المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ المسألة الثالثة: أين - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - ٥ جـ

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌ المسألة الثالثة: أين

فإن قيل: فقد أدركنا بعض الصفات، مثل أنه سبحانه قادر عليم حكيم، فما المانع من أن يقال لمنكر البعث مثلًا: أتؤمن بالله؟ فيقول: نعم. فيقال له: كيف هو؟ أقادر أم عاجز؟

قلت: هذا السؤال لا يليق بهذا الباب، وحسبك أن تقول:"أليس بقادر"! ونحو ذلك.

والمقصود هنا إنما هو تنبيهك على أن منع الكيف لا يستلزم نفيه، وأن نفيه قد لا يستلزم نفي الصفة، فإن استلزم ذلك فهو ــ أعني نفي الكيف ــ باطل. فافهم.

[ص 48]

‌ المسألة الثالثة: أين

؟

لو أخبر إنسان بوجود موجود، فقيل له: أين هو؟ فقال: في بلد كذا، أو: في البحر، أو: في الهواء، أو: في السماء، أو: فوق السماء، أو: فوق كل شيء حيث لا يكون فوقه شيء يُحَسّ، لكان في مُتعارَفِ الناس قد أجاب عن السؤال، فقَصْرُ المكان على ما دون الأخير اصطلاح موجبٌ للمُغَالطة، فليتنبَّه له.

ثم اعلم أن النُّظَّار بعد أن اتفقوا على أن الله تبارك وتعالى موجود قائم بذاته اختلفوا، فقال أكثرهم: ليس هو في مكان، فلا هو فوق ولا تحت، ولا خارج العالم ولا داخله.

وقال آخرون: إنه لا يعقل موجود بهذه الصفة، بل ما كان كذلك

(1)

فهو

(1)

الأصل: "ذلك".

ص: 91

عدم مَحْض، حتى قال المَعَرِّي

(1)

:

قالوا: لنا خالقٌ قديمٌ

قلنا: صدقتم كذا نقول

(2)

[زعمتموه بلا مكانٍ

ولا زمانٍ ألا فقولوا

هذا كلامٌ له خَبيءٌ

معناه: ليست لنا عقولُ]

فأجاب الأولون: بأن هذا وهمٌ اقتضاه اعتماد الإنسان على حِسّه وقياسه عليه، ولم يحس بموجود ليس في مكان، فلذلك يأبى أن يكون موجود إلا في مكان.

فقال الآخرون: ليس هذا بوهم، بل هو حقيقة بينة بنفسها، والقول بأنها وهم سَفْسَطة محضة

(3)

.

فقال الأولون: إن الإنسان إذا ألِفَ النظرَ في المعقولات وتمكَّن فيها اتضح له أن ذلك وهم.

قال الآخرون: يُردُّ على هذا بوجوه:

الأول: أننا نجد مَن خاض في المعقولات وهو موافقٌ لنا.

الثاني: أننا قد نظرنا في شيء من معقولكم، فوجدنا عامته شبهات ملفقة ومغالطات متعمقة، وقد اعترف بذلك جماعة من أكابركم، كما تقدم عن إمام الحرمين والرازي والغزالي

(4)

.

(1)

في "اللزوميات": (2/ 189). وصدر البيت الأول فيه: "قلتم: لنا خالق حكيم".

(2)

ترك المصنف بعد هذا البيت سطرين للبيتين الآتيين فأكملناهما من المصدر.

(3)

السفسطة: قياس مركب من الوهميات، الغرض منه تغليط الخصم وإسكاته. انظر "التعريفات":(ص 118)، و"التوقيف على مهمات التعاريف":(ص 407).

(4)

انظر (ص 32 - 36).

ص: 92

الثالث: أننا وجدنا أكثر ما عندكم تقليد كبرائكم، وقد اعترف بذلك الغزالي إذ قال

(1)

: [بل اعتقاد أكثر المتكلمين في نُصرة مذاهبهم بطريق الأدلة، فإنهم قبلوا المذهب والدليل جميعًا بحُسْن الظن في الصِّبا، فوقع عليه نشؤهم].

