الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مدخل
مدخل
…
النبوة: اصطفاء وقدوة
للشيخ أحمد مختار البزرة المدرس بكلية الدعوة
إن العالم يتطلع في هذا العصر إلى أمة تتحمل الواجب المقدس في الدفاع عن الإنسان، هذه الأمة يجب أن تصير قدوة، ولا تصير قدوة إلا إذا عرفت في تاريخها مثلاً يحتذى.
المحاضرة الرابعة في الموسم الثقافي لعام 89-90 الذي تقيمه الجامعة الإسلامية بالمدينة. وقد ألقاها المحاضر على جمع غفير من رجال العلم والحجاج وطلاب الجامعة بمقر دار الحديث.
يعيش إنسان العالم المعاصر أياماً شداداً؛ تظله غيوم التشاؤم، ويملأ نفسه اليأس، إنه في عالم العصر الحديث؛ عصر المدنية الغربية الذاهبة شرقاً وغرباً؛ مدنية المعجزات العلمية والمخترعات الباهرات، مدنية شقَّ صانعوها أجواء الفضاء وحزموا الحقائب للسفر إلى الكواكب؛ مدنية فتحت لأعينها آيات رائعات على عظمة قدرة الله الخالق ودلائل على البارئ المقدر الحكيم! ومع ذلك فإن إنسان هذه المدنية في قنوط وعجز وخوف؛ خوف من مدنيته التي شيدتها يداه، ينظر في كل مكان فيرى رؤوس القنابل النووية في البر والبحر والجو مشرعة تريد أن تنقضَّ، فيغمض عينيه ويهرب بنفسه إلى دنيا الوجوديين والعراة والخنافس والمخدرات؛ خوف على خوف إذا وضع يده على قلبه أنكره. إنسان هذه المدنية يلوك خيبة مريرة، لقد قضى قروناً بحثاً عن السعادة والمعرفة والحق والخير والجمال، وأقام دهراً طويلاً يتشدق بالحرية والعدالة والمساواة، لكنه
أخفق في تحصيلها، وأخذ بنفسه وبالآخرين لما فرض نفسه وحضارته عليهم دليلاً وقيما. فأشقى نفسه وألقى على أمم الأرض الشقاء.
إنسان هذه المدنية - على عديد تجاربه في الحياة وضخامة وسائله وإمكاناته - ليس كالإنسان الذي كرمه الخالقة أول مرة وأمر الملائكة بالسجود له. إنه إنسان فقَدَ نقاء الفطرة، وانحط عن مرتبة الكمال الأمثل، إنسان رضي بالأرض قسما وباع السماء بيعة وكس، وقطع بينه وبينها الأسباب وعاش في الأرض للأرض لا لربه ولا لنفسه، ومنها اشتق معناه الوجودي معنى مادياً بحتاً، ووزن نفسه بترابها؛ بذهبها أو حديدها أو نحاسها أو زينتها أو حبها فلم يعرف لنفسه قدراً وقيمة إلا بمقدار ما جمع منها وما حاز. وكان الوزن عند الله الحق والعدل والخير والأمانة.
كان هذا انحرافا كبيراً عن الصراط المستقيم الذي هدى الله إليه الإنسان؛ انحرافاً قذف به إلى الجانب المظلم الداكن من الحياة؛ إلى الخوف بعد الأمن.. إلى الظلم بعد العدل.. إلى العبودية بعد الحرية.. إلى الشقاء بعد السعادة.. إلى القلق بعد الطمأنينة.. إلى الكفر بعد الإيمان.. إلى الحرب بعد السلام.
ويقف هذا الإنسان وقد أعد كل شيء للحرب والفتك ليخادع نفسه كما خدعها مراراً وليبحث ويتحدث في السلام.
يالها من أغنية حلوة عذبه! كذلك يتغنى السجناء بأناشيد الحرية من وراء القضبان.
قالت خديجة رضي الله عنها: "الله السلام ومنه السلام"1. وحق ما قالت، فمن أراد السلام فليلتمسه في حمى الله؛ في شريعته ومبادئه.
