الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع
أحسن القصص
في هذا الباب:
* سمات القصة القرآنية.
* عندما يذكر القرآن المكان والزمان.
* لماذا أعرض القرآن عن ذكر أسماء الأبطال.
* {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}
* إشباع المخيَّلة يَمهَّد لإقناع العقل.
* لا يا دكتور
…
في فناء المدرسة وقف الشيخ عارف يتحدث مع التلميذ أمجد.
ويستمع لشكواه.
أمجد: أعاني من سرعة نسيان الدرس.
عارف: إذا طال الكلام يُنسي بعضه بعضاً.
ولكن عليك أن تقرأ الدرس قبل حضورك للمدرسة.
وحاول أن تلخص الدرس بعد قراءته.
وتضع بعض الأسئلة من وحي الدرس، وتجيب عليها.
فإن طريقة "السؤال والجواب" إحدى الطرق التي ربَّى النبي صلى الله عليه وسلم عليها أصحابه.
كان يبدأ بالسؤال فيُعد أذهانهم ويهيئها للجواب. فتثبت الإجابة.
ولنفس السبب لجأ القرآن إلى القصة.
لأن الذهن يستطيع أن يجمع أطرافها، كما أنها تُشبع المخيلة.
أمجد: جزاك الله خيراً يا شيخ عارف.
يدخل الشيخ عارف الصف الدراسي ويكتب على السبورة:
"سمات القصة القرآنية"
ثم يتحدث مع التلاميذ:
السمة الأولى:
هدفها ديني، ويكتفي من ذكر الزمان والمكان بمقدار ما له صلة بهدفها فقط.
السمة الثانية:
إنها صادقة الحوادث تاريخياً، بعكس ما ادعاه الدكتور "طه حسين" وغيره.
السمة الثالثة:
تثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتدافع عن شرف الأنبياء قبله.
السمة الرابعة:
تعمل على تكوين الشخصية القيادية، وتحول العقائد من أسلوب المناظرات، إلى مشاهد حية.
فتقنع العقل، وتملأ القلب، وتشبع المخيلة.
* * *
وليد: ملأت السبورة اليوم يا شيخ عارف.
عارف: استخدام أكثر من حاسة، يثبت الدرس في الذاكرة.
فعندما تشاهد بعينك، وتسمع بأذنك، يثبت الدرس أكثر.
"ثم يبدأ الشيخ في شرح الدرس"
السمة الأولى للقصة القرآنية، أنها واضحة الهدف، قوية الأثر في النفس.
وقد لجأ إليها القرآن ليقنع بها العقل، ويشبع المخيلة، ويهذب السلوك.
فالقرآن يعالج مشاكل اليوم بتجارب الأمس، ويحول العقائد من مناظرات إلى مُسلَّمات، والأخلاق من قوانين أخلاقية، إلى واقع حركي يمشي بين الناس.
وهدف القصة القرآنية ديني بحت.
فالقرآن لم يذكر الأنبياء وأممهم، والملوك وشعوبهم، إلا بمقدار ما يخدم هدفاً دينياً مجرداً.
عماد: بعض عناصر القصة لا صلة لها بالهدف الديني.
كذكر الزمن، والمكان في بعض القصص.
عارف: يا عماد:
القرآن - عندما يذكر الزمن الذي عاشه نوح عليه السلام فإنه يرسم صورة ذهنية لما عاناه هذا الرجل العظيم طوال قرابة ألف عام.
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} العنكبوت 14
إن هذا العمر الطويل، في دعوة متواصلة، يؤكد عظمة هذا النبي.
وليد: من أجل ذلك دعا عليهم بالغرق؟
عارف: لا يا وليد
…
لقد دعى عليهم لأسباب ثلاثة: -
أولاً: - لأن الله علمه أنه لن يؤمن من قومه إلا مَن قد آمن.
أما من أصر على الكفر فلا أمل في هدايتهم
قال تعالى:
ثانياً: تعرض المؤمنون للفتنة في دينهم.
لأنهم من الفقراء - الذين لا يحميهم جاه، ولا تدافع عنهم عشيرة.
وقد صور القرآن هذا الجانب فقال:
من أجل ذلك حاولوا فتنتهم عن دينهم.
{إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} نوح 27
ثالثاً: تعرضت حياة نوح للخطر. وهددوه بالرجم.
{قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}
عندما اجتمعت هذه العوامل الثلاثة.
فساد البيئة. وإصرارهم على الشرك. وفتنة المستضعفين من المؤمنين عن دينهم. وتهديد الكفار لنوح بالقتل.
عندما حدثت هذه الأمور.
فأنتم تلاحظون يا أبنائي
…
أن القرآن يسوق الزمن في قصة نوح عليه السلام لدعوة أصحاب الرسالات إلى الصبر في تبليغ دعوتهم.
* * *
وعندما يذكر القرآن "المكان" الذي جرت عليه
حوادث القصة. فلا يتعدى هدفه الديني.
فقد ذكر القرآن المكان في قصة الهدهد مع سليمان.
قال تعالى: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} النمل 22
عباس: أي هدف ديني في جغرافية القصة؟
عارف: تحديد المسافة الشاسعة التي قطعها الهدهد في خدمة قضية التوحيد.
فالنبي سليمان عليه السلام بالشام.
ومملكته سَبأٍ باليمن، والمسافة بينهما واسعة طويلة.
فذكر المكان هنا جاء لهدف ديني.
ودعوة لأصحاب الرسالات أن يتحملوا من أجل ما يدعون إليه.
وليد: لعل لهذا الغرض ساق القرآن ذكر المكان في موضوع الإسراء.
عارف: أجل يا وليد.
فالمسافة من مكة إلى القدس لا يمكن - يومها - أن تقطع في أقل من شهر.
ولكنها المعجزة.
طارق: كيف قطع النبي صلى الله عليه وسلم هذه المسافة في ليلة واحدة، فضلاً عن رحلة المعراج؟
عارف: النبي لم يسر يا طارق.
النبي أسري به.
وفاعل الإسراء هو الله.
لذلك يجب أن تقاس المعجزة بقدرة الله، لا بإمكانيات محمد صلى الله عليه وسلم (1) قال تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الاسراء 1 فهدف القصة القرآنية هدف تربوي ديني، فإذا ساق
(1) تتناسب القوة مع السرعة تناسباً طردياًَ. فكلما زادت القوة زادت السرعة.
وتتناسب السرعة مع الزمن تناسباً عكسياً. فكلما زادت السرعة قل الزمن.
فإذا عرفنا إن فاعل الإسراء هو الله. وقوة الله لا حدود لها.
عرفنا أن عنصر الزمن في الرحلة يكاد يكون مفقوداً. ولكن الرحلة استغرقت جزءاً من الليل. لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف عند بعض المشاهد ويسأل جبريل. ومن هنا جاء عنصر الزمن.
الزمان أو المكان فبمقدار ما يخدم الهدف.
* * *
وليد: لماذا لم يذكر القرآن أسماء أبطال القصة؟
عماد: لأن أسماءهم لا علاقة لها بالهدف الديني.
