الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الفرقان
20
- 2 (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلَاّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِى الأسواق) جوابٌ عن قولهم مَا لهذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى فِى الأسواق والجملةُ الواقعةُ بعد إلَاّ صفةٌ لموصوفٍ قد حُذف ثقةٍ بدلالةِ الجارِّ والمجرورِ عليه وأقيمتْ هي مقامَه كما في قوله تعالى وَمَا مِنَّا إِلَاّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ والمعنى ما أرسلَنا أحداً قبلكَ من المُرسلين إلا آكلينَ وماشينَ وقيل هي حالٌ والتَّقديرُ إلَاّ وإنَّهم ليأكلون الخ وقرئ يمشون على البناء للمفعول أي يُمشيهم حوائجُهم أو النَّاسُ (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ) تلوينٌ للخطاب بتعميمِه لسائر الرسلُ عليهم الصَّلاةُ والسلامُ بطريق التَّغليبِ والمرادُ بهذا البعضِ كفار الأمم فإن اختصاهم بالرُّسل وتبعيتهم لهم مصحِّحٌ لأنْ يعدُّوا بعضاً منهم وبما في قوله تعالى (لِبَعْضٍ) رسلِهم لكنْ لا على مَعْنى جعلنا مجموعَ البعضِ الأولِ (فِتْنَةً) أي ابتلاءً ومحنةً لمجموعِ البعض الثَّاني ولا على معنى جعلنا كلَّ فردٍ من أفراد البعض الأول فتنةً لكلِّ فردٍ من أفراد البعض الثَّاني ولا على معنى جعلنا بعضاً مُبهماً من لأولين فتنةً لبعضٍ مُبهمٍ من الآخرين ضرورةَ أنَّ مجموعَ الرُّسل من حيثُ هو مجموعٌ غير مفتون بجموع الأُممِ ولا كلُّ فردٍ منهم بكلِّ فردٍ من لأم ولا بعض مبهمٌ من الأولين ببعض منهم من الآخرين على بل معنى جعلنا كلَّ بعضً مُعيَّنٍ من الأُمم فتنةً لبعض معَّين من الرُّسلِ كأنَّه قيل وجعلنا كلَّ أمَّةٍ مخصوصةٍ من الأُممِ الكافرةِ فتنةً لرسولِها المعيَّنِ المبعوثِ إليها وإنَّما لم يصرخ بذلك تعويلاً على شهادةِ الحالِ هذا وأمَّا تعميمُ الخطابِ لجميع المكلَّفين وإبقاء البعضين على العمومِ والإبهامِ على معنى وجعلنا بعضَكم ايها الناس فتنةً لبعضٍ آخرَ منكم فيأباهُ قولُه تعالى (أَتَصْبِرُونَ) فإنَّه غايةٌ للجعلِ المذكورِ ومن البيِّنِ أنْ ليسَ ابتلاءُ كلِّ أحدٍ من آحادِ النَّاسِ مُغيًّا بالصَّبرِ بل بما يناسبُ حالَه على أنَّ الاقتصارَ على ذكرهِ من غير تعرّض لمعادل له مما يدلُّ على أنَّ الَّلائقَ بحال المفتونينَ والمتوقع صدورُه عنهم هو الصبر لا غير فلابد أنْ يكونَ المرادُ بهم الرُّسلَ فيحصل به تسليتُه صلى الله عليه وسلم فالمعنى جرتْ سُنَّتنا بموجب حكمتِنا على ابتلاءِ المُرسلينَ بأممِهم وبمناصبتهم لهم العداوةَ وإيذائهم لهم وأقاويلِهم الخارجةِ عن حدود الإنصاف لنعم صبرَكم وقوله تعالى (وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً) وعدٌ كريم للرسول صلى الله عليه وسلم بالأجرِ الجزيلِ لصبرِه الجميلِ مع مزيدِ تشريفٍ له صلى الله عليه وسلم بالالتفاتِ إلى اسمِ الربِّ مضافاً إلى ضميره صلى الله عليه وسلم
(وَقَالَ الذين لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا) شروعٌ في حكايةِ بعضٍ آخرَ من أقاويلِهم الباطلةِ وبيانِ بُطلانِها إثرَ إبطالِ أباطيلهم السَّابقةِ والجملةُ معطوفةٌ على قولِه تعالى وَقَالُواْ مَا لهذا الرسول الخ ووضعُ الموصولِ موضعَ الضميرِ للتنبيهِ بما في حيزِ الصلة على أن ما يُحكى عنهم من الشَّناعةِ بحيثُ لا يصدرُ عمَّن يعتقدُ المصيرَ إلى الله
سورة الفرقان 22 عز وجل ولقاءُ الشَّيءِ عبارةٌ عن مصادفتهِ من غيرِ أنْ يمنعَ مانعٌ من إدراكِه بوجهٍ من الوجوهِ والمرادُ بلقائِه تعالى إمَّا الرجوعُ إليه تعالى بالبعث والحشر رأو لقاءُ حسابه تعالى كما في قوله تعالى أن ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ وبعدم رجائِهم إيَّاه عدمُ توقُّعهم له أصلاً لإنكارِهم البعث والحساب بالكليِّة لا عدمُ أملِهم حسنَ اللقاءِ ولا عدمُ خوفِهم سوءَ اللقَّاءِ لأنَّ عدمَهما غيرُ مستلزمٍ لِما هم عليه من العُتوِّ والاستكبار وإنكارِ البعثِ والحسابِ رأساً أي وقال الذَين لا يتوقعَّون الرجوعَ إلينا أو حسابَنا المؤدِّيَ إلى سُوءِ العذابِ الذي تستوجبه مقالتُهم (لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ) أي هلَاّ أُنزلوا علينا ليخبرونا بصدق محمدٍ صلى الله عليه وسلم وقيل هَلَاّ أُنزلوا علينا بطريق الرسالة وهو الأنسب قولهم (أَوْ نرى رَبَّنَا) من حيثُ أنَّ كلا القولينِ ناشئ عن غايةِ غُلوهم في المكابرة العتو حسبما يُعرب عنه قوله تعالى (لَقَدِ استكبروا فِى أَنفُسِهِمْ) أي في شأنِها حتى اجترءوا على التَّفوه بمثل هذه العظيمةِ الشنعاءِ (وَعَتَوْا) أي تجاوزا الحدَّ في الظُّلم والطُّغيانِ (عُتُوّاً كَبِيراً) بالغاً أقصَى غاياتَه حيثُ أمَّلوا نيلَ مرتبةِ المفاوضةِ الإلهيةِ من غير توسطِ الرَّسولِ والمَلك كما قالوا لَوْلَا يُكَلّمُنَا الله ولم يكتفُوا بما عاينوا من المعجزاتِ القاهرةِ التي تخِرُّ لها صُمُّ الجبالِ فذهبْوا في الاقتراح كلَّ مذهبٍ حتَّى منَّتهم أنفسُهم الخبيثةُ أمانيَّ لا تكاد ترنوا إليها أحداقُ الأممِ ولا تمتدُّ إليها أعناقُ الهمم ولا ينالها إلا أولوا العزائم الماضيةِ من الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ واللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ والله لقد استكبروا الآيةَ وفيه من الدلالة على غايةِ قُبح ما هُم عليه والإشعارِ بالتَّعجبِ من استكبارِهم وعُتوِّهم ما لا يخفى
(يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة) استئنافٌ مَسوقٌ لبيانِ ما يلقَونه عند مشاهدتِهم لما اقترحُوه من نزول الملائكة علهم السَّلامُ بعد استعظامِه وبيانِ كون في غايةِ ما يكونُ من الشَّناعة وإنمَّا قيلَ يوم يَرَون دُون أنْ يقالَ يومَ ينزلُ الملائكةُ إيذانا من أولِ الأمرِ بأنَّ رؤيتَهم لهم ليست على طريقِ الإجابةِ إلى ما اقترحُوه بل على وجهٍ آخرَ غيرِ معهودٍ ويومَ منصوبٌ على الظَّرفية بما يدلُّ عليه قولُه تعالى (لَا بشرى يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ) فإنَّه في معنى لا يُبشَّر يومئذٍ المُجرمون والعُدولُ إلى نفيِ الجنسِ للمبالغةِ في نفيِ البُشرى وما قيل من أنَّه بمعنى يمُنعون البُشرى أو يعدمونها تهوين للخطب في مقام التَّهويل فإنَّ منعَ البُشرى وفقدانُها مُشعرانِ بأنَّ هناك بُشرى يمنعونَها أو يفقِدونها وأينَ هذا من نفيها بالكُليِّة وحيثُ كان نفيُها كنايةً عن إثباتِ ضدِّها كما أنَّ نفيَ المحبةِ في مثلِ قولِه تعالى والله لَا يُحِبُّ الكافرين كنايةٌ عن البُغض والمَقْتِ دلَّ على ثبوت النذر لهم على أبلغِ وجهٍ وآكدِه وقيل منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ يُؤكِّده بشرى على أنَّ لا غير نافية للجنس وقيل منصور على المفعولة بمضمرٍ مقدَّمٍ عليه أي اذكُر يومَ رؤيتهم الملائكةَ ويومئذٍ على كلِّ حالٍ تكريرٌ للتأكيد والتَّهويلِ مع ما فيه من الإيذانِ بأنَّ تقديمَ الظَّرفِ للاهتمامِ لا لقصرِ نفيِ البُشرى على ذلك الوقتِ فقط فإنَّ ذلك مخلٌّ بتفظيعِ حالِهم وللمجرمين تبيين على أنَّه مظهرٌ وُضع موضعَ الضميرِ تسجيلاً عليه بالإجرام مع ما هم عليه من الكفر وحملُه على العموم بحيث يتناولوا فسَّاقَ المؤمنين ثم الالتجاءُ في إخراجِهم عن الحرمانِ الكليِّ إلى أنَّ نفيَ البُشرى حينئذٍ لا يستلزمُ نفيَه في جميعِ الأوقاتِ فيجوزُ أنْ يُبشَّروا بالعفوِ والشَّفاعةِ في وقتٍ آخرَ بمعزلٍ عن الحقِّ بعيدٍ
سورة الفرقان 23 24 (وَيَقُولُونَ) عطفٌ على ما ذُكر من الفعلِ المنفيِّ المنبئ عن كمال فظاعة ما يحيق بهم من الشر وغاية هول مطلعه ببيان أنهم يقولون عند مشاهدتِهم له (حِجْراً مَّحْجُوراً) وهي كلمةٌ يتكلَّمون بها عند لقاءِ عدوَ موتورٍ وهجومِ نازلةٍ هائلةٍ يضعونها موضعَ الاستعاذةِ حيثُ يطلبون من الله تعالى أن يمنع المكروه فلا يلحقهم فكان المَعنى نسألُ الله تعالى أنْ يمنعَ ذلك مَنْعاً ويحجُره حَجْراً وكسرُ الحاءِ تصرف فيه لاختصاصه بموضوع واحدٍ كما في قِعدَك وعمرك وقد قرئ حُجْراً بالضمِّ والمعنى أنَّهم يطلبون نزولَ الملائكةِ عليهم السلام ويقترحونَه وهم إذا رَأوهم كرِهُوا لقاءهم أشدَّ كراهةٍ وفزعُوا منهم فزعاً شَديداً وقالوا ما كانوا يقولونَه عند نزولِ خطبٍ شنيعٍ وحلولِ بأسٍ شديدٍ فظيعٍ ومحجُوراً صفةٌ لحِجراً وإرادةٌ للتَّأكيدِ كما قالوا ذيلٌ ذَائلٌ وليلٌ أليلُ وقيل يقولُها الملائكةُ إقناطاً للكفرة بمعنى حراما محركا عليكم الغفرانُ أو الجنَّة أو البُشرى أي جعل الله تعالى ذلك حَرَاماً عليكم وليس بواضح
{وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} بيانٌ لحالِ ما كانُوا يعملونَه في الدُّنيا من صلةِ رحمٍ وإغاثةِ ملهوفٍ وقرى ضيفٍ ومنَ على أسير وغير ذلك من مكارمِهم ومحاسِنهم التي لو كانُوا عملُوها مع الإيمانِ لنالُوا ثَوابَها بتمثيلِ حالهم وحال أعمالهم المذكور بحال قومٍ خالفُوا سلطانَهم واستعصَوا عليه فقدمَ إلى أشيائِهم وقصدَ ما تحت أيديهم فأنحى عليها بالإفسادِ والتحريف ومزَّقها كلَّ تمزيقٍ بحيث لم يَدع لها عيناً ولا أثراً أي عمَدنا إليها وأبطلَناها أي أظهرنا بُطلانَها بالكلِّيةِ من غير أنْ يكونَ هناك قدومٌ ولا شيء يُقصد تشبيهه به والهَبَاءُ شبه غبارٍ يُرى في شعاعِ الشَّمسِ يطلع من الكُوَّة من الهبوةِ وهي الغبارُ ومنثُوراً صفتُه شبه به أعمالَهم المُحبَطةَ في الحقارةِ وعدمِ الجَدوى ثمَّ بالمنثُور منه في الانتشارِ بحيثُ لا يمكن نظمُه أو مفعولٌ ثالثٌ من حيثُ إنَّه كالخبر بعد لخبر كما في قوله تعالى كَونُواْ قِرَدَةً خاسئين
{أصحاب الجنة} هم المؤمنون المشارِ إليهم في قوله تعالى قل أذلك خير أَمْ جَنَّةُ الخلد التى وُعد المتَّقون الخ {يَوْمَئِذٍ} أي يومَ إذ يكونُ ما ذكر رمن عدمِ التَّبشير وقولِهم حِجْراً محجُوراً وجعلِ أعمالِهم هباءً منثُوراً {خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} المستقرُّ المكانُ الذي يُستقرُّ فيه في أكثرِ الأوقاتِ للتَّجالسِ والتَّحادثِ {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} المقيلُ المكانُ الذي يؤوى إليه للاسترواح إلى الأزواج والمتنع بمغازلتهم سُمِّي بذلك لما أنَّ التَّمتعَ به يكون وقتَ القَيلولهِ غالباً وقيل لأنه يُفرغٍ من الحسابِ في منتصف ذلك اليوم فيقيل أهلُ الجَّنة في الجنَّةِ وأهلُ النَّار في النَّارِ وفي وصفه بزيادةِ الحُسن مع حصولِ الخيرَّيةِ بعطفه على المستقرِّ رمزٌ إلى أنه مزَّينٌ بفنون الزَّينِ والزَّخارفِ والتَّفضيلُ المُعتبر فيهما إمَّا لإرادةِ الزِّيادةِ على الاطلاقِ أي هُم في أقصى ما يكونُ من خيرَّيةِ المُستقرِّ وحسنِ المَقيلِ وإمَّا بالإضافةِ إلى مَا للكَفَرةِ المُتنعِّمينَ في الدُّنيا أو إلى ما لَهُم في الآخرةِ بطريق التَّهكُّمِ بهم كما مرَّ في قوله تعالى قل أذلك خَيْرٌ الآيةَ هذا وقد جوِّز أنْ يُرادَ بأحدِهما المصدرُ أو الزَّمانُ إشارةً إلى أنَّ مكانَهم وزمانَهم أطيب ما يتخيل من الأمكنة والأزمنة
سورة الفرقان (25 27)
