المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأصل الأول: وجود رب العالمين - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - ٥ جـ

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌الأصل الأول: وجود رب العالمين

[ص 23]

‌ الباب الأول: في الضروريات

وهي أصول:

‌الأصل الأول: وجود رب العالمين

اعلم أن الأمم التي سمعنا بها من الأولين والآخرين وبلغنا شيء من أخبارها كلها مقرِّة بوجود رب العالمين، وقد بسطتُ في رسالة "العبادة"

(1)

ما تيسر لي من أدلة ذلك عن قوم نوح، وقوم صالح، وقوم هود، وقوم إبراهيم، والمصريين في عهده، ثم في عهد يوسف، ثم في عهد موسى، حتى فرعون نفسه، وأوضحتُ ذلك بالأدلة الشافية. وهكذا حال اليونان والهند والصين والمجوس والترك وغيرهم، وكذلك سائر الأمم المتوحشة، حتى زنوج أمريكا

(2)

التي لم تُكْتَشف إلا منذ أربعمائة سنة.

وأما الأفراد فقد يكون من السابقين من تشكَّك في وجود رب العالمين، أو كابر فجحد، كما يقع نحو ذلك من أفراد من الإفرنج المتأخرين، الذين قَصَروا علمهم على المحسوسات، كما تقدم.

فأما ما شاع في الكتب من تسمية فرقة من الفرق بـ "الدهرية"، فأصل هذا الاسم مأخوذ من قول الله تبارك وتعالى:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجاثية: 24 - 25].

(1)

(ص 439 - 551).

(2)

المعروف أن الزنوج إنما جُلبوا إلى أمريكا مؤخّرًا عبيدًا للخدمة، ومن سكنها قديمًا إنما هم الهنود الحمر.

ص: 47

وقد أخبرنا الله تبارك وتعالى عن مشركي العرب أنهم يعترفون بوجود الله، وأنه الذي يرزقهم من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، والذي يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، والذي يدبر الأمر، والذي له السموات والأرض، وأنه رب السموات السبع ورب العرش العظيم، وأنه بيده ملكوت كل شيء، والذي يجير ولا يجار عليه، وأنه الذي خلق السموات والأرض، وسَخَّر الشمسَ والقمر، وأنه الذي ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها، وأنه العزيز العليم

(1)

. إلى غير ذلك مما بينت كثيرًا منه في رسالة "العبادة"

(2)

.

إذا عرفنا ذلك فقولهم: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} لا يمكن أن يُحْمَل على إنكار وجود الرب، ولا إنكار تدبيره مطلقًا؛ إذْ لا دلالة فيه على ذلك، وقد عُلِم أن القوم كانوا يعترفون بوجود الرب، وأنه المُدبِّر مطلقًا.

إذًا بقي أن يقال: إنهم إنما أنكروا أن يكون الله تعالى هو الذي يهلكهم، وهذا بعيد؛ لأنه يوجد في كلامهم ما يخالفه.

والذي يظهر لي في قولهم: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} احتمالان:

الأول: أن يكون هذا قول فرد أو أفراد منهم، عاندوا به ما أُوْرِد عليهم في إنكار البعث، فإن سياق الآيات إنما هو لإثبات البعث، كأنه قيل لهم: إن الله تعالى إنما يميت الناسَ ليرجعهم إلى ما أعدّ لهم مما يستحقونه، وإلا

(1)

راجع سورة يونس الآية (31 - 33)، وسورة المؤمنون الآية (84 - 89)، وسورة العنكبوت الآية (61 - 63)، وسورة لقمان الآية (25)، وسورة الزمر الآية (38)، وسورة الزخرف الآية (9)، والآية (87)[المؤلف].

(2)

سبقت الإشارة إليها في الصفحة السالفة.

ص: 48

فلماذا يميتهم؟ !

ويؤكد ذلك بأن كثيرًا من [ص 24] الناس يموتون قبل أن يلقوا في حياتهم الدنيا ما يُعدّ جزاءً لأعمالهم، فكثير من الأخيار يعيشون عيشةً نَكِدة حتى يموتوا، وكثير من الظَّلمَة يعيشون في رغدٍ من العيش حتى يموتوا، فإذا لم تكن هناك دارٌ أخرى فقد كان مقتضى الحكمة أن لا يُمِيت الله عز وجل أحدًا حتى يستوفي جزاءه، فكابر ذلك الفرد أو الأفراد، فقال ما قَصَّه الله تبارك وتعالى.