فأي قيمة تربوية لذكر اسم امرأة العزيز؟
عارف: أحسنت يا عماد.
إن القرآن أهمل اسمها وعبر باسم الموصول
فقال تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} يوسف 23
ليعلمنا أمرين جليلين في أدب الحديث.
أولاً: - ليؤكد أنها صاحبة البيت، وصاحبة الأمر والنهي فيه، فإذا عصى يوسف أمرها، كان الأمر أجل، ودلالة العفة أعظم.
ثانياً: - أراد القرآن أن يعلمنا أدب رواية الأخبار.
فإذا روينا حادثة تمس سمعة البيوت، وفي إشاعتها فضيحة للأسر،
فإن من أدب الإسلام الإعراض عن ذكر الأسماء
لأن الإسلام يحب أن تموت الفاحشة في مكانها،
وأن تقبر الجرائم الأخلاقية فلا تفوح رائحتها في المجتمع المسلم.
قال صلى الله عليه وسلم "وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ"
"رواه البخاري باب المظالم ومسلم باب البر"
وعندما أمر (هزال) غامداً أن يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقيم عليه الحد عندما زنا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لهزال: "ويلك لو كنت سترته بثوبك كان خيراً لك "مسند أحمد".
والرسول عليه الصلاة والسلام حريص على عدم إشاعة الفاحشة.
لأن المجتمع الذي يروج فيه الحديث عن الفواحش، ويسمعها الصغير الناشئ، والكبير البالغ، فتألف الأذن سماعها، فإن ذلك يهون وقع الفاحشة على النفس ويمهد لها.
لذلك قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم
"إِنَّ اللَّهَ عز وجل يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ"(رواه أحمد. 17287) .
وأوجب الإسلام ستر الرجل على أهله.
أراد رجل أن يزوج ابنته في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه
وكان لها ماض لا يعرفه إلا أبوها.
فسأل الأب:
هل أذكر من أمرها شيئاًَ يا أمير المؤمنين؟
قال عمر: والله إن فعلت لأعلون رأسك بهذا السيف
ألا تعلم أنها تابت؟
زوِّجها على أنها مسلمة.
"من كتاب الفاروق للدكتور علي شلق"
وسِتر الرجل على نفسه لا يقل شرعاً عن ستره على أهله وجماعته.
فقد كره الإسلام أن يفضح الإنسان نفسه في ذنب ستره الله عليه.
كما كره له أن يفضح غيره من المسلمين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ ". (البخاري 5608)
عماد: يا فضيلة الشيخ لقد سبق أن سمعنا منك "إن الاعتراف بالذنب فضيلة".
عارف: الاعتراف بالذنب يعني اعتذار الرجل لأخيه عن ذنب بدر منه.
ومعاصينا نعتذر لله وحده عنها.
وقد خلط بعض الناس بين فضيحة الإنسان لنفسه ومجاهرته بمعصيته، وبين الاعتذار عن الخطأ الذي صدر منه في حق الناس وهذا خطأ كبير.
أعتذر يا أولادي فقد خرجنا عن موضوع القصة القرآنية.
عماد: الاعتراف بالحق فضلية. "يضحك التلاميذ".
عباس: نلاحظ أن بعض كتب التفسير حاولت ذكر أسماء الأبطال.
فما رأي فضيلة الشيخ؟
عارف: انشغل بعض المفسرين بذكر بعض الإسرائيليات.
فخرجوا بذلك عن هذف القصة القرآنية.
بحثوا عن اسم (أم موسى)
ونوع الشجرة التي منها عصا موسى.
ولون كلب أصحاب الكهف.
وغير ذلك من القضايا الصغيرة التي تعمَّد القرآن الإعراض عنها (2) .
(2) أفرد بعض المؤلفين كتباً في موضوع أسماء الأعلام الذين أبهم القرآن أسماءهم من هؤلاء: - السهيلي في كتاب التعريف والإعلام بما أبهم في القرآن من أسماء الأعلام، وابن عسكر المالقي في كتاب التكميل والإتمام لكتاب التعريف والإعلام، كما كتب في ذلك الإمام السيوطي كتاباً صغير الحجم عظيم الفائدة.
(راجع الدراسات اللغوية في الأندلس تأليف / رضا عبد الجليل الطيار)
فؤاد: فلماذا ذكر القرآن اسم مريم، واسم أبي لهب؟
عارف: في ذكر أبي لهب وامرأته سر عجيب.
فأبو لهب وامرأته اشتركا في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم.
وأبو سفيان وامرأته اشتركا في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم.
بل إن التاريخ يؤكد أن أبا سفيان فعل بالإسلام أكثر مما فعله أبو لهب بكثير.
فلماذا ذكر القرآن اسم أبي لهب وتوعده بالجحيم،
ولم يذكر اسم أبي سفيان وامرأته؟
عماد: قرأت في كتاب (حتى لا نخطئ فهم القرآن) للشيخ محمود غريب
"أن القرآن فرق بين نوعين من المشركين فالذين علم الله أنهم سيموتون على الكفر أَنزل في حقهم وعيداً قرآنيا".
كأبي لهب وامرأته، والوليد بن المغيرة، وغيرهم ممن ماتوا على الكفر.
ولم يدخلوا في الإسلام.
أما الذين علم الله أن أعمارهم ستمتد إلى فتح مكة، أو سيدخلون في الإسلام قبل ذلك فإن الله لم ينزل وعيداً في شأنهم، كخالد بن الوليد نزل الوعيد في شأن أبيه (الوليد بن المغيرة) وقد مات على الكفر.
ولم ينزل في شأن حالد مع أنه قاد جيوش المشركين يوم أُحُدٍ؛ لأن الله علم إنه سيدخل في الإسلام.
وأبو لهب وامرأته نزل الوعيد في شأنهما.
ولم ينزل في شأن أبي سفيان وامرأته وعيد.
لأن الله علم أن أبا سفيان سيدخل الإسلام هو وامرأته.
بخلاف أبي لهب وامرأته.
جمال: أشعر أن القرآن ذكر أبا لهب لأنه عم النبي صلى الله عليه وسلم ليؤكد القرآن أن الإسلام هو النسب الوحيد بين المسلمين.
وأن العصبية لمحمد صلى الله عليه وسلم لم تخلق الإيمان بمحمد.
ولكن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم هو الذي خلق العصبية لمحمد.
عارف: باسم الله. ما شاء الله.
فاق التلاميذ أستاذهم.
جمال: العفو يا فضيلة الشيخ.
ولكن بقى ذكر اسم (مريم) في القصة القرآنية.
عارف: اسم مريم جزء من العقيدة.
لأنه يؤكد حقيقة التوحيد، وينفي فكرة الولد والشريك، ويستبعدهما بطريقة لا تدع مجالاً لإثارة أي شبهة في بشرية عيسى الكاملة، وإنه واحد من سلسلة الرسل، شأنه شأنهم، وطبيعته طبيعتهم.