فلعل ما يعرض للمتعمِّق منكم من السكون إلى موجود ليس في مكان إنما هو أثر من آثار التقليد والشبهات، والمُحَال إذا كثر سماعه واعتياد التصديق به تقليدًا ربما تألفه النفس، فترى كأنها مصدقة به مطمئنة إليه.

الرابع: أنكم توافقون أن معرفة الله عز وجل واجبة على كل عاقل، ولو كانت المعرفة لا تحصل إلا بالتعمُّق في المعقولات لكان غالب الناس غير متمكنين منها.

فإن قلتم: قد قال قوم بأنه يكفي العامة التقليد.

قلنا لكم: قد اختلف عليهم الناس، فمَنْ يقلدون؟

على أننا قد فتَّشنا كثيرًا من المقلدين الذين يُظْهِرون القول بقولكم، فوجدناهم إنما يقولون ما لا يفهمون، أو ما لا يعتقدون، فإذا حوققوا تبين أنهم معنا في ذلك القول، غاية الأمر أنهم قد لا يجزمون جَزْمنا؛ لتوهمهم أن ذلك ربما يفقدهم أعز شيء عليهم وهو الدين.

(1)

ترك المؤلف مكان القول بياضًا، فأكملناه بما بين المعكوفين؛ فالظاهر أن هذا هو النص الذي أراد المؤلف نقله، بدليل أنه نقله في "التنكيل ــ القائد":(2/ 226).

وهذا القول في "المستصفى": (1/ 44)، وقد كرره الغزالي بنحوه في عدد من كتبه، انظر "المنقذ من الضلال":(7/ 33 - ضمن رسائل الغزالي)، و"إلجام العوام عن علم الكلام":(4/ 81 ضمن رسائل الغزالي).

ص: 93

الخامس: أن الأنبياء إنما بُعِثوا ليدعوا الناس إلى معرفة ربهم وطاعته، ولم نَعْلَمهم دعوا الناس إلى التصديق بأنه ليس في مكان، بل الأمر بعكس ذلك، كما يأتي.

[ص 49] قال الأولون:

أما الوجه الأول فلسنا ندعي أن كل من خاض في المعقولات تبين له الأمر، وإنما ادعينا أن من شأنه

(1)

ذلك، وقد يتخلف في بعض الأفراد، هذا إن سُلِّم أن الأفراد الذين وافقوكم

(2)

هم ممن تمكن في المعقولات.

وأما الثاني فلسنا ننكر أن هناك شبهات ومغالطات، ولكننا نقول: إن النظر في المعقولات من شأنه أن يوصل إلى حل تلك الشبه، فغايتنا من النظر هو الوصول إلى الحقيقة وحل الشبه، فنذكرها لنحلها، ولا ندعي العصمة في كل شيء، فقد نخطئ، ولكن هذه المسألة مما اتضح لنا اتضاحًا لا يحتمل الخطأ.

وما ذكرتم من حال إمام الحرمين والرازي والغزالي فلم تثبتوا أنهم رجعوا إلى قولكم في هذه المسألة، بل لعل المنقول خلاف ذلك. وهَبْهُم رجعوا إلى قولكم، فذلك لا يشكِّكنا فيما قام لدينا من الحجة، ولا يكون حجة لكم.

وأما الثالث فلا ننكر أن منا من يقلد، ولكننا نعلم في كثير مما نقوله أننا لسنا مقلدين فيه، ومن جملته هذه المسألة.

(1)

غير بينة في الأصل، ولعلها ما أثبت.

(2)

رسمها في الأصل: "وافقوتم"، ولعل الصواب ما أثبت.

ص: 94

وأما أنّ النفس قد تسكن إلى المحال لكثرة سماعه واعتياد التصديق به تقليدًا، فهذا لا ننكره، ولكننا نعلم أن تصديقنا بهذه المسألة ليس من هذا القبيل؛ لقيام الحجة عليه

(1)

.

