182-183]، وقوله:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، وقوله:{قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 14، 15] .
وقد ألمح ابن القيم إلى نحو ما ذكره المصنف من تأويل هذه الصفات ورده بنحو ما قررناه، فقال في "إعلام الموقعين" "3/ 217-218": "وقد قيل: إن تسمية ذلك مكرا وكيدا واستهزاء وخداعا من باب الاستعارة، ومجاز المقابلة، نحو {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ، ونحو قوله:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وقيل: وهو أصوب، بل تسمية ذلك حقيقة على بابه، فإن المكر إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي، وكذلك الكيد والمخادعة، ولكنه نوعان:
قبيح، وهو إيصال ذلك لمن لا يستحقه.
وحسن: وهو إيصاله إلى من يستحقه، عقوبة له.
فالأول مذموم، والثاني ممدوح، والرب تعالى إنما يفعل من ذلك ما يحمد عليه عدلا منه وحكمة، وهو تعالى يأخذ الظالم والفاجر من حيث لا يحتسب، لا كما يفعل الظلمة بعباده.
وأما السيئة، فهي "فيعلة" مما يسوء ولا ريب أن العقوبة تسوء صاحبها، فهي سيئة له، =
...........................................................................................
= حسنة من الحكم العدل".
وزيادة في توضيح ما سبق أود أن أبين ما يلي:
أولا: إن الله لم يصف نفسه بالكيد، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصف ربه بالإحصاء إلا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق، وهذا الوصف على حقيقته دون مجاز؛ إذ الموجب للمجاز منتفٍ كما سيأتي.
ثانيا: إن دعوى إطلاق هذه الألفاظ على الله سبحانه بالشرط السابق على سبيل المجاز لأنها توهم التشبيه باطلة، والمراد بهذا المجاز نفي قيام الأفعال الاختيارية بذات الله سبحانه، وهذا باطل، وقد مر معنا الرد على المصنف عندما أَوَّلَ بعض هذه الصفات مثل "الحب والبغض"، راجع "ص195 وما بعدها".
ثالثا: إن هذه الأفعال لا تذم على الإطلاق، ولا تمدح على الإطلاق، ومجازاة المسيء بمثل إساءته جائز في جميع الملل، مستحسن في جميع العقول، ولهذا كاد الله سبحانه وتعالى ليوسف حين أظهر لإخوته ما أبطن خلافه، جزاء على كيدهم له مع أبيه.
رابعا: هذه المجازة من المخلوق حسنة، فكيف من الخالق، هذا إذا نزلنا على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين، وأنه سبحانه منزه عما يقدر عليه مما لا يليق بكماله، ولكنه لا يفعله لقبحه وغناه عنه، وإن نزلنا ذلك على نفي التحسين والتقبيح عقلا، وأنه يجوز عليه كل ممكن، ولا يكون قبيحا فلا يكون المكر وغيره من صفات الفعل منه قبيحا البتة، فلا يمتنع وصفه به ابتداء، لا على سبيل المقابلة على هذا التقدير.
وعلى التقديرين، فإطلاق ذلك عليه سبحانه على حقيقته دون مجاز؛ إذ الموجب للمجاز منتفٍ على التقديرين.
خامسا: لا يشرع اشتقاق أسماء لله عز وجل من هذه الصفات، ومن فعل ذلك من الجهلة، فقد افترى على الله الكذب، وفاهَ بأمر عظيم تقشعر منه الجلود، وتكاد الأسماع تصم عند سماعه.
قال السفاريني في "الدرة المضيئة"- كما في "العقائد السلفية""59" في مبحث الأسماء الحسنى:
لكنها في الحق توقيفية
…
لنا بذا أدلة وفية
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في "مدارج السالكين""3/ 415": "فنسبة الكيد =
{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 54] .
{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا، وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطَّارِقِ: 15، 16] .
إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ، فَلَا اعْتِرَاضَ بِمِثْلِ ذَلِكَ.
فَصْلٌ 1:
وَقَدْ تَكُونُ الْمَشَقَّةُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ خَارِجٍ، لَا بِسَبَبِهِ، وَلَا بِسَبَبِ دُخُولِهِ فِي عَمَلٍ تَنْشَأُ عنه، فههنا لَيْسَ لِلشَّارِعِ قَصْدٌ فِي بَقَاءِ ذَلِكَ الْأَلَمِ وَتِلْكَ الْمَشَقَّةِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ فِي التَّسَبُّبِ فِي إِدْخَالِهَا عَلَى النَّفْسِ، غَيْرَ أَنَّ الْمُؤْذِيَاتِ وَالْمُؤَلِّمَاتِ خَلْقَهَا اللَّهُ تَعَالَى ابْتِلَاءً لِلْعِبَادِ وَتَمْحِيصًا2، وَسَلَّطَهَا عَلَيْهِمْ كَيْفَ شَاءَ وَلِمَا شَاءَ:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 23] ، وَفُهِمَ مِنْ مَجْمُوعِ الشَّرِيعَةِ الْإِذْنُ فِي دَفْعِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ رَفْعًا3 لِلْمَشَقَّةِ اللَّاحِقَةِ، وَحِفْظًا عَلَى الْحُظُوظِ الَّتِي أَذِنَ لَهُمْ فيها، بل
= والمكر ونحوها إليه سبحانه من إطلاق الفعل عليه تعالى، والفعل أوسع من الاسم، ولهذا أطلق الله على نفسه أفعالا لم يتسم منها بأسماء الفاعل، كأراد وشاء وأحدث، ولم يسم بـ "المريد". و"الشائي" و"المحدث"، كما لم يسم نفسه بـ "الصانع" و"الفاعل" و"المتقن"، وغير ذلك من الأسماء التي أطلق أفعالها على نفسه، فباب الأفعال أوسع من باب الأسماء، وقد أخطأ أقبح الخطأ من اشتق له من كل فعل اسما، وبلغ بأسمائه زيادة على الألف، فسماه: الماكر، والمخادع، والفاتن، والكائد، ونحو ذلك، وكذلك باب الإخبار عنه بالاسم أوسع من تسميته به، فإنه يخبر عنه بأنه شيء موجود ومذكور ومعلوم ومراد، ولا يسمى بذلك".
وانظر في إثبات هذا الصفات أيضا: "مختصر الصواعق المرسلة""2/ 32-34"، و"طريق الهجرتين""427-429"، و"أقاويل الثقات""72".
1 هذا مقابل لسائر ما تقدم في موضوع لحوق المشقات تكميلا للمقام. "د".
2 انظر ما تقدم "2/ 45".
3 في "ط": "ورفعا" بواو.
أُذِنَ فِي التَّحَرُّزِ مِنْهَا عِنْدَ تَوَقُّعِهَا وَإِنْ لَمْ تَقَعْ، تَكْمِلَةً لِمَقْصُودِ الْعَبْدِ، وَتَوْسِعَةً [عَلَيْهِ، وَحِفْظًا] 1 عَلَى تَكْمِيلِ الْخُلُوصِ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَالْقِيَامِ بِشُكْرِ النِّعَمِ.
فَمِنْ2 ذَلِكَ الْإِذْنُ فِي دَفْعِ أَلَمِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَفِي التَّدَاوِي عِنْدَ وُقُوعِ الْأَمْرَاضِ، وَفِي التَّوَقِّي مِنْ كُلِّ مؤذٍ آدَمِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَالتَّحَرُّزِ مِنَ الْمُتَوَقِّعَاتِ حَتَّى يُقَدِّمَ الْعُدَّةَ لَهَا، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا يَقُومُ بِهِ عَيْشُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ، ثُمَّ رَتَّبَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ دَفْعَ الْمُؤْلِمَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَجَلْبَ مَنَافِعِهَا بِالْتِزَامِ الْقَوَانِينِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا رَتَّبَ لَهُ ذَلِكَ فِيمَا يَتَسَبَّبُ عَنْ أَفْعَالِهِ وَكَوْنُ هَذَا مَأْذُونًا فِيهِ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً.
إِلَّا أَنَّ هَذَا الدَّفْعَ الْمَأْذُونَ فِيهِ إِنْ ثَبَتَ انْحِتَامُهُ، فَلَا إِشْكَالَ فِي عِلْمِنَا أَنَّ الشَّارِعَ قَصَدَ رَفْعَ تِلْكَ الْمَشَقَّةِ، كَمَا أَوْجَبَ عَلَيْنَا دَفْعَ الْمُحَارِبِينَ، وَالسَّاعِينَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ بِالْفَسَادِ، وَجِهَادَ الْكُفَّارِ الْقَاصِدِينَ لِهَدْمِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ هُنَا جِهَةُ التَّسْلِيطِ وَالِابْتِلَاءِ؛ لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا بِإِيجَابِ الدَّفْعِ أَنَّ ذَلِكَ مُلْغًى فِي التَّكْلِيفِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي الْعَقْدِ الْإِيمَانِيِّ، كَمَا لَا تُعْتَبَرُ3 جِهَةُ التَّكْلِيفِ ابْتِدَاءً، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ ابْتِلَاءٌ4؛ لِأَنَّهُ طَاعَةٌ أو معصية من جهة.
1 ما بين المعقوفتين سقط من الأصل.
2 كذا في "د" وفي الأصل و"ط" فأول" وفي "خ": "فإن".
3 أي: فكما أن التكليف نفسه ابتلاء كما بينه بقوله: لأنه.... إلخ"، ولا يعتبر فيه هذا الابتلاء بل طولب المكلف بالامتثال، فكذلك هنا طولب المكلف بما يدفع هذا الابتلاء الذي ينزل به من الأمراض وغيرها، وبعبارة أخرى إذا كان ابتداء التكليف العام وأصله ابتلاء ولم يعتبر ذلك حتي يمنع توجهه للمكلفين ليعملوا على ما فيه النجاة من هذا الابتلاء، فكذا هذا التكليف الخاص المطلوب به دفع ابتلاء خاص من ألم الجوع مثلا يكون تكليفا مقبولا، ولا يعتبر الابتلاء مانعا من توجهه. "د".
4 قال ابن العربي في "أحكام القرآن""2/ 656"، "والتكليف كله ابتلاء، وإن تفاضل" في الكثرة والقلة، وتباين في الضعف والشدة".
وانظر: "تفسير القرطبي""6/ 300"، والروح "123".
