الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خطبه التي كان يخطب بها بالمشهد الحسيني من انشائه على طريقة لم يسبق إليها وانضوى إلى الشيخ أبي الأنوار السادات وشملته انواره ومكارمه ويصلى به في بعض الاحيان ويخطب بزاويتهم أيام المواسم ويأتي فيهما بمدائح السادات وما تقتضيه المناسبات توفي في منتصف شهر شعبان من السنة غفر الله لنا وله.
سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف
.
وهي أول سني الملاحم العظيمة والحوادث الجسيمة والوقائع النازلة والنوازل الهائلة وتضاعف الشرور وترادف الأمور وتوالي المحن واختلال الزمن وانعكاس المطبوع وانقلاب الموضوع وتتابع الاهوال واختلاف احوال وفساد التدبير وحصول التدمير وعموم الخراب وتواتر الأسباب وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون.
في يوم الأحد العاشر من شهر محرم الحرام من هذه السنة وردت مكاتبات على يد السعاة من ثغر الأسكندرية ومضمونها أن في يوم الخميس ثامنه حضر إلى الثغر عشرة مراكب من مراكب الانكليز ووقفت على البعد بحيث يراها أهل الثغر وبعد قليل حضر خمسة عشر مركبا أيضا فانتظر أهل الثغر ما يريدون وإذا بقارب صغير وأصل من عندهم وفيه عشرة انفار فوصلوا البر واجتمعوا بكبار البلد والرئيس إذ ذاك فيها والمشار إليه بالإبرام والنقض السيد محمد كريم الآتي ذكره فكلموهم واستخبروهم عن غرضهم فأخبروا أنهم انكليز حضروا للتفتيش على الفرنسيس لانهم خرجوا بعمارة عظيمة يريدون جهة من الجهات ولا ندري أين قصدهم فربما دهموكم فلا تقدرون علىدفعهم ولا تتمكنوا من منعهم فلم يقبل السيد محمد كريم منهم هذا القول وظن أنها مكيدة وجاوبوهم بكلام خشن فقالت رسل الانكليز نحن نقف بمراكبنا في البحر محافظين على الثغر لا نحتاج منكم إلا الأمداد بالماء والزاد بثمنه فلم يجيبوهم لذلك
وقالوا: هذه بلاد السلطان وليس للفرنسيين ولا لغيرهم عليها سبيل فاذهبوا عنا فعندها عادت رسل الانكليز واقلعوا في البحر ليمتاروا من غير الأسكندرية وليقضى الله امرا كان مفعولا ثم أن أهل الثغر أرسلوا إلى كاشف البحيرة ليجمع العربان وياتي معهم للمحافظة بالثغر فلما قرئت المكاتبات بمصر حصل بها اللغط الكثير من الناس وتحدثوا بذلك فيما بينهم وكثرت المقالات والاراجيف.
ثم ورد في ثالث يوم بعد ورود المكاتيب الأول مكاتبات مضمونها أن المراكب التي وردت الثغر عادت راجعة فاطمأن الناس وسكن القيل والقال وأما الأمراء فلم يهتموا بشيء من ذلك ولم يكترثوا به اعتمادا على قوتهم وزعمهم أنه إذا جاءت جميع الافرنج لا يقفون في مقابتلهم وأنهم يدوسونهم بخيولهم.
فلما كان يوم الأربعاء العشرون من الشهر المذكور وردت مكاتبات من الثغر ومن رشيد ودمنهور بأن في يوم الإثنين ثامن عشره وردت مراكب وعمارات للفرنسيين كثيرة فأرسوا في البحر وأرسلوا جماعة يطلبون القنصل وبعض أهل البلد فلما نزلوا إليهم عوقوهم عندهم فلما دخل الليل تحولت منهم مراكب إلى جهة العجمي وطلعوا إلى البر ومعهم آلات الحرب والعساكر فلم يشعر أهل الثغر وقت الصباح إلا وهم كالجراد المنتشر حول البلد فعندها خرج أهل الثغر وما انظم إليهم من العربان المجتمعة وكاشف البحيرة فلم يستطيعوا مدافعتهم ولا امكنهم ممانعتهم ولم يثبتوا لحربهم وأنهزم الكاشف ومن معه من العربان ورجع أهل الثغر إلى التترس في البيوت والحيطان ودخلت الافرنج البلد وانبث فيها الكثير من ذلك العدد كل ذلك وأهل البلد لهم بالرمي يدافعون عن أنفسهم وأهليهم يقاتلون ويمانعون فلما أعياهم الحال وعلموا أنهم مأخوذون بكل حال وليس ثم عندهم للقتال استعداد لخلو الأبراج من آلات الحرب والبارود وكثرة العدو وغلبيته طلب أهل الثغر الأمان فآمنوهم ورفعوا عنهم القتال
ومن حصونهم انزلوهم ونادى الفرنسيس بالأمان في البلد ورفع بنديراته عليها وطلب أعيان الثغر فحضروا بين يديه فالزمهم بجمع السلاح وأحضاره إليه وأن يضعوا الجوكار في صدورهم فوق ملبوسهم والجوكار ثلاث قطع من جوخ أو حرير أو غير ذلك مستديرة في قدر الريال سوداء وحمراء وبيضاء توضع بعضها فوق بعض بحيث تكون كل دائرة أقل من التي تحتها حتى تظهر الالوان الثلاثة كالدوائر المحيط بعضها ببعض ولما وردت هذه الأخبار مصر حصل للناس انزعاج وعول اكثرهم على الفرار والهجاج وأما ما كان من حال الأمراء بمصر فإن إبراهيم بك ركب إلى قصر العيني وحضر عنده مراد بك من الجيزة لأنه كان مقيما بها واجتمع باقي الأمراء والعلماء والقاضي وتكلموا في شأن هذا الأمر الحادث إلى اسلامبول وأن مراد بك يجهز العساكر ويخرج لملاقاتهم وحربهم وانفض المجلس على ذلك وكتبوا المكاتبة وأرسلها بكر باشا مع رسوله على طريق البرلياتية بالترياق من العراق وأخذوا في الأستعداد للثغر وقضاء اللوازم والمهمات في مدة خمسة أيام فصاروا يصادرون الناس ويأخذون أغلب ما يحتاجون إليه بدون ثمن ثم ارتحل مراد بك بعد صلاة الجمعة وبرز خيامه ووطاقه إلى الجسر الأسود فمكث به يومين حتى تكامل العسكر وصناجقه وعلي باشا الطرابلسي وناصف باشا فإنهم كانوا من اخصائه ومقيمين معه بالجيزة وأخذ معه عدة كثيرة من المدافع والبارود وسار من البر مع العساكر الخيالة وأما الرجال وهم الالداشات القلينجية والأروام والمغاربة فإنهم ساروا في البحر مع الغلايين الصغار التي أنشأها الأمير المذكور ولما ارتحل من الجسر الأسود أرسل إلى مصر يأمر بعمل سلسلة من الحديد في غاية الثخن والمتانة وطولها مائة ذراع وثلاثون ذراعا لتنصب على البغاز عند برج مغيزل من البر إلى البر لتمنع مراكب الفرنسيين من العبور لبحر النيل وذلك باشارة علي باشا وأن يعمل عندها جسر من المراكب وينصب عليها متاريس ومدافع ظنا منهم
أن الافرنج لا يقدرون على محاربتهم في البر وأنهم يعبرون في المراكب ويقاتلونهم وهم في المراكب وأنهم يصابرونهم ويطاولونهم في القتال حتى تأتيهم النجدة وكان الأمر بخلاف ذلك فإن الفرنسيس عندما ملكوا الأسكندرية ساروا على طريق البر الغربي من غير ممانع وفي اثناء خروج مراد بك والحركة بدت الوحشة في الأسواق وكثر الهرج بين الناس والارجاف وانقطعت الطرق واخذت الحرامية في كل ليلة تطرق اطراف البلد وانقطع مشي الناس من المرور في الطرق والأسواق من المغرب فنادى الاغا والوالي بفتح الأسواق والقهاوي ليلا وتعليق القناديل على البيوت والدكاكين وذلك لأمرين الأول ذهاب الوحشة من القلوب وحصول الأستئناس والثاني الخوف من الدخيل في البلد.
وفي يوم الإثنين وردت الأخبار بأن الفرنسيس وصلوا إلى دمنهور ورشيد وخرج معظم أهل تلك البلاد على وجوههم فذهبوا إلى فوة نواحيها والبعض طلب الأمان وأقام ببلده وهم العقلاء وقد كانت الفرنسيس حين فلولهم بالاسكندرية كتبوا مرسوما وطبعوه وأرسلوا منه نسخا إلى البلاد التي يقدمون عليها تطمينا لهم ووصل هذا المكتوب مع جملة من الأسارى الذين وجدوهم بمالطة وحضروا صحبتهم وحضر منهم جملة إلى بولاق وذلك قبل وصول الفرنسيس بيوم أو بيومين ومعهم منه عدة نسخ منهم مغاربة وفيهم جواسيس وهم على شكلهم من كفار مالطه ويعرفون باللغات.
وصورة ذلك المكتوب بسم الله الرحمن الرحيم لا اله إلا الله لا ولد له ولا شريك له في ملكه من طرف الفرنساوية المبنى على أساس الحرية والتسوية السر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونابارته يعرف أهالي مصر جميعهم أن من زمان مديد الصناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية ويظلمون تجارها بأنواع الايذاء والتعدي فحضر الآن ساعة عقوبتهم وأخرنا من مدة عصور طويلة هذه الزمرة المماليك المجلوبين من بلاد الأبازة والجراكسة يفسدون
في الإقليم الحسن الأحسن الذي لا يوجد في كرة الأرض كلها فأما رب العالمين القادر على كل شيء فإنه قد حكم على انقضاء دولتهم يا أيها المصريون قد قيل لكم: إنني ما نزلت بهذا الطرق إلا بقصد إزالة دينكم فذلك كذب صريح فلا تصدقوه وقولوا للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين وإنني أكثر من المماليك أعبد الله سبحانه وتعالى واحترم نبيه والقرآن العظيم وقولوا أيضا لهم: إن جميع الناس متساوون عند الله وأن الشيء الذي يفرقهم عن بعضهم هو العقل والفضائل والعلوم فقط وبين المماليك والعقل والفضائل تضارب فماذا يميزهم عن غيرهم حتى يستوجبوا أن يتملكوا مصر وحدهم ويختصوا بكل شيء أحسن فيها من الجواري الحسان والخيل العتاق والمساكن المفرحة فإن كانت الأرض المصرية التزاما للماليك فليرونا الحجة التي كتبها الله لهم ولكن رب العالمين رؤوف وعادل وحليم ولكن بعونه تعالى من الآن فصاعدا لا ييأس أجد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب الساميةوعن اكتساب المراتب العالية فالعلماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيدبرون الأمور وبذلك يصلح حال الأمة كلها وسابقا كان في الاراضي المصرية المدن العظيمة والخلجان الواسعة والمتجر المتكاثر وما إزال ذلك كله إلا الظلم والطمع من المماليك أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجربجية وأعيان البلد قولوا: لأمتكم أن الفرنساوية هم أيضا مسلمون مخلصون وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي الباب الذي كان دائما يحث النصارى على محاربة الإسلام ثم قصدوا جزيرة مالطة وطرودا منها الكوا للرية الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين ومع ذلك الفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني وأعداء أعدائه أدام الله ملكه ومع ذلك أن المماليك امتنعوا من إطاعة السلطان غير ممتثلين لامره فما أطاعوا أصلا إلا لطمع أنفسهم طوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير فيصلح
حلهم وتعلو مراتبهم طوبى أيضا للذين يقعدون في مساكنهم غير مائلين لاحد من الفريقين المتحاربين فإذا عرفونا بالاكثر تسارعوا إلينا بكل قلب لكن الويل ثم الويل للذين يعتمدون على المماليك في محاربتنا فلا يجدون بعد ذلك طريقا إلى الخلاص ولا يبقى منهم أثر.
المادة الأولى: جميع القرى الواقعة في دائرة قريبة بثلاث ساعات من المواضع التي يمر بها عسكر الفرنساوية فواجب عليها أن ترسل للسر عسكر من عندها وكلاء كيما يعرف المشار إليه أنهم أطاعوا وأنهم نصبوا علم الفرنساوية الذي هو أبيض وكحلي واحمر.
المادة الثانية: كل قرية تقوم على العسكر الفرنساوي تحرق بالنار.
المادة الثالثة: كل قرية تطيع العسكر الفرنساوي أيضا تنصب صنجاق السلطان العثماني محبنا دام بقاؤه.
المادة الرابعة: المشايخ في كل بلد يختمون حالا جميع الارزاق والبيوت والأملاك التي تتبع المماليك وعليهم الاجتهاد التام لئلا يضيع أدنى شيء منها.
المادة الخامسة: الواجب على المشايخ والعلماء والقضاة الأئمة أنهم يلازمون وظائفهم وعلى كل أجد من أهالي البلدان أن يبقى في مسكنه مطمئنا وكذلك تكون الصلاة قائمة في الجوامع على العادة والمصريون بأجمعهم ينبغي أن يشكروا الله سبحانه وتعالى لانقضاء دولة المماليك قائلين بصوت عالي ادام الله اجلال السلطان العسكر الفرنساوي لعن الله المماليك وأصلح حال الأمة المصرية.
تحريرا بمعسكر اسكندرية في 13 شهر سيدور سنة 1213 من اقامه الجمهور الفرنساوي يعني في آخر شهر محرم سنة هجرية اه بحروفه.
وفي يوم الخميس الثاني والعشرين من الشهر وردت الأخبار بأن الفرنسيس وصلوا إلى نواحي فوة ثم إلى الرحمانية.
واستهل شهر صفر سنة 1213 وفي يوم الأحد غرة شهر صفر وردت الأخبار بأن في يوم الجمعة التاسع والعشرين من شهر محرم التقى العسكر
المصري مع الفرنسيس فلم تكن إلا ساعة وأنهزم مراد بك ومن معه ولم يقع قتال صحيح وإنما هي مناوشة من طلائع العسكرين بحيث لم يقتل إلا القليل من الفريقين واحترقت مراكب مراد بك بما فيها من الجبخانة والآلات الحربية واحترق بها رئيس الطبجية خليل الكردل وكان قد قاتل في البحر قتالا عجيبا فقدر الله أن علقت نار بالقلع وسقط منها نار إلى البارود فاشتعلت جميعها بالنار واحترقت المركب بما فيه من المحاربين وكبيرهم وتطايروا في الهواء فلما عاين ذلك مراد بك داخله الرعب وولى منهزم وترك الاثقال والمدافع وتبعته عساكره ونزلت المشاة في المراكب ورجعوا طالبين مصر ووصلت الأخبار بذلك إلى مصر فاشتد انزعاج الناس وركب إبراهيم بك إلى ساحل بولاق وحضر الباشا والعلماء ورؤوس الناس وأعملوا رأيهم في هذا الحادث العظيم فاتفق رأيهم على عمل متاريس من بولاق إلى شبرا ويتولى الإقامة ببولاق إبراهيم بك وكشافه ومماليكه وقد كانت العلماء عند توجه مراد بك تجتمع بالأزهر كل يوم ويقرأو البخارى وغيره من الدعوات وكذلك مشايخ فقراء الأحمدية والرفاعية والبراهمة والقادرية والسعدية وغيرهم من الطوائف وأرباب الإشاير ويعملون لهم مجالس بالأزهر وكذلك أطفال المكاتب ويذكرون الأسم اللطيف وغير من الأسماء.
وفي يوم الإثنين حضر مراد بك إلى برانبابة وشرع في عمل متاريس هناك ممتدة إلى بشتيل وتولى ذلك هو وصناجقة وامراؤه وجماعة من خشداشينه واحتفل في ترتيب ذلك وتنظيمه بنفسه هو وعلي باشا الطرابلسي ونصوح باشا وأحضروا المراكب الكبار والغلايين التي أنشأها بالجيزة واوقفها على ساحل انبابة وشحنها بالعساكر والمدافع فصار البر الغربي والشرقي مملوئين بالمدافع والعساكر والمتاريس والخيالة والمشاة ومع ذلك فقلوب الأمراء لم تطمئن بذلك فإنهم من حين وصول الخبر لهم من الأسكندرية شرعوا في نقل امتعتهم من البيوت الكبار المشهورة المعروفة
إلى البيوت الصغار التي لا يعرفها احدوا ستمروا طول الليالي ينقلون الأمتعة ويوزعونها عند معارفهم وثقاتهم وأرسلوا البعض منها لبلاد الارياف وأخذوا أيضا في تشهيل الأحمال واستحضار دواب للشيل وادوات الارتحال فلما رأى أهل البلدة منهم ذلك داخلهم الخوف الكثير والفزع واستعد الأغنياء وأولوا المقدرة للهروب ولولا أن الأمراء منعوهم من ذلك وزجروهم وهددوا من أراد النقلة لما بقى بمصر منهم أحد.
وفي يوم الثلاثاء نادوا بالنفير العام وخروج الناس للمتاريس وكرروا المناداة بذلك كل يوم فاغلق الناس الدكاكين والأسواق وخرج الجميع لبر بولاق قكانت كل طائفة من طوائف أهل الصناعات يجمعون الدراهم من بعضهم وينصبون لهم خياما أو يجلسون في مكان خرب أو مسجد ويرتبون لهم فيما يصرف عليهم ما يحتاجون له من الدراهم التي جمعوها من بعضهم وبعض الناس يتطوع بالانفاق على البعض الآخر ومنهم من يجهز جماعة من المغاربة والشوام بالسلاح والاكل وغير ذلك بحيث أن جميع الناس بذلوا وسعهم وفعلوا ما في قوتهم وطاقتهم وسمحت نفوسهم بانفاق أموالهم فلم يشح في ذلك الوقت أجد بشيء يملكه ولكن لم يسعفهم الدهر وخرجت الفقراء وأرباب الإشاير بالطبول والزمور وأعلام والكاسات وهم يضجون ويصيحون ويذكرن باذكار مختلفة وصعد السيد عمر أفندي نقيب الأشراف إلى القلعة فأنزل منها بيرقا كبيرا سمته العامة البيرق النبوي فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق وإمامه وحوله الوف من العامة بالنبابيت والعصي يهللون ويكبرون ويكثرون من الصياح ومعهم الطبول والزمور وغير ذلك وأما مصر فإنها باقية خالية الطرق لا تجد بها أحدا سوى النساء في البيوت والصغار وضعفاء الرجال الذين لا يقدرون على الحركة فإنهم مستترون مع النساء في بيوتهم والأسواق مصفرة والطرق مجفرة من عدم الكنس والرش وغلا سعر البارود والرصاص بحيث بيع الرطل البارود بستين نصفا والرصاص بتسعين وغلا جنس أنواع السلاح
وقل وجوده وخرج معظم الرعايا بالنبابيت والعصي والمساوق وجلس مشايخ العلماء بزاوية علي بك ببولاق يدعون ويبتهلون إلى الله بالنصر وأقام غيرهم من الرعايا البعض بالبيوت والبعض بالزوايا والبعض بالخيام.
ومحصل الأمر أن جميع من بمصر من الرجال تحول إلى بولاق وأقام بها من حين نصب إبراهيم بك العرضي هناك إلى وقت الهزيمة سوى القليل من الناس الذي لا يجدون لهم مكانا ولا ماوى فيرجعون إلى بيوتهم يبيتون بها ثم يصيحون إلى بولاق وأرسل إبراهيم بك إلى العربان المجاورة لمصر ورسم لهم أن يكونوا في المقدمة بنواحي شبرا وما والاها وكذلك اجتمع عند مراد بك الكثير من عرب البحيرة والجيزة والصعيد والخبيرية والقيعان وأولاد علي والهنادي وغيرهم وفي كل يوم يتزايد الجمع ويعظم الهول ويضيق الحال بالفقراء الذين يحصلون أقواتهم يوما فيوما لتعطيل الأسباب واجتماع الناس كلهم في صعيد واحد وانقطعت الطرق وتعدى الناس بعضهم على بعض لعدم التفات الحكام واشتغالهم بما دهمهم.
وأما بلاد الارياف فإنها قامت على ساق يقتل بعضهم بعضا وينهب بعضهم بعضا وكذلك العرب غارت على الاطراف والنواحي وصار قطر مصر من أوله إلى آخره في قتل ونهب وإخافة طريق وقيام شر وأغارة على الأموال وافساد المزارع وغير ذلك من أنواع الفساد الذي لا يحصى وطلب أمراء مصر التجار من الافرنج بمصر فحبسوا بعضهم بالقلعة وبعضهم بأماكن الأمراء وصاروا يفتشون في محلات الافرنج على الأسلحة وغيرها وكذلك يفتشون بيوت النصارى الشوام والاقباط والاروام والكنائس والاديرة على الأسلحة والعامة لا ترضى إلا أن يقتلوا النصارى واليهود فيمنعهم الحكام عنهم ولولا ذلك المنع لقتلتهم العامة وقت الفتنة ثم في كل يوم تكثر الإشاعة بقرب الفرنسيس إلى مصر وتختلف الناس في الجهة التي يقصدون المجيء منها فمنهم من يقول أنهم واصلون من البر الغربي ومنهم من يقول بل يأتون من الشرقي ومنهم من يقول بل يأتون من الجهتين هذا وليس لاحد من أمراء العساكر همة أن يبعث جاسوسا أو طليعة تناوشهم بالقتال قبل
دخولهم وقربهم ووصولهم إلى فناء المصر بل كل من إبراهيم بك ومراد بك جمع عسكره ومكث مكانه لا ينتقل عنه ينتظر ما يفعل بهم وليس ثم قلعة ولا حصن ولا معقل وهذا من سوء التدبير واهمال أمر العدو.
ولما كان يوم الجمعة سادس الشهر وصل الفرنسيس إلى الجسر الأسود وأصبح يوم السبت فوصلوا إلى أم دينار فعندها اجتمع العالم العظيم من الجند والرعايا والفلاحين المجاورة بلادهم لمصر ولكن الأجناد متنافرة قلوبهم منحلة عزائمهم مختلفة آراؤهم حريصون على حياتهم وتنعمهم ورفاهيتهم مختالون في رئيسهم مغترون بجمعهم محتقرون شأن عدوهم مرتبكون في رويتهم مغمورون في غفلتهم وهذا كله من أسباب ما وقع من خذلانهم وهزيمتهم وقد كان الظن بالفرنسيس أن يأتوا من البرين بل أشيع في عرضي إبراهيم بك أنهم قادمون من الجهتين فلم يأتوا إلا من البر الغربي.
ولما كان وقت القائلة ركب جماعة من العساكر التي بالبر الغربي وتقدموا إلى ناحية بشتيل بلد مجاورة لانبابة فتلاقوا مع مقدمة الفرنسيس فكروا عليهم بالخيول فضربهم الفرنسيس ببنادقهم المتتابعة الرمي وابلى الفريقان وقتل أيوب بك الدفتردار وعبد الله كاشف الجرف وعدة كثير من كشاف محمد بك الألفي ومماليكهم وتبعهم طابور من الافرنج في نحو الستة آلاف وكبيره ويزه الذي ولى علي الصعيد بعد تملكهم وأما بونابارته الكبير فإنه لم يشاهد الواقعة بل حضر بعد الهزيمة وكان بعيدا عن هؤلاء بكثير ولما قرب طابور الفرنسيس من متاريس مراد بك ترامى الفريقان بالمدافع وكذلك العساكر المحاربون البحرية وحضر عدة وافرة من عساكر الارنؤد من دمياط وطلعوا إلى انبابة وانضموا إلى المشاة وقاتلوا معهم في المتاريس فلما غاين وسمع عسكر البر الشرقي القتال ضج العامة والغوغاء من الرعية واخلاط الناس بالصياح ورفع الأصوات بقولهم يا رب ويا لطيف ويا رجال الله ونحو ذلك وكأنهم يقاتلون ويحاربون بصياحهم وجلبتهم فكان
العقلاء من الناس يصرخون عليهم ويأمرونهم بترك ذلك ويقولون لهم: أن الرسول والصحابة والمجاهدين إنما كانوا يقاتلون بالسيف والحراب وضرب الرقاب لا برفع الأصوات والصراخ النباح فلا يستمعون ولا يرجعون عما هم فيه ومن يقرأ ومن يسمع وركب طائفة كبيرة من الأمراء والأجناد من العرض الشرقي ومنهم إبراهيم بك الوالي وشرعوا في التعدية إلى البر الغربي في المراكب فتزاحموا على المعادي لكون التعدية من محل واحد والمراكب قليلة جدا فلم يصلوا إلى البر الآخر حتى وقعت الهزيمة به على المحاربين هذا والريح النكباء اشتد هبوبها وأمواج البحر في قوة اضطرابها والرمال يعلو غبارها وتنسفها الريح في وجوه المصريين فلا يقدر أجد أن يفتح عينيه من شدة الغبار وكون الريح من ناحية العدو وذلك من أعظم أسباب الهزيمة كما هو منصوص عليه.
ثم أن الطابور الذي تقدم لقتال مراد بك انقسم على كيفية معلومة عندهم في الحرب وتقارب من المتاريس بحيث صار محيطا بالعسكر من خلفة وإمامه ودق طبوله وأرسل بنادقه المتتالية والمدافع واشتد هبوب الريح وانعقد الغبار وأظلمت الدنيا دخان البارود وغبار الرياح وصمت الأسماع من توالي الضرب بحيث خيل للناس أن الأرض تزلزلت والسماء عليها سقطت واستمر الحرب والقتال نحو ثلاث أرباع ساعة ثم كانت هذه الهزيمة على العسكر الغربي فغرق الكثير من الخيالة في البحر لاحاطة العدو بهم وظلام الدنيا والبعض وقع أسيرا في أيدي الفرنسيين وملكوا المتاريس وفر مراد بك ومن معه إلى الجيزة فصعد إلى قصره وقضى بعض أشغاله في نحو ربع ساعة ثم ركب وذهب إلى الجهة القبلية وبقيت القتلى والثياب والأمتعة والاسلحة والفرس ملقاة على الأرض ببرانبابة تحت الارجل وكان من جملة من ألقى نفسه في البحر سليمان بك المعروف بالاغا وأخوه إبراهيم بك الوالي فأما سليمان بك فنجا وغرق إبراهيم بك الصغير وهو صهر إبراهيم بك الكبير ولما انهزم العسكر الغربي حول
الفرنسيس المدافع والبنادق على البر الشرقي وضربوها وتحقق أهل البر الآخر الهزيمة فقامت فيهم ضجة عظيمة وركب في الحال إبراهيم بك والباشا والأمراء والعسكر والرعايا وتركوا جميع الأثقال والخيام كما هي لم يأخذوا منها شيئا فأما إبراهيم بك والباشا والأمراء فساروا إلى جهاة العادلية وأما الرعايا فهاجوا وماجوا ذاهبين إلى جهة المدينة ودخلوها أفواجا أفواجا وهم جميعا في غاية الخوف والفزع وترقب الهلاك وهم يضجون بالعويل والنحيب ويبتهلون إلى الله من شهر هذا اليوم العصيب والنساء يصرخن بأعلى اصواتهن من البيوت وقد كان ذلك قبل الغروب فلما استقر إبراهيم بك بالعادلية أرسل يأخذ حريمه وكذلك من كان معه من الأمراء فاركبوا النساء بعضهن على الخيول وبعضهن على البغال والبعض على الحمير والجمال والبعض ماش كالجواري والخدم واستمر معظم الناس طول الليل خارجين من مصر البعض بحريمه والبعض ينجو بنفسه ولا يسأل أجد عن أجد بل كل واحد مشغول بنفسه عن أبيه وابنه فخرج تلك الليلة معظم أهل مصر البعض لبلاد الصعيد والبعض لجهة الشرق وهم الأكثر وأقام بمصر كل مخاطر بنفسه لا يقدر على الحركه ممتثلا للقضاء متوقعا للمكروه وذلك لعدم قدرته وقلة ذاته يده وما ينفقه على حمل عياله وأطفاله ويصرفه عليهم في الغربة فاستسلم للمقدور ولله عاقبة الأمور والذي أزعج قلوب الناس بالأكثر أن في عشاء تلك الليلة شاع في الناس أن الافرنج عدوا إلى بولاق وأحرقوها وكذلك الجيزة وأن أولهم وصل إلى باب الحديد يحرقون ويقتلون ويفجرون بالنساء وكان السبب في هذه الإشاعة أن بعض القلينجية من عسكر مراد بك الذي كان في الغليون بمرسي انبابة لما تحقق الكسرة أضرم النار في الغليون الذي هو فيه وكذلك مراد بك لما رحل من الجيزة أمر بانجرار الغليون الكبير من قبالة قصره ليصحبه معه إلى جهة قبلي فمشوا به قليلا ووقف لقلة الماء في الطين وكان به
عدة وافرة من آلات الحرب والجبخانة فأمر بحرقه أيضا فصعد لهيب النار من جهة الجيزة بولاق ظنوا بل أيقنوا أنهم أحرقوا البلدين فماجوا واضطربوا زيادة عما هم فيه من الفزع والروع والجزع وخرج أعيان الناس وأفندية الوجاقات وأكابرهم ونقيب الأشراف وبعض المشايخ القادرين فلما عاين العامة والرعية ذلك اشتد ضجرهم وخوفهم وتحركت عزائمهم للهروب واللحاق بهم والحال أن الجميع لا يدرون أي جهة يسلكون وأي طريق يذهبون وأي محل يستقرون فتلاحقوا وتسابقوا وخرجوا من كل حدب ينسلون وبيع الحمار الأعرج أو البغل الضعيف باضعاف ثمنه وخرج أكثرهم ماشيا أو حامل متاعه على رأسه وزوجته حاملة طفلها ومن قدر عل مركوب أركب زوجته أو ابنته ومشى هو على اقدامه وخرج غالب النساء ماشيات حاسرات وأطفالهم على اكتافهن يبكين في ظلمة الليل واستمروا على ذلك بطول ليلة الأحد وصبحها وأخذ كل إنسان ما قدر على حمله من مال ومتاع فلما خرجوا من أبواب البلد وتوسطوا الفلاة تلقتهم العربان والفلاحون فأخذوا متاعهم ولباسهم وأحمالهم بحيث لم يتركوا لمن صادفوه ما يستر به عورته أو يسد جوعته فكان ما أخذته العرب شيئا كثيرا يفوق الحصر بحيث أن الأموال والذخائر التي خرجت من مصر في تلك الليلة أضعاف ما بقي فيها بلا شك لأن معظم الأموال عند الأمراء والأعيان وحريمهم وقد أخذوه صحبتهم وغالب مساتير الناس واصحاب المقدرة أخرجوا أيضا ما عندهم والذي أقعده العجز وكان عنده ما يعز عليه من مال أو مصاغ أعطاه لجاره أو صديقه الراحل ومثل ذلك أمانات وودائع الحجاج من المغاربة والمسافرين فذهب ذلك جميعه وربما قتلوا من قدروا عليه أو دافع عن نفسه ومتاعه وسلبوا ثياب النساء وفضحوهن وهتكوهن وفيهم الخوندات والأعيان فمنهم من رجع من قريب وهم الذين تأخروا في الخروج وبلغهم ما حصل للسابقين ومنهم من جازف متكلا عل كثرته
وعزوته وخفارته فسلم أو عطب وكانت ليل وصباحها في غاية الشناعة جرى فيها ما لم يتفق مثله في مصر ولا سمعنا بما شابه بعضه في تواريخ المتقدمين فما راء كمن سمعا ولما أصبح يوم الأحد المذكور والمقيمون لا يدرون ما يفعل بهم ومتوقعون حلول الفرنسيس ووقوع المكروه ورجع الكثير من الفارين وهم في أسوأ حال من العري والفزع فتبين أن الافرنج لم يعدو إلى البر الشرقي وأن الحريق كان في المراكب المتقدم ذكرها فاجتمع في الأزهر بعض العلماء والمشايخ وتشاوروا فاتفق رأيهم على أن يرسلوا مراسلة إلى الافرنج ينتظروا ما يكون من جوابهم ففعلوا ذلك وأرسلوها صحبة شخص مغربي يعرف لغتهم وآخر صحبته فغابا وعادا فاخبرا انهما قابلا كبير القوم وأعطياه الرسالة فقرأها عليه ترجمانة ومضمونها الأستفهام عن قصدهم فقال على لسان الترجمان وأين عظماؤكم ومشايخكم لم تأخروا عن الحضور إلينا لنرتب لهم ما يكون فيه الراحة وظمنهم وبش في وجوههم فقالوا نريد أمانا منكم فقال أرسلنا لكم سابقا يعنون الكتاب المذكور فقالوا وأيضا لأجل اطمئنان الناس فكتبوا لهم ورقة أخرى مضمونها من معسكر الجيزة خطاب لأهل مصر اننا أرسلنا لكم في السابق كتابا فيه الكفاية وذكرنا لكم اننا حضرنا إلا بقصد إزالة المماليك الذين يستعملون الفرنساوية بالذل والاحتقار وأخذ مال التجار ومال السلطان ولما حضرنا إلى البر الغربي خرجوا إلينا فقابلناهم بما يستحقونه وقتلنا بعضهم وأسرنا بعضهم ونحن في طلبهم حتى لم يبق أجد منهم بالقطر المصري وأما المشايخ والعلماء وأصحاب المرتبات والرعية فيكونوا مطمئنين وفي مساكنهم مرتاحين إلى آخر ما ذكرته ثم قال لهم: لا بد أن المشايخ والشربجية يأتون إلينا لنرتب لهم ديوانا ننتخبه من سبعة أشخاص عقلاء يدبرون الأمور ولما رجع الجواب بذلك اطمأن الناس وركب الشيخ مصطفى الصاوي والشيخ سليمان الفيومي وآخرون إلى الجيزة فتلقاهم وضحك
لهم وقال: أنتم المشايخ الكبار فاعلموه أن المشايخ الكبار خافوا وهربوا فقال: لأي شيء يهربون اكتبوا لهم بالحضور ونعمل لكم ديوانا لأجل راحتكم وراحة الرعية واجراء الشريعة فكتبوا منه عدة مكاتبات بالحضور والأمان ثم انفصلوا من معسكرهم بعد العشاء وحضروا إلى مصر واطمأن برجوعهم الناس وكانوا في وجل وخوف على غيابهم وأصبحوا فأرسلوا الأمان إلى المشايخ فحضر الشيخ السادات والشيخ الشرقاوي والمشايخ ومن انضم إليهم من الناس الفارين من ناحيةالمطرية وأما عمر أفندي نقيب الأشراف فإنه لم يطمئن ولم يحضر وكذلك الروزنامجي والافندية وفي ذلك اليوم اجتمعت الجعيدية وأوباش الناس ونهبوا بيت إبراهيم بك ومراد بك اللذين بخطة قوصون وأحرقوهما ونهبوا أيضا عدة بيوت من بيوت الأمراء وأخذوا ما فيها من فرش ونحاس وامتعة وغير ذلك وباعوه بأبخس الأثمان.