وذلك كما كابر بعض اليهود فيما قصه الله تبارك وتعالى ورده بقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 90 - 91].

الاحتمال الثاني: أن يكون الله عز وجل أراد به القول الذي كان شائعًا بينهم من نِسْبة الحوادث إلى الدهر، كما هو كثير في أشعارهم، فإن ذلك وإن كُنّا إذا عرضناه على ما عُلِم من اعترافهم بوجود الله عز وجل وأنه المدبر يترجَّح لنا أنهم إنما كانوا يطلقونه مجازًا، إلا أنه لمَّا شاع وذاع بينهم كان من أشدِّ أسباب الغفلة عن الله عز وجل وتدبيره، وصار أحدهم يطلقه تبعًا للاستعمال الشائع الذائع، وربما يغفل عن كونه مجازًا، وإن كان إذا نُبِّه وقُرِنَ له ذلك بما يعترف به من وجود الله عز وجل وأنه المُدبِّر تنبه لأنه مجاز.

ونحن نجد كثيرًا من المسلمين يستعمل ذلك، كقوله:"الدهر معاند لي"، "الدهر لا يساعدني"، وذلك كثير في أشعارهم، وكثير منهم لا يستحضر عندما يقوله أنه مجاز، وإنما سمع الناسَ يقولون فقال، وإن كان إذا

ص: 49

نُبِّه انتبه، ويؤيد هذا المعنى ويُعيّنه الحديث الصحيح [قال صلى الله عليه وسلم:"قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يسبّ الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار"]

(1)

.

ثم أطلق المتكلمون لفظ "الدهري" على من قال من الفلاسفة بقدم العالم، وقد يُجْمع بينهما فيقال كما في "المصباح"

(2)

: "الرجل الذي يقول بقدم الدهر ولا يؤمن بالبعث دهري".

* * * *

فصل

من سُنة القرآن: أن ما كان من الحق معروفًا بين الناس مسلَّمًا عندهم أن لا يَذْكُر ما يمكن أن يُورَد عليه من الشبهات، وإنما يَذْكُر ما يُؤخذ منه البرهان على ذلك الحق، والبراهين على وجود رب العالمين كثيرة، أشهرها الاستدلال بوجود الأثر على وجود المؤثِّر كما يعبر عنه جماعة، وقد تقدمت الإشارة إليه في الأصل الثاني

(3)

من المقدمة الأولى.

وهذا القدر متفق عليه بين الناس، وقد نَبَّه عليه القرآن، فذكر كثيرًا من آيات الآفاق والأنفس، ودعا إلى النظر والتفكر فيها، وقال سبحانه:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35 - 36].

(1)

ضاقت الحاشية على المؤلف فبيّض للحديث، وسقته اجتهادًا. وهو في البخاري (6181)، ومسلم (2246) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

(ص 77).

(3)

كذا، وإنما تقدمت الإشارة إليه في الأصل الأول (ص 8 - 10).

ص: 50

قال بعض الأكابر

(1)

: "يقول سبحانه: أَحَدَثوا من غير مُحدِث، أم هم أحدثوا أنفسهم؟ ! ومعلوم أن الشيء لا يوجد نفسَه"(ص 15)

(2)

.

وحكوا عن بعض الأعراب أنه سُئل عن معرفته ربَّه فقال: "البعرة تدل على البعير، و [آثار الأقدام تدل على المسير] "

(3)

.

[ص 25] واختلف الناس في تلخيص هذا المعنى على وجوه:

الوجه الأول ــ وهو المشهور بين المتكلمين ــ قولهم: الحادث لا بد له من مُحدِث، فإن كان محدثه هو القديم فذاك، وإن كان حادثًا فله

(4)

في نفسه محدث، وهكذا فلا بد أن تنتهي السلسلة إلى محدث غير حادث.

وقد اصطدمت هذه العبارة بأمور:

الأول: الشبهة القائلة: هذا مسلَّم، ولكن قد لا يثبت به وجود رب العالمين؛ إذ قد يقال: هذا حادث فله محدث، ومحدثه حادث فله محدث، ومحدثه حادث، فله محدث، وهكذا بغير نهاية.

والأمر الثاني: ما قد يقال: وجوب الانتهاء إلى قديم مسلَّم، ولكن قد يُدَّعَى قِدَم شيء أو أشياء ليست برب العالمين، كأن يُدَّعَى قدم الشمس مثلًا.