الْعَبْدِ، خَلْقٌ لِلرَّبِّ، فَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ فِيهِ بِحَسَبِ مَا يَخْلُقُ اللَّهُ فِي الْعَبْدِ، فَلَيْسَ لَهُ في الأصل حيلة إلا الاستلام لِأَحْكَامِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، فَكَذَلِكَ هُنَا.
وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَثْبُتِ انْحِتَامُ الدَّفْعِ1، فَيُمْكِنُ اعْتِبَارُ جِهَةِ التَّسْلِيطِ وَالِابْتِلَاءِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الشَّاقَّ مُرْسَلٌ مِنَ الْمُسَلِّطِ الْمُبْلِي، فَيَسْتَسْلِمُ الْعَبْدُ لِلْقَضَاءِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا لَمْ يَكُنِ التَّدَاوِي مُحَتَّمًا2 تَرَكَهُ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَأَذِنَ عليه الصلاة والسلام فِي الْبَقَاءِ عَلَى حُكْمِ الْمَرَضِ، كَمَا فِي حَدِيثِ السَّوْدَاءِ الْمَجْنُونَةِ3 الَّتِي سَأَلَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَدْعُوَ لَهَا، فَخَيَّرَهَا فِي الْأَجْرِ مَعَ الْبَقَاءِ عَلَى حَالَتِهَا أَوْ زَوَالِ ذَلِكَ4، وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ:"وَلَا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"5.
وَيُمْكِنُ اعْتِبَارُ جِهَةِ الْحَظِّ بِمُقْتَضَى الْإِذْنِ ويتأيَّدُ بِالنَّدْبِ، كَمَا فِي التَّدَاوِي حَيْثُ قَالَ عليه الصلاة والسلام: "تَدَاوَوْا، فَإِنَّ الَّذِي أنزل الداء أنزل
1 في "ط": "في الدفع"
2 في "ط": "متحتما".
3 كان الأولى أن يقول: التي كانت تصرع" كما هي عبارة الحديث. "د".
4 أخرج البخاري في "صحيحه""كتاب المرضى، باب فضل من يصرع من الريح، 10 / 114/ رقم 5652"، ومسلم في "الصحيح""كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن، 4/ 1994/ رقم 2576" عن ابن عباس، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي. قال:"إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك" فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف، فادع الله لي أن لا أتكشف. فدعا لها. لفظ البخاري.
5 جزء من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب الرقاق، باب يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب، 11/ 405-406/ رقم 6541، وكتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره، وفضل من لم يكتو، 10/ 155/ رقم 5705"، ومسلم في "صحيحه""كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين بغير حساب ولا عقاب، 1/ 199/ رقم 220" من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
الدواء" 1، وأما إن ثبتت2 الْإِبَاحَةُ، فَالْأَمْرُ أَظْهَرُ.
وَهُنَا انْقَضَى الْكَلَامُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ3 مِنْ أَوْجُهِ الْمَشَقَّاتِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ، وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى الْوَجْهِ الرَّابِعِ، وذلك مشقة مخالفة الهوى، وهي:
1 مضى تخريجه "1/ 217" من حديث أسامة بن شريك، وهو حديث صحيح.
وأخرج البخاري في "صحيحه""كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، 10/ 134/ رقم 5678" عن أبي هريرة مرفوعا: "وما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء".
2 في الأصل: "ثبت".
3 عقد المسألة السابقة لمسمى لفظ المشقة في الوجه الثالث، فتكلم عنه في أولها، وفرق بين ما يعد مشقة معتادة وما لا يعد، وإن كان فيه كلفة، وانجر به الكلام إلى أن الشارع لا يقصد المشقة المعتادة الحاصلة في التكاليف، كما لا يقصد غير المعتادة، بل يقصد الفعل من جهة كونه مصلحة عائدة على المكلف فقط، ثم رتب على ذلك في الفصل الأول أنه ليس للمكلف أن يقصد المشقة في التكليف نظرا إلى عظم أجرها، ثم ذكر في الفصل الثاني أن الأعمال المأذون فيها إذا تسبب عنها مشقة، فإما أن تكون معتادة، أو غير معتادة، وتوسع في تفاصيل غير المعتادة التي هي محل مشروعية الرخص، وخارجة عما عقدت له المسألة، ثم مد النفس في تفاصيل غير المعتادة التي تتسبب عن العبادة، إما لخوف الانقطاع عن العمل أو كراهيته، وإما لمزاحمة الوظائف المطلوبة من العبد بعضها لبعض، وذلك في الفصلين الثاني والثالث، ثم أكمل المقام في الفصل الرابع بالأفعال غير المأذون فيها في مقابلة موضوع الفصل الثاني الذي قيده بالمأذون فيها، ثم ذكر فصلا خامسا لمجرد إكمال الكلام في مطلق المشقة، وبمراجعة هذه الفصول لا تجد منها فصلا خاصا بالوجه الثالث، بل عنايته كما رأيت بالوجهين الاول والثاني أكر من عنايته بالوجه الثالث وما يشبهه، الذي فيه المشقة غير معتادة، ولكنها صارت عند قوم كالمعتادة، ثم قال في آخر المسألة:"وهنا انقضى الكلام على الوجه الثالث"، فهذا الصنيع غير موجه، وكان يحسن به أن يضع كل مبحث مما اشتملت عليه تلك الفصول في محله الخاص به من تلك الوجوه الثلاثة حتى تمتاز المباحث بعضها عن بعض ويظهر ارتباطها بتلك الوجوه. "د".
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ:
وَذَلِكَ أَنَّ مُخَالِفَةَ مَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ شَاقٌّ عَلَيْهَا، وَصَعْبٌ خُرُوجُهَا عَنْهُ، وَلِذَلِكَ بَلَغَ أَهْلُ الْهَوَى فِي مُسَاعَدَتِهِ مَبَالِغَ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، وَكَفَى شَاهِدًا عَلَى ذَلِكَ حَالُ الْمُحِبِّينَ1، وَحَالُ مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ صَمَّمَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، حَتَّى رَضُوا بِإِهْلَاكِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ، وَلَمْ يَرْضَوْا بِمُخَالَفَةِ الْهَوَى، حَتَّى قَالَ تَعَالَى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الْجَاثِيَةِ: 23] .
وَقَالَ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النَّجْمِ: 23] .
وَقَالَ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [مُحَمَّدٍ: 14] .
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَلَكِنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا قَصَدَ بِوَضْعِ الشَّرِيعَةِ إِخْرَاجَ2 الْمُكَلَّفِ عَنِ اتِّبَاعِ هَوَاهُ، حَتَّى يَكُونَ عبدًا لله، فإذن مُخَالَفَةُ الْهَوَى لَيْسَتْ مِنَ الْمَشَقَّاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي التَّكْلِيفِ، وَإِنْ كَانَتْ شَاقَّةً فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ؛ إِذْ لَوْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً حَتَّى يُشْرَعَ التَّخْفِيفُ لِأَجْلِ ذَلِكَ3، لَكَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِمَا وُضِعَتِ الشَّرِيعَةُ لَهُ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ، وَبَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى مَذْكُورٌ بَعْدُ إِنْ شاء الله.
1 انظر شيئا من ذلك في كتاب "ذم الهوى" لابن الجوزي في الباب التاسع والثلاثين وما بعده "ص259 وما بعدها" وفي طوق الحمامة" لابن حزم "ص7 وما بعدها "
2 في "خ" محرفة إلى "إخراس".
3 في "ط": "لأجلها".
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ:
كَمَا أَنَّ الْمَشَقَّةَ تَكُونُ دُنْيَوِيَّةً، كَذَلِكَ تَكُونُ أُخْرَوِيَّةً، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ إِذَا كَانَ الدُّخُولُ فِيهَا يُؤَدِّي إِلَى تَعْطِيلِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ، فَهُوَ أَشَدُّ مَشَقَّةً بِاعْتِبَارِ الشَّرْعِ مِنَ الْمَشَقَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُخِلَّة بِدِينٍ، وَاعْتِبَارُ الدِّينِ مُقَدَّمٌ1 عَلَى اعْتِبَارِ النَّفْسِ وَغَيْرِهَا فِي نَظَرِ الشَّرْعِ، وَكَذَلِكَ هُنَا2، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَيْسَ لِلشَّارِعِ قَصْدٌ3 فِي إِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يُدْخَلُ4 تَحْتَهَا هَذَا الْمَطْلَبُ مَا فيه كفاية.
1 أي: إن أصول الدين تقدم على اعتبار النفس والأعضاء، فإذا توقف حفظ الدين على المخاطرة بالنفس أو الأعضاء قدم الدين، ولذا وجب الجهاد لحفظ الدين وإن أدى إلى ضياع كثير من النفوس، أما غير أصول الدين، فأنت تعلم أن الأمر فيها غير ذلك، فكثيرا ما يسقط الشارع واجبات دينية محافظة على النفس حتى من نحو المرض، وحينئذ، فليس اعتبار الأمور الدينية مقدما على النفس ولا على المال في كل شيء، والمقام يحتاج إلى بسط أوفى من هذا، ولذا قال صاحب "التحرير" في موضوع الضروريات الخمس:"إن حفظ الدين يكون بوجوب الجهاد، وعقوبة الداعي إلى البدع"، فلا شك أن هذا فيما يتعلق بأصول الدين، وسيأتي في المسألة العاشرة ما يحتاج فيه إلى الترجيح بين مصلحتين قد تكون إحداهما دينية والأخرى دنيوية، فلو كانت الدينية تقدم مطلقا ما كان هناك حاجة إلى الترجيح المذكور. "د".
2 أي: فالمشقة الدينية مقدمة في الاعتبار على الدنيوية. "د".
3 أي: فمع كونه يقدم ما فيه حفظ الدين -مع كونه مشقته أعظم- على ذي المشقة الدنيوية الصرفة، فإنه لا يقصد إدخال هذه المشقة على المكلف، ولكنها جاءت في طريق حفظ الدين غير مقصودة. "د".
4 لأنه داخل في عموم المشقة التي برهن على أن الشارع لم يقصدها في التكليف مطلقا، وإن جاءت في طريق امتثال التكليف. "د".