وفي يوم الثلاثاء عدت الفرنساوية إلى بر مصر وسكن بونابارته ببيت محمد بك الألفي بالازبكية بخط الساكت الذي أنشأه الأمير المذكور في السنة الماضية وزخرفه وصرف عليه اموالا عظمية وفرشه بالفرش الفاخرة وعند تمامه وسكناه فيه حصلت هذه الحاثة فأخلوه وتركوه بما فيه فكأنه إنما كان يبنيه لأمير الفرنسيس وكذلك حصل في بيت حسن كاشف جركس بالناصرية ولما عدى كبيرهم وسكن بالازبكية كما ذكر استمر غالبهم بالبر الآخر ولم يدخل المدينة إلا القليل منهم ومشوا في الأسواق من غير سلاح ولا تعديل صاروا يضاحكون الناس ويشترون ما يحتاجون إليه بأغلى ثمن فيأخذ أحدهم الدجاجة ويعطي صاحبها في ثمنها ريال فرانسة ويأخذ البيضة بنصف فضة قياسا على اسعار بلادهم وأثمان بضائعهم فلما رأى منهم العامة ذلك أنسوا بهم واطمأنوا لهم وخرجوا إليهم بالكعك وأنواع الفطير والخبز والبيض والدجاج وأنواع المأكولات وغير ذلك مثل السكر والصابون والدخان والبن وصاروا يبيعون عليهم
بما أحبوا من الأسعار وفتح غالب السوقة الحوانيت والقهاوي.
وفي يوم الخميس ثالث عشر صفر ارسلوا بطلب المشايخ والوجاقلية عند قائمقام صارى عسكر فلما استقر بهم الجلوس خاطبوهم وتشاوروا معهم في تعيين عشرة انفار من المشايخ للديوان وفصل الحكومات.
فوقع الاتفاق على الشيخ عبد الله الشرقاوي والشيخ خليل البكري والشيخ مصطفى الصاوي والشيخ سليمان الفيومي والشيخ محمد المهدي والشيخ موسى السرسي والشيخ مصطفى الدمنهوري والشيخ أحمد العريشي والشيخ يوسف الشبرخيتي والشيخ محمد الدواخلي وحضر ذلك المجلس أيضا مصطفى كتخدا بكر باشا والقاضي وقلدوا محمد اغا المسلماني أغات مستحفظان وعلي أغا الشعراوي وإلى الشرطة وحسن اغا محرم امين احتساب وذلك باشارة أرباب الديوان فإنهم كانوا ممتنين من تقليد المناصب لجنس المماليك فعرفوهم أن سوقة مصر لا يخافون إلا من الأتراك ولا يحكمهم سواهم وهؤلاء المذكورون من بقايا البيوت القديمة الذين لا يتجاسرون على الظلم كغيرهم وقلدوا ذا الفقار كتخدا محمد بك كتخدا بونابارته ومن أرباب المشورة الخواجا موسى كانوا وكلاء الفرنساوي ووكيل الديوان حنا بينو.
وفيه اجتمع أرباب الديوان عند رئيسه فذكر لهم ما وقع من نهب البيوت فقالوا له هذا فعل الجعيدية وأوباش الناس فقال: لأي شيء يفعلون ذلك وقد أوصيناكم بحفظ البيوت والختم عليها فقالوا: هذا أمر لا قدرة لنا على منعه وإنما ذلك من وظيفة الحكام فأمروا الاغا والوالي أن ينادوا بالأمان وفتح الدكاكين والأسواق والمنع من النهب فلم يسمعوا ولم ولم ينتهوا واستمر غالب الدكاكين والأسواق معطلة والناس غير مطمئنين وفتح الفرنسيس بعض البيوت المغلوقة التي للأمراء ودخلوها وأخذوا منها أشياء وخرجوا وتركوها مفتوحة فعند ما يخرجون منها يدخلها طائفة الجعيدية ويستأصلون ما فيها واستمروا على ذلك عدة أيام ثم
أنهم تتبعوا بيوت الأمراء وأتباعهم وختموا على بعضها وسكنوا بعضها فكان الذي يخاف على داره من جماعة الوجاقلية أو من أهل البلد يعلق له بنديرة على باب داره أو يأخذ له ورقة من الفرنسيس بخطهم يلصقها على داره.
وفيه قلدوا برطلمين النصراني الرومي وهو الذي تسميه العامة فرط الرمان كتخدا مستحفظان وركب بموكب من بيت صارى عسكر وإمامه عدة من طوائف الأجناد والبطالين مشاة بين يده وعلى رأسه حشيشة من الحرير الملون وهو لابس فروة بزعادة وبين يديه الخدم بالحراب المفضضة ورتب له بيوك باشي وقلقات عينوا لهم مراكز باخطاط البلد يجلسون بها وسكن المذكور ببيت يحيى كاشف الكبير بحارة عابدين اخذه بما فيه من فر ومتاع وجواري وغير ذلك والمذكور من أسافل نصارى الاروام العسكرية القاطنين بمصر وكان من الطبجية عند محمد بك الألفي وله حانوت بخط الموسكي يبيع فيه القوارير الزجاج أيام البطالة وقلدوا أيضا شخصا افرنجيا وجعلوه أمين البحرين وآخر جعلوه اغات الرسالة وجعلوا الديوان ببيت قائد اغا بالازبكية قرب الرويعي وسكن به رئيس الديوان وسكن روتوي قائمقام مصر ببيت إبراهيم بك الوالي المطل على بركة الفيل وسكن شيخ البلد ببيت إبراهيم بك الكبير وسكن مجلون ببيت مراد بك على رصيف الخشاب وسكن بوسليك مدير الحدود ببيت الشيخ البكري القديم ويجتمع عنده النصارى القبط كل يوم طلبوا الدفاتر من الكتبة ثم أن عساكرهم صارت تدخل المدينة شيئا فشيئا حتى امتلأت منها الطرقات وسكنوا في البيوت ولكن لم يشوشوا على أجد ويأخذون المشتروات بزيادة عن ثمنها ففجر السوقة وصغروا اقراص الخبز وطحنوه بترابه وفتح الناس عدة دكاكين بجواره ساكنهم يبيعون فيها اصناف المأكولات مثل الفطير والكعك والسمك المقلي واللحوم والفراخ المحمرة وغير ذلك وفتح نصارى الاورام عدة دكاكين لبيع أنواع
الأشربة وخمامير وقهاوي وفتح بعض الافرنج البلديين بيوتا يصنع فيها أنواع الأطعمة والأشربة على طرائفهم في بلادهم فيشتري الأغنام والدجاج والخضارات والأسماك والعسل والسكر وجميع اللوازم ويطبخه الطباخون ويصنعون أنواع الاطعمة والحلاوت ويعمل على بابه علامة لذلك يعرفونها بينهم فإذا مرت طائفة بذلك المكان تريد الأكل دخلوا إلى ذلك المكان وهو يشتمل على عدة مجالس دون وأعلى وعلى كل مجلس علامته ومقدار الدراهم التي يدفعها الداخل فيه فيدخلون إلى ما يريدون من المجالس وفي وسطه دكة من الخشب وهي الخوان التي يوضع عليها الطعام وحولها كراسي فيجلسون عليها ويأتيهم الفراشون بالطعام على قوانينهم فيأكلون ويشربون على نسق لا يتعدونه وبعد فراغ حاجتهم يدفعون ما وجب عليهم من غير نقص ولا زيادة ويذهبون لحالهم.
وفيه تشفع أرباب الديوان في أسرى المماليك فقبلوا شفاعتهم وأطلقوهم فدخل الكثير منهم إلى الجامع الأزهر وهم في أسوأ حال وعليهم الثياب الزرق المقطعة فمكثوا به يأكلون من صدقات الفقراء المجاورين به ويتكففون المارين وفي ذلك عبرة للمعتبرين.
وفي يوم السبت اجتمعوا بالديوان وطلبوا دراهم سلفة وهي مقدار خمسمائة ألف ريال من التجار المسلمين والنصارى القبط والشوام وتجار الافرنج أيضا فسالوا التخفيف فلم يجابوا فأخذوا في تحصيلها.
وفيه نادوا من أخذ شيئا من نهب البيوت يحضر به إلى بيت قائمقام وأن لم يفعل وظهر بعد ذلك حصل له مزيد الضرر ونادوا أيضا على نساء الأمراء بالأمان وأنهن يسكن بيوتهن وأن كان عندهن شيء من متاع أزواجهن يظهرنه فإن لم يكن عندهن شيء من متاع أزواجهن يصالحن على أنفسهن ويأمن في دورهن فظهرت الست نفيسة زوجة مراد بيك وصالحت عن نفسها واتباعها من نساء الأمراء والكشاف بمبلغ قدره مائة وعشرون
ألف ريال فرانسا وأخذت في تحصيل ذلك من نفسها وغيره ووجهوا عليها الطلب وكذلك بقية النساء بالوسائط المتداخلين في ذلك كنصارى الشوام والافرنج البلدين وغيرهم فصاروا يعملون عليهن ارصاهات وتخويفات وكذلك مصالحات على الغز والأجناد المختفين والغائبين والفارين فجمعوا بذلك أموالا كثيرة وكتبوا للغائبين اوراقا بالأمان بعد المصالحه ويختم على تلك الأوراق المتقيدون بالديوان.
وفي يوم الأحد طلبوا الخيول والجمال والسلاح فكان شيئا كثيرا وكذلك الأبقار والأثوار فحصل فيها أيضا مصالحات وأشاعوا التفتيش على ذلك وكسروا عدة دكاكين بسوق السلاح وغيره وأخذوا ما وجدوه فيها من الأسلحة هذا وفي كل يوم ينقلون على الجمال والحمير من الأمتعة والفرش والصناديق والسروج وغير ذلك مما لا يحصى ويستخرجون الخبايا والودائع ويطلبون البنائين والمهندسين والخدام الذين يعرفون بيوت اسيادهم بل يذهبون بأنفسهم ويدلونهم على أماكن الخبايا ومواضع الدفائن ليصير لهم بذلك قربة ووجاهة ووسيلة ينالون بها غراضهم.
وفيه قبضوا على شيخ الجعيدية ومعه آخر وبندقوا عليهما بالرصاص ببركة الأزبكية ثم على آخرين أيضا بالرميلة وأحضر النهابون أشياء كثيرة من الأمتعة التي نهبوها عند ما داخلهم الخوف ودل على بعضهم البعض.
وفي يوم الثلاثاء طلبوا أهل الحرف من التجار بالأسواق وقرروا عليهم دراهم على سبيل القرض والسلفة مبلغا يعجزون عنه وأجلوا لها اجلا مقداره ستون يوما فضحوا واستغاثوا وذهبوا إلى الجامع الأزهر والمشهد الحسيني وتشفعوا بالمشايخ فتكلموا لهم ولطفوها إلى نصف المطلوب ووسعوا لهم في أيام المهلة.
وفيه شرعوا في تكسير ابواب الدروب والبوابات النافذة وخرج عدة من عساكرهم يخلعون ويقلعون ابواب الدروب والعطف والحارات
فاستمروا على ذلك عدة أيام وداخل الناس من ذلك وهم وخوف شديد وظنوا ظنونا وحصل عندهم فساد مخيلة ووسوسة تجسمت في نفوسهم بالفاظ نطقوا بها وتصوروا حقيقتها وتناقلوها فيما بينهم كقولهم أن عساكر الفرنسيس عازمون على قتل المسلمين وهم في صلاة الجمعة ومنهم من يقول غير ذلك وذلك بعد أن كان حصل عندهم بعض اطمئنان وفتحوا بعض الدكاكين فلما حصلت هاتان النكتتان انكمش الناس ثانيا وارتجفت قلوبهم.
وفي عشرينه حضرت مكاتب الحجاج من العقبة فذهب أرباب الديوان إلى باش العسكر وأعلموه بذلك وطلبوا منه أمانا لأمير الحاج فامتنع وقال: لا أعطيه ذلك إلا بشرط أن يأتي في قلة ولا يدخل معه مماليك كثيرة ولا عسكر فقالوا له: ومن يوصل الحجاج فقال لهم أنا أرسل لهم أربعة آلاف من العسكر يوصولونهم إلى مصر فكتبوا لأمير الحاج مكاتبة بالملاطفة وأنه يحضر بالحجاج إلى الدار الحمراء وبعد ذلك يحصل الخير فلم تصل إليهم الجوابات حتى كاتبهم إبراهيم بك يطلبهم للحضور إلى جهة بلبيس فتوجهوا على بلبيس وأقاموا هناك أياما وكان إبراهيم بك ومن معه ارتحل من بلبيس إلى المنصورة وأرسلوا الحريم إلى القرين.
وفي ثالث عشرينه خرجت طائفة من العسكر الفرنساوي إلى جهة العادلية وصار في كل يوم تذهب طائفة بعد أخرى ويذهبون إلى جهة الشرق فلما كان ليل الأربعاء خرج كبيرهم بونابارته وكانت أوائلهم وصلت إلى الخانكة وأبى زعبل وطلبوا كلفة من أبي زعبل فامتنعوا فقاتلوهم وضربوهم وكسروهم ونهبوا البلدة وأحرقوها وارتحلوا إلى بلبيس وأما الحجاج فإنهم نزلوا ببلبيس وأكترت حجاج الفلاحين مع العرب فأوصلوهم إلى بلادهم بالغربية والمنوفية والقليبونجية وغيرها وكذلك فعل الكثير من الحجاج فتفرقوا في البلاد بحريمهم ومنهم من أقام ببلبيس وأما أمير
الحاج صالح بك فإنه لحق بإبراهيم بك وصحبته جماعة من التجار وغيرهم.
وفي ثامن عشرنيه ملك الفرنساوية مدينة بلبيس من غير قتال وبها من بقي من الحجاج فلم يشوشوا عليهم وأرسلوها إلى مصر وصحبتهم طائفة من عساكرهم ومعهم طبل فلما كان ليلة الأحد غايته جاء الرائد إلى الأمراء بالمنصورة وأخبرهم بوصول الافرنج وقربهم منهم فركبوا نصف الليل وترفعوا إلى جهة القرين وتركوا التجار واصحاب الاثقال فلما طلع النهار حضر إليهم جماعة من العربان واتفقوا معهم على أنهم يحملونهم إلى القرين وحلفوا لهم وعاهدوهم على أنهم لا يخونونهم فلما توسطوا بهم الطريق نقضوا عهدهم وخانوهم ونهبوا حمولهم وتقاسموا متاعهم وعروهم من ثيابهم وفيهم كبير التجار السيد أحمد المحروقي وكان ما يخصه نحو ثلثمائة ألف ريال فرانسة نقودا ومتجرا من جميع الأصناف الحجازية وصنعت العرب معهم ما لا خير فيه ولحقهم عسكر الفرنساوية فذهب السيد أحمد المحروقي إلى صارى عسكر وواجهه وصحبته جماعة من العرب المنافقين فشكا له ما حل به وبإخوانه فلامهم على تنقلهم وركونهم إلى المماليك والعرب ثم قبض على بي خشبة شيخ بلد القرين وقال له: عرفني عن مكان المنهوبات فقال: أرسل معي جماعة إلى القرين فأرسل معه جماعة دلهم على بعض الأحمال فأخذها الافرنج ورفعوها ثم تبعوه إلى محل آخر فأوهمهم أنه يدخل ويخرج إليهم احمالا كذلك فدخل وخرج من مكان آخر وذهب هاربا فرجع أولئك العسكر بجمل ونصف جمل لا غير وقالوا هذا الذي وجدناه والرجل فر من أيدينا فقال صارى عسكر لا بد من تحصيل ذلك فطلبوا منه الإذن في التوجه إلى مصر فأصحب معهم عدة من عسكره أوصلوهم إلى مصر وإمامهم طبل وهم في أسوأ حال وصحبتهم أيضا جماعة من النساء اللاتي كن خرجن ليلة الحادثة وهن أيضا في اسوأ حالة تسكب عند مشاهدتهن العبرات
واستهل شهر ربيع الأول بيوم الإثنين سنة 1213.
في ثانيه وصل الفرنساويه إلى نواحي القرين وكان إبراهيم بك ومن معه وصلوا إلى الصالحية وأودعوا مالهم وحريمهم هناك وضمنوا عليها العربان وبعض الجند فأخبر بعض العرب الفرنساوية بمكان الحملة فركب صارى عسكر وأخذ معه الخيالة وقصد الاغارة على الحملة وعلى إبراهيم بك بذلك أيضا فركب هو وصالح بك وعدة من الأمراء والمماليك وتحاربوا معهم ساعة أشرف فيها الفرنسيس على الهزيمة لكونهم على الخيول وإذا بالخبر وصل إلى إبراهيم بك بأن العرب مالوا على الحملة يقصدون نهبها فعند ذلك فر بمن معه على أثره وتركوا قتال الفرنسيس ولحقوا بالعرب وجلوهم عن متاعهم وقتلوا منهم عدة وارتحلوا إلى قطيا ورجع صارى عسكر إلى مصر وترك عدة من عساكره متفرقين في البلاد فدخل مصر ليلا وذلك ليل الخميس رابعه.
وفي يوم الجمعة خامسه الموافق لثالث عشر مسرى القبطي كان وفاء الفيل المبارك فأمر صارى عسكر بالاستعداد وتزيين العقبة كالعادة وكذلك زينوا عدة مراكب وغلايين ونادوا على الناس بالخروج إلى النزهة في النيل والمقياس والروضة على عادتهم وأرسل صحارى عسكر أوراقا لكتخدا الباشا والقاضي وأرباب الديوان وأصحاب المشورة والمتولين للمناصب وغيرهم بالحضور في صبحها وركب صحبتهم بموكبه وزينته وعساكره وطبوله وزموره إلى قصر قنطرة السد وكسروا الجسر بحضرتهم وعملوا شنك مدافع ونفوطا حتى جرى الماء في الخليج وركب وهم صحبته حتى رجع إلى داره وأما أهل البلد فلم يخرج منهم أجد تلك الليلة للتنزه في المراكب على العادة سوى النصارى الشوام والقبط والأروام والافرنج البلديين ونسائهم وقليل من الناس البطالين حضروا في صبحها.
وفيه تواترت الأخبار بحضور عدة مراكب من الانكليز إلى ثغر
الاسكندرية وأنهم حاربوا مراكب الفرنساوية الراسية بالمينا وكانت أشيعت هذه الأخبار قبل وتحدث الناس بها فصعب ذلك على الفرنساوية واتفق أن بعض النصارى الشوام نقل عن رجل شريف يسمى السيد أحمد الزر ومن أعيان التجار بوكالة الصابون أنه تحدث بذلك فأمروا باحضاره وذكروا له ذلك فقال: أنا حكيت ما سمعته من فلان النصراني فأحضروه أيضا وأمروا بقطع لسانيهما أو يدفع كل واحد منهما مائة ريال فرانسة نكالا لهما وزجرا عن الفضول فيما لا يعنيهما فتشفغ المشايخ فلم يقبلوا فقال بعضهم: أطلقوهما ونحن نأتيكم بالدراهم فلم يرضوا فأرسل الشيخ مصطفى الصاوي وأحضر مائتي ريال ودفعها في الحضرة فلما قبضها الوكيل ردها ثانيا إليه وقال: فرقها على الفقراء كما أشار وردها إلى صاحبها فانكف الناس عن التكلم في شأن ذلك والواقع أن الانكليز حضروا في أثرهم إلى الثغر وحاربوا مراكبهم فنالوا منهم واحرقوا لقايق الكبير المسمى بنصف الدنيا وكان به أموالهم وذخائرهم وكان مصفحا بالنحاس الأصفر واستمر الانكليز بمراكبهم بميناء الأسكندرية يغدون ويروحون يرصدون الفرنسيس وفي ذلك اليوم سافر عدة من عساكرهم إلى بحري وإلى الشرقية ولما جرى الماء في الخليج منعوا دخول الماء إلى بركة الأزبكية وسدوا قنطرة الدكة بسبب وطاقهم ومدافعهم وآلتهم التي فيها.
وفيه سأل صارى عسكر عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم فاعتذر الشيخ البكري بتعطيل الأمور وتوقف الأحوال فلم يقبل وقال: لا بد من ذلك وأعطى له ثلثمائة ريال فرانسا معاونة وأمر بتعلق تعاليق وإحبال وقناديل واجتمع الفرنساوية يوم المولد ولعبوا ميادينهم وضربوا طبولهم ودبادبهم وأرسل الطبلخانة الكبيرة إلى بيت الشيخ البكري واستمروا يضربونها بطول النهار والليل بالبركة تحت داره وهي عبارة عن طبلات كبار مثل طبلات النوبة التركية وعدة آلات ومزامير مخلفة
الأصوات مطربة وعملوا في الليل حراقة نفوط مختلفة وسواريخ تصعد في الهواء.
وفي ذلك اليوم ألبس الشيخ خليل البكري فروة وتقلد نقابة الأشراف ونودي في المدينة بأن كل من كان له دعوى على شريف فليرفعها إلى النقيب.
وفيه ورد الخبر بأن إبراهيم بك والأمراء المصرية استقروا بغزة.
وفي خامس عشرة سافر عدة كبيرة من عسكر الفرنساوية إلى جهة الصعيد وكبيرهم ديزة وصحبتهم يعقوب القبطي ليعرفهم الأمور ويطلعهم على المخباءات.
وفيه حضر القاصد الذي كان أرسله كبير الفرنساوية بمكاتبات وهدية إلى أحمد باشا الجزار بعكا وذلك عند استقرارهم بمصر وصحبته أنفار من النصارى الشوام في صفة تجار ومعهم جانب أرز ونزلوا من ثغر دمياط في سفينة من سفائن أحمد باشا فلما وصلوا إلى عكا وعلم بها أحمد باشا أمر بذلك الفرنساوي فنقلوه إلى بعض التقارير ولم يواجهه ولم يأخذ منه شيئا وأمره بالرجوع من حيث أتى وعوق عنده نصارى الشوام الذين كانوا بصحبته.
وفيه حضر جماعة من عسكر الفرنساوية إلى بيت رضوان كاشف بباب الشعرية وصحبتهم ترجمان ومهندس فانزعجت زوجته وكانت قبل ذلك بأيام صالحت على نفسها وبيتها بألف ريال وثلثمائة ريال وأخذت منهم ورقة ألصقتها على باب دارها وردت ماكانت وزعته من المال والمتاع عند معارفها وأطمأنت فلما حضر إليها الجماعة المذكورون قالوا لها: بلغ صارى عسكران عندك اسلحة وملابس للمماليك فانكرت ذلك فقالوا: لازم من التفتيش فقالت دونكم فطلعوا إلى مكان وفتحوا مخبأة فوجدوا بها أربعة وعشرين شروالا وبلكات وأمتعة وغير ذلك ووجدوا في أسفلها مخبأة أخرى بها عدة كثيرة من الطبنجات والاسلحة والبنادق وصناديق بارود وغير ذلك فاستخرجوا جميع ذلك ثم نزلوا إلى تحت السلالم
وفجروا الأرض وأخرجوا منها دراهم كثيرة وحجاب ذهب في داخله دنانير ثم أنزلوا صاحبة الدار ومعها جارية بيضاء وأخذوهما مع الجواري السود وذهبوا بهن فأقمن عندهم ثلاثة أيام ونهبوا ما وجدوه بالدار من فرش وأمتعة ثم قرروا عليها أربعة آلاف ريال أخرى قامت بدفعها وأطلقوها رجعت إلى دارها وبسبب هذه الحادثة شددوا في طلب الأسلحة ونادوا بذلك وأنهم بعد ثلاثة أيام يفتشون البيوت وقال الناس: إن هذه حيلة على نهب البيوت ثم بطل ذلك وحصل بينها وبين مباشرها القبطي منافسة فذهب وأغرى بها ودل على ذلك.
وفي عشرينه قلدوا مصطفى بك كتخدا الباشا على امارة الحاج فحضروا إلى المحكمة عند القاضي ولبس هناك الخلعة بحضرة مشايخ الديوان والتزم بونابارته بتسهيل مهمات الحج وعمل محلا جديدا.
وفيه سأل أصحاب الحصص الالتزام في التصرف في حصصهم فطلبوا منهم حلوانا فلم يرتضوا بذلك فواعدهم لتمام التحرير والأملاء وقالوا كل من كان له التزام وتقسيط ناطق باسمه يحضره ويمليه ففعلوا ذلك في عدة أيام.
وفيه قدروا فرضة من المال على القرى والبلاد ونشروا بذلك أوراقا وذكروا فيها أنها تحسب من المال وقيدوا بذلك الصيارف من القبط.
وفيه طلب صارى عسكر بونابارته المشايخ فلما استقروا عنده نهض بونابارته من المجلس ورجع وبيده طيلسانات ملونة بثلاثة الوان كل طيلسان ثلاثة عروض أبيض وأحمر وكحلي فوضع منها واحدا على كتف الشيخ الشرقاوي فرمى به إلى الأرض واستعفى وتغير مزاجه ونزلوا في البلاد مثل الحكام يحبسون ويضربون ويشددون في الطلب وانتفع لونه واحتد طبعه فقال الترجمان: يا مشايخ أنتم صرتم أحبابا لصارى عسكر وهو يقصد تعظيمكم وتشريفكم بزيه وعلامته فإن تميزتم بذلك عظمتكم العساكر والناس وصار لكم منزلة في قولهم فقالوا
له: لكن قدرنا يضيع عند الله وعند اخواننا من المسلمين فاغتاظ لذلك وتكلم بلسانه وبلغ عنه بعض المترجمين أنه قال عن الشيخ الشرقاوي أنه لا يصلح للرياسة ونحو ذلك فلاطفه بقية الجماعة واستعفوه من ذلك فقال: إن لم يكن ذلك فلازم من وضعكم الجوكار في صدروكم وهي العلامة التي يقال لها: الوردة فقالوا: أمهلونا حتى نتروى في ذلك واتفقوا على اثني عشر يوما.
وفي ذلك الوقت حضر الشيخ السادات باستدعاء فصادفهم منصرفين فلما استقر به الجلوس بش له وضاحكه صارى عسكر ولاطفه في القول الذي يعربه الترجمان وأهدى له خاتم الماس وكلفه الحضور في الغد عنده وأحضر له جوكار أوثقه بفراجته فسكت وسايره وقام وانصرف فلما خرج من عنده رفعه على أن ذلك لا يخل بالدين.
وفي ذلك اليوم نادى جماعة القلقات على الناس بوضع العلامات المذكورة المعروفة بالوردة وهي إشارة الطاعة والمحبة فانف غالب الناس من وضعها وبعضهم رأى أن ذلك لا يخل بالدين إذ هو مكره وربما ترتب على عدم الأمتثال الضرر فوضعها ثم في عصر ذلك اليوم نادوا بأبطالها من العامة والزموا بعض الأعيان ومن يريد الدخول عندهم لحاجة من الحاجات بوضعها فكانوا يضعونها إذا حضرا عندهم ويرفعونها إذا انفصلوا عنهم وذلك أيام قليلة وحصل ما يأتي ذكره فتركت.
وفي اواخره كان انتقال الشمس لبرج الميزان وهو الأعتدال الخريفي فشرع الفرنساويه في عمل عيدهم ببركة الأزبكية وذلك اليوم كان ابتداء قيام الجمهور ببلادهم فجعلوا ذلك اليوم عيدا وتاريخا فنقلوا أخشابا وحفروا حفرا وأقاموا بوسط بركة الأزبكية صاريا عظيما بآلة وبناء وردموا حوله ترابا كثيرا عاليا بمقدار قامة وعملوا في أعلاه قالبا من الخشب محددا لاعلى مربع الأكان ولبسوا باقيه على سمت القالب قماشا تخينا طلوه بالحمرة الجزعة وعملوا اسفله قاعدة نقشوا عليها
تصاوير سواد في بياض ووضعوا قبالة باب الهواء بالبركة شبه بوابة كبيرة عالية من خشب مقفص وكسوها بالقماش المدهون مثل لون الصاري وفي أعلى القوصرة طلاء أبيض وبه تصاوير بالأسود مصور فيه مثل حرب المماليك المصرية معهم وهم في شبه المنهزمين بعضهم واقع على بعض وبعضهم متلفت إلى خلف وعلى موازاة ذلك من الجهة الأخرى بناحية قنطرة الدكة التي يدخل منها الماء إلى البركة مثال بوابة أخرى على غير شكلها لأجل حراقة البارود وأقاموا أخشابا كثيرة منتصبة مصطفة منها إلى البوابة الاخرى شبه الدائرة متسعة محيطة بمعظم قضاء البركة بحيث صار عامود الصاري الكبير المنتصف المذكور في المركز وربطوا بين تلك الاخشاب حبالا ممتدة وعلقوا بها صفين من القناديل وبين ذلك تماثيل لحراقة البارود أيضا وأقاموا في عمل ذلك عدة أيام.
واستهل شهر ربيع الثاني بيوم الأربعاء سنة 1213 فيه وردت الأخبار بأن مراد بك ومن معه لما بلغه ورود الفرنسيس عليهم رجعوا إلى جهة الفيوم وأن عثمان بك الأشقر عدى إلى البر الشرقي وذهب من خلف الجبل إلى أستاذه إبراهيم بك بغزة وخرج جماعة من الفرنساوية إلى جهة الشرق ومعهم عدة جمال وأحمال فخرج عليهم الغزو العرب الذين يصحبونهم فأخذوا منهم عدة جمال باحمالها ولم يلحقوهم.
وفي ثالثه حضرت مكاتبة من إبراهيم بك خطابا للمشايخ وغيرهم مضمونها انكم تكونون مطمئنين ومحافظين على أنفسكم والرعية وأن حضرة مولانا السلطان وجه لنا عساكر وإن شاء الله تعالى عن قريب نحضر عندكم فلما وردت تلك المكاتبة وقد كان سأل عنها بونابارته فأرسلوها له وقرئت عليه فقال المماليك: كذابون ووافق أيضا أنه حضر آغا رومي وكان معوقا بالاسكندرية فمر بالشارع وذهب لزيارة المشهد الحسيني فشاهده الناس فاستغربوا هيئته وفرحوا برؤيته وقالوا: هذا رسول الحي حضر من عند السلطان بجواب للفرنسيس يأمرهم بالخروج من مصر
واختلفت رواياتهم وآراؤهم واخبارهم وتجمعوا بالمشهد الحسيني وتبع بعضهم بعضا وصادف ذلك أن بونابارته في ذلك الوقت بلغه مما نقل وتناقل بين الناس أنه ورد مكتوب إلى المشايخ أيضا وأخفوه فركب من فوره وحضر إلى بيت الشيخ السادات بالمشهد الحسيني وكان الوقت بعد الظهر فدخل على حين غفلة ولم يكن تقدم له مجيء وهو في كبكبة وخيول كثيرة وعساكر فانزعج الشيخ وكان منحرف المزاج ونزل إليه وهو لا يعرف السبب في مجيئه في مثل هذا الوقت على هذه الصورة فعندما شاهده سأله عن ذلك المكتوب فقال: لا علم لي بذلك ولم يكن بلغه الخبر ثم جلس مقدار ساعة وركب ومر بعسكره وطوافيه من باب المشهد والناس قد كثر ازدحامهم بالجامع والخطة وهم يلغطون ويخلطون فلما نظروه وشاهد هو جميعتهم داخله أمر من ذلك فصاحوا باجمعهم وقالوا بصوت عال الفاتحة فشخص إليهم وصار يسأل من معه عن ازدحامهم فلطفوا له القول وقالوا له: إنهم يدعون لك وذهب إلى داره وكانت نكتة غريبة وساعة اتفاقية عجيبة كاد ينشأ منها فتنة.
وفيه شرعوا في خلع البوابات والدروب غير النافذة أيضا ونقلوا الجميع إلى بركة الأزبكية عند رصيف الخشاب والبوابة الكبيرة يقطعونها نصفين ويرفعونها بالعتالين إلى هناك فاجتمع من ذلك شيء كثير جدا وامتلأ من رصيف الخشاب إلى قريب وسط البركة.
