المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مبلغ علم الملحدين - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - ٥ جـ

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌مبلغ علم الملحدين

‌مَبْلَغُ عِلْم المُلْحدين

إن من الأدلة على وجود الرب تبارك وتعالى وأن الهداية بيده هو: النظرُ في حال الملحدين، فإنهم تبحَّروا في النظر في عجائب المخلوقات، فأدركوا فيها ما لم يدركه مَن قبلهم، ولكنهم نظروا فيها لذاتها، لا ليهتدوا بها إلى حق، بل قام بهم من بغض الدين واحتقاره والاستكبار عن آياته ما استحقوا به خذلان الرب تعالى، فكان مبلغ علمهم أنهم يخرصون أن هذا الفضاء قديم، وأن فيه مادة مبثوثة يسمونها:"الأثير"، فيها عدة قُوى من جَذْب ودَفْع وحركة وغير ذلك، وأن تلك المادة بما فيها من القوى يتركَّب منها بعد عصورٍ ذرات صغيرة، سماها بعض المصريين:"الجواهر الفردة"، وهذه الذرات يختلف تركيبها من المادة الأصلية، وباختلافه تختلف، فمنها ما يكون ذهبًا، ومنها ما يكون فضة، إلى غير ذلك من العناصر.

قالوا: وإذا أذبنا الذهب مثلًا إلى أقصى درجات الإذابة، فإنما ينحلّ إلى هذه الذرات، وهكذا سائر الأجسام حتى المائعات والغازات، وهي العناصر الهوائية.

قالوا: وهذه الذرات صلبة لا يمكن هدمها.

قالوا: وإذا صار بعض المادة ذرات أحدثت لها قوى أخرى، ثم كأنها بمجموع القوى التي فيها تتجمع وتكون كوكبًا واحدًا، ثم يعرض لذلك الكوكب ما يكسره، فتتطاير الكِسَر هنا وهنا، فحدسوا أن أرضنا هذه متعلقة هي والسيارات التي حولها بالشمس، وأن الشمس هي الأم، ولا يدرون أتكونت ابتداءً، أم هي قطعة من كوكب أعلى منها؟

ص: 63

قالوا: ثم تكسَّرت الشمس فتطايرت منها السيارات التي الأرض واحدة منها، وأخذت هذه السيارات تدور حول أصلها التي هي الشمس.

قالوا: ثم انكسرت من الأرض كسرة هي [ص 32] القمر.

قالوا: وأما الحيوان والنبات فإنا وجدنا لهما مادة خاصة، لا يتكون الحيوان والنبات إلا منها، فكأنها بالقوى الموجودة في المادة اتفق بالتبادل والتركب المستمرّ أن تكونت تلك المادة، وحصلت لها هذه القوّة الخاصة التي نسميها الحياة، وبحصول الحياة لها حصلت لها إرادة لها تأثير في تكوين جسمها وتركيبه، وفي توليد مثلها.

قالوا: ثم لعلها أخذت تتوالد وتترقَّى صورها بفعل إرادتها حتى صارت إلى هذه الحال. وقوّى هذا الخَرْص عندهم بأنهم وجدوا الحيوان على درجاتٍ في الرُّقيّ، أدناه حيوانات حقيرة توجد في الماء، وأرقاه الإنسان، ووجدوا بعض الأنواع متقاربة كالخيل والحمير، ووجدوا الجنين يتشكَّل في بطن أمه على عدة أشكال، فتوهَّموا أنه يمر في تشكله على السلسلة التي ابتدأت من الحيوان الدنيء إلى أن وصلت إلى الشكل الذي عليه أبواه، وهم مع هذا متفقون أنه لا يوجد فيما يعلمونه حيٌّ إلا من حيّ، وأنهم لم يشاهدوا ولم يسمعوا بأن حيوانًا قد ترقَّى بإرادته من شكل إلى شكل آخر بخلاف العادة المعروفة في جنسه، وأنهم قد حفروا في مواضع كثيرة يقدرون في بعضها أنها اندفنت قبل مائة ألف سنة أو أكثر، ويجدون في بعضها جثث الناس، وبعض الحيوانات الموجودة الآن على ما هي عليه الآن، وأنه إن فُرِض صحة ذلك الترقّي فلا يكون القليل منه إلا في ملايين من السنين، وأنَّ عُمر الأرض على ما يَحْدِسونه لا يكفي لذلك، ولا لعُشْره، ولا لعُشْر عُشْره،

ص: 64

فعادوا يفرضون فرضًا آخر، وهو أن الحياة جاءت إلى الأرض من كوكب آخر.

