المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أحداث سنة ثمان وتسعين ومائة: - تاريخ الإسلام - ط التوفيقية - جـ ١٣

[شمس الدين الذهبي]

الفصل: ‌أحداث سنة ثمان وتسعين ومائة:

‌أحداث سنة ثمانٍ وتسعين ومائة:

تُوُفّي فيها: إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، أيّوب بْن تميم التّميميّ المقرئ، بدمشق، سُفْيان بْن عُيَيْنَة، أبو محمد الهلالّي، صَفْوان بْن عيسى الزُّهْرِيّ، والأصحّ بعد ذَلِكَ، عَبْد الرَّحْمَن بْن مهديّ، أبو سَعِيد، عُمَر بْن حفص العبديّ، في قَوْل، عَمْرو بْن الهيثم، أبو قطن، بصْريّ ثِقة، عَنْبَسة بْن خَالِد الأَيْليّ، مالك بْن سُعير بْن الخمس الكوفيّ، محمد بْن شعيب بْن شابور، في قَوْل، محمد بْن معن الغِفَاريّ المدنيّ، تقريبًا، مسكين بْن بُكَيْر الحرّانيّ الحدّاد، محمد بْن هارون الأمين الخليفة، قُتِل، معن بْن عيسى القزاز المدنيّ، يحيى بْن سَعِيد القطّان، يحيى بْن عبّاد الضُّبَعيّ البصْريّ، ببغداد.

ذكر استيلاء طاهر عَلَى بغداد:

وفيها الحصار كما هُوَ عَلَى بغداد، ففارق محمدًا خُزَيْمَة بْن خازم مِن كبار قوّاده.

وقفز إلى طاهر بْن الحسين هُوَ ومحمد بْن عليّ بْن عيسى بْن ماهان، فوثبا عَلَى جسر دِجلة في ثامن المحرَّم فقطعاه، وركّزا أعلامهما، وخلعا الأمين، ودعيا للمأمون. فأصبح طاهر بْن الحسين وألحّ في القتال عَلَى أصحاب محمد الأمين، وقاتل بنفسه. فانهزم أصحاب محمد، ودخل طاهر قسْرًا بالسيف، ونادي مناديه: مِن لَزِم بيته فهو آمن.

ثمّ أحاط بمدينة المنصور، وبقصر زُبيدة، وقصر الخُلْد، فثبت عَلَى قتال طاهر حاتم بْن الصَّقْر والهِرْش والأفارقة. فنصب المجانيق خَلَف السّور وعلى القصرين ورماهم. فخرج محمد بأمّه وأهله مِن القصر إلى مدينة المنصور، وتفرّق عامة جُنْده وغلمانه، وقلّ عليهم القُوت والماء، وفنيت خزائنه عَلَى كثْرتها.

ذِكر غناء الجارية ضَعْف:

وذُكِر عَنْ محمد بْن راشد: أخبرني إبراهيم بْن المهديّ أنّه كَانَ مَعَ محمد بمدينة المنصور في قصر باب الذهب، فخرج لَيْلَةً مِن القصر مِن الضَّيق والضَّنك، فصار إلى قصر القرار فطلبني، فأتيتُ، فقال: ما ترى طِيبَ هذه الليلة، وحُسن القمر، وضوءه في الماء، هَلْ لك في الشراب؟ قلت: شأنك.

ص: 33

فدع برطلٍ مِن نبيذ فشرِبه، ثمّ سُقيتُ مثله، وابتدأتُ أُغنّيه مِن غير أن يسألني، لِعِلمي بسوء خُلُقهِ، فغنّيت. فقال: ما تَقُولُ فيمن يضرب عليك؟ فقلت: ما أحْوَجني إلى ذَلِكَ.