فقاطعهم الآخرون قائلين: جوابكم عن هذه الثلاثة الأوجه مداره على دعوى قيام الحجة القطعية عندكم، فلخِّصوا لنا أوضح حُججكم في ذلك لننظر فيها، ثم ننظر في جوابكم عن الوجهين الأخيرين

(2)

.

قال الأولون:

الحجة الأولى: أنه قد ثبت بالبراهين القطعية أن الرب واجب الوجود، وأن المكان مخلوق مُحدَث، فقد كان سبحانه موجودًا قبل وجود المكان، فثبت أنه كان موجودًا لا في مكان.

الحجة الثانية: ما لا يتصور وجوده إلا في مكان فهو محتاج في وجوده إلى وجود المكان، وما كان محتاجًا إلى غيره في وجوده، فوجوده متأخر عن وجود ذلك الغير.

الحجة الثالثة: قد قامت الحجة على أن الرب قائم بذاته، فليس بعَرَض، فلو كان في مكان لكان جسمًا، والجسم إما حقير جدًّا، وهو الجزء المتناهي في الصغر الذي يسمى: الجوهر الفرد، وإما كبير، والجسم الكبير مركَّب من أجزاء، والمركَّب محتاج إلى جزئه، وهو غيره، والمحتاج إلى غيره ممكن لا واجب.

(1)

"عليه" ضرب المؤلف عليها سهوًا مع الكلام الذي كتبه أولًا ثم أخّره إلى موضع آخر.

(2)

سيأتي الجواب عن الوجهين الأخيرين (ص 104 - 105).

ص: 95

وشرحه بعضهم: بأن المركب ذو أجزاء، وجزؤه ليس بمعدوم، وإلا عدم الكل، ولا واجبًا وإلا تعدد الواجب، فتعين أنه ممكن

إلى آخر ما في حواشي [ص 50]"شرح المواقف"

(1)

.

وهناك حجج أخرى يدق فيها الكلام، ويصعب المرام، ويكثر الخصام.

قال الآخرون:

أما الحجة الأولى فقد نقلتم إطباق المتكلمين وبعض قدماء الفلاسفة أن المكان تعيُّنه

(2)

موهوم

(3)

، وحقيقته أنه الفضاء أو الخلاء، وهو أمر عَدَمي، وأدلتهم بغاية القوة، ودعوى مخالفيهم الضرورة مردود، بل لو ادعى الضرورة في أن هذا الفضاء بعد فرض نزع ما يملؤه من هواء وغيره هو في نفسه عدم محض لكان أقرب إلى فِطَر الناس.

وما احتجوا به على وجوده من أنه يشار إليه، قد أُجِيب عنه بأنه إشارة تبعية، كما في حواشي "شرح المواقف"

(4)

وغيرها.

ثم قد اتفقوا على أنه ليس خارج العالم أمر وجودي، مع أنه يمكن الإشارة، إما من هنا، فنقول: النقطة التي خارج العالم من هذه الجهة، والأخرى التي من هذه الجهة، وإما على فرض أن شخصًا على طرف العالم، فيشير هنا وهناك.

وبقية الأدلة قد أجيب عنها، كما في حواشي "شرح المواقف" وغيره.

(1)

(8/ 21).

(2)

غير محررة، وتحتمل:"تعيينه".

(3)

انظر "حواشي شرح المواقف": (5/ 121، 138 - 139).

(4)

(5/ 115).

ص: 96

وقد قدمت فصلًا في ذلك

(1)

.

ومن أنصف علم أن الحجج المُثْبِتة أنه تبارك وتعالى في جهة أقوى بدرجات مما احتجَّ به على أن الفضاء شيء وجوديّ، هذا إن لم يسلم أن تلك قطعية.

وإذا ثبت أو جاز أن يكون حقيقة الفضاء أمر عدمي

(2)

سقطت حجتكم الأولى، وكذلك الثانية، فإنه إذا كان الفضاء أمرًا عدميًّا لم يتصور الحاجة إليه في الوجود إلا بمعنى الحاجة إلى أن لا يرتفع بالكلية، وارتفاعه بالكلية محال، وارتفاعه في الجملة واجبٌ، وذاك وجود الرب عز وجل، وجائزٌ وذاك وجود غيره تعالى، والجائز محتاج في وجوده إلى الواجب.

