المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: أنبياء بني إسرائيل: - النبوة والأنبياء في اليهودية والمسيحية والإسلام

[أحمد عبد الوهاب علي]

الفصل: ‌الفصل الثالث: أنبياء بني إسرائيل:

‌الفصل الثالث: أنبياء بني إسرائيل:

موسى:

يمكن تلخيص قصة موسى منذ مولده حتى رسالته بما تقوله أسفار العهد الجديد.

"تهذب موسى بكل حكمة المصريين، وكان مقتدرًا في الأقوال والأعمال

وصار غريبًا في أرض مديان حيث ولد ابنين..

وظهر له ملاك العرب في برية جبل سيناء، لهيب نار عليقة. فلما رأى موسى ذلك تعجب من المنظر، وفيما هو يتقدم ليتطلع صار إليه صوت الرب: أنا إله آبائك، إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب.... فهلم الآن أرسلك إلى مصر" "أعمال الرسل 7: 23-34".

ثم نعود الآن إلى التوراة لنعلم منها أنه:

"كان موسى ابن ثمانين سنة وهارون ابن ثلاثة وثمانين سنة حين كلما فرعون""خروج 17: 7".

وفي أول وحي لموسى، بعد أن علمه الله الكثير مما يقول ويفعل، وأراه آيات وأعاجيب، كان عاقبة ذلك أن "قال موسى للرب: استمع أيها السيد، لست أنا صاحب كلام منذ أمس ولا أول من أمس ولا من حين كلمت عبدك بل أنا ثقيل اللسان.

فقال له الرب: من صنع للإنسان فما، أو من يصنع أخرس أو أصم أو أعمى.

أما هو أنا الرب؟ فالآن اذهب وأنا أكون مع فمك وأعلمك ما تتكلم به.

فقال: استمع أيها السيد. أرسل بيد من ترسل.

فحمي غضب الرب على موسى، وقال: أليس هارون اللاوى أخاك. أنا أعلم أنه هو يتكلم وأيضًا ها هو خارج لاستقبالك.. فتكلمه وتضع الكلمات في فمه، وأنا أكون مع فمك ومع فمه وأعلمكما ماذا تصنعان". "خروج 4: 10-15".

ص: 45

لكن القرآن يبرئ موسى عن كل قول غليظ أن يعرضه في مثل تلك الساعات الخالجات لشيء من غضب الله، ويبين أن حديث الوحي الأول لموسى كان كله رحمة ولطفًا من الله، أظهر فيه موسى من التهذيب والخشوع والإدراك ما يتفق ووقار النبوة لشيخ في الثمانين من عمره.

لقد قال موسى: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي، وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا، وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا، إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا، قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: 25-36] .

لقد كان موسى واعيا أن ما يطلبه في هذا المشهد الخالد من خير يعينه على تبليغ رسالته لا بد وأن يناله، لأنه يطلب من أكرم الأكرمين. وكان حريا أن يجاب إلى طلبه وزيادة، فلقد تعهد له الله بالنصر النهائي إذ قال له:

{سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص 35]

وبعد جهد جهيد ومحن وأزمات استطاع موسى أن يخرج ببني إسرائيل من مصر ويقودهم عبر سيناء قاصدًا أرض فلسطين.

وفي سيناء تلقى موسى التوراة. "ولما رأى الشعب "الإسرائيلي" أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون وقالوا له: قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه.

ص: 46

فقال لهم هارون: انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وآتوني بها. فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها إلى هارون.

فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالإزميل وصنعه عجلًا مسبوكا.

فقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر. فلما نظر هارون بنى مذبحًا أمامه، ونادى هارون وقال: غدًا عيد للرب.

فبكروا في الغد وأصعدوا محرقات وقدموا ذبائح سلامة.. وجلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب.

فقال الرب لموسى: اذهب انزل لأنه قد فسد شعبك الذي أصعدته من أرض مصر.

صنعوا لهم عجلًا مسبوكًا وسجدوا له.

وقال الرب لموسى: رأيت هذا الشعب وإذا هو شعب صلب الرقبة. فالآن اتركني ليحمي غضبي عليهم وأفنيهم. فتضرع موسى أمام الرب إلهه.. فندم الرب عن الشر الذي قال إنه يفعله بشعبه.

فانصرف موسى ونزل من الجبل. ثم أخذ العجل الذي صنعوا وأحرقه بالنار وطحنه حتى صار ناعمًا وذراه على وجه الماء وسقى بني إسرائيل.

وقال موسى لهارون: ماذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبت عليه خطية عظيمة؟

فقال هارون: لا يحم غضب سيدي. أنت تعرف الشعب أنه في شر.

فقال لي: اصنع لنا آلهة تسير أمامنا. فقلت لهم: من له ذهب فلينزعه ويعطني فطرحته في النار فخرج هذا العجل" "خروج 32: 1-25".

لقد سجلت التوراة على هارون أنه شارك الشعب الإسرائيلي كفره إذ صنع بيده العجل الذي عبدوه ونصب نفسه كاهنًا له فبنى له مذبحًا وجعل له في الغد عيدًا.

ومعاذ الله أن يكون هارون النبي كذلك

ص: 47

فلقد تكفل القرآن ببراءة هارون من هذا الجرم الشنيع الذي لا يمكن الاعتذار عنه. فقرر أن الذي صنع العجل إنما هو شخص آخر غير هارون، كما سجل رفض هارون لتلك الفكرة الخبيثة وتنديده بها -وذلك في قول الحق:

{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي، قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ، فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ، أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي، قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} "طه: 86-91".

وتنسب التوراة إلى موسى وهارون عدم إيمانهما بالله، بل وتسجل عليهما الخيانة التي كان ثمنها أن حرمت عليهما أرض فلسطين. فلقد كان آخر وحي تلقاه موسى يقول على لسان الرب:

"اصعد إلى جبل عباريم. الذي قبالة أريحا وانظر إلى أرض كنعان التي أنا أعطيها لبني إسرائيل ومت في الجبل الذي تصعد إليه وانضم إلى قومك كما مات هارون أخوك في جبل هود وضم إلى قومه، لأنكما خنتماني في وسط بني إسرائيل عند ماء مريبة قادش في برية صين إذا لم تقدساني في وسط بني إسرائيل، فإنك تنظر الأرض من قبالته ولكنك لا تدخل إلى هنا""تثنية 32: 49-52".

ص: 48

لقد كان ما حدث في برية صين أن الشعب الإسرائيلي تذمر على الرب وسخط على عملية إخراجه من أرض مصر ولم يكن لموسى وهارون دخل في ذلك ولا يمكن أن يكون وفي هذا تقول التوراة:"

"أتى بنو إسرائيل الجماعة كلها إلى برية صين.. ولم يكن ماء للجماعة، فاجتمعوا على موسى وهارون. وخاصم الشعب موسى وكلموه قائلين:

ليتنا فنينا فناء إخوتنا أمام الرب. لمذا أتيتما بجماعة الرب إلى هذه البرية لكي نموت فيها نحن ومواشينا؟ ليس هو مكان زرع وتين وكرم ورمان ولا فيه ماء للشرب.

فأتى موسى وهارون من أمام الجماعة إلى باب خيمة الاجتماع وسقطا على وجهيهما.

فتراءى لهما مجد الرب. وكلم الرب موسى قائلًا: خذ العصا واجمع الجماعة أنت وهارون أخوك وكلما الصخرة أمام أعينهم أن تعطي ماءها.

فأخذ موسى العصا من أمام الرب كما أمره وجمع موسى وهارون الجمهور أمام لصخرة فقال لهم: اسمعوا أيها المردة، أمن هذه الصخرة نخرج لكم ماء؟ ورفع موسى يده وضرب الصخرة بعصاه مرتين فخرج ماء غزير، فشربت الجماعة ومواشيها.

فقال الرب لموسى وهارون: من أجل أنكما لم تؤمنا بي حتى تقدساني أمام أعين بني إسرائيل لذلك لا تدخلان هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتهم إياها. هذا ماء مريبة حيث خاصم بنو إسرائيل الرب فتقدس فيهم.

وكلم الرب موسى وهارون في جبل هور.. قائلا: يضم هارون إلى قومه لأنه لا يدخل الأرض التي أعطيت لبني إسرائيل لأنكم عصيتم قولي عند ماء مريبة.

فمات هارون على رأس الجبل "العدد: 20".

ص: 49

لكن القرآن يبرئ موسى وهارون من كل ما يمسهما من أذى ألحقه بهما كتبة الأسفار من الإسرائليين فحين تخاذل بنو إسرائيل عن دخول أرض فلسطين كان موسى مقدامًا -كصورته المشرقة في القرآن- يتقدم بنفسه ويضمن كذلك نفسه أخيه. وفي هذا يقول القرآن:

{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ، قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 22-26] .

لقد عطرت سيرة موسى في القرآن ويكفي أن يقول الحق فيه:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا، وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا، وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 51-53] .

{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ، وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ، وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ، وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ، سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات: 114-122] .

ص: 50

إلياس:

هو إيليا ذو العزائم والنبي أبو العجائب، يجد في سيرته الباحثون عن المعجزات والخوارق الشيء الكثير والمثير.

لقد كان إلياسين هذا شديدًا على نفسه وكانت هيأته أنه "رجل أشعر متنطق بمنطقة من جلد على حقويه""الملوك الثاني 1: 8" يسكن البراري ويلجأ إلى الجبال، ويعيش زاهدًا تقيًا ورعًا.

وكان إيليا التشبى هذا قويًا في الحق شديدًا على أعداء الله، فقد ابتلي في زمنه بملك جبار يخضع لزوجة طاغية، ذلك هو آخاب الذي عمل "الشر في عيني الرب أكثر من جميع الذين قبله.. حتى اتخذ إيزابل ابنة ملك الصيدونيين امرأة وسار وعبد البعل وسجد له.. وزاد آخاب في العمل لإغاطة الرب إله إسرائيل أكثر من جميع ملوك إسرائيل الذي كانوا قبله" "الملوك الأول 16: 30-33".

لقد كان إيليا يتنبأ باسم الإله الحي الذي لا يموت -بحدوث القحط والجفاف فتتحقق نبؤته تمامً:

"قال إيليا.. لآخاب: حي هو الرب إله إسرائيل الذي وقفت أمامه، أنه لا يكون طل ولا مطر في هذه السنين، إلا عند قولي.

وكان بعد مدة من الزمان أن النهر يبس لأنه لم يكن مطر في الأرض" "الملوك الأول 17: 1-7".

ثم عاد إيليا وتنبأ بانقضاء سنوات الجفاف فتحققت نبؤته بانهمار الأمطار:

"وبعد أيام كثيرة كان كلام الرب إلى إيليا، في السنة الثالثة، قائلًا: اذهب وتراء لآخاب فأعطي مطرا على وجه الأرض. فذهب إيليا ليتراءى لآخاب،

ص: 51

وكان الجوع شديدًا في السامرة. وقال إيليا لآخاب: اصعد كل واشرب لأنه حس دوي مطر.. وأما إيليا فصعد إلى رأس الكرمل وخر إلى الأرض وجعل وجهه بين ركبتيه، وقال لغلامه: اصعد تطلع نحو البحر. فصعد وتطلع وقال: ليس شيء، فقال: ارجع سبع مرات.

وكان من هنا إلى هنا أن السماء اسودت من الغيم والريح وكان مطر عظيم" "الموك الأول: 18".

وفي مواجهة عاصفة بين إيليا وآخاب تحدى إيليا أنبياء البعل الكذابين أن يتقدم هو بقربان إلى الرب إلهه، ويتقدم أولئكم الكذابون بقربان إلى البعل إلههم وتكون علامة الإله الحق أن يرسل نارًا من السماء لتأكل القربان الذي دعي باسمه:

"لما رأى آخاب إيليا قال له آخاب: أأنت هو مكدر إسرائيل؟ فقال: لم أكدر إسرائيل بل أنت وبيت أبيك بترككم وصايا الرب وبسيرك وراء البعليم

فالآن ارسل واجمع إلى كل إسرائيل إلى جبل الكرمل وأنبياء البعل أربع المئة والخمسين وأنبياء السوارى أربع المئة الذين يأكلون على مائدة إيزابل.

فأرسل آخاب إلى جميع بني إسرائيل وجمع الأنبياء "الكذابين" إلى جبل الكرمل..

فتقدم إيليا إلى جميع الشعب وقال: حتى متى تعرجون بين الفرقتين. إن كان الرب هو الله فاتبعوه، وإن كان البعل فاتبعوه. ثم قال إيليا للشعب: أنا بقيت نبيًا للرب وحدي وأنبياء البعل أربع مئة وخمسون رجلًا، فليعطونا ثورين فيختاورا لأنفسهم ثورًا. وأنا أقرب الثور الآخر.. ثم تدعون باسم آلهتكم وأنا أدعو باسم الرب. والإله الذي يجيب بنار فهو الله، فأجاب جميع الشعب وقالوا: الكلام حسن.

فأخذوا الثور.. وقربوه ودعوا باسم البعل.. فلم يكن صوت ولا مجيب

وقال إيليا لجميع الشعب: تقدموا إلي

وقطع الثور ووضعه على الحطب

وكان عند إصعاد التقدمة أن إيليا النبي تقدم وقال: أيها الرب إله إبراهيم

ص: 52

وإسحاق وإسرائيل، ليعلم اليوم أنك أنت الله في إسرائيل وأني أنا عبدك وبأمرك قد فعلت كل هذه الأمور..

استجبني يارب.

فسقطت نار الرب وأكلت المحرقة.

فلما رأى جميع الشعب ذلك سقطوا على وجوههم وقالوا: الرب هو الله، الرب هو الله.

فقال لهم إيليا: أمسكوا أنبياء البعل ولا يفلت منهم رجل. فأمسكوهم، فنزل بهم إيليا إلى نهر قيشون وذبحهم هناك" "الملوك الأول: 18".

إن العبر الواضحة في قصة إيليا ومعجزاته أن ما يجري من آيات على يد كل نبي ولو كان عجبا، إنما يتم بأمر الله، وليس هناك عذر لأي إنسان كائنًا من كان أن يتيه في نبي بسبب معجزاته فذاك بعد عن الحقيقة وضياع.

وكان أمر تدبير الطعام إلى إيليا عجيبًا فقد عهد به الله إلى مخلوقات ضعيفة كالغربان من الطير، أو امرأة أرملة من بني الإنسان حلت بها بركة إلياس:

"وكان كلام الرب له قائلًا: انطلق من هنا..واختبئ عند نهر كريث

فتشرب من النهر وقد أمرت الغربان أن تعولك.

فانطلق وعمل حسب كلام الرب

وكانت الغربان تأتي إليه بخبز ولحم صباحًا وبخبز ولحم مساءً:

وكان له كلام الرب قائلًا: قم اذهب إلى صرفة وأقم هناك هو ذا قد أمرت هناك امرأة أرملة أن تعولك فقام وذهب إلى صرفة.. وإذا بامرأة أرملة هناك تقشر عيدانًا فناداها. وقال: هاتي لي كسرة خبز في يدك. فقالت: عندي ملء كف في الكوار وقليل من الزيت في الكوز. فقا لها إيليا: لا تخافي..