(1)

هو ابن أبي العزّ الحنفي في "شرح الطحاوية"(ص 112).

(2)

هكذا بخط المؤلف فوق السطر.

(3)

ذكره ابن الجوزي في "زاد المسير": (1/ 166)، و"تلبيس إبليس"(ص 66)، والمقري في "نفح الطيب":(5/ 289) بسياق آخر وزيادة. وما بين المعكوفين منها، وتركه المؤلف نقاطًا.

(4)

"فله" مكررة في الأصل.

ص: 51

الأمر الثالث: ما ذهب إليه أرسطو وشيعته من قدم العالم، وما ذهب إليه قوم من القِدَم النوعيّ للخلق.

أجاب المتكلمون عن الأمر الأول بأن التسلسل إلى ما لا نهاية له في القدم مُحالٌ، وذكروا لبيان إحالته أدلةً تعتاص على الأفهام، ولا يأمن الناظر فيها تضليل الأوهام، وقد قدح فيها قوم وعارضوها.

ودفعوا الأمرَ الثاني بالاستدلال على حدوث الشمس مثلًا بأنها جسم له أجزاء وحدود ونهاية، وأنها تتحرك وتنتقل وتتغير من حال إلى حال، وأن ذلك كله لا يكون إلا للمحدث القابل للفناء. وبذلك دفعوا الأمر الثالث.

فأورِد

(1)

عليهم أنّ الكتابَ والسنة يصفان الرب عز وجل بشيء من جنس هذه الصفات، فالتزموا تأويل ذلك كله، وجرى في ذلك ما جرى. والله المستعان.

الوجه الثاني: عبارة الفلاسفة ــ وقد استعملها المتكلمون أيضًا ــ قالوا: ممكن الوجود لا بد له من واجب الوجود لذاته، وقد شرحه أبو البركات

(2)

في "المعتبر"(3/ 20).

وقد يعبِّرون عنه بقولهم: المعلول لا بدّ له من علة حتى ينتهي إلى علة غير معلولة، وأُورِدت عليه شبهة التسلسل إلى غير نهاية، فلخَّصَه بعضُ المتكلمين في عبارات لا ترِدُ عليها هذه الشبهة.

(1)

غير محررة، ورسمها:"فورد". وما أثبته يدل عليه ما يأتي بعد أسطر.

(2)

انظر ما سبق عنه (ص 26، 32).

ص: 52

وأُورِد

(1)

عليه أيضًا: أن غايته إثبات واجب، وقد يُدَّعَى وجوب بعض الأشياء، فلا يحصل المقصود من الدلالة على وجود رب العالمين، فعادوا يستدلون على إمكان تلك الأشياء بنحو ما استدلَّ به المتكلمون على حدوثها.

* * * *

[ص 26] فصل

الإنسان إذا رجع إلى نفسه وأنعم النظر في تفتيشها وجد عندها اطمئنانًا بأن للعالم ربًّا ليس من جنس ما تراه وتشاهده، وقد يشتبه عليك هذا الأمر في نفسك، فتجده أولًا كالشيء الذي يتراءى من وراء حجاب، بَيْنا تقول: قد أثبتُّه خَفِي عنك. أو كصورة قد نسيتها، فأنت تحاول أن تذكرها، فإنك قبل أن تذكرها قد يعرض لك أن تحسَّ كأنك قد ذكرتها ثم تغيب عنك، وهكذا في أشياء أخرى.

وقد تتصفّح ما استدلّ به المتكلمون والفلاسفة، فلا تطمئن إليه نفسك، ثم تراجعها في ذاتها، فتجد اطمئنانها بوجود الرب على ما كان، فتعلم أن هذا الاطمئنان لم يأتها من جهة أدلتهم، ويتأكد هذا عندك بأنك تجد كثيرًا من الناس لم يسمع بأدلة المتكلمين والفلاسفة، واطمئنان نفسه بوجود الرب ثابت، لعله أظهر من اطمئنانك.

وقد تعرض على نفسك الاستدلال بقول أسلافك في النسب والتعليم، فلا تجدها تطمئن إليه، وتعرض عليها أمورًا أخرى مضى عليها آباؤك

(1)

قبلها في الأصل: "ولم"، ولا معنى لها، ولعله أراد أن يكتب شيئًا ثم أضرب عنه ونسي أن يضرب عليها.