وفي يوم السبت حادي عشرة كان يوم عيدهم الموعود به فضربوا في صبيحته مدافع كثيرة ووضعوا على كل قائم من الخشب بنديرة من بنديراتهم الملونة وضربوا طبولهم واجتمعت عساكرهم بالبركة الخيالة والرجالة واصطفوا صفوفا علىطرائقهم المعروفة بينهم ودعوا المشايخ وأعيان المسلمين والقبطة والشوام فاجتمعوا ببيت صارى عسكر بونابارته وجلسوا حصة من النهار ولبسوا في ذلك اليوم ملابس الافتخار ولبس المعلم جرجس الجوهري كركه بطرز قصب على اكتافها
واختلفت رواياتهم وآراؤهم واخبارهم وتجمعوا بالمشهد الحسيني وتبع بعضهم بعضا وصادف ذلك أن بونابارته في ذلك الوقت بلغه مما نقل وتناقل بين الناس أنه ورد مكتوب إلى المشايخ أيضا وأخفوه فركب من فوره وحضر إلى بيت الشيخ السادات بالمشهد الحسيني وكان الوقت بعد الظهر فدخل على حين غفلة ولم يكن تقدم له مجيء وهو في كبكبة وخيول كثيرة وعساكر فانزعج الشيخ وكان منحرف المزاج ونزل إليه وهو لا يعرف السبب في مجيئه في مثل هذا الوقت على هذه الصورة فعندما شاهده سأله عن ذلك المكتوب فقال: لا علم لي بذلك ولم يكن بلغه الخبر ثم جلس مقدار ساعة وركب ومر بعسكره وطوافيه من باب المشهد والناس قد كثر ازدحامهم بالجامع والخطة وهم يلغطون ويخلطون فلما نظروه وشاهد هو جميعتهم داخله أمر من ذلك فصاحوا باجمعهم وقالوا بصوت عال الفاتحة فشخص إليهم وصار يسأل من معه عن ازدحامهم فلطفوا له القول وقالوا له: إنهم يدعون لك وذهب إلى داره وكانت نكتة غريبة وساعة اتفاقية عجيبة كاد ينشأ منها فتنة.
وفيه شرعوا في خلع البوابات والدروب غير النافذة أيضا ونقلوا الجميع إلى بركة الأزبكية عند رصيف الخشاب والبوابة الكبيرة يقطعونها نصفين ويرفعونها بالعتالين إلى هناك فاجتمع من ذلك شيء كثير جدا وامتلأ من رصيف الخشاب إلى قريب وسط البركة.
وفي يوم السبت حادي عشرة كان يوم عيدهم الموعود به فضربوا في صبيحته مدافع كثيرة ووضعوا على كل قائم من الخشب بنديرة من بنديراتهم الملونة وضربوا طبولهم واجتمعت عساكرهم بالبركة الخيالة والرجالة واصطفوا صفوفا علىطرائقهم المعروفة بينهم ودعوا المشايخ وأعيان المسلمين والقبطة والشوام فاجتمعوا ببيت صارى عسكر بونابارته وجلسوا حصة من النهار ولبسوا في ذلك اليوم ملابس الافتخار ولبس المعلم جرجس الجوهري كركه بطرز قصب على اكتافها
فقالوا: وأين الفراش فبعثوا لاحضاره وسألوها فانكرت ذلك بالمرة فانتظروا حضور الفراش إلى بعد الغروب فلم يحضر فقال لهم المشايخ دعوها تذهب إلى بيتها وفي غد تأتي وتحقق هذه القضية فقال دبوى نونو ومعناه بلغتهم النفي أي لا تذهب فقالوا له: دعها تذهب هي ونحن نبيت عوضا عنها فلم يرض أيضا وعالجوا في ذلك بقدر طاقتهم فلما أيسوا تركوها ومضوا فباتت عندها في ناحية من البيت وصحبتها جماعة من النساء المسلمات والنساء الافرنجيات فلما أصبح النهار ركب المشايخ إلى كتخدا الباشا والقاضي فركبا معا وذهبا إلى بيت صاري عسكر الكبير فاحضرها وسلمها إلى القاضي ولم يثبت عليها شيء من هذه الدعوة وقرروا عليها ثلاثة آلاف ريال فرانسة وذهبت إلى بيت لها مجاور لبيت القاضي وأقامت فيه لتكون في حمايته.
وفي يوم الخميس نادوا في الأسواق بأن كل من كان عنده بغلة يدهب بها إلى بيت قائمقام ببركة الفيل ويأخذ ثمنها وإذا لم يحضرها بنفسه تؤخذ منه قهرا ويدفع ثلثمائة ريال فرانسا وكان أحضرها باختياره يأخذ في ثمنها خمسين ريالا قلت قيمتها أو كثرت فغنم صاحب الخسيس وخسر صاحب النفيس ثم ترك ذلك وفيه نادوا بوقود قناديل سهارى بالطرق والأسواق وأن يكون على كل دار قنديل وعلى كل ثلاثة دكاكين قنديل وأن يلازموا الكنس والرش وتنظيف الطرق من العفوشات والقاذورات.
وفيه نادوا على الاغراب من المغاربة وغيرهم والخدامين والبطالين ليسافروا إلى بلادهم وكل من وجد بعد ثلاثة أيام يستأهل الذي يجري عليه وكرروا المناداة بذلك وأجلوهم بعدها أربعة وعشرين ساعة فذهبت جماعة من المغاربة إلى صارى عسكر وقالوا له: أرنا طريقا للذهاب فإن طريق البرغير مسلوكة والانكليز واقفون بطريق البحر يمنعون المسافرين ولا نقدر على المقام في الأسكندرية من الغلاء وعدم الماء بها فتركهم
وفيه جعلوا إبراهيم اغات المتفرقة المعمار قبطان السويس وسافر معه انفار ببيرق فرنساوي فخرج عليهم العربان في الطريق فنهبوهم وقتلوا إبراهيم اغا المذكور ومن بصحبته ولم يسلم منهم إلا القليل وفيه أهمل أمر الديوان الذي يحضره المشايخ ببيت قائد آغا فاستمروا أياما يذهبون فلم يأتهم أجد فتركوا الذهاب فلم يطلبوا.
وفيه شرعوا في ترتيب ديوان آخر وسموه محكمة القضايا وكتبوا في شأن ذلك طومارا وشرطوا فيه شروطا ورتبوا فيه ستة أنفار من النصارى القبط وستة أنفار من تجار المسلمين وجعلوا قاضيه الكبير ملطى القبطي الذي كان كاتبا عند أيوب بك الدفتردار وفوضوا إليهم القضايا في أمور التجار والعامة والمواريث والدعاوي وجعلوا لذلك الديوان قواعد واركانا من البدع السيئة وكتبوا نسخا من ذلك كثيرة ارسلوا منها إلى الأعيان ولصقوا منها نسخا في مفارق الطرق ورؤوس العطف وأبواب المساجد وشرطوا في ضمنه شروطا وفي ضمن تلك الشروط شروطا أخرى بتعبيرات سخيفة يفهم منها المراد بعد التأمل الكثير لعدم معرفتهم قوانين التراكيب العربية ومحصله التحيل على أخذ الأموال كقولهم بأن أصحاب الأملاك يأتون بحججهم وتمسكاتهم الشاهدة لهم بالتمليك فإذا أحضروها وبينوا وجه تملكهم لها أما بالبيع أو الانتقال لهم بالارث لا يكتفي بذلك بل يؤمر بالكشف عليها في السجلات ويدفع على ذلك الكشف دراهم بقدر عينوه في ذلك الطومار فإن وجد تمسكه مقيدا بالسجل طلب منه بعد ذلك الثبوت ويدفع على ذلك الأشهاد بعد ثبوته وقبوله قدرا آخر ويأخذ بذلك تصحيحا ويكتب له بعد ذلك تمكين وينظر بعد ذلك في قيمته ويدفع على كل مائة اثنين فإن لم يكن له حجة أو كانت ولم تكن مقيدة بالسجل أو مقيدة ولم يثبت ذلك التقييد فإنها تضبط لديوان الجمهور وتصير من حقوقهم وهذا شيء متعذر وذلك أن الناس إنما وضعوا أيديهم على أملاكهم أما بالشراء أو بايلولتهالهم من مورتهم أو نحو
ذلك بحجة قريبة أو بعيدة العهد أو بحجج اسلافهم ومورثيهم فإذا طولبوا باثبات مضمونها تعسر أو تعذر لحادث الموت أو الأسفار أو ربما حضرت الشهود فلم تقبل فإن قبلت فعل به ما ذكر ومن جملة الشروط مقررات على المواريث والموتى ومقاديرها متنوعة في القلة والكثرة كقولهم إذا مات الميت يشاورون عليه ويدفعون معلوما لذلك ويفتحون تركته بعد أربع وعشرين ساعة فإذا بقيت أكثر من ذلك ضبطت للديوان أيضا ولا حق فيها للورثة وأن فتحت على الرسم بأذن الديوان يدفع على ذلك الأذن مقررا أو كذلك على ثبوت الوراثة ثم عليهم بعد قبض ما يخصهم مقرر وكذلك من يدعي دينا على الميت يثبته بديوان الحشريات ويدفع على اثباته مقرر أو يأخذ له ورقة يستلم بها دينه فإذا استلمه رفع مقررا أيضا ومثل ذلك في الرزق والأطيان بشروط وأنواع وكيفية أخرى غير ذلك والهبات والمبايعات والدعاوي والمنازعات والمشاجرات والاشهادات الجزئيات والكليات والمسافر كذلك لا يسافر إلا بورقة ويدفع عليها قدرا وكذلك المولود إذا ولد ويقال له اثبات الحياة وكذلك المؤاجرات وقبض أجر الأملاك وغير ذلك.
وفيه نادى أصحاب الدرك على العامة بترك الفضول والكلام في أمور الدولة فإذا مر عليهم جماعة من العسكر مجروحون أو منهزمون لا يسخرون بهم ولا يصفقون عليهم كما هي عادتهم.
وفيه نهبوا أمتعة عسكر القلينجية الذين كانوا عسكر عند الأمراء فأخذوا مكانا بوكالة علي بساحل بولاق وبالجمالية وأخذوا متاعهم ومتاع شركائهم محتجين بأنهم قاتلوا مع المماليك وهربوا معهم.
وفيه أحضروا محمد كتخدا أباسيف الذي كان سردارا بدمياط من طرف الأمراء المصريين وكان سابقا كتخدا حسن بك الجداوي فلما حضر حبسوه في القلعة وحبسوا معه فراشا لإبراهيم بك.
وفيه أمروا سكان القلعة بالخروج من منازلهم والنزول إلى المدينة
ليسكنوا بها فنزلوا وأصعدوا إلى القلعة مدافع ركزوها بعدة مواضع وهدموا بها أبنية كثيرة وشرعوا في بناء حيطان وكرانك واسوار وهدموا أبنية عالية وأعلوا مواضع متخفضة وبنوا على بدنات باب العزب بالرميلة وغيروا معالمها وأبدلوا محاسنها ومحوا ما كان بها من معالم السلاطين وآثار الحكماء والعظماء وما كان في الأبواب العظام من الأسلحة والدرق والبلط والحوادث والحرب الهندية وأكر الفداوية وهدموا قصر يوسف صلاح الدين ومحاسن الملوك والسلاطين ذوات الأركان الشاهقة والأعمدة الباسقة.
وفيه عينت عساكر إلى مراد بك وذهبوا إليه ببجر يوسف جهة الفيوم.
وفي يوم الخميس سادس عشرة نودي بأن كل من تشاجر مع نصراني أو يهودي يشهد أجد الخصمين على الآخر ويطلبه لبيت صارى عسكر.
وفيه قتلوا شخصين وطافوا برؤسهما وهم ينادون عليهما ويقولون هذا جزاء من يأتي بمكاتيب من عند المماليك أو يذهب إليهم بمكاتيب.
وفيه نبهوا على الناس بالمنع من دفن الموتى بالترب القريبة من المساكن كتربة الأزبكية والرويعي ولا يدفنون الموتى إلا في القرافات البعيدة والذي ليس له تربة بالقرافة يدفن ميته في ترب المماليك وإذا دفنوا يبالغون في تسفيل الحفر ونادوا أيضا بنشر الثياب والأمتعة والفرش بالاسطحة عدة أيام وتبخير البيوت بالبخورات المذهبة للعفونة كل ذلك للخوف من حصول الطاعون وعدوه ويقولون أن العفونة تنحبس باغوار الأرض فإذا دخل الشتاء وبردت الاغوار بسريان النيل والأمطار والرطوبات خرج ما كان منحبسا بالأرض من الأبخرة الفاسدة فيتعفن الهواء فيحصل الوباء والطاعون ومن قولهم أيضا أن مرض مريض لابد من الأخبار عنه فيرسلون من جهتهم حكيما للكشف عليه أن كان مرضه بالطاعون أو بغيره ثم يرون رأيهم فيه.
وفي يوم السبت ثامن عشره ذهبت جماعة من القواسة الذين يخدمون
الفرنساوية وشرعوا في هدم التراكيب المبنية على المقابر بتربة الأزبكية وتمهيدها بالأرض فشاع الخبر بذلك وتسامع أصحاب الترب بتلك البقعة فخرجوا من كل حدب ينسلون وأكثرهم النساء الساكنات بحارات المدابغ وباب اللوق وكرم الشيخ سلامة والفوالة والمناصرة وقنطرة الأمير حسين وقلعة الكلاب إلى أن صاروا كالجراد المنتشر ولهم صياح وضجيج واجتمعوا بالازبكية ووقفوا تحت بيت صارى عسكر فنزل لهم المترجمون واعتذروا بأن صارى عسكر لاعلم له بذلك الهدم ولم يأمر به وإنما أمر بمنع الدفن فقط فرجعوا إلى أماكنهم ورفع الهدم عنهم.
وفيه كتبوا من المشايخ كتابا ليرسلوه إلى السلطان وآخر إلى شريف مكة ثم أنهم بصموا منه عدة نسخ ولصقوها بالطرق والمفارق وصورته ملخصا بعد الصدر وذكر ورودهم وقتالهم مع المماليك وهروبهم وأن جماعة من العلماء ذهبت إليهم بالبر الغربي فأمنوهم وكذلك الرعية دون المماليك وذكروا فيه أنهم من اخصاء السلطان العثماني وأعداء اعدائه وأن السكة والخطبة بأسمه وشعائر الإسلام مقامة على ما هي عليه وباقية بمعنى الكلام السابق من قولهم أنهم مسلمون وأنهم محترمون القرآن والنبي وأنهم اوصلوا الحجاج المتشتتين وأكرموهم وأركبوا الماشي واطعموا الجيعان وسقوا العطشان واعتنوا بيوم الزينة يوم جبر البحر وعملوا له شأنا ورونقا استجلا بالسرور المؤمنين وانفقوا أموالا برسم الصدقة على الفقراء وكذلك اعتنوا بالمولد النبوي وأنفقوا اموالا في شأن انتظامه وتفق رأينا ورأيهم على لبس حضرة الجناب المحترم مصطفى أغا كتخدا بكر باشا والي مصر حالا فاستحسنا ذلك لبقاء علقة الدولة العلية وهم أيضا مجتهدون في إتمام مهمات الحرمين وأمرونا أن نعلمكم بذلك والسلام.
وفيه وقعت حادثة جزئية من جملة الجزئيات وهو أن رجلا صيرفيا بجوار حارة الجوانية وقع من لفظه أنه قال السيد أحمد البدوي بالشرق والسيد إبراهيم الدسوقي بالغرب: يقتلان كل من يمر عليهما من النصارى
وكان هذا الكلام بمحضر النصارى الشوام فجاوبه بعضهم واسمعه قبيح القول ووقع بينهما التشاجر فقام النصراني وذهب إلى دبوى وأخبره بالقصة فأرسل وقبض على ذلك الصيرفي وحبسه وسمر حانوته وختم على داره وتشفع فيه المشايخ عدة مرار فأطلقوه بعد يومين وأرسلوه إلى بيت الشيخ البكري ليؤدب هناك بالضرب أو يدفع خمسمائة ريال فرانسة فضرب مائة سوط وأطلق سبيله وكذلك أفرجوا عن بقية المسجونين.
وفي يوم الإثنين طاف أصحاب الدرك على الاخطاط والوكائل فكتبوا أسماءها وأسماء البوابين وأمروهم أن لا يسكنوا أحدا من الاغراب ولا يطلقوا أحدا بلا أذن من اغات مستحفظان.
وفي يوم الثلاثاء عمل المولد الحسيني وكان من العزم تركه في هذا العام فدس بعض المنافقين دسيسة عند الفرنسيس وذلك أنه وقعت المذاكرة بأن من المعتاد أن يعمل المولد الحسيني بعد مولد النبي فقال بونابارته: ولم لم يعملوه فقال ذلك المنافق: غرض الشيخ السادات عدم عمله إلا إذا حضر المسلمون فبلغ شيخ السادات ذلك فشرع في عمله عل سبيل الاختصار وحضر صارى عسكر وشاهد الوقدة ورجع إلى داره بعد العشاء.
وفيه حضر علماء الأسكندرية وأعيانها وكذلك رشيد ودمياط وبقية البنادر باستدعاء صارى عسكر ليحضروا الديوان الشارعين فيه لترتيب النظام الذي سبقت الإشارة اليه.
وفيه سافر أيضا جماعة من الفرنسيس إلى جهة مراد بك ومن معه التقوا معهم وتراموا ساعة ثم انهزموا عنهم واطمعوهم في أنفسهم فتتبعوهم إلى اسفل جبل اللاهون ثم خرجوا عليهم على مثل حالهم رجالا وتراموا معهم وأكمنوا لهم وثبتوا معهم وظهر عليهم المصريون وقتل من الفرنساوية مقتلة كبيرة.
وفيه سقطت البوابة المصنوعة ببركة الأزبكية المقابلة لباب الهواء التي
كانوا وضعوها في يوم عيدهم وقد تقدم شرحها ووصفها وسبب سقوطها أنهم لما منعوا الماء من دخوله للبركةوسدوا القنطرة كما تقدم علا الماء في أرض البركة وتخلخلت الأرض فسقطت تلك البوابة.
وفي يوم الجمعة رابع عشرينه نبهوا على المشايخ والأعيان التجار ومن حضر من الاقطار بالحضور إلى الديوان العام ومحكمة النظام بكرة تاريخه وذلك ببيت مرزوق بك بحارة عابدين فلما أصبح يوم السبت أعادوا التنبيه بحضورهم بالديوان القديم ببيت قائد أغا بالازبكية فتوجه المشايخ المصرية والذين حضروا من الثغور والبلاد وحضر الوجاقات وأعيان التجار ونصارى القبط والشوام ومديروا الديوان من الفرنسيس وغيرهم جمعا موفورا فلما استقر بهم الجلوس شرع ملطى القبطي الذي عملوه قاضي في قراءة فرمان الشروط وفي المناقشة فابتدر كبير المدبرين في اخراج طومار آخر وناوله للترجمان فنشره وقرأه وملخصه ومضمونه الأخبار بأن قطر مصر هو المركز الوحيد وأنه اخصب البلاد وكان يجلب إليه المتاجر من البلاد البعيدة وأن العلوم والصنائع والقراءة والكتابة التي يعرفها الناس في الدنيا أخذت عن أجداد أهل مصر الأول ولكون قطر مصر بهذه الصفات طمعت الأمم في تملكه فملكه أهل بابل وملكه اليونانيون والعرب والترك الآن إلا أن دولة الترك شددت في خرابه لأنها إذا حصلت الثمرة قطعت عروقها فلذلك لم يبقوا بأيدي الناس إلا القدر اليسير وصار الناس لأجل ذلك مختفين تحت حجاب الفقر وقاية لأنفسهم من سوء ظلمهم ثم أن طائفة الفرنساوية بعدما تمهد أمرهم وبعد صيتهم بقيامهم بأمور الحروب اشتاقت أنفسهم لاستخلاص مصر مما هي فيه واراحة أهلها من تغلب هذه الدولة المفعمة جهلا وغباوة فقدموا وحصل لهم النصرة ومع ذلك لم يتعرضوا لأحد من الناس ولم يعاملوا الناس بقسوة وأن غرضهم تنظيم أمور مصر واجراء خلجانها التي دثرت ويصير لها طريقان طريق إلى البحر الأسود وطريق إلى البحر الأحمر فيزداد خصبها وريعها ومنع القوى من ظلم الضعيف وغير ذلك استجلا
بالخواطر أهلها وابقاء للذكر الحسن فالمناسب من أهلها ترك الشغب وإخلاص المودة وأن هذه الطوائف المحضرة من الاقاليم يترتب على حضورها أمور جليلة لأنهم أهل خبرة وعقل فيسألون عن أمور ضرورية ويجيبون عنها فينتج لصارى عسكر من ذلك ما يليق صنعه إلى آخر ما سطروه من الكلام قلت ولم يعجبني في هذا التركيب إلا قوله المفعمة جهلا وغباوة بعد قوله بعد ذلك ومع ذلك لم يتعرضوا لاحد إلى آخر العبارة ثم قال الترجمان نريد منكم مشايخ أن تختاروا شخصا منكم يكون كبيرا ورئيسا عليكم ممتثلثين أمره واشارته فقال بعض الحاضرين: الشيخ الشرقاوي فقال نونو: وإنما ذلك يكون بالقرعة فعملوا قرعة بأوراق فطلع الأكثر على الشيخ الشرقاوي فقال حينئذ: يكون الشيخ عبد الله الشرقاوي هو الرئيس فما تم هذا الأمر حتى زالت الشمس فأدنوا لهم في الذهاب وألزموهم بالحضور في كل يوم.
وفيه وقعت كائنة الحاج محمد بن قيمو المغربي التاجر الطرابلسي وهو أنه كان بينه وبين بعض نصارى الشوام المترجمين منافسة فانهى إلى عظماء الفرنسيس أنه ذو مال وأنه شريك عبد الله المغربي تابع مراد بك فأرسلوا بطلبه فذهب إلى بيت الشيخ عبد الله الشرقاوي لنسابة بينهما فقال الشيخ للقواسة المرسلين بعد سؤالهم عن سبب طلبهم له فقالوا: لدعوة ليست شرعية فقال لهم في غدا حضروا خصمه ويتداعى معه فإن توجه الحق عليه الزمناه بدفعه فرجعت الرسل وتغيب الرجل لخوفه فبعد مضي مقدار نحو ساعة حضر نحو الخمسين عسكريا من الفرنسيس إلى بيت الشيخ وطالبوه به فأخبرهم أنه هرب فلم يقبلوا عذره والحوا في طلبه ووقفوا ببنادقهم وأرهبوا فركب المهدي والدواخلي إلى صاري عسكر وأخبروه بالقضية وبهروب الرجل فقال ولاي شيء يهرب فقالوا: من خوفه فقال: لولا أن جرمه كبير لما هرب وأنتم غيبتموه وأظهر الحنق والغيظ فلاطفاه واستعطفا خاطر الترجمان فكلمه وسكن غيظه ثم سأل عن منزله ومخزنه فأخبراه عنهما فقال نذهب معكما من يختم
عليهما حتى يظهر في غد فاطمأنوا لذلك ورجعوا عن الغروب وختموا على مخزنه ومنزله فلما أصبح النهار فلم يظهر الرجل فأخذوا ما وجدوه فيهما من البضائع والأمانات.
وفي يوم الأحد ذهبوا إلى الديوان وعملوا مثل عملهم الأول حتى تمموا أسماء المنتخبين بديوان مصر من الثغور والمشايخ والوجاقلية والقبط والشوام وتجار الملسلمين وذلك الترتيب غير ترتيب الديوان السابق.
وفي يوم الإثنين اجتمعوا بالديوان ونادى المنادي في ذلك اليوم بالأسواق على الناس باحضارهم حجج أملاكهم إلى الديوان والمهلة ثلاثون يوما فإن تأخر عن الثلاثين يضاعف المقرر ومهلة البلاد ستون يوما ولما تكامل الجميع شرع ملطي في قراءة المنشور وتعداد ما به من الشروط مسطور وذكر من ذلك أشياء منها أمر المحاكم والقضايا الشرعية وحجج العقارات وأمر المواريث وتناقشوا في ذلك حصة من الزمن وكتبوا هذه الأربعة أشياء أرباب ديوان الخاصة يدبرون رأيهم في ذلك وينظرون المناسب والاحسن وما فيه الراحة لهم وللرعية ثم يعرضون مادبروه يوم الخميس وما بين ذلك له مهلة وانفض المجلس.
واستهل شهر جمادى الأولى يوم الخميس الموعود سنة 1213 م واجتمعوا بالديوان ومعهم مالخصوه واستأصلوه في الجملة فأما أمر المحاكم والقضايا فالأولى ابقاؤها على ترتيبها ونظامها وعرفوهم عن كيفية ذلك ومثل ذلك ما عليه أمر محاكم البلاد فاستحسنوا ذلك إلا أنهم قالوا: يحتاج إلى ضبط المحاصيل وتقريرها على أمر لا يتعداه القضاة ولا نوابهم فقرروا ذلك وهو أنه إذا كان عشرة آلاف فما دونها يكون على كل ألف ثلاثون نصفا وإذا كان المبلغ مائة يكون على الألف خمسة عشر فإن زاد على ذلك فعشرة واتفقوا على تقرير القضاة ونوابهم على ذلك وأما حجج العقارات فإنه أمر شاق طويل الذيل فالمناسب فيه والأولى أن يجعلوا عليها دراهم من بادىء الرأي ليسهل تحصيلها ويحسن عليها السكوت ويكون المحصول أعلى وأدنى وأوسط وبينوا القدر المناسب
بتفصيل الأماكن وكتبوه وابقوه حتى يرى الآخرون رأيهم فيه وانفض الديوان وفي ذلك اليوم نودي في الأسواق بنشر الثياب والأمتعة خمسة عشر يوما وقيدوا على مشايخ الاخطاط والحارات والقلقات بالفحص والتفتيش فعينوا لكل حارة امرأة ورجلين يدخلون البيوت للكشف عن ذلك فتصعد المرأة إلى أعلى الدار وتخبرهم عن صحة نشرهم الثياب ثم يذهبون بعد التأكد على أهل المنزل والتحذير من ترك الفعل وكل ذلك لذهاب العفونة الموجبة للطاعون وكتبوا بذلك أرواقا لصقوهم بحيطان الأسواق على عادتهم في ذلك.
وفيه حضر إلى بيت البكري جم غفير من أولاد الكتاتيب والفقهاء والعميان والمؤذنين وأرباب الوظائف والمستحقين من الزمني والمرضي بالمرستان المنصوري وأوقاف عبد الرحمن كتخدا وشكوا من قطع رواتبهم وخبزهم لأن الأوقاف تعطل ايرادها واستولى على نظارتها النصارى القبط والشوام وجعلوا ذلك مغنما لهم فواعدهم على حضورهم الديوان وينهوا شكواهم ويتشفع لهم فذهبوا راجعين وفيه قدمت مراكب من جهة الصعيد وفيها عدة من العسكر مجروحين.
وفيه وضعوا على التلال المحيطة بمصر ببارق بيضا فأكثر الناس من اللغط ولم يعلموا سبب ذلك.
وفي يوم الأحد اجتمعوا في الديوان وأخذوا فيما هم فيه فذكروا أمر المواريث فقال ملطي مشايخ أخبرونا عما تصنعونه في قسمة المواريث فأخبره بفروض المواريث الشرعية فقال ومن أين لكم ذلك فقالوا من القرآن وتلوا عليهم بعض آيات المواريث فقال الافرنج: نحن عندنا لا نورث الولد ونورث البنت ونفعل كذا وكذا بحسب تحسين عقولهم لأن الولد أقدر على التكسب من البنت فقال ميخائيل كحيل الشامي وهو من أهل الديوان أيضا: نحن والقبط يقسم لنا مواريثنا المسلمون ثم التمسوا من المشايخ أن يكتبوا لهم كيفية القسمة ودليلها فسايروهم ووعدوهم بذلك وانفضوا وفي ذلك اليوم عزلوا محمد أغا
المسلماني أغات مستحفظان وجعلوه كتخدا أمير الحاج واستقروا بمصطفى أغا تابع عبد الرحمن أغا مستحفظان سابقا عوضا عنه ونودي بذلك.
وفي يوم الإثنين عملوا لهم ديوانا وكتبوا لهم كيفية قسمة المواريث وفروض القسمة الشرعية وحصص الورثة والآيات المتعلقة بذلك فاستحسنوا ذلك.