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ:
قَدْ تَكُونُ الْمَشَقَّةُ النَّاشِئَةُ مِنَ التَّكْلِيفِ تَخْتَصُّ بِالْمُكَلَّفِ وَحْدَهُ، كَالْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَقَدْ تَكُونُ عَامَّةً1، لَهُ وَلِغَيْرِهِ، وَقَدْ تَكُونُ دَاخِلَةً عَلَى غَيْرِهِ بِسَبَبِهِ.
وَمِثَالُ الْعَامَّةِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ كَالْوَالِي الْمُفْتَقَرِ إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ ذَا كِفَايَةٍ فِيمَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ، إِلَّا أَنَّ الْوِلَايَةَ تَشْغَلُهُ عَنِ الِانْقِطَاعِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَالْأُنْسِ بِمُنَاجَاتِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَقُمْ بِذَلِكَ عَمَّ الْفَسَادُ وَالضَّرَرُ، وَلَحِقَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَلْحَقُ غَيْرَهُ.
وَمِثَالُ الدَّاخِلَةِ عَلَى غَيْرِهِ دُونَهُ كَالْقَاضِي وَالْعَالِمِ الْمُفْتَقَرِ إِلَيْهِمَا، إِلَّا أَنَّ الدُّخُولَ فِي الْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ يَجُرُّهُمَا إِلَى مَا لَا يَجُوزُ2، أَوْ يَشْغَلُهُمَا عَنْ مُهِمٍّ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ، وَهُمَا إِذَا لَمْ يَقُومَا بِذَلِكَ، عَمَّ الضَّرَرُ غَيْرَهُمَا مِنَ النَّاسِ، فَقَدْ نَشَأَ هُنَا عَنْ طَلَبِهِمَا لِمَصَالِحِهِمَا المأذون فيها والمطلوبة منهما فساد عام.
1 هذا نوع آخر من المشقة ليس داخلا في المعاني الأربعة التي تقدمت؛ لأن تلك كان المشقة فيها حاصلة من نفس الفعل، وهنا حصول المشقة يحدث من التعارض للوظائف التي تناط بالمكلف، فإذا قدم بعضها على بعض حصل له ولغيره ضرر أو لغيره فقط، مع كون أصل الفعل المطلوب لم يلاحظ فيه مشقة خارجة عن المعتاد، فالمشقة هنا تحصل من عدم العمل، عكس المعاني الأربعة السابقة "د".
2 من الأمور التي تعرض في القضاء غير الجور في الحكم، فليس القاضي معصوما، وقد يجره الأمر إلى الجور أيضا، وهذا ما دعا مثل أبي حنيفة إلى التنحي عنه مع توجيه الأذى إليه بسبب التنحي، فلا يظهر وجه للانتقاد من بعض الناظرين هنا على ذلك. "د".
وكتب "خ" ما نصه: "لا يقع القاضي أو المفتي في أمر غير جائز، إلا أن يحيد عن طريق الاستقامة من تلقاء نفسه؛ إذ الخطأ في الاجتهاد مغتفر والإكراه إنما يخضع أمامه من يؤثر المنصب على الشرف والفضيلة، وليس العزل من الوظيفة عذرا يبيح لمن يتقلدها أن يقول على الله غير الحق، أو يتصرف في حق من حقوق الأمة على وجه يلقي به في تلف أو يهبط بالأمة هاوية ذل وصغار".
وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَالْمَشَقَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ تَكُونُ غَيْرَ مَطْلُوبَةٍ، وَلَا الْعَمَلُ الْمُؤَدِّي إِلَيْهَا1 مَطْلُوبًا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَقَدْ نَشَأَ هُنَا نَظَرٌ فِي تَعَارُضِ مَشَقَّتَيْنِ، فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ إِنْ لَزِمَ مِنِ اشْتِغَالِهِ بِنَفْسِهِ فَسَادٌ وَمَشَقَّةٌ لِغَيْرِهِ، فَيَلْزَمُ أَيْضًا مِنَ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهِ فَسَادٌ وَمَشَقَّةٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَصَدَّى النَّظَرُ فِي وَجْهِ اجْتِمَاعِ الْمَصْلَحَتَيْنِ مَعَ انْتِفَاءِ الْمَشَقَّتَيْنِ إِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ2 وَإِنْ لَمْ يُمَكِنْ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّرْجِيحِ، فَإِذَا كَانَتِ الْمَشَقَّةُ الْعَامَّةُ أَعْظَمَ، اعْتُبِرَ جَانِبُهَا وَأُهْمِلَ جَانِبُ الْخَاصَّةِ3، وَإِنْ كَانَ بِالْعَكْسِ، فَالْعَكْسُ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ تَرْجِيحٌ، فَالتَّوَقُّفُ كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي كِتَابِ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
1أي: إلى المشقة الخارجة عن المعتاد، كما سبق وكما هو مساق كلام المؤلف هنا، أو يقال: إن العمل المؤدي إلى المشقة من حيث تأديته إليها لا يطلب، والطلب إنما هو من جهة كونه مصلحة كما سبق مثله. "د".
2 كأن تكون مشقته من حيث عيش عياله، فتقوم له الأمة بذلك ويقوم لها بوظيفة القضاء أو العلم أو الجندية التي تتضرر بعدمها، وبهذا تجتمع المصلحتان وتنتفي المشقتان. "د".
3 كما إذا كان التعارض بين وظيفة عامة تتعين عليه، وبين مهم ديني غير متأكد عليه.
"د".
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:
حَيْثُ تَكُونُ الْمَشَقَّةُ الْوَاقِعَةُ بِالْمُكَلَّفِ فِي التَّكْلِيفِ خَارِجَةً عَنْ مُعْتَادِ الْمَشَقَّاتِ فِي الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ1، حَتَّى يَحْصُلَ بِهَا فَسَادٌ ديني أو دنيوي،
1 الذي يفهم من قول الشاطبي عن المشقة التي تقتضي التخفيف أنها ما كانت "خارجة عن المعتاد في الأعمال العادية" إنه يرجع في تعيين الخلل على العبد إلى عرف الناس وعاداتهم، ومما يؤكد ذلك قوله في شأن ما يبدو أنه غير معتاد، ولكنه معتاد في الحقيقة: "
…
فإذا كان كذلك، فكثير مما يظهر ببادئ الرأي من المشقات أنها خارجة عن المعتاد لا يكون كذلك لمن كان عارفا بمجاري العادات".
وخلاصة ذلك أن المشقات التي تقتضي التخفيف مما لم يَرِد بشأنها شيء من الشارع، هي المشقات التي تكشف العادات والأعراف عن أنها خارجة عن المعتاد وتلحق خللا في العبد أو ماله أو حال من أحواله.
وقد استشكل القرافي في "الفروق""1/ 119-120- الفرق 14" أن يكون العرف ضابطا للمشقة التي تجلب التيسير فيما لا نص فيه، وذكر أن الفقهاء يحيلون على العرف عند سؤالهم، مع أنهم من أهل العرف، فلو كان هناك عرف قائم لوجدوه معلوما لهم أو معروفا، ولا تصح الإحالة على غير الفقهاء؛ لأنه ليس بعد الفقهاء من أهل العرف إلا العوام، وهم مما لا يصح تقليدهم في الدين.
ولذلك، فقد مال القرافي إلى الأخذ بمنهج ابن عبد السلام في التقريب بقواعد الشرع، كما تراه في كتابه" قواعد الأحكام""2/ 9-10"، ولكن الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره "المنار""6/ 271" تعقب كلام القرافي، وذكر أن فيه نظرا ظاهرا، قال:"وأقول فيما استشكله من نوط ما لم يرد في الشرع بالعرف نظر ظاهر، فإن العلماء الذين ناطوا بعض المسائل بالعرف إنما وقع ذلك منهم أفذاذا أثناء البحث أو التصنيف، ويجوز أن يجهل كل فرد منهم العرف العام في كثير من المسائل، وما اجتمع علماء عصر أو قطر للبحث عن عرف الناس في أمر ومحاولة ضبطه وتحديده، ثم عجزوا عن معرفته وأحالوا في ذلك على العامة، أن من العلماء الفقير البائس والضعيف المنة -أي: القوة والجلد- والغني المترف، والقوي الجلد وغير ذلك، فيشق على بعضهم ما لا يشق على الجمهور، ويسهل على بعضهم ما لا يسهل على الجمهور، فالرجوع إلى العرف فيما يشق على الناس وما لا يشق عليهم ضروري لا بد منه، وهو لا يعرف إلا بمباشرة الناس وتعرف شئونهم وأحوالهم".
فَمَقْصُودُ الشَّارِعِ فِيهَا الرَّفْعُ عَلَى الْجُمْلَةِ وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَلِذَلِكَ شُرِعَتْ فِيهَا الرُّخَصُ مُطْلَقًا.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ خَارِجَةً عَنِ الْمُعْتَادِ، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَعُ الْمَشَقَّةُ فِي مِثْلِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ، فَالشَّارِعُ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ وُقُوعَهَا، فَلَيْسَ بِقَاصِدٍ لِرَفْعِهَا أَيْضًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَاصِدًا لِرَفْعِهَا لَمْ يَكُنْ بَقَاءُ التَّكْلِيفِ مَعَهَا؛ لِأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ عَادِيٍّ أَوْ غَيْرِ عَادِيٍّ يَسْتَلْزِمُ تَعَبًا وَتَكْلِيفًا عَلَى قَدْرِهِ، قَلَّ أَوْ جَلَّ، إِمَّا فِي نَفْسِ الْعَمَلِ الْمُكَلَّفِ بِهِ، وَإِمَّا فِي خُرُوجِ الْمُكَلَّفِ عَمَّا كَانَ فِيهِ إِلَى الدُّخُولِ فِي عَمَلِ التَّكْلِيفِ، وَإِمَّا فِيهِمَا مَعًا، فَإِذَا اقْتَضَى الشَّرْعُ رَفْعَ ذَلِكَ التَّعَبِ، كَانَ ذَلِكَ اقْتِضَاءً لِرَفْعِ الْعَمَلِ الْمُكَلَّفِ بِهِ مِنْ أَصْلِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَكَانَ ما يَسْتَلْزِمُهُ غَيْرَ صَحِيحٍ.