ص: 53

وأسلافك، فلا تجدها تطمئن إليها، ثم تراجعها في اطمئنانها بوجود الرب، فتجده بحاله، فتعلم أن ذلك لم يأتها من جهة التقليد.

ويتأكد هذا عندك بما سبق

(1)

: أن القبائل المتوحشة حتى زنوج أمريكا يعتقدون وجود الرب، ويتأكد الأمران معًا بأن بعض الأفراد يكون ملحدًا قد ردَّ أدلة المتكلمين والمتفلسفين، واستدل بزعمه على نفي وجود الرب، وعلى أنه لا يمكن العلم بوجوده ولا عدمه، وسفَّه التقليد، وتعصَّب لذلك جهده، ثم هو يجد نحو تلك الطمأنينة من نفسه على ما حُكِي عنهم.

وأظهر ما تكون هذه الطمأنينة عندما يعتري الإنسان مرض أو خوف شديد، فيجدُ نفسَه تفزع إلى ذي قوة غيبية، تلتجئ إليه، وتستغيث به.

قال الله تبارك وتعالى

(2)

: [{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا

} [يونس: 12]، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ

} [الروم: 33]، وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ

} [العنكبوت: 65].

فإن قيل: فإننا نجد كثيرًا من الناس إذا اعتراه مرض أو خوف يفزع إلى غير الله عز وجل، فقد يفزع النصراني إلى المسيح وأُمّه، والذين يعبدون الملائكة إلى الملائكة، وعوامّ المسلمين إلى من يعتقدون فيه الولاية من الموتى.

(1)

(ص 47 وما بعدها).

(2)

ترك المؤلف مكان الآيات فارغًا بمقدار ستة أسطر، فأكملناه بالآيات المناسبة للسياق.

ص: 54

فعنه جوابان:

الأول: أنّ يُدَّعى أن هذا إنما يكون عند المرض أو الخوف الخفيف، فأما عند الشدة الشديدة فإنما يفزعون إلى رب [ص 27] العالمين، كما قَصَّه الله عز وجل عن المشركين

(1)

.

الثاني: أن الفزع إلى تلك الأشياء إنما هو من جهة اعتقاد علاقتها بالرب، فإن فُرِض أن من الناس من يزعم في بعض المخلوقات أنه هو الرب، فنفسه إنما فزعت إلى الرب، غير أنّ العادةَ والتقليد وجَّه الفزعَ إلى ذلك الشيء من جهة توهُّم أنه هو الرب.

وإيضاح ذلك أن القَدْر المغروس في النفس مجمل تتكاثف عليه الحُجُب، ومثال ذلك: امرأة عمياء أضلَّت ولدها صغيرًا، فهي تعرف أن لها ولدًا تحبه طبعًا، وتبحث عنه، فقد يجيئها إنسان بولد فيقول لها: هذا ولدك، فتأخذه وتضمّه وتشمّه على أنه ولدها لا ترتاب فيه.

وقد يأتيها إنسان ببعض ثياب ولدها، ويخبرها بذلك، فتأخذ ذلك الثوب فتشمه وتلتذّ به، وقد يأتيها بثوب لغير ولدها، فيزعم لها أنه ثوب ولدها، فيكون حالها كذلك، فهذا كله لا ينفي اعتقادها أن لها ولدًا، وأنها إنما تحبّ ولدها في نفس الأمر، وتحنو عليه، وتلتذّ بقربه.

* * * *

(1)

في الآيات التي سلفت قريبًا. وفي قوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ

} الآية [الإسراء: 67].

ص: 55

فصل

فإن قيل: هذا الإدراك النفسي كيف حصل للنفس؟

قلت: قد يكون بقيَّة من بقايا ما أدركته قبل تقييدها في الجسد، إن قلنا: إن النفوس خُلِقت أو تُخْلَق قبل الأجساد بزمان طويل، وأن من شأنها إذا قُيِّدت بالجسد أن تنسى أو ينسيها الله عز وجل ما كان لها قبل ذلك.

وعلى هذا فبقيَتْ لها هذه البقية؛ لأنها أظهر ما أدركته قبل تقيُّدِها بالجسد، ولأن حكمة الله تبارك وتعالى اقتضت إبقاء ذاك القَدْر لها؛ ليكون كالأساس لما أراده سبحانه من تكليفها في الحياة الدنيا.

وقد يقال: إن للنفوس ذاتها إدراكًا ما غير ما تدركه بالحواس والقياس العادي.