ص: 53

لأنه هكذا قال الرب إله إسرائيل: أن كوار الدقيق لا يفرغ وكوز الزيت لا ينقص إلى اليوم الذي فيه يعطي الرب مطرًا على وجه الأرض.

فذهبت وفعلت حسب قول إيليا هي وبيتها أيامًا، كوار الدقيق لم يفرغ وكوز الزيت لم ينقص حسب قول الرب الذي تكلم به عن يد إيليا" "الملوك الأول 17".

وحدث أثناء إقامة إيليا عند تلك الأرملة أن مرض ابنها مرضًا قضى عليه، فتضرع إيليا إلى الله أن يحيي ذلك الميت، وقد استجاب الله دعاءه:

"قال لها "إيليا": أعطيني ابنك وأخذه من حضنها.. وأضجعه على سريره، وصرخ إلى الرب وقال: أيها الرب إلهي.. أأيضًا إلى الأرملة التي أنا نازل عندها قد أسأت بإماتتك ابنها. فتمدد على الولد ثلاث مرات وصرخ إلى الرب وقال: يا رب إلهي لترجع نفس هذا الولد إلى جوفه.

فسمع الرب لصوت إيليا فرجعت نفس الولد إلى جوه فعاش.

فأخذ إيليا الولد.. ودفعه إلى أمه وقال إيليا: انظري ابنك حي.

فقالت المرأة لإيليا: "هذا الوقت علمت أنك رجل الله وأن كلام الرب في فمك حق""الملوك الأول 17: 19-24".

إن الحق هو ما شهدت به المرأة وهو ما يشهد به كل عاقل على صدق إيمان هذه المرأة التي لم تأخذها روعة الموقف ولم يذهب بعقلها ما صنعه إيليا من إيحاء لابنها بعد موت أحزنها وأثكلها. ولم تقل المرأة لإيليا:

علمت أن فيك جانبًا إلهيا لأنك فعلت ما اختص به الإله المحيي المميت، ولكنها قالت له بإيمان الراسخين: علمت أنك رجل الله وأن كلام الرب في فم. ومن ثم إن أحييت أو أمت فلن يكون ذلك إلا بأمر الله.

ص: 54

وحين انتهت حياة إيليا فإنه رفع إلى السماء ولم يذق الموت على الأرض:

"قال إيليا لإليشع "تلميذه": اطلب ماذا أفعل لك قبل أن أوخذ منك.

فقال إليشع: ليكن نصيب اثنين من روحك علي..

وفيما هما يسيران ويتكلمان إذا بمركبة من نار وخيل من نار ففصلت بينهما فصعد إيليا في العاصفة إلى السماء.

وكان إليشع يرى وهو يصرخ: يا أبي، يا مركبة إسرائيل وفرسانها، ولم يره بعد..

فأخذ رداء إيليا الذي سقط عنه فضرب الماء.. فانطلق إلى هنا وهناك فعبر إليشع.

ولما رآه بنو الأنبياء.. قالوا: قد استقرت روح إيليا على إليشع فجاءوا للقائه وسجدوا له إلى الأرض" "الملوك الثاني 2: 9-15".

هذا هو إيليا العجيب -كما يرى في أسفار العهد القديم -ذو الرداء العجيب الذي شابه عصا موسى حين فلق الماء فعبر العابرون.

وفي أسفار العهد الجديد نجد إيليا يحظى بما يليق به كنبي عظيم، فقد كان له نشاط بعد انقضاء حياته على الأرض.

إذ ظهر إيليا للمسيح وتلاميذه، وهؤلاء سمعوه يلقي القول إلى المسيح:

"أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا وصعد بهم إلى جبل عال منفردين وحدهم..

وظهر لهم إيليا مع موسى، وكانا يتكلمان مع يسوع.

ص: 55

فجعل بطرس يقول ليسوع:

فلنصنع ثلاث مظال، لك واحدة ولموسى واحدة ولإيليا واحدة، لأنه لم يكن يعلم ما يتكلم به إذ كانوا مرتعبين. فنظروا حولهم بغتة ولم يروا أحدًا غير يسوع وحده معهم" "مرقس 9: 2-8".

ولقد كان الكهنة والشعب الإسرائيلي يتوقع عودة إيليا قبل مجيء المسيح كما فهموا ذلك من نبوءات الكتب والأنبياء ولذلك ترددوا في الإيمان بالمسيح: "سأله تلاميذه قائلين: فلماذا يقول الكتبة إن إيليا ينبغي أن يأتي أولًا""متى 17: 10".

وفي القرآن الكريم نجد إيليا موضع تكريم ككل أنبياء الله ورسله: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ، أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ، اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ، إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات: 123-132] .

هذا هو إيليا الأول الذي طابت سيرته في كل الكتب المقدسة، والذي تمضي بعده القرون الطويلة قبل أن يظهر إيليا آخر -يحيى بن زكريا- يعيد لنا سيرته في القوة على نفسه والشدة على الحاكم الظالم.

ص: 56

عيسى:

لفظ المسيح:

ظهر في بني إسرائيل مسحاء كثيرون. كانوا يحظون بهذا اللقب بمجرد أن يمسحهم أحد الأنبياء بالزيت المقدس الطاهر، فهكذا كان الحال مع شاول الذي مسحه النبي صموئيل:

"والرب كشف أذن صموئيل.. قائلًا: غدًا في مثل الآن أرسل إليك رجلًا من أرض بنيامين، فامسحه رئيسًا لشعبي إسرائيل.

فأخذ صموئيل قنينة الدهن وصب على رأسه.

وكان عندما أدار "شاول" كتفه لكي يذهب من عند صموئيل أن الله أعطاه قلبًا آخر.. وإذا بزمرة من الأنبياء لقيته فحل عليه روح الله فتنبأ في وسطهم" "صموئيل الأول 9:" 15-16".

فكان المسيح هو اللقب الذي حظي به شاول كما أعلن صموئيل: "وقال صموئيل لكل إسرائيل: "اشهدوا علي قدام الرب وقدام مسيحه

شاهد الرب عليكم وشاهد مسيحه اليوم هذا أنكم لم تجدوا ببدي شيئًا" "صموئيل الأول: 12: 1-5".

وكذلك شهد داود لشاول بأنه مسيح الرب:

"قال "داود" لرجاله: حاشا لي.. أن أعمل هذا الأمر بسيدي "شاول" بمسيح الرب، فأمد يدي إليه لأنه مسيح الرب""صموئيل الأول 24: 6".

وبعد شاول: قام صموئيل بمسح داود، فتحول إلى مسيح آخر:"قال الرب "لصموئيل": قم امسحه.. فأخذ صموئيل قرن الدهن ومسحه وحل روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعدًا""صموئيل الأول 16: 12-13".

ص: 57

وقبل أن يصعد إلياس إلى السماء فإنه مسح تليمذه إليشع نبيًا من بعده:

"وقال الرب "لإيليا": اذهب.. وامسح إليشع بن شافاط

نبيا عوضًا عنك" "الملوك الأول 19: 15-17".

وأخيرًا جاء المسيح عيسى، أعظم مسيح ظهر في بني إسرائيل، والذي سمي في الإنجيل مسيح الرب:

"كان رجل في أورشليم اسمه سمعان. أوحي إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب. أخذه على زراعيه وبارك الله""لوقا 2: 25-28".

ولادة العذراء:

اقتضت إرادة الله أن تلد سارة العجوز لإبراهيم الشيخ الهرم ابنًا هو إسحاق.

وإذا كان إنجاب الرجل العجوز ذرية في شيخوخته محتملًا إلى حد ما فإن إنجاب المرأة حين تتقدم بها السن وتتعدى التسعين عامًا يعتبر شبه مستحيل. ولكنه أمر الله يقول للشيء: {كُنْ فَيَكُونُ} . ولهذا حدث لإبراهيم ما أثار عجبه حين بشرته الملائكة بإسحاق، إذ كان قد "سقط إبراهيم على وجهه وضحك وقال في قلبه: هل يولد لابن مائة سنة، وهل تلد سارة وهي بنت تسعين سنة"؟! "تكوين 17: 17".

وفعلًا ولدت سارة -على الرغم من عقرها- وعلى الرغم من شيخوخة إبراهيم ومرت القرون.. أكثر من سبعة عشر قرنًا من الزمان.

ثم كانت إرادة الله أن يذكر الناس بما حدث لأبي الأنبياء إبراهيم، فأعاد سيرته الأولى في الإنجاب على الكبر ممثلة تمامًا في زكريا وزوجه العاقر، إذ تعجب هذا كما سبق أن تعجب جده إبراهيم وقال للملاك:

"كيف أعلم هذا لأني أنا شيخ وامرأتي متقدمة في أيامها؟ فأجاب الملاك وقال له: أنا جبرائيل الواقف قدام الله وأرسلت لأكلمك وأبشرك بهذا""لوقال 1: 18-19".

ص: 58

وبعد هذا التمهيد الإلهي المحكم، والذي تحقق فيه حدوث إنجاب في حالة عجيبة، أعقبه في حينه بحالة أعجب، ألا وهي حدوث إنجاب للعذراء مريم.

فالإنجيل يقول: "أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا. لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا "كزوجين" وجدت حبلى من الروح القدس""متى 1: 18".

والدليل على أن توقيت حمل زوجة زكريا العاقر كان حكمة أريد بها التمهيد لحادث حمل العذراء -لكي يتقبله الناس دون زيغ أو طغيان- أن حمل زوجة زكريا العجيب استخدم حجة لإقناع مريم ذاتها بالاستسلام لما يثيرة حملها الأعجب من مشاكل واضطراب في نفسها وفي بيئتها.

فبعد أن بشرها الملاك بالحمل والولادة "قالت مريم للملاك: كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلًا!

فأجاب الملاك وقال لها: الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك

وهو ذا اليصابات "زوجة زكريا" نسيبتك هي أيضًا حبلى بابن في شيخوختها، وهذا هو الشهر السادس لتلك المدعوة عاقرًا، لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله.

فقالت مريم: هو ذا أنا أمة الرب "واحدة من عبيد الله" ليكن لي كقولك: فمضى من عندها الملاك" "لوقا 1: 34-38".

ولا شك في أن حدوث حمل لفتاة عذراء دون اتصال برجل ما على أية صورة من الصور، إنما هو شيء خارق للعادة لأن ما اعتاد عليه الناس هو ضرورة تلقيح المرأة من الرجل حتى يتم الحمل وتحدث الولادة، لكن المؤمنين بالله ينظرون إلى حادث حمل مريم العذارء بابنها المسيح إثر نفحة من الروح القدس باعتباره واحدًا من مظاهر قدرة الله ورعايته لخلقه.

فالله -سبحانه- أوجد المسيح من امرأة فقط دون تدخل من رجل. وكان نتاج ذلك مولد إنسان بالصورة التي تلد بها كل النساء. وبذلك خلق الله إنسانًا ذا روح من إنسان ذي روح.

ص: 59

ومن قبل أوجد الله حواء. الأم الأولى للبشرية كجزء من آدم، وبذلك خلق الله إنسانًا ذا روح من إنسان ذي روح، لكن عملية مولد حواء كانت على غير الصورة التي توالدت بها البشرية بعد ذلك، فحواء لم يحمل بها في بطن ولم تنزل عند ولادتها من رحم.

ومن قبل أوجد الله آدم من قبضة من طين، أي خلق إنسانا ذا روح من جماد غير ذي روح. ولقد كانت التي حلت في آدم نفخة من روح الله.

ومن قبل آدم خلق الله الأكوان الرهيبة بعجائبها وعظائمها من العدم، أي خلق أشياء من لا شيء.

فالله عند المؤمنين {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرً} [البقرة: 20] .

ويمكن البرهنة على أن احتمالات الإنجاب للحالات الثلاث التي عرضناها وهي: إبراهيم الشيخ وزوجه العاقر سارة، وزكريا الشيخ وزوجه العاقر البصابات، ومريم العذراء بلا زوج -كلها متساوية، وذلك كالآتي:

نعلم من علوم الطبيعة أنه إذا توقف حدث على عاملين "أ"، "ب" بحيث لا يقع الحدث إلا إذا وجد العاملان معًا، فإن احتمال وقوع الحدث يتوقف على احتمال وجود العاملين الذي نعبر عنه بالصورة المبسطة التالية:

احتمال الحدث = احتمال العامل "أ" × احتمال العامل "ب".

وفي حالاتنا هذه نقول إن:

الحدث = الحمل.

العامل "أ"= حيوانات منوية صالحة.

العامل "ب" = بويضة أنثى صالحة.

ففي حالة إبراهيم نجد أن:

العامل "أ" محتمل وجوده، أي أن قيمته أكبر من الصفر ولتكن "س".

ص: 60

العامل "ب" غير محتمل وجوده، لأن سارة بلغت 90 عامًا، أي أن قيمته تساوي صفرا.

احتمال الحمل في حالة إبراهيم = س×. = صفر.

وبالمثل في حالة زكريا لأن الحالتين متماثلتين تمامًا.

وفي حالة مريم نجد أن:

العامل "أ" غير موجود أي أن قيمته = صفر.

العامل "ب" يحتمل -بل يغلب- وجوده في العذراء الناضجة، أي أن قيمته أكبر من الصفر ولتكن "ص".

احتمال الحمل في حالة مريم = 0 × ص = صفر.

ومن ذلك يتبين أن الحالات الثلاث متساوية، ولا يبقى لنا إلا أن نرد الأمر فيها جميعًا "لله العلي الكبير".

هذا.. ولم تكن ولادة العذراء مريم أول حادثة من نوعها، فقد سبقتها على الأقل حالة أخرى ذكرتها المصادر المسيحية عند الحديث عن تفسير النبوءة التي نقلها متى في إنجيله من سفر أشعياء، وفيها يقول:

"هو ذا العذراء تحبل وتلد ابنًا ويدعون اسمه عمانوئيل "الذي تفسيره الله معنا" "1: 23".

يقول المفسرون:

"هذه النبوة مذكورة في "إش 7: 14": وقد أوحي بها نحو "740 ق. م" والعبارة منقولة عن الترجمة السبعينية "وهي ترجمة نقلها من العبرانية إلى اليونانية بعض علماء اليهود في الإسكندرية بين سنة 200، 300 ق. م.

وهي النسخة التي غلب استعمال اليهود لها في أيام المسيح".

ص: 61

وظن البعض أن هذه النبوءة تمت أولًا في أيام أحاز الملك في ولادة ولد من فتاة كانت حينئذ عذراء لكنها تزوجت فيما بعد. ثم إنها تمت ثانيًا بأسمى معنى بولادة المسيح وظن آخرون أن أشعياء لم يشر إلا إلى يسوع بن مريم. والرأي الأول هو الأرجح لأنه كثيرًا ما رأينا النبوءة الواحدة تمت عدة مرات"1.

من ذلك يتبين أن الشعب الإسرائيلي قد ولدت فيه عذراء مرة- على الأقل- منذ حوالي سبعة قرون قبل أن تلد فيه عذراء أخرى هي مريم. وفي جميع الحالات فإن هذه الولادة العذرية لا يمكن أن تعني شيئًا بالنسبة للمولود -مثل الحديث عن جانب لاهوتي له أو نحو ذلك- لكنها تعني شيئًا واحدً وهو أن الله -سبحانه- {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} 2، لأن الله {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3.

