المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

سورة طه الآية - تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم - جـ ٦

[أبو السعود]

الفصل: سورة طه الآية

سورة طه الآية

ص: 48

‌124

- 128 {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى} أي عن الهدى الذاكرِ لي والداعي إليّ {فَإِنَّ لَهُ} في الدنيا {مَعِيشَةً ضَنكاً} ضيقاً مصدرٌ وصف به ولذلك يستوي فيه المذكرُ والمؤنثُ وقرئ ضنكى كسَكْرى وذلك لأن مجامعَ همتِه ومطامحَ نظرِه مقصورةٌ على أعراض الدنيا وهو متهالكٌ على ازديادها وخائف من انتقاصها بخلاف المؤمنِ الطالبِ للآخرة مع أنه قد يضيق الله بشؤم الكفر ويوسع ببركة الإيمان كما قال تعالى وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وقال تعالى وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمنوا واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء والارض وقوله تعالى وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب آمنوا إلى قوله تعالى لَاكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم وقيل هو الضَّريعُ والزقومُ في النار وقيل عذاب القبر {ونحشره} وقرئ بسكون الهاء على لفظ الوقف والجزمِ عطفاً على محل فإن له معيشةً ضنكاً لأنه جواب الشرط {يَوْمَ القيامة أعمى} فاقدَ البصر كما في قوله تعالى وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا لا أعمى عن الحجة كما قيل

ص: 48

{قَالَ} استئناف كما مر {رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً} أى في الدنيا وقرئ أعمى بالإمالة في الموضعين وفي الأول فقط لكونه جديراً بالتغيير لكونه رأسَ الآية ومحلَّ الوقف

ص: 48

{قَالَ كذلك} أي مثلَ ذلك فعلتَ أنت ثم فسره بقوله تعالى {أَتَتْكَ اياتنا} واضحةً نيِّرةً بحيث لا تخفى على أحد {فَنَسِيتَهَا} أي عَمِيتَ عنها وتركتها ترْكَ المنسيِّ الذي لا يُذكر أصلاً {وكذلك} ومثلَ ذلك النسيانِ الذي كنت فعلته في الدنيا {اليوم تنسى} تترك في العمى والعذاب جزاءً وفاقاً لكن لا أبداً كما قيل بل إلى ما شاء الله ثم يزيله عنه فيرى أهوالَ القيامة ويشاهد مقعدَه من النار ويكون ذلك له عذاباً فوق العذاب وكذا البَكَم والصمَمُ يزيلهما الله تعالى عنهم أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا

ص: 48

{وكذلك} أي مثلَ ذلك الجزاءِ الموافقِ للجناية {نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ} بالانهماك في الشهوات {ولم يؤمن بآيات رَبّهِ} بل كذبها وأعرض عنها {وَلَعَذَابُ الأخرة} على الإطلاق أو عذابُ النار {أَشَدُّ وأبقى} أي من ضنْك العيشِ أو منه ومن الحشر على العمى

ص: 48

{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لتقرير ما قبله من قوله تعالى وكذلك نجزي الآية والهمزةُ للإنكار التوبيخي والفاءُ للعطف على مقدر يقتضيه المقام واستعمالُ الهداية باللام إما لتنزيلها منزلةَ اللام فلا حاجة

ص: 48

سورة طه الآية 129 إلى المفعول أو لأنها بمعنى التبيينِ والمفعولُ محذوف وأياً ما كان فالفاعلُ هو الجملة بمنصوبها ومعناها وضمير لهم للمشركين المعاصرين لرسوله الله صلى الله عليه وسلم والمعنى أغَفلوا فلم يَفعل الهدايةَ لهم أو فلم يبيَّن لهم مآلُ أمرِهم كثرة أهلا كنا للقرون الأولى وقد مرَّ في قولِه عز وجل أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَا الآية وقيل الفاعلُ الضميرُ العائد إلى الله عز وجل ويؤيده القراءةُ بنون العظمة وقوله تعالى كَمْ أَهْلَكْنَا الخ إما معلِّقٌ للفعل سادٌّ مسدَّ مفعولِه أو مفسّرٌ لمفعوله المحذوف هكذا قيل والأوجهُ أن لا يلاحظ له مفعولٌ كأنه قيل أفلم يفعلِ الله تعالى لهم الهدايةَ ثم قيل بطريق الالتفاتِ كم أهلكنا الخ بياناً لتلك الهدايةِ ومن القرون في محل النصب على أنه وصفٌ لممُيِّزِكَم أي كم قرناً كائناً من القرون وقوله تعالى {يَمْشُونَ فِى مساكنهم} حالٌ من القرون أو من مفعول أهلكْنا أي أهلكناهم وهم في حال أمنٍ وتقلّبٍ في ديارهم أو من الضميرِ في لهم مؤكدٌ للإنكار والعاملُ يهد والمعنى أفلم يهد لهم إهلا كنا للقرون السالفة من أصحاب الحِجْر وثمودَ وقُريّات قوم لوطٍ حالَ كونهم ماشين في مساكنهم إذا سافروا إلى الشام مشاهدين لآثار هلاكِهم مع أن ذلك مما يوجب أن يهتدوا إلى الحق فيعتبروا لئلا يحِل بهم مثلُ ما حل بأولئك وقرىء يُمْشَوْن على البناء للمفعول أي يمكنون من المشي {إِنَّ فِى ذَلِكَ} تعليلٌ للإنكار وتقريرٌ للهداية مع عدم اهتدائِهم وذلك إشارةٌ إلى مضمون قوله تعالى كَمْ أَهْلَكْنَا الخ وما فيه من معنى البُعد للإشعار ببُعْد منزلتِه وعلوِّ شأنه في بابه {لَايَاتٍ} كثيرةً عظيمةً واضحاتِ الهداية ظاهراتِ الدِلالة على الحق فإذن هو هادوا إيما هادٍ ويجوز أن تكون كلمةُ في تجريدية فافهم {لأُوْلِى النهى} لذوي العقولِ الناهيةِ عن القبائح التي من أقبحها ما يتعاطاه كفارُ مكّة من الكفر بآياتِ الله تعالى والتعامي عنها وغيرِ ذلك من فنون المعاصي وفيه دلالةٌ على أن مضمونَ الجملة هو الفاعلُ لا المفعول وقوله تعالَى

