المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌تمهيد إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور - الموسوعة الحديثية بين الواقع والمأمول

[زهير الناصر]

فهرس الكتاب

- ‌تمهيد

- ‌2- التصنيف الموسوعي عند المتقدِّمين والمعاصرين

- ‌الحلقة الأولى: كتب الأطراف

- ‌الحلقة الثانية: كتب جمع المتون

- ‌الحلقة الثالثة: كتب الزوائد

- ‌الحلقة الرابعة: كتب الشروح

- ‌3- الجهود المبذولة في سبيل إعداد الموسوعة الشاملة باستخدام الحاسب الآلي

- ‌1- موسوعة الحديث الشريف (الإصدار 2.1)

- ‌2- الموسوعة الذهبية للحديث النبوي الشريف وعلومه (الإصدار الأول والثاني)

- ‌3- المكتبة الألفية للسُّنَّة النبوية (الإصدار 1.5)

- ‌4- موسوعة الأحاديث الصحيحة (الإصدار الأول)

- ‌5- موسوعة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (الإصدار الأول)

- ‌6- مكتبة الأجزاء الحديثية (الإصدار الأول)

- ‌7- موسوعة التخريج الكبرى والأطراف الشاملة(الإصدار الأول)

- ‌8- المحدِّث (دار الحديث بدمشق، الإصدار الجديد 9.01)

- ‌9- الموسوعة الشاملة للأحاديث النبوية عن جامع الأُصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌10- مكتبة الحديث الشريف (الإصدار السابع)

- ‌11- رسالة التعريف بموسوعة الحديث النبوي الشريف باستخدام الحاسوب

- ‌4– مراحل طريقة الجمع الموسوعي

- ‌5- مقترحات في تأليف أهم اللجان الدائمة للعمل الموسوعي

- ‌6- خاتمة في أهداف العمل الموسوعي

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌ ‌تمهيد إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور

‌تمهيد

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحقّ؛ ليظهره على الدِّين كُلِّه، ولو كره الكافرون.

ولقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتبليغ والتبيين، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأُمَّة، وجاهد في الله حقَّ جهاده، وعبد رَبَّه حتى أتاه اليقين، فجزاه الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء.

ورضي الله تبارك وتعالى عن صحابته أجمعين، الغُرّ الميامين، الذين قاموا بنقل الشريعة بأمانة ونصح، ورضي الله عن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. وبعد:

فإنَّ خدمة هذا الدِّين وإظهار علوم سَيّد المرسلين صلى الله عليه وسلم واجب إسلامي، وهو أمانة في أعناق العلماء العاملين، والأئمة المصلحين، وما ذاك إلَاّ بنشر سُنَّته صلى الله عليه وسلم، والعمل بها، والدعوة إليها، وحفظها، والذَّوْدِ عن حياضها.

ولقد قيَّض الله تعالى لذلك أئمة عاملين، ودعاة مخلصين، أفنوا أعمارهم وبذلوا النفس والنفيس في سبيل ذلك.

ومن هؤلاء الأئمة الذين بذلوا الجهود المضنية في جمع السُّنَّة النبوية، وفي حفظها وتدوينها، وفي ضبط أسانيدها وشرح متونها، واستنباط الأحكام منها، ومعرفة صحيحها من سقيمها.

ص: 1

ولذلك أُلِّفت الجوامع، والسنن، والمسانيد، والمعاجم، والمصنَّفات، والأجزاء، وكتب الجرح والتعديل، وموسوعات تراجم الرجال والرواة الشاملة للثقات والضعفاء، أو المخصصة للضعفاء والمجروحين، وهكذا.

ولأجل ذلك وضعت علوم جمَّة لخدمة السنة، وفق مناهج علمية رصينة، وقواعد محكمة، لمعرفة درجة كل حديث، والاستفادة من الفوائد الإسنادية والمتنية.

ومن المعلوم أن السُّنَّة هي المصدر الثاني للتشريع، وقد كانت محصورةً في زمن البعثة باعتبار صدورها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من قول أو فعل أو تقرير، ولكنْ كثرتْ طُرُقُها، وتشعَّبتْ أسانيدُها، باعتبار النقلة من عصر الصحابة رضي الله عنهم إلى آخر عصر الإسناد، في المصنَّفات والجوامع والسنن والأجزاء

كحديث العرنيين، بلغت طرقه أكثر من (50) طريقاً، وهو واقعة واحدة، وحديث واحد صادر عن المصطفى صلى الله عليه وسلم (1) . وكحديث جابر بن عبد الله في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، بلغت طرقه أكثر من (100) طريق، مختصراً ومطولاً، وهو حديث واحد يصور واقعة واحدة (2) .