وفي يوم السبت عاشر جمادى الأولى عملوا الديوان وأحضروا قائمة مقررات الأملاك والعقار فجعلوا على الأعلى ثمانية فرانسة والأوسط ستة والأدنى ثلاثة وما كان أجرته أقل من ريال في الشهر فهو معافى وأما الوكائل والخانات والحمامات والمعاصر والسيارج والحوانيت فمنها ما جعلوا عليه ثلاثين وأربعين بحسب الخمسة والرواج والاتساع وكتبوا بذلك مناشير على عادتهم وألصقوها بالمفارق والطرق وأرسلوا منها نسخا للاعيان وعينوا المهندسين ومعهم أشخاص لتمييز الأعلى من الأدنى وشرعوا في الضبط والاحصاء وطافوا ببعض الجهات لتحرير القوائم وضبط أسماء أربابها ولما أشيع ذلك في الناس كثر لغطهم واستعظموا ذلك والبعض استسلم للقضاء فانتبذ جماعة من العامة وتناجوا في ذلك ووافقهم على ذلك بعض المتعممين الذي لم ينظر في عواقب الأمور ولم يتفكر أنه في القبضة مأسور فتجمع الكثير من الغوغاء من غير رئيس يسوسهم ولا قائد يقودهم وأصبحوا يوم الأحد متحزبين وعلى الجهاد عازمين وأبرزوا ما كانوا أخفوه من السلاح وآلات الحرب والكفاء وحضر السيد بدر وصحبته حشرات الحسينية وزعر الحارات البرانية ولهم صياح عظيم وهول جسيم ويقولون بصياح في الكلام نصر الله دين الإسلام فذهبوا إلى بيت قاضي العسكر وتجمعوا وتبعهم ممن على شاكلتهم نحو الألف والاكثر فخاف القاضي العاقبة وأغلق أبوابه واوقف حجابه فرجموه بالحجارة والطوب وطلب الهرب فلم يمكنه الهروب وكذلك اجتمع بالأزهر العالم الأكبر وفي ذلك الوقت حضر دبوى بطائفة من فرسانه وعساكره وشجعانه فمر بشارع الغورية وعطف على خط
الصنادقية وذهب إلى بيت القاضي فوجد ذلك الزحام فخاف وخرج من بين القصرين وباب الزهومة وتلك الاخطاط بالخلائق مزحومة فبادروا إليه وضربوه واثخنوا جراحاته وقتل الكثير من فرسانه وأبطاله وشجعانه فعند ذلك أخذ المسلمون حذرهم وخرجوا يهرعون ومن كل حدب ينسلون ومسكوا الاطراف الدائرة بمعظم اخطاط القاهرة كباب الفتوح وباب النصر والبرقية إلى باب زويلة وباب الشعرية وجهة البندقانيين وما حاذاها ولم يتعد جهة سواها وهدموا مساطب الحوانيت وجعلوا احجارها متاريس للكرنكة لتعوق هجوم العدو في وقت المعركة ووقف دون كل متراس جمع عظيم من الناس وأما الجهات البرانية والنواحي الفوقانية فلم يفزع منهم فازع ولم يتحرك منهم أجد ولم يسارع وكذلك شذ عن الوفاق مصر العتيقة وبولاق وعذرهم الأكبر قربهم من مساكن العسكر ولم تزل طائفة المحاربين في الأزقة متترسين فوصل جماعة من الفرنساوية وظهروا من ناحية المناخلية وبندقوا على متراس الشوائين وبه جماعة من مغاربة الفحامين فقاتلوهم حتى أجلوهم وعن المناخلية إزالوهم عند ذلك زاد الحال وكثر الرجف والزلزال وخرجت العامة عن الحد وبالغوا في القضية بالعكس والطرد وامتدت أيديهم إلى النهب والخطف والسلب فهجموا على حارة الجوانية ونهبوا دور النصارى الشوام والاروام وما جاورهم من بيوت المسلمين على التمام وأخذوا الودائع والأمانات وسبوا النساء والبنات وكذلك نهبوا خان الملايات وما به من الأمتعة والموجودات وأكثروا من المعايب ولم يفكروا في العواقب وباتوا تلك الليلة سهرانين وعلى هذا الحل مستمرين وأما الافرنج فإنهم أصبحوا مستعدين وعلى تلال البرقية والقلعة واقفين وأحضروا جميع الآلات من المدافع والقنابر والبنبان ووقفوا مستحضرين ولأمر كبيرهم منتظرين وكان كبير الفرنسيس أرسل إلى المشايخ مراسلة فلم يجيبوه عنها ومل من المطاولة هذا والرمي متتابع من الجهتين وتضاعف الحال ضعفين حتى مضى وقت العصر وزاد القهر والحصر فعند ذلك ضربوا بالمدافع والبنبات
على البيوت والحارات وتعمدوا بالخصوص بالجامع الأزهر وجروا عليه المدافع والقنبر وكذلك ما جاوره من أماكن المحاربين كسوق الغورية والفحامين فلما سقط عليهم ذلك ورأوه ولم يكونوا في عمرهم عاينوه نادوا يا سلام من هذه الآلام يا خفي الالطاف نجنا مما نخاف وهربوا من كل سوق ودخلوا في الشقوق وتتابع الرمي من القلعة والكيمان حتى تزعزعت الأركان وهدمت في مرورها حيطان الدور وسقطت في بعض القصور ونزلت في البيوت والوكائل وأصمت الآذان بصوتها الهائل فلما عظم هذا الخطب وزاد الحال والكرب ركب المشايخ إلى كبير الفرنسيس ليرفع عنهم هذا النازل ويمنع عسكره من الرمي المتراسل ويكفهم كما تكف المسلمون عن القتال والحرب خدعة وسجال فلما ذهبوا إليه واجتمعوا عليه عاتبهم في التأخير وأتهمهم في التقصير فاعتذروا إليه فقبل عذرهم وأمر برفع الرمي عنهم وقاموا من عنده وهم ينادون بالأمان في المسالك وتسامع الناس بذلك فردت فيهم الحرارة وتسابقوا لبعضهم بالبشارة واطمأنت منهم القلوب وكان الوقت قبل الغروب وانقضى النهار وأقبل الليل وغلب على الظن أن القضية لهاذيل وأما أهل الحسينية والعطوف البرانية فإنهم لم يزالوا مستمرين وعلى الرمي والقتال ملازمين ولكن خانهم المقصود وفرغ منهم البارود والافرنج اثخنوهم بالرمي المتتابع بالقنابر والمدافع إلى أن مضى من الليل نحو ثلاث ساعات وفرغت من عندهم الأدوات فعجزوا عن ذلك وانصرفوا وكف عنهم القوم وانحرفوا وبعد هجعة من الليل دخل الافرنج المدينة كالسيل ومروا في الأزقة والشوارع لا يجدون لهم ممانع كأنهم الشياطين أو جند ابليس وهدموا ما وجدوه من المتاريس ودخل طائفة من باب البرقية ومشوا إلى الغورية وكروا ورجعوا وترددوا ما هجعوا وعلموا باليقين أن لا دافع لهم ولا كمين وتراسلوا إرسالا ركبانا ورجالا ثم دخلوا إلى الجامع الأزهر وهم راكبون الخيول وبينهم المشاة كالوعول وتفرقوا بصحته ومقصورته وربطوا خيولهم بقبلته وعاثوا بالأورقة والحارات
وكسروا القناديل والسهارات وهشموا خزائن الطلبة والمجاورين والكتبة ونهبوا ما وجدوه من المتاع والأواني والقصاع والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات ودشتوا الكتب والمصاحف وعلى الأرض طرحوها وبأرجلهم ونعالهم داسوها وأحدثوا فيه وتغوطوا وبالوا وتمخطوا وشربوا الشراب وكسروا أوانيه وألقوها بصحنه ونواحيه وكل من صادفوه به عروه ومن ثيابه أخرجوه وأصبح يوم الثلاثاء فأصطف منهم خرب بباب الجامع فكل من حضر للصلا يراهم فيكر راجعا ويسارع وتفرقت طوائفهم بتلك النواحي افواجا واتخذوا السعي والطواف بها منهاجا وأحاطوا بها احاطة السوار ونهبوا بعض الديار بحجة التفتيش على النهب وآلة السلاح والضرب وخرجت سكان تلك الجهة يهرعون وللنجاة بأنفسهم طالبون وانتهكت حرمة تلك البقعة بعد أن كانت أشرف البقاع ويرغب الناس في سكناها ويودعون عند أهلها ما يخافون عليه الضياع والفرنساوية لا يمرون بها إلا في النادر ويحترمونها عن غيرها في الباطن والظاهر فانقلب بهذه الحركة منها الموضوع وانخفض على غير القياس المرفوع ثم ترددوا في الأسواق ووقفوا صفوفا مئينا والوفا فإن مر بهم أجد فتشوه وأخذوا ما معه وربما قتلوه ورفعوا القتلى والمطروحين من الافرنج والمسلمين ووقف جماعة من الفرنسيس ونظفوا مراكز المتاريس وإزالة ما بها من الأتربة والاحجار المتراكمة ووضعوها في ناحية لتصير طرق المرور خالية وتحزبت نصارى الشوام وجماعة أيضا من الاروام الذين انتهبت دورهم بالحارة الجوانية ليشكوا لكبير الفرنسيس مالحقهم من الرزية وأغتنموا الفرصة في المسلمين وأظهروا ما هو بقلوبهم كمين وضربوا فيهم المضارب وكأنهم شاركوا الافرنج في النوائب وما قصدهم المسلمون ونهبوا ما لديهم إلا لكونهم منسوبين إليهم مع أن المسلمين الذين جاوروهم نهبهم الذعر أيضا وسلبوهم وكذلك خان الملايات المعلوم الذي عند باب حارة الروم فيه بضائع المسلمين وودائع الغائبين فسكت المصاب على غصته واستعوض الله في قضيته لأنه إن تكلم لا تسمع دعواه ولا يلتفت إلى شكواه وانتدب برطلمين للعسس على من حمل السلاح
أو اختلس وبث اعوانه في الجهات يتجسسون في الطرقات فيقبضون على الناس بحسب أغراضهم وما ينهبه النصارى من أبغاضهم فيحكم فيهم بمراده ويعمل برأيه واجتهاده ويأخذ منهم الكثير ويركب في موكبه ويسير وهم موثوقون بين يديه بالحبال ويسحبهم الأعوان بالقهر والنكال فيودعونهم السجونات ويطالبونهم بالمنهوبات ويقررونهم بالعقاب والضرب ويسألونهم عن السلاح وآلات الحرب ويدل بعضهم على بعض فيضعون على المدلول عليهم أيضا القبض وكذلك فعل مثل ما فعله اللعين الاغا وتجبر في أفعاله وطغى وكثير من الناس ذبحوهم وفي بحر النيل قذفوهم ومات في هذين اليومين وما بعدهما أمم كثيرة لا يحصى عددها إلا الله وطال بالكفرة بغيهم وعنادهم ونالوا من المسلمين قصدهم ومرادهم وأصبح يوم الأربع فركب فيه المشايخ أجمع وذهبوا لبيت صارى عسكر وقابلوه وخاطبوه في العفو ولأطفوه والتمسوا منه أمانا كافيا وعفوا ينادون به باللغتين شافيا لتطمئن بذلك قلوب الرعية ويسكن روعهم من هذه الرزية فوعدهم وعدا مشوبا بالتسويف وطالبهم بالتبيين والتعريف عمن تسبب من المتعممين في إثارة العوام وحرضهم على الخلاف والقيام فغالطوه عن تلك المقاصد فقال على لسان الترجمان: نحن نعرفهم بالواحد فترجوا عنده في اخراج العسكر من الجامع الأزهر فأجابهم لذلك السؤال وأمر باخراجهم في الحال وأبقوا منهم السبعين اسكنوهم في الخطة كالضابطين ليكونوا للأمور كالراصدين وبالأحكام متقيدين ثم أنهم فحصوا على المتهمين في إثارة الفتنة فطلبوا الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان والشيخ أحمد الشرقاوي والشيخ عبد الوهاب الشبراوي والشيخ يوسف المصيلحي والشيخ إسمعيل البراوي وحبسوهم ببيت البكري وأما السيد بدر المقدسي فإنه تغيب وسافر إلى جهة الشام وفحصوا عليه فلم يجدوه وتردد المشايخ لتخليص الجماعة المعوقين فغولطوا واتهم أيضا إبراهيم أفندي كاتب البهار بأنه جمع له جمعا من الشطار وأعطاهم الأسلحة والمساوق وكان عنده عدة من المماليك المخفيين
والرجال المعدودين فقبضوا عليه وحبسوه ببيت الاغا.
وفي يوم الأحد ثامن عشرة توجه شيخ السادات وباقي المشايخ إلى بيت صار عسكر الفرنسيس وتشفعوا عنده في الجماعة المسجونين ببيت الاغا وقائمقام والقلعة فقيل لهم: وسعوا بالكم ولا تستعجلوا فقاموا وانصرفوا.
وفيه نادوا في الأسواق بالأمان ولا أجد يشوش على أجد مع استمرار القبض على الناس وكبس البيوت بادنى شبهة ورد بعضهم الأمتعة التي نهبت للنصارى.
وفيه توسط عمر القلقجي لمغاربة الفحامين وجمع منهم ومن غيرهم عدة وافرة وعرضهم على صارى عسكر فأختار منهم الشباب وأولي القوة وأعطاهم سلاحا وآلات حرب ورتبهم عسكرا ورئيسهم عمر المذكور وخرجوا وإمامهم الطبل الشامي على عادة عسكر المغاربة وسافروا إلى جهة بحرى بسبب أن بعض البلاد قام على عسكر الفرنساوية وقت الفتنة وقاتلوهم وضربوا أيضا مركبين بها عدة من عساكرهم فحاربوهم وقاتلوهم فلما ذهب أولئك المغاربة سكنوا الفتنة وضربوا عشما وقتلوا كبيرها المسمى بأبن شعير ونهبوا داره ومتاعه وماله وبهائمه وكان شيئا كثيرا جدا وأحضروا إخوته وأولاده وقتلوهم ولم يتركوا منهم سوى ولد صغير جعلوه شيخا عوضا عن ابيهم وسكن العسكر المغربي بدار عند باب سعادة ورتبوا له من الفرنسيس جماعة يأتون إليهم في كل يوم ويدربونهم على كيفية حربهم وقانونهم ومعنى أشاراتهم في مصافاتهم فيقف المعلم والمتعلمون مقابلون له صفا وبأيديهم بنادقهم فيشير إليهم بألفاظ بلغتهم كان يقول مردبوش فيرفعونها قابضين بأكفهم على أسافلها ثم يقول مرش: فيمشون صفوفا إلى غير ذلك.
وفيه سافر برطلمين إلى ناحية سرياقوس ومعه جملة من العسكر بسبب الناس الفارين إلى جهة الشرق فلم يدركهم وأخذ من في البلاد وعسف في تحصيها ورجع بعد أيام
وفي يوم الأربعاء خاطب الشيخ محمد المهدي صارى عسكر في أمر إبراهيم أفندي كاتب البهار وتلطف به بمعونة بوسليك المعروف بمدير الحدود وهو عبارة عن الروزنامجي ونقله من بيت الاغا الىداره وطلبوا منه قائمة كشف عما يتعلق بالمماليك بدفتر البهار.
وفي يوم الخميس سافر عدة من المراكب نحو الأربعين بها عسكر الفرنسيس إلى جهة بحرى.
وفي ليلة السبت رابع عشرينه حضر هجان من ناحية الشام وعلىيده مكاتبات وهي صورة فرمان وعليه طرة ومكتوب من أحمد باشا الجزار وآخر من بكر باشا إلى كتخدائه مصطفى بك ومكتوب من إبراهيم بك خطابا للمشايخ وذلك كله بالعربي ومضمون ذلك بعد براعة الأستهلال والآيات القرآنية والاحاديث والاثار المتعلقة بالجهاد ولعن طائفة الافرنج والحط عليهم وذكر عقيدتهم الفاسدة وكذبهم ونحيلهم وكذلك قية المكاتبات بمعنى ذلك فأخذها مصطفى بك كتخدا وذهب بها إلى صارى عسكر فلما اطلع عليها قال هذا تزوير: من إبراهيم بك ليوقع بيننا وبينكم العداوة والمشاحنة وأما أحمد باشا فهو رجل فضولي لم يكن واليا بالشام ولا مصر لأن والي الشام إبراهيم باشا وأما والي مصر فهو عبد الله باشا بن العظم الذي هو الآن والي الشام فانا أعلم بذلك وسيأتي بعد أيام والي ويقيم معه كما كانت المماليك مع الولاة وورد خبر أيضا بانفصال محمد باشا عزت عن الصدارة وعزل كذلك أنفار من رجال الدولة وفي مدة هذه الأيام بطل الاجتماع بالديوان المعتاد وأخذوا في الاهتمام في تحصين النواحي والجهات وبنوا ابنية على التلول المحيطة بالبلد ووضعوا بها عدة مدافع وقنابر وهدموا أماكن بالجيزة وحصنوها تحصينا زائدا وكذلك مصر العتيقة ونواحي شبرا وهدموا عدة مساجد منها المساجد المجاورة لقنطرة انبابة الرمة ومسجد المقس المعروف الآن بأولاد عنان على الخليج الناصري بباب البحر وقطعوا نخيلا كثيرة واشجار الجيزة التي عند أبي هريرة قطعوها وحفروا هناك خنادق كثيرة وغير
ذلك وقطعوا نخيل جهة الحلي وبولاق وخربوا دورا كثيرة وكسروا شبابيكها وأبوابها وأخذوا أخشابها لاحتياج العمل والوقود وغير ذلك.
وفي ليلة الأحد حضر جماعة من عسكر الفرنسيس إلى بيت البكري نصف الليل وطلبوا المشايخ المحبوسين عند صارى عسكر ليتحدث معهم فلما صاروا خارج الدار وجدوا عدة كثيرة في انتظارهم فقبضوا عليهم وذهبوا بهم إلى بيت قائمقام بدرب الجماميز وهو الذي كان به دبوىا قائمقام المقتول وسكنه بعده الذي تولى مكانه فلما وصلوا بهم هناك عروهم من ثيابهم وصعدوا بهم إلى القلعة فسجنوهم إلى الصباح فأخرجوهم وقتلوهم بالبنادق وألقوهم من السور خلف القلعة وتغيب حالهم عن أكثر الناس أياما وفي ذلك اليوم ركب بعض المشايخ إلى مصطفى بك كتخدا الباشا وكلموه في أن يذهب معهم إلى صارى عسكر ويشفع معهم في الجماعة المذكورين ظنا منهم أنهم في قيد الحياة فركب معهم إليه وكلموه في ذلك فقال لهم الترجمان أصبروا ما هذا وقته وتركهم وقام ليذهب في بعض أشغاله فنهض الجماعة أيضا وركبوا إلى دورهم.
وفي يوم الثلاثاء حضر عدة من عسكر الفرنسيس ووقفوا بحارة الأزهر فتخيل الناس منهم المكروه ووقعت فيهم كرشة وأغلقوا الدكاكين وتسابقوا إلى الهروب وذهبوا إلى البيوت والمساجد واختلفت اراؤهم ورأوا في ذلك اقضية بحسب تخمينهم وظنهم وفساد مخيلهم فذهب بعض المشايخ إلى صارى عسكر واخبروه بذلك وتخوف الناس فأرسل إليهم وأمرهم بالذهاب فذهبوا وتراجع الناس وفتحوا الدكاكين ومر الاغا والوالي وبرطلمين ينادون بالأمان وسكن الحال وقيل أن بعض كبرائهم حضر عند القلق الساكن بالمشهد وجلس عنده حصة هؤلاء كانوا اتباعه ووقفوا ينتظرونه ولعل ذلك قصدا للتخويف والارهاب خشية من قيام فتنة لما اشيع قتل المشايخ المذكورين وهو الأرجح.
وفيه كتبوا اوراقا والصقوها بالأسواق تتضمن العفو والتحذير من اثارة الفتنة وأن من قتل من المسلمين في نظير من قتل من الفرنسيس
وفيه شرعوا في احصاء الأملاك والمطالبة بالمقرر فلم يعارض في ذلك معارض ولم يتفوه بكلمة والذي لم يرض بالتوت يرضى بحطبه.
وفيه أيضا قلعوا ابواب الدروب والحارات الصغيرة الغير النافذة وهي التي كانت تركت وسومح اصحابها وبرطلوا عليها وصالحوا عليها قبل الحادثة وبرطلوا القلقات والوسايط على ابقائها وكذلك دروب الحسينية فلما انقضت هذه الحادثة ارتجعوا عليها وقلعوها ونقلوها إلى ما جمعوه من البوابات بالازبكية ثم كسروا جميعها وفصلوا اخشابها ورفعوا بعضها على العربات الىحيث اعمالهم بالنواحي والجهات وباعوا بعضها حطبا للوقود وكذلك ما بها من الحديد وغيره.
وفي ليلة الخميس هجم المنسر على بوابة سوق طولون وكسروها وعبروا منها إلى السوق فكسروا القناديل وفتحوا ثلاثة حوانيت وأخذوا ما بها من متاع المغاربة التجار وقتلوا القلق الذي هناك وخرجوا بدون مدافع ولا منازع.
وفي يوم الخميس المذكور ذهب المشايخ إلى صارى عسكر وتشفعوا في ابن الجوسقي شيخ العميان الذي قتل ابوه وكان معوقا ببيت البكري فشفعهم فيه واطلقوه.
واستهل شهر جمادى الثانية بيوم السبت سنة 1213.
فيه كتبوا عدة أوراق على لسان المشايخ وأرسلوها إلى البلاد والصقوا منها نسخا بالأسواق والشوارع.
وصورتها نصيحة من كافة علماء الإسلام بمصر المحروسة نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن ونبرأ إلى الله من الساعين في الأرض بالفساد نعرف أهل مصر المحروسة من طرف الجعيدية واشرار الناس حركوا الشرور بين الرعية وبين العساكر الفرنساوية بعدما كانوا اصحابا واحبابا لسوية وترتب على ذلك قتل جملة من المسلمين ونهبت بعض البيوت ولكن حصلت الطاف الله الخفية وسكنت الفتنة بسبب شفاعتنا عند أمير الجيوش يونابارته وارتفعت هذه البلية لأنه رجل كامل العقل
عنده رحمة وشفقة على المسلمين ومحبة إلى الفقراء والمساكين ولولاه لكانت العساكر احرقت جميع المدينة ونهبت جميع الأموال وقتلوا كامل أهل مصر فعليكم أن لا تحركوا الفتن ولا تطيعوا أمر المفسدين ولا تسمعوا كلام المنافقين ولا تتبعوا الأشرار ولا تكونوا من الخاسرين سفهاء العقول الذين لا يقرأون العواقب لأجل أن تحفظوا أوطانكم وتطمئنوا على عيالكم وأديانكم فإن الله سبحانه وتعالى يؤتى ملكه من يشاء ويحكم ما يريد وتخبركم أن كل من تسبب في تحريك هذه الفتنة قتلوا من آخرهم وأراح الله منهم العباد والبلاد ونصيحتنا لكم أن لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة واشتغلوا باسباب معايشكم وأمور دينكم وادفعوا الخراج الذي عليكم الدين النصيحة والسلام.
وفيه امروا بقية السكان على بركة الأزبكية وما حولها بالنقلة من البيوت ليسكنوا بها جماعتكم المتباعدين منهم يكون الكل في حومة واحدة وذلك لما داخلهم من المسلمين حتى أن الشخص منهم صار لا يمشي بدون سلاح بعد أن كانوا من حين دخولهم البلد لا يمشون به أصلا إلا لغرض والذي لم يكن معه سلاح يأخذ بيده عصا أو سوطا أو نحو ذلك وتنافر قلوبهم من المسلمين وتحذروا منهم وانكف المسلمون عن الخروج والمرور بالأسواق من الغروب إلى طلوع النهار ومن جملة من انتقل من الدرب الأحمر إلى الأزبكية كفرلي المسمى بأبي خشبة وهو يمشي بها بدون معين ويصعد الدرج ويهبط منها أسرع من الصحيح ويركب الفرس ويرمحه وهو على هذه الحالة وكان من جملة المشار إليهم فيهم والمدبر لامور القلاع وصفوف الحروب ولهم به عناية عظيمة واهتمام زائد كان يسكن ببيت مصطفى كاشف طرا وفي وقت الحادثة هجمت على الدار العامة ونهبوها وقتلوا منها بعض الفرنساوية وفر الباقون فأخبروا من بالقلعة الكبيرة فنزل منهم عدة وافرة وقف بعضهم خارج الدار بعد أن طردوا المزدحمين ببابها وضربوهم بالبندق ودخل الباقون فقتلوا من وجدوه بها من المسلمين وكانوا جملة كثيرة وكان بتلك الدار شيء كثير
من آلات الصنائع والنظارات الغربية والآلات الفلكية والهندسية والعلوم الرياضية وغير ذلك مما هو معدوم النظير كل آلة لا قيمة لها عند من يعرف صنعتها ومنفعتها فبدد ذلك كله العامة وكسروه قطعا وصعب ذلك على الفرنسيس جدا وقاموا مدة طويلة يفحصون عن تلك الالآت ويجعلون لمن يأتيهم بها عظيم الجعالات وممن قتل في وقعة هذه الدار الشيخ محمد الزهار.
وفي خامسة افرجوا عن إبراهيم أفندي كاتب البهار وتوجه إلى بيته.
وفي ثامنه قتلوا أربعة أنفار من القبط منهم اثنان من النجارين قيل أنهم سكروا في الخمارة ومروا في سكرهم وفتحوا بعض الدكاكين وسرقوا منها أشياء وقد تكرر منهم ذلك عدة مرار فاغتاظ لذلك القبطة.
وفيه كتبوا عدة أوراق وأرسلوا منها نسخا للبلاد والصقوا منها بالاخطاط والأسواق ذلك على لسان المشايخ أيضا ولكن تزيد صورتها عن الأولى.
وصورتها نصيحة من علماء الإسلام بمصر المحروسة نخبركم يا أهل المدائن والأمصار من المؤمنين ويا سكان الارياف من العربان والفلاحين أن إبراهيم بك ومراد بك وبقية دولة المماليك أرسلوا عدة مكاتبات ومخاطبات إلى سائر الاقاليم المصرية لأجل تحريك الفتنة بين المخلوقات وادعوا أنها من حضرة مولانا السلطان ومن بعض وزراءه بالكذب والبهتان وبسبب ذلك حصل لهم شدة الغم والكرب الزائد وأغتاظوا غيظا شديدا من علماء مصر ورعاياها حيث لم يوافقوهم على الخروج معهم ويتركوا عيالهم وأوطانهم فارادوا أن يوقعوا الفتنة والشر بين الرعية والعسكر الفرنساوية لأجل خراب البلاد وهلاك كامل الرعية وذلك لشدة ما حصل لهم من الكرب الزائد بذهاب دولتهم وحرمانهم من مملكة مصر المحمية ولو كانوا في هذه الأوراق صادقين بانها من حضرة سلطان السلاطين لأرسلها جهارا مع اغوات معينين ونخبركم أن الطائفة الفرنساوية بالخصوص عن بقية الطوائف الافرنجية دائما يحبون المسلمين وملتهم ويبغضون المشركين وطبيعتهم أحباب لمولانا السلطان قائمون بنصرته
وأصدقاء له ملازمون لمودته وعشرته ومعونته يحبون من والاه ويبغضون من عاداه ولذلك بين الفرنساوية والموسكوف غاية العداوة الشديدة من اجل عداوة المسكوف القبيحة الرديئة والطائفة الفرنساوية يعاونون حضرة السلطان على أخذ بلادهم أن شاء الله تعالى ولا يبقون منهم بقية فننصحكم أيها الأقاليم المصرية إنكم لا تحركوا الفتن ولا الشرور بين البرية ولا تعارضوا العساكر الفرنساوية بشيء من أنواع الأذية فيحصل لكم الضرر والهلاك ولا تسمعوا كلام المفسين ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون فتصبحوا على ما فعلتم ناديم وإنما عليكم دفع الخراج المطلوب منكم لكامل الملتزمين لتكونوا بأوطانكم سالمين وعلى أموالكم وعيالكم آمنين مطمئنين لأن حضرة صارى عسكر الكبير أمير الجيوش بونابارته اتفق معنا على أنه لا ينازع أجد في دين الإسلام ولا يعارضنا فيما شرعه الله من الأحكام ويرفع عن الرعية سائر المظالم ويقتر على أخذ الخراج ويزيل ما أحدثه الظلمة من المغارم فلا تعلقوا آمالكم بإبراهيم ومراد وراجعوا إلى مولاكم مالك الملك وخالق العباد فقد قال نبيه ورسوله الأكرم: "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها بين الأمم" عليه أفضل الصلاة والسلام وفي ثالث عشره قتلوا شخصين عند باب زويلة أحدهما يهودي لم يتحقق السبب في قتلهما.
وفيه اخرجوا من بيت نسيب إبراهيم كتخدا صناديق ضمنها مصاغ وجواهر وأواني ذهب وفضة وأمتعة وملابس كثيرة.
وفي خامس عشرة حضر جماعة من الفرنساوية بباب زويلة وفتحوا بعض دكاكين السكرية وأخذوا منها سكرا وضاع على أصحابه.
وفيه دلوا على إنسان عنده صندوقان وديعة لأيوب بك الدفتردار فطلبوه وأمروه باحضارهما فأحضرهما بعد الانكار والحجد عدة مرار فوجدوا ضمنهما أسلحة جواهر وسبح لؤلؤ وخناجر مجوهرة وغير ذلك.
وفي عشرينه كتبوا عدة أوراق مطبوعة وألصقوها بالأسواق مضمونها
أن في يوم الجمعة حادي عشرينه قصدنا أن نطير مركبا ببركة الأزبكية في الهواء بحيلة فرنساوية فكثر لغط الناس في هذا كعادتهم فلما كان ذلك اليوم قبل العصر تجمع الناس والكثير من الافرنج ليروا تلك العجيبة وكنت بجملتهم فرأيت قماشا على هيئة الأدية على عمود قاتم وهو ملون احمر وأبيض وأزرق على مثل دائرة الغربال وفي وسطه مسرجة بها فتيلة مغموسة ببعض الأدهان وتلك المسرجة مصلوبة بسلوك من حديد منها إلى الدائرة وهي مشدودة ببكر واحبال واطراف الاحبال بأيدي أناس قائمين باسطحة البيوت القريبة منها فلما كان بعد العصر بنحو ساعة أوقدوا تلك الفتيلة فصعد دخانها إلى ذلك القماش وملأه فانتفخ وصار مثل البكرة وطلب الدخان الصعود إلى مركزه فلم يجد منفذا فجذبها معه إلى العلو فجذبها بتلك الاحبال مساعدة لها حتى ارتفعت عن الأرض فقطعوا تلك الحبال فصعدت إلى الجو مع الهواء ومشت هنيهة لطيفة ثم سقطت طارتها الفتيلة وسقط أيضا ذلك القماش وتناثر منها أوراق كثيرة من نسخ الأوراق المبصومة فلما حصل لها ذلك انكسف طبعهم لسقوطها ولم يتبين صحة ما قالوه من أنها على هيئة مركب تسير في البلاد البعيدة لكشف الأخبار وإرسال المراسلات بل ظهر أنها مثل الطيارة التي يعملها الفراشون بالمواسم والافراح.
وفي تلك الليلة طاف منهم أنفار بالأسواق ومعهم مقاطف بها لحوم مسمومة فأطعموها للكلاب فمات منها جملة كثيرة فلما طلع النهار وجد الناس الكلاب مرمية وطرحى بالأسواق وهي موتى فأستأجروا لها من أخرجها إلى الكيمان وسبب ذلك أنهم لما كانوا يمرون بالأسواق في الليل وهم سكوت كانت الكلاب تنبحهم وتعدو خلفهم ففعلوا بها ذلك وارتاحوا هم والناس منها.
وفي خامس عشرينه سافر عدة عساكر إلى جهة مراد بك وكذلك إلى جهة كرداسة بسبب العربان وكذلك إلى السويس الصالحية وأخذوا جمال
السقائين برواياها وحميرهم ولكن يعطونهم أجرتهم فشح الماء وغلا وبلفت القرية عشرة انصاف فضة.
وفيه ظفروا بعدة ودائع وخبايا بأماكن متعددة بها صناديق وأمتعة وأسلحة وأواني صيني وأواني نحاس قناطير وغير ذلك وانقضى هذا الشهر وما حصل به من الحوادث الكلية والجزئية التي لا يمكن ضبطها لكثرتها.
منها أنهم أحدثوا بغيط النوبي المجاور للازبكية ابنية على هيئة مخصوصة منتزهة يجتمع بها النساء والرجال للهو والخلاعة في أوقات مخصوصة وجعلوا على كل من يدخل إليه قدرا مخصوصا يدفعه أو يكون مأذونا وبيده ورقة.
ومنها أنهم هدموا وبنوا بالمقياس والروضة وهدموا أماكن بالجيزة ومهدوا التل المجاور لقنطرة الليمون وجعلوا في أعلاه طاحونا تدور في الهواء عجيبة وتطحن الأرادب من البر وهي بأربعة أحجار وطاحونا أخرى بالروضة تجاه مساطب النشاب وهدموا الجامع المجاور لقنطرة الدكة وشرعوا في ردم جهات حوالي بركة الأزبكية وهدموا الأماكن المقابلة لبيت صارى عسكر حتى جعلوها رحبة متسعة وهدموا الأماكن المقابلة لها من الجهة الاخرى والجنائن التي خلف ذلك وقطعوا اشجارها وردموا مكانها بالأتربة الممهدة على خط معتدل من الجهتين مبتدأ من حد ببيت صارى عسكر إلى قنطرة المغربي وجددوا القنطرة المذكورة وكانت آلت إلى السقوط وفعلوا بعدها كذلك على الوضع والنسق بحيث صار جسرا عظيما ممتدا ممهدا مستويا على خط مستقم من الأزبكية إلى بولاق قسمين قسم إلى طريق أبي العلا وقسم يذهب إلى جهة التبانة وساحل النيل وبطريقة الطريق المسلوكة الواصلة من طريق أبي العلاء وجامع الخطيري إلى ناحية المدابغ وحفروا في جانبي ذلك الجسر من مبدئه إلى منتهاه خندقين وغرسوا بجانبه اشجارا وسيسبانا واحدثوا طريقا أخرى فيما بين باب الحديد وباب العدوى عند المكان المعروف بالشيخ شعيب حيث معمل الفواخير وردموا جسر ممتدا ممهدا مستطيلا يبتدي
من الحد المذكور وينتهي إلى جهة المذبح خارج الحسينية وازلوا ما يتخلل بين ذلك من الأبنية والغيطان والاشجار والتلول وقطعوا جانبا كبيرا من التل الكبير المجاور لقنطرة الحاجب وردموا في طريقهم قطعة من خليج بركة الرطلي وقطعوا اشجار بستان كاتب البهار المقابل لجسر بركة الرطلي واشجار الجسر أيضا والابنية التي بين باب الحديد والرحبة التي بظاهر جامع المقس وساروا على المنخفض بحيث صارت طريقا ممتدة من الأزبكية إلى جهة قبة النصر المعروفة بقبة العزب جهة العادلية على خط مستقيم من الجهتين وقيدوا بذلك انفارا منهم يتعاهدون تلك الطرق ويصلحون ما يخرج منها عن قالب الأعتدال بكثرة الدروس وحوافر الخيول والبغال والحمير وفعلوا هذا الشغل الكبير والفعل العظيم في أقرب زمن ولم يسخروا أحدا في العمل بل كانوا يعطون الرجال زيادة عن اجرتهم المعتادة ويصرفونهم من بعد الظهيرة ويستعينون في الأشغال 2 وسرعة العمل بالآلات القريبة المأخذ السهلة التناول المساعدة في العمل وقلة الكلفة.
كانوا يجعلون بدل الغلقان والقصاع عربات صغيرة ويداها ممتدتان من خلف يملؤها الفاعل ترابا أو طينا أو احجارا من مقدمها بسهولة بحيث تسع مقدار خمسة غلقان ثم يقبض بيديه على خشبتيها المذكورتين ويدفعها إمامه فتجرى على عجلتها بأدنى مساعدة إلى محل العمل فيمليها باحدى يديه ويفرغ ما فيها من غير تعب ولا مشق وكذلك لهم فؤوس وقزم محكمة الصنعة متقنة الوضع وغالب الصناع من جنسهم ولا يقطعون الأحجار والأخشاب إلا بالطرق الهندسية على الزوايا القائمة والخطوط المستقيمة وجعلوا جامع الظاهر بيبرس خارج الحسينية قلعة ومنارته برجا ووضعوا علىأسواره مدافع واسكنوا به جماعة من العسكر وبنوا في داخله عدة مساكن تسكنها العسكر المقيمة به وكان هذا الجامع معطل الشعائر من مدة مدة طويلة وباع نظاره منه أنقاضا وعمدا كثيرة.
ومنها أنهم احدثوا على التل المعروف بتل العقارب الناصرية ابنية وكرانك
وأبراجا ووضعوا فيها عدة من آلات الحرب والعساكر المرابطين فيه.