فغاية ما تلزمونا به احتياج الرب سبحانه في وجوده إلى عدمٍ ما، يستحيل وجوده بدون إيجاد الرب سبحانه له، ولا حرج في هذا، بل ولا في بعض ما هو أشد منه، كأن يقال: إن الرب محتاج في ربوبيته إلى عدم وجود ربّ آخر يُنازعه.

فإن قلتم: فيلزم أن يكون عدم وجود الجائزات متقدمًا على وجود الرب.

قلنا: بل يكفي المعية، والربّ أزلي، وذاك العدم أزلي

(3)

.

(1)

لم نجد هذا الفصل المشار إليه فيما وقفنا عليه من هذه الرسالة.

(2)

كذا في الأصل بالرفع في اللفظين، وحقهما النصب.

(3)

من قوله: "كأن يقال

" إلى هنا تتمة اللحق الطويل الذي بدأ في (الورقة 50 ب)، لكنه جاء في (الورقة 51 ب).

ص: 97

وقد رأيت من يقول: هب أنّ الفضاء أمر وجودي، فقد قال بعض أكابر القائلين بوجوده: إنه لا يتصور ارتفاعه، فهو عنده واجب الوجود، فلماذا لا يلتزم مثبتو الجهة لله عز وجل هذا القول على فرض أن الفضاء أمر وجودي؟

فقلت له: في هذا إثباتُ قديمٍ مع الله عز وجل.

فقال: وما الذي يبطله عقلًا؟

فذكرت له ما حضرني.

فقال: وما الذي يبطله نقلًا؟

قلت: يقال لك: إنه قدح في ربوبية الله عز وجل وشرك به.

فقال: لا أفهم كونه قدحًا في ربوبيته، إنما القدح القول بأن العالم غنيٌّ عن تدبير الله عز وجل، فأما القول بأن هذا الفضاء قديم، وكل ما فيه من الممكنات فهو خلق الله عز وجل وتدبيره، فلا أراه قدحًا في الربوبية.

وأما الشرك فالذي [ص 51] أفهم أنه: إثبات رب مع الله عز وجل، أو معبود معه، أو يقول بنحو قول النصارى: إن الرب ثلاثة أقانيم، انفصل منها أقنوم، فكان منه عيسى، ثم انفصل الآخر، فنزل على عيسى.

ومن يقول بقدم الفضاء لا يقول شيئًا من ذلك، فإنه يعرف أنه لا حياة للفضاء، ولا قدرة، ولا إرادة، ولا علم، ولا غير ذلك من الصفات التي يدور عليها أمر الربوبية والألوهية، ولا يقول: إنه أقنوم في الرب عز وجل.

فذكرتُ له ما حضرني، ثم قلت: ويقال لك: هذا خرق للإجماع، فإن المسلمين أجمعوا على أن ما سوى الله حادث.

فقال: هذا قول إجمالي، فلعلّ مِن المُجْمِعين من كان يرى أن الفضاء

ص: 98

أمر عدمي، كما هو المنقول عن إطباق المتكلمين، ولعل منهم من لم يخطر بباله؛ لأننا إذا كنا في حجرة ثم سألنا بعض العقلاء الذين معنا: أي شيء موجود في هذه الحجرة؟ لذهب يعدد لنا الأجسام التي فيها، فإن دقَّق عدَّ فيها الهواء، فأما أن يعد الفضاء فلا، إلا أن يكون قد سمع قول من يقول: إن الفضاء أمر وجودي، فقلَّده.

فذكرتُ له ما حضرني، ثم قلت: ويقال لك: هو مخالف للنصوص، كقول الله عز وجل:{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] ونحوها.

فقال: أقول: إن هذا عام يخصه العقل، فإن العقل العادي إما أن لا يعد الفضاء شيئًا موجودًا، كما تقدم في المثال آنفًا، وإما أن يعلم أنه لا يتصور عدمه، وهذا التأويل أقرب بألف درجة من تأويلات من يقول: إن الله عز وجل ليس في جهة، مع أني أدعي إجماع السلف على القول بالجهة، وأذكر من نصوص الكتاب والسنة في إثباتها أضعاف أضعاف ما يمكن أن تذكره في أنه خالق كل شيء، وأن كل ما سواه حادث.