وإذا تركنا موضوع ولادة العذراء عند هذا الحد الذي يكفي لتقدير أن مجيء المسيح عيسى على تلك الصورة المعروفة ليس أكثر عجبًا من حواء أم البشرية، أو مجيء آدم الإنسان الأول -ثم انتقلنا إلى ميدان العلم الحديث، لوجدناه يتمشى تمامًا مع هذا الذي قررناه:

فمنذ ثلاثة عشر عامًا نشرت مجلة "لانست"4 الطبية الإنجليزية المعروفة، بحثًا بعنوان "التوالد العذري في الثدييات" جاء فيه: "إن إمكانية حدوث حمل لامرأة دون إدخال واحد -على الأقل- من الحيوانات المنوية إلى رحمها يعتبر أمرًا لا يستطيع الإنسان العادي قبوله برضا. ولبضع قرون وقفت الفكرة العلمية في صف هذا الإنسان العادي، لكن علماء الأحياء اليوم وخاصة علماء الوراثة الخلوية قد يكونون أقل تشددًا في استبعاد مثل هذا الاحتمال..

1 الكنز الجليل في تفسير الإنجيل: تفسير إنجيل متى - ص9.

2 آل عمران: 47.

3 البقرة: 20.

4 مجلد عام 1955.

ص: 62

إن بعض الدوافع لذلك ناقشتها في الأسبوع الماضي الدكتورة "هيلين سبيرواي" أستاذة علم البيولوجيا الإحصائية بجامعة لندن، وذلك في محاضرة لها بعنوان: ولادة العذارى. ولقد كان ذلك بمناسبة ما تلاحظ من أن بعض أنواع الأسماك التي عزلت إناثها منذ ولادتها قد وجدت مخصبة ونتج عن ذلك ولادتها لنسل يتكون في غالبيته من إناث.

إن التوالد العذري الذي تبدأ فيه البويضة بالانقسام ذاتيًا، منتجة جنينًا بسيطًا، أو قيامها بتعويض الكروموزوم الأبوي الناقص بشكل ما من أشكال الازدواج يعتبر شيئًا نادرًا جدًا في الفقاريات ذات الدم الحار، لكنه شيء عادي في اللافقاريات.

وقد أمكن تسجيل عملية انقسام البويضة عذريًا في القطط1، وحيوان ابن مقرض2 ثم حديثًا في بعض دجاج الرومي غير المخصب3.

لكن تطور التوالد العذري بمعناه الكامل بحيث يعطي نسلًا قابلًا للنمو والحياة، يمكن عمله في الثدييات وذلك بتبريد قنوات فالوب، ولقد أمكن إنتاج كثير من الأرانب عديمة الآباء بهذا الأسلوب....

وبمراعاة كل تلك الاعتبارات، علينا أن نعيد النظر في مبررات اعتقادنا بأن التوالد الذاتي في الفقاريات شيء نادر، وأنه لا وجود له في الثدييات".

هذا.. وكانت صحيفة "الصنداي بكتوريال" البريطانية قد أشارت في عددها الصادر بتاريخ 6 نوفمبر 1955 إلى محاضرة الدكتورة "هيلين سبيرواي" عن "ولادة العذارى" وتلقت نتيجة لذلك عددًا من الرسائل من أمهات يقلن إنهن تعرضن لعملية حمل وولادة عذرية دون تدخل من أي رجل على أية صورة

1 strassmann، e.o. amer. j. obstet. gynec. 1949، 58، 237.

2 chang، m. c. anat، rec. 1950، 108.31.

3 olsen، m.w.، marsden، s.j. science، 1954، 120،545.

ص: 63

من الصور. وآنذاك شكلت الصحيفة لجنة من الأخصائيين أجرت فحوصًا طبية واختبارات علمية على عدد من تلكم الأمهات واستقر رأي اللجنة على استمرار بحث حالة سيدة تدعى إميمارى جونز وابنتها مونيكا ذات الأحد عشر عامًا والتي قالت أمها: إنها ولدتها من غير أب، وبعد ستة أشهر قالت اللجنة في تقريرها:

"لقد استخدمنا جميع التجارب والاختبارات العلمية الهامة المعروفة في عالم الطب، ولم نستطع أن نثبت أن أي رجل قد اشترك بأية وسيلة في خلق هذه الفتاة، إن جميع النتائج التي وصلنا إليها تتمشى مع نظرية الولادة العذرية، ولم نجد في هذه الفتاة أثرًا يمكن أن يأتي من أي شخص آخر سوى أمها"1.

كذلك أثبتت التجارب أنه بتنشيط البويضة بطرق كيميائية أو طبيعية فمن المحتمل تكوين الجنين كما حدث للضفادع منذ 45 عامًا عندما وخزت بويضة الأنثى بدبوس فنشطت وكونت جنينًا دون حيوانات منوية من الذكر وتحدث هذه الحالة في معظم اللافقاريات كالنمل.

وقد يكفي لتلقيح البويضة تنبيه ميكانيكي أو كهربائي كما سبق أن أعلن ذلك الأستاذ "سيفرز" رئيس مجمع ترقية العلوم البريطاني عام 1912"2.

واليوم ونحن في عام 1978 يطالعنا ما أذاعته وكالة يونيتدبرس للأنباء وهذا نصه: "وضعت أمس سيدة في جزر الرأس الأخضر طفلة حاملًا وظن الأطباء أن الطفلة مصابة بورم في بطنها ولكن الأشعة أوضحت أن ببطنها جنينًا عمره عدة أشهر، وقرر الأطباء إجراء عملية جراحية عاجلة لإنقاذ حياة الطفلة"3.

1 صحيفة "أخبار اليوم" بتاريخ 30 يونية 1956.

2 من كتاب: العلم والعمران -فؤاد صروف- ص132.

3 صحيفة "الجمهورية" بتاريخ 9 مارس 1978.

ص: 64

لقد ضل كثيرون في أمر ولادة العذراء مريم، فالبعض أنكره وكفر وقال عليها آنذاك "بهتانًا عظيمًا" لا يزال يتردد صداه في الإنجيل حتى اليوم.

ففي إحدى محاورات المسيح مع اليهود، قالوا له:"إننا لم نولد من زنا""يوحنا 8: 41".

بينما رأى البعض الآخر أن ولادة المسيح عيسى على تلك الصورة النادرة تعنى أن فيه جانبًا إلهيًا يتميز به عن بقية البشر وإن جاء على صورة بشر.

وبين رفض المسيح والغلو فيه تبقى حقيقة أمره واضحة كل الوضوح لا غموض فيها ولا إبهام. فالمؤمنون بالله جميعًا يشهدون: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ} [الشورى: 49] .

{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] .

أسماء عيسى وألقابه:

لقد نسب كتبة الأناجيل المسيح عيسى إلى يوسف النجار زوج أمه مريم، فيقول متى: "كتاب ميلاد يسوع المسيح.. إبراهيم ولد إسحاق، وإسحاق ولد يعقوب

وسليمان ولد -رحعبام.. ومتان ولد يعقوب ويعقوب ولد يوسف رجل مريم، التي ولد منها يسوع الذي يدعى المسيح" "متى 1: 1-16".

ويقول لوقا: "ولما ابتدأ يسوع بن ناثان بن داود""لوقا 3: 23-31".

"كان أبواه "مريم ويوسف" يذهبان كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح. ولما كانت له اثنتا عشرة سنة صعدوا إلى أورشليم كعادة العيد. وبعد ما أكملوا الأيام بقي عند رجوعهما الصبي يسوع في أورشليم، ويوسف وأمه لم يعلما.. ولما لم يجداه رجعًا إلى أورشليم يطلبانه..فلما أبصراه اندهشا.

ص: 65

وقالت له أمه: يا بني، لماذا فعلت بنا هكذا. هو ذا أبوك وإنا كنا نطلبك معذبين" "لوقا 2: 41-48".

وعرف المسيح عيسى أيضًا بابن داود، يقول لوقا: "أرسل جبرائيل الملاك من الله.. إلى عذراء مخطوبة لرجل اسمه يوسف. فقال لها الملاك: لا تخافي يا مريم

ها أنت ستحبلين وتلدين ابنًا

ويعطيه الرب الإلهي كرسي داود أبيه" "لوقا 1: 26-32".

وقد قبل المسيح لقب ابن داود من المؤمنين به: "وفيما هو خارج من أريحا مع تلاميذه وجمع غفير، كان بارتيماس الأعمى جالسًا على الطريق.. فلما سمع أنه يسوع الناصري ابتدأ يصرخ ويقول: يا يسوع بن داود ارحمني -فأجاب يسوع وقال له: ماذ تريد أن أفعل بك؟ فقال له الأعمى: يا سيدي أن أبصر. فقال له يسوع: اذهب، إيمانك قد شفاك. فللوقت أبصر وتبع يسوع في الطريق""مرقس 10: 46-52".

على أن الاسم الذي اختاره المسيح لنفسه وكرره كثيرًا في أحاديثه هو "ابن الإنسان" وما ذلك إلا لكي يعي الناس جميعًا أنه أولًا وأخيرًا بشر مثل كل البشر. ومن غلا فيه بعد ذلك وخلط بينه وبين الله على أية صورة من الصور {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون: 117] .

لقد شاع استخدام هذا الاسم في الأناجيل الأربعة وكان هو المفضل عند المسيح حين يتكلم عن نفسه:

"كل من اعترف بي قدام الناس يعترف به ابن الإنسان قدام ملائكة الله، وكل من قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له، وأما من جدف على الروح القدس فلا يغفر له""لوقا 12: 8-10".

"قال له واحد: يا سيد، أتبعك أينما تمضي؟ فقال له يسوع: للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار وأما ابن الإنسان فليس له أن يسند رأسه""لوقا 9: 57-58".

ص: 66

"ابن الإنسان قد جاء لكي يخلص ما قد هلك""متى 18: 11".

"الحق لكم: لا تكلمون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان""متى 1: 23".

"من الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان "يوحنا 1: 51".

"اعملوا لا للطعام البائد، بل للطعام الباقي للحياة الأبدية الذي يعطيكم ابن الإنسان""يوحنا 6: 27".

ولقد أكد عيسى لتلاميذه أنه المسيح، فليعلموا ذلك وهو لا يطلب منهم أكثر من هذا:

"خرج يسوع وتلاميذه إلى قرى قيصرية فيليبس. وفي الطريق سأل تلاميذه قائلًا لهم: من يقول الناس أني أنا؟ فأجابوا: يوحنا المعمدان، وآخرون: إيليا، وآخرون: واحد من الأنبياء.

فقال لهم: وأنتم من تقولون أني إنا؟

فأجاب بطرس وقال له: أنت المسيج" "مرقس 8: 27-79".

لكن كاتب إنجيل متى أضاف على قول بطرس هذا شيئًا آخر من تلك الأقوال التي فتحت الأبواب واسعة للجدل والشقاق بل والحروب عبر القرون. فهو يقول: "ولما جاء يسوع إلى نواحي قيصرية فيليبس

قال لهم: وأنتم من تقولون إني أنا؟ فأجاب سمعان بطرس وقال: أن المسيح ابن الله الحي". "متى 16: 13-16".

ويقول جون فنتون1 في تعليقه على هذه الفقرة من إنجيل متى: "لقد أضاف متى كلمات: ابن الله الحي، إلى كلمات مرقس: أنت المسيح، كما أضاف أيضًا كلمات يسوع التالية..

1 عميد كلية اللاهوت بليتشفيلد بإنجلترا.

ص: 67

ومن هذا يتبين أن سياق الكلام حاليًا -يحتمل ألا يكون هو المضمون الأصلي.

لقد مارس متى هنا عادته في إضافة أقوال إلى أقوال مرقس"1.

ومن المعلوم أن إنجيل مرقس هو أقدم الأناجيل وأن كلًا من متى ولوقا استعانا به عندما كتبا إنجيلهما. ومهما يكن من أمر فإن تعبير "ابن الله" قد استخدمه الإسرائيليون القدامى وكتبة الأسفار ليدل على محبة الله ورعايته ولا يسمح بشيء أكثر من هذا.

فحين ذهب موسى لفرعون: يقول كتبة التوراة: "قال الرب لموسى.. تقول لفرعون: هكذا يقول الرب: إسرائيل ابني البكر.. أطلق ابني "الشعب الإسرائيلي" ليعبدني.

بعد ذلك دخل موسى وهارون وقالا لفرعون: هكذا يقول الرب إله إسرائيل: أطلق شعبي ليعيدوا لي في البرية" "خروج 4: 21-23، 5: 1".

"أنتم أولاد الرب إلهكم.. لأنكم شعب مقدس للرب إلهك""تثنية 14: 1-2".

"أبو اليتامى، وقاضي الأرامل، الله""مزمور 68: 5".

"وجدت داود عبدي بدهن قدسي مسحته. وهو يدعوني: أبي أنت. إلهي وصخرة خلاصي""مزمور 89: 20- 26".

"كما يترأف الأب على البنين، يترأف الرب على خائفيه""مزمور 103: 13".

"الذي يحبه الرب يؤدبه، وكأب بابن يسر به""أمثال 3: 12".

"قال داود لسليمان.. كان إلي كلام الرب قائلًا.. هو ذا يولد لك ابن.. اسمه يكون سليمان.. هو يبني بيتًا لاسمي وهو يكون لي ابنًا وأنا له أبًا""أخبار الأيام الأول 22: 7-10".

1 j. c. fenton: saint mattew، p. 265

ص: 68

ويقول أشعياء: "إنك أنت أبونا.. أنت يا رب أبونا، ولينا منذ الأبد اسمك""أشعياء 63: 16".

وفي محاورة بين المسيح واليهود قالوا له: "لنا أب واحد وهو الله". "يوحنا 8: 41".

ويشتهر إنجيل يوحنا بكثرة تفسيراته، وهو هنا يقول:"أولاد الله أي المؤمنون باسمه""يوحنا 1: 12".

كذلك يقول: "ربي، الذي تفسيره، يا معلم""يوحنا 1: 38"، "ربوني الذي تفسيره: يا معلم" "يوحنا 20: 16".

ويقول إنجيل متى على لسان المسيح: معلمكم واحد، المسيح، وأنتم جميعًا إخوة، ولا تدعوا لكم أبا على الأرض، لأن أباكم واحد الذي في السموات" "متى 33: 8-9".

على كل فقد حدد المسيح لقبه وحقيقته لتلاميذه تحديدًا واضحًا أشد الوضوح، مبرأ عن كل لبس وبغير حاجة إلى تأويل. ففي ساعاته الأخيرة مع تلاميذه قال لهم:"أنتم تدعونني معلمًا وسيدًا، وحسنا تقولون، لأني أنا كذلك""يوحنا 13: 13".

وخلاصة القول في أسماء عيسى: إن أدقها ولا شك: "المسيح عيسى بن مريم" ثم ما نقرأه بعد ذلك في الأناجيل: "ابن الإنسان " - "يسوع بن يوسف الذي من الناصرة" - "ابن النجار" - "ابن داود" - "معلمًا وسيدًا".

شخصية المسيح في الأناجيل:

نعرض هنا بعض الصور والحالات والمواقف التي عرضها كتبة الأناجيل الأربعة لشخصية المسيح منذ مولده حتى رفعه والتي يكفي ذكرها دون الحاجة إلى كثير من الشروح والتأويلات فحقيقتها واضحة لا تحتاج إلى تعليق.