لذا عكف العلماء في مختلف العصور على فكرة الجمع الموسوعي للوصول إلى حصر السُّنَّة وفق أصلها، للعمل بها وتبليغها للناس.

هذا وإنَّ فكرة هذا الجمع، الشامل للأحاديث النبوية، ليست وليدة هذا العصر، بل كانت ماثلةً في أذهان المتقدمين، وقائمةً في بعض مصنَّفاتهم بصور مختلفة.

(1) انظر تخريجه في ((مسند أحمد)) 19 / 97 – 99.

(2)

انظر المصدر السابق 22 / 325 – 331.

ص: 2

لقد أدرك الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت852?) أهمية جمع الأحاديث النبوية واستيعابها في مصنَّف واحد، وإلى ذلك يشير قوله (1) :((ولقد كان استيعابُ الأحاديث سهلاً، لو أراد الله تعالى ذلك، بأن يجمع الأول منهم ما وصل إليه، ثم يذكر مَنْ بعده ما اطَّلع عليه ممَّا فاته من حديث مستقل أو زيادة في الأحاديث التي ذكرها، فيكون كالدليل عليه، وكذا من بعده، فلا يمضي كثيرٌ من الزمان إلَاّ وقد استُوعبت وصارت كالمصنَّف الواحد، ولعمري لقد كان هذا في غاية الحسن)) .

ويقول أيضاً رحمه الله تعالى (2) : ((وإن المتعيّن على من يتكلَّم على الأحاديث أن يَجْمَعَ طُرُقَها، ثم يجمعَ ألفاظ المتون إذا صَحَّت الطُّرُقُ ويشرحها على أنه حديث واحد، فإنَّ الحديث أولى ما فُسِّرَ بالحديث)) .

والجمع الموسوعي عند المتقدِّمين يتمثَّل بحلقات موسوعية، تُحقِّق أهدافاً موسوعية مقيدة، وتتمثل بحلقات مختلفة: في كتب الأطراف، وكتب جمع المتون، وكتب الزوائد على كتب معينة.

ولو نَظَرْنا بعين الإنصاف والشمول لرأينا أنَّ النظرة الموسوعية في التصنيف والتأليف كان صاحب السبق فيها هو الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، بما جمعه واحتواه من طريقة المتقدِّمين وفوائد المتأخرين، وبخاصَّة في كتابه ((المطالب العالية)) ، حيث جمع زوائد المتون والأسانيد، على مطالب الساحة الراهنة في الجمع والتصنيف والتبويب.

وسيكون جمع المادة العلمية لهذا البحث ضمن العناصر الرئيسة التالية:

(1)((تدريب الراوي)) 1/100.

(2)

((فتح الباري)) 6 /475.

ص: 3

1 -

الجمع الموسوعي عند المتقدِّمين في براعة الحفظ والاستحضار.

2 -

التصنيف الموسوعي عند المتقدِّمين والمعاصرين.

3-

الجهود المبذولة في سبيل إعداد الموسوعة الشاملة باستخدام الحاسب الآلي.

4 -

مراحل طريقة الجمع الموسوعي.

5 -

مقترحات في تشكيل أهم اللجان الدائمة للعمل الموسوعي.

6 -

خاتمة في أهداف العمل الموسوعي.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 4

- الجمع الموسوعي عند المتقدِّمين في براعة الحفظ والاستحضار

كان المتقدِّمون من علماء المسلمين في غاية إتقان الحفظ واستحضار ما هو مركوزٌ في حافظتهم، حتى لو أعادَ أحدهم ما حفظه مراتٍ عديدةً، لا يُغَيِّرُ كلمةً منه، ولا يُحَرِّفُها أو يُصَحِّفُها، ولا يبدل بها مرادفاً لها.

ولو أملى من ذلك كتاباً ضخماً من الأحاديث النبوية، أو القصائد الشعرية، أو المقطعات النثرية؛ لَمَا غَاب عنه شيءٌ من محفوظاته مطلقاً، لقوة ملكة حفظه، وسرعة نُطْقه واستحضاره.

والجمع الموسوعي عند المتقدِّمين، في الحديث النبوي، كان أعظم من الجمع الموسوعي على الحاسب الآلي، في هذه الأزمنة، ويتجلَّى ذلك واضحاً في تراجمهم وأخبارهم التي نُقلت إلينا، والتي تشهدُ على سعة حفظهم، وسيلان ذهنهم، واطِّلاعهم الواسع على علل الحديث، ومعرفة صحيحها من سقيمها.