إِلَّا أَنَّ هُنَا نَظَرًا1، وَهُوَ أَنَّ التَّعَبَ وَالْمَشَقَّةَ فِي الْأَعْمَالِ الْمُعْتَادَةِ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ، فَلَيْسَتِ الْمَشَقَّةُ فِي صَلَاةِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ كَالْمَشَقَّةِ فِي رَكْعَتَيِ الصُّبْحِ، وَلَا الْمَشَقَّةُ فِي الصَّلَاةِ كَالْمَشَقَّةِ فِي الصِّيَامِ، وَلَا الْمَشَقَّةُ فِي الصِّيَامِ كَالْمَشَقَّةِ فِي الْحَجِّ، وَلَا الْمَشَقَّةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَالْمَشَقَّةِ فِي الْجِهَادِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ التَّكْلِيفِ، وَلَكِنَّ كُلَّ عَمَلٍ فِي نَفْسِهِ لَهُ مَشَقَّةٌ مُعْتَادَةٌ فِيهِ تُوَازِي مَشَقَّةَ مِثْلِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ، فَلَمْ تَخْرُجْ عَنِ الْمُعْتَادِ عَلَى الْجُمْلَةِ.
ثُمَّ إِنَّ الْأَعْمَالَ الْمُعْتَادَةَ2 لَيْسَتِ الْمَشَقَّةُ فِيهَا تجري على وزان واحد، في
1 هذا هو محل الفائدة من هذه المسألة، يحقق فيه أن المشقة المعتادة نسبية يحتاج فهمها إلى دقة نظر بالنسبة لكل عمل في ذاته، حتى لا تختلط أنواع المشقات، فتختلط الأحكام المترتبة عليها. "د".
قلت: انظر في حدود المشقة: "الذخيرة" للقرافي "1/ 340- ط دار الغرب".
2 أي: من أعمال التكليف بدليل سابقه ولاحقه. "د".
كُلِّ وَقْتٍ، وَفِي كُلِّ مَكَانٍ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَيْسَ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي السَّبَرَاتِ1 يُسَاوِي إِسْبَاغَهُ فِي الزَّمَانِ الْحَارِّ، وَلَا الْوُضُوءُ مَعَ حَضْرَةِ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فِي اسْتِقَائِهِ يُسَاوِيهِ مَعَ تَجَشُّمِ طَلَبِهِ أَوْ نَزْعِهِ مِنْ بِئْرٍ بَعِيدَةٍ، وَكَذَلِكَ الْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ مِنَ النَّوْمِ فِي قِصَرِ اللَّيْلِ أَوْ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ، مَعَ فِعْلِهِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.
وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّه فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ 2 جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [الْعَنْكَبُوتِ: 10] بَعْدَ قَوْلِهِ:
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 2] إِلَى آخِرِهَا.
وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الْأَحْزَابِ: 10-11] .
ثُمَّ مَدَحَ اللَّهُ مَنْ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ وَصَدَقَ فِي وَعْدِهِ بِقَوْلِهِ: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الْأَحْزَابِ: 23] .
وَقِصَّةُ3 كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ رضي الله عنهم فِي تَخَلُّفِهِمْ عن غزوة
1 جمع سَبْرة، بفتح، فسكون: وهي الغداة الباردة. "د".
2 أي: فالإيمان قد يستتبع الوفاء بواجباته مشقات وفتنًا يجب الصبر عليها، ولا تعد خارجة عن المعتاد في موضوع الإيمان، وهو من أعمال التكليف، وآية الأحزاب فيها مشقة الجهاد دفاعا عن الدين، وطبيعة الجهاد تقتضي مثل هذه المشقة ولا تكون خارجة عن المعتاد في الجهاد، وإن كانت هي في نفسها شاقة، ومدحهم بالصدق فيما عاهدوا الله عليه يقتضي أن ذلك من لوازم عقد الإيمان، وأنه يلزمه الصبر على المشقات بالجهاد وغيره في سبيل المحافظة عليه. "د".
3 أخرجها البخاري في "صحيحه""كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، 8/ 113/ رقم 4418"، ومسلم في "صحيحه""كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه 4/ 2120/ رقم 2769"، وأحمد في "المسند""3/ 454 و456-459"، وأبو داود في "السنن""كتاب السنة، باب مجانبة أهل الأهواء وبغضهم، 4/ 199/ رقم 4600" مختصرا، وسقتها مع تخريجها في كتابي "الهجر في الكتاب والسنة""ص157-159".
تَبُوكَ وَمَنْعُ1 رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مُكَالَمَتِهِمْ، وَإِرْجَاءُ أَمْرِهِمْ:{حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} [التَّوْبَةِ: 118] .
وَكَذَلِكَ مَا جَاءَ فِي نِكَاحِ الْإِمَاءِ2 عِنْدَ خَشْيَةِ الْعَنَتِ، ثُمَّ قَالَ:{وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النِّسَاءِ: 25] .
إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَشَقَّةَ قَدْ تَبْلُغُ فِي الْأَعْمَالِ الْمُعْتَادَةِ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ وَلَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ مُعْتَادٌ، وَمَشَقَّتُهُ فِي مثله مِمَّا يُعْتَادُ؛ إِذِ الْمَشَقَّةُ فِي الْعَمَلِ الْوَاحِدِ لَهَا طَرَفَانِ وَوَاسِطَةٌ، طَرَفٌ أَعْلَى بِحَيْثُ لَوْ زَادَ شَيْئًا لَخَرَجَ3 عَنِ الْمُعْتَادِ، وَهَذَا لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُعْتَادًا، وَطَرَفٌ أَدْنَى بِحَيْثُ لَوْ نَقَصَ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَشَقَّةٌ تُنْسَبُ إِلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَوَاسِطَةٌ هِيَ الْغَالِبُ وَالْأَكْثَرُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكَثِيرٌ مِمَّا يَظْهَرُ بِبَادِئِ الرَّأْيِ مِنَ الْمَشَقَّاتِ أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ لَا4 يَكُونُ كَذَلِكَ لِمَنْ كَانَ عَارِفًا بِمَجَارِي الْعَادَاتِ، وَإِذَا لَمْ تَخْرُجْ عَنِ الْمُعْتَادِ، لَمْ يَكُنْ لِلشَّارِعِ قَصْدٌ فِي رَفْعِهَا، كَسَائِرِ الْمَشَقَّاتِ الْمُعْتَادَةِ فِي الْأَعْمَالِ الْجَارِيَةِ عَلَى الْعَادَةِ فَلَا يَكُونُ فِيهَا رُخْصَةٌ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَوْضِعُ مشتبها فيكون محلا للخلاف5.
1 ربما يقال: إن هذا ليس تكليفا لهم، ولكنه نوع من العقوبة؛ لأن غيرهم هو الذي كلف بهجرهم، ولم يكلفوا إلا بهجر نسائهم في آخر المدة تقريبا، وليس هذا من المشقات التي يتوهم فيها الخروج عن المعتاد، فما هو الذي كان يمكنهم فعله ليخلصوا من عقوبة الهجر فلم يفعلوه؟ "د".
2 أي: المشقة في عدم إباحة التزوج بهن إلا عند بلوغ الأمر خوف الزنا، أما ما قبل ذلك من شدة الداعية إلى النكاح، فلا يعتد به وإن كان مشقة، ومع وجود المشقة التي اعتبرت هنا في الرخصة، فقد ندب إلى الصبر عند نكاحهن، فدل على أن المشقة في هذا الباب تقدر بحسبها فيه، لا بحسب نسبتها إلى المشقات في الأبواب الأخرى. "د".
3 في الأصل: "يخرج".
4 في "ط": "ولا".
5 في "ط": "محل خلاف".
فَحَيْثُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التَّوْبَةِ: 41]، ثُمَّ قَالَ:{إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التَّوْبَةِ: 39] ، كَانَ هَذَا مَوْضِعَ شِدَّةٍ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا رُخْصَةَ أَصْلًا فِي التَّخَلُّفِ، إِلَّا أَنَّهُ بِمُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ مَحْمُولٌ عَلَى أَقْصَى الثِّقَلِ فِي الْأَعْمَالِ الْمُعْتَادَةِ، بِحَيْثُ يَتَأَتَّى النَّفِيرُ وَيُمْكِنُ الْخُرُوجُ، وَقَدْ كَانَ اجْتَمَعَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمْرَانِ: شِدَّةُ الْحَرِّ، وَبُعْدُ الشُّقَّةِ، زَائِدًا عَلَى مُفَارَقَةِ الظِّلَالِ، وَاسْتِدْرَارِ الْفَوَاكِهِ وَالْخَيْرَاتِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ زَائِدٌ فِي مَشَقَّةِ الْغَزْوِ زِيَادَةً ظَاهِرَةً، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُخْرِجٍ لَهَا عَنِ الْمُعْتَادِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي ذَلِكَ رُخْصَةٌ، فَكَذَلِكَ أَشْبَاهُهَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [مُحَمَّدٍ: 31] .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الْحَجِّ: 78] : إِنَّمَا ذَلِكَ سَعَةُ الْإِسْلَامِ؛ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنَ التَّوْبَةِ وَالْكَفَّارَاتِ1.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَا أُحِلَّ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ2.
وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، أَنَّهُ جَاءَ فِي نَاسٍ مِنْ قَوْمِهِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَرَجِ، فَقَالَ: أَوَلَسْتُمُ الْعَرَبَ؟! [فَسَأَلُوهُ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: أَوَلَسْتُمُ الْعَرَبَ؟!] ثُمَّ قال: ادع رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ، فَقَالَ [لَهُ] : مَا الْحَرَجُ فِيكُمْ؟ قَالَ: الْحَرَجَةُ مِنَ الشَّجَرِ مَا لَيْسَ لَهُ مَخْرَجٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَلِكَ الْحَرَجُ؛ ما لا مخرج له3.
1 أخرجه ابن جرير في "التفسير""17/ 205-206"، وقال ابن العربي في "أحكامه" "3/ 1305" قبله:"وثبت صحيحا عن ابن عباس".
قلت: وجاء في الأصل و"خ": ".... ولا مخرج".
2 ذكره ابن العربي في "أحكام القرآن""3/ 1305".
3 أخرجه ابن جرير في "التفسير""17/ 206" بنحوه، وذكره ابن العربي في "أحكامه""3/ 1304-1305" بحرفه ونصه.