ص: 69

مولد المسيح وطفولته:

يقول متى: "أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا. لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس.. فيوسف رجلها.. أراد تخليتها ولكن إذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلًا.. لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك. فلما استيقظ يوسف من النوم فعل كما أمره ملاك الرب وأخذ امرأته. ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر. ودعا اسمه يسوع""متى 1: 18-25".

لقد حملت مريم بابنها عيسى بنفخة من الروح القدس، ثم سار الحمل بعد ذلك طبيعيًا، وكذلك الميلاد، إذ يقول لوقا:"وبينما هما "يوسف ومريم" هناك، تمت أيامها لتلد. فولدت ابنها البكر وقمطته وأضجعته في المذود""لوقا 2: 6-7".

لقد كان حديث كتبة الأناجيل عن عدم معرفة يوسف لمريم -أي معاشرتها كزوجة قبل أن تلد ابنها البكر- سببًا لإثارة الجدل بين شيوخ المسيحية -وخاصة منذ القرن الخامس الميلادي -عما إذا كان يوسف قد عاشرها كزوجة بعد ذلك، وعما إذا كانت قد أنجبت له ذرية، خاصة وأن الأناجيل سمت عيسى ابنها البكر" وذكرت أن له إخوة يعيشون في حضن أمه.

ويقول "جون فنتون" في تفسيره للجزء الأخير من الفقرة التي ذكرها متى: ليس من الضروري أن يعطي هذا انطباعًا بأن يوسف عرفها بعد أن ولدت ابنها، لكن الإشارة إلى إخوة يسوع وأخواته التي ذكرها متى في "12: 46، 13: 55" دون أي بيان آخر توحي بأنه عرفها بعد ذلك"1.

هذا.. "ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمي يسوع.. ولما تمت أيام تطهيرها حسب شريعة موسى صعدوا به إلى أورشليم ليقدموه للرب.

1 المرجع السابق ص44.

ص: 70

كما هو مكتوب في ناموس الرب أن كل ذكر فاتح رحم يدعى قدوسًا للرب. ولكن يقدموا ذبيحة كما قيل في ناموس الرب زوج يمام أو فرخي حمام" "لوقا 2: 21-24".

المسيح في صباه:

"كان أبواه "يوسف ومريم" يذهبان كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح.

ولما كانت له اثنتا عشرة سنة صعدوا إلى أورشليم كعادة العيد.

وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل جالسا وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم..

ثم نزل معهما وجاء إلى الناصرة وكان خاضعًا لهما.

وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس".

هذا.. ومن المعلوم أن الأناجيل صمتت صمتًا تامًا عن الفترة بين صباه لما كان له من العمر اثنتا عشرة سنة إلى أن بدأ دعوته وله نحو ثلاثين سنة كما يقول لوقا.

التمهيد للرسالة:

"جاء يسوع من الناصرة واعتمد من يوحنا في الأردن. وللوقت وهو صاعد من الماء رأى السموات قد انشقت والروح مثل حمامة نازلًا عليه""مرقس 1: 9-10".

"وإذا كان يصلي انفتحت السماء ونزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة""لوقا 3: 21-22".

ص: 71

"وشهد يوحنًا قائلًا: إني قد رأيت الروح نازلًا مثل حمامة من السماء فاستقر عليه وأنا لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء، قال لي: الذي ترى الروح نازلًا ومستقرًا عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس""يوحنا 1: 32-33".

بعد ذلك تعرض المسيح لفتنة الشيطان وتجربته حتى يظهر مدى طاعته لله، وشدة إيمانه به، وتمسكه بتوراة موسى:

"أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئًا من الروح القدس وكان يقتاد بالروح في البرية، أربعين يومًا يجرب من إبليس ولم يأكل شيئًا في تلك الأيام، ولما تمت جاع أخيرًا.

وقال له إبليس: إن كنت ابن الله فقل لهذا الحجر أن يصير خبزًا.

فأجابه يسوع قائلًا: مكتوب1 أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة من الله.

ثم أصعده إبليس إلى جبل عال وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان وقال له إبليس: لك أعطي هذا السلطان كله ومجدهن

فإن سجدت أمامي يكون لك الجميع.

فأجابه يسوع وقال: اذهب يا شيطان، إنه مكتوب22: للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد.

ثم جاء به إلى أورشليم وأقامه على جناح الهيكل وقال له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل، لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك وأنهم على أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك.

فأجاب يسوع وقال له: إنه قيل3: لا تجرب الرب إلهك.

1 يقصد ما في توراة موسى التي تقول: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان""تثنية 8: 3".

2 يقصد ما تقوله التوراة: "الرب إلهك تتقي وإياه تعبد وباسمه تحلف""تثنية 6: 13".

3 القول هنا يقصد به ما في التوراة: "لا تجربوا الرب إلهكم""تثنية 6: 16".

ص: 72

ولما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين.

ورجع يسوع بقوة الروح إلى الجليل

وكان يعلم في مجامعهم ممجدًا من الجميع" "لوقا 4: 1-15".

لقد عاش المسيح بين الناس يتعرض لما يتعرضون له من مشقات تتعبهم وآلام تحزنهم ومسرات تفرحهم وكان ينفعل وتجيش نفسه بشتى العواطف والانفعالات التي يعرفها كل الناس. بل إنه كان يقبل على الحياة أكثر مما فعل سلفه يحيى بن زكريا، فذلك ما شهد به المسيح، وكذلك شهد كتبة الأناجيل.

الطعام والشراب:

يقول المسيح: "جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب، فيقولون: به شيطان

جاء ابن الإنسان "المسيح" يأكل ويشرب، فيقولون: هو ذا إنسان أكول وشريب خمر" "متى 11: 18-19".

ويقول: "جون فنتون" في تعليقه على هذه الفقرة: "لقد دعا كل من يوحنا المعمدان "يحيى بن زكريا" والمسيح إلى التوبة، لكن اليهود لم يستجيبوا لهما. فاليهود يشبهون أولادًا سيئى المزاج مثيرين للخصام، لا يعجبهم شيء.

لقد عاش يوحنا بينهم ناسكًا متقشفًا فقالوا: به شيطان، ولما لم يكن المسيح متقشفًا قالوا: إنه ماجن ملحد"1.

وفي الساعات الأخيرة للمسيح مع تلاميذه "قال لهم شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم.. ثم تناول كأسًا "من الخمر" وشكر وقال: خذوا هذه واقتسموها بينكم""لوقا 22: 14-16".

1 المرجع السابق ص180.

ص: 73

وأقول لكم: إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدًا" "متى 26: 29".

الحب: "قدموا إليه أولادًا لكي يلمسهم، وأما التلاميذ فانتهروا الذين قدموهم: فلما رأى يسوع ذلك اغتاظ وقال لهم: دعوا الأولاد يأتون إلي ولا تمنعوهم لأن مثل هؤلاء ملكوت الله. فاحتضنهم ووضع يديه عليهم وباركهم""مرقس 10: 13-15".

"كان يسوع يحب مرثا وأختها ولعازر، فلما سمع أنه مريض مكث حينئذ في الموضع الذي كان فيه يومين""يوحنا 11: 5-6".

متاعب الحياة وأحزانها: "أتى إلى مدينة من السامرة.. وكانت هناك بئر يعقوب. فإذا كان يسوع قد تعب من السفر جلس هكذا على البئر فجاءت امرأة من السامرة لتستقي ماء، فقال لها يسوع: أعطيني لأشرب.

لأن تلاميذه كانوا قد مضوا إلى المدينة ليبتاعوا طعامًا" "يوحنا 4: 5-8".

وقالت مريم أخت لعازر المريض الذي توفي حديثًا: "يا سيد، لو كنت ها هنا لم يمت أخي. فلما رآها يسوع تبكي واليهود الذين جاءوا معها يبكون انزعج بالروح واضطرب وقال: أين وضعتموه؟ قالوا له: يا سيد، تعالى وانظر بكى يسوع""يوحنا 11: 32-35".

"جاء معهم يسوع إلى ضيعة يقال لها جثسيماني.. ثم أخذ معه بطرس وابنى زيدي وابتدأ يحزن ويكتئب. فقال لهم: نفسي حزينة جدًا حتى الموت. امكثوا ها هنا واسهروا معي""متى 26: 36-78".

العجز: "قال لهم يسوع: ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وبين أقربائه وفي بيته. ولم يقدر أن يصنع هناك ولا قوة واحدة""مرقس 6: 4-5".

ص: 74

"خرج الفريسيون وابتدءوا يحاورونه طالبين منه آية من السماء لكي يجربوه.

فتنهد بروحه وقال: لماذا يطلب هذا الجيل آية؟ الحق أقول لكم لن يعطى هذا الجيل آية. ثم تركهم ودخل أيضًا السفينة ومضى إلى العبر" "مرقس 8: 11-13".

ولقد قال المسيح بوضوح: "أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئًا""يوحنا 5: 30".

وكما عجز عن الفعل واعترف بذلك فقد عجز عن القول واعترف بذلك أيضًا.

فحين سأله تلاميذه عن "انقضاء الدهر" ويوم القيامة قال لهم: "أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الآب""مرقس 13: 32".

الغضب والعنف: "صعد يسوع إلى أورشليم ووجد في الهيكل الذين كانوا يبيعون بقرا وغنمًا وحمامًا والصيارف جلوسًا. فصنع سوطًا من حبال وطرد الجميع من الهيكل. الغنم والبقر وكب دراهم الصيارف وقلب موائدهم "يوحنا 2: 13-15".

"جاء إلى يسوع كتبة وفريسيون.. قائلين: لماذ يتعدى تلاميذك تقليد الشيوخ؟

فأجاب وقال لهم: وأنتم أيضًا لماذا تتعدون وصية الله.. يا مراءون.

ثم دعا الجمع وقال لهم.. اتركره، هم قادة عميان وإن كان أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة" "متى 15: 1-14".

"لما رأى يسوع ذلك اغتاظ""مرقس 10: 14".

"نظر حوله إليهم بغضب حزينًا على غلاظة قلوبهم""مرقس 7: 5".

"جيل شرير فاسق يلتمس آية""متى 16: 4".

ص: 75

"ابتدأ يوبخ المدن التي صنعت فيها أكثر قواته لأنها لم تتب. ويل لك يا كوزين، ويل لك يا بيت صيدا.. وأنت يا كفر ناحوم المرتفعة إلى السماء ستهبطين إلى الهاوية""متى 11: 20-23".

"ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون. ويل لكم أيها القادة العميان أيها الجهال والعميان.. أيها الفريسي الأعمى نق أولًا داخل الكأس والصفحة لكي يكون خارجهما أيضًا نقيًا. ويل لكم أيها الكتبة الفريسون المراءون لأنكم تشبهون قبورًا مبيضة تظهر من خارج جميلة وهي من داخل مملوءة عظام أموات ونجاسة.. أيها الحيات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم""متى 23-15-33".

الخوف والاضطراب والفزع: "لما كان في أورشليم في عيد الفصح آمن كثيرون باسمه.. لكن يسوع لم يأتمنهم على نفسه لأنه كان يعرف الجميع""يوحنا 2: 23-24".

"كان يسوع يتردد بعد هذا في الجليل لأنه لم يرد أن يتردد في اليهودية لأن اليهود كانوا يطلبون أن يقتلوه""يوحنا 7: 1".

"فمن ذلك اليوم تشاوروا ليقتلوه. فلم يكن يسوع أيضًا يمشي بين اليهود علانية بل مضى من هناك إلى الكورة القريبة من البرية""يوحنا 11: 53-54".

"انزعج بالروح واضطرب.. انزعج يسوع أيضًا في نفسه""يوحنا 11: 33-38".

"الآن نفسي قد اضطربت وماذا أقول. أيها الآب نجني من هذه الساعة""يوحنا 21: 27".

"لما قال يسوع هذا اضطرب بالروح""يوحنا 13: 21".

ص: 76

"وظهر له ملاك من السماء يقويه. وإذ كان في جهاد كان يصلي بأشد الحاجة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض "لوقا 22: 33-44".

المسيح بين الناس:

حرفته: "لما كان السبت ابتدأ يعلم في المجمع. وكثيرون إذ سمعوا بهتوا قائلين: من أين لهذه.... أليس هذا هو النجار ابن مريم وأخو يعقوب ويوسى ويهوذا وسمعان؟ أو ليست أخواته ها هنا عندنا؟ فكانوا يعثرون به""مرقس 6: 1-3".

ويقول "دنيس نينهام" في تعليقه على هذه الفقرة: "إن كلمة النجار هنا مترجمة عن كلمة إغريقية تعني -مثل نظيرتها العبرية- عامل في الحجر أو الخشب أو المعدن، وإن المعنى الدقيق يجب استخراجه في كل حالة من سياق الكلام، إن آباء الكنيسة منقسمون تمامًا بالنسبة لمعنى كلمة النجار هنا، فربما كان يسوع بناء القرية وفي تلك الحالة كان لا بد أن تشتمل مهاراته على بعض أعمال النجارة"1.

ويذكر "وليم باركلي" في تفسيره للعهد الجديد أن حرفة المسيح -وهي النجارة- قد أثرت في تعاليمه فقوله في إنجيل متى: "تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم، أحملوا نيري عليكم وتعلموا مني.. لأن نيري هين وحملي حفيف""11: 28-30" فإن قول المسيح: "نيري هين" معناه في اللغة اليونانية: نيري مناسب. فقد كانت أنيار الثيران تصنع من الخشب وعادة كانوا يحضرون الثور إلى النجار ليقيس النير. وتقول الروايات القديمة إن يسوع في السنوات الصامتة قبل بدء خدمته الجهارية كان يعمل بالنجارة، واشتهر بأنه كان يصنع أفضل الأنيار في كل بلاد فلسطين، وأن الناس كانوا يأتون إليه من كل مكان ليصنع أنيارًا مناسبة لثيرانهم، وتقول الروايات

1 d. e. nineham: saint mark، p، 185

ص: 77

إن المحلات كانت تضع لوحات فوق أبوابها إعلانًا عن نوع العمل فيها، وغالبًا كان يسوع يضع فوق دكان النجارة لوحة تقول: نيري مناسب -أو نيري هين- وربما استخدم يسوع التعبير عينه الذي كان يضعه على دكان النجارة في الناصرة"1.

إخوته: "وفيما هو يكلم الجموع إذا أمه وإخوته قد وقفوا خارجًا طالبين أن يكلموه. فقال له واحد: هو ذا أمك وإخوتك وافقون خارجًا طالبين أن يكلموك. فأجاب وقال للقائل له: من هي أمي ومن هم إخوتي.

ويقول جون فنتون: "ليس هنا ما يعلم عن علاقة هؤلاء الإخوة بيسوع. ومنذ القرنين الرابع والخامس جرى العرف على أن مريم لم يكن لها أولاد سوى يسوع. وإن أولئك الإخوة كانوا إما أولادا ليوسف من زواج سابق أو كانوا أبناء عمومة أو خئولة ليسوع.

وعندما يقول متى إن يوسف: لم يعرفها "مريم" حتى ولدت ابنها البكر "1: 25" فيمكن أن يعني هذا أن إخوة يسوع وأخواته كانوا الأولاد الصغار ليوسف ومريم"2.