وهدموا عدة دور من دور الأمراء وأخدوا أنقاضها ورخامها لابنيتهم وأفردوا للمدبرين والفلكيين وأهل المعرفة والعلوم الرياضية كالهندسة والهيئة والنقوشات والرسومات والمصورين والكتبة والحساب والمنشئين حارة الناصرية حيث الدرب الجديد وما به من البيوت مثل بيت قاسم بك وأمير الحاج المعروف بأبي يوسف وبيت حسن كاشف جركس القديم والجديد الذي أنشأه وشيده وزخرفه وصرف عليه اموالا عظيمة من مظالم العبادة وعند تمام بياضه وفرشه حدثت هذه الحادثة ففر مع الفارين وتركه فيه جملة كبيرة من كتبهم وعليها خزان ومباشرون يحفظونها ويحضرونها للطلبة ومن يريد المراجعة فيراجعون فيها مرادهم فتجتمع الطلبة منهم كل يوم قبل الظهر بساعتين ويجلسون في فسحة المكان المقابلة لمخازن الكتب على كراسي منصوبة موازية لتختاة عريضة مستطيلة فيطلب من يريد المراجعة ما يشاء منها فيحضرها له الخازن فيتصفحون ويراجعون ويكتبون حتى أسافلهم من العساكر وإذا حضر إليهم بعض المسلمين ممن يريد الفرجة لا يمنعونه الدخول إلى أعز أماكنهم ويتلقونه بالبشاشة والضحك وأظهار السرور بمجيئه إليهم وخصوصا إذا رأوا فيه قابلية أو معرفة أو تطلعا للنظر في المعارف بذلوا له مودته ومحبتهم ويحضرون له أنواع الكتب المطبوع بها والأقاليم والحيوانات والطيور والنباتات وتواريخ القدماء وسير الأمم وقصص الانبياء بتصاويرهم وآياتهم ومعجزاتهم وحوادث اممهم مما يحير الافكار ولقد ذهبت إليهم مرارا واطلعوني على ذلك فمن جملة ما رأيته كتاب كبير يشتمل على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومصورون به صورته الشريفة على قدر مبلغ علمهم واجتهادهم وهو قائم على قدميه ناظرا إلى السماء كالمرهب للخليقة وبيده اليمنى السيف وفي اليسرى الكتاب وحوله الصحابة رضي الله عنهم بأيديهم السيوف وفي صفحة أخرى صورة الخلفاء الراشدين وفي الاخرى صورة المعراج والبراق وهو صلى الله عليه وسلم راكب عليه
من صخوره بيت المقدس وصورة بيت المقدس والحرم المكي والمدني وكذلك صورة الأئمة المجتهدين وبقي الخلفاء والسلاطين ومثال اسلامبول وما بها من المساجد العظام كأياصوفي وجامع السلطان محمد وهيئة المولد النبوي وجمعية اصناف الناس لذلك السلطان سليمان وهيئة صلاة الجمعة فيه وأبى أيوب الانصاري وهيئة صلاة الجنازة فيه وصور البلدان والسواحل والبحار والأهرام وبرابي الصعيد والصور والاشكال والافلام المرسومة وما يختص بكل بلد من أجناس الحيوان والطيور والنبات والأعشاب وعلوم الطب والتشريح والهندسيات وجر الاثقال وكثير من الكتب الإسلامية مترجم بلغتهم ورأيت عندهم كتاب الشفاء للقاضي عياض ويعبرون عنه بقولهم شفاء شريف والبردة للبوصيري ويحفظون جملة من أبياتها وترجموها بلغتهم ورأيت بعضهم يحفظ سورا من القرآن ولهم تطلع زائد للعلوم وأكثرها الرياضة ومعرفة اللغات واجتهاد كبير في معرفة اللغة والمنطق ويدأبون في ذلك الليل والنهار وعندهم كتب مفردة لأنواع اللغات وتصاريفهما واشتقاقاتها بحيث يسهل عليهم نقل ما يريدون من أي لغة كانت إلى لغتهم في أقرب وقت وعند توت الفلكي وتلامذته في مكانهم المختص بها الآلات الفلكية الغريبة المتقنة الصنعة وآلات الارتفاعات البديعة العجيبة التركيب الغالية الثمن المصنوعة من الصفر المموه وهي تركب براريم مصنوعة محكمة كل آلة عدة قطع تركب مع بعضها البعض برباطات وبراريم لطيفة بحيث إذا ركبت صارت آلة كبير أخذت قدرا من الفراغ وبها نظارات وثقوب ينفذ النظر منها إلى المرئي وإذا انحل تركيبها وضعت في ظرف صغير وكذلك نظارات للنظر في الكواكب وارصادها ومعرفة مقاديرها واجرامها وارتفاعاتها واتصالاتها ومناظرتها وأنواع المنكابات والساعات التي تسير بثواني الدقائق الغريبة الشكل الغالية الثمن وغير ذلك وأفردوا لجماعة منهم بيت إبراهيم كتخدا السنارى وهم المصورون لكل شيء ومنهم اريجو المصور وهو يصور صور الأدميين تصويرا يظن من يراه أنه بارز
في الفراغ بجسم يكاد ينطق حتى أنه صور صورة المشايخ كل واحد على حدته في دائرة وكذلك غيرهم من الأعيان وعلقوا ذلك في بعض مجالس صارى عسكر وآخر في مكان آخر يصور الحيوانات والحشرات واخر يصور الأسماك والحيتان بانواعها وأسمائها ويأخذون الحيوان أو الحوت الغريب الذي لا يوجد ببلادهم فيضعون جسمه بذاته في ماء مصنوع حافظ للجسم فيبقى على حالته وهيئته لا يتغير ولا يبلى ولو بقي زمنا طويلا.
وكذلك أفردوا أماكن للمهندسين وصناع الدقائق وسكن الحكيم رويا ببيت ذي الفقار كتخدا بجوار ذلك ووضع آلاته ومساحقه وأهوانه في ناحية وركب له تنانير وكوانين لتقطير المياه والأدهان واستخراج الأملاح وقدورا عظيمة وبرامات وجعل له مكانا أسفل وأعلى وبهما رفوف عليها القدور المملوءة بالتراكيب والمعاجين والزجاجات المتنوعة وبها كذلك عدة من الاطباء والجرايحية.
وأفردوا مكانا في بيت حسن كاشف جركس لصناعة الحكمة والطب الكيماوي وبنوا فيه تنانير مهندمة وآلات تقاطير عجيبة الوضع والات تصاعيد الارواح وتقاطير المياه وخلاصات المفردات وأملاح الارمدة المستخرجة من الأعشاب والنباتات واستخراج المياه الجلاءة والحلالة وحول المكان الداخل قوارير وأوان من الزجاج البلوري المختلف الأشكال والهيئات على الرفوف والسدلات وبداخلها أنواع المستخرجات.
ومن أغرب ما رأيته في ذلك المكان أن بعض المتقيدين لذلك أخذ زجاجة من الزجاجات الموضوع فيها بعض المياه المستخرجة فصب منها شيئا في كأس ثم صب عليها شيئا من زجاجة أخرى فعلا المآن وصعد منه دخان ملون حتى انقطع وجف ما في الكأس وصار حجرا أصفر فقلبه على البرجات حجرا يابسا أخذناه بأيدينا ونظرناه ثم فعل كذلك بمياه أخرى فجمد حجرا أزرق وباخرى فجمد حجرا أحمر ياقوتيا وأخذ مرة شيئا قليلا حدا من غبار أبيض ووضعه على السندال وضربه بالمطرقة بلطف
فخرج له صوت هائل كصوت القرابانة انزعجنا منه فضحكوا منا وأخذ مرة زجاجة فارغة مستطيلة في مقدار الشبر ضيقة القسم فغمسها في ماء قراح موضوع في صندوق من الخشب مصفح الداخل بالرصاص وأدخل معها أخرى على غير هيئتها وأنزلهما في الماء وأصعدهما بحركة انحبس بها الهواء في أحدهما وآتى آخر بفتيلة مشتعلة وأبرز ذلك فم الزجاجة من الماء وقرب الآخر الشعلة إليها في الحال فخرج ما فيها من الهواء المحبوس وفرقع بصوت هائل أيضا وغير ذلك أمور كثيرة وبراهين حكمية تتولد من اجتماع العناصر وملاقاة الطبائع ومثل الفلكة المستديرة التي يديرون بها الزجاج فيتولد من حركتها شرر يطير بملاقاة أدنى شيء كثيف ويظهر له صوت وطقطقة وإذا مسك علاقتها شخص ولو خيطا لطيفا متصلابها ولمس آخر الزجاجة الدائرة أو ما قرب منها بيده الأخرى ارتج بدنه وارتعد جسمه وطقطقت عظام أكتافه وسواعده في الحال برجة سريعة ومن لمس هذا اللامس أو شيئا من ثيابه أو شيئا متصلا به حصل له ذلك ولو كانوا ألفا أو أكثر ولهم فيه أمور وأ وال وتراكيب غريبة ينتج منها نتائج لا يسعها عقول أمثالنا.
وأفردوا أيضا مكنا للنجارين وصناع الالآت والأخشاب وطواحين الهواء والعربات واللوازم لهم في اشغالهم وهندساتهم وأرباب صنعائهم ومكانا آخر للحدادين وبنوا فيه كوانين عظاما وعليها منافيخ كبار يخرج منها الهواء متصلا كثيرا بحيث يجذبه النافخ من أعلى بحركة لطيفة وصنعوا السندانات والمطارق العظام لصناعات الآلات من الحديد والمخارط وركبوا مخارط عظيمة لخرط القلوزات الحديد العظيمة ولهم فلكات مثقلة يديرها الرجال للمعلم الخراط للحديد بالاقلام المتينة الجافية وعليها حق صغير معلق مثقوب وفيه ماء يقطر على محل الخرط لتبريد النارية الحادثة من الأصطكاك وباعلى هذه الأمكنة صناع الأمور الدقيقة مثل البركارات وآلات الساعات والآلات الهندسية المتقنة وغير ذلك
شهر رجب سنة.1213
استهل بيوم الأحد في ثالثه قتلوا شخص من الأجناد يقال له مصطفى كاشف من جماعة حسين بك المعروف بشفت وكان قد فر مع الفارين ثم رجع من غير استئذان وأقام أياما مستترا ببيت الشيخ سليمان الفيومي فسلمه لمصطفى أغا مستحفظان ليأخذ له أمانا فأخبر الفرنسيس بشأنه وأغراهم عليه فأمروه بقتله فقطع رأسه وطافوا بها ينادون عليها بقولهم هذا جزاء من يدخل إلى مصر بغير أذن الفرنسيس.
وفي يوم الخميس حضر كبير الفرنسيس الذي بناحية قليوب وصحبته سليمان الشواربي شيخ الناحية وكبيرها فلما حضر حبسوه بالقلعة قبل أنهم عثروا له على مكتوب ارسله وقت الفتنة السابقة إلى سر ياقوس لينهض أهل تلك النواحي في القيام ويأمرهم بالحضور وقت أن يرى الغلبة على الفرنسيس ولما حبسوه وحبسوا معه أربعة من الأجناد أيضا.
وفيه احدثوا مرمارا يضربونه في كل يوم وقت الزوال لأن ذلك الوقت عندهم ابتداء اليوم.
وفي يوم الأربعاء عاشره نادوا في الأسواق بأن من أراد أن يشتري فرسا أو حمارا فليحضر يوم الجمعة ثالث عشره ببولاق ويشتري من الفرنساويه ما أحب من ذلك وكتبوا بذلك اوراقا وألصقوها بالأسواق والازقة وهي مطوعة وعليها الصورة ونصها فليكن معلوما عند كافة الرعايا المصرية أن في يوم الجمعة ثلاثة عشر من شهر رجب الساعة اثنين يباع في بولاق جملة خيل من المشيخة الفرنساوية فلاجل هذا المشتري كل من أراد أن يقتنى خيلا فمنحنا له الاجازة أنه يقتنى كما يريد ويشاء.
وفي يوم الإثنين سادس عشره سافر صارى عسكر بونابارته إلى السويس وأخذ صحبته السيد أحمد المحروقي وإبراهيم أفندي كاتب البهار وأخذ معه أيضا بعض المدبرين والمهندسين والمصورين وجرجس الجوهري والطون أبو طاقية وغيرهم وعدة كثيرة من عساكر الخيالة والمشاة وبعض مدافع وعربات وتختروان وعدة جمال لحمل الذخيرة والماء والقومانية
وفيه شرعوا في ترتيب الديوان على تنظيم آخر وعينوا له ستين نفرا منهم أربعة عشر يقال لهم خصوص وهم الذين يحضرون دائما ويقال لهم الديوان الخصوصي والديوان الديمومي والباقي بحسب الاقتضاء والاربعة عشر هم من المشايخ الشرقاوي والمهدي والصاوي والبكري والفيومي ومن التجار المحروقي وأحمد محرم ومن النصارى القبطة لطف الله المصري ومن الشوام يوسف فرحات ومخاييل كحيل ورواحة الانكليزي وبودني وموسى كافر الفرنساوي ومعهم وكلاء ومباشرون من الفرنسيس ومترجمون وأما العمومي فأكثره مشايخ حرف وكتبوا بذلك طومارا كبيرا بصموا منه نسخا كثيرة وأرسلوا منها نسخا كثيرة للاعيان وألصقوا منها بالأسواق على العادة وأرسلوا اللذين عينوا بالديوان أوراقا بأسمائهم شبه التقارير وصورة صدر ذلك الطومار المكتتب في شأن ذلك وقد أوردت ذلك وأن كان فيه بعض طول للاطلاع على ما فيه من التمويهات على العقول والتسلق على دعوى الخواص من البشر بفاسد التخيلات التي تنادى على بطلانها بديهة العقل فضلا عن النظر وهي مقولة على لسان بونابارته كبير الفرنسيس ونصه.
بسم الله الرحمن الرحيم من أمير الجيوش الفرنساويه خطابا إلى كافة أهالي مصر الخاص والعام نعلمكم أن بعض الناس الضالين العقول الخليين من المعرفة وادراك العواقب سابقا اوقعوا الفتنة والشرور بين القاطنين بمصر فأهلكهم لله بسبب فعلهم ونيتهم القبيحة والباري سبحانه وتعالى أمرني بالشفقة والرحمة على العباد فامتثلث أمره وصرت رحيما بكم شفوقا عليكم ولكن كان حصل عندي غيظ وغم شديد بحسب تحريك هذه الفتنة بينكم ولأجل ذلك أبطلت الديوان الذي كنت رتبته لنظام البلد وصلاح اموالكم من مدة شهرين والان توجه خاطرنا إلى ترتيب الديوان كما كان لأن حسن احوالكم ومعاملتكم في المدة المذكورة إنسانا ذنوب الأشرار وأهل الفتنة التي وقعت سابقا أيها العلماء والاشراف أعلم وأمتكم ومعاشر رعيتكم بأن الذي يعاديني ويخاصمني إنما خصامه
من ضلال عقله وفساد فكرة فلا يجد ملجأ ولا مخلصا ينجيه مني في هذا العالم ولا ينجو من بين يدي الله لمعارضته لمقادير الله سبحانه وتعالى والعاقل يعرف أن ما فعلناه بتقدير الله تعالى وإرادته وقضائه ومن يشك في ذلك فهو أحمق وأعمى البصيرة وأعلموا أيضا امتكم أن الله قدر في الأزل هلاك اعداء الإسلام وتكسير الصلبان على يدي وقدر في الأزل أني اجيء من المغرب إلى أرض مصر لهلاك الذين ظلموا فيها واجراء الأمر الذي امرت به ولا يشك العاقل أن هذا كله بتقدير الله وارادته وقضائه وأعلموا أيضا أمتكم أن القرآن لعظيم صرح في آيات كثيرة بوقوع الذي حصل وأشار في آيات أخرى إلى أمور تقع في المستقبل وكلام الله في كتابه صدق وحق لا يتخلف إذا تقرر هذا وثبتت هذه المقالات في آذانكم فلترجع أمتكم جميعا إلى صفاء النية واخلاص الطوية فإن منهم من يمتنع عن الغي واظهار عداوتي خوفا من سلاحي وشدة سطوتي ولم يعلموا أن الله مطلع على السرائر يعلم خائنه الأعين وما تخفي الصدور والذي يفعل ذلك يكون معارضا لأحكام الله ومنافقا وعليه اللعنة والنقمة من الله غلام الغيوب وأعلموا أيضا أني أقدر على إظهار ما في نفس كل أجد منكم لانني أعرف احوال الشخص وما انطوى عليه بمجرد ما اراه وأن كنت لا اتكلم ولا انطق بالذي عنده ولكن يأتي وقت ويوم يظهر لكم بالمعاينة أن كل ما فعلته وحكمت به فهو حكم الهي لا يرد وأن اجتهاد الإنسان غاية جهده ما يمنعه عن قضاء الله الذي قدره وأجراه على يدي فطوبى للذين يسارعون في اتحادهم وهمتهم مع صفاء النية واخلاص السريرة والسلام.
ورتبوا لارباب الديوان الديمومي شهرته تدفع إليهم نظير تقيدهم بمصالح العامة والدعاوى وما يترتب عليه النظام بينهم وبين المسلمين.
وفي ثامن عشرة طافوا على الطواحين واختاروا من كل طاحون فرسا أخذوها.
وفي رابع عشرينه حضر السيد المحروقي وكاتب البهار من السويس
وكان سارى عسكر ذهب إلى ناحية بلبيس فأستاذ ونه في ذهابهم إلى مصر فأذن لهم وأرسل معهم خمسين عسكريا ليوصلوهم إلى مصر فلما حضروا حكوا أن أهل السويس لما بلغهم مجيء الفرنساوية هربوا وأخلوا البلدة فذهبوا إلى الطور وذهب البعض إلى العرب بالبادية فنهب الفرنسيس ما وجدوه بالبندر من البن والمتاجر والأمتعة وغير ذلك وهدموا الدور وكسروا الاخشاب وخوابي الماء فلما حضر كبيرهم وكان متأخرا عنهم كلمه التجار الذاهبون معه وأعلموه أن هذا الفعل غير صالح فاسترد من العسكر بعض الذي أخذوه ووعدهم باسترجاع الباق أو دفع ثمنه بمصر وأن يكتبوا قائمة بالمنهوبات ثم إنه وجد مركبان حضرا إلى قريب من السويس بهما بن ومتاجر فغرقت إحداهما فنزلت طائفة من الفرنسيس في مراكب صغار وذهبوا إليها في الغاطس وأخرجوها بآلات ركبوها واصطنعوها من علم جر الأثقال وفي مدة إقامته بالسويس صار يركب ويتأمل في النواحي وجهات ساحل البحر والبر ليلا ونهارا وكان معه من الأدم في هذه السفرة ثلاثة طيور دجاج محمرة ملفوفة في ورق وليس معه طباخ ولا فراش ولا فرش ولا خيمة وكل شخص من عسكره معه رغيف كبير مرشوق في طرف خربته يتزود منه ويشرب من سقاء لطيف من صفيح معلق في عنقه.
وفي يوم السبت حضر عدة من العسكر الفرنساوية من ناحية بلبيس ومعهم عدة من العربان نحو الثلاثين نفرا موثقون بالحبال وأسروا أيضا عدة من أولادهم ذكورا واناثا ودخلوا بهم إلى مصر يزفونهم بالطبول أمامهم ومعهم أيضا ثلاثة حمول من حمول التجار وبعض جمال مما كان نهب منهم عند رجوعهم من الحج.
وفي ليلة الإثنين غايته حضر سارى عسكر من ناحية بلبيس إلى مصر ليلا وأحضر معه عدة عربان وعبد الرحمن أباظة أخو سليمان أباظة شيخ العيايدة وخلافه رهائن وضربوا أبو زعبل والمنير وأخذوا مواشيهم وحضروا بهم إلى القاهرة وخلفهم اصحابهم رجالا ونساء وصغارا وفي
ذلك اليوم قتلوا شيخ العرب سليمان الشواربي شيخ قليوب ومعه أيضا ثلاثة رجال يقال لهم عرب الشرقية فأنزلوهم من القلعة إلى الرميلة على يد الاغا وقطعوا رؤوسهم وحملوا جثة الشواربي مع رأسه في تابوت وأخذه اتباعه في بلده قليوب ليدفن هناك عند اسلافه وانقضى هذا الشهر وحوادثه الجزئية والكلية.
منها أن في ليلة السابع والعشرين منه أتت جماعة إلى دار الشيخ محمد ابن الجوهري الكائن بالازبكية بالقرب من باب الهواء فخلعوا الشباك المطل على البركة ودخلوا منه وصعدوا إلى أعلى الدار وكان بها ثلاثة من النساء الخدامات وابنة خدامة أيضا وبواب الدار ولم يكن رب الدار بها ولا الحريم بل كانوا قد انتقلوا إلى دار أخرى لما سكن معظم العسكر بالازبكية فاستيقظ النساء وصرخن فضربوهن وقتلوا منهن امرأة واختفت البنت في جهة وعاثوا في الدار وأخذوا متاعا ومصاغا ونزلوا واستيقظ البواب فأختفى خوفا منهم فلما طلع النهار وشاع الخبر وكان سارى عسكر غائبا فلم يقع كلام في شأن ذلك فلما قدم من سفره ركب مشايخ الديوان وأخبروه فاغتم لذلك وأظهر الغيظ وذم فاعل ذلك لما فيه من العار الذي يلحقه واهتم في الفحص عمن فعل ذلك وقتله.
ومنها كثرة تعدي القلقات وتشديدهم على وقود القناديل بالازقة هم من أهل البلد وإذا مروا بالليل ووجدوا قنديلا اطفاه الهواء وفرغ زيته سمروا الحانوت أو الدار التي هو عليها ولا يقلعون المسمار حتى يصالحهم صاحبها على ما احبوه من الدراهم وربما تعمدوا كسر القناديل لأجل ذلك واتفق أن المطراطفا عدة قناديل بسوق أمير الجيوش بسبب كونها في ظروف من الورق والجرير فابتل الورق وسال الماء فأطفأ القنديل فسمروا حوانيت السوق وأصبح أهلها صالحوا عليها ووقع مثل ذلك في طرق عديدة فجمعوا في ذلك اليوم جملة من الدراهم وامثال ذلك حتى في الأزقة والعطف الغير النافذة حتى كان الناس ليس لهم شغل إلا القناديل وتفقد حالها وخصوصا في ليل الشتاء الطويل
شهر شعبان المعظم سنة 1213.
استهل بيوم الثلاثاء فيه قتلوا ثلاثة انفار من الفرنسيس وبندقوا عليهم بالرصاص بالميدان تحت القلعة قيل أنهم من المتسلقين على الدور.
وفيه أخبر السفار بأن مراد بك ومن معه ترفعوا إلى قبلي ووصلوا إلى عقبة الهواء وكلما قرب منهم عسكر الفرنساوية انتقلوا وقبلوا ولقد داخلهم من الفرنساوية خوف شديد ولم يقع بينهم ملاقاة ولا قتال.
وفيه قدمت رباعة تحمل البن الذي حضر من السويس بالمركب الداو يصحبه جماعة من الفرنساوية لخفارتها من قطاع الطريق.
وفي يوم الأحد سادسه نادى القبطان الفرنساوي الساكن بالمشهد الحسيني على أهل تلك الخطة وما جاورها بفتح الحوانيت والأسواق لأجل مولد الحسين وشد في ذلك ووعد من اغلق حانوته بتسميره وتغريمه عشرة ريال فراسنة مكافأة له على ذلك وكان السبب في ذلك والأصل فيه أن هذا المولد ابتدعه السيد بدوي بن فتيح مباشر وقف المشهد فكان قد اعتراه مرض الحب الافرنجي فنذر على نفسه هذا المولد أن شفاه الله تعالى فحصلت له بعض إفاقة فابتدأ به وأوقد في المسجد والقبة قناديل وبعض شموع ورتب فقهاء يقرأون القرآن بالنهار مدارسة واخرين بالمسجد يقرأون بالليل دلائل الخيرات للجذولي ثم زاد الحال وانضم إليهم كثير من أهل البدع كجماعة العفيفي والسمان والعربي والعيسوية فمنهم من يتحلق ويذكر الجلالة ويحرفها وينشد له المنشدون القصائد والموالات ومنهم من يقول أبياتا من بردة المديح للبوصيري ويجاوبهم آخرون مقابلون لهم بصيغة صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأما العيسوية فهم جماعة من المغاربة وما دخل فيهم من أهل الاهواء ينسبون إلى شيخ من أهل المغرب يقال له سيدي محمد بن عيسى وطريقتهم أنهم يجلسون قبالة بعضهم صفين ويقولون كلاما معوجا بلغتهم بنغم وطريقة مشوا عليها وبين أيديهم طبول ودفوف يضربون عليها على
قدر النغم ضربا شديدا مع ارتفاع اصواتهم وتقف جماعة أخرى قبالة الذين يضربون بالدفوف فيضعون اكتافهم في اكتاف بعض لا يخرج واحد عن الآخر ويلتوون وينتصبون ويرتفعون وينخفضون ويضربون الأرض بأرجلهم كل ذلك مع الحركة العنيفة والقوة الزائدة بحيث لا يقوم هذا المقام إلا كل من عرف بالقوة وهذه الحركات والايقاعات على نمط الضرب بالدفوف فيقع بالمسجد دوى عظيم وضجات من هؤلاء ومن غيرهم من جماعة الفقراء كل أجد له طريقة وكيفية تباين الأخرى هذا مع ما ينضم إلى ذلك من جمع العوام وتحلقهم بالمسجد للحديث والهذيان وكثرة اللغط والحكايات والاضاحيك والتلفت إلى حسبان الغلمان الذين يحضرون للتفرج والسعي خلفهم والافتتان بهم ورمى قشور اللب والمكسرات والمأكولات في المسجد وطواف الباعة بالمأكولات علىالناس فيه وسقاة الماء فيصير المسجد بما اجتمع فيه من هذه القاذورات والعفوش ملتحقا بالأسواق الممتهنة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم زاد الحال على ذلك بقدوم جماعة الإشاير من الحارات البعيدة والقريبة وبين أيديهم مناور القناديل والجوامع العظيمة التي تحملها الرجال والشموع والطبول والزمور ويتكلمون بكلام محرف يظنون أنه ذكر وتوسلات يثابون عليها وينسبون من يلومهم أو يعترضهم إلى الأعتزال والخروج والزندقة وغالبهم السوقة وأهل الحرف السافلة ومن لا يملك قوت ليلته فتجد أحدهم يجتهد بقوة سعيه ويبيع متاعه أو يستدين الجملة من الدراهم ويصرفها في وقود القناديل وأجرة الطبالة والزمارة وكل يجتمع عليه ما هو من أمثاله من الحرافيش ثم يقطع ليلته تلك سهرانا ويصبح دايخا كسلانا ويظن أنه بات يتعبد ويذكر ويتهجد واستمر هذا المولد أكثر من عشر سنين ولم يزدد الناذر لذلك إلا مرضا ومقتا واستجلب خدمة الضريح مالاح لهم من خساف العقول مثل الشمع والدراهم واتخذوا ذلك حبالة لاكل أموال الناس بالباطل فلما حصلت هذه الحادثة بمصر ترك هذا المولد في جملة المتروكات ثم حصلت الفتنة التي حصلت وسكن هذا الفرنساوي
في خط المشهد الحسيني لضبط تلك الجهة وفيه مسايرة ومداهنة فصار يظهر المحبة للمسلمين ويلاطفهم ويدخل بيوت الجيران ويقبل شفاعة المتشفعين ويجل الفقهاء ويعظمهم ويكرمهم وأبطل وقوف عسكره بالسلاح كعادتهم في غير هذه الجهة وكذلك منع ما يفعله القلقات من أنواع التشديد على الناس في مثل القناديل فأطمأن به أهل الخطة وتراجعوا للبكور إلى الصلاة في المساجد بعد تخوفهم من العسكر الذي رتب معهم وتركهم التبكير فلما أنسوا به وعرفوا اخلاقه رجعوا لعادتهم ومشوا بالليل أيضا بدون فزع وخوف وترجمانه على مثل طريقته وهو رجل شريف من أهل حلب كان أسيرا بمالطة فاستخلصه الفرنسيس في جملة من استخلصوه من أسرىمالطة وقدم معهم مصر فلما أجلس هذا الضبط الخط كان ترجمانه يهوديا فأحتال بعض أعيان الجهة ورتب هذا الشريف المذكور ليكون فيه راحة للناس ففتح له قهوة بالخط بالقرب من دار مخدومه وجمع الناس للجلوس فيها والسهر حصة من الليل وأمرهم بعدم غلق الحوانيت مقدارا من الليل كعادتهم القديمة فأستأنسوا بالاجتماعات والتسلي والخلاعات وعم ذلك جهات تلك الخطة ووافق ذلك هوى العامة لأن أكثرهم مطبوع على المجون والخلاعة وتلك هي طبيعة الفرنساوية فصاروا يجتمعون عنده للسمر والحديث واللعب والممازحة ويحضر معهم ذلك الضابط ومعه زوجته وهي من أولاد البلد المخلوعين أيضا فانساق الحديث لذكر هذا المولد الشهري وما يقع في لياليه من الجمعيات والمهرجان وحسنوا له اعادته فوافقهم على ذلك وأمر بالمناداة وفتح الحوانيت ووقود القناديل وشدد في ذلك.
وفي يوم الأربعاء كتبوا أوراقا بتطيير طيارة ببركة الأزبكية مثل التي سبق ذكرها وفسدت فاجتمعت الناس لذلك وقت الظهر وطيروها وصعدت إلى الأعلى ومرت إلى أن وصلت تلال البرقية وسقطت ولو ساعدها الريح وغابت عن الأعين لتمت الحيلة وقالوا أنها سافرت إلى البلاد البعيدة بزعمهم
وفيه سافر الخواجة مجلون إلى الصعيد واليا على جرجا لتحرير البلاد وقبض الأموال والغلال المتأخرة بالنواحي للعز.
وفيه سافرت قافلة بها احمال كثيرة ومواش ونساء افرنجيات وصناديق قيل أنهم ارسلوها إلى الطور وصحبتهم عدة من العسكر.
وفي يوم الخميس عاشره حضر طائفة من العسكر الفرنساوي إلى وكالة ذي الفقار بالجمالية ففتحوا طبقة كانت لكتخدا علي باشا الطرابلسي وأخذوا ما وجدوه بها من الأمتعة وختموا عدة حواصل وطباق بذلك الخان وبالوكالة الجديدة وغيرها للمسافرين والهاربين والقليونجية وضبطوا ما بها وقبضوا على جماعة من الأتراك والقليونجية التجار وسجنوهم بالقلعة وصاروا يفتشون على من بقى منهم بالقاهرة وبولاق خصوصا الكرتلية الذين كانوا عسكرا لمراد بك وأخذوا الكثير من نصارى الاروام والقليونجية الذين كانوا مع مراد بك وبعضهم كان بمصر فأدخلوهم في عسكرهم وزيوهم بزيهم وأعطوهم اسلحة وانتظموا في سلكهم.
وفيه تواترت الأخبار أن علي باشا ونصوح باشا فارقا مراد بك وذهبا من خلف الجبل على الهجن إلى جهة الشام وصحبتهم جماعة إبراهيم بك وكان ذهابهم في اواخر رجب.
وفيه نادوا بأبطال القناديل التي توقد في الليل على البيوت والدكاكين وأن يوقدوا عوضها في وسط السوق مجامع في كل مجمع أربع قناديل بين كل مجمع ثلاثون ذراعا ويقوم بذلك الأغنياء دون الفقراء ولا علاقة للقلقات في ذلك ففرح بذلك فقراء الناس وانفرجت عنهم هذه الكربة.
وفيه نادوا أيضا أن كل من كان له دعوى شرعية أو ظلامة فليذهب إلى العلماء والقاضي.
وفيه ذهب طائفة من العسكر وضربوا عرب الكوامل ورجعوا بمنهوباتهم من الغنم والمعز والدجاج والأوز والحمير وغير ذلك.
وفيه حضر رجل من ناحية غزة يطلب أمانا للست فاطمة زوجة مراد بك ولابنة المرحوم محمد أفندي البكري وزوجها الأمير ذي الفقار وخشداشينه
والخطاب للشيخ خليل البكري فعرض ذلك على ساري عسكر وترجى عنده فكتب له امان بحضورهم وأرسل لهم نفقة وكان ذلك حيلة منهم لتأتيهم النفقة وبعض الاحتياجات واخبر ذلك الرسول أن عبد الله باشا ابن العظم بغزة وإبراهيم بك ومن معه خارج البلد وهم في ضيق وحصر وحيز عنهم داخل البلد.
وفيه ذهب عدة من العسكر الفرنساوية إلى قطبا وشرعوا في بناء ابنية هناك واشيع سفر ساري عسكر إلى جهة الشام والأغارة عليها.
وفي ليل الأحد ثالث عشرة كان انتقال الشمس لبرج الدلو وهو أول شهر من شهورهم وعملوا تلك الليلة حراقة بارود وسواريخ كما هي عادتهم عند كل انتقال الشمس من برج إلى برج.
وفي يوم الإثنين رابع عشره نادى المحتسب على اللحم الضاني بسبعة انصاف الرطل وكان بثمانية واللحم الجاموسي بخمسة وكان بستة.
وفيه ذهب طائفة من العسكر وضربوا عرب العيايدة نواحي الخانكة وقتلوا منهم طائفة ونهبوهم ووجدوا من منهوبات الناس وأمتعة عسكر الفرنساوية واسلحتهم جملة فأخذوا ذلك مع ما أخذوه وأحضروا معهم بعض رجال ونساء حبسوهم بالقلعة وفيه ذهب عدة من العسكر إلى صنافير واجهور الورد وقرنفيل وكفر منصور وبلاد أخرى للتفتيش على العرب فأخذوا ما وجدوه للعرب من بهائم وغيرها والذي عصى عليهم ضربوه ونهبوه أيضا ونهبوا جمالا وبهائم ممن لم يعص أيضا ودخلوا بذلك المدينة فصاروا يبيعون البقرة بريالين وثلاثة والنعجة وابنها بريال فاشترى غالب ذلك نصارى القبط.
وفي يوم السبت قتلوا بالقلعة نحو التسعين نفرا وغالبهم من المماليك الذين وجدوهم هاربين في البلاد والذين عس عليهم الخبيث الاغا وبرطلمين والقلقات ووجدوهم مختفين في البيوت.
وفيه قبضوا على خمسة أنفار من اليهود وأمرأتين فألقوا الجميع في بحر النيل وفيه نادوا بأن كل من اشترى شيئا من منهوبات العرب التي
نهبتها العسكر يحضره لبيت صارى عسكر.