وقد لمس القرآن هذا الجانب لمساً جميلاً عندما قال:
وأكل الطعام يتبعه ما يتبعه من قانون البشرية. والتخلص من الفضلات.
ثانياً: - ذكر القرآن اسم مريم لتأكيد الخوارق التي نسبت إليها
وكحملها العذري، ومشاهدتها روح القدس، وهز النخلة وحدها، مما لم يقو جمع من الرجال على هزها.
ثالثاً: - ذكر القرآن اسم مريم لأن الله اصطافعا وطهرها {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} .
فهي طهر بين اصطفائين.
من أجل هذه المعاني ذكر القرآن الكريم اسم مريم
"يدق الجرس إيذاناً بانتهاء المحاضرة"
* * * في غرفة المدرسين جلس الشيخ عارف مع مدرس التاريخ يتجاذبان أطراف الحديث.
المدرس: علمت أنك تشرح للطلاب دور القصة القرآنية.
وأذكر ونحن ندرس في الجامعة المصرية عام 1926 أن الدكتور طه حسين
قال لنا "إن القصة القرآنية لا يُعتمد عليها كمصدر تاريخي"
فما رأيك في هذا الكلام يا شيخ عارف؟
عارف: لم ينجح الشرق والغرب في حرب الإسلام بالسيف.
فعمل على تربية بعض الكُتَّاب الذين يحملون أقلاماً إسلامية مدادها الحقد على الإسلام.
وقد تأثر الدكتور طه حسين في مستهل حياته الجامعية بالكاتب الغربي (كليمان هوار) الذي جند نفسه للطعن في القرآن والتشكيك فيه.
وقد قال الدكتور طه حسين: -
إن قصة بناء إبراهيم وإسماعيل للكعبة حيلة أرادت بها قريش أن تؤكد صلتها بالحضارات القديمة، وليس للقصة أصل في التاريخ.
وقد تصدى له المرحوم (مصطفى صادق الرافعي) في كتابه (تحت راية القرآن) ونحن نرى أن الدكتور طه حسين قد تراجع عن معظم آرائه التي قالها في شبابه.
ويشهد له بهذا كتابه "مرآة الإسلام"
المدرس: لكن هذه الدعوة حاول أن يجددها الدكتور محمد أحمد خلف الله في كتابه (الفن القصصي في القرآن الكريم) .
قال: إن القصة القرآنية قصة أدبية يقصد بها
غير ما يقصد التاريخ أو تعرض غير ما يعرض التاريخ، وتثبت غير ما يثبت التاريخ.
واستدل على دعواه بقول القرآن الكريم لمريم.
{يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} "مريم 27"
وقال: إن مريم ليست أخت هارون من الناحية التاريخية.
عارف: أنا على ثقة أن الدكتور - غفر الله له - يعرف جيداً أن القرآن لا يعني هارون شقيق موسى.
وإلا لقالوا لها: يا أخت موسى. لأن ذلك أوقع في الدلالة.
ولكن هارون الذي قصده اليهود هو رجل صالح في القرية.
فأراد اليهود تقريع مريم بهذا الوصف.
أو هو رجل فاسق في القرية، فأرادوا بكلمتهم صريح الهجاء.
ومعلوم أن الفارق الزمني بين موسى وهارون، وبين مريم ابنة عمران فارق كبير، ولكنها مصادفة الأسماء.
فأي مغالطة هذه من أستاذ جامعي!!!!
كان يكفي للدكتور خلف الله أن يعلم أن هذا القرآن منزل من عند الله.
قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} النساء 87.
وقد أكد القرآن الكريم صدق ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} الاسراء 105.
وخص القرآن القصة بالذات، فأكد صدقها، {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} الكهف 12
قال تعالى {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} القصص 3
فماذا نقول لهؤلاء أكثر من هذا؟
على أن الدراسة العميقة للقصة القرآنية تؤكد عجز البشر عن الإتيان بمثلها.
مما تؤكد صدق الجانب التاريخي فيها.
هل تعرف يا سيادة الزميل لماذا فرق القرآن في التسمية بين حاكم مصر في عهد يوسف عليه السلام فسماه (الملك) وبين حاكم مصر نفسها في عهد موسى عليه السلام فسماه (فرعون) ؟
قال: للمغايرة بين الاثنين.
حتى يصبح اسم فرعون علماً بالغلبة على الحاكم في عهد موسى- عليه السلام.
عارف: ربما ذلك.
ولكن علماء الآثار في العصر الحديث عندما استطاعوا قراءة الكتابة القديمة التي سطرها المصريون على جدران المعابد أضافوا لمعلوماتنا سراً عجيباً.
علموا أن قدماء المصريين كانوا يطلقون على الحاكم اسم (فرعون) إن كان من أبناء البلاد الأصليين.
أما إن كان الحاكم غازياً للبلاد، مستولياً على حكمها أطلقوا عليه اسم (الملك) .
ومعلوم أن الحاكم في عهد يوسف عليه السلام كان من الغزاة الذين جاءوا لمصر من أواسط آسيا واسمهم (الهكسوس) والذين طردهم (أحمس) من البلاد؛ لذللك قال القرآن الكريم في قصة يوسف عليه السلام
{قَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} يوسف 54.
بينما قال عن الحاكم في عهد موسى عليه السلام:
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} يونس 79
"من كتاب "هذا نبيك يا ولدي" للمؤلف.
فهل هذه القضايا يمكن أن يدركها النبي صلى الله عليه وسلم
من وحي أدبه؟
إن الأمة العربية لم تعرف فن القصص قبل الإسلام إلا في صورة أساطير وخرافات عن بعض عشاق العرب أمثال "عنتر بن شداد" وبعض فرسانها
أمثال (أبو زيد الهلالي) .
المدرس: لكن بعض القصص القرآني يختلف عن نظيره في التوراة.
عارف: القرآن مهيمن على الكتب السماوية السابقة، لسلامته من التحريف منذ أن نزل من عند الله. ولم تعرف الدنيا كتاباً قدر له أن يحفظه جمع كبير عن جمع كبير، فتواترت روايته كما تعرف الدنيا هذا القرآن.
فلم يخلو عصر في التاريخ من آلاف الحُفاظ، وهذا سر قوله تعالى:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر 9
بل إن رسالة القرآن - منذ عهد نزوله - هي أن يصحح لبني إسرائيل ما يختلفون فيه {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} النمل 76
وسوف أهدي إليك كتاب (هذا نبيك يا ولدي) للشيخ محمود غريب، فإن فيه مقارنة بين قصص الأنبياء في التوراة وقصصهم في القرآن، لتعرف أي الكتابين يشهد العقل المجرد بصدقه.
فقد شوهت التوراة سيرة الأنبياء.
ونسبت إليهم ما لا يليق بالرجل العادي، فضلاً عن
أصحاب الرسالات. وذلك بسبب ما أحدثه اليهود من التحريف في كتابهم.
المدرس: أنا أعرف أن التوراة فقدت أكثر من أربعة قرون ثم كتبت بعد ذلك فأصابها التحريف.