ص: 49

{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ} كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان حِكمة عدمِ وقوعِ ما يُشعر به قوله تعالى أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ الآية من أنْ يصيبَهم مثلُ ما أصاب القرونَ المهلَكة أي ولولا الكلمةُ السابقةُ وهي العِدَةُ بتأخير عذابِ هذه الأمةِ إلى الآخرة لحكمة تقتضيه ومصلحةٍ تستدعيه {لَكَانَ} عقابُ جناياتِهم {لِزَاماً} أي لازماً لهؤلاء الكفرةِ بحيث لا يتأخر عن جناياتهم ساعةً لزومُ ما نزل بأولئك العابرين وفي التعرض لعنواب الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام تلويحٌ بان ذلك لتأخير لتشريفه عليه السلام كما ينبىء عنه قوله تعالى وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ واللِّزامُ إما مصدرٌ لازمٌ وُصِف به مبالغةً وإما فِعالٌ بمعنى مِفْعل جُعل آلةَ اللزوم لفَرْط لزومه كما يقال لِزازُ خصم {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} عطفٌ على كلمةٌ أي ولولا أَجَلٍ مسمًّى لأعمارهم أو لعذابهم وهو يومُ القيامة ويومُ بدر لما تأخر عذابُهم أصلاً وفصلُه عما عطف عليه للمسارعة إلى بيان جوابِ لولا وللإشعار باستقلال كلَ منهما بنفي لزومِ العذابِ ومراعاةِ فواصل الآي الكريمةِ وقد جوّز عطفُه على المستكن في كان العائدِ إلى الأخذ العاجلِ المفهومِ من السياق تنزيلاً للفصل بالخبر منزلةَ التأكيد أي لكان الأخذُ العاجلُ وأجلٌ مسمى لازمَين لهم كدأب عاد وثمود

ص: 49

سورة طه الآية 130 131 وأضرابِهم ولم ينفرد الأجلُ المسمى دون الأخذِ العاجل

ص: 50

{فاصبر على مَا يَقُولُونَ} أي إذا كان الأمر على ما ذكر من أن تأخيرَ عذابِهم ليس بإهمال بل إمهالٍ وأنه لازمٌ لهم البتةَ فاصبِرْ على مَا يَقُولُونَ من كلمات الكفرِ فإن علمه عليه السلام بأنهم معذبون لا محالة مما يسلّيه ويحمِلُه على الصبر {وَسَبّحْ} ملتبساً {بِحَمْدِ رَبّكَ} أي صلِّ وأنت حامدٌ لربك الذي يبلّغك إلى كمالك على هدايته وتوفيقِه أو نزهه تعالى عما ينسوبه إليه مما لا يليق بشأنه الرفيعِ حامداً له على ما ميّزك بالهدى معترفاً بأنه مولى النّعم كلِّها والأولُ هو الأظهرُ المناسبُ لقوله تعالى {قَبْلَ طُلُوعِ الشمس} الخ فإن توقيت التنزيه غيرُ معهودٍ فالمرادُ صلاة الفجر {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} يعني صلاتي الظهرِ والعصر لأنهما قبل غروبِها بعد زوالها وجمعها لمناسبة قوله تعالى قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ صلاة العصر {ومن آناء الليل} أي من ساعاته جمع إِنًى بالكسر والقصر وآناء بالفتح والمد {فَسَبّحْ} أي فصلِّ والمرادُ به المغربُ والعشاء وتقديم الوقت فيهما لاختصاصهما بمزيد الفضلِ فإن القلبَ فيهما أجمعُ والنفسَ إلى الاستراحة أميلُ فتكون العبادةُ فيهما أشقَّ ولذلك قال تعالى إن ناشئة الليل هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً {وَأَطْرَافَ النهار} تكريرٌ لصلاة الفجر والمغرِب إيذاناً باختصاصهما بمزيد مزيةٍ ومجيئُه بلفظ الجمع لأمن من الإلباس كقول من قال ظَهراهما مثلُ ظهورِ التُّرسين أو أمرٌ بصلاة الظهر فإنه نهايةُ النصفِ الأول من النهار وبدايةُ النصف الأخيرِ وجمعُه باعتبار النصفين أو لأن النهارَ جنسٌ أو أمرٌ بالتطوع في أجزاء النهار {لَعَلَّكَ ترضى} متعلق بسبح أي سبح في هذه الأوقات رجاءَ أن تنال عنده تعالى ما ترضَى به نفسُك وقرىء تُرضَى على صيغة البناء للمفعول من أرضى أي يُرضيك ربك