وممَّن اشتهر بالحفظ وسعة الاطّلاع: الحافظُ الكبير، شيخُ الإسلام، أبو نُعَيْم الفَضْل بن دُكَيْن الكوفي المُلائي (130 - 219?) .

قال يعقوب الفَسَوِي (1) : أجمع أصحابُنا أنَّ أبا نُعَيْم كان غايةً في الإتقان والحفظ.

وقال أبو حاتم الرازي (2) : كان حافظاً متقناً، لم أَرَ من المحدِّثين من يحفظ

(1)((المعرفة والتاريخ)) 2 / 633.

(2)

((الجرح والتعديل)) 7 / 62، و ((سير أعلام النبلاء)) 10 / 148.

ص: 5

ويأتي بالحديث على لفظٍ واحدٍ لا يُغَيِّرُه سوى قَبِيصة وأبي نعيم في حديث الثوري، وكان أبو نُعَيْم يحفظُ حديث الثوري حفظاً جيداً، يعني الذي عنده عنه. قال: وهو ثلاثة آلاف وخمسمئة حديث، ويحفظ حديث مِسْعَر، وهو خمسمئة حديث، وكان لا يُلَقَّن (1) .

ومما يشهدُ له بالحفظ والاطلاع اختبارُ يحيى بن مَعِين له بحضرة الإمام أحمد بن حنبل. فقد روى الخطيبُ البغداديُّ (2) من طريق أحمد بن منصور الرمادي قال:

خرجتُ مع أحمد ويحيى بن مَعِين إلى عبد الرزاق خادماً لهما، فلمَّا عُدْنا إلى الكوفة قال يحيى بن مَعِين لأحمد بن حنبل: أُرِيدُ أنْ أختبرَ أبا نُعَيْم، فقال أحمد: لا تُرِدْ، فالرجلُ ثقةٌ. قال يحيى: لا بُدَّ لي.

فأخذ ورقة فكتب فيها ثلاثين حديثاً، وجعل على رأس كل عشرة منها حديثاً ليس من حديثه. ثم إنهم جاؤوا إلى أبي نُعَيْم، فخرج، وجلس على دكان طين، وأقعد أحمد بن حنبل عن يمينه، ويحيى عن يساره، وجلستُ أسفل.

فقرأ عليه يحيى عشرة أحاديث، وهو ساكت، ثم الحادي عشر، فقال أبو نعيم: ليس هذا من حديثي، فاضْرِبْ عليه. ثم قرأ العشرة الثانية وقرأ الحديث الثاني فقال: هذا أيضاً ليس من حديثي، فاضْرِبْ عليه. ثم قرأ العشرة الثالثة وقرأ الحديث الثالث، فتغيَّر أبو نعيم، وانقلبتْ عيناه.

(1) قال الحافظ الذهبيُّ في ((سير أعلام النبلاء)) 10 / 210 فيمن يُلَقَّن: أنه كان يُحَدِّثُهم بالحديث، فيتوقَّف فيه ويتغلَّط، فيردُّون عليه، فيقول. ومثلُ هذا غضٌّ عن رتبة الحفظ لجوازِ أنَّ فيما رُدَّ عليه زيادةً أو تغييراً يسيراً، والله أعلم.

(2)

((تاريخ بغداد)) 2 / 20 - 21.

ص: 6

ثم أقبل على يحيى، فقال: أمَّا هذا - وذراعُ أحمد بيده - فأورعُ من أن يعمل مثل هذا، وأمَّا هذا - يريدني - فأقلُّ من أن يفعل ذاك، ولكن هذا من فعلك يا فاعل.

ثم أخرج رجله، فرفس يحيى بن مَعِين وقلبه عن الدكان، وقام فدخل داره، فقال أحمد بن حنبل ليحيى: ألم أنهك وأقل لك: إنه ثَبْت؟ فقال له يحيى: واللهِ! لرفستُه لي أحبُّ إليَّ من سفرتي.

وقال أبو عُبَيْد الآجُرِّي (1) : قلتُ لأبي داود: كان أبو نُعَيْم حافظاً؟ قال: جدّاً.

ومن أئمة هذا الشأن: الحافظ الإمام الجِهْبذ شيخ المحدِّثين أبو زكريا يحيى بن مَعِين (158 - 233?) .