عارف: يبدو أن وقت المحاضرة قد حان، وإلى اللقاء
…
يصافح زميله ويخرج للصف الدراسي.
* * *
يدخل الشيخ باهتمام، ويستفتح بالذي هو خير، ثم يبدأ الدرس.
عارف: عرفنا في اللقاءات السابقة، إن القصة القرآنية دينية الهدف، صادقة الأحداث، تسوق الألفاظ بالقدر الذي يخدم مقاصدها فقط.
والأن نتحدث عن بعض مقاصد القصص القرآني: -
المقصد الأول: - "إثبات نزول القرآن من عند الله".
لأن هذه هي القضية الأم في مسألة العقيدة، فما دام القرآن من عند الله، فكل ما فيه حق، وكل ما يدعو إليه سلام.
وقد نهجت القصة القرآنية منهجاً عقلياً عالياً فثبات هذه القضية.
فمعلوم لدينا، ولدى كل باحث أمين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى صدر شبابه كله، لا عِلم له بأمر السماء، ولم تخالج نفسه دعوات تغيير وإصلاح.
ولم يروِ للناس شيئاً من أخبار الأنبياء السابقين. كما لم يتحدث عن الملأ الأعلى.
وفجأة
…
كان يوم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وبدأ يقرأ....
يقرأ أسرار الماضي، فيصدقه التاريخ.
ويقرأ أسرار المستقبل، فتصدقه الليالي والأيام.
ويقرأ أسرار الكون، فيصدقه العلم الحديث.
فأي ينبوع علمي تفجر له
…
؟!!
إنه الوحي
…
الذي كان دائماً يذكر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر.
* * *
وإليكم بعض النماذج
عندما أرسل إليه يهود المدينة يسألونه عن قصة يوسف، امتحاناً لنبوته.
قال القرآن الكريم: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} يوسف (3) .
فتدبروا يا أبنائي
…
قوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} لأن قصة يوسف، لم تنقل إلى العربية قبل نزول القرآن.
وتدبروا قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} وفي نهاية القصة، كرر القرآن هذه التذكرة لينبه عقولنا إلى سر التحول في حياة النبي،
قال تعالى:
أي أجمعوا أمرهم على القاء يوسف في البئر.
وعندما قص عليه القرآن قصة موسى عليه السلام أكد هذه الحقيقة: - {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} القصص (43) .
وتكررت التذكرة مع قصة مريم عليها السلام {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} آل عمران (43) .
ووقد تكرر امتحان اليهود لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فأرسلوا إليه يسألونه عن قصة أهل الكهف، وخبر القائد العادل "ذو القرنين".
وبدأ القرآن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أمرهما: -
قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} الكهف (13)
…
وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا} الكهف (85) .
ومن يدقق منكم وهو يقرأ القرآن، يجد أن معظم السور التي ذكر الله فيها القصص القرآني، افتتحها الله بما يؤكد أن هذا القرآن منزل من عند الله.
فؤاد: من فضل الله عليناً أن معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم كتاب يقرأ في كل عصر، ليكون دليلاً على نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم.
عارف: بل ليكون دليلاً على نبوة كل الأنبياء السابقين فمعجزات جميع الأنبياء انتهت معهم.
فكان لابد من معجزة خالدة، تكرم الدور الذي قام
به كل نبي من الأنبياء. وأتباع أي نبي لا يملكون دليلاً واحداً على صدق نبيهم، إلا من خلال آيات القرآن الكريم.
وذلك لأمرين هما: -
أولاً: لتزاحم الأدلة التي تثبت أن هذا القرآن منزل من عند الله.
- فنحن نملك ألف دليل ودليل على ذلك -.
ثانياً: لشهادة التاريخ أن القرآن نقله إلينا جمع كبير عن جمع كبير، منذ عصر الوحي. وحسبك أن تعلم يا فؤاد: أن كل الذين يحفظون الإنجيل في أوربا كلها، لا يساوون عدد حفاظ القرآن في قرية واحدة من قرى بلادنا.
دامت لدينا ففاقت كل معجزةٍ
…
من النبيين إذ جاءت ولم تَدمِ
هذا هو الهدف الأول للقصة القرآنية.
* * *
المقصد الثاني: - "تمهيد القصة لإثبات عقيدة البعث".
عملت القصة القرآنية على تحويل عقيدة البعث من
قضية استدلاليه، إلى واقع مشاهد في أذهان المسلمين.
وذلك لأن تعدد الصور التاريخية التي ساقتها القصة لإحياء الله لبعض الموتى والمقتولين، ولتحويل الجمادات إلى أحياء، كل ذلك مهد لإقناع العقل، وإشباع المخيلة.
فؤاد: نود ذكر بعض الأمثلة!
عارف: في قصة موسى عليه السلام عدة نماذج لهذا الأمر.
فعصا موسى (وهي جماد) حولها الله إلى حية تسعى.
لها عينان تبصران، وأذنان تسمعان، وفم يلقف ما يأفكون.
والحوت الذي أعده غلام موسى للطعام، ثم اتخذ سبيله في البحر سرباً.
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} الكهف (16) .
وفي قصة موسى أيضاً يأتي خبر الرجل الذي قتله بنو إسرائيل، وجهلوا قاتله، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة وأن يضربوه ببعضها، فأحياه الله وأخبر عن قاتله.
قال تعالى: - {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} البقرة (73) .
ولعل كثرة النماذج التي ساقها القرآن في حياة موسى من تحويل العصا إلى حية تسعى. وإحياء الحوت. وإحياء الرجل المقتول. لعل هذه القضايا جيمعاً
…
هي العلاج لما انحدر إليه بنو إسرائيل.
فقد ارتدوا بعد موسى، وأخذوا ينكرون الآخرة، ويدعون أن الجنة هي إقامة ملك (يَهودا على الأرض)(1) .
* * *
كما ساق القرآن الكريم قصة الرجل الي أماته الله مائة عام ثم بعثه.
ونوم أصحاب الكهف ثلاثمائةٍ سنين شمسية، وازدادوا تسعاً من السنين، عند أخبار القرآن لأمةٍ تؤرخ بالسنين القمرية، (2) .
قال تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} الكهف (25)
(1) ملك يهودا: - هو المملكة المزعومة التي يحلم بها بنو إسرائيل، يحكمون بها العالم، ويستعبدون الشعوب.
كل هذا يؤكد الهدف الذي قلته لكم.
بلال: نسيت نموذجاً واضح الدلالة على هذا الهدف، وهو ذبح إبراهيم عليه السلام للطيور ثم إحياء الله لها.
عارف: ما أنسانيه إلا الشيطان.
حقاً! إنه موضوع يحتاج إلى دراسة جادة تتضمن نقطتين، هما: -
أولاً: - لماذا قال إبراهيم عليه السلام {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} ؟
ثانياً: - وصل إبراهيم عليه السلام إلى (عين اليقين) بهذه التجربة.