ومن تتبع أحوال نفسه وجد لها شيئًا من ذلك، فقد يعرض له ضيق وغمّ لا يعرف سببه، ثم يتبين أنه في ذلك الوقت جرى ما من شأنه أن يغمه، وقد يعرض له فرح وانبساط لا يعرف سببه، ثم يتبين أنه جرى في ذلك الوقت ما من شأنه أن يسره.

وقد يقال: إن ذلك من آثار ملاحظتها لدلالة الأثر على المؤثر، أو غيره من الأدلة الآتية، فإننا نجد النفس قد تلاحظ بعض الدلائل ملاحظةً لا يشعر بها العقل، كأن يرى إنسانًا فتميل إليه، وآخر فتنفر

(1)

عنه، ولا تعرف سببًا لذلك. ويكون السبب أن الأول يشبه في صورته وشكله وهيئته وغير ذلك إنسانًا آخر تحبه، والثاني يشبه آخر تبغضه، وإذا أمعنت النظر عرفت ذلك،

(1)

هذا الفعل والذي قبله "فتميل" نقطها المؤلف بالياء والتاء معًا "فيميل

فينفر".

ص: 56

وقد جَرَّبت هذا أنا وغيري.

وقد يكون المرئي نفسه قد سبق أن أحسن إليك أو أساء، ولكن تقادم العهد ونسيته.

وقد يشعر العقل، ولكن لا يمكنك شرح ذلك، كأن ترى إنسانًا فيقع لك أنه عربي، وترى أنك إنما أدركت ذلك من صورته، فإذا [ص 28] قيل لك: اشرح ذلك بأن تقول: لونه كذا، وشكل وجهه كذا، وعينه كذا، بما يبين اختصاصَ تلك الهيئات بالعرب غالبًا لم تستطع ذلك.

واعلم أن العقل يأبى أن يقبل ما لا يدركه هو، حتى لقد يتردد أو يعاند فيما قد شعر به في الجملة، كما مر في صورة العربي. والذي ينبغي للعقل أن لا يلغي إدراك النفس، بل يتثبت فيه ويتدبر، ويمعن النظر حتى يتبين الأمر، فإن لم يتبين أخذ بالأحوط.

* * * *

فصل

العاقل لا يلغي الدلالة التي هي ظنية عنده، أما في مصالح الدنيا فمعلومٌ أن عمادها الظن، فالزّارع يتعب ويصرف كثيرًا من المال على رجاء الثمرة، وحصولُها ليس بقطعي، وكذلك الصانع والتاجر وحافر البئر والناكح والحاكم وأرباب السياسة والقتال، وكذلك الطبيب والمتداوي، وغير ذلك، فتدبَّر وأنعم النظر.

فإذا كان الأمر كذلك في جلب المنافع ودفع المضار التي يعلم الإنسان أنها منقطعة عنه عما قليل، إذ لعله يموت بعد ساعة أو يوم أو نحو ذلك، فإن طال عمره لم يجاوز في الغالب ثمانين سنة، فكيف لا يعمل هذا في المنفعة

ص: 57

والمضرّة التي لا نهاية لها في القَدْر، ولا في المدة وهي الأخروية؟ ! فمن حَصَل له ظنٌّ ما بأنّ للعالم ربًّا هو المدبر في الحياة، وإليه المرجع في الآخرة، فمِنْ أحْمَق الحُمْق أن يلغي هذا الظن، بل ينبغي أن يستعرض الأديان، فأيها كان أقرب إلى الحق التزمه وعمل به.

بل نجد العقلاء في مصالح الدنيا إذا شكُّوا في شيء أخذوا بالأحوط، فقد يتكلف أحدهم التعب والمَغْرَم لجلب منفعة مهمة أو دفع مضرة شديدة، ليس عنده ظن بحصولهما، ولكنه يقول: يحتمل أن تقعا. فإن كانت تلك المنفعة أو المضرَّة لا تحصل أصلًا كنتُ قد أضعتُ تعبي ونفقتي، وإن كانت تحصل المنفعة وتندفع المضرَّة إذا تعبت وغرمت، وتفوت المنفعة وتقع المضرة إذا لم أتعب ولم أغرم، فقد فزت فوزًا عظيمًا بتعبي وغرامتي، فأنا بين أمرين: إن تعبت وأنفقت خشيت ضياع تعبي ونفقتي، وإن لم أتعب ولم أُنفق خشيت فوات تلك المنفعة العظيمة ووقوع تلك المضرَّة الشديدة، وضياعُ التعب والنفقة أهون من فوات تلك المنفعة ووقوع تلك المضرة، والعاقل إذا خُيّر بين [ص 29] ضررين اختار أهونهما.