وفيه كثر الاهتمام والحركة بسفر الفرنسيس إلى جهة الشام وطلبوا وهيؤا جملة من الهجن وأحضروا جمال عرب الترابين ليحملوا عليها الذخيرة والدقيق والعليق والبقسماط ثم رسموا على الاهالي عدة كبيرة من الحمير وكذلك عدة من البغال فطلب شيخ الحمارة وأمر بجمع ذلك وكذلك الركبداريه أمرهم بجمع البغال فاختفى غالب أصحاب الحمير وخاف الناس على حميرهم فأمتنع خروج السقائين الذين ينقلون الماء بالقرب على الحمير وسقائين الجمال والبراسمية فحصل للناس ضيق بسبب ذلك.
وفي يوم الإثنين حادي عشرينه كتبوا أرواقا ولصقوها بالأسواق على العادة ونصها.
الحمد لله وحده وهذا خطاب إلى جميع أهل مصر من خاص وعام من محفل الديوان الخصوصي من عقلاء الانام علماء الإسلام والوجاقات والتجار الفخام نعلمكم معاشر أهل مصر أن حضرة ساري عسكر الكبير بونابارته أمير الجيوش الفرنساوية صفح الصفح الكلي عن كامل الناس والرعية بسبب ما حصل من أراذل أهل البلد والجعيدية من الفتنة والشر مع العساكر الفرنساوية وعفا عفوا شاملا وأعاد الديوان الخصوصي في بيت قائد اغا بالازبكية ورتبه من أربعة عشر شخصا اصحاب معرفة واتقان خرجوا بالقرعة من ستين رجلا كان انتخبهم بموجب فرمان وذلك لأجل قضايا حوايج الرعايا وحصول الراحة لأهل مصر من خاص وعام وتنظيمها على أكمل نظام وأحكام كل ذلك من كمال عقله وحسن تدبيره ومزيد حبه بمصر وشفقته على سكانها من صغير القوم قبل كبيره رتبهم بالمنزل المذكور كل يوم لأجل خلاص المظلوم من الظالم وقد اقتص من عسكره الذين اساؤا بمنزل الشيخ محمد الجوهري وقتل منهم اثنين بقراميدان وأنزل طائفة منهم عن مقامهم العالي إلى أدنى مقام لأن الخيانة ليست من عادة الفرنسيس خصوصا مع النساء الارامل فإن ذلك قبيح عندهم
لا يفعله إلا كل خسيس ووضع القبض بالقلعة على رجل نصراني مكاس لأنه بلغه أنه زاد المظالم في الجمرك بمصر القديمة على الناس ففعل ذلك بحسن تدبيره ليمتنع غيره من الظلم ومراده رفع الظلم عن كامل الخلق ويفتح الخليج الموصل من بحر النيل إلى بحر السويس لتخف اجرة الحمل من مصر إلى قطر الحجاز الافخم وتحفظ البضائع من اللصوص وقطاع الطريق وتكثر عليهم أسباب التجارة من الهند واليمن وكل فج عميق فاشتغلوا بأمر دينكم واسباب دنياكم واتركوا الفتنة والشرور ولا تطيعوا شيطانكم وهواكم وعليكم بالرضا بقضاء الله وحسن الأستقامة لأجل خلاصكم من أسباب العطب والوقوع في الندامة رزقنا الله واياكم التوفيق والتسليم ومن كانت له حاجة فليأت إلى الديوان بقلب سليم إلا من كان له دعوى شرعية فليتوجه إلى قاضي العسكر المتولي بمصر المحمية بخط السكرية والسلام عن أفضل الرسل على الدوام.
وفيه أرسلوا الوالي لينبه على السقائين بنقل الماء وعدم التعرض لهم ولحميرهم.
وفي ليلة الأربعاء ثالث عشرينه خرج عدة كبيرة من العسكر وطلب كبير الفرنساوية بونابارته أن يأخذ معه مصطفى بك كتخدا الباشا المتولي أمير الحاج ويأخذ أيضا قاضي العسكر بجمقشي زاده وأربعة أنفار من المتعممين وهم الفيومي والصاوي والعريشي والدواخلي وجماعة أيضا من التجار والوجاقلية ونصارى القبط والشوام.
وفي سادس عشرينه نادوا للناس بالأمان وفتح الأسواق ليلا في رمضان حكم المعتاد.
وفيه انتقل قائمقام من بيته المطل على بركة الفيل وهو بيت إبراهيم بك الوالي وسكن بيت أيوب بك الكبير المطل على بركة الفيل وانتقلوا جميعهم إلى بركة الأزبكية.
وفيه أعرض حسن أغا محرم المحتسب لسارى عسكر أمر ركوبه المعتاد لاثبات هلال رمضان فرسم له بذلك على العادة القديمة فاحتفل لذلك
المحتسب احتفالا زائدا وعمل وليمة عظيمة في بيته أربعة أيام أولها السبت وآخرها الثلاثاء دعا في أول يوم العلماء والفقهاء والمشايخ والوجاقلية وغيرهم وفي ثاني التجار والأعيان وكذلك ثالث يوم ورابع يوم دعا أيضا أكابر الفرنساوية وأصاغرهم وركب يوم الثلاثاء بالأبهة الكاملة زيادة عن العادة وإمامه مشايخ الحرف بطبولهم وزمورهم وشق القاهرة على الرسم المعتاد ومر على قائمقام وأمير الحاج وسارى عسكر بونابارته ثم رجع بعد الغروب إلى بيت القاضي بين القصرين فانبتوا هلال رمضان ليلة الأربعاء ثم ركب من هناك بالموكب وإمامه المشاغل الكثيرة والطبول والزمور والنقاقير والمناداة بالصوم وخلفه عدة خيالة عارية رؤسهم وشعورهم مرخية على أقفيتهم بشكل بشيع مهول وانقضى شهر شعبان وحوادثه.
فمنها أن أهل مصر جروا على عادتهم في بدعهم التي كانوا عليها وانكمشوا عن بعضها واحتشموها خوفا من الفرنسيس فلما تدرجوا فيها وأطلق لهم الفرنساوية القيد ورخصوا لهم وسايروهم رجعوا إليها وأنهمكوا في عمل مواليد الأضرحة التي يرون فرضيتها وأنها قربة تنجيهم بزعمهم من المهالك وتقربهم إلى الله زلفى في المسالك فرمحوا في غفلاتهم مع ماهم فيه من الأسر وكساد غالب البضائع وغلوها وانقطاع الأخبار ومنع الجالب ووقوف الانكليز في البحر وشدة حجزهم على الصادر والوارد حتى غلت اسعار جميع الأصناف المجلوبة من البحر الرومي وانقطع أثر كثير من رباب الصنائع التي كسدت لعدم طلابها واحتاجوا إلى التكسب بالحرف الدنيئة كبيع الفطير وقلي السمك وطبخ الاطعمة والمأكولات والأكل في الدكاكين واحداث عدة قهاوى وأما أرباب الحرف الدنيئة الكاسدة فأكثرهم عمل حمارا مكاريا حتى صارت الأزقة خصوصا جهات العسكر مزدحمة بالحمير التي تكرى للتردد في شوارع مصر فإن للفرنسيس بذلك عناية عظيمة ومغالاة في الاجرة بحيث أن الكثير منهم يظل طول النهار فوق ظهر الحمار بدون حاجة سوى أن يجري
به مسرعا في الشارع وكذلك تجتمع الجماعة منهم ويركبون الحمير ويجهدونها في المشي والاسراع وهم يغنون ويضحكون ويصيحون ويتمسخرون ويشاركهم المكارية في ذلك كما أن لهم العناية وبذل الأموال والتردد إلى حانات الراح والتغالي في شراء الفواكه والبوأطي والاقداح.
ومن طبعهم في الشرب أنهم يتعاطون لحد النشوة وترويح النفس فإن زادوا عن ذلك الحد لا يخرجون من منازلهم ومن سكر وخرج إلى السوق ووقع منه أمر مخل عاقبوه وعزروه.
ومنها ترفع أسافل النصارى من القبط والشوام والاروام واليهود وركوبهم الخيول وتقلدهم بالسيوف بسبب خدمتهم للفرنسيس ومشيهم الخيلاء وتجاهرهم بفاحش القول واستذلالهم المسلمين كل ذلك بما كسبت أيديهم وما ربك بظلام للعبيد والحال الحال والمركوز في الطبع ما زال والبعض استهوته الشياطين ومرق والعياذ بالله من الدين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومنها تواتر الأخبار من ابتداء شهر رجب بأن رجلا مغربيا يقال له الشيخ الكيلاني كان مجاورا بمكة والمدينة والطائف فلما وردت أخبار الفرنسيس إلى الحجاز وأنهم ملكوا الديار المصرية انزعج أهل الحجاز ويدعوهم إلى الجهادويحرضهم على نصرة الحق والدين وقرأ بالحرم كتابا مؤلفا في معنى ذلك فاتعظ جملة من الناس وبذلوا اموالهم وأنفسهم واجتمع نحو الستمائة من المجاهدين وركبوا البحر إلى القصير مع ما انضم إليهم من أهل ينبع وخلافه فورد الخبر في اواخره أنه انضم إليهم جملة من أهل الصعيد وبعض اتراك ومغاربة ممن كان خرج معهم مع غز مصر عند وقعة انبابة وركب الغز معهم أيضا وحاربوا الفرنسيس فلم تثبت الغز كعادتهم وأنهزموا وتبعهم هوارة الصعيد والمتجمعة من القرى وثبت الحجازيون ثم انكفوا لقلتهم وذلك بناحية جرجا وهرب الغز والمماليك إلى ناحية اسنا وصحبتهم حسن بك الجداوي
وعثمان بك حسن تابعه ووقع بين أهل الحجاز والفرنسيس بعض حروب غير هذه المرة بعدة مواضع وينفصل الفريقان بدون طائل.
ومنها أن الفرنسيس عملوا كرنتيلة بجزيرة بولاق وبنوا هناك بناء فيحجزون بها القادمين من السفار أياما معدودة كل جهة من الجهات القبلية لذلك وضجوا بالحرم وجردوا الكعبة وأن هذا الشيخ صار يعط الناس والبحرية بحسبها والله أعلم.
ثم استهل شهر رمضان المعظم بيوم الأربعاء سنة 1213.
وفيه أخذ بونابارته في الاهتمام بالسفر إلى جهة الشام وجهزوا طلبا كثيرا وصاروا في كل يوم يخرج منهم طائفة بعد طائفة.
وفي يوم السبت عمل ساري عسكر ديوانا وأحضر المشايخ والوجاقات وتكلم معهم في أمر خروجه للسفر وأنهم قتلوا المماليك الفارين بالصعيد واجلوا باقيهم إلى اقصى الصعيد وأنهم متوجهون إلى الفرقة الاخرى بناحية غزة فيقطعونهم ويمهدون البلاد الشامية لأجل سلوك الطريق ومشى القوافل والتجارات برا وبحرا لعمار القطر وصلاح الأحوال واننا نغيب عنكم شهرا ثم نعود وعند عودنا نرتب النظام في البلد والشرائع وغير ذلك فعليكم ضبط البلد والرعية في مدة غيابنا ونبهوا مشايخ الاخطاط والحارات كل كبير يضبط طائفته خوفا من الفتن مع العسكر المقيمين بمصر فالتزموا له بذلك وكتبوا له اوراقا مطبوعة على العادة في معنى ذلك وألصقوها بالطرق وفي ذلك اليوم خرج القاضي ومصطفى كتخدا الباشا والمشايخ المعينون للسفر إلى جهة العادلية وخرج أيضا عدة كبيرة من عسكرهم ومعهم احمال كثيرة حتى الأسرة والفرش والحصر وعدة مواهي ومحفات للنساء والجواري البيض والسود والحبوش اللاتي أخذوها من بيوت الأمراء وتزيا اكثرهن بزي نسائهم الافرنجيات وغير ذلك.
وفي يوم الأحد خامسه ركب ساري عسكر الفرنسيس وخرج أيضا إلى العادلية وذلك في الساعة الرابعة بطالع الحمل وفيه القمر في تربيع
زحل وأبقى بمصر عدة من العسكر بالقلعة والابراج التي بنوها على التلول وقائمقام وبوسليك وساري عسكر وبزة بجملة من العسكر في الصعيد وكذلك سوارى عسكر الاقاليم كل واحد معه عسكر في جهة من الجهات وأخذ معه المديرين واصحاب المشورة والمترجمين وأرباب الصنائع منهم كالحدادين والنجارين ومهندسي الحروب وكبيرهم أبو خشبة بمصر ثم تراسل المتخلفون في الخروج كل يوم تخرج منهم جماعة.
وفي يوم الثلاثاء سابعه انتدب للنميمة ثلاث من النصارى الشوام وعرفوهم أن المسلمين قاصدون الوثوب على الفرنسيس في يوم الخميس تاسعه فأرسل قائمقام خلف المهدي والأغا فأحضرهما وذكر لهما ذلك فقالا له هذا كذب لا أصل له وإنما هذه نميمة من النصارى كراهة منهم في المسلمين ففحص عمن اختلق ذلك فوجدهم ثلاثة من النصارى الشوام فقبضوا عليهم وسجنوهم بالقلعة حتى مضى يوم الخميس فلم يظهر صحة ما نقلوه فأبقاهم في الأعتقال ثم أن نصارى الشوام رجعوا إلى عادتهم القديمة في لبس العمائم السود والزرق وتركوا لبس العمائم البيض والشيلان الكشميري الملونة والمشجرات وذلك بمنع الفرنسيس لهم من ذلك ونبهوا أيضا بالمنادة في أول رمضان بأن نصارى البلد يمشون على عادتهم مع المسلمين أولا ولا يتجاهرون بالأكل ولا يشربون الدخان ولا شيئا من ذلك بمرآى منهم كل ذلك للاستجلاب خواطر الرعية حتى أن بعض الرعية من الفقهاء مر على بعض النصارى وهو يشرب الدخان فانتهزه فرد عليه ردا شنيعا فنزل ذلك المتعمم وضرب النصراني واجتمع عليه الناس وحضر حاكم الخطة فرفعهما إلى قائمقام فسأل من النصارى الحاضرين عن عادتهم في ذلك فأخبروه أن من عادتهم القديمة أنه إذا استهل شهر رمضان لا يأكلون ولا يشربون في الأسواق ولا بمرأى من المسلمين أبدا فضرب النصراني وترك المتعمم لسبيله.
وفي تاسع عشرينه أحضروا مراد أغا تابع سليمان بك الاغا ومعه آخر من الأجناد من ناحية قبلي فأصعدوهما القلعة قبل قتلهما
وفي خامس عشرينه ورد الخبر بأن الفرنساويه ملكوا قلعة العريش وطاف رجل من اتباع الشرطة ينادي في الأسواق أن الفرنساوية ملكوا قلعة العريش وأسروا عدة من المماليك وفي غد يعملون شنكا ويضربون مدافع فإذا سمعتم ذلك فلا تفزعوا فلما أصبح يوم الأحد حضر المماليك المذكورة وهم ثمانية عشر مملوكا وأربعة من الكشاف وهم راكبون الحمير ومتقلدون بأسلحتهم ومعهم نحو المائة من عسكر الفرنسيس وأمامهم طبلهم وخرج بعض الناس فشاهدهم ولما وصلوا إلى خارج القاهرة حيث الجامع الظاهري خرج الاغا وبرطلمين بطوافيهما ينتظرانهم ومعهم طبول وبيارق وطوائف ومشوا معهم إلى الأزبكية من الطريق التي أحدثوها ودخلوا بهم إلى بيت قائمقام فأخذوا سلاحهم وأطلقوهم فذهبوا إلى بيوتهم وفيهم أحمد كاشف تابع عثمان بن الأشقر وآخر يقال له: حسن كاشف الدويدار وكاشفان اخران وهما يوسف كاشف الرومي وأسمعيل كاشف تابع أحمد كاشف المذكور وكان من خبرهم أنهم كانوا مقيمين بقلعة العريش وصحبتهم نحو ألف عسكري مغاربة وأرنؤد فحضر لهم الفرنسيس الذين كانوا في المقدمة في أواخر شعبان فأحاطوا بالقلعة وحاربوهم من داخلها ونالوا منهم ما نالوه ثم حضر إليهم سارى عسكر بجموعه بعد أيام والحوا في حصارهم فأرسل من بالعريش إلى غزة فطلب نجدة فأرسلوا لهم نحو السبعمائة وعليهم قاسم بك امين البحرين فلم يتمكنوا من الوصول إلى القلعة لتحلق الفرنساوية بها وأحاطتهم حولها فنزلوا قريبا من القلعة فكبستهم عسكر الفرنسيس بالليل فأستشهد قاسم بك وغيره وأنهزم الباقون ولم يزل أهل القلعة يحاربون ويقاتلون حتى فرغ ما عندهم من البارود والذخيرة فطلبوا عند ذلك الأمان فأمنوهم ومن القلعة انزلوهم وذلك بعد أربعة عشر يوما فلما نزلوا على أمانهم ارسلوهم إلى مصر مع الوصية بهم وتخلية سبيلهم فحضروا إلى مصر كما ذكر وأخذوا سلاحهم وخلوا سبيلهم وصاروا يترددون عليهم ويعظمونهم ويلاطفونهم ويفرجونهم على صنائعهم
وأحوالهم وأما العسكر الذين كانوا معهم بقلعة العريش فبعضهم انضاف إليهم وأعطوهم جامكية وعلوفة وجعلوهم بالقلعة مع عسكر من الفرنسيس والبعض لم يرض بذلك فأخذوا سلاحهم وأطلقوهم إلى حال سبيلهم وذهب الفرنسيس إلى ناحية غزة وفي ذلك اليوم بعد الظهرعملوا الشنك الموعود به وضربوا عدة مدافع بالقلعة والازبكية وأظهر النصارى الفرح والسرور بالأسواق والدور وأولموا في بيوتهم الولائم وغيروا الملابس والعمائم وتجمعوا للهو والخلاعة وزادوا في القبح والشناعة.
وفي يوم الأربعاء تدفي أحمد كاشف المذكور فجأة وفي عصر ذلك اليم حضر جماعة من الفرنسيس نحو الخمسة والعشرين وهم راكبون الهجن وعلى رؤوسهم عمائم بيض ولابسون برانس بيضا على اكتافهم فذهبوا إلى بيت قائمقام بالازبكية فلما أصبح يوم الخميس عملوا الديوان وقرأوا المكاتبة التي حضرت مع الهجانة حاصلها أن الفرنسيس أخذوا غزة وخان يونس وأخبار مختلفة.
منها أنهم وجدوا إبراهيم بك ومن معه ارتحلوا من هناك وكانوا أرسلوا حريمهم واثقالهم إلى جبل نابلس وقيل بل تحاربوا معهم وأنهزموا وفي ذلك اليوم بعد العصر بنحو عشرين درجة حضر عدة من الفرنسيس ومعهم كبير منهم وهم راكبون الخيول وعدة من المشاة وفيهم جماعة لابسون عمائم بيضا وجماعة أيضا ببرانيط ومعهم نفير ينفخ فيه وبيدهم بيارق وهي التي كانت عند المسلمين على قلعة العريش إلى أن وصلوا إلى الجامع الأزهر فأصطفوا رجالا وركبانا بباب الجامع وطلبوا لشيخ الشرقاوي فسلموه تلك البيارق وأمروه برفعها ونصبها على منارات الجامع الأزهر فنصبوا بيريقين ملونين علىالمنارة الكبيرة ذات الهلالين عند كل هلال بيرقين وعلى منارة أخرى بيرقا ثالثا وعند دفعهم ذلك ضربوا عدة مدافع من القلعة بهجة وسرورا وكان ذلك ليلة عيد الفطر فلما كان عند الغروب ضربوا عدة مدافع أيضا أعلاما بالعيد وبعد العشاء الاخير طاف اصحاب الشرطة ونادوا بالأمان وبخروج الناس
على عادتهم لزيارة القبور بالقرافتين والاجتماع لصلاة العيد وأن يلبسوا احسن ثيابهم ولما ملكوا العريش كتبوا أوراقا وأرسلوها إلى البلاد ونصها فرمان عام موجه من أمير الجيوش إلى أهالي الشام قاطبة.
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين من طرف بونابارته أمير الجيوش الفرنساوية إلى حضرة المفتين والعلماء وكافة أهالي نواحي غزة والرملة ويافا حفظهم الله تعالى بعد السلام نعرفكم أننا حررنا لكم هذه السطور نعلمكم اننا حضرنا في هذا الطرف لقصد طرد المماليك وعسكر الجزار عنكم وإلى أي سبب حضور عسكر الجزار وتعديه على بلاد يافا وغزة التي ما كانت من حكمه وإلى أي سبب أيضا أرسل عساكره إلى قلعة العريش بذلك هجم على اراضي مصر فلا شك كان مراده أجراء الحروب معنا ونحن حضرنا لنحاربه فأما أنتم يا أهالي الأطراف المشار إليها فلم نقصد لكم أذية ولا أدنى ضرر فأنتم استمروا في محلكم ووطنكم مطمئنين ومرتاحين وأخبروا من كان خارجا عن محله ووطنه أن يرجع ويقيم في محله ووطنه ومن قبلنا عليكم ثم عليهم الأمان الكافي والحماية التامة ولا أجد يتعرض لكم في مالكم وما تملكه يدكم وقصدنا أن القضاة يلازمون خدمهم ووظائفهم على ما كانوا عليه وعلى الخصوص أن دين الإسلام لم يزل معتزا ومعتبرا والجوامع عامرة بالصلاة وزيارة المؤمنين إذ كل خير يأتي من الله تعالى وهو يعطي النصر لمن يشاء ولا يخفاكم أن جميع ما تأمر به الناس ضدنا فيغدو باطلا ولا نفع لهم به لأن كل ما نضع به يدنا لا بد من تمامه بالخير والذي يتظاهر بالغدر يهلك ومن كل ما حصل تفهمون جيدا اننا نقمع أعداءنا ونعضد من يحبنا وعلى الخصوص من كوننا متصفين بالرحمة والشفقة على الفقراء والمساكين.
ولما أخذوا غزة أرسلوا طومارا بصورة الواقعة وبصموه نسخا وقرىء بالديوان وألصقوا نسخة المطبوعة بالأسواق وصورته.
بسم الله الرحمن الرحيم ولا عدوان إلا على الظالمين نخبر أهل مصر وأقاليمها أنه حضر فرمان مكتوب من غزة من حضرة الجنرال اسكندر
برتبه خطابا إلى حضرة سارى عسكر دوجا وكيل الجيوش بمصر يخبره فيه بأن العساكر الفرنساوية باتوا ليلة تسعة عشر شهر رمضان في خان يونس وفي فجر تلك الليلة توجهوا سائرين إلى ناحية غزة فكشفوا قبل الظهر بساعة عسكر المماليك وعسكر الجزار جالسين تجاه غزة فتوجه إليهم الجنرال مرارا مع عساكر الفرنساوية من خيالة ومشاة مراده اغتيال عسكر المماليك وعسكر الجزار فلما انتبهوا له فروا هاربين ووقع بينه وبين أطراف العساكر بعض مضاربة يسيرة لم ينجرح فيها إلا شخصان من الفرنساوية مات عسكري واحد ومات من عسكر المماليك والجزار ناس قلائل وحين تشاغل سارى عسكر مراد بالمضاربة والمقاتلة دخل حضرة سارى عسكر كلهبر الذي كان حاكما بالاسكندرية وكان ساكنا بالازبكية إلى بندر غزة وملكها من غير معارض له ووجدوا فيها حواصل مشحونة بالذخائر من بقسماط وشعير وأربعمائة قنطار بارود واثني عشر مدفعا وحاصلا كبيرا مملوا بالخيام الكثيرة وجللا وبنبات مهيئآت محضرات كصنعة الافرنج هذا ما وقع لملكهم لغزة وقد أخبرناكم على ما وقع في كيفية ملك العريش سابقا فاستقيموا عباد الله وارضوا بقضاء اله وتأدبوا في أحكام مولاكم الذي خلقكم وسواكم والسلام ختام.
وانقضى شهر رمضان ووقع به قبل ورود هذه الأخبار من السكون والطمأنينة وخلوا الطرقات من العسكر وعدم مرور المتخلفين منهم إلا في النادر واختفائهم بالليل جملة كافية وانفتاح الأسواق والدكاكين والذهاب والمجيء وزيارة الاخوان ليلا والمشي على العادة بالفوانيس ودونها واجتماع الناس للسهر في الدور والقهاوي ووقود المساجد صلاة التراويح وطواف المسحرين والسلي بالرواية والنقول وترجي المأمول وانحلال الأسعار فيما عدا المجلوبات من الاقطار.
ومنها أن الفرنساوية صاروا يدعون أعيان الناس والمشايخ والتجار للافطار والسحور ويعملون لهم الولائم ويقدمون لهم الموائد على نظام
المسلمين وعادتهم وبتولي أمر ذلك الطباخون والفراشون من المسلمين تطمينا لخواطرهم ويذهبون هم أيضا ويحضرون عندهم الموائد وياكلون معهم في وقت الافطار ويشاهدون ترتيبهم ونظامهم ويحذون حذوهم ووقع منهم من المسايرة للناس وخفض الجانب ما يتعجب منه والله اعمل.
شهر شوال سنة 1213.
استهل بيوم الجمعة وفي صبح ذلك اليوم ضربوا عدة مدافع لشنك العيد واجتمع الناس لصلاة العيد في المساجد والأزهر واتفق أن إمام الجامع الأزهر نسي قراءة الفاتحة في الركعة الثانية فلما سلم اعاد الصلاة بعد ما شنع عليه الجماعة وخرج الرجال والنساء لزيارة القبور فانتبذ بعض الحرافيش نواحي تربة باب النصر وأسرع في مشيه وهو يقول نزلت عليكم العرب يا ناس فهاجت الناس وانزعجت النساء ورمحت الجعيدية والحرافيش وخطفوا ثياب النساء وأزرهن وما صادفوه من عمائم الرجال وغير ذلك واتصل ذلك بتربة المجاورين وباب الوزير والقرافة حتى أن بعض النساء مات تحت الارجل ولم يكن لهذا الكلام صحة وإنما ذلك من مخترعا الاوباش لينالوا اغراضهم من الخطف بذلك.
وفيه ركب أكابر الفرنسيس وطافوا على أعيان البلد وهنوهم بالعيد وجاملهم الناس بالمدارة أيضا.
وفي أوائله وردت الأخبار بأن الأمراء المصرية القبليين تفرقوا من بعضهم فذهب مراد بك وآخرون إلى نواحي إبراهيم بك ومنهم من ذهب إلى ناحية أسوان والألفي عدي بجماعته إلى البر الشرقي.
وفي خامسه قدم الشيخ محمد الدواخلي من ناحية القرين متمرضا وكان بصحبته الصاوي والفيومي متخلفين بالقرين وسبب تخلفهم أن كبير الفرنسيس لما ارتحل من الصالحية أرسل إلى كتخدا الباشا والقاضي والجماعة الذين بصحبتهم يأمرهم بالحضور إلى الصالحية لانهم كانوا يباعدون عنه مرحلة فلما أرادوا ذلك بلغهم وقوف العرب بالطريق فخافوا من المرور فذهبوا إلى العرين فأقاموا هناك واتخذ عسكر الفرنسيس
جمالهم فأقاموا بمكانهم فتقلق هؤلاء الثلاثة وخافوا سوء العاقبة ففارقوهم وذهبوا للقرين وتخلف عنهم الفيومي فأقام مع كتخدا الباشا والقاضي فحصل للدواخلي توعك فحضر إلى مصر وبقي رفيقاه في حيرة.
وفي سابعه أحضر الاغا رجلا ورمى عنقه عند باب زويلة وشنق امرأة علىشباك السبيل تجاه الباب والسبب في ذلك أن الفرنساوي حاكم خط الخليفة وجهة الركيبة ويسى دلوى أحضر باعة الغلال بالرميلة وصادرهم ومنعهم من دفع معتاد الوالي فاجتمعوا وذهبوا إلى كبير الفرنسيس الذي يقال له شيخ البلد وشكوا إليه وكان الأمير ذو الفقار حاضرا وهو يسكن تلك الجهة فعضدهم وعرف شيخ البلد عن شكواهم فأرسل شيخ البلد إلى دلوى فأنتهره وأمره برد ما أخذه فأخبره اتباعه أن ذا الفقار هو الذي عضدهم وأنهى شكواهم إلى كبيرهم فقام دلوى المذكور ودخل على ذي الفقار في بيته وسبه وشتمه بلغته وفزع عليه ليضربه فلما خرج من عنده قام ودهب إلى كبيرهم واخبره بفعل دلوى معه فأمر باحضاره وحبسه بالقلعة ثم أخبر بعض الناس شيخ البلد أن العرض الذي وقع من دلوى لباعة الغلة إنما هو باغراء خادمة وعرفه أن خادمه المذكور مولع بأمرأة رقاصة من الرميلة تأتيه باشكالها هو واضرابه وترقص لهم تلك المرأة في القهوة التي بخطهم ليلا ونهارا وتبيت معهم في البيت ويصبحون على حالهم فلما حبس أميرهم اختفوا فدلوا على الرجل والمرأة فقبضوا عليهما وفعلوا بهما ما ذكر ولا بأس بما حصل.
وفي ثامنه يوم الجمعة نودى في الأسواق بموكب كسوة الكعبة المشرفة من قراميدان والتنبيه باجتماع الوجاقات وأرباب الإشاير وخلافهم على العادة في عمل الموكب فلما أصبح يوم السبت اجتمع الناس في الأسواق وطريق المرور وجلسوا للفرجة فمروا بذلك وامامها الوالي المحتسب وعليهم القفاطين والبينشات وجميع الإشاير بطبولهم وزمورهم وكاساتهم ثم برطلمين كتخدا مستحفظان وإمامه نفر الينكجرية من المسلمين نحو المائتين أو أكثر وعدة كثيرة من نصارى الاروام بالاسلحة والملازمين
بالبراقع وهو لابس فروة عظيمة ثم مواكب القلقات ثم موكب ناظر الكسوة وهو تابع مصطفى كتخدا الباشا وخلفه النوبة التركية فكانت هذه الركبة من أغرب المواكب واعجب العجائب لما اشتملت عليه من اختلاف الأشكال وتنوع الأمثال واجتماع الملل وارتفاع السفل وكثرة الحشرات وعجائب المخلوقات واجتماع الأضداد ومخالفة الوضع المعتاد وكان نسيج الكسوة بدار مصطفى كتخدا المذكور وهو على خلاف العادة من نسجها بالقلعة.
وفي يوم الأربعا ثالث عشرة حضر عدة من الفرنسيس وهم راكبون الهجن ومعهم عدة بيارق وأعلام بعد المهر وأخبروا أن الفرنسيس ملكوا قلعة يافا وبيدهم مكاتبة من سارى عسكرهم بالأخبار عما وقع فلما كان يوم الخميس واجتمع أرباب الديوان فقرأ عليهم تلك المراسلة بعد تعريبها وترصيفها علىهذه الكيفية وهي عن لسان رؤساء الديوان إلى الكافة وذلك بالزامهم وأمرهم بذلك.
وصورتها بسم الله الرحمن الرحيم سبحان مالك الملك يفعل في ملكه ما يريد سبحان الحكم العدل الفاعل المختار ذي البطش الشديد هذه صورة تمليك الله سبحانه وتعالى جمهور الفرنساوية لبندر يافا من الاقطار الشامية نعرف أهل مصر وأقاليمها من سائر البرية أن العساكر الفرنساوية انتقلوا من غزة ثالث عشرين رمضان ووصلوا إلى الرملة في الخامس والعشرين منه في أمن واطمئنان فشاهدوا عسكر أحمد باشا الجزار هاربين بسرعة قائلين الفرار الفرار ثم أن الفرنساوية وجدوا في الرملة ومدينة لد مقدار كبير من مخازن البقسماط والشعير ورأوا فيها ألفا وخمسمائة قربة مجهزة جهزها الجزار يسير بها إلى إقليم مصر مسكن الفقراء والمساكين ومراده أن يتوجه إليها باشرار العربان من سطح الجبل ولكن تقادير الله تفسد المكر والحيل قاصدا سفك دماء الناس مثل عوائده الشامية وتجبره وظلمه مشهور لأنه تربية المماليك الظلمة المصرية ولم يعلم من خسافة عقله وسوء تدبيره أن الأمر لله كل شيء
بقضائه وتدبيره وفي سادس عشرين شهر رمضان وصلت مقدمات الفرنساوية إلى بندر يافا من الاراضي الشامية واحاطوا بها وحاصروها من الجهة الشرقية والغربية وأرسلوا إلى حاكمها وتحيل الجزار أن يسلمهم القلعة قبل أن يحل به ويعسكره الدمار فمن خسافة رأيه وسوء تدبيره سعى في هلاكه وتدميره ولم يرد لهم جواب وخألف قانون الحرب والصواب.
وفي أواخر ذلك اليوم السادس والعشرين تكاملت العساكر الفرنساوية على محاصرة يافا وصاروا كلهم مجتمعين وانقسموا على ثلاثة طوابير الطابور الأول توجه على طريق عكا بعيدا عن يافا ربع ساعات وفي السابع والعشرين من الشهر المذكور أمر حضرة ساري عسكر الكبير بحفر خنادق حول السور لأجل أن يعملوا متاريس أمينة وحصارات متقنة حصينه لأنه وجد سور يافا ملآنا بالمدافع الكثيرة ومشحونة بعسكر الجزار الغزيرة.