قال أحمد بن عُقْبة (2) : سألت يحيى بن مَعِين: كم كتبتَ من الحديث؟ قال: كتبتُ بيدي هذه ستَّ مئة ألف حديث.

وقال عبَّاس الدُّوري (3) : سمعتُ يحيى يقول: لو لم نكتب الحديث خمسين مرة، ما عَرَفْناه.

وقال محمد بن نصر الطبري (4) : دخلتُ على يحيى بن مَعِين، فوجدتُ عنده كذا وكذا سَفَطاً دفاتر، وسمعتُه يقول: كتبتُ بيدي ألفَ ألفِ حديث، وكُلُّ حديثٍ لا يُوجَدُ هاهنا - وأشارَ بيده إلى الأسفاط - فهو كذب.

(1)((سؤالاته)) ص (99) .

(2)

((سير أعلام النبلاء)) 11 / 81.

(3)

المصدر السابق 11 / 84.

(4)

المصدر السابق 11 / 91 - 92.

ص: 7

وقال العِجْلي (1) : ما خَلَقَ اللهُ أحداً كان أعرفَ بالحديث من يحيى بن مَعِين. كان يُؤْتى بالأحاديث قد خُلطت وقُلبت، فيقول: هذا كذا، وهذا كذا، كما قال.

ومن أئمة الحُفَّاظ وسادتهم: الإمام الكبير، شيخ المشرق، إسحاق بن راهويه (161 - 238?) .

قال الشَّعْبي (2) : ما كتبتُ سوداءَ في بيضاء إلى يومي هذا، ولا حدَّثني رجلٌ بحديثٍ قطُّ إلَاّ حفظتُه، ولا أحببتُ أن يُعيده عليَّ. قال علي بن خشرم: فحدَّثْتُ بهذا إسحاق بن راهويه، فقال: تعجَبُ من هذا؟ قلتُ: نعم. قال: ما كنت أسمع شيئاً إلا حَفِظْتُه، وكأني أنظر إلى سبعين ألف حديث - أو قال: أكثر من سبعين ألف حديث - في كتبي.

قال أبو داود الخَفَّاف (3) : سمعتُ إسحاق بن راهويه، يقول: لكأني أنظر إلى مئة ألف حديث في كتبي، وثلاثين ألفاً أَسْرُدُها. قال: وأَمْلَى علينا إسحاق أحدَ عشر ألف حديثٍ من حفظه، ثم قرأها علينا، فما زاد حرفاً، ولا نقص حرفاً.

قال الحافظ الذهبي (4) : فهذا واللهِ الحفظ.

وعن إسحاق بن راهويه، قال: ما سمعتُ شيئاً إلا وحفظتُه، ولا حفظتُ شيئاً قطُّ فنسيتُه (5) .

(1)((النكت على كتاب ابن الصلاح)) للحافظ ابن حجر 2 / 871.

(2)

((تاريخ بغداد)) 6 / 351 - 352.

(3)

المصدر السابق 6 / 352 و 354.

(4)

((سير أعلام النبلاء)) 11 / 373.

(5)

المصدر السابق.

ص: 8

وقال أبو يزيد محمد بن يحيى: سمعت إسحاق يقول: أحفظُ سبعين ألف حديث عن ظهر قلبي.

وقال أحمد بن سلمة: سمعت أبا حاتِم الرازي، يقول: ذكرتُ لأبي زُرعة حِفْظَ إسحاق بن راهويه، فقال أبو زرعة: ما رُئي أحفظ من إسحاق، ثم قال أبو حاتِم: والعجب من إتقانه، وسلامته من الغلط مع ما رُزِقَ من الحفظ. فقلت لأبي حاتم: إنه أملى التفسير عن ظهر قلبه. قال: وهذا أعجب، فإن ضبط الأحاديث المسندة أسهل وأهونُ من ضبط أسانيد التفسير وألفاظها.

وقال إبراهيم بن أبي طالب الحافظ (1) : فاتني عن إسحاق مجلسٌ مِن مُسنده، وكان يُمِلُّه حفظاً، فترددت إليه مِراراً ليُعيده، فتعذَّر. فقصدته يوماً لأسأله إعادته، وقد حمَلْتُ إليه حنطة من الرُّستاق، فقال لي: تقومُ عندي وتكتبُ وزن هذه الحنطة، فإذا فرغْتَ أعدتُ لك. ففعلتُ ذلك، فسألني عن أول حديث من المجلس، ثم اتكأ على عُضادة الباب، فأعاد المجلس حفظاً. وكان قد أملى ((المسند)) كُلَّه حفظاً، وقرأه أيضاً من حفظه ثانياً كلّه.