{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء} أي تتفتحُ وأصلُه تتشقَّقُ فحُذفتْ إحدى التَّاءينِ كما في تلظى وقرئ بإدغامِ التَّاءِ في الشِّينِ {بالغمام} بسببِ طلوعِ الغمامِ منها وهو الغَمامُ الذي ذُكر في قوله تعالى هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام والملائكة قيل هو غمامٌ أبيضُ رقيقٌ مثل الضبابة لم يكُنْ إلَاّ لبني إسرائيلَ {وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً} أي تنزيلاً عجيباً غيرَ معُهودٍ قيل تنشق سماءً سماءً وينزل الملائكةُ خلالَ ذلك الغمامِ بصحائفِ أعمالِ العبادِ وقرئ ونزلت الملائكة وننزيل وتنزل على صيغة المتكلم من الإنزالِ والتَّنزيل ونزَّل الملائكةَ وأنزل الملائكة ونزل الملائكةُ على حذف النُّون الذي هو فاءُ الفعلِ من تنزل
{الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن} أي السَّلطنةُ القاهرِةُ والاستيلاءُ الكليُّ العام الثَّابتُ صورةً ومعنى ظاهراً وباطناً بحيثُ لا زوالَ له أصلاً ثابت للرحمن يؤمئذ فالمُلكُ مبتدأٌ والحقُّ صفتُه وللرحمن خبرة ويومئذ ظرفٌ لثبُوتِ الخبرِ للمبتدأِ وفائدةُ التَّقييدِ أنَّ ثبوت المُلك المذكور له تعالى خاصَّةً يومئذٍ وأمَّا فيما عداهُ من أيَّامِ الدُّنيا فيكون لغيرهِ أيضاً تصرُّفٌ صوريُّ في الجُملةِ وقيل المُلك مبتدأٌ والحقُّ خبرُه وللرَّحمنُ متعلَّق بالحقِّ أو بمحذوفٍ على التَّبيين أو بمحذوفٍ هو صفةٌ للحقِّ ويومئذٍ معمولٌ للملك وقيلَ الخبرُ يومئذٍ والحقُّ نعتٌ للملكِ وللرحمن على ما ذُكر وأيَّاً ما كان فالجملةُ بمعناها عاملةٌ في الظَّرفِ أي ينفردُ الله تعالَى بالملكِ يومَ تشقَّقُ وقيل الظَّرفُ منصوبٌ بما ذُكر فالجملةُ حينئذٍ استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ أحوالِه وأهوالِه وإيرادُه تعالى بعُنوانِ الرَّحمانيةِ للإيذانِ بأنَّ اتصِّافَه تعالى بغايةِ الرَّحمةِ لا يهُوِّنُ الخَطْبَ على الكَفَرةِ لعدمِ استحقاقِهم للرَّحمةِ كما في قوله تعالى يأيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم والمعنى أنَّ الملكَ الحقيقيَّ يومئذٍ للرَّحمنِ {وَكَانَ} ذلكَ اليوم مع كونِ المُلكِ فيه لله تعالى المبالغ في الرَّحمةِ لعبادِه {يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً} شَديداً لهُم وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ لمُراعاةِ الفواصلِ وأمَّا للمُؤمنين فيكون يَسيراً بفضلِ الله تعالى وقد جاءَ في الحديثِ أنَّه يُهوَّن يومُ القيامةِ على المؤمنِ حتَّى يكونَ أخفَّ عليه من صلاةٍ مكتوبةٍ صلَاّها في الدّنيا والجملةُ اعتراضٌ تذييلي مقرر لما قبله
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} عضُّ اليدينِ والأناملِ وأكلُ البنانِ وحرقُ الأسنانِ ونحوها كناياتٌ عن الغيظِ والحسرة لأنها من رواد فهما والمرادُ بالظَّالمِ إمَّا عقبةُ بنُ أبي مُعيطٍ على ما قيلَ من أنه كان يُكثر مجالسةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فدعاه صلى الله عليه وسلم يوماً إلى ضيافتِه فأبى صلى الله عليه وسلم أنْ يأكلَ من طعامِه حتَّى ينطِقَ بالشَّهادتينِ ففعلَ وكان أُبيُّ بنُ خَلَفٍ صديقَه فعاتبَه فقال صَبأتَ فقال لا ولكنْ أَبَى أنْ يأكلَ منْ طَعَامي وهو في بيتي فاستحييتُ منه فشهدتُ له فقال إنيِّ لا أرضى منكَ إلا أنْ تأتيَه فتطأَ قفاهُ وتبزقَ في وجههِ فوجدَه ساجداً في دارِ النَّدوةِ ففعل ذلك فقال صلى الله عليه وسلم لا ألقاكَ خارجاً من مكَّةَ إلَاّ علوتُ رأسَك بالسَّيفِ فأُسرَ يوم بدرٍ فأمر
سورة الفرقان (28 30) عليا رضي الله عنه فقتَلَه وقيل قَتَله عاصمُ بن ثابت الأنصاري وطعن صلى الله عليه وسلم أُبيَّاً يومَ أُحدٍ في المُبارزة فرجعَ إلى مكَّةَ وماتَ وإما جنسُ الظَّالم وهو داخلٌ فيه دُخولاً أوليَّا وقولُه تعالَى {يِقُولُ} الخ حالٌ من فاعلِ بعض وقوله تعالى {يا ليتني} الخ محكيٌّ به ويَا إمَّا لمجرَّدِ التَّنبيهِ من غيرِ قصدٍ إلى تعيينِ المنبَّهِ أو المُنادي محذوفٌ أي يا هؤلاءِ ليتني {اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً} أي طريقاً واحداً منجياً من هذه الورطاتِ وهو طريقُ الحقِّ ولم تتشعبْ بي طريق الضَّلالةِ أو حَصَّلتُ في صحبته صلى الله عليه وسلم طريقاً ولم أكُن ضالَاّ لا طريقَ لي قط
{يا ويلنا} بقلب ياءِ المتكلِّمِ الفاً كما في صحارى ومدارى وقرئ على الأصل ياويلتي أي هَلَكتي تعالَيْ واحضريْ فهذا أوانُكِ {لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً} يريدُ مَن أضلَّه في الدُّنيا فإنَّ فُلانا كنايةٌ عن الأعلامِ كما أن الهَنَ كنايةُ عن الأجناسِ وقيل فُلانٌ كنايةٌ عن علَم ذكورِ مَن يعقلُ وفُلانةٌ عن علم إناثم وفل كنايةٌ عن نكرةِ مَن يعقلُ من الذكور وفُلة عمَّن يعقلُ من الإناثِ والفُلانُ والفُلانةُ من غير العاقل ويخص فُل بالنِّداءِ إلَاّ في ضرورةٍ كما في قوله
…
في لُجَّةٍ أَمْسِكْ فُلاناً عن فل
…
وقوله
…
خذ حد ثاني عن فلن وفُلانِ
…
وليس فُل مرخَّماً من فُلان خلافاً للفرَّاء واختلفُوا في لامِ فُل وفُلان فقيلَ واوٌ وقيل ياءٌ هذا فإنْ أرُيدَ بالظَّالم عقبةُ ففُلان كنايةٌ عن أَبيَ وإنْ أُريدَ بن الجنسُ فهوُ كنايةٌ عن علَمِ كلِّ مَن يضلُّه كائنا من كان من شياطينِ الإنس والجنِّ وهذا التَّمنِّي منه وإنْ كان مسُوقاً لإبراز النَّدمِ والحسرةِ لكنَّه متضمنٌ لنوعِ تعللٍ واعتذارٍ بتوريك جنايتِه إلى الغيرِ وقوله تعالى
{لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذكر} تعليلٌ لتمنيه المذكورِ وتوضيحٌ لتعللُّهِ وتصديُره باللامِ القسميَّةِ للُمبالغةِ في بيانِ خطئِه وإظهارِ ندمهِ وحسرتِه أي والله لقد أضلَّني عن ذكرِ الله تعالى أو عن القرآنِ أو عن موعظةِ الرسول صلى الله عليه وسلم أو كلمةِ الشَّهادةِ {بَعْدَ إِذْ جَاءنِى} وتمكَّنتُ منه وقوله تعالى {وَكَانَ الشيطان للإنسان خَذُولاً} أي مُبالغاً في الخِذلانِ حيثُ يواليهِ حتَّى يؤدِّيه إلى الهلاكِ ثمَّ يتركُه ولا ينفَعُه اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلَه إما من جهتِه تعالى أو من تمام كلامِ الظَّالمِ على أنَّه سَمَّي خليلَه شيطاناً بعد وصفهِ بالإضلالِ الذي هو أخصُّ الأوصافِ الشَّيطانيَّةِ أو على أنَّه أرادَ بالشَّيطانِ إبليسَ لأنَّه الذي حملَه على مخالَّةِ المُضلِّين ومخالفةِ الرسول الهادي صلى الله عليه وسلم بوسوستِه وإغوائِه لكن وصفُه بالخِذلانِ يُشعر بأنَّه كانَ يعِدُه في الدُّنيا ويُمنيه بأن ينفعه في الآخرةِ وهو أوفقُ بحالِ إبليسَ
{وَقَالَ الرسول} عطفٌ على قوله تعالى وَقَالَ الذين لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا وما بينها اعتراض مسوق لاستعظام ما قالُوه وبيانِ ما يحيقُ بهم في الآخرةِ من الأهوال والخطوب وإيراده صلى الله عليه وسلم بعُنوانِ الرِّسالةِ لتحقيقِ الحقِّ والردِّ على نحورِهم حيثُ كانَ ما حُكي عنهم قدحا في رسالته صلى الله عليه وسلم أي قالُوا كيتَ وكيتَ وقال الرَّسولُ إثرَ ما شاهد منهم غاية
سورة الفرقان (31 32) العُتوِّ ونهايةَ الطُّغيان بطريق البثِّ إلى ربِّه عز وجل (يا رب إِنَّ قَوْمِى) يعني الذين حُكي عنهم ما حُكي من الشَّنائعِ ( {اتخذوا هذا القُرآنَ} الذي من جُملتِه هذه الآياتُ النَّاطقةُ بما يحيقُ بهم في الآخرةِ من فُنونِ العقابِ كما ينبئ عنه كلمةُ الإشارةِ (مَهْجُوراً) أي أنه متروكاً بالكلِّيةِ ولم يُؤمنوا به ولم بعرفوا إليهِ رأساً ولم يتأثَّرُوا بوعيدِه وفيه تلويحٌ بأنَّ من حقِّ المؤمنِ أنْ يكونَ كثيرَ التَّعاهدِ للقرآن كيلا يندرجَ تحت ظاهرُ النَّظمِ الكريمِ فإنَّه رُوي عنه صلى الله عليه السلام أنَّه قال مَن تعلَّم القرآنَ وعلَّق مُصحفاً لم يتعاهدْهُ ولم ينظرْ فيهِ جاءَ يومَ القيامةِ متعلِّقاً به العالمين عبدك هذا أتخذل مهجُوراً اقضِ بيني وبينَهُ وقيل هو من هجَر إذا هَذَى أي جعلوه مهجُوراً فيه إمَّا على زعمِهم الباطلِ وإمَّا بأنْ هجَّروا فيه إذا سمعُوه كما يحكى عنهم من قولِهم لا تسمعُوا لهذا القُرآنِ والغَوا فيهِ وقد جوز أن يكون المهجورُ بمعنى الهَجْر كالمجلود والمعقول فالمعنى اتخذوه وهجرا وهذيانا وفيه من التخدير والتخويف مالا يَخْفى فإنَّ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ إذا شكَوا إلى الله تعالى قولهم عجَّل لهم العذابَ ولم يُنظَروا وقوله تعالى
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً مّنَ المجرمين} تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحملٌ له على الاقتداءِ بمن قبلَه من الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ أي كما جعلنا لك أعداءً من المُشركين يقولُون ما بقولون ويفعلون من الأباطيلِ جعلنا لكلِّ نبيَ من الأنبياءِ الذينَ هم أصحابُ الشَّريعةِ والدّعوة إليها عدوَّاً من مُجرمي قومِهم فاصبرْ كما صبرُوا وقوله تعالى (وكفى بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً) وعدٌ كريمٌ له صلى الله عليه وسلم بالهدايةِ إلى كافَّةِ مطالبِه والنَّصرِ على أعدائِه أي كَفَاك مالكُ أمرِك ومُبلِّغك إلى الكمالِ هَادياً لك إلى ما وصلك إلى غاية الغابات التي من جُملتها تبليغُ الكتابِ أجلَه وإجراء أحكامِه في أكتاف الدُّنيا إلى يومِ القيامةِ ونصيراً لك على جميعِ مَن يُعاديك
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} حكايةٌ لا قتراحم الخاصِّ بالقُرآن الكريمِ بعد حكايةِ اقتراحِهم في حقِّه صلى الله عليه وسلم والقائلون هم القائلونَ أوَّلاً وإيرادُهم بعُنوانِ الكفرِ لذمِّهم به والإشعارِ بعلَّةِ الحُكمِ {لولا نزل عليه القرآن} التَّنزيلُ هَهُنا مجرَّدٌ عن مَعْنى التَّدريجِ كما في في قوله تعالى أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كتابا مّنَ السماء ويجوزُ أن يرادَ بهِ الدِّلالةُ على كثرةِ المُنزَّلِ في نفسِه أي هلَاّ أُنزل كلُّه {جُمْلَةً واحدة} كالكتب الثَّلاثةِ وبُطلان هذه الكلمةِ الحمقاءِ ممَّا لا يكاد يخفى على أحد فإنَّ الكتبَ المتقدِّمةَ لم يكُن شاهدَ صحَّتِها ودليلَ كونها من عند الله تعالى إعجازُها وأمَّا القرآنُ الكريم فبينة صحته آية كونه من عند الله تعالى نظمُه المعجزُ الباقي على مرِّ الدّهورِ المتحقِّقُ في كلُّ جزءٍ من أجزائه المرقدة بمقدار أقصرِ السُّورِ حسبما وقع به التَّحدِّي ولا ريب في أن ما يدور عليه فلَكُ الإعجاز هو المطابقةُ لما تقتضيه الأحوالُ ومن ضرورة تغيّرِها وتجدُّدها تغيُّر ما يُطابقها حتماً على أنَّ فيه فوائد جمه أشير إلى بعض منها بقوله تعالى {كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} فإنَّه استئناف وارد من جهته تعلى لرد مقالهم الباطل
