الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَصْحَابُهُ، أَقَامَ يُرِي طَاهِرًا وَجُنْدَهُ أَنَّهُ لَهُمْ مُسَالِمٌ رَاضٍ بِعُهُودِهِمْ، ثُمَّ اغْتَرَّهُمْ وَهُمْ آمِنُونَ فَرَكِبَ فِي أَصْحَابِهِ، وَلَمْ يَشْعُرْ طَاهِرٌ وَأَصْحَابُهُ بِهِمْ إِلا وَقَدْ هَجَمُوا عَلَيْهِمْ فَوَضَعُوا فِيهِمُ السَّيْفَ. وَرَدَّتْ عَنْهُمْ بِالأَثَرِ سُوءُ حَالَتِهِمْ حَتَّى أَخَذَتِ الْفُرْسَانَ عُدَّتَهَا وَصَدَقُوهُمُ الْقِتَالَ حَتَّى تَقَطَّعَتِ السُّيُوفُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ.
مَقْتَلُ الأَبْنَاوِيِّ:
ثُمَّ هَرَبَ أَصْحَابُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَتَرَجَّلَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. وَوَصَلَ الْمُنْهَزِمَةُ إِلَى عَسْكَرِ ابْنَيِ الْحَرَشِيِّ، فَدَاخَلَهُمُ الرُّعْبُ فَوَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ حَتَّى أَتَوْا بَغْدَادَ.
طَاهِرٌ يُخُنْدِقُ عَلَى جُنْدِهِ قُرْبَ حُلْوَانَ:
وَسَارَ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ وَقَدْ خَلَتْ لَهُ الْبِلادُ حَتَّى قَارَبَ حُلْوَانَ فعسكر بها وخندق على جنده1.
1 انظر: تاريخ خليفة "ص/ 309"، وتاريخ الطبري "8/ 389"، والكامل "6/ 247"، والبداية "10/ 226"، وصحيح التوثيق "6/ 128".
أحداث سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ:
تُوُفِّيَ فِيهَا: الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، قُتِلَ كَمَا يَأْتِي، سَعْدُ بْنُ الصَّلْتِ، قَاضِي شِيرَازَ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ الطَّوِيلُ الدِّمَشْقِيُّ، عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ الأَمِيرُ، عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ الْجَزَرِيُّ، فِي قَوْلٍ، مُخَلَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، فِي قَوْلٍ، وَكِلاهُمَا مَرَّ، مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ الْقَاضِي، الْوَلِيدُ بْنُ خَالِدٍ بِالشَّامِ، قَالَهُ ابْنُ قَانِعٍ، أَبُو نُوَاسٍ الشَّاعِرُ، هُوَ الْحَسَنُ بْنُ هَانِئٍ.
الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ يَحُثُّ أَسَدَ بْنَ يَزِيدَ عَلَى نُصْرَةِ الأَمِينِ:
وَفِيهَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَثَّابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَسَدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مَزْيَدٍ، أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ الرَّبِيعِ الْحَاجِبَ بَعَثَ إِلَيْهِ بَعْدَ مَقْتَلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَبْنَاوِيِّ قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ مُغْضَبًا، فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَارِثِ أَنَا وَإِيَّاكَ نَجْرِي إِلَى غَايَةٍ إِنْ قَصَّرْنَا عَنْهَا ذُمِمْنَا، وَإِنِ اجْتَهَدْنَا فِي بُلُوغِهَا انْقَطَعْنَا. وَإِنَّمَا نَحْنُ شَعْرَةٌ مِنْ أَصْلٍ، إِنْ قَوِيَ قَوِينَا، وَإِنْ
ضَعُفَ ضَعُفْنَا، إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ، يَعْنِي الأَمِينَ، قَدْ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى الأُمَّةِ الْوَكْعَاءَ، يُشَاوِرُ النِّسَاءَ وَيَعْتَرِضُ عَلَى الرُّؤَسَاءِ، وَقَدْ أَمْكَنَ مَسَامِعَهُ مِنَ اللَّهْوِ وَالْجَسَارَةِ فَهُمْ يُكَبِّدُونَهُ الظَّفَرَ. وَالْهَلاكُ أَسْرَعُ إِلَيْهِ مِنَ السَّيْلِ إِلَى قِيعَانِ الرَّمْلِ، وَقَدْ خَشِيتُ وَاللَّهِ أَنْ نَهْلِكَ بِهَلاكِهِ، وَنَعْطَبُ بِعَطَبِهِ، وَأَنْتَ فَارِسُ الْعَرَبِ وَابْنُ فَارِسِهَا، قَدْ فَزِعَ إِلَيْكَ فِي لِقَاءِ هَذَا الرَّجُلِ، وَأَطْمَعَهُ فِيمَا قَبْلَكَ أَمْرَانِ. أَمَّا أَحَدَهُمَا فَصِدْقُ طَاعَتِكَ وَفَضْلُ نَصِيحَتِكَ، وَالثَّانِي يُمْنُ نَقِيبَتِكَ وَشِدَّةُ بَأْسِكَ. وَقَدْ أَمَرَنِي بِإِزَاحَةِ عِلَّتِكَ وَبَسْطِ يَدِكَ فِيمَا أَحْبَبْتَ، فَعَجِّلِ الْمُبَادَرَةَ إِلَى عَدُوِّكَ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُوَلِّيَكَ اللَّهُ تَعَالَى شَرَفَ هَذَا الْفَتْحِ، ويلم بك شَعَثَ هَذِهِ الْخِلافَةِ.
أَسَدُ بْنُ يَزِيدَ يَطْلُبُ نَفَقَةَ سَنَةٍ لِجُنْدِهِ:
فَقُلْتُ: أَنَا لِطَاعَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مُقْدِمٌ، وَلِكُلِّ مَا أَدْخَلَ الْوَهَنَ وَالذُّلَّ عَلَى عَدُوِّهِ حَرِيصٌ. غَيْرَ أَنَّ الْمُحَارِبَ لا يَعْمَلُ بِالْغَدْرِ، وَلا يَفْتَتِحُ أَمْرَهُ بِالتَّقْصِيرِ وَالْخَلَلِ. وَإِنَّمَا مِلاكُ الْمُحَارِبِ الْجُنُودُ، وَمِلاكُ الْجُنُودِ الْمَالُ. وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ مَلأَ فِي أَيْدِي مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَسْكَرِ، وَتَابَعَ عَلَيْهِمْ بِالأَرْزَاقِ وَالصِّلاتِ. فَإِنْ سِرْتُ بِأَصْحَابِي وَقُلُوبُهُمْ مُتَطَلِّعَةٌ إِلَى مَنْ خَلْفِهِمْ مِنْ إِخْوَانِهِمْ لَمْ أَنْتَفِعْ بِهِمْ فِي لِقَاءٍ. وَقَدْ فَضُلَ أَهْلُ السِّلْمِ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ. وَالَّذِي أَسْأَلُهُ أَنْ يُؤْمَرَ لِأَصْحَابِي بِرِزْقِ سَنَةٍ، وَيُحْمَلَ مَعَهُمْ أَرْزَاقُ سَنَةٍ، وَلا أُسْأَلُ عَنْ مُحَاسَبَةِ مَا افْتَتَحْتُ مِنَ الْمُدُنِ.
فَقَالَ: قد اشتططت1، ولا بد مِنْ مَنَاظَرَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
حبْس الأمين لأسد بْن يزيد:
ثمّ ركب معي إِلَيْهِ فدخلتُ، فما دار بيني وبينه إلا كلمتان حتّى غضب وأمر بحبسي.