ص: 50

{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} أي لا تطل نظر هما بطريق الرغبة والميل {إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} من زخارف الدنيا وقوله تعالى {أزواجا منهم} أي أصناما من الكَفَرة مفعول متّعنا قُدِّم عليه الجارُّ والمجرورُ للاعتناء به أو هو حالٌ من الضميرِ والمفعولُ منهم أي إلى الذي متعنا به وهو أصنافُ وأنواعُ بعضِهم على أنه معنى من التبعيضة أو بعضاً منهم على حذف الموصوفِ كما مر مراراً {زَهْرَةَ الحياة الدنيا} منصوبٌ بمحذوف يدل عليه متعنا أي أعطينا أو به على تضمين معناه أو بالبدلية من محل به اومن أزواجاً بتقدير مضافٍ أو بدونه أو بالذم وهي الزينةُ والبهجةُ وقرىء زهَرةَ بفتح الهاء وهي لغة كالجهَرة في الجهْرة أو جمعُ زاهر وصفٌ لهم بأنهم زاهر والدنيا لتنعُّمهم وبهاءِ زِيِّهم بخلاف ما عليه المؤمنون الزهّاد {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} متعلقٌ بمتعنا جيء به للتنفير عنه ببيان سوءِ عاقبتِه مآلاً إثرَ إظهارِ بهجتِه حالاً أي لنعاملهم معاملةَ من يبتليهم ويختبرُهم فيه أو لنعذّبهم في الآخرة بسببه {وَرِزْقُ رَبّكَ} أي ما ادخّر لك في الآخرة أو ما رزقك في الدنيا من النبوة والهدى {خَيْرٌ} مما منحهم في الدنيا لأنه مع كونه

ص: 50

سورة طه الآية 132 134 في نفسه أجلَّ ما يتنافس فيه المتنافسون مأمونُ الغائلةِ بخلاف ما منحوه {وأبقى} فإنه لا يكاد ينقطع نفْسُه أو أثرُه أبداً كما عليه زهرة الدينا

ص: 51

{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة} أُمر صلى الله عليه وسلم بأن يأمر أهلَ بيته أو التابعين له من أمته بالصلاة بعد ما أُمر هو بها ليتعاونوا على الاستعانة على خَصاصتهم ولا يهتموا بأمر المعيشة ولا يلتفتوا لفتَ أربابِ الثروة {واصطبر عَلَيْهَا} وثابرْ عليها غيرَ غيرَ مشتغلٍ بأمر المعاش {لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً} أي لا نكلّفك أن ترزُقَ نفسَك ولا أهلَك {نَّحْنُ نَرْزُقُكَ} وإياهم ففرِّغْ بالَك بأمر الآخرة {والعاقبة} الحميدةُ {للتقوى} أي لأهل التقوى على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامَه تنبيهاً على أن مَلاك الأمرِ هو التقوى روي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب أهلَه ضُرٌّ أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية

ص: 51

{وقالوا لولا يأتينا بآية مّن رَّبّهِ} حكايةٌ لبعضٍ أقاويلهم الباطلةِ التي أُمر صلى الله عليه وسلم بالصبر عليها أي هلا يأتينا بآية تدل على صدقة في دعوى النبوةِ أو أية مما اقترحوها بلغوا من المكابرة والعِناد إلى حيث لم يعُدّوا ما شاهدوا من المعجزات التي تخِرُّ لها صُمُّ الجبال من قَبيل الآيات حتى اجترءوا على التفوُّه بهذه العظيمةِ الشنعاء وقوله تعالى {أَوَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَةُ مَا فِى الصحف الأولى} أي التوراةُ والإنجيلُ وسائرُ الكتبِ السماوية ردمن جهته عزوعلا لمقالتهم القبيحةِ وتكذيبٌ لهم دسوا تحتها من إنكار إتيان الآية بإتيان القرآنِ الكريم الذي هو أمُّ الآياتِ وأس المعجزات وأعظمها فيما وأبقاها لأن حقيقةَ المعجزةِ اختصاصُ مدّعي النبوة بنوع من الأمور الخارقةِ للعادات أيِّ أمرٍ كان ولا ريب في أن العلمُ أجلُّ الأمور وأعلاها إذ هو أصلُ الأعمال ومبدأَ الأفعالِ ولقد ظهر مع حيازته لجميع علومِ الأولين والآخرين على يد أميَ لم يمارس شيئاً من العلوم ولم يدارس أحداً من أهلها أصلاً فأيُّ معجزة تُراد بعدَ ورودِه وأيُّ آية ترام مع وجوده وفي إيراده بعنوان كونه بينة لما في الصحف الأولى من التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية أي شاهداً بحقية ما فيها من العقائد الحقةِ وأصولِ الأحكام التي أجمعت عليها كافةُ الرسل وبصحة ما تنطِقُ به من أنباء الأمم من حيث أنه غنيٌّ بإعجازه عما يشهد بحقّيته حقيقٌ بإثبات حقية غيره مالا يخفى من تنويه شأنِه وإنارة برهانِه ومزيدُ تقريرٍ وتحقيقٍ لإتيانه وإسنادُ الإتيان إليه مع جعلهم إياه مأتياً به للتنبيه على أصالته فيه مع ما فيه من المناسبة للبينة والهمزةُ لإنكار الوقوعِ والواوُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيه المقامُ كأنه قيلَ ألم تأتهم سائرُ الآياتِ ولم تأتهم خاصةً بينةُ ما في الصحف الأولى تقريرا لإ تيانه وإيذانا بانه من الوضوح بحيث لا يتأتى منهم إنكارُه أصلاً وإن اجترءوا على إنكار سائر الآياتِ مكابرة وعنادا وقرىء أو لم يأتهم بالياء التحتانية وقرىء الصُّحْفِ بالسكون تخفيفاً وقوله تعالى