فيقال لهم: تلك المادة كيف وُجدت؟ وتلك القوى التي لها كيف حصلت؟ ثم تلك الحياة ما حقيقتها؟ وأنى جاءت؟ وما بال الحيوانات الدنيئة لا تزال موجودة بكثرة؟ فهل كان لبعضها تلك الإرادة الخارقة حتى رقَّتها إلى الإنسانية وبقي بعضها على تلك الحال؟ وإن كانت الحياة جاءت من كوكب آخر فهل جاءت بأبسط صورها ــ أي: الحيوانات الدنيئة ــ ثم ترقَّت في الأرض؟ لا يمكنُ هذا الفرض؛ فإنه يعود الإشكال. أم جاءت في صورة راقية، فإني وجدتُ في الأرض الحيوانات التي أدنى من ذلك النوع، أم جاءت بِعِدّة أنواع منها الدنيء ومنها الراقي؟ وكيف كان مجيئها؟ ثم أيّ حاجةٍ بالحيوانات الدنيئة إلى بقاء نسلها تلك الحاجة الشديدة التي تقتضي الإرادة الشديدة؟ ونحن نجد كثيرًا من أفراد أرقى الحيوان ــ وهو الإنسان ــ لا همَّ لهم في الولد ألبتة، وإنما يقارب الذكر الأنثى للشهوة، فإن كان لهما همٌّ في الولد فطلبًا للذة بمحبة الولد، فإن زاد عن ذلك فلكي يخدمهما الولد.

ونجد الحيوانات الدنيئة ــ كما قالوه ــ يكون آخر عهد الأمّ بولدها حين تضعه، فإن عاشت لم تعد تعرفه، ونجد بعض الحيوانات التي هي أرقى من ذلك تربي الأم ولدها بالشفقة المغروزة [ص 33] فيها، فإذا قوي طردته ولم تعد تعرفه، كالحمام وغيرها من الطير.

ثم قد كان الظاهر أن تلك الإرادة تترقَّى بترقِّي الحيوان، فتكون أرقى ما تكون في الإنسان، أو على الأقل تبقى كما كانت، ونحن نجد الأمر بالعكس، فالإنسان لا يستطيع بإرادته أن يغير شيئًا من تركيب جسمه ولا نسله، فقد

ص: 65

يجتمع الذكر والأنثى وهما كارهان للولد، كما يكون بين الزانيين المُسْتخْفِيين الخائفَيْن من الفضيحة، وقد يشتهيان الولد ويحبان أن يكون ذكرًا فيكون أنثى، وقد يحبان أن يكون شكله كذا، وهيئته كذا، فيكون على خلاف ذلك.

وما أدري ما يقولون في النبات، وهل يقولون: إن له إرادة بها ترقَّى؟ ثم ما عسى أن يقولوا في النظام البديع في الموجودات ــ على ما تقدّم بعضُه ــ هل إرادة بعض الحيوانات الدنيئة هي التي رَتَّبت العالم على هذا النظام؟ أوَلا يهديكم العقل إلى أنه لا بد من إرادة عُليا هي التي دبرته وتدبره، وأنها إرادة الخالق ولا بُدّ؟ !

وبالجملة، فالقوم أنفسهم يسلِّمون أن هذا الفَرْض الذي فرضوه إنما هو تَخَرُّص محض، وأنه يَرِدُ عليه من الإشكالات أضعاف أضعاف ما ذكرتُه، وأنّ هناك أشياء كثيرة في العالم لا تَنْحَلُّ بذلك الفرض.

فإذا قلتَ لهم: فلماذا لا تُسَلِّمون بوجود الخالق المُدبِّر وتستريحون من هذا العناء، ثم إن وجدتم مُسبّبات عرفتم أسبابَها قلتم: هذا عن كذا، وهذا عن كذا، والخالق هو الذي جعلها كذلك، وما لم تعرفوا له سببًا قلتم: إرادة الخالق، وكفى؟

قالوا: لم يقم عندنا دليل حِسّي على وجود الخالق.

فيقال لهم: ولا قام عندكم دليل حِسيٌّ على هذه التخرُّصات!

فيقولون: نعم، ولكنها أقرب إلى ما عرفناه.

فيقال لهم: بل هي بعيدة عنه، ثم هي لا تشفي ولا تكفي، والقول بوجود

ص: 66