فدعا بجاريةٍ اسمها ضَعْف، فتطيّرت مِن اسمها. ثمّ غَنَّتْ بشِعر النّابغة الْجَعْديّ:

كُلَيْبٌ لَعَمْري كَانَ أكثَرَ ناصرًا

وأيْسَرَ ذَنبًا منك ضُرّج بالدَّم

فتطيّر مِن ذَلِكَ، وقال: غنّي غيرَ هذا، فغنّت:

أبكَى فِراقُهُمُ عينيِ فأرّقها

إنّ التفرُّقَ للأحباب بَكّاءُ

ما زال يعدو عليهم رَيْبُ دهرهُم

حتى تفانَوْا وريْبُ الدَّهْر عَدَّاءُ

فاليوم أبكيهمُ جَهْدي وأندُبهم

حتى أأوب وما في مُقلتي ماءُ

فقال لها: لعنكِ الله، أما تعرفين غير هذا؟ فقالت: ظننتُ أنّك تحبّ هذا! ثمّ غنّت:

أما وَرَبّ السُّكُون والحَرَكِ

إنّ المنايا كثيرةُ الشَّركِ

ما اختلف اللَّيْلُ والنهار ولا

وارت نجومُ السماء في الفلكِ

إلا لنقل السلطان عَنْ ملْكٍ

قد زال سلطانه إلى مَلَكِ

وَمُلْكُ ذيِ العرش دائمٌ أبدًا

لَيْسَ بفانٍ ولا بمشتَركِ1

فقال لها: قومي لعنك الله. فقامت فَتَعثّرت في قدح بِلَّور لَهُ قيمة فكسرته، فقال: ويحْك يا إبراهيم، أما ترى، والله ما أظنّ أمري إلا وقد قرُب. فقلت: بل يُطيل الله عُمرك، ويُعز مُلكَك. فسمعتُ صوتًا مِن دجلة:{قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41] . فوثب محمد مغتمّا، ورجع إلى موضعه بالمدينة، وقُتِل بعد لَيْلَةٍ أو ليلتين.

حكاية المسعودي عَنْ مقرطة الأمين:

وحكى المسعودي في المروج قَالَ: ذكر إبراهيم بْن المهديّ قَالَ: استأذنتُ على

1 تاريخ الطبري "8/ 477"، والبداية والنهاية "10/ 240".

ص: 34

الأمين في شدّة الحصار، فإذا هُوَ قد قطع دِجلة بالشِباك، وكان في القصرِ برْكة عظيمة، يدخُل مِن دجلة إليها الماءُ في شُبّاك حديد. فسلّمتُ وهو مقيم عَلَى الماء، والخَدَم قد انتشروا في تفتيش الماء، وهو كالوَالِه1، فقال: لا تؤذيني يا عمّ، فإنّ مقْرطتي قد ذهبت مِن البركة إلى دجلة، والمقرطة سمكة كانت قد صيدت لَهُ، وهي صغيرة، فقرطها بحلقتي ذَهَب، فيها جوهرتان، وقيل ياقوتتان، فخرجت وأنا آيس مِن فَلاحه.

شدّة بطش الأمين:

وكان محمد فيما نقل المسعوديّ، في نهاية الشدّة والبطْش والحُسْن، إلا أنّه كَانَ مَهينًا، عاجز الرأي، ضعيف التدبير.

وحُكى أنّه اصطبح يومًا، فأتي بسبْعٍ هائلٍ عَلَى جمل في قفص، فوُضع بباب القصر، فقال: افتحوا القفص وخّلوه.

فقيل: يا أمير المؤمنين، إنّه سبعٌ هائل أسود كالثور، كثير الشّعْر.

قَالَ: خلّوا عَنْهُ.

ففعلوا، فخرج فزأر وضرب بذَنَبه الأرضَ، فتهارب الناس، وأغلقت الأبواب، وبقي الأمين وحده غير مكترِث. فأتاه الأسد وقصَده ورفع يده، فجذبه الأمين وقبض عَلَى ذنبه، وغمزه وهزّه ورماه إلى الخلف، فوقع السَّبْع عَلَى عجزه ميتًا. وجلس الأمين كأنّه لم يعمل شيئًا. وإذا أصابعه قد تخلّعت. فشقّوا بطن الأسد فإذا مرارته قد انشقّت عَلَى كبده.