ردة أصحابه: "قال لهم يسوع.. كما أرسلني الآب الحي، وأنا حي بالآب، فمن يأكلني فهو يحيا بي. فقال كثيرون من تلاميذه إذ سمعوا: إن هذ الكلام صعب. من يقدر أن يسمعه. فعلم يسوع في نفسه أن تلاميذه يتذمرون على هذا.

1 تفسير العهد الجديد -تأليف الدكتور وليم باركلي -ترجمة الدكتور بطرس عبد الملك وآخرين ص414-415.

2 j. c. fenton: saint mattew. p. 206

ص: 78

من هذا الوقت رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء ولم يعودوا يمشون معه. فقال يسوع للاثني عشر: ألعلكم أنتم أيضًا تريدون أن تمضوا"؟! "يوحنا 6: 53-67".

"وكان عيد اليهود عيد المظال قريبًا. فقال له إخوته: انتقل من هنا واذهب إلى اليهودية لكي يرى تلاميذك أيضًا أعمالك التي تعمل. لأن إخوته أيضا لم يكونوا يؤمنون به""يوحنا 7: 2-5".

"أقام اثنى عشر "تلميذًا" ليكونوا معه وليرسلهم ليكونوا.. ثم أتوا إلى بيت. فاجتمع أيضًا جمع حتى لم يقدروا ولا على أكل خبر.

ولما سمع أقرباؤه خرجوا ليمسكوه لأنهم قالوا إنه مختل "العقل""مرقس 3: 14-21".

عقيدة الذين شاهدوا المسيح ومعجزاته وآمنوا به: "كان بارتيماس الأعمى.. جالسًا على الطريق يستطعى فلما سمع أن يسوع الناصري ابتدأ يصرخ ويقول: يا يسوع ابن داود ارحمني. فأجاب يسوع وقال له: ماذا تريد أن أفعل بك؟ فقال له الأعمى: يا سيدي أن أبصر. فقال له يسوع: اذهب، إيمانك قد شفاك. فللوقت أبصر وتبع يسوع في الطريق""مرقس 10: 46-52".

"ذهب إلى مدينة تدعى نايين، فلما اقترب إلى باب المدينة إذا ميت محمول، ابن وحيد لأمه وهي أرملة ومعها جمع كثير من المدينة. فلما رآها تحنن عليها وقال لها: لا تبكي، ثم تقدم ولمس النعش فوقف الحاملون. فقال: أيها الشاب لك أقول قم. فجلس الميت وابتدأ يتكلم فدفعه إلى أمه. "لوقا 7: 11-16".

"مضى يسوع إلى عبر الجليل.. وتبعه جمع كثير لأنهم أبصروا آياته التي

ص: 79

كان يصنعها في المرضى. قال له واحد من تلاميذه.. هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان ولكن ما هذا لمثل هؤلاء.. وأخذ يسوع الأرغفة وشكر ووزع على التلاميذ، والتلاميذ أعطوا المتكئين وكذلك من السمكتين بقدر ما شاءوا. فلما شبعوا قال لتلاميذه: اجمعوا الكسر الفاضلة لكي لا يضيع شيء، فجمعوا وملئوا اثنتي عشرة قفة من الكسر من خمسة أرغفة الشعير التي فضلت عن الآكلين.

فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا: إن هذا هو بالحقيقة النبي الأتي إلى العالم" "يوحنا 6، 1-14".

"وفيما هو مجتاز رأي إنسانًا أعمى منذ ولادته. فتفل على الأرض وصنع من التفل طينًا وطلى بالطين عيني الأعمى وقال له: اذهب واغتسل في بركة سلوام.. فمضى واغتسل وأتى بصيرًا.

فالجيران. قالوا له: كيف انفتحت عيناك؟ أجاب ذلك وقال: إنسان يقال له يسوع.

فأتوا إلى الفريسيين.. وكان بينهم شقاق، قالوا أيضًا للأعمى: ماذا تقول أنت عنه من حيث إنه فتح عينيك؟ فقال: إنه نبي.

فدعوا ثانية الإنسان الذي كان أعمى وقالوا له: أعط مجدًا لله. نحن نعلم أن هذا الإنسان خاطئ. أجاب الرجل وقال لهم: إن في هذا عجبًا إنكم لستم تعلمون من أين هو وقد فتح عيني. ونعلم أن الله لا يسمع للخطاة، ولكن إن كان أحد يتقي لله ويفعل مشيئته فلهذ يسمع" "يوحنا 9: 1-31".

"لما قربوا من أورشليم.. حينئذ أرسل يسوع تلميذين.. أتيا بالأتان والجحش ووضعا عليهما ثيابهما فجلس عليهما. والجمع الأكثر عليهما. والجمع الأكثر فرشوا ثيابهم في الطريق.

والجموع الذين تقدموا والذين تبعوا كانوا يصرخون قائلين: أوصنا لابن داود. مبارك الآتي باسم الرب.

ص: 80

ولما دخل أورشليم ارتجت المدينة كلها قائلة: من هذا.

ققالت الجموع: هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل. "متى 21: 1-11".

"ولما سمع رؤساء الكهنة والفريسيون أمثاله عرفوا أنه تكلم عليهم. وإذا كانوا يطلبون أن يمسكوه خافوا من الجموع لأنه كان عندهم مثل نبي""متى 21: 45-46".

من الواضح الآن أن الذين شاهدوا المسيح ورأوا الآيات التي صنعها أمامهم أو صنعها من أجلهم -مثل إحياء ابن الأرملة- جميعهم آمنوا به باعتباره نبي عصره، فهو "يسوع بن داود" و"نبي عظيم".

و"بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم" و"إنسان

نبي يتقي الله ويفعل مشيئته فلهذا يسمع له".

فالمسيح عند الذين آمنوا "مثل نبي" تمامًا كما كان أمر يحيى بن زكريا: "فإن هيرودس كان قد أمسك يوحنا.... وطرحه في سجن.. ولما أراد أن يقتله خاف من الشعب، لأنه كان عندهم مثل نبي""متى 14: 3-5".

المسيح بين يدي الله:

جاء المسيح رسولًا من الله يدعو إليه -سبحانه- بإذنه، ولذا تكفل الله بتعليمه ماذا يقول وماذا يفعل. ولقد بين المسيح هذه الحقيقة الهامة في محاوراته مع اليهود.

"صعد يسوع إلى الهيكل وكان يعلم. فتعجب اليهود قائلين: كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلم؟

أجابهم يسوع وقال: تعليمي ليس لي، بل للذي أرسلني. إن

ص: 81

شاء أحد أن يعمل مشيئته يعرف التعليم هل هو من الله أم أتكلم أنا من نفسي.

من يتكلم من نفسه يطلب مجد نفسه، وأما من يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم" "يوحنا 7: 14-18".

"لم أتكلم من نفسي لكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية ماذا أقول وبماذ أتكلم. وأنا أعلم أن وصيته هي حياة أبدية، فما أتكلم أنا به فكما قال لي الآب هكذا أتكلم""يوحنا 12: 49-50".

ثم بين المسيح بعد ذلك أن من يطمع في الحياة الأبدية والنعيم الخالد، عليه أولا أن يؤمن بالله الذي أرسله. فذاك جوهر العقيدة التي جاء بها المسيح:

"الحق الحق أقول لكم: إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة""يوحنا 5: 24".

ولقد كان صلاة المسيح في ساعاته الأخيرة دعوة إلى التوحيد الخالص تقول: "لا إله إلا الله، المسيح رسول الله".

"تكلم يسوع بهذا ورفع عينه نحو السماء وقال.. وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته""يوحنا 17- 1-3".

وفي حديث مع اليهود قال لهم: "كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجدًا بعضكم من بعض، والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه""يوحنا 5: 44".

ولقد انحسمت تمامًا قضية التوحيد في عقيدة المسيح الصحيحة التي جاء بها ودعا إليها، كما يستبان بوضوح من هذا القصص الذي سجله ثلاثة من الأناجيل الأربعة.

ص: 82

فقد "جاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون، فلما رأى أنه أجابهم حسنًا سأله: أية وصية هي أول الكل؟

فأجابه يسوع: إن أول كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى.

وثانية مثلها هي: تحب قريبك كنفسك.

ليس وصية أخرى أعظم من هاتين.

فقال له الكاتب: جيدًا يا معلم. بالحق قلت، لأنه الله واحد، وليس آخر سواه.

ومحبته من كل القلب ومن كل الفهم ومن كل النفس ومن كل القدرة، ومحبة القريب كالنفس هي أفضل من جميع المحرقات والذبائح.

فلما رآه يسوع أنه أجاب يعقل قال له: لست بعيدًا عن ملكوت الله" "مرقس 12: 28-34، متى 22: 35-40، لوقا 10: 25-28".

وحتى لا تكون هناك فرصة للتقول على المسيح والخلط بينه وبين الله -وبعد أن نتذكر تفسير الإنجيل بأن: ابن الله يعني المؤمن به- نورد ما سجله كتبة الأناجيل على لسان المسيح حيث حدد حقيقة الأمر بينه وبين الله تحديدًا قاطعًا لا لبس فيه ولا اجتهاد:

"لو كنتم تحبونني لكنتم تفرحون لأني قلت أمضي إلى الآب، لأن أبي أعظم مني""يوحنا 14: 28".

"أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم""يوحنا 20: 17".

"وسأله رئيس قائلًا: أيها المعلم الصالح، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ فقال له يسوع: لماذا تدعوني صالحًا؟؟ ليس أحد صالحًا إلا واحد وهو الله.

ص: 83

أنت تعرف الوصايا: لا تزن، لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزور، أكرم أباك وأمك" "لوقا 18: 18-20".

بل إن المسيح حدد وضعه بالنسبة للروح القدس فقال: "كل خطية وتجديف يغفر للناس، وأما التجديف على الروح فلن يغفر للناس. ومن قال كلمة على ابن الإنسان "المسيح" يغفر له، وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي""متى 12: 31-32".

ولقد بين المسيح: أن الله ذات، وأن المسيح ذات أخرى، فهما اثنان وليس واحدًا، ومحال أن يكون الاثنان واحدًا.

فلقد قال للفريسيين: "في ناموسكم مكتوب أن شهادة رجلين حق: أنا هو الشاهد لنفسي، ويشهد لي الآب الذي أرسلني""يوحنا 8: 17-18".

إن هذا القول واضح تمامًا لدرجة أنه لم يعد يقبل أي تعليق.

كذلك بين المسيح أن لله مشيئة، وللمسيح مشيئة أخرى، وهو -ككل عبيد الله الصالحين يجاهد دائما لتتطابق مشيئته مع مشيئة الله. وتلك مرتبة الرضا الكامل بقضاء الله والتي لا ينالها إلا العباد المخلصون.

فحين أحس المسيح بالخطر يتهدد "كان يصلي لكي تعبر عنه الساعة إن أمكن.

وقال: يا أبا الآب. كل شيء مستطاع لك، فأجز عني هذه الكأس. ولكن ليكن لا ما أريد أنا، بل ما تريد أنت" "مرقس 14: 35-36".

وفي حديث مع اليهود كان قوله لهم: "كما أسمع أدين ودينونتي عادلة لأني لا أطلب مشيئتني، بل مشيئة الآب الذي أرسلني""يوحنا 5: 30".

ولقد كان المسيح خاشعًا لله، يصلي له في كل حين ويفضل أن تكون صلاته على انفراد. ويتوجه إليه بالدعاء عند الحاجة وبالشكر في كل حين وخاصة

ص: 84

حين يستجاب له: "وفي الصبح باكرا جدًا قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء، وكان يصلي هناك، فتبعه سمعان والذين معه، ولما وجدوه قالوا له: إن الجميع يطلبونك""مرقس 1: 35-36".

"وللوقت ألزم يسوع تلاميذه أن يدخلوا السفينة ويسبقوه إلى العبر حتى يصرف الجموع. وبعد ما صرف الجموع صعد إلى الجبل منفردًا ليصلي ولما صار المساء كان هناك وحده""متى 14: 22-23".

"في تلك الأيام خرج إلى الجبل ليصلي. وقضى الليل كله في الصلاة لله""لوقا 6: 12".

"في تلك الساعة تهلل يسوع بالروح وقال: "أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض" "لوقا 10: 21".

"ورفع يسوع عينيه إلى فوق وقال: أيها الآب، أشكرك لأنك قد سمعت لي""يوحنا 11: 41".

معجزات المسيح:

ينتهي إنجيل يوحنا هكذا: "وأشياء أخر صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسوغ الكتب المكتوبة""21: 25".

من الواضح أن هذا القول قائم على الظن، ومن أمهات الحقائق، {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًاْ} ومع ذلك فلنفرض أن المسيح قضى فترة رسالته -التي لم تزد عن ثلاث سنوات- وهو يصنع آيات ومعجزات، فمن المؤكد أنها لو كتبت جميعها فإن العالم يسعها وزيادة، على أن ما يعنينا في هذا المقام هو تركيز إنجيل يوحنا على معجزات المسيح باعتبارها الأساس الذي يقوم عليه القول بأن "المسيح ابن الله" كما يتضح من نهاية الإصحاح قبل الأخير الذي يقول:

ص: 85

"وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب. وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه""يوحنا 20: 30-31".

لقد سبق أن بينا أن "ابن الله" لا يعني -حسب تفسير يوحنا نفسه- أكثر من "المؤمنين باسمه" وأحبائه ومتقيه الذين يسمع لهم -سبحانه- ويظلهم برحمته -ومع ذلك فلننظر في معجزات المسيح وآياته التي تكلمت عنها الأناجيل.

لقد سبق أن بينا كيف عجز المسيح في بعض مواقف التحدي عن صنع آية تلجم خصومه ومعارضيه "فلم يقدر أن يصنع هناك ولا قوة واحدة" ولقد قالها المسيح صراحة: "أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئًا" فهو قد رد الفضل كله لله وبرأ نفسه أن يكون له في ذلك فضل. وفي هذا يقول الإنجيل:

"أجاب يسوع وقال لهم: الحق الحق أقول لكم: لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئًا إلا ما ينظر الآب يعمل.. لأن الآب يحب الابن ويريه جميع ما هو يعمله""يوحنا 5: 19-20".

ولقد كان المسيح يفعل آيات كلها باسم الله الذي أرسله. فقد قال لليهود: "الأعمال التي أنا أعملها باسم أبي هي تشهد لي""يوحنا 10: 24-25".

ومن المؤكد أنه مهما جرت من آيات وعجائب على أيدي المؤمنين فإنها ليست مبررًا لأي خلط بينهم وبين الله على أية صورة من الصور، فالإنجيل يذكر قولًا للمسيح في هذا الصدد يهدم نظرية اتخاذ المعجزات برهانًا على صدق النظريات الفلسفية التي شاعت في العالم القديم عن حلول الإله في الإنسان أو حدوث اتحاد بينهما. فهو يقول على لسان المسيح:

"الحق الحق أقول لكم: من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضًا ويعمل أعظم منها""يوحنا 14: 12".

فالحديث عن الروابط بين الله والمسيح، أو بين المسيح والمؤمنين، أو بين الله

ص: 86

والمؤمنين لا يسمح بالحديث عن "روابط بين جواهر" أو "اتصال ذات بذات" أو "انبثاق ذات من ذت" وإنما غاية القول فيه أن يكون حديثًا عن صلات روحية ومعنوية.

