الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
_ وفي مفاوضات حصن بابليون عام 20 هـ، استقبل عمرو بن العاص، رسل المقوقس في محاولة للتوصل إلى الصلح، فأبقاهم عنده يومين- ليشاهدوا حياة المسلمين الإسلامية، وهي طريقة ناجحة لتبليغ الدعوة، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الوفود- وبعد ذلك قال لهم عمرو:
"ليس بيننا وبينكم إلا إحدى خصال ثلاث: الدخول في الإِسلام، فتكونون إخواننا، ولكم ما لنا، وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فالجزية، وإما القتال، حتى يحكما الله بيننا وبينكم، وهو أحكم الحاكمين"1.
1 ابن عبد الحكم _ فتوح مصر 59 –61.
الغنائم نتيجة وليست سبباً في الفتوحات:
الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده جميعاً.
قال تعالى:
{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} 2.
وقوله سبحانه وتعالى:
ورابطة الإسلام تعلو وتسمو على الروابط القبلية، والإقليمية، والوطنية، والقومية. قال تعالى:
واستنفر الإسلام المسلمين لتبليغ دعوته، وأمرهم أن ينفروا خفافاً وثقالاً. قال تعالى:
فقام المسلمون بذلك، وقدموا أموالهم وأنفسهم، وسارعوا إلى الجهاد والفتح، وحملوا الدعوة وبلغوها.
عن صفوان بن عمرو قال:
2 سورة آل عمران الآية: 19.
3 سورة آل عمران الآية: 5 8.
4 سورة التوبة الآية: 24.
5 سورة التوبة الآية: 41.
"كنت والياً على حمص، فلقيت شيخاً قد سقط حاجباه، من أهل دمشق، على راحلته، يريد الغزو. قلت:
"يا عم، أنت معذور عند الله".
فرفع حاجبه وقال:
"يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً، ألا من أحبه الله ابتلاه".
وعن الزهري قال:
"خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو، وقد ذهبت إحدى عينيه. فقيل له: إنك عليل، صاحب عذر.
فقال: "استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن عجزت عن الجهاد، كثّرت السواد، وحفظت المتاع"1.
وكان ابن أم مكتوم رضي الله عنه أعمى وأنزلت فيه {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} فكان بعدُ يغزُ ويقول:
"ادفعوا إليّ اللواء، فإني أعمى لا أستطيع أن أفرّ، وأقيموني بين الصفين"
وحضر القادسية ومعه راية سوداء وعليه درع. ويقال انه استشهد يوم القادسية2.
فكان توجه الفاتحين إرضاء لله سبحانه وتعالى، وابتعدوا من المصالح الدنيوية، واصطدموا بالدولتين الكبريات فارس، والروم، دون أن يكون هناك نسبة بالمقاييس المادية بين الفاتحين والدولتين، لا في العدد ولا في العدة، فما من معركة خاضها المسلمون إلا وواجهوا قوات أكثر عدداً وعدة، وكانت كل من الدولتين تحشد عدداً كبيراً من الجند يدل على قوتها، لا على ضعفها3. وإن من يقدم حياته من أجل عقيدته لا يفكر بالغنائم، فكانت الغنيمة نتيجة للفتوحات وليست سبباً فيها، فنال المسلمون خيري الدنيا والآخرة، وكانوا يؤثرون الشهادة على الغنيمة، وعلى الحياة. ولا يعني هذا أن جميع الجند كانوا يحملون هذه الروح، بل وُجد بين المسلمين من اندفع من أجل الغنيمة. وهؤلاء لا يعتَدّ بهما، وليسوا
1 انظر: تفسير الرازي 16/70.
2 الذهبي_ سير أعلام النبلاء 1/364_ 365، ابن كثير_ البداية والنهاية 7/55.
3 أصرّ المستشرقون وبإلحاح عجيب على إبراز ضعف الدولتين، وهذا تجاهل معتمد لأسباب الفتوحات الإسلامية، في محاولاتهم التركيز على استغلال المسلمين فرصة ضعف الدولتين، حتى يثبتوا أن لا فضل للمسلمين في ذلك، "فقد نالوا غنيمة جاهزة لمن يغتنم الفرصة" هكذا حاولوا التشويه المعتمد!!
انظر في ذلك: غوستاف لوبون_ حضارة العرب 165، برنارد لويس_ العرب في التاريخ 49، بروكلمان_ تاريخ الشعوب الإسلامية 90، فيليب حتي_ تاريخ العرب العام 116، 138، ول ديورانت_ قصة الحضارة 12/315، 13/72، كلود كاهين_ تاريخ الشعوب الإسلامية 1/23، سيديو_ تاريخ العرب العام 116، 138.
سبباً في الفتوحات، ولا يخلو من أمثالهم زمن، حتى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنين، وحصار الطائف، وغزوة تبوك وغيرها، ومن البديهي أن ذلك لا يمثل القيادة الفكرية التي كانت تدفع المسلمين للفتوحات، وتبنّاها الخلفاء والقادة والجند، ونفّذها الجند المسلم. كما أنه لا يمثل بحال من الأحوال وجهة نظر الأمة المسلمة، ورأيها العام. ولذلك فقد تعرض أمثال هؤلاء للسخرية اللاذعة، كقول الشاعر:
فلا جنة الفردوس أراك تبتغي
…
ولكن دعاك الخبز أحسب والتمر
وهذا تحقير لمن جعل همه المغانم، لا الجهاد في سبيل الله، الذي يفضي إلى الجنة1.