فَانْظُرْ كَيْفَ جَعَلَ الْحَرَجَ مَا لَا مَخْرَجَ لَهُ، وَفَسَّرَ رَفْعَهُ بِشَرْعِ التَّوْبَةِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَأَصْلُ الْحَرَجِ الضِّيقُ، فَمَا كَانَ مِنْ مُعْتَادَاتِ الْمَشَقَّاتِ فِي الْأَعْمَالِ الْمُعْتَادِ مِثْلُهَا، فَلَيْسَ بِحَرَجٍ لُغَةً وَلَا شَرْعًا، كَيْفَ وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْحَرَجِ وُضِعَ لِحِكْمَةٍ شَرْعِيَّةٍ؛ وَهِيَ التَّمْحِيصُ وَالِاخْتِبَارُ حَتَّى يَظْهَرَ فِي الشَّاهِدِ مَا عَلِمَهُ اللَّهُ فِي الغائب1، فقد تبين إذن مَا هُوَ مِنَ الْحَرَجِ مَقْصُودُ الرَّفْعِ، وَمَا لَيْسَ بِمَقْصُودِ الرَّفْعِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
فَصْلٌ:
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: "إِذَا كَانَ الْحَرَجُ فِي نَازِلَةٍ عَامَّةٍ فِي النَّاسِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ، وَإِذَا كَانَ خَاصًّا لَمْ يُعْتَبَرْ عِنْدَنَا، وَفِي بَعْضِ أُصُولِ الشَّافِعِيِّ اعْتِبَارُهُ"2 انْتَهَى مَا قَالَ.
وَهُوَ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنَّهُ إِنْ عَنَى بِالْخَاصِّ الْحَرَجَ الَّذِي فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْمُعْتَادِ، فَالْحُكْمُ كَمَا قَالَ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنَ الْمُعْتَادِ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُعْتَادَ لَا إِسْقَاطَ فِيهِ، وَإِلَّا؛ لَزِمَ فِي أَصْلِ التَّكْلِيفِ، فَإِنْ تُصُوِّرَ وُقُوعُ اخْتِلَافٍ، فَإِنَّمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحَرَجَ مِنْ قَبِيلِ الْمُعْتَادِ، أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْخَارِجِ عَنِ الْمُعْتَادِ، لَا أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَحَدِهِمَا.
وَأَيْضًا، فَتَسْمِيَتُهُ خَاصًّا يُشَاحُّ فِيهِ، فَإِنَّهُ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ عَامٌّ غَيْرُ خاص، إذ
1هذا كالتفسير لكل آية وقع فيها تعليل التكليف بعلم الله نحو: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} وصفوة المقال أن الله يعلم السرائر كما يلعم ما سيكون؛ إذ العلم يتعلق بالمعدوم وبالموجود، وإنما يضع التكاليف؛ لتنكشف سريرة العبد حيث إن الجزاء إنما يترتب على ما يقع، كما أن الأحكام إنما تجري على حسب ما يظهر للعيان، فيرجع التعليل بالعلم إلى التعليل بما يلزمه العلم، وهو التبين أو الانكشاف، ويكون المعنى؛ ليتعلق به علمنا موجودا ظاهرا. "خ".
2 أحكام القرآن" "3/ 1306".
لَيْسَ مُخْتَصًّا بِبَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى التَّعْيِينِ دُونَ بَعْضٍ.
وَإِنْ عَنَى بِالْحَرَجِ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنِ الْمُعْتَادِ، وَمِنْ جِنْسِ مَا تَقَعُ فِيهِ الرُّخْصَةُ وَالتَّوْسِعَةُ، فَالْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ فِيهِ أَيْضًا مِمَّا يُشْكَلُ فَهْمُهُ، فَإِنَّ السَّفَرَ مَثَلًا سَبَبٌ لِلْحَرَجِ مَعَ تَكْمِيلِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَقَدْ شُرِعَ فِيهِ التَّخْفِيفُ، فَهَذَا عَامٌّ، وَالْمَرَضُ قَدْ شُرِعَ فِيهِ التَّخْفِيفُ وَهُوَ لَيْسَ بِعَامٍّ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَسُوغُ التَّخْفِيفُ فِي كُلِّ مَرَضٍ؛ إِذْ مِنَ الْمَرْضَى مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِكْمَالِ الصَّلَاةِ قائما أو قاعدا، ومنه مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ، فَهَذَا يَخُصُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ فِي نَفْسِهِ.
وَمَعَ ذَلِكَ، فَقَدْ شُرِعَ فِيهِ التَّخْفِيفُ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَاصٌّ، وَلَكِنْ لَا يُخَالِفُ فِيهِ مَالِكٌ الشَّافِعِيَّ، إِلَّا أَنْ يَكُونُوا جَعَلُوا هَذَا مِنَ الْحَرَجِ الْعَامِّ عِنْدَ تَقْيِيدِ الْمَرَضِ بِمَا يَحْصُلُ فِيهِ الْحَرَجُ غَيْرُ الْمُعْتَادِ، فَيَرْجِعُ إِذْ ذَاكَ إِلَى قِسْمِ الْعَامِّ، وَلَا يُخَالِفُ فِيهِ مَالِكٌ الشَّافِعِيَّ أَيْضًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَصْعُبُ تَمْثِيلُ الْخَاصِّ، وَإِلَّا؛ فَمَا مِنْ حَرَجٍ يُعَدُّ1 أَنْ يَكُونَ لَهُ تَخْفِيفٌ مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقٍ أَوْ بِاخْتِلَافٍ إِلَّا وَهُوَ عَامٌّ، وَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ لَا يَقَعَ مِنْهُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا فَرْدٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ قَدَرَ أَنْ يَكُونَ التَّشْرِيعُ لَهُ وَحْدَهُ أَوْ لِقَوْمٍ مَخْصُوصِينَ، فَهَذَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي الشَّرِيعَةِ إِلَّا مَا اخْتُصَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْ خُصَّ بِهِ أحد أَصْحَابِهِ، كَتَضْحِيَةِ أَبِي بُرْدَةٍ بِالْعِنَاقِ الْجَذَعَةِ2 وَشَهَادَةِ خُزَيْمَةَ3 فَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِزَمَانِ النُّبُوَّةِ دُونَ مَا بَعْدَ ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّهُ يُرِيدُ بِالْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ مَا كَانَ عَامًّا لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ، وَمَا كَانَ خَاصًّا4 بِبَعْضِ الْأَقْطَارِ، أَوْ بَعْضِ الْأَزْمَانِ، أو بعض الناس، وما أشبه
1 في "ط": "يقدر".
2 كما سيأتي "ص410"، وهناك تخريجه.
3 كما سيأتي "ص469"، وهناك تخريجه.
4 مثل له بعضهم بالمسافر ينقطع عن رفقته ومعه تبر، فيأتي دار الضرب بتبره ويأخذ منها دنانير بقدر ما يتخلص من تبره ويعطيهم أجرة الضرب، قال: وقد أجازها مالك مع انها مصلحة جزئية في شخص معين وحالة معينة. ا. هـ. وهذا غير ظاهر؛ لأن كل مسافر هذه حاله فحكمه هكذا، كما يشير إليه قول المؤلف:"فَإِنَّ الْحَرَجَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّوْعِ أَوِ الصِّنْفِ عام في ذلك الكلي..... إلخ". "د".
ذَلِكَ1.
فَالْجَوَابُ: إِنَّ هَذَا أَيْضًا مِمَّا يُنْظُرُ فِيهِ، فَإِنَّ الْحَرَجَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّوْعِ أَوِ الصِّنْفِ عَامٌّ فِي ذَلِكَ الْكُلِّيِّ لَا خَاصٌّ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْخَاصِّ مَا كَانَ الْحَرَجُ فِيهِ خَاصًّا بِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ الْمُعَيَّنِينَ، أَوْ بَعْضِ الْأَزْمَانِ الْمُعَيَّنَةِ، أَوِ الْأَمْكِنَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي زَمَانِ النُّبُوَّةِ، أَوْ عَلَى وَجْهٍ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، كَنَهْيِهِ2 عَنِ ادِّخَارِ لحوم الأضاحي زمن الدافة3، وكتخصيص الكعبة
1 استعمل الأصوليون الكلية والجزئية بهذا المعنى في بحث المصالح التي قد ترجع إلى نوع المشاق، وفسروا الجزئية بما يعرض لبعض الناس أو في حالة مخصوصة، وذكروا الخلاف في حكمها، غير أن المعروف في المذهب المالكي اعتبارها، ومن أمثلتها المسافر يعجله السفر، فيأتي دار الضرب بتبره، فيعطيهم أجرة الضرب، ويأخذ منهم دنانير بمقدار ما يخلص من تبره، وقد أجاز الإمام مالك هذه الصورة لضرورة الانقطاع عن الرفقة، قال الزركشي في "البحر المحيط": ولكنها مصلحة جزئية بالنسبة إلى شخص معين وحالة معينة"."خ".
2 أخرج مسلم في "صحيحه""كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه وإباحته إلى متى شاء 3/ 1651/ رقم 1971" بسنده إلى عبد عبد الله بن واقد، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، قال عبد الله بن أبي بكر: فذكرت ذلك لعمرة، فقالت: صدق، سمعت عائشة تقول: دَفَّ أهل أبيات من أهل البادية حضرة الأضحى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ادخروا ثلاثا، ثم تصدقوا بما بقي". فلما كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله! إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويحملون منها الودك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما ذاك؟ ". قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث. فقال: "إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت، فكلوا وادخروا، وتصدقوا".
3 في حاشية الأصل: "الدافة، بالدال المهملة، وتشديد الفاء: "الجماعة الذين يسيرون سيرا خفيفا، وقد ورد منهم على المدينة في زمنه عليه السلام، فنهى الناس عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ثم أباح ذلك بعد، وقال لما سئل عن النهي إنه من أجل الدافة، أي: لأنهم إذا نهوا عن الإدخار جاءوا به على أولئك القوم الوافدين وأطعموا منه" ا. هـ.
وكتب "د" ما نصه: "الدافة: قوم من الأعراب يردون المصر، وقد نهي عن الادخار حينذاك ليأكل هؤلاء القادمون منها.
بِالِاسْتِقْبَالِ، وَالْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ [بِمَا اشْتُهِرَ مِنْ فَضْلِهَا] 1 عَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، فَتَصَوُّرُ مِثْلِ هَذَا2 فِي مَسْأَلَةِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ غَيْرُ متأتٍّ.