ص: 51

إلى آخر الآية جملةٌ مستأنفةٌ سيقت لتقرير ما قبلها من كون القرآن آيةً بينةً لا يمكن إنكارُها ببيان أنهم يعترفون بها يوم القيامة والمعنى لو أنا أهلكناهم في الدينا بعذاب مستأصِل {مِن قَبْلِهِ} متعلقٌ بأهلكنا أو بمحذوف هو صفةٌ لعذاب أي بعذاب كائنٍ من قبل إتيان البينة أو من قبل محمدٍ صلى الله عليه وسلم {لَقَالُواْ} أي يوم القيامة {رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا} في الدنيا {رَسُولاً} مع كتاب {فنتبع آياتك} التي جاءنا بها {مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ} بالعذاب في الدنيا {ونخزى} بدخول النار اليوم اليوم ولكنا لم نُهلكهم قبل إتيانِها فانقطعت معذِرتُهم فعند ذلك قالوا بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَىْء

ص: 52

{قُلْ} لأولئك الكفرة المتمردين {كُلٌّ} أي كلُّ واحدٍ منا ومنكم {مُّتَرَبّصٌ} منتظِرٌ لما يؤول إليه أمرُنا وأمرُكم {فَتَرَبَّصُواْ} وقرىء فتمتعوا {فَسَتَعْلَمُونَ} عن قريب {مَنْ أصحاب الصراط السوي} أي المستقيمِ وقرىء السواءِ أي الوسطِ الجيد وقرىء السوءِ والسوءى والسُّوَي تصغيرُ السوء {وَمَنِ اهتدى} من الضلالة ومَنْ في الموضعين استفهاميةٌ محلُّها الرفع بالابتداء خبرها وما بعدها والجملةُ سادّةٌ مسدَّ مفعوليْ العلم أو مفعولِه ويجوز كونُ الثانية موصولةً بخلاف الأولى لعدم العائد فتكون معطوفةً على محل الجملةِ الاستفهامية المعلَّقِ عنها الفعلُ على أن العلم بمعنى المعرفة أو على أصحاب أو على الصراط وقيل العائدُ في الأولى محذوفٌ والتقديرُ من هم أصحابُ الصراط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ سورة طه أُعطِيَ يوم القيامة ثوابَ المهاجرين والأنصار وقال لا يقرأ أهلُ الجنة من القرآن إلا سورة طه ويس