وهذا الإجماع والنصوص نص في محل النزاع ــ وهو ثبوت الجهة ــ فأما ذاك الإجماع وتلك النصوص فإنما يمكن تناولها للفضاء على وجه العموم.

فقلت له: أتعتقد هذا؟

قال: لا، ولكني أراه أقرب إلى العقل والدين من القول بأن الله موجود لا في جهة، وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه، وأنه خلق العالم لا في ذاته ولا خارجًا عنه.

ص: 99

قال: وكذلك يقال في جواب حجتهم الثانية.

فيسألون على فرض صحة قولهم: إن الفضاء موجود محدَث: هل كان يمكن أن يحدثه الله عز وجل ويُحْدِث فيه جسمًا في وقت واحد بدون تقدم أحدهما على الآخر؟

فإن لم يكابروا قالوا: نعم.

وبذلك يعلم أنه لا يلزم التأخر، بل تجوز المعية.

فإذا جاز أن يكون المكان قديمًا لم يمتنع أن يكون المتمكِّن قديمًا، ثم يقال [ص 52] بالقدم فيما قام الدليلُ على قدمه، وبالحدوث فيما قام الدليل على حدوثه.

فكان مما قلت له: وكيف يكون الرب محتاجًا في وجوده إلى غيره؟ !

فقال: هذه كلمة مشنعة بالإيهام، فإن الذي يتبادر من الحاجة في الوجود حاجة الحادث إلى محدثه، أو المعلول إلى علته، أو إلى جزئها، وليس ما هنا كذلك.

قلت: فيقال لك: هو قريب من ذلك، وهو أنه احتياج الموجود إلى شرط وجوده.

فقال: إذا لوحظ القدم في الجانبين وأن الرب حيٌّ قديرٌ مريدٌ عليمٌ حكيمٌ إلى غير ذلك من صفات العظمة والكبرياء، وأنَّ الفضاء خالٍ من ذلك كله هان الأمر.

فإن بقيَتْ هناك شَناعة فيجاب عنها بنحو ما يجيبون عن قولهم: إن المحال لا يدخل تحت القدرة، كما يقول القائلون بحدوث المكان: إنه

ص: 100

شرط لوجود الأجسام، فلا يقدر الباري عز وجل أن يعدمه مع بقاء الأجسام.

وبالجملة فالقول بما يستلزم هذا القدر من الاحتياج خير بألف درجة بل بما لا يُحْصَى من القول بما يستلزم عدم وجود الرب.

فذكرت له ما حضرني، وكان من آخر ما قلت له: إن كنت مصممًا على أنه لا يمكن الوجود إلا في جهة، فخيرٌ لك أن تعتمد على أن الفضاء أمر عدمي، وتقف عنده.

قالوا: وأما حجتكم الثالثة فإننا لا نطلق على الرب عز وجل أنه جسم، فإن عنيتم بالجسم ما له جهة، وهو قائم بذاته، فإننا نلتزم ذلك، ولا نقول: إنه جسم، ونقول: إن ذات الله تبارك وتعالى عظيمة. ولا نحدد قولكم: "مركب من أجزاء".

نقول: المركب ما ركبه غيره، والرب عز وجل قديم تعالى الله عن ذلك، والأجزاء مأخوذة من الجزء، وهو القسم، وذات الرب عز وجل لا تتجزأ، وكذلك الأبعاض والأقسام والأعضاء، كل هذا يتضمن التفصيل والتفريق، إما بالفعل، وإما بالإمكان، والباري عز وجل يتعالى عن ذلك.

فإن قلتم: إننا نطلق المركب وذا الأجزاء على ما هو أعم مما ذكرتم، فالمقصود أن ذات ربكم بحيث يمكن لمن رآه أن يشير إلى شيء منها دون شيء، وما كان كذلك فهو في اصطلاحنا مركب ذو أجزاء.