فَإِنْ قِيلَ: فَفِي النَّوْعِ أَوِ الصِّنْفِ خُصُوصٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ نَوْعٌ أَوْ صِنْفٌ دَاخِلٌ تَحْتَ جِنْسٍ شَامِلٍ لَهُ وَلِغَيْرِهِ3.
قِيلَ وَفِيهِ أَيْضًا عُمُومٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ شَامِلًا لِمُتَعَدِّدٍ لَا يَنْحَصِرُ فَلَيْسَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ وَهُوَ الْخُصُوصُ أَوْلَى بِهِ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ وَهُوَ الْعُمُومُ، بَلْ جِهَةُ الْعُمُومِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحَرَجَ فِيهَا كُلِّيٌّ، بِحَيْثُ لَوْ لَحِقَ نَوْعًا آخَرَ أَوْ صِنْفًا آخَرَ لَلَحِقَ بِهِ فِي الْحُكْمِ، فَنِسْبَةُ ذَلِكَ النَّوْعِ أَوِ الصِّنْفِ إِلَى سَائِرِ الْأَنْوَاعِ أَوِ الْأَصْنَافِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ نِسْبَةُ بَعْضِ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْجِنْسِ فِي لُحُوقِ الْمَرَضِ أَوِ السَّفَرِ إِلَى جَمِيعِ أَفْرَادِهِ، فَإِنْ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي بَعْضِهَا ثَبَتَ فِي الْبَعْضِ، وَإِنْ سَقَطَ سَقَطَ فِي الْبَعْضِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْإِمَامَيْنِ، فَمَسْأَلَتُنَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِيهَا كَذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ مَا كَانَ مِثْلُ التَّغَيُّرِ اللَّاحِقِ لِلْمَاءِ بِمَا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا، وَهُوَ عَامٌ، كَالتُّرَابِ وَالطُّحْلُبِ وَشِبْهِ ذَلِكَ، أَوْ خَاصٌّ كَمَا إِذَا كَانَ عَدَمُ
1 جاء في الأصل ما بين المعقوفتين بعد عبارة: "سائر المساجد".
2 أي: فخصوص مثل الخصوص في هذه الأمثلة التي أشار إليها لا يعقل هنا في كلام ابن العربي، فلا يمكن حمل الخصوص في كلامه عليه وغرضه بكثرة الاحتمالات التي يطرقها ثم ينفيها أخذ الطريق على ابن العربي في جملته هذه. "د".
3 في "ط": "أو لغيره".
الِانْفِكَاكِ خَاصًّا بِبَعْضِ الْمِيَاهِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْأَوَّلِ سَاقِطٌ لِعُمُومِهِ، وَالثَّانِي مُخْتَلَفٌ فِيهِ لِخُصُوصِهِ، وَكَذَلِكَ اخْتُلِفَ فِي مَاءِ الْبَحْرِ: هَلْ هُوَ طَهُورٌ أَمْ لَا؟ لِأَنَّهُ مُتَغَيِّرٌ خَاصٌّ، وَكَالتَّغَيُّرِ بِتَفَتُّتِ الْأَوْرَاقِ فِي الْمِيَاهِ خُصُوصًا فَفِيهِ خِلَافٌ، وَالطَّلَاقُ قَبْلَ النِّكَاحِ1 إِنْ كَانَ عَامًا سَقَطَ، وَإِنْ كَانَ خَاصًّا فَفِيهِ خِلَافٌ، كَمَا إِذَا قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا مِنْ بَنِي فُلَانٍ أَوْ مِنَ الْبَلَدِ الْفُلَانِيِّ أَوْ مِنَ السُّودَانِ أَوْ مِنَ الْبِيضِ أَوْ كُلُّ بِكْرٍ أَتَزَوَّجُهَا أَوْ كُلُّ ثَيِّبٍ وَمَا أَشْبَهَ2 ذَلِكَ، فَهِيَ طَالِقٌ، وَمِثْلُهُ كُلُّ أَمَةٍ اشْتَرَيْتُهَا فَهِيَ حُرَّةٌ، هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَصْدِ الْوَطْءِ مِنَ الْخَاصِّ3، كَمَا لَوْ قَالَ: كُلُّ حُرَّةٍ أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى قَصْدِ مُطْلَقِ الْمِلْكِ مِنَ الْعَامِ فَيَسْقُطُ، فَإِنْ قَالَ فِيهِ: كُلُّ أَمَةٍ اشْتَرَيْتُهَا مِنَ السُّودَانِ كَانَ خَاصًّا، وَجَرَى فِيهِ الْخِلَافُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مُمْكِنٌ، وَهُوَ أَقْرَبُ مَا يُؤْخَذُ عَلَيْهِ كَلَامُهُ، إِلَّا أَنَّ نَصَّ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَشْبَاهِهَا عَنْ مَالِكٍ بِعَدَمِ الِاعْتِبَارِ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ بِالِاعْتِبَارِ يَجِبُ أَنَّ يُحَقَّقَ فِي هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ وَفِي غيرها بالنسبة إلى علم الفقه4، لا
1 في حاشية الأصل: "انظر هذا، فإن حمل مسألة الطلاق قبل الملك على عموم الحرج وخصوصه يقتضي أن سبب خلاف الإمامين مراعاة الحرج وعدمه وليس كذلك، وإنما سبب الخلاف مراعاة الملك التقديري في الخاص عند مالك وعدم مراعاته مطلقا عن الشافعي، كذا قيل، وفيه نظر، والصواب ما عند المصنف، فإن مالكا اعتبر الملك التقديري في الخاص لعموم الحرج أو غلبته فيه وإلا فلا فرق، فلو كان....".
2 في الأصل: "أو".
3 لأنه له نكاح غير الإماء، أما الملك فلا يكون لغير الإمام، وقد عمم الحرج بهذه الصيغة، فوسع عليه بإسقاط ما تقتضيه تلك الضيغة، فله أن يملك الإماء، ولكن ليس له نكاحهن، عملا بالعموم في الأول، والخصوص في الثاني. "د".
4 أي: فالخلاف بالاعتبار وعدمه في المذهبين يكون من الخلاف في الفروع لا في الأصول، ولكن ابن العربي نقله على أنه خلاف في الأصول كما هو صريح عبارته، يقول المؤلف: إذا ثبت هذا الخلاف الذي يعزوه ابن العربي إلى المذهبين، كان المراد به ما شرحه المؤلف في هذا الوجه، وكان مقتضى قواعد الأصولية مصححا له لكن على أنه نظر فقهي لا أصولي. "د"
بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَظَرِ الْأُصُولِ، إِلَّا أَنَّهُ1 إِذَا ثَبَتَ الْخِلَافُ، فَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا2 وَالنَّظَرُ الْأُصُولِيُّ يَقْتَضِي مَا قَالَ، فَإِنَّ الْحَرَجَ الْعَامَّ هُوَ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ فِي الِانْفِكَاكِ عَنْهُ، كَالْأَمْثِلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَأَمَّا إِذَا أَمْكَنَ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ، فَلَيْسَ بِحَرَجٍ عَامٍ بِإِطْلَاقٍ، إِلَّا أَنَّ الِانْفِكَاكَ عَنْهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ حَرَجٌ آخَرُ وَإِنْ كَانَ أَخَفُّ؛ إِذْ لَا يطَّرد الِانْفِكَاكُ عَنْهُ دُونَ مَشَقَّةٍ؛ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ.
وأيضا، فكما لا يطَّرد الانفكاك عند دُونَ مَشَقَّةٍ كَذَلِكَ لَا يطَّرد مَعَ وُجُودِهَا، فَكَانَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ذَا نَظَرَيْنِ، فَصَارَتِ الْمَسْأَلَةُ ذَاتَ طَرَفَيْنِ وَوَاسِطَةٍ: الطَّرَفُ الْعَامُّ الَّذِي لَا انْفِكَاكَ عَنْهُ فِي الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ، وَيُقَابِلُهُ طَرَفٌ خَاصٌّ يطَّرد الِانْفِكَاكُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ كَتَغَيُّرِ هَذَا الْمَاءِ بِالْخَلِّ وَالزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهُ، وَوَاسِطَةٌ دَائِرَةٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ هِيَ مَحَلُّ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، والله أعلم.
1 في الأصل و"خ": "لأنه".
2 في "ط": "ها هنا".
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ:
الشَّرِيعَةُ جَارِيَةٌ فِي التَّكْلِيفِ بِمُقْتَضَاهَا عَلَى الطَّرِيقِ الْوَسَطِ الْأَعْدَلِ، الْآخِذِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ بِقِسْطٍ لَا مَيْلَ فِيهِ، الدَّاخِلِ تَحْتَ كَسْبِ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ عَلَيْهِ وَلَا انْحِلَالٍ، بَلْ هُوَ تَكْلِيفٌ جارٍ عَلَى مُوَازَنَةٍ تَقْتَضِي فِي جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ غَايَةَ الِاعْتِدَالِ، كَتَكَالِيفِ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ، وَالزَّكَاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا شُرِعَ ابْتِدَاءً عَلَى غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ اقْتَضَى ذَلِكَ، أَوْ لِسَبَبٍ يَرْجِعُ إِلَى عَدَمِ العلم بطريق العمل، كقوله تعالى:{يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [الْبَقَرَةِ: 215] .
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [الْبَقَرَةِ: 219] .
وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ التَّشْرِيعُ لِأَجْلِ انْحِرَافِ الْمُكَلَّفِ، أَوْ وُجُودِ مَظِنَّةِ انْحِرَافِهِ عَنِ الْوَسَطِ إِلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، كَانَ التَّشْرِيعُ رَادًّا إِلَى الْوَسَطِ الْأَعْدَلِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يَمِيلُ فِيهِ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ؛ لِيَحْصُلَ الِاعْتِدَالُ فِيهِ، فِعْلَ الطَّبِيبِ الرَّفِيقِ [أَنْ] 1 يَحْمِلَ الْمَرِيضَ عَلَى مَا فِيهِ صَلَاحُهُ بِحَسَبِ حَالِهِ وَعَادَتِهِ، وَقُوَّةِ مَرَضِهِ وَضَعْفِهِ، حَتَّى إِذَا اسْتَقَلَّتْ صِحَّتُهُ هَيَّأَ لَهُ طَرِيقًا فِي التَّدْبِيرِ وَسَطًا لَائِقًا بِهِ2 فِي جميع أحواله.
