الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله عليهم وعلى العالمين فضله بمعجزة أعلى وأسمى فأرسل إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم ليبوئهم مكانا عزيزا كريما؛ في عام الإنقاذ هذا ولد المنقذ الأكبر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء العرب وهم أعجز الناس عن حماية حوزتهم وحرمهم ورد الغزاة فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى صنع الله منهم فاتحي العالم ومنائر الحق والحكمة.
هكذا كان ماضي أجدادنا عام الفيل ما أردنا من تفصيل الحديث فيه إلا الذكرى والاعتبار. وأيم الله {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} 1.
1 سورة ق: 37.
اصطفاء الذات النبوية
اصطفاء الذات النبوية
…
2-
اصطفاء الذات النبوية.
الاصطفاء انتخاب الله صفوة البشر ليكونوا المثال الواقعي الحي للمثل الإلهية والقيم الربانية التي ارتضاها للبشرية شرعة ومنهاجا، تخوض بها تجربة الحياة والابتلاء بغية النجاة والظفر بمرضاة الله تعالى.
إن تجسيد القيم في أفعال وخطط يعطيها معناها الإمكاني الحق إذ يتعرف الناس على هذه المثل في واقع حياتي حي، فلتلتحم الفكرة العلوية بصورتها الأرضية، وتجري الأفكار والتعاليم الإلهية ملموسة دفاقة في الأرض جريان السيل لا ظن ولا توهم ولا مراء. ومن ثم ينتخب لها أولئك الذين تبدو العقيدة فيهم رائعة الجلاء والنقاء كما ينم البلور ذو الصفاء عما حوى، حتى إنك لا تميز بين الوعاء وما وعى. هؤلاء الصفوة يتولى الله سبحانه اختيارهم وهو العليم الخبير، ويجعل فيهم بقدرته ومشيئته الاستعداد للنبوة ليكونوا حقائق العقيدة المتحركة على الأرض. هذه النخبة يمكن أن يقال فيها: "أنها ليست وليدة بيئتها ولا من صنع مجتمعها، أنها جنس منفصل وجد كالغريب في بقعه نائية. وأنها لتحس بغربتها قبل أن يأتيها خبر السماء وتتجافى عن ضلال الناس كأن عالمها غير عالمهم وكأن قوة علوية تجتذبها إليها -تلمس آثارها وتشعر بتأثيرها فيما يجري لها ولكن تبقى محجوبة عن السر حتى يكشف الحجاب ويأتيها الوحي - فيتصل حبلها المقطوع بالعالم الذي كانت تستشعر وجوده ولا تدري كنهه، وتجد نفسها بعد ضلال {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} 2 وتعرف حقيقتها ومهمتها فيزول عنها الإحساس بالغربة، وتستشعر نفسها وكيانها بقوة وتمكن، وتأخذ في التلقي من الله تلقيا تلقائيا آنيا فلا تتردد ولا تتحرج ولا تجادل ولا تماري، وإنما تستجيب للأمر وتتمثل للأمر للكلمة الإلهية آنيا كما ينبثق النور آنيا لا يدري أول شعاعه من أخره لسرعته تلك الاستجابة التي تلمس حقيقتها في إبراهيم. . {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ
2 الضحى: 6- 7.
قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1 ولم لا يسلم للحظته وقد بحث طويلا عن ربه في ملكوت السموات والأرض فلما اجتباه ربه وكشف حيرته وهدى ضلاله لم يبق إلا الامتثال والتلبية. عندها يعلم المصطفى المختار أسباب عزوفه عن قومه ونفوره من تقاليدهم وعباداتهم، ويوقن أن عناية الله كانت تلاحظه قبل الوحي الصريح والخبر الوثيق فيلجأ إلى ربه ليستمد منه وليستضيء بنوره ويغرف من معين هديه. وتتمايز نفسه تمايزا كليا عما حولها وتصبح قوة فعاله تأتي بالمعجزات ولا تبالي بالمعوقات. فلا تهاب أن تدخل معبد الوثنين الفأس بيدها تهزأ بالأصنام وتجعلها جذاذ ثم تقف وحدها تتحدى صخب الجمهور الضال، وطغيان الحاكم الجبار والتحريق بالنار، وتقابل التحدي صخب العجاج بتحد صليب مرهف نافذ. ولا عجب أن تقف وحدها على الصفا لتقول كلمتها المأمورة بها وتبلغ رسالته المنوطة بها، وليس عجيبا أن تقول:"والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته "2 لأنها أيقنت أن معنى وجودها هو أداء رسالة الله، فإن لم تؤديها فلا معنى لبقائها. ولهذا تبلغ في الاستبسال مدى لا تحتمله النفوس الأخرى، وفي الصبر شأوا يعجز عنه أولو العزم في غير الأنبياء، وتصبح شجاعتها وصبرها موضع الدهشة من الخصوم. وهذا التحدي المنتصر؛ تحدى فرد وحده لأمة أو مم لا يصدر عن أفراد عاديين، إذ لا يملك فرد مستضعف أعزل أن يغير نظام العقيدة، والمجتمع والتاريخ لأُمة إلا إذا أيدته قوة قاهرة على القوى فاستمد من ذخرها للصمود والهجوم والانتصار إن هؤلاء الأفراد الذين اختارهم الله وخلق فيهم هذه القدرات والإمكانيات هم وحدهم أمم، فإن كلا منهم مبدأ أمة جديدة وتاريخ محدث، جمع الله له في نفسه القوى اللازمة للمستقبل الجديد، فسرت منه إلى قلوب الأجيال قال تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3.
وفي القران الكريم إشارات واضحة إلى تلك الصفوة المختارة في ملايين البشر المبعوثين في الأرض قال تعالى مخبرا عن طريقته في الإرسال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} 4 وهو يعلم أولئك الذين يطيقون النهوض بتبعاتها إذ: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} 5 ومن ثم كان اصطفاؤه لأفراد مخصوصين متميزين
1 البقرة: 121.
2 السيرة لابن هشام: م1 ص266.
3 النحل: 120.
4 الحج: 75.
5 الأنعام: 124.