الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يصلح شأنها ولم تبلغ عزها الحق إلا عندما أسلمت له يوم الفتح وانقادت والتفت حوله كما التفت حوله يوم رفع الركن.
القدوة
مدخل
…
4-
القدوة:
ولكن لم خص الله أنبياءه بتلك العناية الكبرى والحفاوة العظمى، وصنعهم كما أراد، كما قال لموسى عليه السلام:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} 1.
لأي دور عظيم أعدهم الله إذا صاغهم الصياغة النبوية الفريدة؟
لو علمنا جلال المهمة الملقاة إليهم لعرفنا بعض السر.
لقد ألقى إليهم واجب ثقيل ليس مثله في المهمات العظام شيء أبداً، إنه الواجب الذي يملي عليهم أن يبدؤوا عصراً جديداً ملءه النور، ومدنية محدثة شعارها العلم والتقدم وأن يكونوا أمة هادفة إلى إنقاذ الإنسان وإسعاده بالبلوغ به مرضاة ربه.
إن الله يختار للنهوض بهذه المهمة التي تنوء بأمم الأرض كلها رجلاً فرداً.
فكيف أدى النبي ما عهد به إليه، وأنفذه على وجهه، فتوفاه الله وقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة فجعله في الخالدين؟
إن الإلمام بذلك يعين سبلاً وحدها تسلك، وطرقاً وحدها تتبع في إحياء حضارة الإنسان بالعلم والإيمان، وما من مؤمن يطلع على مواقف الرسول الخالدة صلى الله عليه وسلم في القرآن والسيرة إلا يتقن أن استيعاب روح هذه المواقف وتمثلها هو الخطة الوحيدة في تكوين مجتمع إسلامي صحيح سليم.
إنه وجب الاقتداء إذ ثبت الاصطفاء وإذا كان العسير علينا أن نحيط بتلك المواقف في هذه العجالة فلإشارة إلى بعضها كافية:
1 طه: 39.
أ -
الاقتراب:
وأول هذه المواقف وأعظمها خطراً هو انفصال الرسول صلى الله عليه وسلم نفسياً وروحياً عن عصر الجاهلية والاتجاه بالقلب والنفس إلى العالم الأعلى، إلى الله، وهذا المسلك مبدأ الانطلاق في تكوين الأمة وبزوغ حضارة الإسلام وقد سمى الله تعالى هذه الطريقة بالاقتراب. قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم:{وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} 2 ويغدوا النبي بانفصاله عن الوقع الجاهلي مركز إشعاع متجدد ويجتذب إليه عناصر مجبولة على الخير نافرة من أذى الجاهلية فتسبح في فلك النبي وتخضع لجاذبيته وتستلم منه القيم، والمثل فتتفجر إمكانياتها بتأثيره في طريق الخير، وتنصرف قلوبها إلى الله تريد وجهه. إنهم الرجال المعرفون بالصحابة الذين
2 العلق: 19.
صنعوا بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم تاريخ الدعوة الأول، وقد صدر الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم بالتزام هذه الفئة التي هي نواة المجتمع الإسلامي:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} 1.
وأوصى الله نبيه والمؤمنين بالانقطاع إليه فقال: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} 2 فكان التبتل فعال الأثر في سيرة الرسول الكريم إذ جعله في منأى عن الزلل والخطأ. فجاءت سيرته عليه الصلاة والسلام وحياته في المقام الأسمىمن الكمال والتمام، والبعد عن النقصان والانحراف. ولم يفارق هذه التبتيل مرحلة من مراحل الدعوة وموقفاً من مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم العامة، والخاصة، ألم تكن قرة عينه في الصلاة ألم يكن يقوم الليل حتى تتورم قدماه؟
ولقد سرت هذه الروح إلى الصحابة، رضوان الله عليهم فحققوا خالد المآثر وكانت عندهم شيئاً قليلاً فيما عرفوا الله من حق عليهم.
ومن ثم لا تبعث الروح الإسلامية وقادة كما كانت في الصدر الأول إلا بجلاء النفوس وتنقيتها وإعدادها لاستقبال الإشعاع الثاقب الحي، الذي نتلقاه من الرسول صلى الله عليه وسلم، إن أوغلنا في سيرته وعشنا في ظل مواقفه، وفي صميم مبادئه ومقاصده ولا ينشأ جيل كالجيل المحمدي الأول إلا إذا جليت القلوب من صدأ القرون، ومن أوزار المبادئ الدخيلة، والأفكار الغازية، والمفاهيم المخالفة للفطرة، فإذا نجحنا في التحرر والاقتراب من مركز الإشعاع الروحي أحيا الله فينا ما أحياه في الصحابة، وبعث منا جيلاً كجيلهم، ولهذا نرى في فترات متباعدة من تاريخنا رجالاً متميزين لا يشبهون غيرهم، يعيشون كالأغراب، في عصورهم روحهم وأسلوبهم روح الصحابة وأسلوبهم لا يخافون بأساً ولا يخشون رهقاً، يُرهبون ولا يرهبون ينتصرون ولا يُهزمون، وإن ضاقت بهم أنفس الطغيان فسجنتهم أو عذبتهم، أو قتلتهم فإن في موتهم النصر إذ يسجلون بذلك على الطاغية هزيمته النفسية أمام مبادئ الإسلام والحق والعدل.
إن أبا جهل لما غيب حربته في حشا سمية أم عمار بن ياسر رضي الله عنهم كان قد تردى من الهزيمة النفسية في (غور) سحيق.
إن استشهاد رجال الحق يزيد شعلة الإيمان توهجاً، وليل الطغيان وحشة وهولا.
1 الكهف: 28.
2 المزمل: 8.