اختيار أحْمَد بْن مَزْيد لقتال طاهر بْن الحسين:
وذكر زياد بْن عليّ قَالَ: ثمّ قَالَ الأمين: هَلْ في أهل بيت هذا مِن يقوم مقامه؟ فأنا أكره أن أستفسدهم مع سابقتهم وطاعتهم.
1 شط: شططًا: بعد في الأمر، وأمعن وجاوز الحد، واشتط في حكمه: جار، المعجم الوجيز "ص/ 343".
قالوا: نعم، فيهم أحمد بن زيد عَمُّهُ؛ وأثنوا عَلَيْهِ، فاستقدمه عَلَى البريد.
قَالَ أحمد: فبدأت بالفضل بْن الربيع، فإذا عنده عَبْد الله بْن حُمَيْد بْن قَحْطبة، وهو يريده عَلَى الشخوص إلى طاهر بْن الحسين؛ وعبد الله يشتطّ في طلب المال والإكثار مِن الرجال. فلمّا رآني رحّب بي وصيّرني معه إلى صدر المجلس، فكلّمني ثمّ قام معي حتّى دخلنا عَلَى الأمين، فلم يزل يأمرني بالدنو حتى كدت أُلاصقه، فقال: إنّه قد كثُر عليّ تخليط ابن أخيك وتنكُّره، وطالَ خِلافهُ. وقد وُصفتَ لي بخير، وأحببت أن أرفع قدرك وأُعْلي منزلتك. وأنّ أُوَلّيك جهاد هذه الفئة الباغية.
فقلت: سأبذل في طاعتكم مهجتي.
وصيّة الأمين لأحمد بْن مزيد:
قَالَ: وانتخبت الرجال، فبلغ عدّة مِن صحّحتُ اسمَه ألف رَجُل، ثمّ سرت بهم إلى حُلْوان. ودخلت عَلَيْهِ قبل ذَلِكَ وقلت: أوصِني. قَالَ: إيّاك والبغي، فإنه عِقال النصر. ولا تُقدّم رجلا إلا بالاستخارة، ولا تُشْهر سيفًا إلا بعد إعذار، ومهما قدرت عَلَيْهِ باللّين فلا تتعدّه بالحرب، في كلام طويل. وأطلق لَهُ ابن أخيه أسدًا.
احتيال طاهر عَلَى جيوش الأمين حتى تقاتلوا وتفرّقوا:
وذكر يزيد بْن الحارث أنّ الأمين وجّه معه عشرين ألفًا مِن الأعراب، ومع عَبْد الله بْن حُمَيْد عشرين ألفًا مِن الأبناء، وأمرهم أن ينزلوا حُلْوان ويدفعوا طاهرًا عَنْهَا، وينصبا لَهُ الحرب. فنزلا في خانِقين، فدَسّ طاهر العيون إلى عسكرهما، فكانوا يأتون الجيش بالأراجيف ويخبرونهما أنّ الأمين قد وضَع العطاء لأصحابه، وقد أمر لهم بالأرزاق. ولم يزل يحتال في وقوع الاختلاف والشغْب بينهم حتى اختلفوا، وانتفض أمرهم وقاتلوا بعضهم بعضًا، ورجعوا.
تسليم ما احتواه طاهر إلى هَرْثَمَة بْن أَعْيَن:
ثمّ دخل طاهر حُلوان، وأتاه هَرْثَمَة بْن أَعْيَن بكتابي المأمون والفضل بْن سهل يأمرانه بتسليم ما حوى مِن المدن إلى هَرْثَمَة، والتَّوجُّه إلى الأهواز.
فسلّم ذَلِكَ إِلَيْهِ، وأقام هَرْثَمَة بحُلْوان فحصّنها وأحكم أموره. ومضى طاهر إلى الأهواز.