بل نجد العقلاء يصنعون مثل هذا في جلب المنافع العظيمة ودفع المضار الشديدة التي يُظنّ عدم حصولها، يقول أحدهم: يترجّح عندي أنها لا تكون، ولكن يحتمل أن تكون.

أقول: فإذا كان هذا حالهم في منافع الدنيا ومضارها التي تنقطع عما قليل ــ كما مر ــ، فينبغي للعاقل مثل ذلك وأولى منه في أمر الدين.

* * * *

ص: 58

فصل

من نشأ على خلاف الحق يكون قد استولت عليه صوارف عنه، فهو حَرِيّ إذا عُرِض عليه دليلٌ على خلاف رأيه أن لا يمعن النظر فيه، وإذا أمعن أن يغالطه هواه بالشبه، فقد يكون الدليل قاطعًا فيرى أنه ظني، أو ظنيًّا فيرى أنه محتمل.

فينبغي له أن يعرف هذا من نفسه، ويأخذها بالأحوط ــ كما مر ــ، فلعله إذا وطَّن نفسه على ذلك وأخذ بالأحوط أن تذهب تلك الصوارف، فيظهر له حقيقة ذلك الدليل، وأنه قطعيّ أو ظنيّ.

فصل

قد ثبت في الإسلام أن الله عز وجل إنما أنشأ الناس هذه النشأة ليبتليهم، وإذا كان كذلك فمن قَبِل ما ظهر له من الحق وأَخَذ بالأحوط فقد نجح في الامتحان، فهو حقيقٌ بأن يوفّقه الله عز وجل ويرشده، فيتبيّن له أن ما كان يراه ظنيًّا هو حق قطعًا، إما بأن ييسر الله تعالى له ترتيب الدليل الذي كان عنده ظنيًّا على وجهٍ قطعي، وحلّ ما كان يخالفه من الشبهات حلًا قطعيًّا، وإما أن يرشده إلى دليل آخر، وإما بأن يشرح صدرَه وينوّر قلبه، فيحصل له اليقين، وإن كان لا يدري من أين جاء.

وعلى العكس من هذا يكون حال من أبى ما ظهر له من الحق، قال الله تبارك وتعالى

(1)

: [{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ

(1)

بيّض المؤلف مكان الآية عدة أسطر، فأكملته بما ظننتُ أنه المراد.

ص: 59

يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}] [الأنعام: 125].

* * * *

فصل

انظر فيما حولك من الآنية والآلات، وكيف صُنعت، ولماذا صُنعت، وتفكَّر هل كانت بغير صانع؟ ثم إذا عرفت دلالتها على صانع فانظر دلالتها على معرفة الصانع وعقله وحكمته، ومقدار ما تدل على ذلك، حتى تنظر في آلة الخياطة، والساعة، والحاكي، الفوتغراف، والراديو، فإذا انتهيت منها فانظر في صانعها الغريب.

وانظر في خلق الإنسان وغيره من الحيوان، تجد أن بين الذكر والأنثى ميلًا طبيعيًّا إلى المقاربة، تكون نتيجته إلقاء النُّطفة في الرحم، والذَّكَر لم يكن يشعر مما تولَّدت نطفته، ولا كيف تولدت. وقد لا يشعر بأنه إذا قارب أنزل، ولا بأنه إذا أنزل كان لذلك نتيجة. وللأنثى ــ فيما يقول التشريح الحديث ــ مِبْيَض، من شأنه توليد البيض، ثم تكبر البيضة حتى تضيق عنها الغشاوة، فتنشق، فيسيل بها الدم حتى يلقيها في الرحم، وعن ذلك الدم يكون الحيض، وليس للأنثى شعور بشيء من هذا، بل جَهِلَه الفلاسفة وعلماء التشريح والطب السالفون.

قالوا: وفي نطفة الذَّكَر حيوانات صغيرة جدًّا، لا تدرَك إلا بالمُكبِّرات، فإذا وقعت النطفة في المَمرّ إلى الرحم سعت تلك الحيوانات حتى يجيء واحد منها إلى البيضة فيغوص فيها، وبذلك تكون البيضة قد تلقَّحت، هذا والذكر والأنثى لا يشعران إلا بلذَّتهما التي قضياها.