فهل وصل نبينا محمد عليه الصلاة والسلام إلى هذه المنزلة في الدنيا؟
ذكرت في كتاب (حتى لا نخطي فهم القرآن) الحساب الدقيق للفارق بين السنة الشمسة التي
= 232217 و 365
ــ
1000000
يوماً والسنة القمرية التي
= 367068 و 254 يوما.
_________
1000000
مَنْ منكم يستطيع أن يجيب على السؤالين؟
سعيد: لعله سأل ليثبت لقومه قدرة الله بالدليل المشاهد.
عارف: أحسنت يا سعيد.
فصحابة النبي صلى الله عليه وسلم عندما قرؤا قوله تعالى:
عند ذلك قال بعض الصحابة: شك إبراهيم، ولم يشك نبينا.
(فقال النبي الكريم: (نحن أولى بالشك من إبراهيم) رواه مسلم.)
ومعنى الحديث الشريف كما قال أبو سليمان الخطابي (هو نفي الشك عن النبي وعن إبراهيم، على سبيل التواضع وتعليم الأمة احترام الأنبياء)
تفسير ابن كثير جـ 1، ص 315.
ولاحظوا يا أبنائي
…
أن إبراهيم قال: {أَرِنِي كَيْفَ}
وأنت إذا سألت مهندساً: كيف تصلح هذا الجهاز المعقد؟
فسوف يكرم سؤالك، ويشرح لك.
أما إذا قلت له: أني تصلحه، فإنه سيغضب.
وهذا هو الفارق بين سؤال إبراهيم عليه السلام الذي يُعبَّر عن أدبه مع الله، وبين سؤال الرجل الذي قال:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} .
لذلك أجرى الله التجرية لإبراهيم على الطيور، وأما الرجل فقد أجرى الله التجربة عليه هو.
{فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} .
هذا ولله المثل الأعلى.
جمال: بالنسبة للسؤال الثاني، أعتقد أن إبراهيم عليه السلام وصل إلى "عين اليقين - عندما أحيا الله له الطيور.
أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد وصل إلى "عين اليقين: عندما أحيا الله له الأنبياء "ليلة الإسراء".
عارف: أحسنت يا جمال:
هكذا استطاعت القصة القرآنية أن تمهد لعقيدة البعث، وأن تحولها إلى مشاهد حركية ملموسة.
(ينظر الشيخ عارف في ساعته ويقول: ما أسرع الوقت، لقد انتهت المحاضرة) .
* * *
بعد صلاة العصر، جلس الشيخ مع أولاده، يسامرهم، ويتفقد أحوالهم
هشام: قرأت بعد صلاة الفجر سورة يوسف. وقد لفت نظري وصف القرآن ليوسف عليه السلام خمس مرات بالإحسان.
فما سر هذا التأكيد؟
الوالد: في أي موضع تكرر هذا الوصف؟
هشام: - في قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} يوسف (22)
{نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} يوسف (56) .
{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} يوسف (90)
كما وصفه السجينان بقولهما: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} يوسف (36) .
ووصفه إخوته بذلك الوصف أيضاً: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} .
ولم يجتمع هذا الوصف لأي نبي في سورة واحدة من القرآن إلا ليوسف.
الوالد: "يهز رأسه ويقول": الحمد لله لقد أصبحت تتذوق القرآن يا هشام!!
إن قراءة القرآن وحدها بدون تدبر - لا تقوم السلوك، ولا تهذب الأخلاق.
وقد أنزل الله القرآن لنتدبر آياته، ولتهتدي بها.
قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} ص (29)
وقد عاتب الله الذين يقرؤون القرآن بلا تدبر فقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} محمد (24)
هشام: بارك الله فيك يا أبي
…
ولكن لماذا تكرر وصف يوسف بالإحسان خمس مرات؟
الوالد: الإحسان
…
له أربعة معانٍ هي: -
1-
الإحسان بمعنى الصدقة.
قال تعالى في قصة قارون: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} القصص (77) .
2-
والإحسان بمعنى إتقان العمل.
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم - أي في القصاص - فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" رواه مسلم: - كتاب الصيد.
3-
والإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه" رواه البخاري، ومسلم.
4-
والإحسان: مقابلة السيئة بالحسنة، والعفو عن المسيء.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} النحل (9) .
العدل: هو مقابلة الإساءة بالصفح.
هذه معاني الإحسان
…
وقد جمعها الله ليوسف عليه السلام فهو متصدق على المحتاج، ولو كان المحتاج مسيئاً إليه.
وكان يكثر الصيام - وهو على خزائن الأرض - فلما سئل عن ذلك قال: أخاف أن أشبع.. فأنسى الجائع.
وقد أحسن ضيافة إخوته مع ما كان منهم:
{أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} يوسف (59) .
وعندما رفعه الله على خزائن الأرض، كان مؤهله لهذا العمل الكبير
…
الحفظ، والعلم.
{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} يوسف (55)
ومنصب كهذا
…
هل يحتاج لغير أمينٍ على ما تحت يده، عليم بشئوون إدارته؟
لقد استطاع يوسف أن يجنب البلاد بلاء محققاً، وقحطاً قاتلاً.
بل تجاوز عطاؤه مصر، إلى ما يجاورها من البلاد.
وقد جاء إخوته من الشام يبحثون عن الطعام في مصر بعد أن ذاع أمره في الأقطار.
فأمدهم وأغناهم.
وهذا هو الإحسان بمعنى إتقان العمل.
* * *
ونموذج آخر لإتقانه العمل
…
!!
عندما جاء إخوته، ودخلوا عليه، عرفهم.
لكن عز المنصب، وطول مدة الفراق، وعدم خطور هذه الرفعة ليوسف ببالهم، وإتقانه لغة مصر القديمة، كل هذه العوامل جعلتهم ينكرونه:
{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} يوسف (58) وأي إنسان يدخل عليه
إخوته بعد غيبة طويلة يمكن أن ينهزم أمام العاطفة أو تتحرك جراحه القديمة.
ولكن يوسف ربط جأشه، وملك نفسه، وكتم مشاعره، وحفظ سره، حتى تمت خطته، وجمع أهله.
إن القرآن عندما يذكر هذا الأمر فإنه يربي الشخصية القيادية التي تصلح للأمور الكبيرة.
إن أضعف الناس من ينهزم أمام نفسه، ومن يضيق صدره بسره.
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه
فصدر الذي يستودع السر أضيق
ولكن يوسف عليه السلام أتقن الخطة، وأجاد التنفيذ.
ويكاتم الأسرار حتى أنه
…
ليصونها عن أن تمر بخاطره
هذا هو الإحسان
…
بمعنى إتقان العمل.
* * *
هشام: أعتقد أن رفض يوسف عليه السلام للخروج من السجن، بعد أن طلب الملك خروجه لون من ضبط النفس أيضاً..!!
الوالد: أحسنت
…
يا هشام.
لقد كرم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر في يوسف عليه السلام عندما قال النبي الكريم: (لو كنت مكان أخي يوسف لأجبت الداعي)(1) رواه مسلم.
هشام: إنه التواضع، والأدب المحمدي.