تولية المأمون للفضل بْن سهل عَلَى جميع المشرق:
ودعا المأمون الفضل بْن سهل فولاه عَلَى جميع المشرق مِن هَمَدان إلى جَبَل سِقْينان والتَّبت طولا، ومن بحر فارس والهند إلى بحر الدَّيْلم وجُرجان عرضًا، وقرّر لَهُ عُمالة ثلاثة آلاف ألف درهم، ولقّبه ذا الرياستين.
تولية الحَسَن بْن سهل ديوان الخراج:
ثمّ ولّى أخاه الحَسَن بْن سهل ديوان الخراج.
إطلاق عَبْد المُلْك بْن صالح مِن الحبس:
وكان في حبْس الرشيد عَبْد المُلْك بْن صالح بْن عليّ، فأطلقه الأمين وقرّبه، فدخل عَلَيْهِ أحد الأيام وقال: يا أمير المؤمنين إنّي أرى الناس قد طمعوا فيك، وقد بذلت سماحتك، فإنْ بقيت عَلَى أمرك أبطَرْتهم، وإنْ كَفَفْت عَنِ البذْل سخطْتَهم، ومع هذا فإنّ جُنْدك قد داخَلَهم الرعبُ وأضْعَفَتْهُمُ الوقائع، وهابوا عدوَّهم. فإنْ سيّرتهم إلى طاهر غلب بقليلِ مَنْ معه كثيَرهم.
وأهل الشام قوم قد مرّستهم الحرب وأَدَّبَتْهم الشدائد، وجُلُّهم مُنْقادُ إليّ، مُسارعٌ إلى طاعتي. فإنْ وجّهتني أتّخذت لك منهم جُنْدًا تعظُم نكايته في عدوّه. فولاه الشام والجزيرة واستحثّه عَلَى الخروج.
فلمّا بلغ الرَّقّة أقام بها، وأنفذ رُسُلَه وكُتُبَه إلى رؤساء الأجناد بجمع الأمداد والرجال والزواقيل1 والأعراب مِن كلّ فَجّ، وخلع عليهم. ثمّ إنّ بعض جُنْده الخُراسانيّة نظر إلى فرسٍ كانت أُخِذت منه في وقعة سليمان بْن أَبِي جعفر بالشام تحت بعض الزَّواقيل. فتعلق بها، فتنازعا الفَرسَ، واجتمع الناس وتأهّبوا، وأعان كلٌ منهم صاحبه، وتضاربوا بالأيدي. فاجتمعت بعض الأبناء إلى محمد بْن أَبِي خَالِد الحربيّ وقالوا: أنت شيخنا، وقد ركب الزواقيلُ منّا ما سَمِعْتُ، فاجمع أمرنا وإلا استذلّونا، فقال: ما كنت لأدخل في شَغْب، ولا أشاهدكم عَلَى مثل هذه الحال. فاستعد الأبناء وأتوا الزواقيل وهم غارون، فوضعوا فيهم السيف، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة. فتنادى الزواقيل ولبسوا لأمَة الحرب. ونشبت الحرب بينهم، فوجه عبد الملك رسولًا يأمرهم
1 هم قوم بناحية الجزيرة وما وراءها.
بالكَفّ. فرموه بالحجارة. وكان عَبْد المُلْك مريضًا مُدْنَفًا، وقال: واذُلاه! تُستضام العربُ في دُورها وبلادها وتُقتل. فغضب مِن كَانَ أَمْسك عَنِ الشرّ مِن الأبناء، وتفاقم الأمرُ. وقام بأمر الأبناء الحسين بْن عليّ بْن عيسى بْن ماهان، وأصبح الزواقيل وقد جَيَّشوا بالرَّقّة، واجتمع الأبناء والخُراسانيّة بالرافقة. وقام رجلٌ مِن أهل حمص فقال: يا أهل حمص، الهربُ أهون مِن العَطب، والموت أهْوَن مِن الذُّلّ، النفير النفير قبل أن ينقطع الشمل ويعسر المهرب.