قلنا: يمكن أن [ص 53] نلتزم ما ذكرتم في ذاته تعالى، ولا نقول: مركب، ولا ذو أجزاء، تعالى الله عن ذلك.

فإن قلتم: فإن قولنا: المركب محتاج إلى جزئه، يجري فيما ذكر،

ص: 101

فالذات محتاجة إلى الشيء المفروض الإشارة إليه منها، وذاك الشيء ليس هو إياها فهو غيرها، فالذات محتاجة إلى غيرها.

قلنا: قولكم: "إلى غيرها .. " وهم، فإن المفهوم من قولكم:"غيرها" أنه ليس شيئًا منها، فإنك لو قلت: في يدي شيء غير هذا القلم، ثم فسرت ذلك بشيء من القلم لأنكر عليك.

وفي "شرح المقاصد"(2/ 76) في تفسير المتغايرين: "وتفسيرهما

(1)

بالشيئين أو الموجودَين أو الاثنين فاسد

قال صاحب "التبصرة": وكذلك تفسيرهما بالشيئين من حيث إن أحدهما ليس هو الآخر يصدق على الكل مع الجزء، كالعشرة مع الواحد، وزيد مع رأسه، مع أنه لم يقل أحد: يكون الجزء غير الكل إلا جعفر بن حارث من المعتزلة، وعُدّ ذلك من جهالاته؛ لأن العشرة اسم للمجموع، يتناول كلّ فرد مع أغياره، فلو كان الواحد غير العشرة لصار غير نفسه؛ لأنه من العشرة ولن تكون العشرة بدونه".

وإذا كان هذا في الواحد من العشرة، فكيف برأس زيد مثلًا؟ ! فكيف بشيء من ذات الباري تبارك وتعالى، والانقسام فيها مستحيل؟ !

فإن قلتم: دعوا قولنا: "غيرها"، ونقول: إن الذات من حيث هي ذات تامة محتاجة في تمامها إلى الشيء المفروض الإشارة إليه منها.

قلنا: حاجة الذات إلى شيء منها هو في معنى حاجتها إلى نفسها، وليس في هذا ما ينافي وجوب الوجود.

(1)

من قوله: "وبالجملة فالقول

" إلى هنا ضعيف في التصوير فلم تمكن قراءته إلا بصعوبة بالغة.

ص: 102

بقي قول ذاك المتحذلق ــ ما معناه ــ: ذاك الشيء إما واجب الوجود، فيلزم تعدد الواجب، وإما ممكن، فأشياء الذات ممكنة، فهي ممكنة.

وجوابه: أن ذات الرب عز وجل يستحيل عليها الانقسام، فالذات واجبة، وما هو من الواجب فهو واجب.

وهذا التعدد الموهوم ليس هو التعدد المنافي للتوحيد، فإن الذات واحدة، وذلك أن قولنا في الشيء المفروض الإشارة إليه: إنه واجب، إنما معناه أنه من ذات واجبة، فثبت له حكم الوجوب.

وقد يمكن تقريب هذا بأن يقال: زيد مولود، ورأسه منه، فالرأس مولود، وهكذا قلبُه وكبده، فهل يلزم من هذا أن يكون زيد عدة مولودين؟

هذا، ونستغفر الله ونتوب إليه مما اضطررنا إليه في هذا الفصل مما لا يخلو عن جرأة على الله تعالى وتهجُّم على ما لا ينبغي، وقد كان يكفينا وإياكم أن نعرف أنه تبارك وتعالى موجود حيٌّ قديرٌ مريدٌ عليمٌ حكيمٌ بما تقدم من الأدلة، ثم نعرف النبوة، ثم نتبع كتاب الله وسنة رسوله، فإنه [ص 54] لا أحد أعرف بالله من نفسه، ثم من رسله.

قال الأولون: ما نراكم أنصفتم في اختيار قول من قال: إن المكان أمرٌ عدمي، ولا تدبر

(1)

المجوِّز أن المكان موجود واجب الوجود

(2)

والربّ محتاج في وجوده إليه ما يَرِد عليه من اللوازم الشنيعة، ولا أنصفتم في قولكم: إن وجوب الشيء المفروض الإشارة إليه لا يستلزم تعدد الواجب.