ص: 52

سورة الأنبياء الآية {

سورة الأنبياء مكية وآياتها مائة وإثنتا عشرة آية

1 -

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}

ص: 53

{اقترب لِلنَّاسِ حسابهم} مناسبةُ هذه الفاتحةِ الكريمة لما قبلها من الخاتمة الشريفة غنيةٌ عن البيان قال ابن عباس رضي الله عنهما المرادُ بالناس المشركون وهو الذي يُفصح عنه ما بعده والمرادُ باقتراب حسابِهم اقترابُه في ضمن اقترابِ الساعةِ وإسنادُ الاقترابِ إليه لا إلى الساعة مع استتباعها له ولسائر ما فيها من الأحوال والأهوال الفظيعة لانسياق الكلامِ إلى بيان غفلتِهم عنه وإعراضِهم عما يذكّرهم ذلك واللامُ متعلقةٌ بالفعل وتقديمُها على الفاعل للمسارعة إلى إدخال الروعةِ فإن نسبةَ الاقتراب إليهم من أول الأمر مما يسوؤهم ويُورثهم رَهبةً وانزعاجاً من المقترِب كما أن تقديمُ الجارِّ والمجرور على المفعول الصريحِ في قولِه تعالى هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض لتعجيل المسرّة لما أن بيانَ كونِ الخلق لأجل المخاطَبين مما يسرّهم ويزيدهم رغبةً فيما خُلق لهم وشوقاً إليه وجعلها تأكيداً للإضافة على أن الأصلَ المتعارفَ فيما بين الأوساط اقترب حسابُ الناس ثم اقترب للناس الحسابُ ثم اقترب للناس حسابُهم مع أنه تعسفٌ تامٌّ بمعزل عما يقتضيه المقامُ وإنَّما الذي يستدعيه حسنُ النظام ما قدمناه والمعنى دنا منهم حسابُ أعمالِهم السيئةِ الموجبة للعقاب وفي إسناد الاقترابِ المنبىءِ عن التوجه نحوَهم إلى الحساب مع إمكان العكس بأن يُعتبرَ التوجّهُ والإقبالُ من جهتهم نحوه من تفخيم شأنِه وتهويلِ أمره مالا يخفى لما فيه من تصويره بصورة شيءٍ مقبلٍ عليهم لا يزال يطالبهم ويصيبهم لا محالة ومعنى اقترابِه لهم تقارُبُه ودُنوُّه منهم بعدَ بُعدِه عنهم فإنه في كل ساعة من ساعات الزمان أقربُ إليهم منه في الساعة السابقة هذا وأما الاعتذارُ بأن قربَه بالإضافة إلى ما مضى من الزمان أو بالنسبة إلى الله عزوجل أو باعتبار أن كلَّ آتٍ قريبٌ فلا تعلّقَ له بما نحن فيه من الاقتراب المستفادِ من صيغة الماضي ولا حاجة إليه في تحقيق أصلِ معناه نعم قد يفهم عنه عُرفاً كونُه قريباً في نفسه أيضاً فيصار حينئذ إلى التوجيه بالوجه الأولِ دون الأخرين أما الثاني فلا سبيلَ إلى اعتباره ههنا لأن قربَه بالنسبة إليه تعالى مما لا يُتصور فيه التجددُ والتفاوتُ حتماً وإنما اعتبارُه في قوله تعالى لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ ونظائرِه مما لا دَلالةَ فيه على الحدوث وأما الثالثُ فلا دلالةَ فيه على الحدوث وأما الثالثُ فلا دلالةَ فيه على القرب حقيقةً ولو بالنسبة إلى شيء آخر {وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ} أي في غفلة تامةٍ منه ساهون عنه بالمرة لا أنهم غيرُ مبالين به مع اعترافهم بإتيانه بل منكرون له كافرون به مع اقتضاء عقولِهم أن الأعمالَ لا بد لها من الجزاء {مُّعْرِضُونَ} أي عن الآيات والنذرُ المنبّهة لهم عن سِنَة الغفلة وهما خبران للضمير وحيث كانت

ص: 53

سورة الأنبياء الآية 2 3 الغفلةُ أمراً جِبِلّياً لهم جُعل الخبرُ الأول ظرفاً منبئاً عن الاستقرار بخلاف الإعراض والجملةُ حالٌ من الناس وقد جُوّز كونُ الظرف حالاً من المستكنِّ في معرضون

ص: 54

{مَا يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ} من طائفة نازلة من القرآن تذكّرهم ذلك أكملَ تذكير وتنبههم عن الغفلة أتم تنبيه كأنها نفس الذكر ومِنْ في قولِه تعالَى {مّن رَّبّهِمُ} لابتداء الغايةِ مجازا متعلقةٌ بيأتيهم أو بمحذوف هو صفة لذكر وأياما كان ففيه دلالة على فضله وشرفِه وكمالِ شناعةِ ما فعلوا به والتعرضُ لعنوان الربوبية لتشديد التشنيع {مُّحْدَثٍ} بالجر صفةٌ لذكر وقرىء بالرفع حملاً على محلّه أي محدَثٌ تنزيلُه بحسب اقتضاءِ الحكمةِ وقوله تعالى {إِلَاّ استمعوه} استثناءٌ مفرغ محلُّه النصبُ على أنَّهُ حال من مفعول يأتيهم بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور وقوله تعالى {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} حالٌ من فاعل استمعوه وقوله تعالى