وقال أبو يَزيد محمد بن يحيى بن خالد (2) : سمعتُ إسحاق بن راهويه الحنظلي يقول: أعرفُ مكان مئة ألف حديث، كأني أنظرُ إليها، وأحفظُ سبعين ألف حديث عن ظهر قلبي، وأحفظُ أربعة آلاف حديث مُزَوَّرة. فقيل له: ما معنى حفظ المُزَوَّرة؟ قال: إذا مَرَّ بي منها حديثٌ في الأحاديث الصحيحة فَلَيْتُه منها فَلْياً.

(1)((تاريخ بغداد)) 6 / 354.

(2)

المصدر السابق 6 / 352.

ص: 9

ومن المشهورين بالحفظ: شيخ الإسلام، الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل (164 - 241?) .

قال عبد الله بن أحمد (1) : قال لي أبو زُرْعة: أبوك يحفظ ألفَ ألفِ حديث. فقيل له: وما يُدريك؟ قال: ذاكرتُه فأخذتُ عليه الأبواب.

قال الحافظ الذهبي: فهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبي عبد الله.

وقال ابن أبي حاتم (2) : قال سعيد بن عَمْرو: يا أبا زُرْعة، أأنتَ أحفظُ أم أحمد؟ قال: بل أحمد. فقلتُ: كيف علمتَ؟ قال: وجدتُ كتبه ليس في أوائل الأجزاء أسماءُ الذين حدَّثوه، فكان يحفظُ كُلَّ جزء ممَّن سمعه، وأنا لا أقدرُ على هذا.

وعن أبي زُرْعة قال (3) : حُزِرَتْ كُتُب أحمد يوم مات، فبَلَغَتْ اثني عشر حِمْلاً وعِدْلاً. ما كان على ظَهْرِ كتابٍ منها: حديث فلان، ولا في بطنه: حَدَّثنا فلان، كلّ ذلك كان يحفظُه عن ظهر قلبه.

وقال حسن بن مُنَبِّه (2) : سمعتُ أبا زُرْعة يقول: أخرج إليَّ أبو عبد الله أجزاءً، كُلُّها: سفيان سفيان، ليس على حديث منها: حدثنا فلان، فظننتُها عن رجلٍ واحد، فانتخبتُ منها. فلمَّا قرأ ذلك عليَّ جعل يقول: حدَّثنا وكيع ويحيى، وحدَّثنا فلان، فعجبتُ من ذلك، وجهدتُ أن أَقْدِرَ على شيءٍ من هذا، فلم أَقْدِرْ.

وقال عبد الله بن أحمد (4) : قال لي أبي: خُذْ أيَّ كتابٍ شئتَ من كُتُب

(1)((سير أعلام النبلاء)) 11 / 187.

(2)

((سير أعلام النبلاء)) 11 / 187.

(3)

المصدر السابق 11 / 188.

(4)

المصدر السابق 11 / 186.

ص: 10

وكيع من المصنّف، فإنْ شئتَ أن تسألني عن الكلام حتى أُخبرك بالإسناد، وإنْ شئتَ بالإسناد حتى أُخبرك أنا بالكلام.

وعن أحمد الدَّوْرَقي (1) ، عن أبي عبد الله، قال: نحن كَتَبْنا الحديث من ستة وجوهٍ وسبعة لم نضبطه، فكيف يضبطُه من كتبه منْ وَجْهٍ واحد؟!.

ومن حُفَّاظ الدنيا: أمير المؤمنين في الحديث الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (194 - 256?) .

قال محمد بن أبي حاتم الورَّاق (2) : سمعتُ حاشدَ بنَ إسماعيل وآخر يقولان: كان أبو عبد الله البخاري يختلفُ معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلامٌ، فلا يكتب، حتى أَتَى على ذلك أيام، فكُنّا نقول له: إنك تختلف معنا ولا تكتب، فما تصنع؟ فقال لنا يوماً بعد ستة عشر يوماً: إنكما قد أكثرتُما عليَّ وألححتُما، فاعْرِضا عليَّ ما كتبتُما. فأخرجنا إليه ما كان عندنا، فزادَ على خمسة عشر ألف حديث، فقَرَأَها كُلَّها عن ظهر القلب، حتى جعلنا نُحْكِمُ كُتُبَنا من حفظه.