سورة الفرقان (33) وبيانِ الحكمة في التَّنزيلِ التَّدريجيِّ ومحلُّ الكافِ النَّصبُ على أنَّها صفة لمصدرٍ مؤكِّدٍ لمضمر معلَّلٍ بما يعده وَذَلِكَ إشارةٌ إلى ما يُفهم من كلامِهم أي مثلَ ذلك التَّنزيلِ المُفرَّق الذي قد حوا فيه واقترحوا خلافه ونزلناه لا تنزيل مُغايراً له لنقويَ بذلك التَّنزيلِ المفرَّقِ فؤادَك فإنَّ فيه تيسير الحفظ النَّظمِ وفهم المعانِي وضبطِ الأحكامِ والوقوفِ على تفاصيلِ ما رُوعي فيها من الحكم والمصالح المبينة على المناسبة على أنها مونطة بأسبابها الدَّاعيةِ إلى شَرعها ابتداءً أو تبديلاً بالنَّسخِ من أحوال المكلَّفينَ وكذلك عامة ما وردَ في القرآنِ المجيدِ من الأخبار وغيرِها متعلِّقةٌ بأمورٍ حادثةٍ من الأقاويل والأفاعيل ومن قضية تجدُّدِها تجددُ ما يتعلَّقُ بها كالاقتراحاتِ الواقعة من الكَفَرة الدَّاعيةِ إلى حكايتِها وإبطالِها وبيانِ ما يؤول إليه حالُهم في الآخرِة على أنَّهم في هذا الاقتراحِ كالباحث عن حَتْفه بظلفه حيثُ أُمروا بالاتيان بمثل نَوبةٍ من نُوبِ التَّنزيل فظهرَ عجزُهم عن المعارضةِ وضاقتْ عليهم الأرضُ بما رَحُبتْ فكيف لو تُحدُّوا بكلمة وقوله تعالى (رتلناه تَرْتِيلاً) عطفٌ على ذلك المُضمر وتنكيرُ ترتيلاً للتَّفخيمِ أي كذلك نزَّلناهُ ورتلناهُ تَرتْيلا بديعاً لا يُقادرُ قدره معنى ترتيلهِ تفريقُه آيةً بعدَ آيةٍ قالَه النَّخعيُّ والحسنُ وقَتَادةُ وقال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما بيَّناهُ بياناً فيه ترتيلٌ وتثيبت وقال السُّدِّيُّ فصَّلناهُ تفصيلاً وقال مجاهُدُ جعلنا بعضَه في إثر بعضٍ وقيل هو الأمرُ بترتيلِ قراءتِه بقوله تعالى ورتل القرآن تَرْتِيلاً وقيل قرأناه عليكَ بلسانِ جبرِيلَ عليه السلام شيئا فشئيا في عشرين أو ثلاث وعشرين سنة على تُؤَدةٍ وتَمهلٍ
{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} من الأمثال من جملتها ما حكي من اقتراحاتِهم القبيحةِ الخارجةِ عن دائرةِ العقولِ الجاريةِ لذلك مجرى الأمثالِ أي لا يأتونَك بكلامٍ عجيبٍ هو مَثَلٌ في البُطلان يريدون به القَدْحَ في حقِّك وحقِّ القُرآنِ {إِلَاّ جئناك} في مُقابلتِه {بالحق} أي بالجوابِ الحقِّ الثَّابتِ الذي ينْحي عليه بالإبطالِ ويَحسمُ مادَّةَ القِيلِ والقالِ كما مرَّ من الأجوبةِ الحقَّةِ القالعةِ لعروقِ أسئلتِهم الشَّنيعةِ الدَّامغةِ لها بالكُلِّيةِ وقوله تعالى {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} عطفٌ على الحقِّ أي جئناك بأحسن الحُسنِ في حدِّ ذاته لا أنَّ ما يأتون به له حَسنٌ في الجملة وهذا أحسنُ منه كما مروا الاستثناء مفرغ محلُّه النصب على الحالية أي لا يأنونك بمثل إلا حال إتياننا إيَّاك الحقَّ الذي لا مجيد عنه وفيه من الدِلالة على المُسارعة إلى إبطالِ ما أتوا به وتثبيت فؤاده صلى الله عليه وسلم مالا يخفى وهذا بعبارته ناطقٌ ببطلان جميع الأسئلة وبصحَّةِ جميع الأجوبة وبإشارته منبىءٌ عن بُطلانِ السُّؤالِ الأخير وصحة جوابة إذلولا أنَّ تنزيلَ القرآن على التَّدريجِ لما أمكن إبطالُ تلك الاقتراحاتِ الشَّنيعةِ ولما حصل تثبيت فؤاده صلى الله عليه وسلم من تلك الحيثيَّةِ هذا وقد جوِّز أنْ يكون المَثَلُ عبارةً عن الصِّفةِ العريبة التي كانُوا يقترحون كونَه صلى الله عليه وسلم عليها من مقارنة الملكِ والاستغناء عن الأكل والشُّربِ وحيازة الكنز والجنَّة ونزول القرآن عليه جملةً واحدةً على معنى لا يأتوك بحال عجيبة يقترحون اتِّصافك بها قائلين هلَاّ كان على هذه الحالة إلا أعطياك نحنُ من الأحوال الممكنة ما يحقُّ لك في حكمتِنا ومشيئتنا أنْ تُعطاهُ وما هو أحسنُ تكشيفاً لما بُعثت عليه ودلالةً على صحَّته وهو الذي أنتَ عليه في الذَّاتِ
سورة الفرقان (3436) والصِّفاتِ ويأباهُ الاستثناءُ المذكور فإن المتبادر منه يكون ما أعطاهُ الله تعالى منَ الحقِّ مترتباً على ما أتَوا به من الأباطيلِ دامغاً لها ولا ريب في ما آتاه الله تعالى من المَلَكاتِ السَّنيةِ اللَاّئقةِ بالرَّسالة قد أتاه من أوَّلِ الأمر لا بمقابلة ما حكي عنهم من الاقتراحات لأجلِ دمغها وإبطالِها
{الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ} أي يُحشرون كائين على وجوههم يسبحون عليها ويُجرُّون إلى جهنَّمَ وقيل مقلوبين وجوهُهم على قفاهم وأرجلُهم إلى فوقٍ روى عنه صلى الله عليه وسلم يُحشر النَّاسُ يومَ القيامةِ على ثلاثةِ أثلاثٍ ثلثٌ على الدَّوابِّ وثُلثٌ على وجوههم وثلث على وثُلثٌ على أقدامِهم ينسِلون نَسلاً وأما ما قيل متعلقةً قلوبهم بالسُّفليَّاتِ متوجِّهةً وجوههم إليها فبيعد لأنَّ هول ذلك اليومِ ليس بحيث يبقى لهم عنده تعلُّقٌ بالسُّفليَّاتِ أو توجُّه إليها في الجملة ومحلُّ الموصول إمَّا النَّصبُ أو الرفع على الذم أو الرفعُ على الابتداءِ وقولُه تعالَى {أولئك} بدلٌ منه أو بيانٌ له وقوله تعالى {شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً} خبر له أو اسمُ الإشارة مبتدأٌ ثانٍ وشرُّ خبرُه والجملة خبر للمصول ووصف السَّبيلِ بالضَّلالِ من باب الإسناد المجازيِّ للمبالغة والمفضل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم على مهاج قوله تعالى قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ كأنه قي إنَّ حاملهم على هذه الاقتراحات تحقير مكانه صلى الله عليه وسلم بتضليل سبيله ولا يعلمون حالَهم ليعلموا أنَّهم شرٌّ مكاناً وأضلُّ سبيلاً وقيل هو متَّصلٌ بقوله تعالى أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً
(ولقد آتينا موسى) جملةٌ مستأنفةٌ سيقتْ لتأكيد ما مرَّ من التَّسليةِ والوعد بالهداية والنَّصرِ في قوله تعالى وكفى بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً بحكايةِ ما جرى بينَ مَن ذُكر من الأنبياء عليهم الصلاة والسَّلامُ وبين قومِهم حكايةً إجماليَّةً كافيةً فيما هو المقصود واللامُ جوابٌ لقسمٍ محذوف أي وبالله لقد آتينا مُوسى التَّوراةَ أي أنزلناها عليه بالآخرةِ {وَجَعَلْنَا مَعَهُ} الظَّرف متعلِّق بجعلنا وقوله تعالى {أَخَاهُ} مفعولٌ أوَّلٌ له وقوله تعالى {هارون} بدل منن أخاه أو عطفُ بيانٍ له على عكس ما وقع في سورةِ طه وقوله تعالى {وزيرا} وفعول به ثان له وقد مرئمة معنى الوير أي جلعناه في أوَّلِ الأمر وزيراً له
{فقلنا} لهما حينذ {اذهبا إِلَى القوم الذين كذبوا بآياتنا} هم فرعونُ وقومه والآياتُ هي المعجزات التِّسعُ المفصَّلاتُ الظَّاهرُة على يَدَيْ موسى عليع السَّلامُ ولم يُوصفِ القومُ لهما عند إرسالِهما إليهم بهذا الوصف ضرورةَ تأخُّرِ تكذيب الآيات عن إظهارِها المتأخِّر عن ذهابهما المتأخِّر عن الأمر به بل إنما وصفوا بذلك عنه الحكاية لرسو ل الله صلى الله عليه وسلم بيانا لعلة استحفافهم لما يُحكى بعده من التَّدميرِ أي فذهبا إليهم فأرياهم آياتتا كلَّها فكذَّبوها تكذيباً مُستمرَّاً {فدمرناهم} التكذيب إثرَ ذلك التَّكذيبِ المستمرِّ {تَدْمِيرًا} عجيباً هائلاً لا يُقادرُ قَدرُه ولا يُدرك كُنهُه فاقتصر على حاشيتي القصة اكتفاء
سورة الفرقان (37 35) بما هو المقصودُ وحَملُ قوله تعالى فدمَّرناهم على معنى فحكمنا بتدميرِهم مع كونه تعسفا ظاهرا مما لا وجهَ لَهُ إذ لا فائدةَ يُعتدُّ بها في حكاية الحكم بيتدمير قد وقع وانقضى والتَّعرضُ في مطلع القصَّةِ لإيتاء الكتاب مع أنَّه كان بعد مهلكِ القوم ولم يكن له مدخلٌ في هلاكهم كسائرِ الأيات للإيذانِ من أوَّلِ الأمرِ ببلوغِه صلى الله عليه وسلم غايةَ الكمالِ ونيله نهايةَ الآمالِ التي هي إنجاءُ بني إسرائيلَ من ملكة فرعون وإرشادهم إلى الطريق الحق صلى الله عليه وسلم غايى الكمال ونيله نهاية بما في التَّوراة من الأحكام إذا به يحصُلُ تأكيدُ الوعدِ بالهدايةِ على الوجه الذي مربيانه وقرىء فدمرتهم وفدمراهم وفدمراهم على التَّأكيد بالنُّون الثَّقيلةِ
{وَقَوْمَ نُوحٍ} منصوبٌ بمضمرٍ يدل عليه قوله تعالى فدمَّرناهم أي ودمَّرنا قومَ نوحٍ وقيل عطف على مفعول فدمر ناهم وليس من ضرورة ترتيب تدميرهم على ما قبله ترتُّبُ تدميرِ هؤلاء عليه لا سيَّما وقد بُيِّن سببُه بقوله تعالى {لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل} أي نوحاً ومن قبله من الرُّسل أو نوحاً وحدَهُ لأنَّ تكذيبه تكذيب للكل لا تفاقهم على التَّوحيدِ والإسلامِ وقيل هو منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى {أغرقناهم} وإنَّما يتسنَّى ذلك على تقديرِ كونِ كلمة لَّماً ظرفَ زمانٍ وأمَّا على تقدير كونِها حرفَ وجودٍ لوجودٍ فلا لأنَّه حينئذٍ جواب لها وجواب لما لا يفسَّر ما قبله مع أنَّه مخلٌّ بعطف المنصوبات الآتية على قوم نوح لما أنَّ إهلاكَهم ليس بالإغراق فالوجهُ ما نقدم وقوله تعالى أغرقناهم استناف مبيِّن لكيفيَّةِ تدميرِهم (وجعلناهم) أي جعلنا إفراقهم أو قصتهم (للاس آيه) أيْ آيةً عظيمةً يعتبرُ بها كلُّ مَن شاهدها أو سمعها وهي مفعول ثانٍ لجعلنا وللنَّاس ظرفٌ لغوله أو متعلق محذوف وق حالاً من آيةً إذ لو تأخَّر عنها لكان صفةً لها (وَأَعْتَدْنَا للظالمين) أي لهم والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ للإبذان بتجاوزهم الحدَّ في الكفر والتَّكذيبِ (عَذَاباً أَلِيماً) هو عذاب الآخرة لا فائدة في الإخبار بإعتياد العذابِ الذي قد أُخبر بوقوعه من قبلُ أو لجميع الظَّالمينَ الباقينَ الذين لم يعتبرُوا بمَا جَرى عليهمْ من العذاب فيدخل في زُمرتهم قُريشٌ دخولاً أة ليا ويحتمل العذاب الدنيوي الأخروى
(وَعَاداً) عطفٌ على قوم نوح وقيل على المفعول الأول لجعلناهم وقيل على الظالمين إذهو في معنى وعدنا الظالمين وكلاهما بعيدٌ (وَثَمُودُ) الكلامُ فيه وفيما بعدَه كما فيما قبلَه وقُرىء وثموداً على تأويل الحى أنه الأبِ الأقصى (وأصحاب الرس) هم قومٌ يعبدون الأصنامَ فبعثَ الله تعالى إليهم شُعيباً عليه السلام فكذَّبُوه فبينما هم حَولَ الرَّسِّ وهي البءر التي لم تُطْوَ بعدُ إذِ انهارتُ فخُسف بهم وبديارِهم وقيل الرَّسُّ قرية بفَلْجِ اليمامةِ كان فيها بقايا ثمودَ فبَعث إليهم نبي فقتلوخ فهلكوا أو قيل هو الأخدود وقيل بءر بأنطاكيَّةَ قتلوا فيها حبيباً النَّجارَ وقيل هم أصحابُ حنظلةَ بنِ صفوانَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ابتلاهم الله بطيرٍ عظيمٍ كان فيها من كلِّ لون وسمَّوها عنقاءَ لطولِ عُنقِها وكانت تسكنُ جبلَهم الذي يقالُ له فتخ أو دمخ فتنقضُّ على صبيانِهم فتخطفُهم إن أعوزها الصيد
سورة الفرقان (39 40) ولذلك سُمِّيتْ مُغْرِبا فدعا عليها حنظلةُ عليه السلام فأصابتْها الصَّاعقةُ ثم إنَّهم قتلُوه عليه السلام فأُهلكوا وقيل قومٌ كذَّبُوا رسولَهم فرسُّوه أي دسُّوه في بئرٍ {وَقُرُوناً} أي أهلَ قرونٍ قيل القرنُ أربعونَ سنةً وقيل سبعونَ وقيل مائةٌ وعشرون {بَيْنَ ذلك} أي بين ذلك المذكورِ من الطَّوائفِ والأُمم وقد يذكرُ الذَّاكرُ أشياءَ مختلفةً ثمَّ يشيرُ إليها بذلك ويحسبُ الحاسبُ أعداداً مُتكاثرةً ثمَّ يقولُ فذلك كيتَ وكيتَ على ذلك المذكورِ وذلك المحسوبِ {كَثِيراً} لا يعلم مقدارَها إلَاّ العليمُ الخبيرُ ولعلَّ الاكتفاءَ في شؤن تلك القرُونِ بهذا البيان الإجماليِّ لما أنَّ كلَّ قرنٍ منها لم يكن في الشُّهرةِ وغرَابةِ القصَّةِ بمثابة الأُممِ المذكِورةِ