ص: 54

{لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} إما حالٌ أخرى منه اومن واو يلعبون والمعنى ما يأتيهم ذِكْرٍ من رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ في حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ استماعِهم إياه لاعبين مستهزئين به لاهين عنه أو لاعبين به حالَ كون قلوبِهم لاهيةً عنه لتناهي غفلتِهم وفرْطِ إعراضِهم عن النظر في الأمور والتفكرِ في العواقب وقرىء لاهية بالفرع على أنه خبرٌ بعدَ خبر {وَأَسَرُّواْ النجوى} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ جناياتهم خاصة إثرَ حكايةِ جناياتهم المعتادة والنجوى اسمٌ من التناجي ومعنى إسرارِها مع أنها لا تكون إلا سرًّا أنهم بالغوا في إخفائها أوأسروا نفسَ التناجي بحيث لم يشعُر أحدٌ بأنهم متناجون وقوله تعالى {الذين ظَلَمُواْ} بدلٌ من واو أسروا منبىء عن كونهم موصوفين بالظلم الفاحش فيما أسروا به أو هو مبتدأٌ خبرُه أسروا النجوى قُدّم عليه اهتماما به والمعنى هم أسرّوا النجوى فوُضِع الموصولُ موضعَ الضمير تسجيلاً على فعلهم بكونه ظلماً أو منصوبٌ على الذمِّ وقوله تعالى {هَلْ هذا إِلَاّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} الخ في حيز النصبِ على أنه مفعولٌ لقول مضمرٍ هو جواب عن سؤال نشأ عما قبله كأنه قيل ماذا قالوا في نجواهم فقيل قالوا هل هذا الخ أو بدلٌ من أسرّوا أو معطوفٌ عليه أو على أنه بدلٌ من النجوى أي أسروا هذا الحديثَ وهل بمعنى النفي والهمزة في قوله تعالى {أَفَتَأْتُونَ السحر} للإنكار والفاء للعطب على مقدر يقتضيه المقام وقوله تعالى {وأنتم تبصرون} حال من فاعل تأتون مقرِّرة للإنكار ومؤكدةٌ للاستبعاد والمعنى ما هذا إلا بشرٌ مثلُكم أي من جنسكم وما أتى به سحرٌ أتعلمون ذلك فتأتونه وتحضُرونه على وجه الإذعان والقَبول وأنتم تعاينون أنه سحر قالوه بناءً على ما ارتكز في اعتقادهم الزائغِ أن الرسولَ لا يكونُ إلا ملَكاً وأن كل ما يظهر على يد البشر من الخوارق من قبيل السحر وزل عنهم أن ارسال البشر إلى عامة البشر هو الذي تقتضيه الحكمةُ التشريهية قاتلهم الله أنَّي يُؤفكون وإنما أسروا ذلك لأنه كان على طريق توثيقِ العهدِ وترتيب مبادي الشرِّ والفساد وتمهيدِ مقدمات المكرِ والكيد في هدم أمرِ النبوة وإطفاءِ نورِ الدين والله

ص: 54

سورة الأنبياء الآية 4 6 متمٌّ نورَه ولو كره الكافرون

ص: 55

(قَالَ رَبّى يَعْلَمُ القول فِى السماء والأرض) حكايةٌ منْ جهتِه تعالَى لما قله عليه السلام بعد ما أوحى إليه أحوالَهم وأقوالَهم بياناً لظهور أمرِهم وانكشافِ سرِّهم وإيثارُ القول المنتظمِ للسر والجهر على السر لإثبات علمه تعالى بالسر على النهج البرهانى مع ما فيه من الإيذان بأن علمه تعالى بالسر والجهر على وتيرة واحدة لا تفاوتَ بينهما بالجلاء والخفاء قطعاً كما في علوم الخلقِ وقرىء قل ربي الخ وقوله تعالى فِى السماء والأرض متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من القول أي كائناً في السماء والأرض وقوله تعالى {وَهُوَ السميع العليم} أي المبالغُ في العلم بالمسموعات والمعلومات التي من جملتها ما أسروه من النجوى فيجازيهم بأقوالهم وأفعالهم اعتراضٌ تذييلي مقرر لمضمون ما قبله متضمنٌ للوعيد

ص: 55

(بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلَامٍ) إضرابٌ من جهته تعالى وانتقال من حكاية قولهم السابق الى حكاية قول آخرَ مضطربٍ في مسالك البطلان أي لم يقتصرُوا على أن يقولوا في حقه عليه السلام هل هذا إلا بشرٌ وفي حق ما ظهر على يده من القرآن الكريم إنه سحرٌ بل قالوا تخاليطُ الأحلام ثم أضربوا عنه فقالوا (بَلِ افتراه) من تلقاء نفسِه من غير أن يكون له أصلٌ أو شبه أصلٍ ثم قالوا (بَلْ هُوَ شَاعِرٌ) وما أتى به شعرٌ يُخيّل إلى السامع معانيَ لا حقيقة لها وهكذا شأنُ المبطِلِ المحجوج متحير لايزال يتردد بين باطلٍ وأبطلَ ويتذبذب بين فاسد وأفسدَ فالإضرابُ الأول كما ترى من جهته تعالى والثاني والثالث من قبلهم وقد قيل الكلُّ من قبلهم حيث أضربوا عن قولهم هو سحرٌ إلى أنه تخاليطُ أحلام ثم إلى أنه كلامٌ مفترًى ثم إلى أنه قولُ شاعر ولا ريب في أنه كان ينبغى حينئذ بأن قال قالوا بل أضغاثُ أحلامٍ والاعتذارُ بأن بل قالوا مقولٌ لقالوا المضمرِ قبل قوله تعالى هَلْ هذا إِلَاّ بَشَرٌ الخ كأنه قيل وأسرو النجوى قالوا هل هذا إلى قوله بل أضغاثُ أحلام وإنما صرح بقالوا بعدبل لبُعْد العهد مما يجب ننزيه ساحة التنزيل عن أمثاله (فَلْيَأتِنا بِآيَة) جوابُ شرطٍ محذوفٍ يفصح عنه السياقُ كأنه قيل وإن لم يكن كما قلنا بل كان رسولاً من الله تعالى فليأتنا بآية (كَمَا أُرْسِلَ الأولون) أي مثلَ الآية التي أرسل بها الأولون كا ليد والعصا ونظائرِهما حتى نؤمن به فما موصولةٌ ومحلُّ الكاف الجرُّ على أنها صفةٌ لآية ويجوز أن تكون مصدرية فالكافُ منصوبةٌ على أنها مصدرٌ تشبيهيٌّ أي نعت لمصدر محذوف أي فليأتنا بآية إتياناً كائناً مثلَ إرسالِ الأولين بها وصِحّةُ التشبيه من حيث إن الإتيانَ بالآية من فروع الإرسالِ بها ألى مثلَ إتيانٍ مترتبٍ على الإرسال ويجوز أن يحمل النظمُ الكريمُ على أنه أريد كلُّ واحد من الإتيان والإرسال في كلِّ واحدٍ من طرفي التشبيه لكنه تُرك في جانب المشبّه ذكرُ الإرسال وفي جانب المشبَّه به ذكرُ الإتيانِ اكتفاءً بما ذكر في كل موطنٍ عما تُرك في الموطن الآخر حسبما مر في آخر سورة يونس عليه السلام