ثم قال: أَتَرَوْن أني أختلف هَدْراً، وأُضَيِّع أيامي؟! فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد.

وقال ابنُ عَدِيّ (3) : حدثني محمد بن أحمد القُومسي، سمعتُ محمد بن خميرويه، سمعتُ محمد بن إسماعيل يقول: أحفظُ مئة ألف حديث صحيح، وأحفظ مئتي ألف حديث غير صحيح.

(1) المصدر السابق 11 / 186.

(2)

((سير أعلام النبلاء)) 12 / 408.

(3)

المصدر السابق 12 / 415.

ص: 11

وقال أبو بكر الكَلْوَاذاني (1) : ما رأيتُ مثل محمد بن إسماعيل، كان يأخذُ الكتابَ من العلماء، فيطَّلعُ عليه اطِّلاعةً، فيحفظُ عامَّةَ أطرافِ الأحاديث بمرَّة.

وقال علي بن الحُسَيْن بن عاصم البِيكَنْدي: قدم علينا محمد بن إسماعيل، قال: فاجتمعنا عنده، فقال بعضُنا: سمعتُ إسحاق بن راهويه يقول: كأنّي أنظرُ إلى سبعين ألف حديثٍ من كتابي. ̧ فقال محمد بن إسماعيل: أو تَعْجَبُ من هذا؟! لعلَّ في هذا الزمان مَنْ ينظرُ إلى مئتي ألف حديث من كتابه. وإنما عَنَى به نفسه.

ومن أعجب العجائب ما فعله أصحاب الحديث مع الإمام البخاري، وهذه القصَّة أوردها الخطيبُ البغدادي (2) من طريق أبي أحمد بن عَدِيّ قال: سمعت عدة مشايخ يحكون: أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد، فسمع به أصحابُ الحديث، فاجتمعوا وعمدوا إلى مئة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متنَ هذا الإسناد لإسناد آخر، وإسنادَ هذا المتن لمتن آخر، ودفعوها إلى عشرة أنفس، إلى كل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس أَنْ يُلقوا ذلك على البخاري، وأخذوا الموعد للمجلس، فحضر المجلس جماعة أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خراسان وغيرهم ومن البغداديين.

فلمَّا اطمأن المجلس بأهله انتدب إليه رجلٌ من العشرة فسأله عن حديثٍ من تلك الأحاديث، فقال البخاري: لا أعرفه، فسأله عن آخر فقال: لا

(1) المصدر السابق 12 / 416.

(2)

((تاريخ بغداد)) 2 / 20 - 21.

ص: 12

أعرفه، فما زال يُلقي عليه واحداً بعد واحد حتى فرغ من عشرته والبخاريُّ يقول: لا أعرفه.

فكان الفهماء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون: فَهِم الرجل، ومن كان فَهِمَ منهم غير ذلك يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الحفظ.

ثم انتدب إليه رجلٌ آخر من العشرة، فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال البخاريُّ: لا أعرفه، فسأله عن آخر، فقال:

لا أعرفه، فسأله عن آخر فقال: لا أعرفه، فلم يَزَلْ يُلقي عليه واحداً بعد واحدٍ حتى فرغ من عشرته والبخاريُّ يقول: لا أعرفه.

ثم انتدب إليه الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة والبخاريُّ لا يزيدهم على لا أعرفه.

فلمَّا عَلِمَ البخاريُّ أنهم قد فَرَغُوا التفت إلى الأول منهم فقال: أمَّا حديثك الأول فهو كذا، وحديثك الثاني فهو كذا، والثالث والرابع على الولاء، حتى أتى على تمام العشرة.

فرَدَّ كلَّ متنٍ إلى إسناده، وكُلَّ إسنادٍ إلى متنه، وفعل بالآخرين مثل ذلك، ردَّ متونَ الأحاديث كلها إلى أسانيدها، وأسانيدَها إلى متونها، فأقرَّ الناسُ له بالحفظ، وأذعنوا له بالفضل.

قال الحافظ ابن حجر (1) : سمعتُ شيخنا - يعني الحافظَ العراقيَّ - غير مرة يقول: ما العجبُ من معرفة البخاري بالخطأ من الصواب في الأحاديث لاتِّساع معرفته، وإنما يُتعجب منه في هذا لكونه حَفِظَ موالاة الأحاديث على

(1)((النكت على كتاب ابن الصلاح)) 2 / 869 - 870.

ص: 13

الخطأ من مرَّةٍ واحدة.

