الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تتمة - النبوة: اصطفاء وقدوة
لقد كان لكل من هؤلاء الأبطال عالم مستقل، منفصل عن حاضرهم متصل بعالم الرسول والصحابة. حققوه بإخلاصهم وانقطاعهم إلى الله.
ب -
الحب:
والاقتراب كما أوضحنا عملية نفسية خالصة لا بد في استمرارها من قوة في القلب ذات ديموية وتوهج وهذه القوة هي الحب؛ حب الله والرسول حبا يغمر سائر العواطف والنزاعات ويتألق صدقا ونقاء. وهو حجر الأساس في الإيمان، قال عليه الصلاة والسلام:"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين"1.
ذلك أن حب الرسول هو حب للعقيدة التي أمر بنشرها في الأرض وقد قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 2.
إن حب العقيدة في الإسلام فوق حب النفس والحياة.
1 رواه مسلم والبخاري والإمام أحمد في مسنده والنسائي وابن ماجة.
2 آل عمران: 31.
ج -
العقيدة فوق الثروة والمال:
فلا غرو من أن يجعل الله العقيدة فوق المادة والدعوة فوق المال.
إن الثروة والموارد الاقتصادية لا بد منها في الإنشاء والتعمير اللذين هما ثمرة من ثمار العقيدة. ولكن الله يرد أن يهيمن الدين على القوى المادية وأن يسخرها فيما ينفع الناس ويأبى أن يعلو الشغف بالثروة على حب الله والرسول ويغضب أن يتخذ الدين مطية استغلال يصرفه أصحاب المصالح الخاصة فيما يعود عليهم بنفع شخصي. ولعل هذا يفسر لنا حكمة الله في اختيار الأنبياء والقادة من غير ذوي الثروات الذين يرفعون المصلحة الخاصة على العقيدة والمصلحة العامة وينفصلون عن الأمة في قضيتها الكبرى. ولهذا قال نبي بني إسرائيل لأغنيناهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} 3 وكان منهم ما توقعه إذ اعترضوا على ملكية طالوت ولم يعرهم الله اهتمامه فنصر عبده طالوت من غير مدد فيهم ومن غير ثرواتهم. وإن بعضهم ليحارب النبي المختار حفاظاً على مصلحته أو مصلحة عشيرته وهل يسفر موقف أبي سفيان قبل الفتح، وموقف أبي جهل بغير هذا؟.
والإسلام لا يحرم الغنى ولا يزهد فيه ولكن يجعله في خدمة العقيدة، وقد رضي الله الغني لبعض أنبيائه
3 البقرة: 246.
والملوك الصالحين عندما جعل نفوسهم فوق المال، فخلت قلوبهم من محبة الثروة، وسمت على المادة فجعلوا العقيدة فوقها وكانت عندهم للدين خادماً وتبيعاً. هذا نبي الله سليمان سأل ربه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فأعطاه العجب العجاب، وفجر الكنوز بين يديه واستخرجت له الثروات من جوف الأرض، ومن قاع البحار فكانت عنده كلها خارج قلبه، ولم يشغله إلا بحب الله وكلمة التوحيد ولم تستطيع هذه الأموال الخلابة أن تظفر من قلبه بشيء وكان هذه ابتلاء لسليمان أيما ابتلاء. وظهر هذا جلياً في موقفين من مواقفه: أولاً إذ جاءه وفد بلقيس بهدية ثمينة ظناً منها أن سليمان ملك كسائر الملوك يرضي المال طموحه فكان جوابه.. {قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} 1 ولو كان سليمان جماعاً شَرِهاً لارتضى بها، فإن من تسلط عليه حب المال لا يشبعه إلا التراب. والموقف الثاني: إذ لام نفسه على انشغاله باستعراض خيل الجهاد حتى توارت الشمس بالحجاب أو فاتته الصلاة فأدب نفسه أيما تأديب؛ أكب بنفسه على سوق الخيل وأعناقها وكان قد أجهدها الجري والسباق ونضحت بالعرق فطفق يمسحه عنها، يفعل ذلك وهو الملك بين يديه الإنس والجن تخدمه، قهراً لنفسه التي استمتعت بالخير برهة فنسيت ذكر ربها وإذلالا لها وتأديبا.
وتتجلى هذه الظاهرة أيضاً في موقف الفاتح الصالح ذي القرنين إذ عرض عليه أهل ما بين السدين مالاً عظيماً يؤدونه سنوياً له ليبني لهم سداً يحميهم من غارات يأجوج ومأجوج فرفض العرض ودعاهم إلى الاعتماد على أنفسهم ومساعدته بالرجال والمعادن لينفعهم بخبرته ويقيم لهم ردماً خير من السد: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} 2.
لقد كان سليمان وذو القرنين عليهما السلام أغنى أهل الأرض في يومهم وكان المال لا يدخل في حسابهما في شيء إلا بما ينفع عباد الله وبما يرضي الله. واختاره الله محمداً صلى الله عليه وسلم نبياً لا نشب عنده ولا متاع وقال الأثرياء من العرب: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ
1 النمل: 26.
2 الكهف: 95.