ص: 55

(ما آمنت قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَةٍ) كلامٌ مستأنفٌ مَسوق لتكذيبهم فيما تنبىء عنه خاتمةُ مقالهم من الوعد

ص: 55

الضمنيّ بالإيمان كما أشير إليه وبيانِ أنهم في اقتراح تلك الآياتِ كالباحث عن حَتْفه بظِلْفه وأن في ترك الإجابة إليه إبقاءً عليهم كيف لا ولو أُعطوا ما اقترحوا مع عدم إيمانهم قطعاً لوجب استئصالُهم لجريان سنةِ الله عزوجل في الأمم السالفة على أن المقترحين إذا أُعطوا ما اقترحوه ثم لم يؤمنوا نزل بهم عذابُ الاستئصال لا محالة وقد سبقت كلمةُ الحق منه تعالى أن هذه الأمةَ لا يعذبون بعذاب الاستئصالِ فقوله من قرية أي من أهل قرية في محلِ الرفعِ على الفاعلية ومن مزيدةٌ لتأكيد العمومِ وقوله تعالى {أهلكناها} أي بإهلاك أهلِها لعدم إيمانِهم بعد مجيءِ ما اقترحوه من الآيات صفةٌ لقرية والهمزة في قوله تعالى {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} لإنكار الوقوعِ والفاء للعطف إما على مقدر دخلتْه الهمزةُ فأفادت إنكارَ وقوعِ إيمانِهم ونفيَه عقيب عدمِ إيمان الأولين فالمعنى أنه لم تؤمنْ أمةٌ من الأمم المهلَكة عند إعطاء ما اتقرحوه من الآيات أهم لم يؤمنوا فهؤلاء يؤمنون لو أجيبوا إلى ما سألوا وأعطوا ما اقترحوا مع كونهم أعنى منهم وأطغى وإما على ما آمنت على أن الفاء متقدمةٌ على الهمزة في الاعتبار مفيدةٌ لترتيب إنكارِ وقوعِ إيمانِهم على عدم إيمانِ الأولين وإنما قُدّمت عليها الهمزةُ لاقتضائِها الصدارةَ كما هو رأي الجمهور وقولُه عزَّ وجلَّ

ص: 56

{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَاّ رِجَالاً} جوابٌ لقولهم هل هذا إلا بشر الخ متضمنٌ لردّ ما دسّوا تحت قولهم كما أُرسل الأولون من التعرض بعدم كونِه عليه السلام مثلَ أولئك الرسلِ صلواتُ الله تعالَى عليهم أجمعينَ ولذلك قُدّم عليه جوابُ قولهم فليأتنا بآية ولأنهم قالوا ذلك بطريق التعجيزِ فلا بد من المسارعة إلى رده وإبطالِه كما مرَّ في تفسيرِ قولِه تعالى قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ وقوله تعالى مَا نُنَزّلُ الملائكة إِلَاّ بالحق وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ ولأن في هذا الجواب نوعَ بسطٍ يُخلُّ تقديمُه بتجاوب أطراف النظم الكريم والحقُّ أن ما اتخذوه سبباً للتكذيب موجبٌ للتصديق في الحقيقة لأن مقتضى الحكمةِ أن يُرسلَ إلى البشر البشرُ وإلى الملَك الملَكُ حسبما ينطِق به قوله تعالى قُل لَوْ كَانَ فِى الارض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً فإن عامةَ البشر بمعزل من استحقاق المفاوضةِ الملَكية لتوقّفها على التناسب بين المُفيض والمستفيض فبعثُ الملَكِ إليهم مزاحِمٌ للحكمة التي عليها يدورُ فلكُ التكوينِ والتشريع وإنما الذي تقتضيه الحكمةُ أن يبعث الملكُ منهم إلى الخواص المختصين بالنفوس الزكية المؤيَّدين بالقوة القدسية المتعلّقين بكلا العالمين الروحاني والجسماني ليتلقَّوا من جانب ويُلْقوا إلى جانب آخرَ وقوله تعالى {نوحي إليهم} اسئناف مبينٌ لكيفية الإرسالِ وصيغةُ المضارعِ لحكايةِ الحالِ الماضية المستمرةِ وحُذف المفعولُ لعدم القصدِ إلى خصوصه والمعنى وما أرسلنا إلى الأمم قبلَ إرسالك إلى أمتك إلا رجالاً مخصوصين من أفراد الجنسِ مستأهلين للاصطفاء والإرسال نوحي إليهم بواسطة الملَك ما نوحي من الشرائع والأحكام وغيرهما من القصص والأخبار كما نوحي إليك من غير فرقٍ بينهما في حقيقة الوحي وحقية مدلولِه حسبما يَحكيه قوله تعالى إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ والنبيين إلى قوله تعالى وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً كمالا فرق بينك وبينك وبينهم في البشرية فمالهم لا يفهمون أنك لست بدْعاً من الرسل وأن ما أُوحيَ إليك ليس مخالفاً لما أوحيَ أليهم