وفي تاسع عشرين الشهر لما قرب حفر الخندق إلى السور مقدار مائة وخمسين خطوة أمر حضرة سارى عسكر المشار إليه أن ينصب المدافع على المتاريس وأن يضعوا اهوان القنبر بأحكام وتأسيس وامر بنصب مدافع آخر بجانب البحر لمنع الخارجين إليهم من مراكب المينا لأنه وجد في المينا بعض مراكب اعدها عسكر الجزار للهروب ولا ينفع الهروب من القدر المكتوب ولما رأت عساكر الجزار الكائنون بالقلعة المحاصرون أن عسكر الفرنساوية قلائل في رأى العين للناظرين لمداراة الفرنساوية في الخنادق وخلف المتاريس غرهم الطمع فخرجوا لهم من القلعة مسرعين مهرولين وظنوا أنهم يغلبون الفرنساوية فهجم عليهم الفرنسيس وقتلوا منهم جملة كثيرة في تلك الواقعة والجؤهم للدخول ثانيا في القلعة.
وفي يوم الخميس غاية شهر رمضان حصل عند سارى عسكر شفقة قلبية وخاف على أهل يافا من عسكره إذا دخلوا بالقهر والإكراه فأرسل إليهم مكتوبا من رسول مضمونه لا اله إلا الله وحده لا شريك له
بسم الله الرحمن الرحيم من حضرة ساري عسكر اسكندر برتية كتخدا العسكر الفرنساوي الىحضرة حاكم يافا نخبركم أن حضرة ساري عسكر الكبير بونابارته امرنا أن نعرفك في هذا الكتاب أن سبب حضوره إلى هذا الطرف اخراج عسكر الجزار فقط من هذه البلدة لأنه تعدى بإرسال عسكره إلى العريش ومرابطته فيها والحال أنها من إقليم مصر التي أنعم الله بها علينا فلا يناسبه الإقامة بالعريش لانها ليس من أرضه فقد تعدى على ملك غيره ونعرفكم يا أهل يافا أن بندركم حاصرناه من جميع أطرافه وجهاته وربطناه بأنواع الحرب وآلات المدافع الكثيرة والجلل والقنابر وفي مقدرا ساعتين ينقلب سوركم وتبطل آلاتكم وحروبكم ونخبكرم أن حضرة ساري عسكر المشار إليه لمزيد رحمته وشفقته خصوصا بالضعفاء من الرعية خاف عليكم من سطوة عسكره المحاربين إذا دخلوا عليكم بالقهر أهلكوكم اجمعين فلزمنا أننا نرسل لكم هذا الخطاب أمانا كافيا لأهل البلد والأغراب ولأجل ذلك آخر ضرب المدافع والقنابر الصاعدة عنكم ساعة فلكية واحدة واني لكم لمن الناصحين وهذا آخر جواب الكتاب فجعلوا جوابنا حبس الرسول مخالفين للقوانين الحربية والشريعة المطهرة المحمدية وحالا في الوقت والساعة هيج سارى عسكر واشتد غضبه على الجماعة وأمر بابتداء ضرب المدافع والقنابر الموجب للتدمير وبعد مضي زمان يسير تعطلت مدافع يافا المقابلة لمدافع المتاريس وانقلب عسكر الجزار في وبال وتنكيس وفي وقت الظهر من هذا اليوم انخرق سور يافا وارتج له القوم ونقب من الجهة التي ضرب فيها المدافع من شدة النار ولا راد لقضاء الله ولا مدافع وفي الحال أمر حضرة ساري عسكر بالهجوم عليهم وفي أقل من ساعة ملكت الفرنساوية جميع البندر والابراج ودار السيف في المحاربين واشتد بحر الحرب وهاج وحصل النهب فيها تلك الليلة.
وفي يوم الجمعة غرة شوال وقع الصفح الجميل من حضر ساري عسكر الكبير ورق قلبه على أهل مصر من غني وفقير الذين كانوا في يافا وأعطاهم
الأمان وأمرهم برجوعهم إلى بلدهم مكرمين وكذلك أمر أهل دمشق وحلب برجوعهم إلى أوطانهم سالمين لأجل أن يعرفوا مقدار شفقته ومزيد رأفته ورحمته يعفو عند المقدرة ويصفح وقت المعذرة مع تمكينه ومزيد اتقانه وتحصينه في هذه الواقعة قتل أكثر من أربعة آلاف من عسكر الجزار بالسيف والبندق لما وقع منهم من الانحراف وأما الفرنساوية فلم يقتل منهم إلا القليل والمجروحون منهم ليسوا بكثير وسبب ذلك سلوكهم إلى القلعة من طريق امينة خافية عن العيون وأخذوا ذخائر كثيرة وأموالا غزيرة وأخذوا المراكب التي في المينة وأكتسبوا امتعة غالية ثمينة ووجدوا في القلعة أكثر من ثمانين مدفع ولم يعلموا مع مقادير الله أن آلات الحرب لا تنفع فاستقيموا عباد الله وارضوا بقضاء الله ولا تعترضوا على أحكام الله وعليكم بتقوى الله وأعلمو أن المك لله يؤتيه من يشاء والسلام عليكم ورحمة الله.
فلما تحقق الناس هذا الخبر تعجبوا وكانوا يظنون بل يتيقنون استحالة ذلك خصوصا في المدة القليلة ولكن المقضي كائن.
وفي يوم الجمعة خامس عشرة شق جماعة من اتباع الشرطة في الأسواق والحمامات والقهاوي ونبهوا على الناس بترك الفضول والكلام واللغط في حق الفرنسيس ويقولون لهم من كان يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر فلينته ويترك الكلام في ذلك فإن ذلك مما يهيج العداوة وعرفوهم أنه أن بلغ الحاكم من المتجسسين عن أجد تكلم في ذلك عوقب أو قتل فلم ينتهوا وربما قبض على البعض وعاقبوه بالضرب والتغريم.
وفي ذلك اليوم كان التحويل الربيعي وانتقال الشمس لبرج الحمل وهو أول شهر من شهورهم فعملوا ليلة السبت شنكا وحراقة وسواريخ وتجمعوا بدار الخلاعة نساء ورجالا وتراقصوا وتسابقوا وأوقدوا سراجا وشموعا وغير ذلك وأظهر الاقباط والشوام مزيد الفرح والسرور.
وفي يوم السبت المذكور ارسلوا الأعلام والبيارق التي أحضروها من قلعة يافا وعدتها ثلاثة عشر وفيها من له طلائع فضة كبار إلى الجامع
الأزهر وكانوا انزلوا أعلام قلعة العريش قبل ذلك بيوم من أعلى المنارات وأرسلوا بدلها أعلام يافا وعملوا لها موكبا بطائفة من العسكر بقدمهم طبلهم وخلفهم الاغا بجماعته وطائفته والمحتسب ومدبروا الديوان وخلفهم طبل آخر يضربون عليه بأزعاج شديد وخلف ذلك الطبل جماعة من العسكر يحملون البنادق على اكتافهم كالطائفة الأولى وبعدهم عدة من العسكر على رؤوسهم عمائم بيض يحملون تلك الأعلام الكبار والبيارق المذكورة وخلفهم جماعة خيالة من كبار العسكر وآخرون راكبون على حمير المكارية فلما وصلوا إلى باب الجامع الأزهر رتبوا تلك الأعلام وضعوها على أعلى الباب الكبير فوق المكتب منشورة وبعضها على الباب الآخر من الجهة الاخرى عند حارة كتامة المعروفة الآن بالعينية ولم يصعدوا منها عل المنارات كما صنعوا في أعلام العريش.
وفي يوم الأحد سابع عشره رتبوا أوامر وكتبوها في أوراق مبصومة والصقوها بالأسواق أحداها بسبب مرض الطاعون وأخرى بسبب الضيوف الاغراب ومضمون الأولى بتقاسيمه ومقالاته خطابا لأهل مصر وبلاق ومصر القديمة ونواحيها انكم تمتثلون هذه الأوامر وتحافظون عليها ولا تخالفوها وكل من خالفها وقع له مزيد من الانتقام والعقاب الاليم والقصاص العظيم وهي المحافظة من تشويش الكبة وكل من تيقنتم أو ظننتم أو توهمتم أو شككتم فيه ذلك في محل من المحلات أو بيت أو وكالة أو ربع يلزمهم ويتحتم عليكم أن تعملوا كرنتيلة ويجب قفل ذلك المكان ويلزم شيخ الحارة أو السوق الذي فيه ذلك أن يخبر حالا قلق الفرنساوية حاكم ذلك الخط القلق يخبر شيخ البلد قائمقام مصر وأقاليمها ويكون ذلك فورا وكذلك كل ملة من سكان مصر وأقاليمها وجوانبها والأطباء إذا تحققوا وعلموا حصول ذلك المرض يتوجه كل طبيب إلى قائمقام ويخبره ليأمر بما هو مناسب للصيانة والحفظ من التشويش وكل من كان عنده خبر من كبار الاخطاط أو مشايخ الحارات وقلقات الجهات ولم يخبر بهذا المرض يعاقب بما يراه قائمقام ويجازى
مشايخ الحارات بمائة كرباج جزاء للتقصير وملزوم أيضا من اصابه هذا التشويش أو حصل في بيته لغيره من عائلته أو عشيرته وانتقل من بيته إلى آخر أن يكون قصاصة الموت وهو الجاني على نفسه بسبب انتقاله وكل رئيس ملة في خط إذا لم يخبر بالكبة الواقعة في خطه أو بمن مات بها أيضا حالا فوريا كان عقاب ذلك الرئيس وقصاصة الموت والمغسل أن كان رجلا أو امرأة إذا رأى الميت أنه مات بالكبة اوشك في موته ولم يخبر قبل مضي أربع وعشرين ساعة كان جزاؤه وقصاصةالموت وهذه الاوامر الضرورية بلزوم اغات الينكجرية وحكام البلد الفرنساوية والإسلامية تنبيه الرعية واستيقاظهم لها فإنها أمور مخفية وكل من خألف حصل له مزيد من الانتقام من قائمقام وعلى القلقات البحث والتفتيش عن هذه العلة الردية لأجل الصيانة والحفظ لأهل البلد والحذر من المخالفة والسلام.
ومضمون الثانية الخطاب السابق من سارى عسكر دوجا الوكيل وحاكم البلد دسني قائمقام يلزم المدبرين بالديوان أنهم يشهرون الاوامر وينتبهوا لها وكل من خألف يحصل له مزيد الانتقام وهو أنه يتحتم ويلزم صاحب كل خمارة أو وكالة أو بيت الذي يدخل في محله ضيف أو مسافر أو قادم من بلدة أو اقليم أن يعرف عنه حالا حاكم البلد ولا يتأخر عن الأخبار إلا مدة أربعة وعشرين ساعة يعرفه عن مكانه الذي قدم منه وعن سبب قدومه وعن مدة سفره ومن أي طائفة أو ضيفا أو تاجرا أو زائرا أو غريما مخاصما لا بد لصاحب المكان من أيضاح البيان والحذر ثم الحذر من التلبيس والخيانة وإذا لم يقع تعريف عن كامل ما ذكر في شأن القادم بعد الأربعة وعشرين ساعة باظهار اسمه وبلده وسبب قدومه يكون صاحب المكان متعديا ومذنبا وموالسا مع المماليك.
ونخبركم معاشر الرعايا وأرباب الخمامير والوكائل أن تكونوا ملزومين بغرامة عشرين ريالا فرانسة في المرة الأولى وأما في المرة الثانية فإن الغرامة تضاعف ثلاث مرات ونخبركم أن الأمر بهذه الأحكام مشترك
بينكم وبين الفرنسيس الفاتحين للخمامير والبيوت والوكائل والسلام.
وفيه اجتمعوا الديوان وتفاوضوا في شأن مصطفى بك كتخدا الباشا المولى أمير الحاج وهو أنه لما ارتحل مع سارى عسكر وصحبته القاضي والمشايخ الذين عينوا للسفر والوجاقلية والتجار وافترق منهم عند بلبيس وتقدم هو إلى الصالحية ثم أنهم انتقلوا إلى العرين فحضر جماعة من العساكر المسافرين فاحتاجوا إلى الجمال فأخذوا جمالهم فلما واصل سارى عسكر إلى وطنه أرسل يستدعيهم إلى الحضور فلم يجدوا ما يحملون عليه متاعهم وبلغهم أن الطريق مخيفة من العرب فلم يمكنهم اللحاق به فأقاموا بالعرين بالعين المهملة عدة أيام وأهمل أمرهم سارى عسكر ثم أن الشيخ الصاوي والعريشي والدواخلي وآخرين خافوا عاقبة الأمر ففارقوهم وذهبوا إلى القرين بالقاف وحصل للدواخلي توعك وتشويش فحضر إلى مصر كما تقدم ذكر ذلك وانتقل مصطفى بك المذكور والقاضي وصحبتهم الشيخ الفيومي وآخرون من التجار والوجاقلية إلى كفور نجم وأقاموا هناك أياما واتفق أن الصاوي أرسل إلى داره مكتوبا وذكر في ضمنه أن سبب افتراقهم من الجماعة أنهم رأوا من كتخدا الباشا أمور غير لائقة فلماحضر ذلك المكتوب طلبه الفرنساوية المقيمين في مصر وقرأوه وبحثوا عن الأمور اللائقة فأولها بعض المشايخ أنه قصر في حقهم والأعتناء بشأنهم فسكتوا وأخذوا في التفحص فظهر لهم خيانته ومخامرته عليهم واجتمع عليه الجبالي وبعض العرب العصاة وأكرمهم وخلع عليهم وانتقل بصحبتهم إلى منية غمر ودقدوس وبلاد الوقف وجعل يقبض منهم الأموال وحين كانوا علىالبحر مر بهم مراكب تحمل الميرة والدقيق إلى الفرنسيس بدمياط فقاطعوا عليهم وأخذوا منهم ما معهم قهرا وأحضروا المراكبية بالديوان فحكوا على ما وقع لهم معه فأثبتوا خيانة مصطفى بك المذكور وعصيانه وأرسلوا هجانا بإعلام سارى عسكرهم بذلك فرجع إليهم بالجواب يأمرهم فيه بأن يرسلو له عسكرا ويرسلوا إلى داره جماعة ويقبضون عليه ويختمون على داره ويحبسون جماعته.
وفي يوم الأحد رابع عشرينه عينوا عليه عسكرا وأرسلوا إلى داره
جماعة ومعهم وكلاء فقبضوا على كتخدائه الذي كان ناظرا على الكسوة وعلى ابن أخيه ومن معهم وأودعوهم السجن بالجيزة وضبطوا موجوداته وما تركه مخدومه بكر باشا بقائمة واودعوا ذلك بمكان بالقلعة فوجدوا غالب أمتعة الباشا وبرقة وملابسه وعبى الخيل والسروج وغيرها شيئا كثيرا وجدوا بعض خيول وجمال أخذوها أيضا فانقبض خواطر الناس لذلك فإنهم كانوا مستأنسين بوجوده ووجود القاضي ويتوسلون بشفاعتهما عند الفرنسيس وكلمتهما عندهم مقبولة وأوامرهما مسموعة ثم أنهم ارسلوا أمانا للمشايخ الوجاقلية والتجار بالحضور إلى مصر مكرمين ولا بأس عليهم.
وفيه ورد الخبر بأن السيد عمر أفندي نقيب الأشراف حضر إلى دمياط وصحبته جماعة من أفندية الروزنامة الفارين مثل عثمان أفندي العباسي وحسن أفندي كاتب اشهر ومحمد أفندي ثاني قلفة وباش جاجرت والشيخ قاسم المصلي وغيرهم وذلك أنهم كانوا بقلعة يافا فلما حاصرها الفرنساوية وملكوا القلعة والبلد لم يتعرضوا للمصريين وطلبهم إليه وعاتبهم على نقلهم وخروجهم من مصر وألبسهم ملابس وأنزلهم في مركب وأرسلهم إلى دمياط من البحر.
وفي يوم الإثنين نادوا في الأسواق على المماليك والغز والأجناد الاغراب بأنهم يحضرون إلى بيت الوكيل ويأخذون لهم ارواقا بعد معرفتهم والتضمين على أنفسهم ومن وجد من غير وثيقة في يده بعد ذلك يستاهل الذي يجري عليه وسبب ذلك اشاعة دخول الكثير منهم إلى مصر خفية بصفة الفلاحين.
وفي يوم الثلاثاء نادوا في الأسواق والشوارع بأن من أراد الحج فليحج في البحر من السويس صحبة الكسوة والصرة وذلك بعد أن عملوا مشورة في ذلك.
وفيه حضر إمام كتخدا الباشا ومعه مكتوب فيه الثناء على الفرنساوية وشكر صنيعهم واعتنائهم بعملهم موكب الكسوة والدعاء لهم وأنه مستمر
على مودته ومحبته معهم ويطلب منهم الاجازة بالحضور إلى مصر ليسافر بصحبة الكسوة والحجاج فإن الوقت ضاق ودخل أوان السفر للحج وفي آخر المكتوب وأن بلغكم من المنافقين عنا شيء فهو كذب ونميمة فلا تصدقوه فقرىء كتابه بالديوان فلما فهمه الفرنسيس كذبوه ولم يصغوا إليه وقالوا أن خيانته ثبتت عندنا فلا ينفعه هذا الأعتذار ثم كتبوا له جوابا وأرسلوه صحبة إمامه مضمونه أن كان صادقا في مقالته فليذهب إلى جهة سارى عسكر بالشام وامهلوه ست ساعات بعد وصول الجواب إليه وأن تأخر زيادة عليها كان كاذبا في مقالته وأمروا العسكر بمحاربته والقبض عليه.
وفيه كتبوا أوراقا ونادوا بها في الشوارع وهي يا أهل مصر نخبركم أن أمير الحاج رفعوه عن سفره بالحاج بسبب ما حصل منه وأن أهل مصر علماء ووجاقات ورعايا لم يخالطوه في هذا الأمر ولم ينسب لهم شيء فالحمد لله الذي برأ أهل مصر من هذه الفتنة وهم حاضرون سالمون غانمون ما عليهم سوء ومن كان مراده الحج يؤهل نفسه ويسافر صحبة الصرة والكسوة في البحر والمراكب حاضرة والمعينون المحافظون من أهل مصر صحبة الحاج حاضرون يكون في علمكم أن تكونوا مطمئنين واتركوا كلام الحشاشين.
وفي يوم السبت غايته حضر المشايخ والوجاقات والتجار ما خلا القاضي فإنه لم يحضر وتخلف مع مصطفى كتخدا وانقضى هذا الشهر وما تجدد به من الحوادث التي منها أن الفرنساوية عملوا جسرا من مراكب مصطفة وعليها اخشاب مسمرة من بر مصر بالقرب العيني إلى الروضة إلى الجيزة.
ومنها أن توت الفلكي رسم في فسحة دارهم العليا ببيت حسن كاشف جركس خطوط البسيطة لمعرفة فضل الدائر لنصف النهار على البلاط
المفروش بطول الفسحة ووضع لها بدل الشاخص دائرة مثقوبة بثقب عديدة في أعلى الرفوف مقابلة لعرض الشمس ينزل الشعاع من تلك الثقب ويمر على الخطوط المرسومة المقسومة ويعرف منه الباقي للزوال ومدارات البروج شهرا شهرا وعلى كل برج صورته ليعلم منه درجة الشمس ورسم أيضا مزولة بالحائط الأعلى على حوش المكان الأسفل المشترك بين الدارين بشاخص على طريق وضع المنحرفات والمزاول ولكن لساعات قبل الزوال وبعده خلاف الطريق المعروفة عندنا بوقت العصر وفضل دائر الغروب وقوس الشفق والفجر وسمت القبلة وتقسيم الدرج وامثال ذلك لأجل تحقيق أوقات العبادة وهم لا يحتاجون إلى ذلك فلم يعانوه ورسم أيضا بسيطة على مربعة من نحاس أصفر منزلة بخطوط عديدة في قاعدة عامود قصير طوله أقل من قامة قايم بوسط الجنينه وشاخصها مثلث من حديد يمر ظل طرفه على الخطوط المتقاطعة وهي متقنة الرسم والصناعة وحولها معاريفها واسم واضعها بالخط الثلث العربي المجود حفرا في النحاس وفيها تنازيل الفضة على طريق أوضاع العجم وغير ذلك.
ومنها أنهم لما سخطوا على كتخدا الباشا وقبضوا على اتباعه وسجنوهم وفيهم كتخداه الذي كان ناظرا على الكسوة فقيدوا في النظر على مباشرة اتمامها صاحبنا السيد إسمعيل الوهبي المعروف بالخشاب أجد العدول بالمحكمة فنقلها لبيت أيوب جاويش بجوار مشهد السيدة زينب وتمموها هناك واظهروا أيضا الاهتمام بتحصيل مال الصرة وشرعوا في تحرير دفتر الإرسالية خاصة.
واستهل شهر القعدة بيوم الأحد سنة 1213.
في سادسه يوم الجمعة حضرت هجانة من الفرنسيس ومعهم مكاتبة مضمونها أنهم أخذوا حيفا وبعدها ركبوا على عكا وضربوا عليها وهدموا جانبا من سورها وأنهم بعد أربعة وعشرين ساعة يملكونها وأنهم استعجلوا في إرسال هذه الهجانة لطول المدة والانتظار لئلا يحصل
لأصحابهم القلق فكونوا مطمئنين وبعد سبعة أيام نحضر عندكم السلام.
وفيه حضرت مغاربة حجاج إلى بر الجيزة فتحدث الناس وكثر لغطهم وتقولوا بأنهم عشرون ألفا حضروا لينقذوا مصر من الفرنسيس فأرسل الفرنسيس للكشف عليهم فوجدوهم طائفة من خلايا وقرى فاس مثل الفلاحين فآذنوا لهم في تعدية بعض أنفار منهم لقضاء أشغالهم فحضر شخص منهم إلى الفرنسيس ووشى إليهم أنهم قدموا لمحاربتهم والجهاد فيهم وأنهم اشتروا خيلا وسلاحا وقصدهم اثارة فتنة فأرسل الفرنسيس إليهم جماعة ينظرون في أمرهم فذهبوا إليهم وتكلموا معهم ومع كبيرهم وعن الذي نقل عنهم فقالوا إنما جئنا بقصد الحج لا لغيره ثم رجعوا وصحبتهم كبير المغاربة فعملوا الديوان في صبحها وأحضروه وكذلك أحضروا الرجل الذي وشى عليهم فتكلموا مع كبير المغاربة وسألوه وناقشوه فقال: أنا لم نأت إلا بقصد الحج فقيل له ولاي شيء تشترون الأسلحة والخيول فقال نعم لازم لنا ذلك ضرورة فقيل له أنه نقل عنكم انكم تريدون محاربة الفرنساوية وتقولون الجهاد افضل من الحج فقال: هذا كلام لا أصل له فقيل له أن الناقل لذلك رجل منكم فقال: إن هذا رجل حرامي أمسكناه بالسرقة وضربناه فحمله الحقد على ذلك وأن هذه البلاد ليست لنا ولا لسلطاننا حتى نقاتل عليها ولا يصح أن نقاتلكم بهذه الشرذمة القليلة وليس معنا إلا نصف قنطار وبارود ثم اتفقوا معه على أن يجمعوا سلاحهم ويقيم كبيرهم عندهم رهينة حتى يعدي جماعته ويسافروا ويلحقهم بعد يومين بالسلاح فأجابهم إلى ذلك فشكروه وأهدوا له هدية فلما كان يوم السبت خرجت عدة من العسكر إلى بولاق ومعهم مدفعان ليقفوا للمغاربة حتى يعدوا البحر ويمشوا معهم إلى العادلية فلما رأى الناس خروج العسكر والمدافع فزعوا في المدينة وبولاق ورمحوا كعادتهم في كرشاتهم وصياحهم وأشاعوا أن الفرنسيس خرجت لقتال المغاربة وأغلقوا غالب الأسواق والدكاكين وأمثال ذلك من تخيلاتهم فلم يعد المغاربة ذلك اليوم وعدوا في ثاني يوم ومشى معهم عسكر الفرنسيس
إلى العادلية وهم يضربون الطبول وامامهم مدفع وخلفهم مدفع مع جملة من العساكر.
وفي يوم الثلاثاء عاشره سافر عدة من عسكر الفرنسيس إلى عرب الجزيرة فإن مصطفى بك كتخدا الباشا ذهب إليهم والتجأ لهم فعينوا عليهم تلك العساكر.
وفي يوم الأربعاء فرجوا عن جماعة من القليونجية وغيرهم الذين كانوا محبوسين بالقلعة وفيهم المعلم نقولا النصراني الأرمني الذي كان رئيس مركب مراد بك الحربية التي أنشأها بالجيزة وأسكنوه ببيت حسن كتخدا بباب الشعرية.
وفيه حضر بن شديد شيخ عرب الحويطات بأمان وكان عاصيا فأعطوه الأمان وخلعوا عليه وسفروا معه قافلة دقيق وبقسماط العسكر بالشام.
وفي يوم السبت حادي عشرينه حضر مجلون من الناحية القبلية وصحبته اموال البلاد والغنائم من بهائم وخلافها.
وفيه عملوا كرنتيلة عند العادلية لمن يأتي من بر الشام من العسكر إلى ناحية شرق اطفيح بسبب محمد بيك الألفي.
وفيه حضر الذين كانوا ذهبوا إلى عرب الجزيرة فضربوهم ونالوا منهم بعض النيل وأما مصطفى بك فلم تعلم عنه حقيقة حال قيل أنه ذهب إلى الشام.
وفي خامس عشرينه وصلت مراسلة من المذكور خطابا للمشايخ مضمونها أنهم يعرفون أكابر الفرنسيس أنه متوجه إلى ساري عسكرهم بالشام ويرجون الافراج عن قريبه وكتخدائه ويتحفظون على الأمتعة التي أخذوها فإنها من متعلقات الدولة فلما أطلعوهم على تلك المكاتبة قالوا: لا يمكن الافراج عن المذكورين حتى تتحقق أنه ذهب إلى سارى عسكر ويأتينا منه خطاب في شأنه فإنه من الجائز أنه يكذب في قوله.
وفيه ثبت أن محمد بك الألفي مر من خلف الجبل وذهب إلى عرب الجزيرة ومعه من جماعته نحو المائة وقيل أكثر والتف عليه الكثير من
الغز والماليك المشردين بتلك النواحي وقدم له العربان التقادم والكف فأرسل له الفرنسيس عدة من العسكر.
وفي سابع عشرينه لخص الفرنساوية طومارا قرىء بالديوان وطبع منه عدة نسخ وألصقت بالأسواق على العادة وكان الناس أكثروا من اللغط بسبب انقطاع الأخبار عن الفرنسيس المحاصرين لعكا والروايات عمن بالصعيد والكيلاني والأشراف الذين معه وغير ذلك.
وصورتها من محفل الديوان الكبير بمصر بسم الله الرحمن الرحيم ولا عدوان إلا على الظالمين نخبر أهل مصر أجمعين أنه حضر جواب من عكا من حضرة ساري عسكر الكبير خطابا منه إلى حضرة ساري عسكر الوكيل بثغر دمياط تاريخه تاسع القعدة سنة تاريخه يخبر فيه اننا أرسلنا لكم نقيرتين لدمياط الأولى ارسلناها في خمسة وعشرين شوالا والثانية في ثمانية وعشرين منه أخبرناكم فيهما عن مطلوبنا إرسال جانب جليل وذخائر إلى عساكرنا المحافظين في غزة ويافا لأجل زيادة المحافظة والصيانة وأما من قبل العرضي فإن الجلل عندنا كثيرة والذخائر والمآكل والمشارب والخيرات غزيرة حتى أنها زادت عندنا الجلل بكثرة جمعناها مما رمته الأعداء فكأن اعداءنا أعانونا وتخبركم اننا عملنا لغما مقدار عمقه ثلاثون قدما وسرنا به حتى قربناه إلى السور الجواني بمسافة نحو ثمانية عشر قدما وقد قربت عساكرنا من الجهة التي تحارب فيها حتى صار بينهم وبين السور ثمانية وأربعون قدما بمشيئة الله تعالى عند وصول كتابنا اليكم وقبل إتمام قراءته عليكم نكون ظافرين بملك قلعة عكا اجمعين فاننا تهيأنا إلى دخولها يأتيكم خبر ذلك بعد هذا الكتاب وأما بقية إقليم الشام وما يلي عكا من البلاد فإنهم لنا طائعون وبالاعتناء ومزيد المحبة راغبون يأتوننا بكل خير عظيم ويحضرون لنا افواجا بالهدايا الكثيرة والحب الجسيم من القلب السليم وهذا من فضل الله علينا ومن شدة بغضهم الجزار باشا ونخبركم أيضا أن الجنرال يونوت انتصر على أربعة آلاف مقاتل حضروا من الشام خيالة ومشاة
فقابلتهم بثلثمائة عسكري مشاة من عسكرنا فكسروا التجريدة المذكورة وأوقع منهم نحو ستمائة نفس ما بين مقتول ومجروح وأخذ منهم خمسة بيارق وهذا أمر عجيب لم يقع نظيره في الحروب أن ثلثمائة نفس تهزم نحو أربعة آلاف نفس فعلمنا أن النصرة من عند الله لا بالقلة ولا بالكثرة هذا آخر كتاب سارى عسكر الكبير إلى وكيله بدمياط وأرسل إلينا بالديوان حضرة الوكيل سارع عسكر دوجا الوكيل بمصر المحروسة يخبرنا بصورة هذا المكتوب ويأمرنا أننا نلزم الرعايا من أهل مصر والأرياف أن يلزموا الأدب والانصاف ويتركوا الكذب والخراف فإن كلام الحشاشين يوقع الضرر للناس المعتبرين فإن حضرة سارى عسكر دوجا الوكيل بلغة أن أهل مصر وأهل الارياف يتكلمون بكلام لا أصل له من قبل الأشراف والحال أن الأشراف الذين يذكرونهم ويكذبون عليهم جاءت أخبارهم من حضرة سارى عسكر الصعيد يخبر الوكيل دوجا بأن الأشراف المذكورين الذين صحبة الكيلاني قد مزقوا كل ممزق وأنهزموا وتفرقوا فلم يكن الآن في بلاد الصعيد شيء يخألف المراد وسلم من الفتن والعناد فأنتم يا أهل مصر ويا أهل الأرياف اتركوا الأمور التي توقعكم في الهلاك والتلاف وامسكوا أدبكم قبل أن يحل بكم الدمار ويلحقكم الندم والعار والأولى للعاقل اشتغاله بأمر دينه ودنياه وأن يترك الكذب وأن يسلم لأحكام الله وقضاه فإن العاقل يقرأ العواقب وعلى نفسه يحاسب هذا شأن أهل الكمال يتركون القيل والقال ويشتغلون باصلاح الأحوال ويرجعون إلى الكبير المتعال والسلام.
وفي هذا الشهر كتبوا أوراقا بأوامر ونصها من محفل الديوان العمومي إلى جميع سكان مصر وبولاق ومصر القديمة إننا قد تأملنا وميزنا أن الواسطة الأقرب والأيمن لتلطيف أو لمنع الخطر الضروري وهو تشويش الطاعون عدم المخالطة مع النساء المشهورات لانهن الواسطة الأولى للتشويش المذكور فلاجل ذلك حتمنا ورتبنا ومنعنا إلى مدة ثلاثين يوما من تاريخه أعلاه لجميع الناس أن كان فرنساويا أو مسلما أو روميا
أو نصرانيا أو يهوديا من أي ملة كان كل من أدخل إلى مصر أو بولاق أو مصر القديمة النساء المشهورات أن كان في بيوت العسكر أو كل من كان داخل المدينة فيكون قصاصه بالموت كذلك من قبل النساء والبنات المشهورات بالعسكر أن دخلن من أنفسهن أيضا يقاصصن بالموت.
ومن حوادث هذا الشهر أنه حضر إلى القلزم مركبان انكليزيان وقيل أربعة ووقفوا قبالة السويس وضربوا مدافع ففر أناس من سكان السويس إلى مصر واخبروا بذلك وأنهم صادفوا بعض داوات تحمل البن التجارة فحجزوها ومنعوها من الدخول إلى السويس.
ومنها أن طائفة من عرب البحيرة يقال لهم عرب الغز جاءوا وضربوا دمنهور وقتلوا عدة من الفرنسيس وعاثوا في نواحي تلك البلاد حتى وصلوا إلى الرحمانية ورشيد وهم يقتلون من يجدونه من الفرنسيس وغيرهم وينهبون البلاد والزروعات.
ومنها أن الكيلاني المذكور آنفا توفي رحمه الله تعالى وتفرقت طائفته في البلاد حتى أنه حضر منهم جملة إلى مصر وكان أكثر من يخامر عليهم أهل بلاد الصعيد فيوهمونهم معاونتهم وعند الحروب يتخلون عنهم وبعض البلاد يضيفون ويسلط عليهم الفرنسيس فيقبضون عليهم.
ومنها أنه حضر إلى مصر الأكثر من عسكر الفرنسيس الذين كانوا بالجهة القبلية وضربوا في حال رجوعهم بني عدي بلدة من بلاد الصعيد مشهورة وكان أهلها ممتنعين عليهم في دفع المال والكلف ويرون في أنفسهم الكثرة والقوة والمنعة فخرجوا عليهم وقاتلوهم فملك عليهم الفرنسيس تلا عاليا وضربوا عليهم بالمدافع فأتلفوهم واحرقوا جرونهم ثم كبسوا عليهم وأسرفوا في قتلهم ونهبهم وأخذوا شيئا كثيرا وأموالا عظيمة وودائع جسيمة للغز وغيرهم من مساتير أهل البلاد القبلية لظن منعتهم وكذلك فعلوا بالميمون.