ثمّ قام نمر بْن كلب فقال نحو ذَلِكَ، فسار معه عامّة أهل الشام ورحلوا.
وأقبل نصر بْن شبت في الزّواقيل، وهو يَقُولُ:
فرسانَ قيسٍ اصبري للموت
…
لا تُرْهِبُنّي عن لقاء الفَوْت
دعي التَّمنّي بعسى وليت
ثمّ حمل هو وأصحابه، فقاتل قتالا شديدًا، وكثُر القتل والبلاء في الزّواقيل وحملت الأبناء فانهزمت الزّواقيل.
وفاة عَبْد المُلْك وعودة الرجّالة:
ثمّ تُوُفّي عَبْد المُلْك في هذه الأيام. فنادى الحسين بْن عليّ بْن عيسى في الْجُنْد، وصَيّر الرَّجَّالَةَ في السفن، والفُرسان عَلَى الظَّهْر، ووصّلهم حتى أخرجهم مِن بلاد الجزيرة في رجب، ودخل بغداد.
فلما كان في جوف الليل طلبه الأمين، فقال للرسول: ما أَنَا مُغَنّ ولا مُسامِر ولا مُضْحك، ولا وُلِّيتُ لَهُ عملا، فلأيّ شيءٍ يريدني؟ انصرف فَمِن الغد آتيه.
خطبة الحسين بْن عليّ في الأبناء:
قَالَ: فأصبح الحسين فوافى باب الجسر، واجتمع إِلَيْهِ النّاس، فأمر بإغلاق الباب الَّذِي يخرج منه إلى عُبَيْد الله بْن عليّ وباب سوق يحيى، وقال: يا معشر الأبناء، إنّ خلافة الله لا تُجاوَر بالبَطر، وَنِعْمَةٌ لا تُسْتَصْحب بالتجبُّر، وإن محمدًا يريد أن يزيغ أديانكم، وينكث بيعتكم، ويفرق أمركم. وتالله إنّ طالت يده، وراجعه مِن أمره قوّة، ليَرجعّن وَبَالُ ذَلِكَ عليكم، ولتعرفّن ضرره. فاقْطعوا أثَره قبل أن يقطع آثاركم، وَضَعُوا عزّه قبل أن يضع عزكم.
بيعة الحسين المأمون وخلعه الأمين:
ثمّ أمر الناس بعبور الجسر، فعبروا حتى صاروا إلى سكّة باب خُراسان، واجتمعت الحربيّة وأهلُ الأرباض ممّا يلي بابَ الشام، فتسرّعت خيولٌ مِن خيول الأمين مِن الأعراب وغيرهم إلى الحسين، فاقتتلوا قتالًا شديدًا، ثمّ استظهر عليهم الحسين وتَفَرّقوا. فخلع الحسينُ محمدًا لإحدى عشرة لَيْلَةً خَلَت مِن رجب، وبايع المأمونَ مِن الغد، ثمّ غدا إلى محمد.
حبس الأمين وأمّه في قصر المنصور:
فوثب العبّاس بْن موسى بْن عيسى الهاشميّ فدخل قصر الخُلْد وأخرج منه محمدًا إلى قصر المنصور، فحبسه هناك إلى الظهر. وأخرج أمّه، أمّ جعفر، بعد أنْ أبت، وقنعها بالسَّوط وسَبَّها، وأُدخلت إلى قصر المنصور.
خطبة محمد بْن أبي خَالِد لاعتزال الحسين بْن عليّ:
فلمّا أصبح الناسُ مِن الغد طلبوا مِن الحسين بْن عليّ بْن عيسى بْن ماهان الأرزاق، وقد ماج الناس بعضهم في بعض. وقام محمد بْن أَبِي خَالِد كبير الأبناء بباب الشام فقال: أيّها الناس، والله ما أدري بأيّ سبب تَأمّر الحسين علينا؟ والله ما هُو بأكبرنا سنّا، ولا أكرمنا حسبًا، ولا أعظمنا منزلة وغَناء. وإنّ فينا مِن لا يرضي بالدَّنَيَّةِ، ولا ينقاد بالمخالفة، وإني أوّلكُم نقض عهده، وأنكر فِعله، فمن كَانَ رأيُه رأيي فلْيعتزلْ معي.