* * *
شيماء: بقي الإحسان بمعنى أن تعبد الله كأنك تراه.
الوالد: هذا واضح يا شيماء في قصة يوسف عليه السلام
(1) عندما أعجب الملك بذكاء يوسف، وتعبيره للرؤيا، أراد الملك أن يخرج يوسف من السجن تقديراً لذكائه، ولكن يوسف قال لرسول الملك:
{ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} يوسف (50)
ورجع الرسول، وأعاد الملك التحقيق في القضية، واعترفت امرأة العزيز {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} يوسف (51) عند ذلك قبل يوسف الخروج من السجن، ومقابلة الملك.
لقد استعصم أمام كل إغراء لامرأة العزيز.
وكان إيمانه أكبر من إصرارها.
والسجن أحب إليه من فتنتها.
إنه الإيمان "بعين اليقين": {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} الطلاق (3) .
هشام: صدق الله العظيم.
لقد جعل الله ليوسف خير مخرج، ورزقه الملك والنبوة وصدق القائل: - (إن الله ينبت الفَرج من بين أنياب الضيق) .
ولعل السر في ما أوجزه يوسف فقال: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} .
الوالد: اصنعي فنجاناً من القهوة
…
يا شيماء.
شيماء: لا تتحدث، حتى أعود يا أبي.
(تقدم شيماء القهوة)
هشام: عرفنا الإحسان بمعنى الصدقة، والإحسان بمعنى إتقان العمل، والإحسان بمعنى مراقبة الله، بقى الإحسان
…
بمعنى مقابلة السيئة بالحسنة.
الوالد: وهل هناك عفو عن المسيء يضاهي عفو يوسف عليه السلام -
عن إخوته، إلا ما كان من نبينا محمد عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة؟
إن يوسف عليه السلام عندما جمع الله له إخوته، ورفع أبويه على العرش
…
حمد الله، وذكر نعمه عليه فقال:{وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} يوسف (100)
لم يقبل يوسف أن يقول: وقد أحسن بي إذ أخرجني من البئر، حتى لا يعيد آلام الماضي إلى نفسه وإخوته.
هشام: لاحظت ايضاً أن أخوة يوسف عندما قالوا له: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} يوسف (91) .
أجابهم يوسف {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} يوسف (92) .
بينما نلاحظ أنهم عندما طلبوا من أبيهم الاستغفار لهم {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} يوسف (98)
لماذا قال يوسف {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} وقال أبوهم {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} .؟
الوالد: يا هشام
…
المسألة هنا تتعلق بحقوق العباد،
والتوبة من مظالم الناس تحتاج إلى تنازل صاحب الحق عن حقه، ويوسف هو صاحب الحق، فلابد أن يستأذنه أبوه، لذلك قال لهم أبوهم {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} بعد أن يتنازل يوسف عن حقه.
أما يوسف فقال لهم {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} لأن يوسف هو صاحب الحق، وقد تنازل فليس من باب المصادفة يا هشام أن يتكرر وصف يوسف بالإحسان خمس مرات في سورة واحدة؛ لأن يوسف جمع معاني الإحسان الأربعة كلها.
شيماء: كنت أتصور الإحسان هو الصدقة فقط.
الوالد: لو كان الإحسان بمعنى الصدقة فقط، لاختار القرآن كلمة أخرى في موضوع الوصية بالوالدين غير كلمة "إحساناً".
لأن ما يقدمه الابن لأبيه من ماله لا يعتبر صدقة عليه، بل هو كسب الأب وحقه، وعندما جاء شاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي والده الذي يأخذ ماله وينفقه على إخوته، قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:(أنت ومالك لأبيك) .
(ينظر الوالد في ساعته ويقول: الآن نتهيأ لصلاة المغرب) .
* * *
(وبعد الصلاة واصل الوالد الحديث)
تكررت كلمة الإحسان في وصية القرآن بالوالدين لتشمل أنواع الإحسان الأربعة.
1-
تقديم المساعدة المادية لهم.
2-
الأدب في معاملتهم.
3-
مراقبة الله في ودهم.
4-
العفو عن الأب لو أساء لأبنائه في صدر حياته، كأن أهمل تربيتهم، أو فضل أبناء الزوجة الأخرى عليهم، وجاءهم بعد ذلك كبير السن مريضاً.
كذلك الأم. يجب العفو عنها إن أحدثت في شبابها إساءة لأطفالها.
ثم احتاجت إليهم بعد ذلك؛ لأن الإحسان هو العفو عن من أساء.
والوالدان أحق الناس بالرحمة.
* * *
بعد غيبة طويلة عاد الأستاذ مكارم: إلى بيت الشيخ عارف.
ودار حوار طويل
عارف: كيف حال ولدك يا مكارم.
مكارم: الحمد لله.
تغيرت تصرفاته كثيراً، وأصبح حاله يُطمئن.
لقد نجاه الله. بعد أن كاد يضيع نتيجة لإيماني بنظرية (فرويد) الخاطئة.
جزاك الله خيراً، يا شيخ عارف.
عارف: نظرية (فرويد) جاءت نتيجة دراسة المرضى.
فخرج منها بهذه النظرية العابثة.
ولكن الله أكرمني فدرست مجموعة من الناس أصحاب المشاكل النفسية.
درستهم في المساجد والمدارس والجامعات.
ودرستهم في الفنادق، وميادين الحياة العامة
وفتحت بيتي لهم سنين طويلة.
وخرجت من تجربتي - مع الناس - بأن كل إنسان فيه خير.
أجل
…
كل إنسان فيه خير، يا أستاذ مكارم
ولا ينقص الإنسان سوى المربي البصير، الذي فيه هذا الخير.
إن ذرة خير واحدة لو تفجرت في قلب المسلم لملأت الكون سعادة.
وكل إنسان يا مكارم: فيه خير.
هذه حصيلة التجرية الطويلة - التي عشتها.
فعلينا أن نزرع الخير في حياة الناس.
أو ننمي ما فيهم من خير.
* * *
مكارم: كيف ذلك يا شيخ عارف.
عارف: أجعل من نفسك قدوة لهم فبذلك ينطبع الخير فيهم - إن شاء الله -.
مكارم: من منا يصلح اليوم أن يكون قدوة لأودلاده؟
لقد شغلتنا الحياة عن أنفسنا، وتنازعتنا المادة.
عارف: إذا فشلنا في رسم الأسوة بسلوكنا، فيمكن أن نقص لهم القصص - الذي يرسم لهم القدوة، ويشبع مخيلتهم.
فالشباب ميال بطبعه إلى تقليد العظماء.
والقصة تشبع فيهم هذه الرغبة.
مكارم: لكن فضيلتكم تعرف جيداً انحدار مستوى القصة - المعاصرة - عن هذا المستوى.
فلم تعد القصة أمينة على تجسيد الفضلية.
لعلك تقرأ، أو تشاهد الأفلام.
لقد ظهرت سلسلة من الأفلام تدافع عن "الساقطات" وتصورهم في صور الأبطال اللاتي يضحين من أجل أسرة فقيرة، أو مريض معذب، كأن الانحراف حتمية لا تتغير، ولا تستبدل.