(1)

كذا في الأصل. والظاهر أنها معطوفة على قوله: "ما نراكم أنصفتم".

(2)

الأصل: "الجود"، سبق قلم.

ص: 103

ولكننا ندع هذا، ونتمم الجواب عن بقية الأوجه التي ذكرتم.

أما الوجه الرابع

(1)

فقد اختلف أصحابنا على أقوال:

الأول: أن العامي يكفيه التقليد بأن الله عز وجل ليس في مكان.

الثاني: أنه يكفيه أن يبقى خالي الذهن في هذه المسألة.

الثالث: بل ولا يضره التردد فيها، مع نفي اللوازم الموجبة للكفر.

الرابع: بل ولا يضره اعتقاد المكان، مع نفي اللوازم أيضًا.

الخامس: بل ولا يضره أن يعتقد الجسمية على أنه جسم لا كالأجسام، بل قال بعض المحققين

(2)

: ينبغي إقرار العوامِّ على ذلك؛ لئلا يتشككوا في وجود الرب عز وجل، بل قيل: يحرم التعرض لهم، بل قيل: إن التعرض لهم كفر.

وأما الوجه الخامس فإن أصحابنا يفرقون بين الخاصة والعامة، فيقولون: أما الخاصة فقد دعاهم الرسل إلى التدبر والنظر، وبينوا أن الله هو الحق وما سواه باطل، وأنه الأول والآخر، وأنه خالق كل شيء، وأنه ليس كمثله شيء، وأنه لم يكن له كفؤًا أحد، وأنه القدوس، وهو المنزَّه عن كل نقص، إلى غير ذلك، وهذه إذا

(3)

تدبرها الخاصة وأعطوها حقها لم يخْفَ عليهم الحق.

وأما العامة فاختلفوا فيهم على الأقوال المتقدمة.

(1)

تقدم الجواب على الثلاثة الأوجه الأولى (ص 94 - 96).

(2)

لعله الغزالي، قارن بكتابه "الاقتصاد في الاعتقاد"(ص 8)، و"إلجام العوام عن علم الكلام":(4/ 82 - 83 ضمن رسائل الغزالي).

(3)

الأصل: "وهذا إذ".

ص: 104

فالقائل إنه يكفيهم التقليد يقول: إن الشارع أمرهم بتقليد الخاصة، واكتفى منهم بذلك، وقس عليه.

وقولكم: "بل الأمر بعكس ذلك" تشيرون به إلى ما جاء في الكتاب والسنة مما يوهم الجهة.

والجواب: أنها محمولة على المجاز، وقد بيَّن أصحابنا ذلك في كتبهم، فأما الخاصة فإن ذلك لا يشتبه عليهم؛ لما لديهم من القرائن العقلية والنقلية، كما تقدم.

وأما العامة فعلى ما تقدم، فلنبنِ

(1)

على القول الرابع أو الخامس، فيسقط اعتراضكم ألبتة.

قال السعد التفتازاني في "شرح المقاصد"

(2)

: ["فإن قيل: إذا كان الدين الحق نفي الحيِّز والجهة، فما بال الكتب السماوية والأحاديث النبوية مُشعرة في مواضع لا تُحصى بثبوت ذلك، من غير أن يقع في موضع منها تصريحٌ بنفي ذلك؟

أجيب: بأنه لما كان التنزيه عن الجهة مما تقصر عنه عقول العامة حتى تكاد تجزم بنفي ما ليس في الجهة، كان الأنسب في خطاباتهم، والأقرب إلى اصطلاحهم، والأليق بدعوتهم إلى الحق ما يكون ظاهرًا في التشبيه وكونِ الصانع في أشرف الجهات، مع تنبيهات دقيقة على التنزيه المطلق عما هو من سمات الحدوث

"].

قال الآخرون: أما القول بكفاية التقليد فقد فتشنا فوجدنا عامة المسلمين

(1)

غير محررة في الأصل.