{وَكُلاًّ} منصوبٌ بمضمرٍ يدلُّ عليه ما بعده فإنَّ ضربَ المثلِ في معنى التَّذكيرِ والتَّحذيرِ والمحذوفُ الذي عُوّض عنه التنوينُ عبارةٌ إمَّا عن الأُممِ التي لم يُذكر أسبابُ إهلاكِهم وإمَّا عن الكلِّ فإنَّ ما حُكي عن قومِ نوحٍ وقومِ فرعونَ تكذيبُهم للآياتِ والرُّسلِ لا عدمُ التأثير من الأمثالِ المضروبة أي ذكرنا وأنذرنا كلَّ واحدٍ من المذكورين {ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال} أي بينَّا له القصص العجينة الزَّاجرةَ عمَّا هُم عليهِ من الكُفر والمعاصي بواسطةِ الرسل {وكلا} الآمالِ التي هي إنجاءُ بني إسرائيل {تبرنا تتبيرا} عجيبا هلائلا لما أنَّهم لم يتأثَّروا بذلكَ ولم يرفعُوا له رأساً وتمادَوا على ما هم عليه عن الكُفرِ والعُدوانِ وأصلُ التَّتبيرُ التَّفتيتُ قال الزَّجَّاجُ كلُّ شيء كسرته وفتتته فقد تبَّرتَه ومنه التِّبرُ لفئات الذَّهبِ والفِضَّةِ
{وَلَقَدْ أَتَوْا} جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيانِ مشاهدتهم لآثارِ هلاك بعض الأُمم المتبَّرةِ وعدم اتِّعاظِهم بها وتصديرُها بالقسم لمزيدِ تقريرِ مضمونِها أي وبالله لقد أتى قُريشٌ في متاجرهم إلى الشَّامِ {عَلَى القرية التى أُمْطِرَتْ} أي أُهلكت بالحجارة وهي قُرى قومِ لوطٍ وكانت خمسَ قُرى ما نجتْ منها إلَاّ واحدةٌ كان أهلُها لا يعملون العملَ الخبيثَ وأمَّا البواقي فأهلكها الله تعالى بالحجارةِ وهي المرادة بقول تعالى {مَطَرَ السوء} وانتصابُه إمَّا على أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ بحذف الزَّوائد كما قيل في أنبتَه الله تعالى نباتاً حسنَاً أي إمطارَ السَّوءِ أو على تركهم بعلَّةِ الحُكمِ {لَوْلَا نُزّلَ عليه القرآن} التَّنزيلُ هَهُنا مجرَّدٌ عن مَعْنى التَّدريجِ كما في قوله تعالى يسألك الآمالِ التي هي إنجاءُ بني إسرائيل التَّذكر عند مُشاهدة ما يُوجبه والهمزة لإنكار نفي استمرار رؤيتِهم لها وتقريرِ استمرارِها حسب استمرارِ ما يُوجبها من إتيانِهم عليها لا لإنكارِ استمرارِ نفي رؤيتِهم وتقريرِ رؤيتِهم لها في الجُملةِ والفاءُ لعطفِ مدخولِها على مقدَّرٍ يقتضيه المقامُ أي ألم يكونوا ينظرون إليها فلم يكونوا يَرونها أو أكانُوا ينظرون إليها فلم يكونُوا يَرونها في مرارِ مرورِهم ليتَّعظِوا بما كانُوا يُشاهدونَهُ من آثارِ العذابِ فالمنكر في الأوَّلِ تركُ النَّظرِ وعدمُ النظر الرُّؤيةِ معاً وفي الثَّانِي عدمُ الرُّؤيةِ مع تحقُّقِ النَّظرِ الموجبِ لها وقوله تعالى {بَلْ كَانُواْ لَا يَرْجُونَ نُشُوراً} إما إضرابٌ عمَّا قبلَه من عدمِ رؤيتِهم لآثار ما جَرى على أهلِ القُرى من العقوبة وبيان لكون وعدم اتِّعاظِهم بسبب إنكارِهم لكون ذلك عقوبة
سورة الفرقان 41 43
لمعاصيهم لا لعدم رؤيتهم لآثارِها خلا أنَّه اكتفى عن التَّصريحِ بإنكارِهم ذلك بذكرِ ما يستلزمُه من إنكارهم للجزاءِ الأُخرويِّ الذي هو الغابة من خلق العالمِ وقد كُني عن ذلك بعدم النُّشورِ أي عدم توقُّعهِ كأنَّه قيل بل كانُوا ينكرون النُّشورَ المستتبع للجزاءِ الأُخرويِّ ولا يرَون لنفسٍ من النُّفوسِ نُشوراً أصلاً مع تحقُّقهِ حتماً وشمولِه للنَّاسِ عموماً واطِّرادِه وقوعاً فكيف يعترفُون بالجزاء الدٌّنيويِّ في حقِّ طائفةٍ خاصَّةً مع عدم الاطِّرادِ والملازمة بينه وبين المعاصي حتَّى يتذكَّروا ويتَّعظوا بما شاهدوه من آثارِ الهلاك وإنَّما يحملونه على الاتِّفاقِ وإمَّا انتقالٌ من التَّوبيخِ بما ذُكر منْ تركِ التَّذكرِ إلى التَّوبيخِ بما هو أعظمُ منه من عدمِ توقُّعِ النُّشورِ
{وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَاّ هُزُواً} أي ما يتخذونك إلا مهزوءا به على معنى قصر معاملتهم معه صلى الله عليه وسلم على اتخاذهم إياه صلى الله عليه وسلم هُزؤاً لا على معنى قصر اتخاذهم على كونه هُزؤاً كما هو المتبادَرُ من ظاهر العبارةِ كأنَّه قيل ما يفعلون بك إلا اتخاذك هزؤا وقد مرَّ تحقيقُه في قولِه تعالى أَنِ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يوحى إِلَىَّ من سورة الأنعام وقوله تعالى {أهذا الذى بَعَثَ الله رَسُولاً} محكيٌّ بعد قول مضمر هو حالٌ من فاعلِ يتَّخذونك أي يستهزؤن بك قائلينَ أهذا الذي الخ والإشارةُ للاستحقارِ وإبراز بعث الله رسولاً في معرض التَّسليمِ بجعله صلةً للموصول الذي هو صفتُه صلى الله عليه وسلم مع كونِهم في غاية النكير لبعثه صلى الله عليه وسلم بطريقِ التَّهكُّمِ والاستهزاءِ وإلَاّ لقالُوا أبعثَ الله هذا رسولا أو أهذأ الذي يزعمُ أنَّه بعثه الله رسولاً
{إِن كَادَ} إنْ مخففةٌ منْ أنَّ وضميرُ الشأن محذوفٌ أيْ إنَّه كادَ {ليضلنا عن آلهتنا} أي ليصرفنا عن عبادتِها صرفاً كليَّاً بحيث يُبعدنا عنها لا عن عبادتِها فقط والعدولُ إلى الإضلال لغاية ضلالِهم بادَّعاء أنَّ عبادتَها طريقٌ سويٌّ {لَوْلَا أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا} ثبتْنا عليها واستمسكنَا بعبادتِها ولولا في أمثال هذا الكلامِ تجري مَجرى التقييدِ للحُكم المطلقِ من حيثُ المعنى كما أشير إليه في قوله تعالى وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ الخ وهذا اعترافٌ منهم بأنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ من الاجتهادِ في الدعوة إلى الحق وإظهارِ المعجزاتِ وإقامةِ الحججِ والبيِّناتِ إلى حيثُ شارفُوا أنْ يتركُوا دينَهم لولا فرطُ لجَاجِهم وغايةُ عنادِهم يُروى أنَّه من قولِ أبي جهلٍ {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} جوابٌ من جهتهِ تعالى لآخرِ كلامِهم وردٌّ لما ينبىءُ عنه من نسبته صلى الله عليه وسلم إلى الضَّلالِ في ضمن الإضلال أي سوف يعلمونَ البتةَ وإنْ تراخى {حِينَ يَرَوْنَ العذاب} الذي يستوجبُه كفرُهم وعنادُهم {مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} وفيه ما لا يَخفْى من الوعيدِ والتَّنبيهِ على أنَّه تعالى لا يهملهم وإن أمهلهم