وكأن أبواب العمل الشريف مغلقة في وجوه المحتاجين، أفلام تذبح الفضيلة.
لم تستجدي من المجتمع البكاء عليها.
فهل هذا الأفلام، أمينة على تأديب جيل؟ أو تجسيد الفضيلة له؟
عارف: أحسنت يا مكارم. وهذا والله صحيح.
لكن الفضلية لا تعدم رجلاً يُدافع عنها.
ومن فضل الله، أن القصة القرآنية هي مدرسة الفضلية الخالدة.
يا أستاذ مكارم.
كل فضيلة أخلاقية، خلفها قصة قرآنية، تجسدها وتنمي أثرها في النفس.
* * *
مكارم: أولادنا في فراغ.
فلم يصبح الأولاد ينعمون بتوجيهات آبائهم.
عارف: زرت في يوم إحدى الأسر الكبيرة، فسألني ابنهم:
الولد: لماذا يلعب المسلمون في أصابعهم بعد الصلاة:
عارف: إنهم يختمون الصلاة.
ويعدون التسبيح على أصابعهم.
ثم سألته:
كم تحفظ من القرآن؟
الولد: سورة "إلاهُكُم التكاثر"
عارف: بل التكاثر إلآهُك أنت:
السورة اسمها "ألهكم التكاثر""ألهاكم التكاثر""يضحك والده ويقول: إنه - والحمد لله - ذكي مثل خاله. فأزداد ألمي، على ما أصاب الإسلام من غُربة" في بلاده.
طالب على أبواب الجامعة، لا يعرف شيئاً عن ختام الصلاة.
ولا يحفظ من القرآن ما تصح به الصلاة.
وأبوه يحمد الله على ذكائه.
ماذا جرى للمسلمين يا مكارم.
لو جلس كل والد مع أولاده ساعة من الليل يعلمهم بعض جوانب الإسلام، لما عانينا من خطر الأميَّة الإسلامية. في بيوت المسلمين.
لقد أرشدتنا القصة القرآنية إلى إيجابية دور الآباء في تعليم الفضيلة لأولادهم.
فإبراهيم الخليل عليه السلام كان يوصي بنيه بذلك.
* * *
ووصية لقمان لابنه.
درس في التربية
…
فهي تربية في العقيدة. والعبادات، والأخلاق الاجتماعية.
فعن العقيدة. حكى القرآن قول لقمان:
{يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} نصيحة موجزة. مزودة بالدليل {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ثم حدثه عن مراقبة الله. مجسداً له علمه - سبحانه - مكرراً كلمة {يَا بُنَيَّ} التي تفيد الود والرحمة.
مكارم: تصوير رائع لشمول علم الله لكل شيء.
فإن الكواكب الكبيرة - في السموات - يغيب عنا رؤيتها والعلم بها.
أما علم الله، فيحيط بمثقال حبة من خردل مهما كانت!!
- سبحان الله -
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} غافر 19.
عارف: ثم بين له ما يلزم على الإيمان من عباده. سواء منها ما يتعلق بذات الله - بالصلاة - أو بالمجتمع المسلم، كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. ومعلوم أن الأرض لم تفرش بالورود تحت أقدم الدعاه، فكلمة الحق - في كل عصر - لها تكاليف يدفعها الدعاة.
لذلك طلب منه أن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر. ثم يصبر على ما أصابه نتيجة لإعلانه كلمة الحق.
قال تعالى على لسان لقمان:
{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} فالصبر من لوازم الدعاة.
* * *
ثم يبدأ بعد ذلك بتعليمه فن التعامل مع الجماعة.
وركز على خلق التواضع، وحسن معاملة الناس، ولين الجانب. وخفض الصوت، لأنه لا يخفض صوته في المناقشة إلا مُتمكن من حجته، حليم الطبع.
يا مكارم:.. الكِبْر مرض.. مهما كانت أسبابه.
والمتكبر، كرجل يقف على جبل، فينظر إلى الناس فيراهم صغاراً، وفي نفس الوقت ينظر إليه كل الناس فيرونه صغيراً.
قال تعالى:
فالقصة القرآنية تعالج أخلاق اليوم بتجارب الأمس الطويل.
وهي تؤكد إيجابية دور الأسرة في تربية الأولاد.
مكارم: هل مجرد رواية القصة أو النصيحة يمكن أن يغير سلوك الأبناء؟
عارف: لا يا مكارم.
منهج القصص القرآني أعمق من هذا بكثير.
فالقصة القرآنية تبحث عن سبب الداء، ثم تضع له العلاج.
وأحب أن تختار مرضاً نفسياً واحداً، وأعرض عليك منهج القرآن في علاجه، وذلك حتى يصبح الحوار موضوعياً.
مكارم: نفس موضوع الكبر - الذي تحدثنا فيه.
هشام: حان موعد صلاة العشاء يا أبي.
الوالد: نصلي ثم نُكمل الحديث - إن شاء الله -
مكارم: من يعتاد السجود، لا يتكبر.
عارف: وهل حكم القرآن على إبليس بالكبر إلا عندما امتنع عن السجود؟
قال تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} ؟ ص 75.
مكارم: سجدة واحدة امتنع عنها إبليس، فطرد من رحمة الله.
لست أدري ما مصير الذين لا يسجدون لله طول حياتهم، من الذين يسمعون "حي على الصلاة" فيقولون بلسان حالهم:
"سمعنا وعصينا"؟
عارف: الذي لا يسجد في الدنيا، سيسجد في الآخرة.
نسأل الله النجاة.
"يصلي الجميع، ثم يتناولون الطعام، وبعده، عاد الحوار
…
ليصلوا الحديث بعدما انقطع"
* * *
عارف: منهج القصة القرآنية في العلاج، هو تتبع أسباب الداء، ووضع العلاج لمرض اليوم، من خلال تجارب الأمس. فموضوع الكبر - مثلاً - ينشأ عن عدة أسباب.
1-
غرور العلم
2-
غرور الجاه
3-
غرور المال
4-
غرور النسب
وكل سبب من هذه الأسباب، وضعت القصة لها العلاج المناسب.
فعن الغرور بسبب العلم.
أكد القرآن أن العلم موزع على الناس جميعاً.
هو كنوز الشمس، لا نستطيع حجبه عن واحد:
قال تعالى:
{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} يوسف76
وقد عرض القرآن مشهداً رائعاً من حوار "الهدهد"
مع سليمان عليه السلام
والهدهد عندما يقف أمام سليمان، فإنه يقف أمام ملك نبي.
أعطاه الله ملكاًَ لم يعطه لأحد غيره.
قال تعالى:
فالجن، والإنس، والريح، والثروة المعدنية، كل هذا مسخر له.
هذا سليمان في ملك فريد، ونبوة عظيمة.
يقف أمامه "هدهد" ويقول له: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} .
