الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: أنبياء القرون الأولى:
نوح:
هو أبو البشرية الثاني، الذي حمل في فلكه بذور الحياة فأنقذها بأمر الله من الطوفان. وتقول التوراة -أسفار موسى الخمسة التي تتصدر العهد القديم: "كان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك سامًا وحامًا ويافثًا. وحام هو أبو كنعان
…
ومن هؤلاء تشعبت كل الأرض.
وابتدء نوح يكون فلاحًا وغرس كرمًا، وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه، فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجًا.
فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء فلم يبصرا عورة أبيهما. فلما استيقظ نوح من خمره، علم ما فعل به ابنه الصغير، فقال: معلون كنعان. عبد العبيد يكون لإخوته. وقال: مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبدًا لهم. ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعان عبدًا له".
"تكوين 9: 18-27".
من الواضح أن هذه أول بذرة لما يعرف بـ "السامية" باعتبارها عرقًا جنسيًا يتعالى عن بقية البشر، ولو كانوا إخوة "أبناء أب واحد". وإذا كان علماء اليوم على إدراك تام بأن الحديث عن السامية لا يعني مدلولًا عرقيًا، وإنما يمكن أن يعطي مفهومًا لغويًا بمعنى أن الشعوب التي عاشت في منطقة الشرق الأوسط تكلمت لغات بينها أواصر قربى، وتعرف بمجموعة اللغات السامية، وهذه تنقسم إلى عدة أسر هي:
أسرة اللغات الأكادية والبابلية والآشورية، وأسرة اللغات الكنعانية، وأسرة اللغات العربية، وأسرة اللغات الحبشية.
وثمة تساؤل يلح عن الظلم الفادح الذي أصاب كنعان بسبب تصرف نسب إلى أبيه حام، إذ من الواضح أن كنعان بريء تمامًا من لكل خطية تورثه اللعنة
والعبودية أو حتى ما هو أقل منهما بمراحل كاللوم والتقريع، وإذا كان هناك من يدان فهو بلا شك شخص آخر غير كنعان وأبيه حام.
ومن المحزن حقًا أن يكون قصص الكتاب المقدس مصدر إلهام للمبشرين بالتفرقة العنصرية وسندًا قويًا يحتجون به. فلقد أصدرت مجلة "لايف"1 عددًا خاصًا عن الكتاب المقدس، جاء فيه:
"لا تزال حكومة جنوب إفريفيا تعتمد على ما جاء في سفر التكوين -الذي يصف أحد أبناء حام "وهو كنعان" بأنه عبد العبيد- لتبرير سيطرتها على السود وإذلالهم"2.
هذا.. وتذكر لنا التوراة أن قصة نوح أمام الله لم تزد عن أنه حدث أن "رأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم.
فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه. فقال الرب: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته. الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء، لأني حزنت أني عملتهم. وأما نوح فوجد نعمة في عيني الرب
…
فقال الله لنوح: نهاية كل بشر قد أتت أمامي لأن الأرض امتلأت ظلمًا منهم فها أنا مهلكهم اصنع لنفسك فلكًا" "تكوين 6: 5-14".
لكن القرآن الكريم يعلمنا أن نوحًا كان نبيا يوحى إليه.
{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} "النساء: 163".
1 LIFE، April 19، 1965.
2 نقرأ النص الإنجليزي لهذه الفقرة الهامة كما يلي:
the governmetnt of south africa، still relies on genesis (which dese-ribes a son of ham as a lave of slaves to justify its subordination of negroes
وكان نوح رسولًا يدعو إلى التوحيد، ويحذر من أهوال اليوم الآخر:
وكان نوح فطنًا كيسًا استخدم في دعوته كل لباقة وديبلوماسية تعين على ترويض ذوي الطبائع الجامدة والقلوب المتحجرة. وفي تقرير منه يبين خطته في مختلف مراحل الدعوة تقرأ قول الحق:
وقد رأى علية القوم أن استجابة المستضعفين لدعوة نوح تعتبر سببًا كافيا لصدهم عنها:
لقد كان الشرك وتعدد الآلهة سائدًا في عهد نوح وكانت له كهنة ومرتزقة ودجالون، فقام هؤلاء يصرفون الناس عن دعوته:{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا، وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا، وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} "نوح: 21-22".