الإشارة عَلَى الأمين بالخروج إلى الجزيرة والشام:

وعن محمد بْن عيسى الْجُلُودي قَالَ: دخل على محمد بْن زُبيدة: حاتمُ بْن صقْر، ومحمد بْن الأغلب الإفريقيّ، وقوّاده، فقالوا: قد آلت حالُنا إلى ما ترى، وقد رأينا أن تختار سبعة آلافِ رجلٍ مِن الْجُنْد فتحملهم عَلَى هذه السبعة آلاف فَرَس التي عندك، وتخرج ليلا، فإنّ الّليل لأهله، فتلحق بالجزيرة والشام، وتصير في مملكة

1 الواله: المجنون.

ص: 35

واسعة يتسارع إليك الناس. فعزم عَلَى ذَلِكَ، فبلغ الخبر إلى طاهر، فكتب إلى سليمان بْن المنصور، والى محمد بْن عيسى بْن نَهِيك، والسّنْديّ بْن شاهك: لئن لم تَرُدُّوه عَنْ هذا الرأي لا تركتُ لكم ضيعة. فدخلوا عَلَى محمد، وخوّفوه مِن الذين أشاروا عَلَيْهِ أنّهم يأخذونه أسيرًا، ويتقرّبون بِهِ إلى المأمون. وضربوا لَهُ الأمثال، فخاف ورجع إلى قبول ما يبذلونه لَهُ مِن الأَيْمان، ويخرج إلى هَرْثَمَة.

النصح للأمين بالاستسلام لهَرْثَمَة:

وعن عليّ بْن يزيد قَالَ: وفارق محمدًا: سليمان بْن المنصور، وإبراهيم بْن المهديّ ولحِق بعسكر المهديّ. وقوي الحصار عَلَى محمد يوم الخميس والجمعة والسبت، وأشار عَلَيْهِ السّنْديّ بأنّه لَيْسَ لَهُ فرج إلا عند هَرْثَمَة. فقال: وكيف لي بهَرْثَمَة وقد أحاط الموتُ بي مِن كلّ جانب؟ فلمّا همّ بالخروج إِلَيْهِ مِن دون طاهر، اشتدّ ذَلِكَ عَلَى طاهر وقال: هُوَ في جُنْدي، وأنا أخرجته بالحرب، ولا أرضي أن يخرج إلى هَرْثَمَة دوني.

فقالوا لَهُ: هُوَ خائف منك، ولكن يدفع إليك الخاتم والقضيب والبُردة، فلا يفسُد هذا الأمر. فرضي بذلك.

وقوع الأمين في الأسر:

ثمّ إنّ الهِرْش لمّا علم بذلك أراد التقرُّب إلى قلب طاهر، فقال في كتاب إِلَيْهِ: الَّذِي قالوه لك مَكْرٌ، ولا يدفعون إليك شيئًا. فاغتاظ وكَمَن حول قصر أمّ جعفر في السلاح والرجال، وذلك لخمسٍ بقين مِن المحرّم. فلمّا خرج محمد وصار في الحرّاقة رموه بالنّشّاب والحجارة، فانكفأت الحرّاقة، وغرِق محمد وهَرْثَمَة، ومن كَانَ بها. فسبح محمد حتى صار إلى بستان موسى، فعرفه محمد بْن حُمَيْد الطّاهريّ، فصاح بأصحابه، فنزلوا ليأخذوه، فبادر محمد الماء، فأُخذ برجْله وَحُمِلَ عَلَى برْذَوْن، وخلْفه مِن يُمسكه كالأسير.

ما رُوِيَ حول أسر الأمين:

وعن خطّاب بْن زياد أنّ محمدًا وهَرْثَمَة لما غِرقا أتانا محمد بْن حُمَيْد، فأسَرَّ إلى طاهر أنّه أسر محمدًا. فدعا بمولاه قريش الدَّنْدانيّ، وأمره بقتل محمد.