النمل 24
مكارم: عظمة سليمان، إنه ضبط أعصابه - عندما قا له الهدهد {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} وناقشه في هدوء، ولم ينتقم منه.
* * *
عارف: هذا نموذج.
ونموذج آخر، ساقته القصة القرآنية في لقاء موسى مع العبد الصالح يؤكد أن العلم موزع على الجميع. فموسى كليم الله
…
{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} النساء - 164
واختاره من بني إسرائيل: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} طه 13
وأراه من آياته الكبرى: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} طه - 24
(1) القصة بتمامها في سورة النمل من آية 20 إلى آية 44
ومن قبل ذلك
…
رعاه الله في طفولته، واصطفاه لنفسه. وأيده بأخيه.
هذا النبي العظيم....
يقف أمام رجل آتاه الله من العلم ما لم يؤت موسى - النبي الكريم.
إنه مجرد عبد
…
وليس نبياً
…
ولا كليماً.
اختصه الله بشيء من العلم فوقف أمامه موسى - كليم الله ونبيه - وقال له:
ولكن موسى عليه السلام في تواضع النبوة، وحرص الفاهم، يكرر العرض، ويؤكد الوعد بالمشيئة.
{قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}
وأعلن العبد الصالح شروط المصاحبة.
{قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} الكهف - 70
ثم يتابع القرآن القصة - كما تعلمها - يا أستاذ مكارم:
…
المهم أن القرآن ساق النموذجين ليؤكد حقيقة ثابتة هي:
إن العلم موزع على الناس، بمقدار عطاء الله لهم {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} البقرة - 255
ومجموع علم البشر - في كل عصر - يساوي {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} الإسراء - 85
مكارم: أدب موسى مع العبد الصالح، يذكرني بقول الشاعر:
إن المعلم والطبيب كلاهما
…
لا ينصحان إذا هما لم يكرما
فاصبر لدائك إن جفوت طبيه
…
واصبر لجهلك إن جفوت معلماً.
عارف: أحسنت يا مكارم.
وليت تلاميذنا يعرفون حق الأستاذ.
مكارم: حضرت مناقشة جميلة بين أستاذ جامعي كبير، وبين ابنته - التي حصلت على الدكتواره حديثاً - ولم تزل تشعر بنشوتها -.
الأب: سوف تعيشين طالبة طوال عمرك، فالعلم لا حدود له.
وما يدركه المتخصصون من العلماء، يؤكد جهلهم بجوهر العلم نفسه.
فالذي غاب عنا - في مجال تخصصنا - أعظم مما علمناه بكثير.
يلحظ الدكتور العجوز ملامح الغضب على وجهها.
فيسكت قليلاً ثم يقول لها:
يا دكتوره أنا شخصياً مُعجب جداً بالطبعة الثانية من كتابك.
الدكتورة: لقد أضفت لها كثيراً، ونقحتها.
العجوز "يضحك" ويقول: هذا هو الدليل على أننا ندرك قشور الجوهر.
فكل طبعة "مزيدة
…
ومنقحة" "مزيدة
…
ومنقحة" وهذا يؤكد أن علماً جديداً كنا نجهله، وعلمناه بعد ذلك"
وكل اكتشاف علمي، معناه أننا نجهل، ونجهل الكثير.
وعندما تبلغين من السن ما بلغت، ستقولين مثل قولي.
فالعلم بحر، نحن طيور نشرب منه.
ومحال أن تتسع حواصلنا لمياه البحر كله.
والشاعر يقول:
فقل لمن يدعي بالعلم فلسفة
…
حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء
فالغرور بسبب العلم جهل قبيح.
* * *
مكارم: وماذا تقول القصة القرآنية، عن الغرور الناشئ
بسبب الجاه والسلطان؟
عارف: يكفي لمن يغتر بسلطانه، أن يقرأ قصة فرعون.
لقد أذله الله في حياته.. قبل أن يموت. ثم أخذه أخذ عزيز مقتدر.
هشام: أي ذل أصاب فرعون في حياته؟!
عارف: يا هشام
…
مر فرعون بمراحل ثلاث في حياته.
المرحلة الأولى:
كانت الرياح لصالحه.
فادعى أن الملك له، والناس عبيده، فقال:(يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) القصص 37
وكان يجمع الناس ويعلن فيهم ربوبيته - (فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) النازعات 24
وفي هذه المرحلة.
استخف قومه فأطاعوه، واستضعف طائفة منهم (يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ) القصص 4
ووضع سياسة التفرقة بين الناس، لتسهل قيادتهم.
(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا) القصص 4
والشعب عندما تتصدع وحدته، وتتفرق كلمته، يسهل على حاكم كفرعون أن يعبث به ففرقة الصف أمان للحاكم الظالم.
ومرت هذه المرحلة.
* * *
وجاءت المرحلة الثانية.
وانبهر سحرة فرعون بمعجزة موسى.
ودخل السحرة في دين الله أفواجا. قائلين للباطل في عنفوان قوته، وشدة بأسه:
انهزم فرعون
…
ولم تنهزم السحرة..
ولجأ فرعون إلى ما يلجأ إليه كل حاكم كافر مهزوم.
لجأ إلى الآلهة
…
واعترف بهم، بعد أن كان يرى
نفسه الإله الأعلى.
مكارم: أين كانت هذه الآلهة قبل ذلك؟!!
وكيف آمن بها فرعون؟
ألم يقل: أنا ربكم الأعلى؟
عارف: أنه إيمان المهزوم أمام نفسه، وأمام شعبه.
إيمان أراد به فرعون أن يستر خيبته، بعد الهزيمة.
وجاءت المرحلة الخاتمة.
ودفع القدر بفرعون إلى نهايته.
أعلن فرعون إيمانه.
ولكن هذا الإيمان، "كالصك المصرفي" الذي لا رصيد له.
{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} غافر 85
وهذه نهاية الظلم، والتكبر بسبب السلطان،
{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} الشعراء 227
* * *
مكارم: لعلك تذكر موضوع زوجتي.
لقد فتنتها المرآة..
وشغلتها عن واجباتها..
كما فتنها ثراء أسرتها، مع أنني لم أستفد من مالها سوى خراب بيتي،
وضياع أولادي.
عارف: أعجاب المرء بنفسه مرض.
ولو نظر الإنسان إلى داخله، ما اغتر بصورته.
يا مظهر الكبر إعجابا بصورته
…
أنظر "خلاءك إن النتن تقرب تثريب
لو فكر الناس فيما في بطونهم
…
ما استشعروا الكبر شبان ولا شيب
يا ابن التراب ومأكول التراب غدا.... أقصر فإنك مأكول ومشروب
فجمال الوجه مصيره التراب.
وما نجمعه من المال فللورثة.
ولو دامت المناصب لأصحابها ما وصلت إلينا.
وأنسابنا - وإن عظمت لا وزن لها عند الله.
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} .
كارم: أطلت عليك الجلوس.
ولا داعي لتقليب الماضي.
غفر الله لها.
"وإلى اللقاء مع الشيخ عارف"
في كتاب " هذه شريعة الله يا ولدي "