ص: 56

سورة الأنبياء الآية 8 9 فيقولون ما يقولون وقرىء يوحى إليهم بالياء على صيغة المبني للمفعول جرياً على سَنن الكبرياءِ وإيذانا بتعين الفاعل وقوله تعالى {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لَا تَعْلَمُونَ} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى الكفرة لتبكيتهم واستنزالِهم عن رتبة الاستبعادِ والنكير إثرَ تحقيق الحقِّ على طريقة الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه الحقيقُ بالخطاب في أمثال تلك الحقائقِ الأنيقةِ وأما الوقوفُ عليها بالاستخبار من الغير فهو من وظائف العوامِّ والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها وجوابُ الشرط محذوفٌ ثقةً بدِلالة المذكورِ عليهِ أيْ إِن كُنْتُم لَا تَعْلَمُونَ ما ذُكر فاسألوا أيها الجهلةُ أهلَ الكتاب الوافقين على أحوال الرسلِ السالفةِ عليهم الصلوات لنزول شبهتُكم أُمروا بذلك لأن إخبارَ الجمِّ الغفير يوجب العلم لا سيماوهم كانوا يشايعون المشركين في عداوته عليه السلام ويشاورونهم في أمره عليه السلام ففيه من الدِلالة عَلى كمالِ وضوحِ الأمر وقوةِ شأن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى

ص: 57

{وَمَا جعلناهم جَسَداً} بيان لكون الرسل عليهم السلام أُسوةً لسائر أفراد الجنسِ في أحكام الطبيعةِ البشرية إثرَ بيانِ كونهم أسوةً لهم في نفس البشرية والجسدُ جسمُ الإنسانِ والجنِّ والملائكة ونصبُه إما على أنه مفعولٌ ثانٍ للجعل لكن لا بمعنى جعلِه جسداً بعد أن لم يكن كذلك كما هو المشهورُ من معنى التصبير بل بمعنى جعله كذلك ابتداءً على طريقة قولِهم سُبحان مَنْ صغر البعوض وكبر الفيل كما مر في قوله تعالى وَجَعَلْنَا آية النهار مبصرة وإما حالٌ من الضمير والجعلُ إبداعيٌّ وإفرادُه لإرادة الجنس المنتظمِ للكثير أيضاً وقيل بتقدير المضافِ أي ذوي جسدو قوله تعالى {لَاّ يَأْكُلُونَ الطعام} صفةٌ له أي وما جعلناهم جسداً مستغنياً عن الأكل والشرب بل محتاجاً إلى ذلك لتحصيل بدَلِ ما يتحلل منه (وَمَا كَانُواْ خالدين) لأن مآلَ التحلّلِ هو الفناءُ لا محالة وفي إيثار ما كانوا على ما جعلناهم تنبيهٌ على أن عدمَ الخلود مقتضي جِبِلّتِهم التي أشير إليها بقوله تعالى وما جعلنا هم الخ لا بالجعل المستأنَف والمرادُ بالخلود إما المكثُ المديدُ كما هو شأنُ الملائكة أو الا بدية وهم معتقدون أنهم لا يموتون والمعنى جعلناهم أجسادامتغذية صائرةً إلى الموت بالآخرة على حسب آجالِهم لا ملائكةً ولا أجساداً مستغنيةً عن الأغذية مصونةً عن التحلل كالملائكة فلم يكن لها خلودٌ كخلودهم فالجملةُ مقررة لما قيلها من كون الرسلِ السالفةِ عليهم السلام بشراً لا ملَكاً مع ما في ذلك من الرد على قولهم مَا لهذا الرسول يأكل الطعامَ وقوله تعالى

ص: 57

{ثُمَّ صدقناهم الوعد} عطفٌ على ما يُفهم من حكاية وحْيِه تعالى إليهم على الاستمرار النجددي كأنه قيل أوحينا إليهم ما أوحينا ثم صدقناهم في الوعد الذي وعدناهم في تضاعيف الوحي بإهلاك أعدائِهم {فأنجيناهم وَمَن نَّشَاء} من المؤمنين وغيرهم ممن تستدعي الحكمةُ إبقاءَه كمن سيؤمن هو أو بعضُ فروعِه بالآخرة وهو السرُّ في حماية العرب من عذاب الاستئصال {وَأَهْلَكْنَا المسرفين} أي المجاوزين للحدود في الكفر والمعاصي

ص: 57