أولا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ النَّاسَ3 فِي ابتداء التكليف خطاب
1 زيادة ما بين المعقوفتين من الأصل فقط.
2 في "ط""فيه".
3 الترتيب في ذاته صحيح، وأنه تعالى بدأ بإرشاد الخلق وإنارة عقولهم بالحقائق المتعلقة بخلقهم، وبث النعم في هذه الوجود لأجلهم، ولم يصل إلى تكليفهم بعد أصل الإيمان والكليات التي سيشير إليها المؤلف في الكتاب عند الكلام على التكاليف المكية والمدنية، إلا بعد بيانات وإرشادات وإعدادات للعقول إلى فهم هذه التكاليف، هذا مفهوم، ولكن غير المفهوم استشهاده بالآية الأولى وجعلها مما أنزل في ابتداء التكليف مع أنها مدنية، وكان يمكنه أن يجد ما اشتملت =
التَّعْرِيفِ بِمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَالْمَصَالِحِ الَّتِي بَثَّهَا فِي هَذَا الْوُجُودِ لِأَجْلِهِمْ، وَلِحُصُولِ مَنَافِعِهِمْ وَمَرَافِقِهِمْ الَّتِي يَقُومُ بِهَا عَيْشُهُمْ، وَتَكْمُلُ بِهَا تَصَرُّفَاتُهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 22] .
وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إِبْرَاهِيمَ: 32-34] .
وَقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النَّحْلِ: 10] .
إِلَى آخِرِ مَا عَدَّ لَهُمْ مِنَ النِّعَمِ، ثُمَّ وُعِدُوا عَلَى ذَلِكَ بِالنَّعِيمِ إِنْ آمَنُوا، وَبِالْعَذَابِ إِنْ تَمَادَوْا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، فَلَمَّا عَانَدُوا وَقَابَلُوا النِّعَمَ بِالْكُفْرَانِ، وَشَكُّوا فِي صِدْقِ مَا قِيلَ لَهُمْ، أُقِيمَتْ عَلَيْهِمْ الْبَرَاهِينُ الْقَاطِعَةُ بِصِدْقِ مَا قِيلَ لَهُمْ وَصِحَّتِهِ فَلَمَّا لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا؛ لِرَغْبَتِهِمْ فِي الْعَاجِلَةِ، أخبروا
= عليه في آيات مكية، كقوله تعالى في سورة غافر:{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} إلخ، وفي سورة الأنعام:{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} إلخ، وكالآية الثانية التي ذكرها من سورة إبراهيم؛ لأنها مكية، ثم قوله بعد: فلما عاندوا، أقيمت عليهم البراهين القاطعة، أي: وذلك في آيات مكية أيضا كما في سورة ق، انظر [كتاب الفوائد" "ص5-18" و"التبيان" "425-426" كلاهما" لابن القيم في الاستدلال بها على البعث وقدرة الله، وقوله:"فلما لم يلتفتوا إليها، أُخبِروا بحقيقتها، وضربت لهم الأمثال"، كما في الآيتين بعده وهما مكيتان ولو كان بدلهما مدني لما أضر بترتيبه، ولا ينافي هذا كله أن تكون هذه المعاني في المواطن الثلاثة وجدت أيضا في السور المدنية من باب التوكيد والتقرير، إلا أنه يبقى الكلام في أن هذه الآيات التي اختارها في المعاني الثلاثة مرتبة في النزول حسبما جاء في ترتيبه هو، فعليك بمراجعة تواريخها في النزول؛ لتعرف هل يتم له تقريره في هذا الترتب؟ "د".
بِحَقِيقَتِهَا، وَأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ كلَا شَيْءٍ؛ لِأَنَّهَا زَائِلَةٌ فَانِيَةٌ.
وَضُرِبَتْ لَهُمُ الْأَمْثَالُ فِي ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} الآية [يونس: 24] .
وقوله: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} 1 [إلى آخر الآية][الحديد:20] .
وَقَوْلِهِ: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الْحَدِيدِ: 20] .
وَقَوْلِهِ: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 64] .
بَلْ لَمَّا آمَنَ النَّاسُ وَظَهَرَ مِنْ بَعْضِهِمْ مَا يَقْتَضِي الرَّغْبَةَ في الدنيا رغبة رُبَّمَا أَمَالَتْهُ عَنِ الِاعْتِدَالِ فِي طَلَبِهَا أَوْ نَظَرًا2 إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:"إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُفْتَحُ لَكُمْ مِنْ زَهَرَاتِ الدُّنْيَا"3.
وَلَمَّا4 لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ وَلَا مَظِنَّتِهِ، قَالَ تَعَالَى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الْأَعْرَافِ: 32] .
وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] .
1 في "ط" بعدها: {وَزِينَةَ} .
2 يعني: وأنه مظنة لذلك كما أشار إليه سابقا. "د".
3 أخرج البخاري في "الصحيح""كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها 11/ 244/ رقم 6427" من حديث أبي سعيد مرفوعا، "إن أكثر مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ". قِيلَ: وَمَا بَرَكَاتُ الْأَرْضِ؟ قال: "زهرة الدنيا"، وذكر أشياء، منها ما تقدم عند المصنف "1/ 177".
4 المراد من كلام المؤلف في مثل هذا أنه قال هذا في مقام كذا، وقال ذلك في مقام كذا، لا أن هناك في الخارج هذا الترتيب، وإلا؛ فالحديث قاله صلى الله عليه وسلم على المنبر في المدينة، والآية في الأعراف وهي مكية، وكذا الآية الثانية في المؤمنون المكية "د".
وَوَقْعَ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ النَّهْيُ عَنِ الظُّلْمِ1، وَالْوَعِيدُ فِيهِ وَالتَّشْدِيدُ، وَقَالَ تَعَالَى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} 2 [فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَنَزَلَ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لُقْمَانَ: 13] فَخَفَّفَ عَنْهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ قَلِيلَ الظُّلْمِ وَكَثِيرَهُ منهيٌّ عَنْهُ، لَكِنَّهُمْ فَهِمُوا أَنَّ مُطْلَقَ الظُّلْمِ لَا يَحْصُلُ مَعَهُ الْأَمْنُ فِي الْآخِرَةِ وَالْهِدَايَةُ؛ لِقَوْلِهِ:{وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ] أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الْأَنْعَامِ: 82] .
وَلَمَّا قَالَ عليه الصلاة والسلام: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمن خَانَ" 3، شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ؛ إِذْ لَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَفَسَّرَهُ عليه الصلاة والسلام لَهُمْ حِينَ أَخْبَرُوهُ بِكَذِبٍ وَإِخْلَافٍ وَخِيَانَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِأَهْلِ الْكُفْرِ4.
وَكَذَلِكَ لَمَّا5 نَزَلَ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الْآيَةَ [البقرة: 284] شَقَّ عَلَيْهِمْ، فَنَزَلَ:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الْبَقَرَةِ: 286] .
وَقَارَفَ6 بَعْضُهُمْ بِارْتِدَادٍ أَوْ غَيْرِهِ وَخَافَ أَنْ لَا يُغْفَرَ لَهُ، فَسُئِلَ في ذلك
1 أي: المطلق الشامل لشرك وغيره من المعاصي. "د".
2 المعروف أن الظلم في الآية هو الشرك كما ورد تفسيره في الحديث بآية: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، ولو رجع قوله:"شق ذلك عليهم" للآية والحديث، وزاد كلمة:"بظلم" قبل قوله: "بكذب" لكان جيدا، وبغير هذا لا يكون لذكر آية الظلم موقع، وفي الواقع هي والحديث بعدها من وادٍ واحد في أنها لما نزلت شق عليهم، ففسرت بما يخفف وقعها عليهم، حيث قالوا: أينا لم يظلم؟ أو نحوه، والتفسير أن رُد إلى الطريق الأعدل. "د""استدراك5".
3 أخرجه البخاري في "الصحيح" كتاب الإيمان، باب علامة المنافق 1/ 89/ رقم 23 ومسلم في "صحيحه" كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق 1/78/ رقم 59"، والترمذي في "الجامع" "أبواب الإيمان، باب ما جاء في علامة المنافق/ رقم 2623"، النسائي في "المجتبى" "كتاب الإيمان باب علامة المنافق 8/ 117".
4 ستأتي هذه التتمة في "3/ 402".
5 مضى تخريجه "ص210، وهو صحيح.
6 في "خ": "قارن".
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ1 اللَّهُ:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} الْآيَةَ [الزُّمَرِ: 53] .
1 أخرج ابن إسحاق في "السيرة" -كما في "سيرة ابن هشام""1/ 475"، ومن طريقه أبو بكر النجاد في "مسند عمر""ق 124/ أ-ب"، والبزار في "البحر الزخار""1/ 258-260 / رقم 155"، والحاكم في "المستدرك""2/ 435"، وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي- وابن جرير في "التفسير""24/ 11"، قال: حدثني نافع عن ابن عمر، عن عمر بن الخطاب قال: لما اجتمعنا للهجرة اعتدت أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاصي الميضأة ميضأة بنى غفار، فوق سرف وقلنا: أيكم لم يصبح عندها فقد احتبس، فلينطلق صاحباه، فحبس عنا هشام بن العاص، فلما قدمنا المدينة فنزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما حتى قدما علينا المدينة فكلماه، فقالا له: إن أمك نذرت أن لا تمس رأسها بمشط حتى تراك فَرَقَّ لها، فقلت له: يا عياش1 إنه والله إن يريدك القوم إلا عن دينك فاحذرهم فوالله لو قد أذى أمك القمل لقد امتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة- أحسبه قال: لاستظلت- فقال: إن لي هناك مالا فأخذه. قال: قلت والله إنك لتعلم أني من أكثر قريش مالا، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما. قال: فأبى عليَّ ألا أن يخرج معهما. فقلت لما لما أبى عليَّ: أما إذ فعلت ما فعلت: فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة ذلول فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب، فانج عليها. فخرج معهما عليها حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال أبو جهل ابن هشام: والله لقد استبطأت بعيري هذا أفلا تحملني على ناقتك هذه؟ قال: بلى فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عديا عليه وأوثقاه ثم أدخلاه مكة وفتناه فافتتن. قال: وكنا نقول: والله لا يقبل الله ممن افتتن صرفا ولا عدلا، ولا تقبل توبة قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله فيهم وفي قولنا لهم وقولهم لأنفسهم:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} إلى قوله: {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} ، قال عمر: فكتبتها في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاص، قال هشام: فلم أزل أقرؤها بذي طول أصعد بها فيه حتى فهمتها. قال: فألقي في نفسي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا، فرجعت، فجلست على بعيري، فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة".