وحين بغلت دعوة نوح غايتها واستنفذت كل وسائل الإقناع، لم يبق لقومه خيار فيما ينتظرهم من عقاب:{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} "هود: 36-37".
إن هذا يتفق وعدل الله في خلقه، ألا يهلك نفسًا لم يأتها نذير:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} "القصص: 59".
لقد عاش نوح يجاهد في سبيل الله مئات السنين، إلا أن حصيلة ذلك كله كانت عددًا ضئيلًا من المؤمنين:{وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} "هود: 40".
ولقد استحق بجهاده الشاق وصبره الجميل ما أسبغ عليه من كرامة ونعماء، ويكفي أن يقول الله فيه:{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ، وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} "الصافات: 75-81".
{إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} "الإسراء: 3".
هكذا نرى نوحًا في القرآن العظيم: نبي عظيم ورسول ذو دعوة واسعة.
من أجل ذلك كان إمامًا يقتدي به الأنبياء والمرسلون علاوة على من دونهم من الناس، وكان أول أولي العزم الذين قيل في شأنهم لخاتم الأنبياء والمرسلين:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} "الأحقاف: 35".
إبراهيم:
هو النبي الكريم أبو الأنبياء، وأول حلقة في سلسلة النبوة الإبراهيمية الطاهرة، طار ذكره في العالمين وصار يمثل الميراث المشترك بين أبنائه في عقيدة التوحيد من يهود ومسيحيين ومسلمين.
ويأتي أول ذكر لإبراهيم في التوراة عند الحديث عن مولده وإخوة له من أبيه تارح الذي بدأ إنجابهم على الكبر وعمره آنذاك سبعون عامًا.
لقد كان تارح يعيش مع قبيلته في موطنهم الأصلي بمدينة أور بالعراق القديم -وإذا به يقرر فجأة الذهاب إلى أرض كنعان "فلسطين" فيرتحل إليها عبر طريق طويل مارًا بحران- مدينة القوافل -التي تقع حاليًا بتركيا قرب الحدود السورية، وهناك يموت تارح.
وفي حران تلقى إبراهيم أمرًا إلهيًا بالذهاب إلى أرض كنعان "وكان إبرام ابن خمس وسبعين سنة لما خرج من حاران. فأخذ إبرام ساراى امرأته ولوطًا ابن أخيه وكل مقتنياتهما التي اقتنيا والنفوس التي امتلكها في حاران، وخرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان""تكوين 12: 5".
لقد صمتت التوراة عن حياة إبراهيم السابقة وجهاده، فلم يبدأ ظهوره على مسرح الأحداث فيها إلا بعد أن شاخ وبلغ من العمر خمسا وسبعين عامًا.
ثم جاء القرآن الكريم يقص علينا سيرة إبراهيم منذ اشتد عوده، ويركز على جهاده الذي بدأه مبكرًا.
فلقد نشأ إبراهيم في بيئة وثنية لم تتفق عقائدها وتقاليدها مع فطرته السليمة ولذلك بدأ يتفكر في خلق السموات والأرض، وكان أن هداه الله إلى الدين الحق، فبدأ رسالته بالدعوة إلى التوحيد وهو لا يزال فتى في مطلع شبابه، وفي هذا يقول الحق:
لقد كان السبب الرئيسي الذي من أجله ذهب إبراهيم من العراق إلى فلسطين، هو الهجرة من أرض الوثنية والقهر إلى أرض تحفظ عليه دينه ونفسه.
{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} "العنكبوت: 26".
وبعد أن استقر إبراهيم بفلسطين "قالت سارى لإبرام هو ذا الرب قد أمسكني عن الولادة، ادخل على جاريتي.. فأخذت ساراى.. هاجر المصرية من بعد عشر سنين لإقامة إبرام في أرض كنعان وأعطتها لإبرام.. زوجة له، فدخل على هاجر فحبلت. فولدت هاجر لإبرام ابنًا.. إسماعيل. كان إبرام ابن ست وثمانين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل""تكوين 16".
وتتفق الكتب المقدسة على أن إبراهيم تعرض بعد ذلك لامتحان إلهي صعب، هم فيه أن يذبح ابنه وحيده الذي زرق به على الكبر استجابة لوحي تعرض له، لكن رحمة الله تداركت الوالد الشيخ الفاني وابنه الوليد الصابر "فناداه ملاك الرب من السماء....