وقال أيضاً رحمه الله تعالى (1) : وهنا تخضع للبخاري الرقاب، فما العجب من رَدِّه الخطأَ إلى الصواب، بل العجب من حفظه للخطأ القليل الفائدة، على ترتيب ما أَلْقَوْه عليه من مرَّة واحدة.

وأضاف الحافظ السخاوي (2) : ولا عجب، لأنه في سرعة الحفظ: طويل الباع، وهو إمام النُّقَّاد بلا نِزاع، وحصرُ سيلانِ ذهنه لا يُستطاع.

فإن قيل: كيف ساغ لهم هذا الامتحان العجيب، الذي ارتكبوا بسببه شِبْه الوضع في هذا التقليب، وربما يترتَّبُ عليه تغليطُ المُمْتَحَن، واستمرارُه على روايته، لظنّه أنه صواب، بحيث يُعَدُّ من البلايا والمحن، وقد يسمعُه من لا خبرة له، فيرويه على هذه الصيغة المهملة؟

قلت: لما رأوا فيه من تمام المصلحة، التي منها: معرفةُ رتبة الراوي في الضبط، في ساعة ولمحة.

وأيضاً، ففعلُهم لهذا ينتهي بانتهاء الحاجة، بحيث يزول أثرُه، ونأمن علاجه، وقد فعله غيرُ واحد من الأكابر، المجتهدين في تحقيق السُّنَّة بالألسُن والمحابر.

وما لعلَّه ينتج من مفسدته، فهو دون ما أبديناه من مصلحتِه.

وقال أبو الأزهر (3) : كان بسمرقند أربعمئة ممَّن يطلبون الحديث، فاجتمعوا سبعة أيام، وأحبُّوا مغالطة محمد بن إسماعيل، فأدخلوا إسنادَ الشام

(1)((هدي الساري)) ص 486.

(2)

((عمدة القارئ والسامع)) ص 55 - 56.

(3)

((سير أعلام النبلاء)) 12 / 411.

ص: 14

في إسناد العراق، وإسنادَ اليمن في إسناد الحرمين، فما تعلَّقُوا منه بسَقْطةٍ لا في الإسناد، ولا في المتن.

ومن هؤلاء الأعلام: الإمام سيد الحُفَّاظ، أبو زُرْعة عُبَيْد الله بن عبد الكريم الرازي (ت264?) .

قال أبو إسحاق الجوزجاني (1) : كُنّا عند سُلَيْمان بن عبد الرحمن، فلم يَأْذَنْ لنا أياماً، ثم دخلنا عليه، فقال: بلغني وُرُودُ هذا الغلام، يعني أبا زُرْعة، فدرستُ للالتقاءِ به ثلاثَمئة ألف حديث.

وقال صالح بن محمد جَزَرَة (2) : سمعتُ أبا زُرْعَة يقولُ: كتبتُ عن إبراهيم ابنِ موسى الرَّازي مئةَ ألفِ حديثٍ، وعن أبي بكر بن أبي شَيْبة مئة ألفٍ. فقلتُ له: بَلَغَني أنَّك تحفَظُ مئةَ ألفِ حديثٍ، تَقْدِرُ أن تُملي عليَّ ألفَ حديثٍ من حفظٍ؟ قال: لا، ولكنْ إذا أُلقيَ عَليَّ عَرَفْتُ.

وقال أبو عبد الله بن مَنْدَه الحافظ: سمعتُ أبا العبَّاس محمد بن جَعْفر بن حَمْكَوَيْه بالرَّي يقول: سُئِل أبو زُرْعة عن رَجُل حَلَف بالطَّلاق: أنَّ أبا زُرْعَة يحفظُ مئتي ألف حديث هَل حَنِثَ؟ فقال: لا. ثم قال أبو زرعة: أحفظُ مئتي ألفِ حديثٍ كما يحفظُ الإنسانُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] وفي المُذَاكرة ثلاثَمئةِ ألفِ حديثٍ.

قال الحافظ الذهبي (3) : هذه حكايةٌ مُرْسَلةٌ، وحكايةُ صالح جَزَرَة أصَحُّ.

وقال الحافظُ أبو أحمد بنُ عَدِي (4) : سَمعتُ أبي يقولُ: كنتُ بالرَّي، وأنا

(1) المصدر السابق 13 / 80.

(2)

((سير أعلام النبلاء)) 13 / 68.

(3)

المصدر السابق 13 / 69.

(4)

((تاريخ بغداد)) 10 / 324 - 325.

