الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 -
في العقوبات
لقد تميزت الشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع والقوانين في التشريع الجنائي ووضع العقوبات المناسبة لأفعال الناس التي تضر بالأنفس والأموال والأعراض وغيرها، حيث أضفت الشريعة على هذه العقوبات ألوانًا من السماحة واليسر، بحيث تتقبلها النفس الإنسانية في كل أحوالها بل تطالب بها إذا وقعت مثل تلك الأفعال، ويمكن أن نبين هذه السماحة والسعة من خلال بيان عقوبتين فقط، وهما:
أ - عقوبة قتل النفس:
إن قتل النفس بغير حق يعد من أكبر الجرائم وأعظمها عند الله تعالى، يقول الله عز وجل:{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1) .
وقد جعل الله - تعالى - قتل النفس الواحدة بمثابة قتل الناس جميعًا، وإحياء نفس بمثابة إحياء لجميع الناس، يقول الله تعالى:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (2) .
ويقول عليه الصلاة والسلام: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم» (3) .
(1) سورة الأنعام، الآية:151.
(2)
سورة المائدة، الآية:32.
(3)
سنن النسائي، رقم 3992، ص557. ورواه الترمذي في جامعه برقم 1395، ص 338، وابن ماجه في سننه برقم 2619، ص376. ورجاله ثقات.
فقتل النفس فعل شنيع وجريمة عظيمة، لا بد أن يكون له عقاب يتناسب مع هذا الجرم والفعل، فكان حكم الله القتل مقابل القتل، لقوله عز وجل:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (1) .
ويظهر يسر الإسلام وسماحته في تطبيق العقوبة على القاتل من خلال النقاط الآتية:
- لا يؤخذ أحد بجريرة أحد، أي أنه لا يعاقب إلا القاتل نفسه، وليس لأهله وذويه وقبيلته شأن في فعله وتطبيق العقوبة عليه، بدون تعسف أو تعد، بخلاف ما كانت عليه الجاهلية، حيث كانت تشب حروب وتنتهك أعراض، ويقتل بالرجل أكثر من الواحد، كلها بسبب جريمة قتل وقعت لأحد أفرادهم، لقوله عز وجل:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (2) .
(1) سورة المائدة، الآية:45.
(2)
سورة الإسراء، الآية:33.
- إن من يسر الإسلام وسماحته أن جعل المجال مفتوحًا أمام ولي أمر المقتول وخيره بين إحدى ثلاث: القصاص أو الدية أو العفو، لقوله صلى الله عليه وسلم:«من أصيب بدم أو خبل (الخبل الجراح) فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: إما أن يقتص أو يأخذ العقل أو يعفو، فإن أراد رابعة فخذوا على يديه فإن فعل شيئا من ذلك ثم عدا بعد فقتل فله النار خالدا فيها مخلدا» (1) .
- ومن يسر الإسلام أيضًا وسماحته قبل تطبيق هذه العقوبة أنه يغري أهل المقتول بما عند الله تعالى، إذا تجاوزوا عن القاتل وعفوا عنه، لقوله صلى الله عليه وسلم:«ما عفا رجل إلا زاده الله به عزا ولا نقصت صدقة من مال ولا عفا رجل قط إلا زاده الله عزا» (2) .
(1) مسند أحمد، رقم16489، ص1164. ورواه ابن ماجه في سننه برقم 2623، ص277. رواته ثقات.
(2)
مسند أحمد، رقم9641، ص697. ورواه الترمذي في جامعه بهذا المعنى برقم2325. وقال حديث حسن صحيح.
وكان هذا شأن السلف الصالح من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، فقد روي أن رجلا من قريش كسر سن رجل من الأنصار فاستعدى عليه معاوية فقال القرشي: إن هذا دق سني. قال معاوية: كلا إنا سنرضيه. قال فلما ألح عليه الأنصاري قال معاوية شأنك بصاحبك، وأبو الدرداء جالس فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم يصاب بشيء في جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة وحط عنه بها خطيئة قال فقال الأنصاري: أأنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ . قال: نعم سمعته أذناي ووعاه قلبي يعني فعفا عنه (1) .
- من سماحة الإسلام ويسره أنه اشترط في جواز تطبيق القصاص اتفاق أولياء الدم جميعا على هذا القصاص، فإذا وُجد من بينهم من عفا عن القاتل وإن كانت امرأة فإن الحكم يسقط، ويمنع القصاص.
وكذلك إذا كان من بين أولياء الدم من لم يبلغ سن التمييز أو كان غائبًا، فإنه ينتظر بلوغه أو عودته من غيبته لأخذ رأيه، فإن عفا عن الجاني فإن الحكم يسقط، وقد يأخذ ذلك سنينًا وأعوامًا، وفي ذلك حكمة ربما ينسى هؤلاء الأولياء حنقهم على دمهم وتتخفف الوطأة عليهم، فيكون العفو حينها أقرب إلى القصاص.
(1) مسند أحمد، رقم28084، ص2055. ورواه الترمذي في جامعه بهذا المعنى برقم 1393، ص337-338. وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
ب - عقوبة الزنا:
وجريمة الزنا من الجرائم الأخلاقية التي تفسد الأسر والمجتمعات وتضيع الأنساب وتفشي الضغائن والأحقاد، لذلك كانت هذه الجريمة من الكبائر التي توعد الله فاعلها بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، لقوله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) .
وعقوبة الزاني الرجم للمحصن والجلد لغير المحصن، وفي هذا يسر وسماحة، وذلك بتناسب العقوبة مع طبيعة الزاني نفسه، فالزاني الثيب أعظم جرمًا من الزاني غير المحصن، لذلك جاءت عقوبته أقسى وأشد وهي الرجم.
(1) سورة النور، الآية:19.
ومن يسر الإسلام وسماحته في إنفاذ العقوبة على الزاني أنه طلب شهادة أربعة أشخاص على الفاحشة، وهذا من باب التحري الزائد، وتجنبًا لتطبيق العقوبة، وحتى لا يقع الناس في أعراض غيرهم، ليس هذا فحسب وإنما حدد عقوبة للذي يقذف الآخرين ويتهمهم بالزنا من غير أن يحضروا أربعة أشخاص فحينها ينال عقوبة القذف، يقول الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) .
(1) سورة النور، الآية:4.
ومن أجل إقرار هذا المبدأ لدى الأمة كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحاول تجنب تطبيق حد الزاني، أو يوجد للمعترف بالزنا أعذارًا لعله يتراجع عن اعترافه، فقد «أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه فقال: يا رسول الله، إني زنيت. فأعرض عنه حتى ردد عليه أربع مرات فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبك جنون؟ . قال: لا. قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به فارجموه. قال ابن شهاب: فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله. قال: فكنت فيمن رجمه فرجمناه بالمصلى فلما أذلقته الحجارة هرب فأدركناه بالحرة فرجمناه» (1) .
وقد عمل الإسلام على تخفيف وقوع الزنا ومحاولة الستر على مرتكبها، وأن تتم التوبة بينه وبين الله تعالى، فالأمر يرجع إلى الله تعالى يوم القيامة إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه.
(1) صحيح البخاري، رقم7167، ص1234. ورواه مسلم في صحيحه برقم4420، ص750.