ص: 36

وأمّا المدائنيّ فروى عَنْ محمد بْن عيسى الْجُلُوديّ: أنّ محمدًا دعا بعد العِشاء بفَرَس أدهم كَانَ يسمّيه الزُّهَيريّ، وقبّل وَلَدَيْه، ودمعت عيناه. ثم ركب وخرجنا بن يديه، فرِكْبنا دوابَّنا، وبين يديه شمعة، وأنا أقِيه بيدي خوفًا مِن أن تَجيئه ضربةُ سيف بغَتةً. ففُتح لنا باب خُراسان، وخرجنا إلى المُشْرَعَة، فإذا حرّاقة هَرْثَمَة، فنزلنا ورجعنا بالفَرَس وغلّقنا باب المدينة، ثمّ سمعنا الضّجّة، فصعدنا إلى أعلى الباب.

وذُكِر عَنْ أحمد بْن سلام صاحب المظالم قَالَ: كنت فيمن كان مع هرثمة من القُوّاد في الحرّاقة، فلمّا دخل محمد الحرّاقة قمنا لَهُ، وجثا هَرْثَمَة عَلَى رُكبتيه فقال: يا سيّدي، لم أقدر عَلَى القيام لمكان النَّقْرس. ثمّ قّبل يديه ورِجْلَيه، وجعل يَقُولُ: يا سيّدي ومولاي، وابن مولاي. وجعل يتصفَّح وجوهنا، ونظر إلى عُبَيْد الله بْن الوضّاح، فقال: أيُّهم أنت؟ قَالَ: عُبَيْد الله. قَالَ: جزال الله خيرًا، فلما أشكرني لِمَا كَانَ منك في أمر الثلج.

فشدّ علينا أصحاب طاهر في الزواريق والحرّاقات، وصَبّحوا، وتعلّق بعضهم بالحرّاقة، وبعضهم يسوقها، وبعضهم يرمي بالآجُرّ والنّشّاب، فنُقبت الحرّاقة، ودخلها الماء وغرِقت. فعلِق الملاح بشعر هَرْثَمَة، فأخرجه وخرجنا. وشقّ محمد عَنْهُ ثيابه ورمى بنفسه. فطلعتُ فعلِق بي رجلٌ مِن أصحاب طاهر، وذهب بي إليه، فقال: ما فعل محمد؟ قلت: قد رَأَيْته حين شقّ ثيابَه وقذف بنفسه. فركِب، وأُخذتُ معهم وفي عنقي حبل، وأنا أعدو، فتعبتُ. فقال الَّذِي يجنُبني: هذا لَيْسَ يُصَاد. فقال: انزل فجُزَّ رأسه.

فقلت: جُعلتُ فِداك، وَلِمَ؟ وأنا رجلٌ مِن الله في نعمة، ولم أقدر عَلَى الْعَدْوِ، وأنا أفدي نفسي بعشرة آلاف درهم.

فقال: وأين هِيَ؟

فقلت: حتى نُصبح أَنَا أرسلُ مِن ترى أنتَ إلى وكيلي في منزلتي بعسكر المهديّ، فإنْ لم يأتِكَ بالعشرة آلاف فاقتلني.

فأمر بحملي فحُملت رِدفًا، وردّوني إلى منزلتهم. وبعد هُويّ مِن اللَّيْلِ إذا نَحْنُ بحركة الْخَيْلِ، ثمّ دخلوا وهم يقولون: يُسَر زُبيدة. فأُدخِل عليّ رجلٌ عُريان عَليْهِ سراويل وعمامة ملثَّم بها، وعلى كِتَفْيه خرقة خَلقة، وصيّروه معي، ووكّلوا بنا. فلمّا

ص: 37

حسَر العمامة عَنْ وجهة إذا هُوَ محمد. فاستعبرتُ واسترجعت في نفسي. ثمّ قَالَ: مِن أنت؟ قلت: أَنَا مولاك أحمد بْن سلام.

فقال: أعرفكَ كنتَ تأتيني بالرَّقَّة.

قلت: نعم.

قَالَ: كنت تأتيني وتُلْطفني كثيرًا، لستَ مولاي بل أنتَ أخي ومنّي. أُدْنُ مِنّي، فإنّي أجدُ وحشةً شديدة.

فضممته إليّ، ثمّ قَالَ: يا أحمد، ما فعل أخي؟ قلت: هُوَ حيّ.

قَالَ: قبّح الله صاحب البريد ما أكذبه، كَانَ يَقُولُ لي قد مات.