ص: 60

فإن كانت الأنثى مما يلد كالمرأة تربَّت البيضةُ في الرَّحِم إلى أن يكون خلقًا سويًّا من جنس الأبوين، وإن كانت مما يبيض أُحيطت البيضة بذلك الغشاء الصُّلب المعروف، وألقتها الأنثى في مكان تعدُّه لذلك، ثم تحضنها إلى أن يخرج الفرخ حيًّا سويًّا كأبويه، وتخليق الجنين مما لا شعور للأبوين به ولا بكيفيته، ولولا العادة لما علما بأنه يكون ولد إلا أن يكون إلهام فوق العادة.

ثم يكون من الأولاد ذُكْران ومنها إناث، وليس للأبوين ولا لغيرهما خيرة في ذلك ولا شعور، ويكون لكل مولود يولد صورة تخالف صورة جميع الناس، ثم انظر في تفصيل الخِلْقة، ثم في تيسير الغذاء المناسب للطفل، ثم في طريق التغذية.

ثم ارجع إلى الشجر، توضع النواةُ في الطين، فلا تلبث أن تنشقّ وتنبت منها شجرة مثل أصلها، وانظر كيف تغذيتها، وكيف ثمرتها، إلى غير ذلك.

ثم انظر كيف تيسير ما يحتاج إليه الحيوان والنبات، فإن أشد ما يحتاج إليه هو الهواء والنور والحرارة المعتدلة، ثم الماء، ثم الغذاء، وتجد هذه الأشياء قد قُسِّمت في الوجود بحسب شدة الحاجة إليها، وقِسْ عليها غير ذلك.

ثم تدبَّر أمرَ الشمس مع الأرض، وكيف تتغير حتى يتكون الفصول، ثم انظر في السحاب والمطر والرياح، ثم سل الحُكَماء الكبار أولي العقول الكبيرة: هل استطاعوا أو يستطيعون أن يصنعوا ذرّة لها من الأعضاء والقُوى والإدراك والحياة ما لهذه الذرة التي نطؤها بأقدامنا كل يوم؟ أو بُرّةً تُغْرَس فتنبت كما ينبت البر؟ أم أن يُخَلِّدوا إنسانًا أو يبقوه معمرًا مائتي سنة مثلًا، أم

ص: 61

أن يحيوا ميتًا؟ أم هل يعرفون ما هي الروح؟

ثم انظر في ارتباط الموجودات بعضها ببعض، كأنها أركان حكومة واحدة، أو أركان [ص 31] مصنع من المصانع، أو عائلة واحدة، أو أعضاء شخص واحد في التعاون والتباعد، أو آلات ساعة واحدة، فتجد تقدير الليل والنهار، والحر والبرد، والهواء والريح والمطر، والنور والظلمة، كلُّ ذلك على المقدار الصالح للحياة.

وتفكَّر في تلقيح الشجر على ما يصفه علماء النبات، وأن كثيرًا منه يكون بواسطة النحل والفراش التي تقع على الزهرة المذكرة لتمتصَّ عَسلَها، فيَعْلَق برجلها وريشها شيء من طلع تلك الزهرة، ثم تقع على زهرة أخرى مؤنثة لتمتصَّ عسلها أيضًا، فيقع ذلك الطلع، فيتم لقاح الزهرة.

وبالجملة، فمواضع العبرة في العالم كثيرة جدًّا.

فتفكَّرْ وتدبَّرْ أيضطرُّك رؤية ملعقة من حديد إلى العلم بأن لها صانعًا، وهكذا إلى الساعة، أتَضْطَرُّكَ معرفَتُها إلى العلم بأن لها صانعًا عاقلًا، له قدرة وحكمة تناسب ذلك الإحكام وتلك الدقة، ثم لا يَضْطَرُّك ما رأيتَ من خَلْق الإنسان والحيوان والنبات، وسائر أجزاء العالم، وذلك الإحكام المدهش والنظام التام إلى العلم بأن للعالم خالقًا حيًّا عليمًا قديرًا مريدًا حكيمًا مدبرًا.

أو لا يضطرُّك ما ترى من تدبير الأجَنَّة في بطون الأمهات، والنوى في باطن الأرض، وغير ذلك إلى أن تدبير الخالق مستمرّ لا يفتر؟ !

* * * *

ص: 62