الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عصر الخلفاء الراشدين:
سار الأمر على ما تقدم، حتى إذا كان عهد الخلفاء الراشدين لم يتغير الحال، فقد كانت آراء هؤلاء الخلفاء في التشدد في الرواية والتورع عن الكتابة امتدادا لآراء إخوانهم الصحابة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم! فهذا أبو بكر يجمع بعض الأحاديث ثم يحرقها، يقول الذهبي بسنده: حدثني القاسم بن محمد قالت عائشة: جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت خمسمائة حديث فبات ليلته يتقلب كثيرا، قالت فغمني فقلت: أتتقلب بشكوى أو لشيء يقلقك؟ فلما أصبح قال: أي بنية! هلمي الأحاديث التي عندك، فجئته بها فدعا بنار فحرقها، فقلت: لِم أحرقتها؟ قال: خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت، ولم يكن كما حدثني؛ فأكون قد نقلت ذاك فهذا لا يصح". اهـ 1.
وكان أبو بكر أول من احتاط في قبول الأخبار؛ فروى ابن شهاب عن قبيصة بن ذويب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث، فقال:" ما أجد لك في كتاب الله شيئا، وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لك شيئا، ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال: حضرت رسول الله عليه السلام يعطيها السدس، فقال له: هل معك أحد؟ فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر.
ومن مراسيل ابن أبي مليكة: أن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم؟ فقال: (إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافا؛ فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله؛ فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه) . فهذا المرسل يدلك أن مراد الصديق التثبت في الأخبار والتحري، لا سداد باب الرواية، ألا تراه لما نزل به أمر الجدة ولم يجده في الكتاب كيف سأل عنه في السنة، فلما أخبره الثقة ما اكتفى حتى استظهر الثقة بثقة آخر، ولم يقل حسبنا كتاب الله كما تقول الخوارج". اهـ.
وهذا عمر بن الخطاب لا يلبث أن يعدل عن كتابه السنن بعد أن عزم على تدوينها.
عن عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن، فاستفتى أصحاب الني صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأشاروا عليه بأن يكتبنها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له، فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا2.
وفي رواية أخرى: أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنة، ثم بدا له أن يكتبها ثم كتب في الأمصار: من كان عنده شئ فليمحه3.
1 تذكرة الحفاظ جـ اص5.
2 انظر جامع بيان العلم لابن عبد البرجـ1 ص 77 باب كراهية كتابة العلم وتخليده في مصحف.
3 تذكرة الحفاظ جـ 1ص 7 ط 3.
والخلفاء الراشدون لم يتشددوا في أمر الكتابة وحدها، بل بلغ بهم الورع أن راحوا يتشددون حتى في الرواية.
وعمر بن الخطاب هو الذي سنّ للمحدثين التثبت في النقل، وربما كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب؛ فروى الجريري (سعيد ابن إياس) عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن أبا موسى سلّم على عمر من وراء الباب ثلاث مرات، فلم يؤذن له فرجع، فأرسل عمر في أثره، فقال: لِم رجعت؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سلم أحدكم ثلاثا فلم يجب فليرجع"، قال: لتأتيني على ذلك ببينة أو لأفعلن بك! فجاءنا أبو موسى منتقعا لونه ونحن جلوس فقلنا: ما شأنك، فأخبرنا وقال: فهل سمع أحد منكم؟ فقلنا: نعم كلنا سمعه، فأرسلوا معه رجلا منهم حتى أتى عمر فأخبره.
أحب عمر أن يتأكد عنده خبر أبي موسى بقول صاحب آخر؟ ففي هذا دليل على أن الخير إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد، وفي ذلك حض على تكثير طرق الحديث لكي يرتقي عن درجة الظن إلى درجة العلم؛ إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوهم ولا يكاد يجوز ذلك على ثقتين لم يخالفهما أحد، وقد كان عمر من وجله أن يخطئ الصاحب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهم أن يقلوا الرواية عن نبيهم؛ لئلا يتشاغل الناس بالأحاديث عن حفظ القرآن اهـ1.
أقول: ومن هنا بدأ علم أصول الحديث أو مصطلح الحديث، وأنه نشأ مع الرواية فكانا توأمين ولدا وعاشا معا.
فإذا رأينا كلا من أبي بكر وعمر - بعد هذا - يكتبان الحديث أو ينصحان بكتابته i، وأن كثيرا من كبار الصحابة في عصرهما كانوا كذلك ينصحون بالكتابة ويأمرون بها أمرا صريحا، أدركنا علة ذلك التشدد الذي وصفناه قبل، وثبت لنا - كما قال إسماعيل بن إبراهيم بن علية البصري (200 هـ) أن الصحابة إنما كرهوا الكتابة لأن من كان قبلكم اتخذوا الكتب؛ فأعجبوا بها؛ فكانوا يكرهون أن يشتغلوا عن القرآن2.
وكما قال الخطيب البغدادي: "إن كراهة من كره الكتابة من الصدر الأول: إنما هي لئلا يضاهي بكتاب الله تعالى غيره، أو يشتغل عن القرآن بسواه"3
رأي آخر:
يقول الشيخ أبو بكر بن عقال الصقلي في فوائده على ما رواه ابن بشكوال: "إنما لم يجمع الصحابة سنن رسول الله صار الله عليه وسلم في مصحف كما جمعوا القرآن؛ لأن السنن انتشرت وخفي محفوظها من
1 انظر الحديث ومصطلحه.
2 تذكرة الحفاظ
3 انظر علم الحديث ومصطلحه للدكتور صبحي.