الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومما تقدم يتبين لنا أن علماء التدوين قد طوفوا الدنيا كلها، وانتشروا في البلدان والأمصار وأحاطوا بها يجمعون ويكتبون في حركة نشطة دائبة يواصلون الليل بالنهار؛ ليسجلوا أجلّ وأخلد سجل عرفته البشرية على الإطلاق، على امتداد تاريخها الطويل، فبعد كتاب الله جندوا أنفسهم وأقلامهم ليدونوا مصدر شريعتهم، ومنبع عزهم الدائم.
وأقول: إن رأي أكثر العلماء في ذلك العصر من التردد في شأن الكتابة، بين الفعل والترك يرجع الى أمرين:
فالحرص على كلام رسول الله أن يضيع كالخوف عليه أن يشيع فيه غير الصحيح كانا عاملين كبيرين في توجيه العلماء نحو القول بكتابة الحديث تارة والنهى عنها تارة أخرى.
وإذا كان أوساط التابعين قد بدءوا يحذرون وضع الوضاعين فان أواخر التابعين أمسوا يصادفون كثيرا من نماذج الوضاعين وصور وضعهم؛ تأييدا للفرق والشيع المختلفة، فقد أمسى لزاما أن يشيع التدوين وينتشر في عصرهم حفظا للنصوص النبوية من عبث العابثين، وميزة التدوين في هذا العصر أن الحديث كان ممزوجا غالبا بفتاوى للصحابة والتابعين، كما في موطأ مالك.
خلاصة تدوين السنة
يبدأ هذا الدور من أوائل القرن الثاني إلى آخر القرن الثالث، وكان هذا الدور عصرا مجيدا للسنة، فقد تنبه رواتها إلى وجوب تصنيفها وتدوينها، ومعنى تصنيفها ضم الأحاديث التي من نوع واحد في الموضوع بعضها إلى بعض كأحاديث الصلاة وأحاديث الصيام وما شاكل ذلك.
وجدت هذه الفكرة في جميع الأمصار الإسلامية في أوقات متقاربة حتى لم يعرف من له فضيلة السبق إلى ذلك.
ونستطيع أن نحدد هذا الدور بثلاثة أطوار:
الطور الأول:
فكان من مدوني الطور الأول من هذا الدور الإمام مالك بن أنس بالمدينة، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج بمكة.. إلى آخر من تقدموا وتقدمت طريقتهم في التدوين أيضا.
الطور الثاني:
رأت طبقة ثانية بعد هؤلاء أن يفرد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غيره، وذلك على رأس المائتين؛ فألفوا ما يعرف بالمسانيد.
والمسانيد من الكتب التي موضوعها جعل حديث كل صحابي على حدة صحيحا كان أو حسنا أو ضعيفا، وان اختلفت أنواعه، فتارة ترتب فيه أسماء الصحابة على حروف الهجاء، كما فعله غير واحد،
وهذا أسهل تناولا، وتارة ترتب على أسماء القبائل؛ فيقدم بنو هاشم ثم الأقرب فالأقرب إلى رسوله الله صلى الله عليه وسلم في النسب، وتارة ترتب على السابقة في الإسلام؛ فيقدم العشرة المبشرون بالجنة، ثم أهل بدر، ثم أهل الحديبية، ثم من أسلم وهاجر بين الحديبية والفتح، ثم من أسلم يوم الفتح، ثم أصاغر الصحابة سنا، ويختتم بالنساء.
الطور الثالث:
جاء بعد هذه الطبقة، طبقة أخرى رأت ما أمامها من هذه الثروة العظيمة، ففتح أمامها باب الاختيار، وفي طليعة هذه الطبقة الإمامان الجليلان شيخا السنة أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي المتوقي 256هـ، ومسلم بن الحجاج النيسابوري المتوفي سنة 261هـ؛ صنفا صحيحها بعد أن دققا في الرواية والاختيار، فكان إليهما المنتهى في ذلك.
وحذا حذوهما أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني (فارس الحلبة) المتوفى 275 هـ، وأبو عيسى محمد بن عيسى السامي الترمذي المتوفى سنة 279هـ، وأبو عبد الرجمن أحمد بن شعيب النسائي المتوفى سنة 03 3، وأبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني المعروف بأن ماجه توفي 373هـ.
وكتبهم هي المعروفة في لسان أهل الحديث بالكتب الستة، وقد حازت عند المسلمين من القرن الثالث إلى وقتنا هذا درجة عظيمة من الاعتبار؛ لما لهم في رواتها من الثقة العظمى.
ليس هؤلاء هم الذين ألفوا في السنة فقط، بل وجد بجانبهم كثيرون سواهم، إلا أن هؤلاء هم الذين نالوا شهرة لم ينلها غيرهم.
ونستطيع أن نقول: لم تدون السنة الصحيحة وحدها مرتبة على الأبواب إلا في أتباع أتباع التابعين، وعلى رأسهم أصحاب الصحاح الستة، وفي أواخر القرن الثالث انتهى أمر السنة وفي أثناء هذا الدور، حتى صارت علما مستقلا له رجال قصروا عليه بحثهم، ولا يخفى على عاقل أن هذا العصر لأجلّ عصور أهل الحديث وعلم السنة، وأسعدها بخدمة التأليف والتدوين، ففيه ظهر جهابذة المحدثين، وكبار المؤلفين وحذاق الناقدين وعقلاء المدققين وعمدة المحققين، وفيه ظهرت أنوار كتب السنة الستة، وأشرقت شموسها، حتى كادت لا تغادر من صحيح الحديث وحسنه إلا النذر اليسير، ومن ذلك اعتمد عليها المستنبطون، واعتضد بها المناظرون، وعول عليها المطالعون ورجع إليها المصنفون، وبهذا أخذ علماء الفقه أجمعون.
وكاد يتم جمع الحديث وتدوينه وتأليفه وتهذيبه وترتيبه في هذا العصر المجيد: عصر إمامنا أبي داود السجستاني إمام أهل السنة، وحسبنا فخرا أن ننتهي بأطوار الحديث إلى طور الازدهار والاشتهار حيث وجد وأطل على الدنيا شمس المحدثين مالك زمام الحديث وطبيب علله أبو داود السجستاني، وفيه نشأ، فهو حبة عقده رحمه الله.