قلت: بل قبّح الله وزراءك.

قَالَ: لا تقُل، فما لَهُم ذنب، ولست أول مِن طلب أمرًا فلم يقدر عَلَيْهِ.

ثمّ قَالَ: ما تراهم يصنعون بي؟ يقتلوني أو يَفُون لي بأمانهم؟ قلت: بل يَفُون لك يا سيّدي.

وجعل يمسك الخِرْقة بعضُدَيْه، فنزعتُ مبطَّنةً عليّ وقلت: أَلْقِها.

فقال: ويْحك! دعني، فهذا مِن الله لي في هذا الموضع خير كثير.

ذكر خبر قتل الأمين:

ثمّ قمت أوتِر، فلمّا انتصف اللَّيْلُ دخل الدار قوم مِن العجم بالسيوف، فقام وقال: إنّا لله وإنّا إِلَيْهِ راجعون، ذَهَبَتْ والله نفسي في سبيل الله، أما مِن حيلةٍ، أما مِن مُغيث. فأحجموا عَنِ التقدُّم، وجعل بعضهم يَقُولُ لبعض: تقدَّم، ويدفع بعضُهم بعضًا، فقمت وصرتُ وراء الحُصُر المُلَفَّفة.

وأخذ محمدٌ بيده وسادة وقال: ويحكم إني ابن عم رسول الله، أَنَا ابن هارون، أَنَا أخو المأمون، الله الله في دَمي. فوثب عَلَيْهِ خمارويه، غلام لقريش الدنْدانيّ، فضربه بالسيف عَلَى مقدَّم رأسه، فضربه محمد بالوسادة واتّكى عَلَيْهِ ليأخذ السيف مِن يده. فصاح خمارويه: قتلني قتلني، فتكاثروا عَلَيْهِ فذبحوه مِن قفاه، وذهبوا برأسه إلى طاهر.

ص: 38

وذُكِر عَنْ أحمد بْن سلام في هذه القصّة قَالَ: فلقَّنْته لما حدَّثته ذِكَر الله والاستغفارَ، فجعل يستغفر.

قَالَ: ونُصِب رأسه عَلَى حائط بستان. وأقبل طاهر يَقُولُ: هذا رأس المخلوع محمد. ثمّ بعث بِهِ مَعَ البُرْد والقضيب والمصلّي، وهو مِن سَعَفٍ مُبطّن، مَعَ ابن عمّه محمد بْن مُصْعَب، فأمر لَهُ بألف درهم. ولما رَأَى المأمون الرأس سَجد.

رثاء إبراهيم بْن المهديّ للأمين:

ولما بلغ إبراهيم بن المهدب قتْلُ محمد، وأنّ جثته جُرَّت بحبلٍ بكى طويلا، ثمّ قَالَ:

عُوجا بمغْنَى طلل داثرٍ

بالخُلْد ذات الصخر والأجُرِ

والمَرْمَر المسنونِ يُطلَى بِهِ

والبابِ باب الذَّهَب الناضرِ

وأبلِغا عنِّي مقالًا إلى الـ

ـمولى عَنِ المأمور وَالآمِرِ

قولا لَهُ: يا ابنَ وليّ الهُدى

طهّر بلاد الله مِن طاهرِ

لم يكفه أن جَزَّ أوداجَه

ذَبْحَ الهدَايا بمُدَى الجازرِ

حتى أتى تُسحبُ أوصاله

في شَطَنٍ يُفْني بِهِ السّائِرِ

قد برد الموتُ عَلَى جفنه

فطرفُه منكسِرُ الناظرِ1

وبلغ ذَلِكَ المأمونَ فاشتدّ عَلَيْهِ.