يقول الإنجيل على لسان المسيح: "الذي يقبل من أرسله يقبلني. والذي يقبلني يقبل الذي أرسلني""يوحنا 13: 20".

"الذي يؤمن بي ليس يؤمن بي، بل بالذي أرسلني""يوحنا 12: 44".

"كما أحبني الآب كذلك أحببتكم أنا. اثبتوا في محبتي. إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي. كما أني أنا قد حفظت وصايا أبي وأثبت في محبته""يوحنا 15: 9-10".

"أنا قد أعطيتهم كلامك والعالم أبغضهم لأنهم ليسوا من العالم كما أني لست من العالم.. ليكون الجميع واحدًا، كما أنك أنت أيها الآب في، وأنا فيك، ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا""يوحنا 17: 14-21".

هذا

ولقد كانت أول معجزة صنعها المسيح -حسب رواية إنجيل يوحنا- هي تحويله الماء خمرًا، بناء على إيحاء من أمه. وكان ذلك في عرس حضراه مع تلاميذه.

"في اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك. ودعي أيضًا يسوع وتلاميذه إلى العرس. ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع: ليس لهم خمر. قال لها يسوع: ما لي ولك يا امرأة، ولم تأت ساعتي بعد. قالت أمه للخدم: مهما قال لكم فافعلوه، وكانت ستة أجران من حجارة موضوعة هناك

قال لهم يسوع: املئوا الأجران ماء، فملئوها إلى فوق، ثم قال لهم: استقوا الآن وقدموا إلى رئيس المتكأ، فقدموا فلما ذاق رئيس المتكأ الماء المتحول خمرًا ولم يكن يعلم من أين هي.. دعا رئيس المتكأ العريس وقال له: كل إنسان إنما يضع الخمر الجيدة أولًا، ومتى سكروا فحيئنذ الدون. أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن.

ص: 87

"هذه بداية الآيات فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده فآمن به تلاميذه""يوحنا 2: 1-11".

وتذكر الأناجيل أن المسيح صنع آيات ومعجزات يجملها إنجيل متى في معرض الحديث عن رسالته بقوله: "وكان يسوع يطوف المدن كلها والقرى يعلم في مجامعها. ويكرز ببشارة الملكوت. ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب""متى 9: 35".

على أن نوعين من الآيات جديران بالعرض المفصل لما لها من أهمية وإثارة وهما: إحياء الموتى، والتنبؤ بأحداث المستقبل.

إحياء الموتى:

تذكر الأناجيل الأربعة أن المسيح مارس عملية إقامة الراقدين رقاد الموت ثلاث مرات، الأولى ذكرها مرقس ومتى، والثانية انفرد بذكرها لوقا، كما انفرد يوحنا بذكر الثالثة. ونبدأ بالحالة الأولى فنعلم أنها ابنة رئيس المجمع وكانت مريضة على وشك أن تموت، وبينما ذهب أبوها يرجو المسيح أن يأتي لزيارتها لعلها تشفى جاء من يخبره بموتها لكن المسيح يذهب إليها ويأخذ بيدها فتقوم من رقادها. ونعرض القصة حسب رواية مرقس فنقول:

"كان "المسيح" عند البحر، وإذا واحد من رؤساء المجمع اسمه بايرس جاء

وطلب إليه كثيرًا قائلًا: ابنتي الصغيرة على آخر نسمة. ليتك تأتي وتضع يدك عليها لتشفى فتحيا. فمضى معه وتبعه جمع كثير، وكانوا يزحمونه.

وبينما هو يتكلم جاءوا من دار رئيس المجمع قائلين: ابنتك ماتت. لماذا تتعب المعلم بعد؟ فسمع يسوع لوقته الكلمة التي قيلت فقال لرئيس المجمع: لا تخف، آمن فقط. ولم يدع أحدًا يتبعه إلا بطرس ويعقوب ويوحنا أخا يعقوب.

ص: 88

فجاء إلى بيت رئيس المجمع.. ورأى ضجيجًا يبكون ويولولون كثيرًا، فدخل وقال لهم: لماذا تضجون وتبكون؟ لم تمت الصبية لكنها نائمة.

فضحكوا عليه، أما هو فأخرج الجميع، وأخذ أبا الصبية وأمها والذين معه ودخل حيث كانت الصبية مضطجعة. وأمسك بيد الصبية وقال لها: طليثا قومي، الذي تفسيره: يا صبية لك أقول قومي، وللوقت قامت الصبية ومشت لأنها كانت ابنة اثنتي عشرة سنة. فبهتوا بهتًا عظيمًا، فأوصاهم كثيرًا أن لا يعلم أحد بذلك وقال: أن تعطى لتأكل" "مرقس 5: 21-43".

لقد أكد مرقس على لسان المسيح قوله: "لم تمت الصبية، لكنها نائمة" وكذلك أكد متى نفس الحالة إذ قال على لسان المسيح: "إن الصبية لم تمت، لكنها نائمة""متى 9: 24".

فهل يستطيع أحد يؤمن بالمسيح والإنجيل، أن يصر على اعتبار هذه الفتاة ميتة أحياها المسيح؟!

إن أقصى ما يمكن قوله في هذه لحالة أن تلك الفتاة كانت في حالة إغماء، أو فقدان وعي، أو على وشك الموت. ثم شفاها المسيح.

وأما الحالة الثانية التي ذكرها لوقا فقد ذكرناها عند الكلام عن "عقيدة الذين شاهدوا المسيح ومعجزاته وآمنوا به". وكانت لابن وحيد لأمه الأرملة وقد حمله المشيعون في النعش، فتقدم المسيح "ولمس النعش فوقف الحاملون. فقال: أيها الشاب، لك أقول قم. فجلس الميت وابتدأ يتكلم فدفعه إلى أمه" "لوقا 7: 14-15".

وأخيرًا.. كانت الحالة الثالثة التي انفرد بذكرها يوحنا لميت توفي حديثًا إثر مرض. يقول يوحنا: "كان إنسان مريضًا وهو لعازر من بيت عنيبا من قرية مريم ومرثا أختها، فأرسلت الأختان إليه قائلتين: يا سيد، هو ذا الذي تحبه مريض.

ص: 89

فلما سمع يسوع قال: هذا المرض ليس للموت، بل لأجل مجد الله.

ثم بعد ذلك قال لتلاميذه: لعازر مات، وأنا أفرح لأجلكم أني لم أكن هناك لتؤمنوا، ولكن لنذهب إليه. فلما أتى يسوع وجد أنه قد صار له أربعة أيام في القبر

فقالت مرثا ليسوع:

يا سيد، لو كنت ها هنا لم يمت أخي، لكني الآن أيضًا أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيك الله إياه..

قال لها يسوع: سيقوم أخوك

وجاء إلى القبر وكانت مغارة وقد وضع عليه حجر. قال يسوع: ارفعوا الحجر.. فرفعوا الحجر حيث كان الميت موضوعًا ورفع يسوع عينيه إلى فوق وقال: أيها الآب، أشكرك لأنك سمعت لي، وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي، ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت، ليؤمنوا أنك أرسلتني.

ولما قال هذا صرخ بصوت عظيم: لعازر هلم خارجًا، فخرج الميت ويداه ورجلاه مربوطات بأقمطة. فقال لهم يسوع: حلوه ودعوه يذهب" "يوحنا 11: 1-44".

وبهذا تكتمل قصة الراقدين الذين أقامهم المسيح بعد مرات، حسبما روتها الأناجيل.

التنبؤ بأحداث المستقبل:

تذكر الأناجيل أن المسيح تنبأ لتلاميذه، بانقضاء الدهر وانهدام النظام الكوني بأكمله، ثم عودته بعد ذلك ليدين الناس، وأن كل تلك الأحداث الجسام سوف تحدث في الجيل الذي عاش فيه تلاميذه، يقول إنجيل متى: "فيما هو جالس على جبل الزيتون تقدم إليه التلاميذ على انفراد قائلين: قل لنا متى يكون هذا وما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر؟

ص: 90

فأجاب يسوع وقال لهم: انظروا لا يضلكم أحد، فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين أنا هو المسيح ويضلون كثيرين.

وللوقت بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس، والقمر لا يعطى ضوءه والنجوم تسقط من السماء، وقوات السماء تتزعزع، وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض، ويبصرون ابن الإنسان آتيًا على سحاب السماء بقوة ومجد كثير. متى رأيتم هذا كله فاعلموا أنه قريب على الأبواب.

الحق أقول لكم: لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله" "متى 24: 3-34".

وبالمثل قال إنجيل مرقس: "الحق أقول لكم: لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله""مرقس 13: 32".

وكذلك قال إنجيل لوقا: "الحق أقول لكم: إنه لا يمضي هذا الجيل حتى يكون الكل""لوقا 21: 32".

إن تنبؤ المسيح بانقضاء العالم وعودته ثانية إلى الأرض لم يذكر فقط في تلك المناسبة التي اختارها التلاميذ لسؤاله، إنما تكرر ذلك في مواضع كثيرة من الأناجيل، مما يبين أنها كانت عقيدة سادت بين المسيحيين الأوائل الذين عاصروا المسيح ومن بينهم واحد من كتبة الأناجيل هو متى.

إن الحديث عن التنبؤ بانقضاء العالم في الجيل الذي عاصر المسيح لم يعد في حاجة إلى تعليق بعد أن ظل العالم قائمًا بعد جيل المسيح إلى اليوم بما يقرب من خمسين جيلًا.

معجزات المسيح بين معجزات سابقيه:

تحدثت الأناجيل عن معجزات كثيرة للمسيح شملت مجالات أربع هي: شفاء المرضى والعاجزين، ومباركة الطعام، وإحياء الموتى، والتنبؤ بأحداث المستقبل. وقد استعرضنا بالتفصيل ما قيل في معجزات المجالين الأخيرين باعتبارهما أكثر أهمية وإثارة.

ص: 91

ونريد الآن أن نستعرض معجزات المسيح مع معجزات عدد محدود من الأنبياء الذين سبقوه لننظر أوجه الائتلاف والاختلاف، ثم نقرر بعد ذلك الوضع الصحيح لمعجزات المسيح بين معجزات سابقيه.

فإذا بدأنا بمجال إحياء الموتى لوجدنا أن إلياس -كما سبق بيانه- قد سبق المسيح في هذا المجال وأحيا ابن الأرملة "الملوك الأول: 17" وكذلك فعل تلميذه وخليفته إليشع نفس الشيء بابن المرأة الشونمية. فقد "دخل إليشع البيت وإذا بالصبي ميت ومضطجع على سريره. فدخل وأغلق الباب على نفسيهما كليهما وصلى إلى الرب. ثم صعد واضطجع فوق الصبي ووضع فمه على فمه وعينيه على عينيه ويديه على يديه وتمدد عليه فسخن جسد الولد. ثم عاد وتمشى في البيت تارة إلى هنا وتارة إلى هناك وصعد وتمدد عليه فعطس الصبي سبع مرات ثم فتح الصبي عينيه.

فدعا "حيجزى "غلامه" وقال: ادع هذه الشمونمية، فدعاها، ولما دخلت إليه قال: احملي ابنك، فأتت وسقطت على رجليه وسجدت إلى الأرض ثم حملت ابنها وخرجت""الملوك الثاني 4: 32-37".

بل إن إليشع هذا مارس عملية إحياء الموتى بعد وفاته. فقد حدث عندما كان قومه يدفنون أحد موتاهم على عجل خوفًا من الغزاة أن أسقطوا ذلك الميت في قبر إليشع، فلمس جسده عظام إليشع. وفي الحال عادت له الروح وقام الرجل الميت يسعى على رجليه:

"مات إليشع فدفنوه، وكان غزاة موآب تدخل على الأرض عند دخول السنة. وفيما كانوا يدفنون رجلًا إذا بهم قد رأوا الغزاة فطرحوا الرجل في قبر إليشع. فلما نزل الرجل ومس عظام إليشع، عاش وقام على رجليه". "الملوك الثاني 13: 20-21".

بل إن حزقيال لم يحي عددًا محدودًا من الموتى حديثي الوفاة فقط، إنما

ص: 92

أحيا جيشًا عظيمًا من الموتى بعد أن طال عليهم الأمد وتحللت رفاتهم ونخرت عظامهم:

"كانت على يد الرب فأخرجني بروح الرب وأنزلني في وسط البقعة وهي ملآنة عظامًا وأمرني عليها من حولها وإذا هي كثيرة جدًا على وجه البقعة وإذا هي يابسة جدًا. فقال لي: يا بن آدم.. أتحيا هذه العظام؟ فقلت: يا سيد الرب، أنت تعلم، فقال لي: تنبأ على هذه العظام وقل لها: أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب. هكذا قال السيد الرب لهذه العظام: هأنذا أدخل فيكم روحًا فتحيون وأضع عليكم عصبًا وأكسيكم لحمًا وأبسط عليكم جلدًا وأجعل فيكم روحًا فتحيون وتعلمون أني أنا الرب.

فتنبأت كما أمرت وبينما أنا أتنبأ كان صوت وإذا رعش فتقاربت العظام كل عظم إلى عظمه ونظرت وإذا بالعصب واللحم كساها وبسط الجلد عليها من فوق وليس فيها روح.

فقال لي: تنبأ للروح، تنبأ يا بن آدم وقل للروح هكذا قال السيد الرب: هلم يا روح من الرياح الأربع وهب على هؤلاء القتلى ليحيوا.

فتنبأت كما أمرني فدخل فيهم الروح فحيوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جدًا جدًا" "حزقيال 37:" 1-10".

وفي مجال التنبؤ بأحداث المستقبل نجد إلياس قد تنبأ بحدث الجفاف والقحط وذلك في موقف التحدي لآخاب الملك الشرير حيث قال له: "حي هو الرب إله إسرائيل الذي وقفت أمامه: أنه لا يكون طل ولا مطر في هذه السنين إلا عند قولي".

وقد حدث الجفاف كما تنبأ إيليا "فلم يكن مطر في الأرض".

وبعد انقضاء سنوات الجفاف "كان كلام الرب إلى إيليا في السنة الثالثة

ص: 93

قائلًا: اذهب وتراء لآخاب فأعطي مطرًا على وجه الأرض. فذهب إيليا ليتراءى لآخاب.

وقال إيليا لآخاب: اصعد كل واشرب لأنه حس دوي مطر.. وكان من هنا إلى هنا أن السماء اسودت من الغيم والريح وكان مطر عظيم"

وكذلك تنبأ إليشع بالجفاف سبع سنين وتحققت نبوءته:

"كلم إليشع المرأة التي أحيا ابنها قائلًا: قومي انطلقي أنت وبيتك وتغربي حيثما تتغربي لأن الرب قد دعا بجوع فيأتي أيضًا على الأرض سبع سنين.

فقامت المرأة وفعلت حسب كلام رجل الله وانطلقت هي وبيتها وتغربت في أرض فلسطين سبع سنين وفي نهاية السبع سنين رجعت المرأة من أرض الفلسطينيين" "الملوك الثاني 8: 1-3".

وكما سبق أن نبأت الملائكة إبراهيم بمولد ابن له من زوجته سارة العاقر، على لسان الرب قائلة:

"إني أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة امرأتك ابن""تكوين 18: 10".

