الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأصل الثاني
(1)
: أنه عز وجل أَحَدٌ
صرَّح المتكلمون ــ كما بينته في رسالة "العبادة"
(2)
ــ بأنه لم يخالف في هذا أحد من الناس، وإنما يقرب من الخلاف فيه فِرَق:
الأولى: غلاة المجوس، زعموا أن الشيطان قديم، وأن له قدرة عظيمة، وأنها لا تزال المغالبة بين الله عز وجل وبينه حتى يُغلَب الشيطان أخيرًا، ويلقيه الله عز وجل في جهنم، هو ومن تَبِعه.
والذي أوقعهم في هذا القول هو النظر بعقولهم، غير مستضيئين بنور الأنبياء، فرأوا أن الله عز وجل لا يمكن أن يكون منه شرّ، ثم رأوا في العالم شرورًا، فقال بعضهم: الشرور من إبليس. فقال آخرون: يعود الإشكال في خَلْق الله تعالى لإبليس الشرير. وهكذا أخذوا يفرضون وينقضون، حتى قال بعضهم: لا مَخْلَص إلا بالقول بأن إبليس قديم، لم يخلقه الله عز وجل.
وهذا الفرض يكفي في بطلانه بقاء العالم على ما نشاهده من النظام، كما يشير إليه قوله عز وجل:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
فأما ما جهلوه من تفسير وقوع الشر، فإن أمكَن توجيهٌ يقبله العقل فذاك، وإلا وجبَ التوقفُ والعلمُ بأن لذلك [ص 40] تأويلًا صحيحًا وإن لم نعلمه.
الفرقة الثانية: غُلاة النصارى في قولهم: إن الله ربٌّ واحد حقيقة، وهو مع ذلك ثلاثة أقانيم: الأب والابن والروح القدس
(3)
.
(1)
تقدم الأصل الأول (ص 47).
(2)
انظر (ص 332 - 337).
(3)
انظر "الملل والنحل": (2/ 245)، و"الجواب الصحيح":(3/ 183 وما بعدها).
ولهم في ذلك خَبْطٌ طويل، قد بين أهل العلم بطلانه، والنصارى أنفسهم يقولون: إن قولهم مما يبطله العقل.
الفرقة الثالثة: أتباع أرسطو، يقولون: إن واجب الوجود واحد، وسائر الموجودات ممكنة، ثم يتخَرَّصون بأن موجودًا ممكنًا صدر عن الله تعالى بطريق الإيجاب، فهو لم يزل معه، كما يصدر الشعاع عن الشمس، ولم يزل معها.
ثم سموا هذا: عقلًا أول
(1)
، وخَرَصوا أنه صدر عن هذا الثاني عقل ثانٍ، إلى عشرة عقول.
ويزعمون أن كلًا من العقول رب لما دونه، وهم أنفسهم يعترفون بأن هذا تخرُّص، وبنوه على أصول واضحة البطلان، كقولهم: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وقولهم: إن الصدور عن واجب الوجود إنما كان بالإيجاب، وقولهم: إن العالم قديم، وغير ذلك مما هو بكلام المُبَرْسَمِين
(2)
أشبه منه بكلام العقلاء.
وقد علمت أن الأدلة التي تقدم بيانها أوصلتك إلى العلم بأن للعالم ربًّا حيًّا عليمًا قديرًا حكيمًا، فإن فُرِض أن المدبِّر الذي تشاهد آثار تدبيره مربوب، فربُّه هو الرب، ولا بد أن يكون أكمل منه في الحياة والعلم والقدرة والحكمة.
(1)
كذا في الأصل.
(2)
المبرسَم من أصيب بداء الهذيان. والبِرْسام: علة يُهْذَى فيها. فارسي معرّب "بَر": الصدرُ، "سام": الورم أو المرض. انظر "التاج": (16/ 48)، و"قصد السبيل":(1/ 270).
وهكذا هذا الثاني إن فُرِض أنه مربوبٌ أيضًا.
إذن فالربُّ الحقيقي هو الذي ليس فوقه رب، فهو الله عز وجل، فإن فُرِض أن مِن دونه مدبرًا، فلا يخلو أن يكون عمله إنما هو تنفيذ ما أمره الله عز وجل به، أو يتصرف بهواه وإرادته.
إن كان الأول فهو عبد لا رب، وإن كان الثاني فلا يخلو أن يكون تدبيره بغير إذن الله عز وجل أو بإذنه. الأولُ مُحالٌ كما تقدم في الكلام على إبليس
(1)
، وأما الثاني فلا يخلو أن يكون أَذِنَ الله عز وجل له لعلمه أنه لا يفعل إلا ما يحبه الله ويرضاه، أو أَذِنَ له مع علمه بأنه يفعل ما لا يحبه الله ولا يرضاه.