وثوب الْجُنْد بطاهر:

ثمّ إنّ طاهرًا صلّي بالناس يوم الجمعة، وخطبهم خطبةً بليغة. ثمّ إنّ الْجُنْد وثبوا بِهِ للأرزاق، ولم يكن في يديه مال، وضاق بِهِ أمره، فخشي وهرب مِن البُستان، وانتهبوا بعض متاعه، وأحرق الْجُنْد باب الأنبار، وحملوا السلاح يومهم. ومن الغد نادوا: موسى يا منصور. ثمّ تعبّى طاهر ومَن معه لقتالهم، فأتاه الوجوه، واعتذروا بأنّ ما جرى مِن فعل السُّفَهاء الأحداث، فأمر لهم برزق أربعة أشهر، ووصل البريد

1 تاريخ الطبري "8/ 488"، والكامل "6/ 287".

ص: 39

إلى المأمون في ستّة عشر يومًا وهو بمَرْو.

ما قِيلَ في رثاء الأمين:

وممّا قِيلَ في الأمين:

لِمَ نُبَكّيك لماذا لِلطَّربْ

يا أبا موسى وترْويج اللُّعَبْ

ولِتَرْك الخَمْس في أوقاتها

حرصًا مِنك عَلَى ماء الْعِنَبْ

وشنَيفٍ أَنَا لا أبكى لَهُ

وعلى كوثَر لا أخشى الْعَطَبْ

لم تكن تصلُح للمُلْك ولم

تُعْطكَ الطّاعة بالمُلك الْعَرَبْ

لِمَ نُبَكّيك لما عرَّضْتَنا

للمجانيق وَطَوْرًا للسَّلَبْ1

وساق ابن جرير عدّة قصائد في مراثيه.

ولخُزَيْمَة بْن الحَسَن عَلَى لسان أمّ جعفر قصيدة يَقُولُ فيها:

أتى طاهرٌ لا طهّر الله طاهرًا

فما طاهرٌ فيما أتى بمُطهَّرِ

قد خرّجني مَكشوفَةَ الوجه حاسرًا

وأَنْهَبَ أموالي وأحرق آدُري

يَعُزُّ عَلَى هارون ما قد لِقيتُهُ

وما مرّ بي مِن ناقص الخلق أعور

تَذَكَّرْ أميرَ المؤمنينَ قَرابتي

فَدَيْتُكَ مِن ذي حُرمةٍ مُتذكّرِ2

ذكر إسراف الأمين في اللهو والإنفاق:

قَالَ ابن جرير: ذُكِر عَنْ حُمَيْد بْن سَعِيد بْن بحر قَالَ: لما ملك محمد، ابتاع الخِصْيان، وغالى بهم وصيّرهم لخلْوته، ورفض النّساء والجواري.

وقال حُمَيْد: لما ملك وجَّه إلى البلدان في طل المُلهين، وأجرى لهم الأرزاق، واقتني الوحوش والسباع والطيور، واحتجب عَنْ أهل بيته وأمرائه، واستخفّ بهم. ومَحَقَ ما في بيوت الأموال، وضيّع الجواهر والنفائس. وبنى عدّة قصور لِلَّهْوِ في

1 تاريخ الطبري "8/ 500".

2 السابق "8/ 506".

ص: 40

أماكن. وعمل خمس حرّاقات عَلَى خِلْقة الأسد والفيل والعُقاب والحيّة والفَرَس، وأنفق في عملها أموالا. فقال أبو نُواس:

سَخَّر الله للأمين مطايا

لم تُسخَّر لصاحب المحرابِ

فإذا ما رِكابُه سِرْنَ برًّا

سار في الماء راكبًا ليث غابِ

أسدًا باسِطًا ذراعيه يهوي

أهْرَتَ الشَّدْق1 كالحَ الأنيابِ

وعن الحسين بْن الضّحّاك قَالَ: ابتنى الأمين سقيفةً عظيمة، أنفق في عملها نحو ثلاثة آلاف ألف درهم.

وعن أحمد بْن محمد البرمكيّ، أنّ إبراهيم بْن المهديّ غنّي محمد بْن زُبيدة:

هجرتُكِ حتى قلتِ: لا يعرف الهوى

وزُرْتك حتى قِيلَ: لَيْسَ لَهُ صبرُ

فطرِب محمد وقال: أوقِروا لَهُ زَورقه ذَهَبًا.

وجاء عَنْهُ أخبار في مثل هذا، وكان كثير الأكل.