واستهل شهر ذي الحجة بيوم الثلاثاء سنة 1213.
في ثانيه خرج نحو الألف من عسكر الفرنسيس للمحافظة على البلاد
الشرقية لتجمع العرب والمماليك على الألفي وكذلك تجمع الكثير من الفرنسيس وذهبوا إلى جهة دمنهور وفعلوا بها ما فعلوا في بني عدي من القتل والنهب لكونهم عصوا عليهم بسبب أنه ورد عليهم رجل مغربي يدعى المهدوية ويدعو الناس ويحرضهم على الجهاد وصحبته نحو الثمانين نفرا فكان يكاتب أهل البلاد ويدعوهم إلى الجهاد فاجتمع عليه أهل البحيرة وغيرهم وحضورا إلى دمنهور وقاتلوا من بها من الفرنساوية واستمر أياما كثيرة تجتمع عليه أهل تلك النواحي وتفترق والمغربي المذكور تارة يغرب وتارة يشرق.
وفيه اشيع أن الألفي حضر إلى بلاد الشرقية وقاتل من بها من الفرنسيس ثم ارتحل إلى الجزيرة.
وفي سابعه حضر جماعة من فرنسيس الشام إلى الكرنتيلة بالعادلية وفيهم مجاريح واخبر عنهم بعضهم أن الحرب لم تزل قائمة بينهم وبين أحمد باشا بعكا وأن مهندس حروبهم المعروف بأبي خشبة عند العامة واسمه كفرللي مات وحزنوا لموته لأنه كان من دهاتهم وشياطينهم وكان له معرفة بتدبير الحروب ومكايد القتال واقدام عند المصاف مع ما ينضم لذلك من معرفة الأبنية وكيفية وضعها وكيفية أخذ القلاع ومحاصرتها.
وفي يوم الأربعاء كان عبد النحر وكان حقه يوم الخميس وعند الغروب من تل الليلة ضربوا مدافع من القلعة أعلاما بالعيد وكذلك عند الشروق ولم يقع في ذلك العيد اضحية على العادة لعدم المواشي لكونها محجوزة في الكرنتيلة والناس في شغل عن ذلك.
ومن الحوادث في ذلك اليوم أن رجلا روميا من باعة الرقيق عنده غلام مملوك ساكن في طبقة بوكالة ذي الفقار بالجمالية خرج لصلاة العيد ورجع إلى طبقته فوجد ذلك الغلام متقلدا بسلاح ومتزيبا بمثل ملابس القليونجية فقال له: من أين لك هذا اللباس فقال: من عند جارنا فلان العسكري فأمره بنزع ذلك فلم يستمع له ولم ينزعها فشتمه ولطمه على وجهه فخرج من الطبقة وحدثته نفسه بقتل سيده ورجع يريد ذلك
فوجد عند سيده ضيفا فلم يتجاسر عليه لحضور ذلك الضيف فوقف خارج الباب ورآه سيده فعرف من عينه الغدر فلما قام ذلك الضيف قام معه وخرج وأغلق الباب على الغلام فصعد الغلام على السطح وتسلق إلى سطح آخر ثم تدلى بحبل إلى اسفل الخان وخرج إلى السوق وسيفه مسلول بيده ويقول الجهاد يا مسلمين اذبحوا الفرنسيس ونحو ذلك من الكلام ومر إلى جهة الغورية فصادف ثلاثة أشخاص من الفرنسيس فقتل منهم شخصا وهرب الإثنان ورجع على أثره والناس يعدون خلفه من بعد إلى أن وصل إلى درب بالجمالية غير نافذ فدخله وعبر إلى دار وجدها مفتوحة وربها وأقف على بابها والفرنسيس تجمع منهم طائفة وظنوا ظنونا آخر وبادروا إلى القلاع وحضرت منهم طائفة من القلق يسألون عن ذلك الممولك وهاجت العامة ورمحت الصغار وأغلق بعض الناس حوانيتهم ثم لم تزل الفرنسيس تسأل عن ذلك المملوك والناس يقولون لهم ذهب من هنا حتى وصلوا إلى ذلك الدرب فدخلوه فلما أحس بهم نزع ثيابه وتدلى ببئر في تلك الدار فدخلوا الدار وأخرجوه من البئر وأخذوه وسكنت الفتنة فسألوه عن أمره وما السبب في فعله ذلك فقال أنه يوم الأضحية فاحببت أن أضحي على الفرنسيس وسألوه عن السلاح فقال أنه سلاحي فحبسوه لينظروا في أمره وطلبوا سيده فوجدوه عند الشيخ المهدي وأخذوا بعض جماعة من أهل الخان ثم أطلقوهم بدون ضرر وأخذوا سيده من عند المهدي وحبسوه وحضر الاغا وبرطلمين إلى الخان بعد العشاء وطلبوا البواب والخانجي والجيران وصعدوا إلى الطباق وفتشوا على السلاح حتى قلعوا البلاط فلم يجدوا شيئا وأرادوا فتح الحواصل فمنعهم السيد أحمد بن محمود محرم فخرجوا وأخذوا معهم الخانجي وجيران الطبقة وجملة أنفار وحبسوهم أيضا وقتلوا المملوك في ثاني يوم واستمر الجماعة في الحبس إلى أن أطلقوهم بعد أيام عديدة من الحادثة.
وفي ذلك اليوم أيضا مر نصراني من الشوام على المشهد الحسيني وهو
راكب على حمار فرآه ترجمان ضابط الخطة ويسمى السيد عبد الله فأمره بالنزول اجلالا للمشهد على العادة فامتنع فانتهزه وضربه والقاه على الأرض فذهب ذلك النصراني إلى الفرنسيس وشكا إليهم السيد عبد الله المذكور فأحضروه وحبسوه فشفع فيه مخدومه فلم يطلقوه وادعى النصراني أنه كان بعيدا عن المشهد وأحضر من شهد له بذلك وأن السيد عبد الله متهور في فعله وادعى أنه ضاع له وقت ضربه دراهم كانت في جيبه واستمر الترجمان محبوسا حتى دفع تلك الدراهم وهي ستة آلاف درهم.
وفيه أرسل فرنسيس مصر إلى رئيس الشام ميرة على جمال العرب نحو الثمانمائة جمل وذهب صحبتها برطلمين وطائفة من العسكر فأوصلوها إلى بلبيس ورجعوا بعد يومين.
وفيه حضر إلى السويس تسعة داوات بها بن وبهار وبضائع تجارية وفيها لشريف مكة نحو خمسمائة فرق بن وكانت الانكليز منعتهم الحضور فكاتبهم الشريف فأطلقوهم بعد أن حددوا عليهم أياما مسافة التنقيل والشحنة وأخذوا منهم عشورا وسامح الفرنسيس بن الشريف من العشور لأنه أرسل لهم مكاتبة بسبب ذلك وهدية قبل وصول المراكب إلى السويس بنحو عشرين يوما وطبعوا صورتها في أوراق وألصقوها بالأسواق وهي خطاب لبوسليك.
من مات في هذه السنة من الأعيان ومن له ذكر في الناس.
مات الإمام العمدة الفقيه العلامة المحقق الفهامة المتقن المتفنن المتجر عين أعيان الفضلاء الأزهرية الشيخ أحمد بن موسى بن أحمد بن محمد البيلي العدوي المالكي ولد ببني عدي سنة احدى وأربعين ومائة وألف وبها نشأ فقرأ القرآن وقدم الجامع الأزهر ولازم الشيخ علي الصعيدي ملازمة كلية حتى تمهر في العلوم وبهر فضله في الخصوص والعموم وكان له قريحة جيدة وحافظة غريبة يملي في تقريره خلاصة ما ذكره أرباب الحواشي مع حسن سبك والطلبة يكتبون ذلك بين يديه وقد جمع من تقاريره
على عدة كتب كان يقرأها حتى صارت مجلدات وانتفع بها الطلبة انتفاعا عاما ودرس في حياة شيخه سنينا عديدة واشتهر بالفتوح وكان الشيخ الصعيدي يأمر الطلبة بحضوره وملازمته وكان فيه اتصاف زائد وتؤدة ومروءة وتوجه إلى الحق ولديه أسرار ومعارف وفوائد وتمائم وعلم بتنزيل الأوفاق والوفق المئيني العددي والحرفي وطرائق تنزيله بالتطويق والمربعات وغير ذلك ولما توفي الشيخ محمد حسن جلس موضعه للتدريس باشارة من أهل الباطن ولما توفي الشيخ أحمد الدردير ولي مشيخة رواق الصعايدة وله مؤلفات منها مسائل كل صلاة بطلت على الإمام وغير ذلك ولم يزل على حالته وافادته وملازمه ودروسه والجماعة حتى توفي في هذه السنة ودفن في تربة المجاورين رحمه الله تعالى عليه.
ومات العلامة الفاضل الفقيه الشيخ أحمد بن إبراهيم الشرقاوي الشافعي الأزهري قرأ على والده وتفقه وانجب ولم يزل ملازما لدروسه حتى توفي والده فتصدر للتدريس في محله واجتمعت عليه طلبة ابيه وغيرهم ولازم مكانه بالأزهر طول النهار يملي ويفيد ويفتي على مذهبه ويأتي إليه الفلاحون من جيزة بلادهم بقضاياهم وخصوماتهم وانكحتهم فيقضي بنيهم ويكتب لهم الفتاوي في الدعاوي التي يحتاجون فيها إلى المرافعة عند القاضي وربما زجر المعاند منهم وضربه وشتمه ويستمعون لقوله ويمتثلون لاحكامه وربما اتوه بهدايا ودراهم واشتهر ذكره وكان جسيما عظيم اللحية فصيح اللسان ولم يزل على حالته حتى اتهم في فتنة الفرنسيس المتقدمة ومات مع من قتل بيد الفرنساوية بالقلعة ولم يعلم له قبر.
ومات الشيخ الإمام العمدة الفقيه الصالح القانع الشيخ عبد الوهاب الشبراوي الشافعي الأزهري تفقه على أشياخ العصر وحضر دروس الشيخ عبد الله الشبراوي والحفني والبراوي وعطية الاجهوري وغيرهم وتصدر للاقراء والتدريس والافادة بالجوهرية وبالمشهد الحسيني ويحضر درسه فيه الجم الغفير من العامة ويستفيدون منه ويقرأ به كتب الحديث كالبخارى ومسلم وكان حسن الالقاء سلس التقرير جيد الحافظة جميل
السيرة مقبلا على شأنه ولم يزل ملازما على حالته حتى اتهم في اثارة الفتنة وقتل بالقلعة شهيدا بيد الفرنسيس في اواخر جمادى الأولى من السنة ولم يعلم له قبر.
ومات الشاب الصالح والنبيه الفالح الفاضل الفقيه الشيخ يوسف المصيلحي الشافعي الأزهري حفظ القرآن والمتون وحضر دروس أشياخ العصر كالشيخ الصعيدي والبراوي والشيخ عطية الاجوري والشيخ أحمد العروسي وحضر الكثير على الشيخ محمد المصيلحي وأنجب وأملى دروسا بجامع الكردي بسويقة اللالا وكان مهذب النفس لطيف الذات حلو الناطقة مقبول الطلعة خفيف الروح ولم يزل ملازما على حاله حتى اتهم أيضا في حادثة الفرنسيس وقتل مع من قتل شهيدا بالقلعة.
ومات العمدة الشهير الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان بزاويتهم المعروفة الآن بالشنواني تولى شيخا على العميان المذكورين بعد وفاة الشيخ الشبراوي وسار فيهم بشهامة وصرامة وجبروت وجمع بجاههم اموالا عظيمة وعقارات فكان يشتري غلال المستحقين المعطلة بالأبعاد بدون الطفيف ويخرج كشوفاتها وتحاويلها على الملتزمين ويطالبهم بها كيلا وعينا ومن عصى عليه أرسل إليه الجيوش الكثيرة من العميان فلا يجد بدا من الدفع وأن كانت غلاله معطلة صالحة بما أحب من الثمن وله أعوان يرسلهم إلى الملتزمين بالجهة القبلية يأتون إليه بالسفن المشحونة بالغلال والمعاوضات من السمن والعسل والسكر والزيت وغير ذلك ويبيعها في سني الغلوات بالسواحل والرقع بأقصى القيمة ويطحن منها على طواحينه دقيقا ويبيع خلاصته في البطط بحارة اليهود ويعجن نخالته خبزا لفقراء العميان يتقوتون به مع ما يجمعونه من الشحاذة في طوافهم آناء الليل وأطراف النهار بالأسواق والازقة وتغنيهم بالمدائح الخرافات وقراءة القرآن في البيوت ومساطب الشوارع وغير ذلك ومن مات منهم ورثة الشيخ المترجم المذكور وأحرز لنفسه ما جمعه ذلك الميت وفيهم من وجد له الموجود العظيم ولا يجد له معارضا في ذلك
واتفق أن الشيخ الحفني نقم عليه في شيء فأرسل إليه من أحضره موثوقا مكشوف الرأس مضروبا بالنعالات على دماغه وقفاه من بيته إلى بيت الشيخ بالموسكي بين ملأ العالم ولما انقضت تلك السنون وأهلها صار المترجم من أعيان الصدور المشار إليهم في المجالس تخشى سطوته وتسمع كلمته ويقال قال الشيخ كذا وأمر الشيخ بكذا وصار يلبس الملابس والفراوي ويركب البغال واتباعه محدقة به وتزوج الكثير من النساء الغنيات الجميلات واشتر السراري البيض والحبش والسود وكان يفرض الأكابر المقادير الكثيرة من المال ليكون له عليهم الفضل والمنة ولم يزل حتى حمله التفاخر في زمن الفرنسيس على تولية كبر أثارة الفتنة التي أصابته وغيره وقتل فيمن قتل بالقلعة ولم يعلم له قبر وكان ابنه معوقا ببيت البكري فلما علم بموته قلق وكاد يخرج من عقله خوفا على ما يعلم مكانه من مال أبيه حتى خلص في ثاني يوم بشفاعة المشايخ ولم يكن مقصودا بالذات بل حضر ليعود أباه فحجزه القومه عليهم زيادة في الاحتياط.
ومات الأجل المفوه العمدة الشيخ إسمعيل البراوي بن أحمد البراوي الشافعي الأزهري وهو ابن اخي الشيخ عيسى البراوي الشهير الذكر تصدر بعد وفاة والده في مكانه وكان قليل البضاعة إلا أنه تغلب عليه النباهة واللسانة والسلاطة والتداخل وذلك هو الذي أوقعه في حبائل الفرنساوية وقتل مع من قتل شهيدا ولم يعلم له قبر غفر الله لنا وله.
ومات الوجيه الأجل الأمثل السيد محمد كريم وخبره أنه كان في أول أمره قبانيا يزن البضائع في حانوت بالثغر وعنده خفة في الحركة وتودد في المعاشرة فلم يزل يتقرب إلى الناس بحسن التودد ويستجلب خواطر حواشي الدولة وغيرهم من تجار المسلمين والنصارى ومن له وجاهة وشهرة في ابناء جنسه حتى أحبه الناس واشتهر ذكره في ثغر الأسكندرية ورشيد ومصر واتصل بصالح بك حتى كان وكيلا بدار السعادة وله الكلمة النافذة في ثغر رشيد وتملكها وضواحيها واسترق أهلها وقلد
أمرها لعثمان خجا فاتحد وبمخدومه السيد محمد المذكور واتصل بمراد بك بعد صالح أغا فتقرب إليه ووافق منه الغرض ورفع شأنه على اقرانه وقلده أمر الديوان والجمارك بالثغر ونفذت كلمته واحكامه وتصدر لغالب الأمور وزاد في المكوسات والجمارك ومصادرات التجار خصوصا من الإفرنج ووقع بينه وبين السيد شهبة الحادثة التي أوجبت له الاختفاء بالصهريج وموته فيه فلما حضر الفرنسيس ونزلوا الأسكندرية قبضوا على السيد محمد المذكور وطالبوه بالمال وضيقوا عليه وحبسوه في مركب ولما حضروا إلى مصر وطلعوا إلى قصر مراد بك وفيها مطالعته بأخبارهم وبالحث والاجتهاد على حربهم وتهوين أمرهم وتنقيصهم فاشتد غيظهم عليه فأرسلوا وأحضروه إلى مصر وحبسوه فتشفع فيه أرباب الديوان عدة مرار فلم يمكن إلى أن كانت ليلة الخميس فحضر إليه مجلون وقال له المطلوب منك كذا وكذا من المال وذكر له قدرا يعجز عنه واجله اثنتي عشرة ساعة وأن لم يحضر ذلك القدر والا يقتل بعد مضيها فلما أصبح أرسل إلى المشايخ وإلى السيد أحمد المحروقي فحضر إليه بعضهم فترجاهم وتداخل عليهم واستغاث وصار يقول لهم اشتروني يا مسلمون وليس بيدهم ما يفتدونه به وكل إنسان مشغول بنفسه ومتوقع لشيء يصيبه وذلك في مبادىء أمرهم فلما كان قريب الظهر وقد انقضى الأجل اركبوه حمارا واحتاط به عدة من العسكر وبأيديهم السيوف المسلولة ويقدمهم طبل يضربون عليه وشقوا به الصليبة إلى أن ذهبوا إلى الرميلة وكتفوه وربطوه مشبوحا وضربوا عليه بالبنادق كعادتهم فيمن يقتلونه ثم قطعوا رأسه ورفعوها على نبرت وطافوا بها بجهات الرميلة والمنادى يقول هذا جزاء من يخألف الفرنسيس ثم أن اتباعه أخذوا رأسه ودفنوها مع جثته وانقضى أمره وذلك يوم الخميس خامس عشرى ربيع الأول.
ومات الأمير إبراهيم بك الصغير المعروف بالوالي وهو من مماليك محمد بك أبي الذهب وتقلد الزعامة بعد موت أستاذه ثم تقلد الإمارة
والصنجقية في أواخر جمادى الأولى سنة 1192 وهو أخو سليمان بك المعروف بالاغا وعندما كان هو واليا كان أخوه أغات مستحفظان وأحكام مصر والشرطة بينهما وفي سنة سبع وتسعين تعصب مراد بك وإبراهيم بك على المترجم واخرجوه منفيا هو واخوه سليمان بك وأيوب بك الدفتردار ولما أمروه بالخروج ركب في طوائفه ومماليكه وعدى إلى بر الجيزة فركب خلفه علي بك اباظه ولاجين بك ولحقوا حملته عند المعادى فحجزوها وأخذوها وأخذوا هجنه ومتاعه وعدوا خلفه فأدركوه عند الاهرام فأحتالوا عليه وردوه إلى قصر العيني ثم سفروه إلى ناحية السرو ورأس الخليج فأقام بها أياما وكان أخوه سليمان بك بالمنوفية فلما أرسلوا بنفيه إلى المحلة ركب بطوائفه وحضر إلى مسجد الخضيري وحضر إليه أخوه المترجم وركبا معا وذهبا إلى جهة البحيرة ثم ذهبا إلى طندتا ثم ذهبا إلى شرقية بلبيس ثم توجها من خلف الجبل إلى جهة قبلي وكان أيوب بك المنصورة فلحق بهما أيضا كان بالصعيد عثمان بك الشرقاوي ومصطفى بك فالتفا عليهما وعصى الجميع وأرسل مراد بك وإبراهيم بك محمد كتخدا اباظة وأحمد اغا شويكار إلى عثمان بك ومصطفى بك يطلبانهما إلى الحضور فأبيا وقالا: لا نرجع إلى مصر إلا بصحبة اخواننا والا فنحن معهم أينما كانوا ورجع المذكوران بذلك الجواب فجهزوا لهم تجريدة وسافر بها إبراهيم بك الكبير وضمهم وصالحهم وحضر بصحبة الجميع إلى مصر فحنق مراد بك ولم يزل حتى خرج مغضبا إلى الجيزة ثم ذهب إلى قبلي وجرى بينهما ما تقدم ذكره من إرسال الرسل ومصالحة مراد بك ورجوعه واخراج المذكورين ثانيا فخرجوا إلى ناحية القليوبية وخرج مراد بك خلفهم ثم رجعوهم إلى جهة الاهرام وقبض مراد بك عليهم ونفيهم إلى جهة بحرى وأرسل المترجم إلى طندتا ثم ذهبوا إلى قبلي خلا مصطفى بك وأيوب بك ثم رجعوا إلى مصر بعد خروج مراد بك إلى قبلي واستمر أمرهم على ما ذكر حتى ورد حسن باشا وخرج الجميع وجرى ما تقدم ذكره وتولى المترجم إمارة
الحاج ولم يسافر به ولما رجعوا إلى مصر بعد الطاعون وموت إسمعيل بك ورجب بك صاهره إبراهيم بك الكثير وزوجه ابنته كما تقدم ولم يزل في سيادته وإمارته حتى حضر الفرنساوية ووصلوا إلى بر انبابة ومات هو في ذلك اليوم غريقا ولم تظهر رمته وذلك يوم السبت سابع صفر من السنة.
ومات الأمير علي بك الدفتردار المعروف بكتخدا الجاويشية وأصله مملوك سليمان أفندي من خشداشين كتخدا إبراهيم القازدغلي وكان سيده المذكور رغب عن الأمارة ورضي بحاله وقنع بالكفاف ورغب في معاشرة العلماء والصلحاء وفي الانجماع عن ابناء جنسه والتداخل في شؤونهم وكان يأتي في كل يوم إلى الجامع الأزهر ويحضر دروس العلماء ويستفيد من فوائدهم ولازم دروس الشيخ أحمد السليماني من الفقه الحنفي إلى أن مات فتقيد بحضور تلميذه الشيخ أحمد الغزي كذلك واقترن في حضوره بالشيخ عبد الرحمن العريشي وكان إذ ذاك مقتبل الشبيبة مجردا عن العلائق فكان يعيد معه الدروس فاتحد به لما رأى فيه من النجابة فجذبه إلى داره وكساه وواساه واستمر يطالع معه في الفقه ويعيد معه الدروس ليلا وزوجه وأغدق عليه وكان هو مبدأ زواجه ولم يزل ملازما حتى توفي سليمان أفندي المذكور في سنة 1175 فتزوج المترجم بزوجة سيده واستمر هو وخشداشه الأمير أحمد بمنزل أستاذ هما وتتوق نفس المترجم للترفع والأمارة فتردد إلى بيوت الأمراء كغيره من الأجناد فقلده علي بك الكبير كشوفية شرق أولاد يحيى في سنة 1182 فتقلدها بشهامة وقتل البغاة واخاف الناحية وجمع منها أموالا واستمر حاكمها بها إلى أن خألف محمد بك أبو الذهب على سيده علي بك وخرج من مصر إلى الجهة القبلية فلما وصل إلى الناحية كان المترجم أول من أقبل عليه بنفسه وما معه من المال والخيام فسر به محمد بك وقربه وادناه ولم يزل ملازما لركابه حتى جرى ما جرىوتملك محمد بك الديار المصرية فقلده اغاويه المتفرقة أياما قليلة ثم خيره في تقليده الصنجقية أو
كتخدا الجاويشية فقال له: حتى استخير في ذلك وحضر إلى المرحوم الشيخ الوالد وذكر له ذلك فأشار عليه بأن يتقلد كتخدا الجاويشية فإنه منصب جليل واسع الايراد وليس على صاحبه تعب ولا مشقة غفر ولا سفر تجاريد ولا كثرة مصايف فكان كذلك وذلك في سنة ست وثمانين وسكن ببيت سليمان اغا كتخدا الجاويشية بدرب الجماميز على بركة الفيل ونما أمره واتسع حاله واشتهر وانتظم في عداد الأمراء ولم يزل على ذلك إلى أن مات محمد بك فاستقل بأمارة مصر إبراهيم بك ومراد بك فكان المترجم ثالثهما واتحد بابراهيم بك اتحادا عظيما حتى كان إبراهيم بك لا يقدر على مفارقته ساعة زمانية وصار معه كالاخ الشقيق والصاحب الشفيق وصار في قبول ووجاهة عظيمة وكلمة نافذة في جميع الأمور ولم يزل على ذلك حتى حضر حسن باشا بالصورة المتقدمة وخرج إبراهيم بك ومراد بك وباقي الأمراء فتخلف عنهم المترجم وقد كان راسل حسن باشا سرا فلما استقر حسن باشا أقبل عليه وسلمه مقاليد الأمور وقلده الصنجقية واضاف إليه الدفتردارية وفوض إليه جميع الأمور الكلية والجزئية فانحصرت فيه رياسة مصر وصار عزيزها وأميرها ووزيرها وقائدها جيوشها ولا يتم أمر إلا عن مشورته ورأيه واجتمعت ببيته الدواوين وقلد الأمريات والمناصب كما يختار وقرب وادنى وابعد واقصى من يختار واشتهر ذكره في اقليم مصر والشام والروم واشار بتقليد مراد كاشف الصنجقية وإمارة الحاج وسموه محمد بك المبدول كراهة في اسم مراد واشتهر بالمبدول ونجزله لوازم الحاج والصرة في أيام قليلة وسافر بالحاج على النسق المعتاد وشهل أيضا التجاريد والعساكر خلف الأمراء المطرودين واستمر مطلق التصرف في مملكة مصر بقية السنة.
ولما استهل رمضان أرسل لجميع الأمراء والأعيان البلكات والكساوي لهم ولحريمهم ومماليكهم بالأحمال وكذلك إلى العلماء والمشايخ حتى الفقهاء الخاملين المحتاجين وظن أن الوقت قد صفا له ولم يزل على ذلك
حتى استقر إسمعيل بك وسافر حسن باشا وظهر له أمر حسن بك الجداوي وخشداشينه أخذ يناكد المترجم ويعارضه في جميع اموره وهو يسامح له في كل ما يتعرض له فيه ويساير حاله بينهم ويكظم غيظه ويكتم قهره وهو مع ذلك وافر الحرمة واعتراه صداع في راسه وشقيقة زال ألمه بها ووجعه أشهرا وأتلف احدى عينيه وعوفى قليلا واستمر على ذلك حتى وقع الطاعون بمصر سنة خمس ومات ابن له مراهق احزنه موته وكذلك ماتت زوجته وأكثر جواريه ومماليكه ومات إسمعيل بك وامراؤه ومماليكه ورضوان بك العلوي وبقي هو وحسن بك الجاوي فتجاذبا الأمارة ولم يرض احدهما بالاخر فوقع الاتفاق على تأمير عثمان بك طبل تابع إسمعيل بك ظنا منهما أنه يصلح لذلك وأنه لا يمالىء الأعداء فكان الأمر بخلاف ذلك وكره الأمارة هو أيضا لمناكدة حسن بك له وراسل الأمراء القبليين سرا حتى حضر وأعلى الصورة المتقدمة وقصد حسن بك وعلي بك الأستعداد لحربهم وخرجوا إلى ناحية طرا وتأهبوا لمبارزتهم وصار عمثان بك يثبطهما ويظهر لهما أنه يدير الحيل والمكايد ولم يعلما ضميره ولم يخطر ببالهما ولا غيرهما خيانته بل كان كل منهما يظن بالآخر حتى حصل ما تقدم ذكره في محله وفر المترجم وحسن بك إلى ناحية قبلي فاستمر هناك مدة ثم انفصل عن حسن بك وسافر من القصير إلى بحر القلزم وطلع إلى المويلح وأرسل بعض ثقاته فأخذ بعض الاحتياجات سرا وذهب من هناك إلى الشام واجتمع بأحمد باشا الجزار ونزل بحيفا وأقام بها مدة راسل الدولة في أمره فطلبوه ايهم فلما قرب من اسلامبول ارسلوا إليه من أخذه وذهب به إلى برصا فأقام هناك وعينوا له كفايته في كل شهر وولد له هناك أولاد ثم أحضروه في حادثة الفرنسيس واعطوه مراسيم إلى إبراهيم باشا سارى عسكر في ذلك الوقت فلما وصل بيروت راسل أحمد باشا وأراد الاجتماع به علم أحمد باشا ما بيد من المرسومات إلى إبراهيم باشا فتنكر له وانحرف طبعه منه وأرسل إليه يأمره بالرحيل وصادف ذلك عزل إبراهيم باشا.
فارتحل مقهورا إلى نابلس فمات هناك بقهره وحضر من بقى من مماليكه إلى مصر وسكنوا بداره التي بها مملوكه عثمان كاشف وابنته التي تركها بمصر صغيرة وقد كبرت وتأهلت للزواج فتزوج بها خازنداره الذي حضر وهو الآن مقيم معها صحبة خشداشينه ببيتها الذي بدرب الحجر.
وكان المترجم أميرا لا بأس به يميل إلى فعل الخير حسن الأعتقاد ويحب أهل العلم والفضائل ويعظمهم ويكرمهم ويقبل شفاعاتهم وفيه رقة طبع وميل للخلاعة والتجاهر غفر الله له وسامحه.
ومات أيضا الأمير أيوب بك الدفتردار وهو من مماليك محمد بك تولى الأمارة والصنجقية بعد موت أستاذه وقد تقدم ذكره غير مرة وكان ذا دهاء ومكر ويتظاهر بالانتصار للحق وحب الأشراف والعلماء ويشتري المصاحف والكتب ويحب المسامرة والمذاكرة وسير المتقدمين ويواظب على الصلاة في الجماعة ويقضي حوائج السائلين والقاصدين بشهامة وصرامة وصدع للمعاند خصوصا إذا كان الحق بيده ويتعلل كثير بمرض البواسير وسمعت من لفظه رؤيا رآها قبل ورود الفرنسيس بنحو شهرين تدل على ذلك وعلى موته في حربهم.
ولما حصل ذلك وحضروا إلى بر انبابة عدى المترجم قبل بيومين وصار يقول أنا بعت نفسي في سبيل الله فلما التقى الجمعان لبس سلاحه بعد ما توضأ وصلى ركعتين وركب في مماليكه وقال: اللهم إني نويت الجهاد في سبيلك واقتحم مصاف الفرنساوية وألقى نفسه في نارهم واستشهد في ذلك اليوم وهي منقبة اختص بها دون أقرانه بل ودون غيرهم من جميع أهل مصر.
ومات الأمير صالح بك أمير الحاج في تلك السنة وهو أيضا من مماليك محمد بك أبي الذهب وتولى زعامة مصر بعد إبراهيم بك الوالي واحسن فيها السيرة ولم يتشك منه أجد ولم يتعرض لاحد بأذية وتقلد أيضا كتخدا الجاويشية عندما خرج إبراهيم بك مغاضبا لمراد بك وكان خصيصا به فلما اصطلحا ورجع إبراهيم بك وعلي اغا كتخدا الجاويشية
تقلد على منصبه كما كان واستمر المنترجم بطالا لكنه وافر الحرمة معدودا في الأعيان ولما خرجوا من مصر في حادثة حسن باشا ارسله خشداشينه إلى الروم وكاد يتم لهم الأمر فقبض عليه حسن باشاوكان إذ ذاك بالعرضي في السفر ولما رجعوا إلى مصر بعد موت إسمعيل بك سكن ببيت البارودي وتزوج بزوجته وهي أم أيوب التي كانت سرية مراد بك ثم سافر ثانيا إلى الروم بمراسلة وهدية وقضى اشغاله ورجع بالوكالة وأخذ بيت الحبانية من مصطفى اغا وعزله من وكالة دار السعادة وسكن بالبيت واختص بمراد بك اختصاصا زائدا وبنى له دار بجانبه بالجيزة وصار لا يفارقه قط وصار هو بابه الأعظم في المهمات وكان فصيح اللسان مهذب الطبع يفهم بالاشارة يظن من يراه أنه من أولاد العرب لطلاقة لسانه وفصاحة كلامه ويميل بطبعه إلى الخلاعة وسماع الالحان والأوتار ويعرف طرقها ويباشر الضرب عليها بيده ثم ولى الصنجقية وتقلد امارة الحج سنة 1212 وتمم اشغاله وأموره ولوازمه على ما ينبغي وطلع بالحج في تلك السنة في أبهة عظيمة على القانون القديم في أمن وأمان ورخاء وسخاء وراج موسم التجار في تلك السنة إلى الغاية.
وفي أيام غيابه بالحج وصل الفرنساوية إلى القطر المصري وطار إليهم الخبر بسطح العقبة وأرسلوا من مصر مكاتبة بالأمان وحضوره بالحج في طائفة قليلة فأرسل إليهم إبراهيم بك يطلبهم إلى بلبيس فعرج المترجم بالحاج إلى بلبيس وجرى ما تقدم ذكره ولم يزل حتى مات بالديار الشامية وبعد مدة أرسلت زوجته فأحضرت رمته ودفنتها بمصر بتربة المجاورين.
ومات العمدة الفاضل والنحرير الكامل الفقيه العلامة السيد مصطفى الدمنهوري الشافعي تفقه على أشياخ العصر وتمهر في المعقولات ولازم الشيخ عبد الله الشرقاوي ملازمة كلية واشتهر بنسبته إليه ولما ولى مشيخة الأزهر صار المترجم عنده هو صاحب الحل والعقد في القضايا والمهمات والمراسلات عند الأكابر والأعيان وكان عاقلا ذكيا وفيه ملكة واستحضار جيد للفروع الفقهية وكان يكتب على الفتاوى على لسان