الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عصر التابعين وتابعيهم:
وإذا انتقلنا إلى عصر التابعين هالتنا تلك الروايات المتضافرة على كراهة كبار التابعين وأوساطهم وأواخرهم للكتابة، ثم لا نلبث أن تجد كثيرا منهم يتساهلون في أمرها، يرخصون بها أو يحضون عليها، ونجدها أصبحت أمرا رسميا في عصر أوساطهم.
والأسباب التي حملت الخلفاء الراشدين على الكراهة على التدوين، هي التي حملت التابعين عليها، فإذا بطلت أسباب هذه الكراهة قال الجميع قولا واحدا، وأخذوا به وأجمعوا عليه، وهو جواز كتابة العلم، بل وإيثار تقييده التشجيع عليه.
هنا جاء دور الخليفة الورع التقي عمر بن عبد العزيز، حين أمر رسميا بالشروع في تدوين الحديث، إنما استند إلى آراء العلماء، ولعله لم يقدم على ذلك إلا بعد أن استشارهم أو اطمأن إلى تأييد كثرتهم، وإن كانت الأخبار المتضافرة توحي بتفرده في هذه الفكرة؛ لما له في القلوب من منزلة ولا سيما بين معاصريه الواثقين بتقواه وورعه.
ويتضح من جملة الأخبار المروية في هذا الشأن أن خوف عمر عبد العزيز من دروس العلم وذهاب أهله هو الذي حمله على الأمر بالتدوين.
التدوين العام للحديث:
يقول الحافظ ابن حجر في مقدمته:" اعلم - علمني الله وإياك - أن آثار النبي صلى الله عليه وسلم، لم تكن في عصر أصحابه وكبار تبعهم مدوّنة في الجوامع ولا مرتبة لأمرين:
أحدهما: أنهم كانوا في ابتداء الحال قد نهوا عن ذلك، كما ثبت في صحيح مسلم؛ خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم.
وثانيهما: لسعة حفظهم، ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة".
أقول: نفي كتابة الآثار المشار إليها، ليس على إطلاقه؛ فقد وجد من كتب أن عهد الني صلى الله عليه وسلم وأقره بل طلب عليه السلام أن يكتب كتابا لأصحابه، كما تقدم.
فيحمل كلام ابن حجر على الكتابة العامة.
يقول ابن حجر: "فأول من جمع ذلك الربيع بن صبيح (توفي 160 هـ) ، وسعيد بن أبي عروبة (156هـ) وغيرهما، وكانوا يصنفون كل باب على حدة، إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة؛ فدونوا الأحكام.
فصنف الإمام مالك "الموطأ" وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز، ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، ومن بعدهم (توفي 179 هـ) .
وصنف أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح بمكة (توفي ببغداد 150 وقيل: 151)1.
وصنف أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي بالشام (156هـ) ، وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري بالكوفة (توفي 161 هـ) ، وحماد بن سلمة بن دينار أبو سلمة بالبصرة (نوفي 176هـ) ، ومعمر بن راشد باليمن (المتوفى 153هـ) ، وجرير بن عبد الحميد بالري (توفي 188هـ) ، وعبد الله بن المبارك بخراسان (المتوفى 181هـ) .
ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم إلى أن رأى بعض الأئمة منهم أن يفرد حديث الني صلى الله عليه وسلم خاصة، وذلك على رأس المائتين؛ فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسندا (توفي 213هـ) ، وصنف مسدد بن مسرهد البصري مسندا، وصنف أسد بن موسى الأموي مسندا (توفي 212هـ) ، وصنف نعيم بن حماد الخزاعي نزبل مصر مسندا.
ثم اقتفى الأئمة بعد ذلك أثرهم، فقلّ إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد؛ أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعثمان بن أبي شيبة وغيرهم من النبلاء.
ومنهم من صنف على الأبواب والمسانيد معا، كأبي بكر بن أبي شيبة.
ولما رأى البخاري هذه التصانيف ورواها وجدها جامعة للصحيح والحسن، والكثير منها يشمله التضعيف؛ فحرك همته لجمع الحديث الصحيح، وقوى همته لذلك ما سمعه من أستاذه الإمام إسحاق بن راهويه حيث قال لمن عنده والبخاري فيهم:"لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال البخاري: فوقع ذلك في قلبي وأخذت في جمع الجامع الصحيح". انتهى2.
يقول السيوطي: "وهؤلاء المذكورون في أول من جمع كلهم من أثناء المائة الثانية".