وقام أسد الحربيّ فقال نحو مقالته.
خطبة الشَّيْخ الكوفي وإخراج الأمين مِن حبسه:
وأقبل شيخ كبير مِن أبناء الكوفة فصاح: اسكتوا أيّها النّاس؛ فسكتوا لَهُ، فقال: هَلْ تعتدون عَلَى محمدٍ بقطع أرزاقكم؟ قَالُوا: لا! قَالَ: فهل قصّر بأحدٍ مِن أعيانكم؟ قَالُوا: ما عِلمْنا! قال: فهل عُزِل أحدًا مِن قُوّادكم؟ قَالُوا: لا! قَالَ: فما بالكم خذلتموه وأَعَنْتُم عدوّه عَلَى اضطّهاده وأسْره؟ والله ما قتل قوم خليفتهم إلا سلَّط الله عليهم السيف. انهضوا إلى خليفتكم فادفعوا عَنْهُ، وقاتِلوا مِن أراد خلعه. فنهضت الحربيّة، ونهض معهم عامّة أهل الأرباض، فقاتلوا الحسين وأصحابه قتالا
شديدًا، وأكثروا في أصحابه الجراح، وأُسِر الحسين. فدخل أسد الحربيّ عَلَى الأمين، فكسر قيودَه وأقعده في مجلس الخلافة. فنظر محمد إلى قومٍ لَيْسَ عليهم لباس الْجُنْد، ولا عليهم سلاح، فأمرهم فأخذوا مِن الخزائن حاجتهم مِن السلاح، ووعدهم ومَنّاهم.
الصفح عَنِ الحسين بْن عليّ:
وأحضروا الحسين، فلامَه عَلَى خِلافه وقال: ألم أقدّم أباك عَلَى الناس، وأُشرّف أقداركم؟ قَالَ: بلى!.
قَالَ: فما الَّذِي استحققتُ بِهِ منك أن تخلع طاعتي، وتؤلّب النّاس عَلَى قتالي؟ قَالَ: الثّقة بعفو أمير المؤمنين وحُسْن الظّنّ بصفحه. قَالَ: فإنّي قد فعلت ذَلِكَ، وولَّيْتُك الطلب بثأر أبيك. ثمّ خلع عَلَيْهِ وأمرَه بالمسير إلى حُلوان، فخرج.
هرب الحسين بْن عليّ وقتله:
فلمّا خفَّ النّاس قطع الجسر، وهرب في نفر مِن حَشَمه ومواليه. فنادى الأمين في الناس فركبوا وأدركوه. فلما بُصر بالخَّيل نزل فصلّي ركعتين ثمّ تهيّأ، فلقِيهم وحمل عليهم حملات في محلّها يهزمهم، ثمّ عثر بِهِ فرسه فسقط فابتدره الناس فقتلوه، وذلك عَلَى فرسخ مِن بغداد لستّ من رجب. وأتوا برأسه.
وقيل إنّ الأمين لما عفى عَنْهُ استوزره ودفع إِلَيْهِ خاتمه.
تجديد البيعة للأمين:
وصبيحة قتله جدّد الْجُنْد البيعة للأمين.
هرب الفضل بْن الربيع:
وليلة قتله هرب الفضل بن الربيع.
مسير طاهر بن الحسين يقتال بْن يزيد المهلّبي:
ولما سار طاهر إلى الأهواز بلغه أنّ محمد بْن يزيد بْن حاتم المهلَّبيّ عامل الأمين عليها قد توجّه في جمع عازمًا النزول بجنديسابور وهو ما بين حَدّ الأهواز، والجبل،
ليحمي الأهواز مِن أصحاب طاهر، فدعا طاهر عدّة أمراء مِن جُنْده بأن يكمّشوا السير.