فقال: لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئًا، لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عني" "تكوين 22: 11-12".
ولقد بينا في موضع سابق1 بما لا يدع مجالًا للشك أن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحاق على عكس ما تقول به المصادر الإسرائيلية.
ثم كان عهد الله لإبراهيم لما قارب عمره مائة عام..
إذ "لما كان إبراهم ابن تسع وتسعين سنة ظهر الرب لإبرام وقال له:
أنا الله القدير. سر أمامي وكن كاملًا، فأجعل عهدي بيني وبينك وأكثرك كثيرًا جدًا.
"نادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها: لا تخافي لأن الله قد سمع لصوت الغلام قومي احملي الغلام وشدي يدك به لأني سأجلعه أمة عظيمة.
وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس
…
وأخذت له أمه زوجة من مصر" "تكوين 21: 17-21".
1 راجع كتاب "فلسطين بين الحقائق والأباطيل" للمؤلف ص44-51.
"هؤلاء هم بنو إسماعيل
…
اثنا عشر رئيسًا حسب قبائلهم. وهذه سنو حياة إسماعيل مائة وثلاثين سنة، وأسلم روحه ومات وانضم إلى قومه وسكنوا من حويلة إلى شور التي أمام مصر حينما تجيء نحو آشور". "تكوين 25: 16-18".
ويذكر التلمود أن إبراهيم كان دائم التردد على ابنه إسماعيل في موطنه البعيد بالصحراء. فقد زاره مرة وكانت له زوجة قابلت حماها بجفاء فطقلها إسماعيل؟ ولما زاره أبوه إبراهيم مرة أخرى بعد ثلاث سنوات كانت زوجته الثانية كريمة مع أبيه، فسر بها إسماعيل واصطحبها لزيارة ولاده بفسلطين1.
لقد كان لإبراهيم في الجزيرة العربية نشاط روحي عظيم، بدأه مبكرًا حين ارتحل إليها بابنه إسماعيل وأمه هاجر. وأنزلهما مهبط الأمن والسكينة.
هناك دعا الله لأهله بالخير واستودعهم من لا تضيع عنده وديعة، ثم تركهم ورحل إلى حين.
وكان دعاء إبراهيم: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] .
وما إن اشتد ساعد إسماعيل حتى كان له مع أبيه عمل خالد لا تزال تذكره الملايين الحاشدة من البشر عبر عشرات القرون. فنحن نعلم {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96] .
ثم ما لبث أن تعرض هذ البيت العتيق لعاديات الزمن وبغي الأهل والخلطاء، فتصدع البناء وتدنس المكان بما صنعته يد الإنسان من إفك وأضاليل. ثم كانت رحمة الله بالإنسانية حين تجدد البيت بناء وشعائر على يد إبراهيم وابنه إسماعيل وفي هذا يقول الحق:
1 المرجع السابق ص47.
هذا هو إبراهيم، الأب الروحي للمؤمنين بالله من اليهود والمسيحيين والمسلمين وكلهم يرجو السلامة في دينه ونفسه كما سلم وكمل إبراهيم أمام الله "القدير" رب العالمين، فدين إبراهيم هو الدين الحق، على هذا يتفق أصحاب هذه العقائد وكفى به جوهرًا يجتمعون عليه رغم ما هم فيه بعد ذلك من خلاف عجيب.
فلقد كان أول وحي لموسى: "أنا إله أبيك إله إبراهيم
…
هكذا تقول لبني إسرائيل إله آبائكم، إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب أرسلني إليكم" "خروج 3: 6، 15".
وفي محاورة بين المسيح واليهود كان قوله لهم عن إبراهيم ذي الدين الحق: "أفما قرأتم ما قيل لكم من قبل الله القائل أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب.. فلما سمع الجمع بهتوا من تعليمه""متى 22: 31-33".
و"قال لهم يسوع: لو كنتم أولاد إبرهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم".
ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله. هذا لم يعمله إبراهيم. أنتم تعملون أعمال أبيكم.. أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتالًا للناس من البدء". "يوحنا 8: 39-44".
وأخيرًا، بعد أن طال الأمد على قلوب قست ونست حقيقة دين إبراهيم، جاء محمد ليجدد البناء ويدعو إلى الله على بصيرة، فيقيم بالحق دين إبراهيم.
{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123] .
{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68] .