ولهذا فقد تميز الجند الإسلامي بالحرص على نيل الشهادة، والعفّ عن المغانم، وعدم استحلالها إلا محلها، تشهد بذلك النصوص الصريحة الكثيرة، وشهد بذلك أعداؤهم2.
فنجد أبا بكر رضي الله عنه يكتب إلى قادته باستنفار من قاتل أهل الردة، ومن ثبت على الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمرهم ألا يسمحوا لأحد أرتد بالغزو معهم3، فلم يشترك أن ارتد في الفتوحات إلا بعد أن قطعت شوطاً كبيراً زمن عمر رضي الله عنه، الذي سمح لهم بالمشاركة في الجهاد، ولم يسمح لهم بتولي قيادة. وبذلك تنهار فكرة اشغال أبي بكر رضي الله عنه للعرب في الفتوحات الإسلامية.
ولما افتتحت المدائن- طيسفون- عاصمة الفرس عام 16 هـ، لم يأخذ أحد من الجيش لنفسه شيئاً مما وقع في يده، وإنما أدّاها بتمامها إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، ولما رأى سعد أمانة رجاله قال:
"والله إن الجيش لذو أمانة، ولولا ما سبق لأهل بدر، لقلت أنها على فعيل أهل بدر"4.
1 وعمد المستشرقون إلى هذا البيت من الشعر، ليستدلوا بأنه يؤكد الأسباب الاقتصادية للفتوحات الإسلامية، في محاولاتهم تسقط النصوص الضعيفة، واجتزاء النصوص الثابتة، من أجل تأكيد وجهة نظرهم. انظر مثلاً:"جب": دراسات في حضارة الإسلام 27 "أرنولد" وهو ينقل عن أستاذه "كيتاني"_ الدعوة إلى الإسلام 64، "نتنج"_ العرب وانتصاراتهم 47، "برنادلويس"_ العرب والتاريخ52، بروكلمان 91، كلودكاهين1/24، "جوبينو" في الفصل السابع والأربعين من كتابه انحدار الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، "فلهوزن"_ الدولة العربية23، "فيليب حتي"_صانعوا التاريخ العربي 21، وتاريخ العرب 1/231 "إدوارد عطية"25، "جرجي زيدان"_ التمدن الإسلامي 1/66، فيليب خوري 25، ول ديورانت_ قصة الحضارة 2/305، "الفردبل"_ الفرق الإسلامية في الشمال الإفريقي 94.
2 انظر: ابن عساكر_ تاريخ دمشق 1/23، 236.
3 انظر: ما يؤكد ذلك: نص كتابه إلى خالد بن الوليد وعياض بن غنم، الطبري 3/347، ابن عساكر_ تاريخ دمشق 1/222، وكتابه إلى خالد بن سعيد بن العاص وهو بتيماء في طريق توجهه إلى الشام، الطبري3/388.
4 ابن الأثير _ الكامل في التاريخ 2/367.
ولما رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مقدار ما وصل إليه من أموال إلى المدينة، قال:
"إن جيشاً أدّى هذا لذو أمانة".
فأجابه علي رضي الله عنه:
"عففت فعفّت الرعية، ولو رتعت لرتعوا"1.
ولما انسحب المسلمون من حمص في خطة عسكرية محكمة لمواجهة القوات البيزنطية في اليرموك، أعادوا الجزية لأهل حمص، مخالفين كل ما يتوقعه الناس من جند ينسحب عن مدينة (إذ يعمل فيها الخراب والتدمير) ، فدهش أهلها، فقال لهم المسلمون:
"قد شغلنا عن نصرتكَم، والدفع عنكم، فأنتم على أمركم". فقالوا:
"لولايتكم وعَدلكم أحبّ إلينا مما كنا فيه أن من الظلم والغش".
ومنعوا الروم من دخول المدينة، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود2.
ومما يلفت النظر ويذكر بفخر لحملة الإسلام الأول من القادة والجند، قلة أموالهم في العراق وخراسان والشام ومصر بالقياس إلى غيرهم. لأنهم كانوا لا يمدون يداً إلى أموال أهل البلاد المفتوحة، ولم ينصرفوا إلى شئون الكسب والمعاش انصرافاً تاماً، فقد جاهدوا في سبيل الله، ونصحوا ونصروا بأموالهم وأنفسهم، وهم في هذا حالة فِريدة في التاريخ العالمي. وأما الغنائم فكانت حلالاً لهم، فأخذوها وأكلوا منها، وكانت أوسمة من أوسمة الجهاد في سبيل الله، فليست غاية في ذاتها. فكانت عزتهم في إسلامهم.
اقرأ ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين غادر المدينة إلى بيت المقدس ليتسلمها من الروم:
" الحمد لله الذيَ أعزنا بالإسلام، وأكرمنا بالإيمان، وحصّننا بالقرآن، ورحمنا بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فهدانا به من الضلالة وبصّرنا من الجهالة، ورفعنا به من الخمولة، وجمعنا به بعد الشتات والفرقة، وألف بين قلوبنا، ونصرنا على أعدائنا، ومكن لنا في البلاد، وجعلنا به إخواناً متحابين، فاحمدوا الله عباد الله! على هذه النعمة، وسلوه المزيد فيها والشكر عليها، فإن الله يزيد المستزيدين الراغبين ويتم نعمته على الشاكرين
…
"3.
1 ابن الأثير _ الكامل في التاريخ 2/360.
2 البلاذري _ فتوح البلدان 143، ابن عساكر 1/56.
3 انظر: الموالي _ موقف الدولة الأموية منهم_ لكاتب هذا البحث 95.