المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ التمهيد التاريخي للرسول: - النبوة: اصطفاء وقدوة

[أحمد مختار البزرة]

الفصل: ‌ التمهيد التاريخي للرسول:

وزكريا - ما يقتضي الوحي. فكان الرمز هو القدر المناسب الكافي ليبعث في نفس آمنة التوقع والتفاؤل.

ص: 24

ب-‌

‌ التمهيد التاريخي للرسول:

وتلك التوطئات غرضها إعداد الرسول لقبول الرسالة ليطمئن بها قلبه، وليعلم أنه قد جاءه الحق من ربه. وهي لا تعدو في أثرها نفس الرسول ولا تستهدف غيره ولكن محمدا صلى الله عليه وسلم قد سبق أمر الله أن تختم به الرسالات، وأن يقضي على آثار المرسلين أجمعين، وأن يجعل دعوته عامة لكل عاقل على ظهر الأرض. وهو أمر لم يكتمه الله عن البشر. وإنما هيأ له الأذهان، ووجه إليه الأنظار منذ زمن بعيد، إعلاء لشأنه وإظهارا لأهمية رسالته، وليكون الناس معها على وعد غير مكذوب ولتشرئب نفوسهم إلى الكمال المرتقب وليتشرفوا إلى الانتساب إلى الرسالة الخالدة، وليعلموا أن كمال النبوة وتمام الحق فوق ما حضرهم أو عرفوا من أمر الأنبياء والرسل وليحيي الأمل نفوسا كانت تألم وتتأذى من جهل منتشر وباطل مستمر.

وإرسال الأنبياء عموما أمر لم يكتمه الله عن خلقه، فأعلنه لهم منذ أبيهم آدم وأخبرهم أنه قارب الإنقاذ والنجاة. قال تعالى لما اقترف آدم الخطيئة وهبط من الجنة:{قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} 1 ثم أصدر الله لرسله إعلاما غيبيا بمبعث نبي يتمم به الله الرسالات فكان هذا إرهاصا وتمهيدا تاريخيا لمحمد صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 2 فصار الناس بذلك على موعد مع الزمان بمبعث نبي نوه الله بذكره، وأخذ العهد له عليهم منذ الزمن السحيق. وفي الآية دلالة بينة على علو مكانة النبي الموعود به، والحقبة الزمنية المبعوث فيها. ومن ثم ألح بدعوته منذ أجيال وأجيال. وبهذا يجعل الله ميعاد مبعثه منارة تاريخية، يجمل أن نتخذه حدا فاصلا في التاريخ البشري؛ ما كان منه قبل محمد وما يكون منه بعد محمد صلى الله عليه وسلم. وكان احتفاء الله به عظيما؛ لأنه في تقديره عز وجل وتوقيته له، حدث ثقيل في حياة البشر ومستقبلهم. وكيف لا يكون شيئا ثقيلا وحاضرهم في الدنيا، ومستقبلهم الأخير يوم القيامة مرهونان بما حققا من اقتراب منه، وتصديق

1 البقرة: 28.

2 آل عمران 81.

ص: 24

به، أو ابتعاد عنه وتكذيب. وبهذا يتجلى المعنى التاريخي الإنساني العظيم في الآية التي تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، على جبل الرحمة، في حجة الوداع:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} 1 كان يوما مشهودا فاضلا تمت فيه الكلمة الإلهية والنعمة الرحمانية على بني آدم. وكان الله جعل من هذا اليوم قبلة زمانية اتجهت إليها أفئدة الأنبياء والمؤمنين بهم، إقرارا منهم على أنفسهم بأن كلا منهم مرحلة في تاريخ النبوات، وحلقة في سلسلة المرسلين. وشاء الله فأتم السلسلة بمحمد صلى الله عليه وسلم فجاءت رسالته لا يجهلها المؤمنون الصادقون من أهل الكتاب، يعرفونها {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} ، وهي تحمل الإيمان بالرسل السابقين، والتقدير لجهودهم في تبليغ الكلمة الربانية إلى الناس، والثناء على صدقهم، وتضحياتهم في سبيل إنقاذ الإنسان من براثين الشيطان، وباركت جهادهم، وحيث إخلاصهم:{وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2.

ويبدو أن الأنبياء الذين بعثوا في الزمن المبكر، لم يتجاوز علمهم بالنبي صلى الله عليه وسلم سوى الإخبار بمبعثه، وأخذ العهد عليهم، أو دعوة حارة تجري على لسان إبراهيم عليه السلام فتفتح لها أبواب السماء، وتلتقي بما قدر الله منذ الأزل:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3 فلما تأخر الزمان وأنزلت التوراة والإنجيل، توضحت الإشارات وذكرت العلامات، وصار الذين عندهم علم الكتاب على بينة من مجيء رسول {اسْمُهُ أَحْمَدُ} 4 لا يخطئونه. إن رأوه أدركوا يومه. فقد وضح الله لهم كثيرا من علاماته؛ مكان بعثه، مهاجرة، وصفاته. ثم أتى على التوراة والإنجيل ما أتى من التبديل والتغير. وأفسدت الوثنية الدين الذي جاء به عيسى، ودخل أتباعه من بعده في الشرك إذ قالوا: إن الله ثالث ثلاثة. واختفى دين التوحيد فلم يستمسك به إلا رهبان أو أساقفة قلة، منقطعون في الصوامع، أو الكنائس يتجافون عن الناس في شركهم، وفساد عقيدتهم، ولا يجرؤون على النعي عليهم خوفا من بطشهم وتنكيل الحكام بهم. وأغلب الظن أن هؤلاء النفر القليل احتفظوا بصفاء دين عيسى عليه السلام، بما خبؤوا في صوامعهم من صحف الإنجيل الذي

1 المائدة: 3.

2 الصافات: 181.

3 البقرة: 129.

4 الصف: 6.

ص: 25