رجاء ابن حنبل الرحمة للأمين:

قَالَ أحْمَد بْن حنبل: إنّي لأرجو أن يرحم الله الأمين بإنكاره عَلَى إسماعيل بن عُلَيَّة، فإنّه أُدخل عَلَيْهِ فقال لَهُ: يا ابنَ الفاعلة، أنت الَّذِي تَقُولُ: كلام الله مخلوق؟!.

استيلاء ابن بَيْهَس عَلَى دمشق:

وفيها قوي محمد بْن صالح بْن بَيْهَس الكلابيّ، وظهر عَلَى السُّفيانيّ الَّذِي خرج بدمشق، وحاصرها، ثمّ نصب عليها السلالم وتسوّرها2 أصحابه.

وكان قد تغلّب عَلَى دمشق مَسْلَمة بْن يعقوب الأُمويّ، فهربَ وعمد إلى أَبِي العُمَيْطِر، وكان في حبْسه، ففكّ قيده، ثمّ خرجا بزيّ النّساء في السرّ إلى المِزَّة. واستولى ابن بَيْهَس عَلَى البلد. ثمّ جرى بينه وبين أهل المزرة ودَارَيّا حرب. وبقي حاكمًا عَلَى دمشق مدّة مِن جهة المأمون إلى سنة ثمانٍ ومائتين.

1 الشدق: جانب الفم مما تحت الخد، وكانت العرب تمتدح رحابة الشدقين، لدلالتها على جهارة الصوت. المعجم الوجيز "ص/ 338".

2 تسورها: علاها وتسلقها.

ص: 41

ذكر خروج ابن الهِرش في سِفْلة الناس:

وفي ذي الحجّة خرج الحَسَن الهِرش في سِفْلة الناس وخلْق مِن الأعراب يدعو إلى الرضا مِن آل محمد. وأتى النّيل، وجبى الخراج، وصادر التّجّار، ونهب القرى والمواشي.

استعمال المأمون للحسن بْن سهل عَلَى جميع البلاد المفتوحة:

وفيها استعمل المأمون الحَسَن بْن سهل أخا الفضل عَلَى جميع ما افتتحه طاهر بْن الحسين مِن كُوَر الجبال والعراق والحجاز واليمن.

ولاية طاهر الجزيرة والشام ومصر والمغرب:

وكتب إلى طاهر أن يسير إلى الرَّقَّةِ لحرب نصر بْن شبث، وولاه الجزيرة والشام ومصر والمغرب.

وأمر هَرْثَمَة أن يردّ إلى خُراسان.

ذِكر ثورة أهل قُرْطُبَة:

وفي رمضان ثار أهل قُرْطُبَة بأميرهم الحَكَم بْن هشام الأمويّ وحاربوه لجوره وفسْقه، وتُسمّى وقعة الرَّبَض. وخرج عَلَيْهِ أهل رَبَض البلد، وشهروا السلاح، وأحاطوا بالقصر، واشتدّ القتال، وعظُم الخطْب، واستظهروا عَلَى أهل القصر. فأمر الحَكَم أمراءه فحملوا عليهم، وأمر طائفةً فَنَقبوا السُّور، وخرج منه عسكر، فأتوا القوم مِن وراء ظهورهم، وقتلوا منهم مقتلةً عظيمة، ونهبوا الدُّور، وأسَروا وعملوا كلّ قبيح، ثمّ لقوا الحَكَم، فانتقى مِن الأسرى ثلاثمائة مِن وجوه البلد، فصُلبوا عَلَى النهر مُنَكَّسِين. وبقي النَّهْب والسَّلْب والحريق في أرباض1 قُرْطُبَة ثلاثة أيام ثمّ أمّنهم، فهجّ أهل قُرْطُبَة وتفرّقوا أيادي سبأ في الطُّرُق، ومضى خلْق منهم إلى الإسكندرية فسكنها2.

1 أنحاء أو أرجاء.

2 انظر: تاريخ خليفة "ص/ 311"، تاريخ الطبري "8/ 527"، البداية "10/ 240-261"، النجوم الزاهرة "2/ 231"، صحيح التوثيق "6/ 160".

ص: 42