"وفعل الرب لسارة كما تكلم، فحبلت وولدت لإبراهيم ابنًا. إسحاق""تكوين 21-3".

كذلك فعل إليشع تلميذ إلياس مع المرأة الشونمية التي "لم يكن لها ابن ورجلها قد شاخ.. فقال "إليشع": في هذا الميعاد نحو زمان الحياة تحتضنين ابنًا.. فحملت المرأة وولدت ابنًا في ذلك الميعاد نحو زمان الحياة كما قال لها إليشع، وكبر الولد""الملوك الثاني 4: 14-18".

وفي مجال شفاء المرضى والعاجزين نجد موسى قد فعل أكثر من هذا إذ أوقف سريان وباء مميت اجتاح بني إسرائيل عقابًا لهم على تذمرهم على موسى

ص: 94

وهارون فقال موسى لهارون: "خذ المجمرة.. وضع بخورًا واذهب بها مسرعًا إلى الجماعة وكفر عنهم لأن السخط قد خرج من قبل الرب، فأخذها هارون كما قال موسى.. فامتنع الوبأ.

فكان الذين ماتوا بالوبأ أربعة عشر ألفًا وسبعمائة" "عدد 16: 46-49".

كذلك أوقف موسى عملية إبادة جماعية لبني إسرائيل حين سلط الله عليهم الحيات لتهلكهم عقابًا لهم على تذمرهم فقد "أرسل الرب على الشعب الحيات المحرقة فلدغت الشعب فمات قوم كثيرون من إسرائيل فأتى الشعب إلى موسى وقالوا: قد أخطأنا، تكلمنا على الرب وعليك، فصل إلى الرب ليرفع عنا الحيات

فصلى موسى لأجل الشعب. فقال الرب لموسى: اصنع لك حية محرقة وضعها على راية فكل من لدغ ونظر إليها يحيا. فصنع موسى حية من نحاس ووضعها على الراية، فكان متى لدغت حية إنسانًا ونظر إلى حية النحاس يحيا" "العدد 21: 6-9".

كذلك نجد إليشع قد برأ نعمان قائد جيش الأراميين عندما جاء نعمان بخيله ومركباته ووقف عند باب بيت إليشع "فأرسل إليه اليشع رسولًا يقول: اذهب واغتسل سبع مرات في الأردن فيرجع لحمك إليك.. فرجع كلحم صبي صغير وطهر""الملوك لثاني 5: 9-14".

كذلك رد إليشع البصر إلى جيش كبير من الأراميين بعد أن دعا عليهم بالعمى حتى يستطيع أسرهم وقيادتهم إلى حيث يريد. فقد أرسل ملك أرام: "خيلًا ومركبات وجيشًا ثقيلًا وجاءوا ليلًا وأحاطوا بالمدينة فبكر خادم رجل الله وقام وخرج، وإذا جيش محيط بالمدينة وخيل ومركبات. فقال غلامه له: آه يا سيدي، كيف نعمل؟ فقال: لا تخف لأن الذين معنا أكثر من الذين معهم.

ولما نزلوا إليه صلى إليشع إلى الرب وقال: اضرب هؤلاء الأمم بالعمى، فضربهم بالعمى كقول إليشع، فقال لهم إليشع: اتبعوني

ص: 95

فأسير بكم إلى الرجل الذي تفتشون عليه، فسار بهم إلى السامرة، فلما دخلوا السامرة قال إليشع: يا رب، افتح أعين هؤلاء فيبصروا. ففتح الرب أعينهم فأبصروا وإذا هم في وسط السامرة.

فقال ملك إسرائيل لإليشع لما رآهم: هل أضرب؟؟ فقال: لا تضرب

ضع خبزًا وماء أمامهم فيأكلوا ويشربوا ثم ينطلقو إلى سيدهم، فأكلوا وشربوا ثم أطلقهم.

ولم تعد جيوش أرام تدخل إلى أرض إسرائيل" "الملوك الثاني 6: 13-23".

وفي مجال مباركة الطعام وتكثيره، سوف لا نتكلم عن الأعاجيب الكبيرة والكثيرة التي جرت على يد موسى في هذا المجال. ولكنا نذكر إلياس وكيف كانت تعوله الغربان وتأتي إليه بالخبز واللحم صباح مساء، وكيف استمر يقتات هو ومن في بيت المرأة التي كان نازلًا عندها من كنار دقيق وكوز زيت طيلة سنوات القحط "الملوك الأول: 17".

كذلك بارك إليشع دهنة زيت في بيت امرأة فقيرة "فقال: اذهبي استعيري لنفسك أوعية من خارج من عند جميع جيرانك أوعية فارغة لا تقللي ثم ادخلي وأغلقي الباب على نفسك وعلى بيتك وصبي في جميع هذه الأوعية وما امتلأ انقليه.

فذهبت من عنده وأغلت الباب على نفسها وعلى بنيها وكانوا هم يقدمون لها الأوعية وهي تصب، ولما امتلأت الأوعية قالت لابنها: قدم لي أيضًا وعاء، فقال لها: لا يوجد بعد وعاء، فوقف الزيت فأتت وأخبرت رجل الله "إليشع" فقال: اذهبي بيعي الزيت وأوفي دينك وعيشى أنت بما بقي" "الملوك الثاني 4: 3-7".

وأيضًا "جاء رجل.. وأحضر لرجل الله خبز باكورة عشرين رغيفًا.. فقال: "إليشع": أعط الشعب ليأكلوا. فقال خادمه: ماذا؟ هل أجعل هذا أمام

ص: 96

مائة رجل. فقال: أعط الشعب فيأكلوا لأنه هكذا قال الرب: يأكلون ويفضل عنهم، فجعل أمامهم فأكلوا وفضل عنهم" "الملوك الثاني 4: 42-43".

هذا

وإذا ما تركنا تلك المجالات الأربع التي تحدثنا فيها عن معجزات المسيح بين معجزات سابقيه، لوجدنا سبقًا كذلك في المجالات الأخرى لمن كان قبله من الأنبياء.

فقد حدث للمسيح مع تلاميذه أنهم "لما خرجوا من بيت عنيا، جاع، فنظر شجرة تين من بعيد عليها ورق وجاء لعله يجد فيها شيئًا، فلما جاء إليها لم يجد شيئًا إلا ورقًا لأنه لم يكن وقت التين، فأجاب يسوع وقال لها: لا يأكل أحد منك ثمرًا بعد إلى الأبد. وكان تلاميذه يسمعون.

وجاءوا إلى أورشليم.. ولما صار المساء خرج إلى خارج المدينة، وفي الصباح إذ كانوا مجتازين رأوا التينة قد يبست من الأصول، فتذكر بطرس وقال له: يا سيدي، انظر التينة التي لعنتها قد يبست" "مرقس 11: 12-21".

وهنا نذكر ماكان من أمر إليشع "وفيما هو صاعد في الطريق إذا بصبيان صغار خرجوا من المدينة وسخرو منه وقالوا له: اصعد يا أقرع.. اصعد يا أقرع.

فخرجت دبتان من الوعر وافترستا منهم اثنين وأربعين ولدًا" "الملوك الثاني 2: 23-24".

وعندما كذب خادم إليشع عليه وأخذ من الهدية التي كان نعمان يريد تقديمها إليه اعترافًا بفضله في شفائه والتي رفضها إليشع من قبل، دعا عليه قائلًا:"برص نعمان يلتصق بك وبنسلك إلى الأبد، فخرج من أمامه أبرص كالثلج""الملوك الثاني 5: 27".

ص: 97

وأخيرًا -وليس آخرًا- نأتي إلى مجال الرفع إلى السماء، فنجد الأنبياء السابقين، قد سبقوا أيضًا في هذا المجال.

فهذا أخنوخ "إدريس" قد رفع إلى السماء فقد "سار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه""تكوين 5: 25".

كذلك انتهت حياة إلياس بالرفع إلى السماء أمام أعين الناس، "وفيما هما يسيران ويتكلمان إذا مركبة من نار وخيل من نار ففصلت بينهما، فصعد إيليا في العاصفة إلى السماء".

والآن نصل إلى الحقيقة التي ترى واضحة كل الوضوح يراها كل المبصرين فيقولون صدقًا: إن أقصى ما يقال في معجزات المسيح هو ما قاله بطرس رئيس تلاميذه وأعلنه على رءوس الأشهاد: "أيها الإسرائيليون اسمعوا هذه الأقوال:

يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم كما أنتم تعلمون" "أعمال الرسل 2: 22".

"فتح بطرس فاه وقال.. أنتم تعلمون الأمر الذي صار في كل اليهودية. يسوع الذي من الناصرة وكيف مسحه الله بالروح القدس والقوة الذي جال يصنع خيرًا ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس لأن الله كان معه""أعمال الرسل 1: 34-38".

فهي معجزات وآيات الفضل الأول والأخير فيها لله الذي أكرمه بها كما أكرم الأنبياء، قبله ومن لطف الله بخلقه أن جعل معجزات المسيح تكرارًا لبعض معجزات سابقيه. ويلاحظ أنها جميعًا معجزات أرضية خلافًا لما فعله موسى من الكثير من المعجزات الأرضية منها والسماوية على السواء. لقد شاهد بنو إسرائيل المعجزات تنزل عليهم من السماء أثناء خروجهم من مصر، إذ "انتقل ملاك الله السائر أمام عسكر إسرائيل وسار وراءهم وانتقل عمود السحاب من أمامهم ووقف وراءهم فدخل بين عسكر المصريين وعسكر اسرائيل وصار السحاب والظلام وأضاء الليل فلم يقترب هذا إلى ذاك كل الليل.

ص: 98

ومد موسى يده على البحر فأجرى الرب البحر بريح شرقية شديدة كل الليل وجعل البحر يابسة وانشق الماء" "خروج 14: 19-21".

وفي سيناء شاهد بنو إسرائيل الخبز ينزل عليهم من السماء "فكان في المساء أن السلوى صعدت وغطت المحلة، وفي الصباح كان سقيط الندى حوالي المحلة.

ولما ارتفع سقيط الندى إذا على وجه البرية شيء دقيق مثل قشور، دقيق كالجليد على الأرض فلما رأى بنو إسرئيل قالوا بعضهم لبعض: من هو؟ لأنهم لم يعرفوا ما هو. فقال لهم موسى: هو الخبز الذي أعطاكم الرب لتأكلوا التقطوا منه كل واحد حسب أكله" "خروج 16: 13-16".

ولذلك كان بنو إسرائيل على عهد المسيح فخورين بمعجزات موسى، يرونها أكبر وأعظم من تلك التي يجريها المسيح، وكان قولهم له:"أية آية تصنع لنرى ونؤمن بك؟ ماذا تعمل؟ آباؤنا أكلوا المن في البرية كما هو مكتوب أنه أعطاهم خبزًا من السماء ليأكلوا""يوحنا 6: 30-31".

"وجاء إليه الفريسيون والصدوقيون ليجربوه فسألوه أن يريهم آية من السماء""متى 15: 1".

الحق إن معجزات المسيح ليس فيها جديد، وإذا ما استعرنا لغة سفر "الجامعة" نقول: ليس تحت الشمس جديد.

المسيح ومعجزاته:

هناك ظاهرة تغلب في الأناجيل حين تتحدث عن معجزات المسيح فنجدها تبين على لسانه حرصه الدائم على كتمان ما أجراه الله على يديه من آيات، وما ذلك إلا حرصًا منه على عدم فتنة القوم فيه. لقد كان المسيح يعلم تمامًا مقدار التخلف الفكري والعقائدي في زمانه وكيف كان الناس يخترعون آلهة ينسجون حولها أساطير وينسبون لها أفعالًا يخلطونها بأفعال البشر، فيقولون: هذا إله نزل من السماء، وذلك ابن إله صعد إلى السماء.

ويرينا سفر "أعمال الرسل" كيف كانت الألوهية تخلع على البشر بكل بساطة في ذلك الزمان وبين تلك الأمم التي بدأت فيها الدعوة للمسيحية. فقد "كان يجلس في لسترة رجل عاجز. هذا كان يسمع بولس يتكلم فشخص إليه

ص: 99

وإذ رأى أن له إيمانًا ليشفى قال بصوت عظيم: قم على رجلك منتصبًا، فوثب وصار يمشي.

فالجموع لما رأوا ما فعل بولس رفعوا صوتهم بلغة ليكاونية قائلين: إن الآلهة تشبهوا بالناس ونزلوا إلينا. فكانوا يدعون برنابا "زفس" وبولس "هرمس".. فأتى كاهن زفس الذي كان قدام المدينة بثيران وأكاليل عند الأبواب مع الجموع وكان يريد أن يذبح.

فلما سمع الرسولان برنابا وبولس مزقا ثيابهما. واندفعا إلى الجمع صارخين وقائلين:

أيها الرجال، لماذا تفعلون هذا؟ نحن أيضًا بشر تحت آلام مثلكم نبشركم أن ترجعوا من هذه الأباطيل إلى الإله الحي الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها" "أعمال الرسل 14: 8-15".

"ولما نجوا وجدوا أن الجزيرة تدعى مليطة فقدم أهلها البرابرة إحسانا غير المعتاد لأنهم أوقدوا نارًا وقبلوا جميعنا من أجل المطر الذي أصابنا ومن أجل البرد.

فجمع بولس كثيرًا من القضبان ووضعها على النار فخرجت من الحرارة أفعى ونشبت في يده.. فنفض هو الوحش إلى النار ولم يتضرر بشيء رديء، وأما هم فكانوا ينتظرون أنه عتيد أن ينتفخ أو يسقط بغتة ميتًا.

فإذا انتظروا كثيرً ورأوا أنه لم يعرض له شيء مضر، تغيروا وقالوا: هو إله" "أعمال الرسل 28: 1-6".

"وفي يوم معين لبس هيرودس الحلة الملوكية وجلس على كرسي الملك وجعل يخاطبهم، فصرخ الشعب: هذا صوت إله لا صوت إنس""أعمال الرسل 12: 21-22".

من أجل ذلك حرص المسيح على كتمان معجزاته التي ارتبط حدوثها دائما بإيمان الذين طلبوها فصنعت من أجلهم. هكذا قال المسيح وعلم بأن إيمان الإنسان هو الذي صنع المعجزة وهو إيمان مشترك بين الفاعل وذلك الذي صنعت من أجله، وحين يفقد ذلك الإيمان يحدث دائمًا العجز والإخفاق.

ص: 100

فلقد حدث أن جاء المسيح وتلاميذه إلى المجمع "فتقدم إليه رجل جاثيًا وقائلًا: يا سيد، ارحم ابني فإنه يصرع ويتألم شديدًا.. وأحضرته إلى تلاميذك فلم يقدروا أن يشفوه. فأجاب يسوع وقال: أيها الجيل غير المؤمن الملتوي، إلي متى أكون معكم؟ إلى متى أحتملكم؟

قدموه إلى ها هنا. فانتهره يسوع فخرج منه الشيطان فشفي الغلام من تلك الساعة.

ثم تقدم التلاميذ إلى يسوع على انفراد وقالوا: لماذا لم نقدر نحن أن نخرجه؟ فقال لهم يسوع: لعدم إيمانكم، فالحق أقول لكم: لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل ولا يكون شيء غير ممكن لديكم" "متى 17: 14-20".