قال البزار عقبه: وهذا الحديث لا نعلم رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمر، ولا نعلم روي عن عمر متصلا إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد".
قلت: وإسناده صحيح على شرط مسلم، فيه ابن إسحاق، وهو مدلس، وقد صرح بالتحديث.
وَلَمَّا ذَمَّ الدُّنْيَا وَمَتَاعَهَا، همَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَبَتَّلُوا وَيَتْرُكُوا النِّسَاءَ وَاللَّذَّةَ وَالدُّنْيَا، وَيَنْقَطِعُوا إِلَى الْعِبَادَةِ، فَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"1.
وَدَعَا لِأُنَاسٍ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ بَعْدَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التَّغَابُنِ: 15] ، وَالْمَالُ وَالْوَلَدُ هِيَ الدُّنْيَا2، وَأَقَرَّ الصَّحَابَةَ عَلَى جَمْعِ الدُّنْيَا وَالتَّمَتُّعِ بِالْحَلَالِ مِنْهَا، وَلَمْ يُزَهِّدْهُمْ وَلَا أَمَرَهُمْ بِتَرْكِهَا، إِلَّا عِنْدَ ظُهُورِ حِرْصٍ أَوْ وُجُودِ مَنْعٍ مِنْ حَقِّهِ، وَحَيْثُ تَظْهَرُ مَظِنَّةُ مُخَالَفَةِ التَّوَسُّطِ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَمَا سِوَاهُ، فَلَا.
وَمِنْ غَامِضِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَمَّا يُجَازِي بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ جَزَاءٌ لِأَعْمَالِهِمْ، فَنَسَبَ إِلَيْهِمْ3 أَعْمَالًا وَأَضَافَهَا إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السَّجْدَةِ: 17] .
وَنَفَى الْمِنَّةَ بِهِ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} 4 [التِّينِ: 6] .
فَلَمَّا منُّوا بِأَعْمَالِهِمْ قَالَ تَعَالَى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الْحُجُرَاتِ: 17] .
فَأَثْبَتَ الْمِنَّةَ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا هُوَ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَقْطَعُ حَقٍّ، وَسَلَبَ5.
1 مضى تخريجه "1/ 522".
2 أي: التي قد ذمها: "د".
3 في "ط": "لهم".
4 جارٍ على أن المعنى غير ممنون به، وأكثر المفسرين على تفسيره بأنه غير مقطوع. "د".
5 فلم يضف العمل لهم، بل أضافه لنفسه ومَنَّ به عليهم بخلاف غيرهم، فإنه أضافه لهم وسلب المنة فيه عنهم. "د".
عَنْهُمْ مَا أَضَافَ إِلَى الْآخَرِينَ، بِقَوْلِهِ:{أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الْحُجُرَاتِ: 17] ، كَذَلِكَ أَيْضًا، أَيْ فَلَوْلَا الْهِدَايَةُ لَمْ يَكُنْ مَا مَنَنْتُمْ بِهِ، وَهَذَا يُشْبِهُ فِي الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ حَدِيثَ شِرَاجِ1 الْحَرَّةِ حِينَ تَنَازَعِ فِيهِ الزُّبَيْرُ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ عليه السلام:"اسْقِ يَا زُبَيْرُ -فَأْمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ- وَأَرْسِلَ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ": فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنْ كَانَ ابْنُ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ:"اسْقِ يَا زُبَيْرُ حَتَّى يَرْجِعَ الْمَاءُ إِلَى الْجَدْرِ"، وَاسْتَوْفَى لَهُ حَقَّهُ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 65]2.
وَهَكَذَا تَجِدُ الشَّرِيعَةَ أَبَدًا فِي مَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا.
وَعَلَى نَحْوٍ مَنْ هَذَا التَّرْتِيبِ يَجْرِي الطَّبِيبُ الماهر، يعطي الغذاء ابتداء
1 الشراج: جمع شرجة، بفتح، فسكون، وهي مسيل الماء من الحرة إلى السهل، والحرة: أرض ذات حجارة سود، وهي هنا اسم لمكان خاص قرب المدينة. "د".
2 أخرجه البخاري في "صحيحه""كتاب المساقاة، باب سكر الأنهار 5/ 34/ رقم 2359/ 2360، وكتاب التفسير، باب: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} 8/ 254/ رقم 4585، ومسلم في "صحيحه" "كتاب الفضائل، باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم 4/ 1829-1830/ رقم 2357"، والترمذي في "جامعه" "أبواب الأحكام، باب ما جاء في الرجلين يكون أحدهما أسفل من الآخر في الماء 3/ 644/ رقم 1363، وأبواب التفسير، باب ومن سورة النساء 5/ 238-239/ رقم 3027"، والنسائي في "الكبرى" "كتاب التفسير 1/ 391/ رقم 130"، و"المجتبى" "كتاب آداب القضاة، باب إشارة الحاكم بالرفق 8/ 245"، وأبو داود في "السنن" "كتاب الأقضية، أبواب من القضاء 3/ 315-316/ رقم 3637" وابن ماجه في "السنن" "المقدمة، باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والتغليظ على من عارضه 1/ 7-8/ رقم 15، وكتاب الرهون، باب الشرب من الأودية ومقدار حبس الماء 2/ 829/ رقم 2480" عن عبد الله ابن الزبير.
عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الِاعْتِدَالُ فِي تَوَافُقِ مِزَاجِ الْمُغْتَذِي مَعَ مِزَاجِ الْغِذَاءِ، وَيُخْبِرُ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ بَعْضِ الْمَأْكُولَاتِ الَّتِي يَجْهَلُهَا الْمُغْتَذِي؛ أَهْوَ غِذَاءٌ، أَمْ سُمٌّ، أَمْ غَيْرُ ذَلِكَ؟ فَإِذَا أَصَابَتْهُ عِلَّةٌ بِانْحِرَافِ بَعْضِ الْأَخْلَاطِ، قَابَلَهُ فِي مُعَالَجَتِهِ عَلَى مُقْتَضَى انْحِرَافِهِ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ؛ لِيَرْجِعَ إِلَى الِاعْتِدَالِ وَهُوَ الْمِزَاجُ الْأَصْلِيُّ، وَالصِّحَّةُ الْمَطْلُوبَةُ، وَهَذَا غَايَةُ الرِّفْقِ، وَغَايَةُ الْإِحْسَانِ وَالْإِنْعَامِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا نَظَرْتَ فِي كُلِّيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ فَتَأَمَّلْهَا تَجِدْهَا حَامِلَةً عَلَى التَّوَسُّطِ، فَإِنْ رَأَيْتَ مَيْلًا إِلَى جِهَةِ طَرَفٍ مِنَ الْأَطْرَافِ، فَذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ وَاقِعٍ أَوْ مُتَوَقَّعٍ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ.
فَطَرَفُ التَّشْدِيدِ -وَعَامَّةُ مَا يَكُونُ فِي التَّخْوِيفِ وَالتَّرْهِيبِ وَالزَّجْرِ- يُؤْتَى بِهِ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الِانْحِلَالُ فِي الدِّينِ.
وَطَرَفُ التَّخْفِيفِ -وَعَامَّةُ مَا يَكُونُ فِي التَّرْجِيَةِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْخِيصِ- يُؤْتَى بِهِ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْحَرَجُ فِي التَّشْدِيدِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا وَلَا ذَاكَ رَأَيْتَ التَّوَسُّطَ لَائِحًا، وَمَسْلَكَ الِاعْتِدَالِ وَاضِحًا، وَهُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يُرْجَعُ إِلَيْهِ وَالْمَعْقِلُ الَّذِي يُلْجَأُ إِلَيْهِ.
وَعَلَى هَذَا إِذَا رَأَيْتَ فِي النَّقْلِ مِنَ الْمُعْتَبِرِينَ فِي الدِّينِ مَنْ مَالَ عَنِ التَّوَسُّطِ، فَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ مُرَاعَاةً مِنْهُ لِطَرَفٍ وَاقِعٍ أَوْ متوقع في الجهة الأخرى1،
1 الميل عن التوسط الصالح لأن يكون علاجا للأنفس إنما يصح في العمل ذي الوجوه الجائزة كالعزيمة والرخصة، أما في الفتوى، فقد سوغ بعض أهل العلم للمجتهد أن ينظر إلى حال المكلف المعين ويأخذ له في الفتوى بقول غيره من الصحابة والتابعين عندما يفهم من حاله أنه إن أفتاه بالقول الراجح في نظره، لم يقبل الفتوى، وأفضت به الاستهانة بأمر الدين إلى اقتحام ما هو أشد من المخالفات، وممن قرر المسألة على هذا الوجه وقصر النظر فيها على المجتهد دون المقلد أبو بكر بن العربي في كتاب "العواصم من القواصم"، ولكنا لم نظفر بدليل يشهد بصحة أن يفتي المجتهد بغير ما يراه القول الحق، وسيمر بك تحقيق هذا في بحث العمل بالقول الراجح. "خ".
وَعَلَيْهِ يَجْرِي النَّظَرُ فِي الْوَرَعِ وَالزُّهْدِ وَأَشْبَاهِهِمَا، وَمَا قَابَلَهَا.
وَالتَّوَسُّطُ يُعْرَفُ بِالشَّرْعِ1، وَقَدْ يُعْرَفُ بِالْعَوَائِدِ، وَمَا يَشْهَدُ بِهِ مُعْظَمُ الْعُقَلَاءِ كَمَا في الإسراف والإقتار في النفقات.
1 من المفيد أن يعلم أن "الوسط" في نصوص الشرع ليس فقط ما يكون بين شيئين، وإنما جاء بمعنى: العدل الخيار، قال تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] ، والوسطى بمعنى خيرها وأعدلها وأفضلها، وقال تعالى:{مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]، أي: خيره وأعدله، وقال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، أي: خيارا عدولا، والمقصود من ذلك جميعه أن يفهم أن الوسطية في الدين هي الخيرية والعدالة الدينية.
انظر: "تنوير الأفهام لبعض مفاهيم الإسلام""ص51" للشيخ محمد شقرة، و"الحقيقة الشرعية""174".