وأية جدوى في البحث عنه في قلوب خاوية من تعاليم الرب لم تبق فيها شهوة المادة شعاعاً من نور، ولا نبضة من رحمه؟.
إن السلام ينبثق من المحبة، والمحبة تتفجر من الإيمان. وأن الحرب تلدها البغضاء، والبغضاء سليلة الكفر والإلحاد. إذن لا أمل للإنسانية في سلام ونجاة وللكفر والإلحاد في الأرض دولة وسلطان.
إن خلاص الإنسانية الحقيقي أن تجد سبيلاً إلى محبة؛ محبة خالصة منزهة وليست هي في المادة! فإن المادة تستولي على قلب الإنسان ولا تورثه إلا أثرة وشحناء. وليست المحبة في الإلحاد، فإن الإلحاد في حقيقته حقد جاحد؛ حقد مخلوق متكبر على الخالق المنعم. وكيف يعطى قلب خلا من الإيمان جاحد بموجده،
1 ابن هشام م1 ص 241. تحقيق مصطفى السقا وزملائه.
حاقد على ربه محبة صادقة نقية معينة؟ وهل يجتمع نقي الحب وأسود الحقد في قلب واحد؟.
إن مستنقع الحقد لا ينبت فيه إلا الخبيث، وإن الإلحاد فحمة الحقد على نور السماء.
تعيش البشرية هذه الأيام الشداد، وعلى الذين يستطيعون أن يقدموا لها شيئاً في إنقاذها أن يسرعوا في أداء واجبهم قبل أن تحق من الله كلمة العذاب.
إن الدول الكبرى قدَّمت ما عندها للآخرين؛ القوة المادية الجبارة التي لا ترحم وقالت هذه الدول كلمتها "البقاء والحق للأقوى" فقضت بذلك على آمال الإنسانية التاريخية بالعدالة والإخاء لقد قالت هذه الدول كلمتها الأخيرة، وما في كلمتها إلا الاستعباد والظلم والاضطهاد وخنق الروح والضمير. وإن الواجب يفرض على أولئك الذين عرفوا في تاريخهم وشريعتهم قانوناً غير مظلم والاستعباد أن يقولوا كلمتهم.
إن الدول الكبرى قالت كلمتها، وحيل بيننا نحن المسلمين وبين كلمتنا أن نقولها في حاضرنا ومستقبلنا وفي حاضر الإنسانية ومستقبلها. وأني لأقول - وما قولي بادعاء - ما على ظهر الأرض أمة غيرنا عندها للحق بيان ومنهج، فإن كتابنا يحتفظ بكلمة السماء في صفائها الأزلي الأوَّلي، وإن تاريخنا يشهد بواقع تطبيقي حسن لهذه الكلمة.
إن العالم يتطلع في هذا العصر المضني إلى أمة تتحمل الواجب المقدس في الدفاع عن الإنسان وإخراجه من الظلام إلى النور؛ أمة تستطيع بما فيها من ذخر روحي، وما عندها من قيم إلهية أن تكون أرقى بني الإنسان فكرا وشعورا وأنبله غاية وهدفا، وأقدره على تسلم القيادة في معمع الأخطار. هذه الأمة يجب أن تصير قدوة ولا تصير قدوة إلا إذا عرفت في تاريخها مثلا يقتدى، فريدا كاملا من البشر؛ كاملا في إنسانيته، في حبه الخير وبغضه الشر، لا عوج في طريقته ولا انحراف في شخصيته، تجده كتلة من المعاني الخالدة المتجسدة كلمات وعمل وتنظيم. إذا اتبعته أمته، وتبنت أهدافه ورفعت شعاره، وانطلقت في دروب سيرته صارت حياتها أشبه شيء بحياته.
هذه الأمة التي تستطيع ذلك بإذن ربها هم المسلمون، وذلك المثال الرفيع هو محمد صلى الله عليه وسلم.
إنه لم يبق لنا في هذه الأيام الشداد إلا أن نعود على نبع الفطرة الصافي نستقي منه؛ إنه لابد من العودة إلى الأنبياء.
ولقد جاء كبار الرسل أممهم على حال لا تختلف بما فيها من قلق وظلم وفساد والإلحاد وانحدار في القيم