ص: 15

غلامٌ في البزازين، فَحَلَف رجل بطلاق امرأته: أنَّ أبا زُرْعة يحفظُ مئةَ ألفِ حديثٍ. فَذَهبَ قومٌ - أنا فيهم - إلى أبي زُرْعة، فسألناه، فقال: ما حَمَلَه على الحلف بالطَّلاق؟ قيلَ: قد جَرى الآن منه ذلك. فقال أبو زُرْعَة: ليُمْسِكْ امرأتَه، فإنَّها لم تطلق عليه. أو كما قال.

وقال أبو عبد الله الحاكم (1) : سمعتُ أبا جَعْفر محمد بن أحمد الرَّازي يقول: سمعتُ محمد بن مُسْلم بن وَارَة قال: كنتُ عند إسْحاق بِنَيْسابور، فقال رَجُلٌ من العِراق: سمعتُ أحمد بن حَنْبل يقول: صَحَّ من الحديث سبعُمئةِ ألفِ حديثٍ وكسرٌ، وهذا الفتى - ̧ يعني أبا زُرْعة - قد حَفِظَ ستَّمئةِ ألفِ حديث.

وقال عُمَر بن محمد بن إسحاق القَطَّان (2) : سمعتُ عبد الله بن أحمد بن حَنْبل، سمعتُ أبي يقول: ما جاوزَ الجِسْرَ أحدٌ أفْقهُ من إسحاق بن رَاهَوَيْه، ولا أحفظُ من أبي زُرْعة.

قال ابن عدي (3) : سمعتُ أبا يَعلى الموْصِلي يقول: ما سمعنا بذكر أحد في الحفْظِ، إلَاّ كانَ اسمُه أكبرَ من رُؤيتِه، إلا أبا زُرْعة الرَّازي، فإنَّ مُشاهدَتَه كانتْ أعظم من اسمِه، وكانَ قد جَمَعَ حفظَ الأبوابِ والشُّيُوخ والتَّفْسير، كتبنا بانتخابه بواسط سِتَّةَ آلاف حديثٍ.

وقال الحاكم (4) : سمعتُ الفقيه أبا حَامد أحمد بن محمد، سمعتُ أبا العَبَّاس الثَّقفي يقول: لما انصرف قُتَيْبَةُ بن سَعِيدٍ إلى الرَّي، سَألُوه أن يُحدِّثَهم،

(1)

المصدر السابق 10 / 332.

(2)

((تاريخ بغداد)) 10 / 328.

(3)

المصدر السابق 10 / 334.

(4)

المصدر السابق 10 / 332.

ص: 16

فامتنع، فقال: أُحدِّثُكم بعد أن حضر مجلسي أحمد، وابنُ مَعِين، وابنُ المديني، وأبو بكر بنُ أبي شَيْبَة، وأبو خيثمة؟ قالوا له: فإن عندنا غُلاماً يَسْرُدُ كلَّ ما حَدَّثْتَ به، مجلساً مجلساً، قمْ يا أبا زُرْعة، قال: فقام، فَسَرَدَ كلَّ ما حدَّث به قُتَيْبة، فحدَّثهم قُتَيْبة.

وممن امتحنه تلاميذه: الحافظ الجليل الناقد أبو جعفر محمد بن عَمْرو بن موسى العُقَيْلي الحِجازي (ت322?) .

قال مسلمة بن القاسم (1) : كان العُقَيْليُّ جليلَ القَدْر، عظيمَ الخطر، ما رأيتُ مِثْلَه، وكان كثيرَ التصانيف، فكان مَنْ أتاه من المحدِّثين، قال: اقرأْ من كتابك، ولا يُخرج أصلَه.

قال: فتكلَّمنا في ذلك، وقلنا: إمَّا أن يكون من أحفظ الناس، وإمَّا أن يكون من أكذب الناس. فاجتمعنا فاتَّفقنا على أنْ نكتب له أحاديثَ من روايته، ونَزِيد فيها وننقص.

فأتيناه لنمتحنَه، فقال لي: اقرأْ، فقرأتُها عليه، فلمَّا أتيتُ بالزيادة والنقص، فَطِنَ لذلك، فأَخَذَ مني الكتاب، وأخذ القلم، فأَصْلحها من حِفْظِه، فانصرفنا من عنده، وقد طَابَتْ نفوسُنا، وعلمنا أنه من أحفظ الناس.

(1)((سير أعلام النبلاء)) 15 / 237، و ((تذكرة الحفاظ)) 3 / 833 - 834.

ص: 17