1 يقول بروكلمان عن النجوم الزاهرة: إن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، كان جده جريج عبدا روميا، وأصل اسمه جريجوريونرس، كان أول من صنف أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جمع كتابه في الآثار وحروف التفسير، أحاديث لمجاهد وعطاء وغيرهما بمكة، ولكنه لم ينل من الخليفة المنصور ما كان يرجو من العطاء يقول: وقد بقيت بقايا قليلة من مجموعات القدماء من رجال الحديث منذ المرحلة الأولى للتدوين تشتمل عليها دور الكتب قي استانبول. وذكر فايسفيلر أوصاف هذه الأجزاء قي كتابه عن مخطوطات الحديث في مكتبات استانبول.
2 نظر هدى الساري. وانظر تنوير الحوالك ج1ص5 وتدريب الراوي ص 39 ط 1.
وأما ابتداء تدوين الحديث فإنه وقع على رأس المائة في خلافة عمر1 بن عبد العزيز بأمره؛ ففي صحيح البخاري: "وكتب عمر بن عبد العزيز أبي أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه؛ فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء) ، وأخرجه أبو نعيم في تاريخ أصبهان بلفظ: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجمعوه". قال في فتح الباري: "يستفاد من هذا ابتداء تدوين الحديث النبوي، ثم أفاد أن أول من دونه بأمر عم بن عبد العزيز ابن شهاب الزهري". اهـ2.
وأخرج الهروي في ذم الكلام من طريق يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن دينار قال:"لم يكن الصحابة ولا التابعون يكتبون الأحاديث، إنما كانوا يؤدونها لفظا، ويأخذونها حفظا، إلا كتاب الصدقات"3.
1 عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، الإمام أمير المؤمنين أبو حفص الأموي القرشي، مولده بالمدينة زمن يزيد، ونشأ في مصر في ولاية أبيه عليها، حدث عن عبد الله بن جعفر وأنس بن مالك وسعيد بن المسيب وطائفة، وكان إماما فقيها مجتهدا، عارفا بالسنن كبير الشأن ثبتا حجة حافظا قانتا لله أواها منيبا، حدث عنه ابناه عبد الله وعبد العزيز والزهري وأيوب وأبو بكر بن حزم، وأبو سلمة بن عبد الرحمن وهما من شيوخه، وأمه أم عاصم بنت عمر بن الخطاب، وكان مليحا أبيض جميل الشكل حسن اللحية، بجبهته أثر حافر فرس شحه في صغره، وذا كان يقال له أشج بني أمية، وفي آخر أيامه خطه الشيب، عاش أربعين سنة، ويعد له وزهده يضرب به المثل رضي الله عنه.
قال الشافعي: الخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز، وقد ولي أولاً إمرة المدينة خلافة الوليد، وبنى المسجد وزخرفه، وكان إذ ذاك لا يذكر بكثير عمل ولا زهد، ولكن تجدد له لما استخلف وقلبه الله فصار بعد حسن السيرة والقيام بالقسط مع جده لأمه عمر، وفي الزهد مع الحسن البصري، وفي العلم مع الزهري، ولكن موته قرب من شيوخه فلم ينشر عمله، عن أبي جعفر الباقر قال: إن نجيب بني أمية عمر بن عبد العزيز؛ إنه يبعث يوم القيامة أمة واحدة، وقال مجاهد: أتينا لنعلمه فما برحنا حتى تعلمنا منه، وقال ميمون بن مهران: ما كانت العلماء عند عمر بن عبد العزيز إلا تلامذة.
قال ابن سعد: ولد سنة 63، وكان ثقة مأمونا له فقه وعلم وورع، وروى حديثا كثيرا، وكان إمام عدل، سمعت عبد الله بن داود يقول: ولد مقتل الحسين سنة (61)، وقال أنس بن مالك: ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى، وقال الذهبي: سيرته تحتمل مجلدا، ومات بدير سمعان وقبره هناك يزار، ومات في رجب سنة إحدى ومائة، وله أربعون سنة سوى ستة أشهر.. اهـ. مقدمة تحفة الأحوذي ج2 ص471.
2 انظر تدريب الراوي ص40 ط1.
3 روى أبو داود بسنده عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة، فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض، فقرنه بسيفه، فعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمل به عمر حتى قبض، فكان فيه: في خمس من الإبل شاة
…
الحديث.
وروى عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: (هذه نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه في الصدقة، وهي عند آل عمر بن الخطاب، قال ابن شهاب: أقرأنيها سالم بن عبد الله بن عمر، فوعيتها على وجهها، وهي التي انتسخ عمر بن عبد العزيز من عبد الله بن عمر، وسلم بن عبد الله بن عمر، فذكر الحديث. اهـ. مختصر سنن أبي داود للمنذري ج2 ص185، حديث 1510، 1512 من كتاب الزكاة باب زكاة السائمة.
والشيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء حتى خيف عليه الدروس وأسرع في العلماء الموت، أمر عمر بن عبد العزيز أبا بكر الحزمي، فيما كتب إليه: أن انظر ما كان من سنة أو حديث فاكتبه.
وقال مالك في الموطأ رواية محمد بن الحسن: "أخبرنا يحي بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الأمصار إلى أبي بكر بن عمرو بن حزم1 به. علقه البخاري في صحيحه"2.
وروى عبد الرزاق عن ابن وهب، سمعت مالكا يقول: "كان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يعلمهم السنن والفقه، ويكتب إلى المدينة يسألهم عما مضى، وأن يعملوا بما عندهم، ويكتب إلى أبي بكر بن حزم أن يجمع السنن، ويكتب بها إليه، فتوفي عمر بن عبد العزيز وقد كتب ابن حزم كتبا قبل أن يبعث بها إلينا
…
" اهـ3. وفي رواية أن عمر بن عبد العزيز، كتب إلى عامله على المدينة أبي بكر بن حزم يأمره: "..انظر ما كان من حديث رسول الله أو سنة ماضية، أو حديث عمرة4 فاكتبه"، وقد ضم إليها في بعض الروايات اسم القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق (107هـ) .
وكلاهما من تلاميذ عائشة؛ فكانا أعلم الناس بأحاديثها عن رسول الله، ولقد قام أبو بكر بن حزم بما عهد إليه عمر، ولكن هذا الخليفة العظيم لحق بربه قبل أن يطلعه على نتائج سعيه، على أن عمر كان قد كتب إلى أهل الآفاق وإلى عماله في الأمصار بمثل ما كتب إلى ابن حزم5.
وكان أول من استجاب له في حياته وحقق له غايته عالم الحجاز والشام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري المدني6 الذي دون له في ذلك كتابا، فغدا عمر يبعث إلى كل أرض دفترا من دفاتره، وحق للزهري أن يفخر بعلمه قائلا:"لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني"7.
ويخيل إلى الباحث عندما يبلغ هذه المرحلة من الدراسة أن فكرة كره التدوين قد اختفت إلى الأبد، وأنها في هذا العصر بدأت تنسى.
1 انظر تنوير الحوالك ص 15 هـ قال ابن حجر في فتح الباري: أبو بكر بن حزم، هو ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، نسب إلى جد أبيه، ولجده عمرو صحبة، ولأبيه محمد رؤية، وأبو بكر تابعي فقيه استعمله عمر بن عبد العزيز على إمرة المدينة وقضائها، ولهذا كتب إليه، ولا يعرف له اسم سوى أب بكر وقيل كنيته أبو عبد الملك، واسمه أبو بكر، وقيل اسمه (فاكتبه) يستفاد منه ابتداء تدوين الحديث النبوي، فكانوا فبل ذلك يعتمدون على الحفظ، فلما خاف عمر بن عبد العزيز وكان على رأس المائة الأولى من ذهاب العلم بموت العلماء رأى في تدوينه ضبطا له وبقاء الخ. - فتح الباري كتاب العلم باب كيف يقبض العلم ج1 ص204.
2 قال البخاري: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا يقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وليشفوا العلم، وليجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا، ورواه أيضا من طريق عبد الله بن دينار عن عمر بن عبد العزيز اهـ. جـ1 ص204 نفس الكتاب والباب السابقين.
3 انظر تدريب الراوي ص40 ط1.
4 عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة وقد روى الزهري عن عمرة بنت عبد الرحمن وآخرون وروت عائشة وأم سلمة وكانت عالمة اهـ جـ 8ص353- طبقات ابن سعد. ط الشعب.
5 الرسالة المستطرفة ص4.
6 محمد بن مسلم بن عبد الله بن عبيد الله بن شهاب الزهري أبو بكر المدني أحد الأعلام نزل الشام. روى عن ابن عمر وجابر وأنس وغيرهم من الصحابة وعنه أبو حنيفة ومالك وعمر بن عبد العزيز وغيرهم مات سنة أربع ومائة وعشرين ومائة اهـ إسعاف المبطأ للسيوطي ص37.
7الرسالة المتطرفة ص4.. أقول: قال أبو داود حديثه ألفان ومائتان، النصف فيها مسندا اهـ. مقدمة تحفة الأحوذي ص 475.