فلنبحث دائمًا في معجزات المسيح عن شيئين هما: الإيمان والكتمان، ولسوف نجدهما دائما متلازمين. فهكذا تقول الشواهد التي نذكر منها:

إحياء بنت رئيس المجمع: فبعد أن "قامت الصبية ومشت.. أوصاهم كثيرًا أن لا يعلم أحد بذلك""مرقس 5: 35-43، لوقا 8: 49-46".

تطهير الأبرص: "أتى إليه أبرص. قائلًا له: إن أردت تقدر أن تطهرني، فتحنن يسوع ومد يده ولمسه وقال له: أريد فاطهر. فللوقت وهو يتكلم ذهب عنه البرص".

بعد ذلك "انتهوا للوقت وقال: انظر لا تقل لأحد شيئًا""مرقس 1: 49-44، متى 8: 1-4، لوقا 5: 12-14".

شفاء الأعمى: تبعه أعميان يصرخان ويقولان: ارحمنا يا بن داود

فقال لهما يسوع: أتؤمنان أني أقدر أن أفعل هذا؟ قالا له: نعم يا سيد.

حينئذ لمس أعينهما قائلًا: بحسب إيمانكما ليكن لكما. فانفتحت أعينهما".

ص: 101

بعد ذلك "انتهرهما يسوع قائلًا: انظرا لا يعلم أحد. ولكنهما خرجا وأشاعاه في تلك الأرض كلها""متى 9: 27-31، مرقس 8: 22-26".

إخراج الشياطين: "قدموا إليه جميع السقماء والمجانين، فشفى كثيرين كانوا مرضى.. وأخرج شياطين".

بعد ذلك"لم يدع الشياطين يتكلمون لأنهم عرفوه""مرقس 1: 32-34، لوقا 4: 40-41".

ويلاحظ أننا لم نقتبس شواهد من إنجيل يوحنا وما ذلك إلا لأن كاتب هذا الإنجيل قد ركز -كما بينا- على إظهار معجزات المسيح باعتبارها الوسيلة الرئيسية للإيمان ومن ثم فهو يدعو إلى إذاعتها ونشرها بشتى السبل، ولهذا اختفت منه أقوال المسيح التي تطلب كتمان معجزاته. على أن شيئًا واحدًا بقى في هذا الإنجيل وهو شطر الإيمان الذي لم يستطع إغفاله فسار فيه على شاكلة الأناجيل الثلاثة الأخرى التي أظهرته تمامًا.

فنجد الإيمان ملازمًا لحدوث الآية الكبيرة في إنجيل يوحنا ألا وهي إحياء لعازر. فلقد قالت أخته:مرثا" ليسوع: "يا سيد، لو كنت ها هنا لم يمت أخي. لكني الآن أيضًا أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيك الله، فقال لها يسوع: سيقوم أخوك.

ودعت "مرثا" مريم أختها سرًا قائلة: المعلم قد حضر وهو يدعوك.

فمريم لما أتت إلى حيث كان يسوع ورأته خرت عند رجليه قائلة له: يا سيد لو كنت ها هنا لم يمت أخي".

لقد آمنت الأختان بالمسيح ولقد قالها المسيح لمرثا "ألم أقل لك إن آمنت ترين مجد الله" ثم "رفع يسوع عينيه إلى فوق وقال: أيها الآب، أشكرك لأنك سمعت لي" بعد ذلك "خرج الميت""يوحنا 11: 21-44".

وأما عن شطر الإيمان في الأناجيل الثلاثة الأخرى فحدث ولا حرج.

ص: 102

فهذا قائد المائة قال للمسيح: "يا سيد، لست مستحقًا أن تدخل تحت سقفي لكن قل كلمة فقط فيبرأ غلامي".

"فلما سمع يسوع تعجب وقال للذين يتبعون: الحق أقول لكم، لم أجد ولا في إسرائيل إيمانًا بمقدار هذا".

"ثم قال يسوع لقائد المائة: اذهب وكما آمنت ليكن لك. فبرأ غلامه في تلك الساعة""متى 8: 8-13، لوقا 7: 6-10".

وتلك "امرأة نازفة دم منذ اثنتى عشرة سنة قد جاءت من ورائه ومست هدب ثوبه لأنها قالت في نفسها: إن مسست ثوبه فقط شفيت".

"فالتفت يسوع وأبصرها فقال: "ثقي يا ابنة، إيمانك قد شفاك فشفيت المرأة من تلك الساعة".

"متى 9: 20-22، لوقا 8: 43-48، مرقس 5: 25-34".

وتلك المرأة الكنعانية التي "صرخت إليه قائلة: ارحمني يا سيد يا بن داود.

ابنتي مجنونة جدًا.. حينئذ أجاب يسوع وقال لها: يا امرأة، عظيم إيمانك، ليكن لك كما تريدين، فشفيت ابنتها من تلك الساعة" "متى 15: 22-28، ومرقس 7: 26-30".

وفي جميع الأحوال التي صنع فيها المسيح معجزاته كانت تصاحبها دائمًا صلاته إلى الله ودعائه بالتوفيق والإكرام ثم الشكر على نعماء الله.

رأينا ذلك عند إحياء لعازر، إذ "رفع يسوع عينيه إلى فوق وقال: أيها الآب، أشكرك لأنك سمعت لي".

ونراها في مواقف كثيرة كما حدث عند شفاء الأصم: فقد "أخذه من بين الجمع

ورفع نظره نحو السماء، وأن، وقال له: أفثا -أي انفتح- وللوقت انفتحت أذناه، فأوصاهم أن لا يقولوا لأحد" "مرقس 7: 33-36".

ص: 103

وعند مباركة الطعام، "أخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين ورفع نظره نحو السماء، وبارك، وكسر وأعطى للتلاميذ والتلاميذ للجموع. فأكل الجميع وشبعوا".

"متى 14: 19-20، لوقا 9: 16-17، يوحنا 6: 11".

وحين نجح تلاميذه في إخراج شياطين تقدم بالشكر الجزيل لله: "في تلك الساعة تهلل يسوع بالروح وقال: أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء، وأعلنتها للأطفال".

"لوقا 10: 21، متى 11: 25".

وبعد.. إذا كانت هذه هي حقيقة معجزات المسيح وموقفه منها -وقد رأيناه يحرص دائمًا على كتمانها واعتبارها فقط عاملًا يخفف من آلام المؤمنين- فكيف يمكن اتخاذها بعد ذلك برهانًا لعبادته وتأليهه؟!

المسيح في القرآن:

يتفق القرآن مع الإنجيل في أن مريم العذراء ولدت ابنها المسيح بعد أن حملت به إثر نفخة من الروح القدس. فهو يذكر ذلك في آيات فرادى وفي سور متفرقات مثل قوله:

{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] .

{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] .

{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 5] .

ص: 104

ويذكر القرآن قصة حمل مريم وولادتها في آيات كثيرة كما جاء في سورة آل عمران وسورة مريم، وفي غيرهما من السور.

فالمسيح كلمة الله الملقاة وروح منه:

{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] .

ولله كلمات كثيرة لا نهائية، ولذلك تعجز المخلوقات عن حصرها.

{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقان: 27] .

ومن كلمات الله: قضاؤه في أكوانه وأحكامه العادلة الثابتة:

{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62-64] .

ومن كلمات الله ما يلقى فيفعل فعلًا: قد ينشئ إنشاء أو يمحو كائنًا: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 4] .

{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 82-83] .

وللك كان أمر تخليق عيسى ليس أكثر عجبا من أمر تخليق آدم فكليهما تنفيذ لإرادة الله:

{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] .

ونلفت النظر إلى خطأ جسيم يقع فيه البعض حين يقولون: إن المسيح روح الله، وحقيقته أنه: روح من الله، جاء بنفخة إلهية كتلك التي حدثت لآدم، فقد

ص: 105

قال الله للملائكة إبان عملية خلق آدم: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] .

فالمسيح ليس أكثر من عبد من عبيد الله المكرمين. {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59] .

لقد جاء المسيح عيسى مثلًا ملموسًا على قدرة الله على التخليق، وذلك في زمن طغت فيه المادية على بني إسرائيل فأنكروا إعادة تخليق الإنسان وبعثه في القيامة للحساب، وتحدثنا الأناجيل عن طائفة الصدوقيين التي كانت تنكر القيامة أيام المسيح، وكان لها نفوذ وسلطان فتقول:

"وجاء إليه قوم من الصدوقيين الذين يقولون ليس قيامة وسألوه""مرقس 12: 18، متى 22: 23، لوقا 20: 27".

ومع بولس في رحلاته التبشرية "حدثت منازعة بين الفريسيين والصدوقيين وانشقت الجماعة، لأن الصدوقيين يقولون إنه ليس قيامة ولا ملاك ولا روح""أعمال الرسل 23: 7-8".

فالمسيح عبد الله أولًا وأخيرًا، {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 172-173] .

وبعد ذلك فالمسيح مقرب من الله، مفضل بين الرسل:

{إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران: 45] .

ص: 106

{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 253]

ولقد غلا كثيرون في المسيح {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة: 116] وعبدوه فها هي "الرسالة إلى العبرانيين" تقول: "الله.. كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثًا لكل شيء.. صائرًا أعظم من الملائكة

لأنه لمن من الملائكة قال قط: أنت ابني، أنا اليوم ولدتك، وأيضًا: أنا أكون له أبًا، وهو يكون لي ابنًا" "1: 1-5".

ويقول بولس: "أمين هو الله الذي به دعيتم إلى شركة ابنه يسوع المسيح ربنا"1 "كورنثوس 1: 9".

وها هو "إنجيل يوحنا" يقول في مقدمته الشاعرية: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله1، هذا كان في البدء عند الله""1: 1-2".

1 هذه الفقرة في الترجة الإنجليزية للنسخة المعتمدة من الكتاب المقدس تقرأ هكذا:

in the beginning was the word، and the word was with god، and the word was god.

ولكن ظهرت ترجمة حديثه تهذب الخلط بين الله وكلمة الله إلى حد ما وتقول:

before the world was created، the word aiready existed: he was with god، and he was the same as god

فهذه الترجمة الحديثة تقول: "وكان "الكلمة" مثل الله" بدلًا من الترجمة القديمة التي تقول: "وكان الكلمة الله"، وعندما يكون شيء مثل شيء آخر فإن هذا يعني بداهة أن هناك شيئين -عددهما 2 -لكن الشيء الثاني يماثل الشيء الأول وعلى صورته. وتقول التوراة:"خلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه""تكوين 1: 27" فهذا القول يعني حسب مفهوم كتبة التوراة أن كل البشر قد خلقوا على صورة الله تمامًا مثل الكلمة.

هذا.. وقد صدرت هذه الترجمة عن: جمعية التوراة الأمريكية -بنيويورك- عام 1971.

ص: 107

ولقد جاء القرآن يبين الحق في المسيح بأقوال محكمات، تقطع كل شك فيه بيقين لا يعرف سوى الثبات -فهو يقول:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 72-77] .

جاء القرآن قاطعًا في بيان حقيقة ذلك الذي قتلوه على الصليب، فنفى نفيًا قاطعًا أن يكون ذلك قد حدث للمسيح، فقال:

{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 157-158] .

لقد رفعه الله كما سبق أن رفع إدريس "أخنوح"، وإلياس "إيليا" اللذين سبقا المسيح في عملية الرفع.

ص: 108

وإن رفع المسيح قبل اصطياده بيد أعدائه ليتفق تمامًا ونبوءات المزامير التي نذكر منها:

"لأنك قلت: يا رب ملجئي: جعلت العلا مسكنك، لا يلاقيك شر، ولا تدنو ضربة من خيتمك.

لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك، على الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك، لأنه تعلق بي أنجيه.

أرفعه لأنه عرف اسمي. يدعوني فأستجيب له، معه أنا في الضيق أنقذه وأمجده، من طول الأيام أشبعه، وأريه خلاصي" "مزمور 91: 9-16".

ونجد صدى لهذا في إنجيل يوحنا الذي يذكر قصة القبض على المصلوب بطريقة تخالف ما ذكرته الأناجيل الثلاثة الأخرى. فهذه الأناجيل تقول إن يهوذا الخائن سار مرشدًا لقوة الظلم التي جاءت لتقبض على المسيح الذي سيميزونه من أصحابه عندما يقبله يهوذا:

"وللوقت فيما هو "المسيح" يتكلم أقبل يهوذا واحد من الاثنى عشر ومعه جمع كثير بسيوف وعصى.

وكان مسلمه قد أعطاهم علامة قائلًا: الذي أقبله هو هو. أمسكوه وامضوا بحرص.

فجاء للوقت وتقدم إليه قائلًا: يا سيدي، يا سيدي، وقبله.

فألقوا أيديهم عليه وأمسكوه" "مرقس 14: 43-46، متى 26: 47-50، لوقا 22: 47-48".

لكن إنجيل يوحنا يذكر قصة مختلفة لا دخل فيها لقبلة الخيانة، فقد قدم المسيح نفسه لطالبيه وآنذاك حدث شيء غير متوقع أصابهم بصدمة كبيرة أوقعتهم على الأرض خاصة وأن العملية كانت في الليل:

ص: 109

"أخذ يهوذا الجند وخدامًا، وجاء إلى هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح، فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه، وقال لهم: من تطلبون؟ أجابوه: يسوع الناصري. فقال لهم يسوع: أنا هو. وكان يهوذا مسلمه أيضًا واقفًًا معهم.

فلما قال لهم: إني أنا هو، رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض" "يوحنا 18: 3-6".

وعلى كل فليست هذه هي المرة الأولى التي يختلف فيها إنجيل يوحنا مع الثلاثة الآخرين فقد اختلفوا كذلك في يوم الصلب: إذ جعله يوحنا يوم الخميس، بينما جعله الآخرون يوم الجمعة، وما من شك في أن صلب يهوذا الخائن بدل المسيح ليتفق ونبواءات المزامير التي نذكر منها:

"أحمد الرب بكل قلبي. أحدث بجميع عجائبك

عند رجوع أعدائي إلى خلف يسقطون ويهلكون من قدام وجهك لأنك أقمت حقي ودعواي.. أهلكت الشرير

يا رافعي من أبواب الموت

تورطت الأمم في الحفرة التي عملوها.. في الشبكة التي أخفوها انتشبت أرجلهم. معروف هو الرب. قضاء أمضى: الشرير يعلق بعمل يديه" "مزمور 9: 1-16".

والحق أن قول القرآن بعدم صلب المسيح أو قتله، لهو في رأيي من أكبر المعجزات، وإن الدراسة الدقيقة للمراجع والأسفار المسيحية لتتفق تمامًا وما جاء به القرآن1.

1 راجع كتاب: المسيح في مصادر العقائد المسيحية -للمؤلف.

ص: 110

هذا.. وما من شك في أن إلصاق أية ألوهية بالمسيح على أية صورة من الصور إنما هو شر حرمه الله تحريمًا قاطعًا، وجعله إثما غير قابل للمغفرة.

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] .

ولا يصح إيمان بالله إلا إذا تبرأ من كل شرك وأقر بالتوحيد المطلق، فذاك هو الإخلاص لله، وبه الخلاص من عاقبة السوء. والمخلصون دائمًا يقولون:

{اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [سورة الإخلاص] .

ص: 111