المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أين كانت الدراية في أثناء المراحل المتقدمة - تدوين السنة ومنزلتها

[عبد المنعم السيد نجم]

الفصل: ‌أين كانت الدراية في أثناء المراحل المتقدمة

أما المتأخرون في عصر الرواية فيكون عملهم - في نهاية المطاف - تهذيبا وشرحا واختصارا للكتب الصحيحة المشهورة.

وهكذا مر الحديث النبوي بمراحل طويلة حتى وصل إلينا محررا مضبوطا.

ص: 48

‌أين كانت الدراية في أثناء المراحل المتقدمة

؟

سايرت الدراية - أو علوم الحديث - الرواية في جميع الأطوار المتقدمة ولم تنفك عنها، وآية ذلك تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب عليه، روى مسلم بسنده عن أنس بن مالك أنه قال: إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثا كثيرا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تعمد علي كذبا فليتبوأ مقعده من النار"1.

وفي الباب أحاديث كثيرة.

وما موقف أبي بكر وعمر، وحضهما على تكثير طرق الحديث لكي ترتقي عن درجة الظن إلى درجة العلم إلا دليلا على ذلك. وقد تقدم.

ولكن فروعه لم تتشعب في عهد الصحابة؛ لثقتهم وعدالتهم، ولأنهم حملة الشريعة وتلاميذ النبي صلى الله عليه وسلم.

وظل الأمر كذلك في عهد كبار التابعين، وبدأ أوساطهم يحذرون من الكذابين، ولكن ظهرت الفرق والشيع المختلفة ووجد من يؤيدهم، صادف أواخر التابعين نماذج من الوضاعين، ومن هنا دوّن الحديث وعلومه حفظا للنصوص النبوية من عبث العابثين.

وعلم من تعريف الحديث دراية أن واضعه هو ابن شهاب الزهري؛ فيكون ندا لعلم الحديث رواية.

ولذلك وجد في دور تدوين السنة رجال كان همهم البحث عن حال رواة الحديث من التابعين فمن بعدهم، ووصف كل رجل منهم بما يستحق من ضبط وإتقان وعدالة أو أضدادها، ويعرفون برجال الجرح والتعديل، فمن عدلوه قبلت روايته، ومن جرحوه ترك حديثه، وقد يختلفون في ذلك الشأن نجد من الرواة من أجمع على تعديله وضبطه وإتقانه، وذلك هو الغاية العليا، ومنهم من أجمع على تركه وذلك هو الغاية الدنيا، وبين ذلك درجات بعضها أدني من بعض، ومن الأسانيد ما هو كالشمس في الإشراق حتى يكاد سامعه يقطع بصدق رواته، ومنها ما هو دون ذلك.

1 انظر صحيح مسلم بشرح النووي جـ1ص66

ص: 48

قال الذهبي:" أول من زكى وجرح من التابعين - وإن كان قد وقع ذلك قبلهم - الشعبي وابن سيرين1، حفظ عنهما توثيق أناس وتضعيف آخرين، وسبب قلة ذلك في التابعين قلة متبوعهم من الضعفاء؛ إذ أكثر المتبوعين صحابة عدول، وأكثر المتبوعين في عصر الصحابة ثقات، ولا يكاد يوجد في القرن الأول الذي انقرض فيه الصحابة وكبار التابعين إلا الواحد، كالحارث الأعور2 والمختار الكذاب، فلما مضى القرن ودخل الثاني كان في أوائلهم من أوساط التابعين جماعة من الضعفاء الذين شعفوا غالبا من قبل تحملهم وضبطهم الحديث، فتراهم يرفعون الموقوف ويرسلون كثيرا، ولهم غلط، كأبي هارون العبدي.

فلما كان عند آخر عصر التابعين - وهو حدود الخمسين ومائة - تكلم في التوثيق والتضعيف أئمة"3.

ويوضح الذهبي في موقع آخر أن علم مصطلح الحديث اشتغل به كبار التابعين، يقول في علم الحديث ولا رأيت أهل الحديث فأوائلهم كان لهم شيخ عالي الإسناد بينه وبين الله تعالى واحد معصوم عن معصوم سيد البشر عن جبريل عن الله عز وجل، فطلبه مثل أبي بكر وعمر وابن مسعود وأبي هريرة الحافظ وابن عباس وسادة الناس طالت أعمارهم وعلا سندهم وانتصبوا للرواية الرفيعة، فحمل عنهم، مثل مسروق وابن المسيب والحسن البصري وعروة وأشباههم من أصحاب الحديث وأرباب الرواية والدراية والصدق والعبادة والإتقان والزهادة الذين من طلبتهم مثل الزهري وقتادة

الخ4.

1 من ذلك ما رواه ابن سعد قال: روى جريرعن مغيرة عن الشعبي قال: حدثني الحارث الأعور وكان كذوبا.

وأما ابن سيرين فهو محمد بن سيرين ويكنى أبا بكر مولى أنس بن مالك، وكان ثقة مأمونا عاليا رفيعا فقيها إماما كثير العلم ورعا، وكان به صمم، ولد محمد بن سيرين لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، وكان يقول: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذونه، وعن ابن عون قال: كان محمد بن سيرين إذا حدث كأنه يتقي شيئاً، كأنه يحذر شيئاً، وقال ابن عون: سمعت محمدا يقول: لو كنت متخذا كتابا لاتخذت رسائل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ابن سيرين لا يرى بأسا أن يكتب الحديث، فإذا حفظه محاه، عن أنس بن سيرين قال: لم يبلغ محمدا حديثا قط، أحدهما أشد من الآخر إلا أخذ بأشدهما قال: وكان لا يرى بأسا، وكان قد طوق لذلك. اهـ طبقات ابن سعد ج7 ص140 ط الشعب.

2 الحارث الأعور بن عبد الله بن كعب بن أسد بن خالد بن حوب، وقد روى الحارث عن علي وعبد الله بن مسعود، وكان له قول سوء، وهو ضعيف في روايته، قال ابن سعد بسنده: أن علي بن أبي طالب خطب الناس فقال: من يشتري علما بدرهم؟ فاشترى الحارث الأعور صحفا بدرهم، ثم جاء بها عليا فكتب له علما كثيرا، وكانت وفاة الحارث الأعور بالكوفة أيام عبد الله بن الزبير. اهـ طبقات ابن سعد ج5 ص116.

3 انظر تدريب الراوي حاشية ص299 ط 1 عبد الوهاب عبد اللطيف.

4 انظر بيان زغل العلم والطلب للحافظ الذهبي ص10 مطبعة التوفيق بدمشق 1347هـ.

ص: 49