(2)

ترك المؤلف لقول السعد خمسة أسطر، فلعله ما أكملناه من "شرح المقاصد":(4/ 50 - 51).

ص: 105

يعتقدون أن الله فوق عرشه بذاته، إلا عددًا قليلًا جدًّا منهم، فإنهم يُظْهِرون القول بقولكم، فإذا فُتِّشوا وُجِدوا مع العامة، أو متشكِّكين، كما تقدم.

[ص 55] فعامة المسلمين إلا أقل قليل يكونون عند من يقول القول الأول كفارًا أو فساقًا، ويلزمهم عنده الخوض في المعقولات حتى يصدِّقوا بأن الله عز وجل ليس في مكان، وتكليفهم الخوض في المعقولات باطلٌ إجماعًا.

وأما القول الثاني فهو أشد بطلانًا، فإنَّ في فِطَر الناس اعتقادَ أن ربهم في جهة العلو، وقد أكد الشرع ذلك في نفوسهم بشرع رفع الأيدي وغيره.

فأما من كان يفهم العربية في الجملة فشأنه أوضح، فليس في الخارج من هو خالي الذهن في هذه المسألة، بل الجمهور على اعتقاد جهة العلو، وقليل جدًّا أكثرهم مُتحيِّرون، وأقلهم مقلدون لكم تقليدًا غير جازم، ولم يبق إلا أفراد يجزمون بقولكم بألسنتهم، والله أعلم بقلوبهم.

وأما القول الثالث فقد تقدم أن المترددين قليل جدًّا، وهم مع ترددهم في الجهة مترددون في اللوازم التي تعدونها كفرًا، ويمكننا أن نقول: إن ترددهم في الجهة قد يستلزم ترددهم في اعتقاد وجود الرب عز وجل.

وأما القول الرابع فقد حاول صاحبه السلامة، لكن اشتراطه نفي اللوازم إن كان يعد منها ما تعبرون عنه بقولكم:"جسم لا كالأجسام" فلم يصنع شيئًا.

وأما القول الخامس فقد قارب صاحبه السلامة، وسيظهر حاله في الكلام على الوجه الخامس.

[ص 56] قالوا: أما جوابكم عن الوجه الخامس فإننا نستعرض ما ذكرتموه من الأدلة الشرعية هذه.

ص: 106

فقولكم: إن الرسل دعوا الناس إلى التدبر والنظر، فنسألكم: هل على الرسول أن يربي أصحابه على تفصيل ذلك، ثم على أصحابه أن يربوا تابعيهم على ذلك، ثم على تابعيهم في حق من بعدهم؟

فإن قلتم: لا، أبطلتم.

وإن قلتم: نعم، قلنا: فهذه السنة [ص 56] وأخبار السلف بين أظهركم، فانظروا هل تجدون في شيء منها نظرًا مثل نظركم، أو تعمقًا مثل تعمقكم، أو تجدون فيها التصريح بما تزعمون.

وأما بيانهم أن الله هو الحق وما سواه باطل، وأنه الأول والآخر، وأنه خالق كل شيء، فهذا كله حق، ولكننا نسألكم: هل فسروه كما تفسرون؟ وهل نبهوا الناس على ما تزعمون من الدقائق التي تزعمون أنه لا تتم تلك الحقائق بدونها، بل لا تتحقق إلا بها؟

وأما بيانهم أن الربّ عز وجل ليس كمثله شيء فحق، ولكننا نسألكم: هل وكَلَ الرسولُ إلى العرب أن تفهم تلك الجملة كما تفهم كلامها؟

فإن قلتم: نعم.

[ص 57]

(1)

قلنا: فماذا تفهم العرب بمقتضى لغتها من قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]؟

(2)

.

قالوا: اذكروا ما عندكم في ذلك.

(1)

ضرب المؤلف على بقية (ص 56 - 57 أ) عدا السطر الأول من (ص 57 أ).

(2)

انظر كلام المصنف على هذه الآية ومعناها في "التنكيل ــ القائد": (2/ 424 فما بعدها).

ص: 107