ثمّ سارت عساكره حتى أشرفوا عَلَى عسكر مُكْرَم، وبه محمد بْن يزيد، فرجع ودخل الأهواز. ثمّ عبّى أصحابه عَلَى بابها والتقوا، وطال الحرب بينهم.
مصرع محمد بْن يزيد وما قِيلَ في رثائه:
ثمّ نزل محمد بن يزيد هو وغلمانه عن خيلهم وعرقبوهم، وقاتل حتى طعنه رَجُل برمح. وذكر بعضهم مصرعه ورثاه فقال:
سن ذاق طعم الرُّقاد مِن فرحٍ
…
فإنّي قد أَضَرَّ بي سَهَري
وليّ فتى الرُّشْد فافتقدتُ بِهِ
…
قلبي وسمعي وغرَّني بصْريّ
كَانَ غِياثًا لدى الْمُحُولِ فقد
…
ولّي غمامُ الرّبيع والمطرِ
تولية طاهر العمال عَلَى البحرين وأخذ الطاعة مِن الكوفة والموصل وغيرها:
وأقام طاهر بالأهواز، وولّي عمّاله عَلَى اليَمامة والبحرين. ثمّ أخذ عَلَى طريق البَرّ متوجهًا إلى واسط، وبها يومئذٍ السّنْدي بْن يحيى الحَرَشيّ. وجعلت المسالح كلّما قُرب طاهر من واحدة هرب مِن يحفظها. فجمع السّنْديّ والهيثم بْن شُعبة أصحابهما وهَمّا بالقتال، ثمّ هربا عَنْ واسط، فدخلها طاهر، ووجّه إلى الكوفة أحمد بْن المهلّب القائد، وعليها يومئذٍ العبّاس بْن موسى الهادي، فبلغه الخبر، فخلع الأمين، وكتب بالطّاعة إلى طاهر. ونزلت خيله واسط ثمّ فم النيل، وكتب عاملُ البصرة، منصور بْن المهدي، إلى طاهر بالطّاعة. ثمّ نزل طاهر جرجرايا وخندق عَلَيْهِ.
وكتب بالطّاعة أمير الموصل المطّلب بْن عَبْد الله بْن مالك للمأمون. كلّ ذَلِكَ في رجب.
إقرار العمّال عَلَى أعمالهم:
ولمّا كتب هَؤلاءِ إلى طاهر بالطّاعة، أقرّهم عَلَى أعمالهم، واستعمل على مكة والمدينة داوود بْن عيسى بْن موسى الهاشميّ، وعلي اليمن يزيد بْن جرير القسْريّ.
هزيمة محمد البربريّ عند جسر صرصر:
ثمّ غلب طاهر عَلَى المدائن، ثمّ صار منها إلى نهر صَرْصَرٍ، فعقد عَلَيْهِ جسرًا، فوجّه الأمين محمد بْن سليمان القائد، ومحمد بْن حمّاد البربريّ ليُبيّتا يَزَكَ طاهر، فكانت بينهم وقعة شديدة، فانهزم محمد القائد.
انهزام الفضل بْن موسى عَنِ الكوفة:
ووجّه الأمين عَلَى الكوفة الفضل بْن موسى بْن عيسى الهاشميّ وولاه عليها، فالتقاه محمد بْن العلاء ببعض قوّاد طاهر، فاقتتلوا وانهزم أصحاب فضل، وهمّ في أقفيتهم قتلا وأسرًا، فأسروا إسماعيل بْن محمد الْقُرَشِيّ وجمهور النّجّاريّ.