فالأول عبد لا رب، وأما الثاني فلا يخلو أن يكون الله عز وجل مراقبًا له، فإذا أراد أن يفعل ما لا يحبه الله عز وجل منعه وحالَ بينه وبين الفعل، أو أن يكون مهملًا له، فالأول عبد لا رب، وأما الثاني فلا يخلو أن يكون تصرفه المُخَلّى بينه وبينه واسعًا بما فيه تدبير الأمور [ص 41] العظيمة، كتسيير الشمس والقمر، وإرسال الرياح، وغير ذلك من الأمور العظيمة، أو يكون جزئيًّا لا يؤدي إلى فساد النظام المُشاهد.
فالأول باطل لما مرَّ في الكلام على إبليس
(2)
، وأما الثاني فلا يخلو أن يكون الله عز وجل أذن له لغير حكمة أو لحكمة.
الأول باطل؛ إذ قد ثبت بالأدلة التي ثبت بها وجود الرب عز وجل أنه
(1)
(ص 79).
(2)
الموضع نفسه.
حكيم، وسيأتي زيادة إيضاح لذلك إن شاء الله تعالى، وأما الثاني فما تلك الحكمة؟ أحاجة الله عز وجل إليه، أم خوفه منه؟ كلاهما باطل.
أم محبته له؟ هذا أيضًا باطل؛ لأن المفروض أنه يفعل ما لا يحبه الله عز وجل ولا يرضاه، فكيف يحبه ويمكِّنه من فعل ما لا يحبه ولا يرضاه، ومقتضى محبة الله عز وجل أن يَحُول بين الذين يحبهم وبين فعل ما لا يحبه؟! أم تشريفه وتكريمه؟ هذا أيضًا باطل؛ فإن شرف المربوب وكرامته إنما هو في طاعة ربه، فتركه يفعل ما لا يرضي ربَّه ليس بتشريف، بل قد يكون إهانة له.
أم الابتلاء والاختبار، كما في تمكين الله عز وجل الإنس والجن؟ فيلزمه نزول درجته إلى درجة الإنس والجن، وسيأتي استقصاء البحث في الكلام على توحيد الألوهية، إن شاء الله تعالى
(1)
.
[ص 43] فصل
قد يقال: وحدانية الرب عز وجل وإن اتفق الناس عليها ــ على ما مضى ــ فقد يُجَوِّز الوهمُ وجودَ ربين أو أكثر.
ثم إمَّا أن يُقال: إن هذا العالم الذي نشاهده مختصٌّ بأحدهما وللآخر عالم آخر، وإما أن يقال: إنهما ربان لهذا العالم ولكنهما لكمال علمهما وحكمتهما لا يمكن أن يختلفا حتى يلزم من اختلافهما فساد السموات والأرض.
(1)
كتب المصنف بعد هذا الكلام في رأس (الورقة 41 ب) تعليقًا نصه: (هذا مع الورقة الآتية (ص 41 - 42) يؤخّر إلى بحث توحيد الألوهية إن شاء الله تعالى). فأخرناه إلى آخر الكتاب لأن المؤلف لم يكتب المبحث المشار إليه.
والجواب: أن الفلاسفة والمتكلمين قد ذكروا عدة براهين لإبطال هذا الفرض، ولكن الكلامَ فيها دقيق، ومبنيٌّ على أصولهم، فليراجعها من شاء في كتبهم.
والذي يليق برسالتنا هذه أننا سنقيم الدليل على صحة النبوة، وعلى نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبذلك تثبت نبوة نوح وإبراهيم، وموسى وعيسى، وغيرهم ممن صرح القرآن بنبوَّته.
وإذا ثبت ذلك فمعنى نبوّتهم أنهم مرسلون من جانب الربوبية؛ ليكونوا سفراء يبلغوا الناس عن ذلك الجانب، وقد عُلِم أن هؤلاء الأنبياء بلَّغوا الناس أنه لا يوجد إلا ربٌّ واحد، فالآمر لهم بذلك المؤيد لهم بالمعجزات إن كان أحد الربين المفروضين فقد كذب، وأمر بالكذب، واهتضم حق صاحبه، ومثل هذا لا يجوز على الرب.
فإن أبيت إلا افتراض جوازه، فلا بدَّ من التنازع بين الربين، وذلك باطل كما تقدم في الكلام على إبليس
(1)
.
وإن فُرِض أن الأنبياء مرسلون من الربين معًا فكيف يجوز على الرَّبين أن يأمراهم بالكذب والزور، ونَفْي وجود أحدهما، والإعراض عنه؟ ! وتصوُّر هذا كافٍ في العلم ببطلانه.
فإن عاد الوهم فجَوَّز كذبَ الأنبياء، فمعنى ذلك تجويز أن لا يكونوا أنبياء، وسيأتي إثبات نبوتهم.
وهذا بحمد الله تبارك وتعالى برهان قاطع، إنما يبقى فيه إثبات النبوة، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
(1)
(ص 79).