إدبار أمر الأمين:
وبقي أمرُ الأمين كلّ يوم في إدبار، والناس معذورون في خلعه، لكون نكث وخلع أخويه المأمون والمؤتمن. وأقام بَدَلَهما ابنه طفلا رضيعًا، مَعَ ما هُوَ فيه مِن الانهماك عَلَى اللَّهو والجهل.
ذكر خبر خلع داوود بن عيسى الأمين:
وأما داوود بْن عيسى الهاشميّ فإنه كَانَ عَلَى الحرمين، فأسرع في خلع الأمين. وبايع للمأمون وجوهُ أهل الحرمين، فاستخلف عليهما ولده سليمان، وسار في حظيرة مِن أقاربه يريد المأمون بمَرْو. فلمّا قدِم عَلَيْهِ تيمّن1 المأمون ببركة مكّة والمدينة، إذ كانوا أوّل مِن بايعه بعد خراسان.
ووصل داوود بخمسمائة ألف درهم، ثمّ رجع مسرعًا ليقيم موسم الحجّ، ومعه ابن أخيه الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى بْنُ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، فمرّا بالعراق عَلَى طاهر، فبالغ في إكرامهما، ووجّه معهما يزيد بْن جرير بْن يَزِيدَ بْنَ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقِسْرِيَّ، وقد عقد لَهُ طاهر عَلَى ولاية اليمن.
1 تيمن: تفاءل، واستبشر.
إقامة الموسم:
وأقام الموسم العبّاس بْن موسى المذكور.
وأحسن يزيد السيرة باليمن.
انهزام عليّ بن نهيك أمام هَرْثَمَة:
وفي شَعْبان عقد الأمين لعليّ بْن محمد بْن عيسى بْن نهيك الإمرة على نحو أربعمائة قائد، وأمرَه بالمسير إلى هَرْثَمَة. فساروا بحُلوان في رمضان، فهزمهم هَرْثَمَة وأسر أمير الجيش عليّ بْن محمد، وبعث بِهِ إلى المأمون. وزحف هَرْثَمَة فنزل النهروان.
شغب الْجُنْد عَلَى طاهر وقتالهم لَهُ:
وأقام طاهر عَلَى نهر صَرْصَرٍ، فكان لا يأتيه جيش مِن جهة الأمين إلا هزمه.
وأخذ الأمين يدسّ الجواسيس إلى قوّاد طاهر يعدهم ويمنّيهم، فشغبوا عَلَى طاهر، واستأمَن خلقٌ إلى الأمين فأسنى عطاياهم، ثمّ كرّوا إلى صَرْصَرٍ لحرب طاهر. فالتقوا ودام القتال.
تفريق الأمين الخزائن والذخائر عَلَى الناس:
ثمّ انهزم جيش بغداد، وانتهَب أصحاب طاهر أثقالهم وأموالهم. فبلغ الأمينَ الخبرُ، فأخرج خزائنه وذخائره، وفرّق الصلات، وجمَع أهل الأرباض. واعترض الناس عَلَى عينه، فكان لا يرى أحدًا وسيمًا حسن الرّواء إلا خلع عَلَيْهِ وأمّره، وغلّف لحيته بالغالية، فسُمّوا قوّاد الغالية.
وأعطى كل واحد خمسمائة درهم وقارورة غالية.
مكاتبة طاهر لقوّاد الأمين واستمالتهم:
ثمّ كاتب طاهرُ قوّادَ الأمين فاستمالهم، فشغبوا على الأمين، وذلك لست خلون مِن ذي الحجّة. فشاور قوّاده، فقيل لَهُ: تدارك أمرهم. فبذل فيهم بالعطا وأسرف. ونزل معسكرًا بالبستان، ففتح أهل السجونِ السجونَ وخرجوا، ووثب على العامّة السواد، وساءت حال الناس وعظم الشر، وتواكل الفريقان1.
1 انظر: تاريخ خليفة "ص/ 311"، وتاريخ الطبري "8/ 391"، والكامل "6/ 250"، والبداية "10/ 228".