{أرأيت مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من شناعةِ حالِهم بعد حكاية قبائحِهم من الأقوالِ
سورة الفرقان 44 والأفعالِ وبيانِ ما لهم من المصيرِ والمآلِ وتنبيهٌ على أنَّ ذلك من الغرابةِ بحيث يجبُ أنْ يرى ويتعجَّبَ منه وإلههَ مفعول ثانٍ لاتَّخذ قُدِّم على الأوَّلِ للاعتناء به لأنَّه الذي يدورُ عليهِ أمرُ التعجب ومَن توهَّم أنهما على التَّرتيبِ بناء على تساويهما في التَّعريفِ فقد زلَّ منه أن المفعول الثَّانِي في هذا الباب هو المتلبِّسُ بالحالة الحادثِة أي أرأيتَ مَن جعلَ هواهُ إلهاً لنفسهِ من غير أن يلاحَظ وبنى عليه أمرَ دينِه مُعرِضاً عن استماع الحجَّةِ الباهرة البرهان النيِّرِ بالكلِّيةِ على معنى انظُر إليه وتعجَّب منه وقولُه تعالى {أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} إنكارٌ واستبعادٌ لكونه صلى الله عليه وسلم حفيظاً عليه يزجرُه عمَّا هو عليه من الضَّلالِ ويُرشده إلى الحقَ طوعاً أو كَرهاً والفاءُ لترتيب الإنكارِ على ما قبله من الحالةِ المُوجبةِ له كأنَّه قيل أبعد ما شاهدت غلوَّه في طاعة الهوى وعتوَّه عن اتباع الهُدى تقسره على الإيمان شاء أو أَبَى وقوله تعالى
{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} إضرابٌ وانتقال عن الإنكار المذكورِ إلى إنكار حسبانه صلى الله عليه وسلم لهم ممَّن يسمعُ أو يعقلُ حسبما ينبىءُ عنه جده صلى الله عليه وسلم في الدَّعوةِ واهتمامُه بالإرشاد والتَّذكيرِ لكن لا على أنَّه لا يقعُ كالأوَّلِ بلْ على أنَّه لا ينبغي أنْ يقعَ أي بل أتحسب أنَّ أكثرهم يسمعون ما تتلوا عليهم من الآيات حتى السَّماعِ أو يعقلون ما في تضاعيفها من المواعظ الزَّاجرةِ عن القبائح الدَّاعيةِ إلى المحاسن فتعتنِي بشأنِهم وتطمعُ في إيمانهم وضميرُ أكثرَهم لمَن وجمعُه باعتبارِ معناها كما أن الإفرادَ في الضَّمائرِ الأُوَلِ باعتبار لفظِها وضميرُ الفعلينِ لأكثرَ لَا لِمَا أُضيف هُو إليهِ وقولُه تعالى {إِنْ هُمْ إِلَاّ كالأنعام} الخ جملةٌ مستأنَفة مَسوقة لتقرير النَّكيرِ وتأكيدِه وحسم مادة الحُسبانِ بالمرَّةِ أي ما هُم في عدم الانتفاعِ بما يقرعُ آذانَهم من قوارع الآياتِ وانتفاء التَّدبرِ فيما يشاهدونَهُ من الدَّلائلِ والمُعجزاتِ إلا كالبهائمِ التي هي مَثَلٌ في الغفلةِ وعَلَمٌ في الضَّلالةِ {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} منها {سَبِيلاً} لما أنها تنقادُ لصاحبها الذي يعلِفها ويتعهدُّها وتعرف مَن يُحسِن إليها ممَّن يُسيء إليها وتطلبُ ما ينفعها وتجتنبُ ما يضرُّها وتهتدي لمراعيها ومشاربها وتأوِي إلى معاطنِها وهؤلاءِ لا ينقادونَ لربِّهم وخالقِهم ورازقِهم ولا يعرفون إحسانهم إليهم من إساءةِ الشَّيطانِ الذي هو أعدى عدوِّهم ولا يطلبون الثَّوابَ الذي هو أعظمُ المنافع ولا يتَّقون العقابَ الذي هو أشدُّ المضارِّ والمهالك ولا يهتدون للحقِّ الذي هو المشرع الهنيُّ والمورد العذبُ الرَّويُّ ولأنها إنْ لم تعتقِد حقَّاً مستتبِعاً لاكتساب الخيرِ لم تعتقد باطلاً مستوجباً لاقترافِ الشَّرِّ بخلاف هؤلاء حيث مهّدوا قواعدَ الباطلِ وفرَّعُوا عليها أحكامُ الشُّرورِ ولأنَّ أحكامَ جهالتِها وضلالتها مقصورةٌ على أنفسها لاتتعدى إلى أحدٍ وجهالةُ هؤلاء مؤدية إلى ثوران الفتنى والفسادِ وصدِّ النَّاسِ عن سنين السَّدادِ وهيجان الهَرْجِ والمَرْجِ فيما بين العباد ولأنَّها غيرُ معطلةٍ لقوَّةٍ من القُوى المُودَعة بل صارفة لها إلى ما خُلِقت هي له فلا تقصيرَ من قبلها في طلبِ الكمالِ وأمَّا هؤلاءِ فهم مُعطِّلون لقواهم العقلية مضيِّعون للفطرةِ الأصليةِ التي فُطر النَّاسُ عليها مستحقُّون بذلك أعظم العقابِ وأشدَّ النَّكالِ
سورة الفرقان 45
{أَلَمْ تَرَ إلى رَبّكَ} بيانٌ لبعضِ دلائل التَّوحيدِ إثرَ بيانِ جهالةِ المُعرِضينِ عنها وضلالتهم والخطابُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم والهمزةُ للتَّقريرِ والتَّعرضُ لعُنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه صلى الله عليه وسلم وللإيذانِ بأنَّ ما يعقُبه من آثارِ ربوبيَّتِه ورحمتِه تعالى أيْ ألمْ تنظرُ إِلَى بديعِ صُنعه تعالى {كَيْفَ مَدَّ الظل} أي كيف أنشأ ظلَّ أيَّ مُظَلَ كان من جبلٍ أو بناء أو شجر عند ابتداء طلوع الشَّمسِ ممتداً لا أنَّه تعالى مدَّهَ بعد أنْ لم يكن كذلك كما بعدَ نصفِ النهار إلى غروبها فإنَّ ذلك مع خُلوِّه عن التَّصريح بكون نفسه بإنشائه تعالى وإحداثِه يأباهُ سياق النظم الكريم وأم ما قيل من أن المرادَ بالظِّل ما بينَ طُلوعِ الفجرِ وطُلوع الشَّمسِ وأنه أطيبُ الأوقاتِ فإنَّ الظُّلمةَ الخالصةَ تنفِرُ عنها الطِّباعُ وشعاع الشمس يسخِّنُ الجوَّ ويبهر البصرَ ولذلك وَصَف به الجَّنةَ في قوله تعالى وَظِلّ مَّمْدُودٍ فغير سديد إذ لاريب في أنَّ المرادَ تنبيهُ النَّاسِ على عظيم قُدرة الله عز وجل وبالغِ حكمتِه فيما يشاهدونَه فلا بدَّ أنْ يُرادُ بالظلِّ ما يتعارفونه من حالةٍ مخصوصةٍ يشاهدونها في موضعٍ يحول بينه وبين الشَّمسِ جسمٌ كثيفٌ مخالفةً لما في جوانبه من مواقعِ ضحِّ الشَّمسِ وما ذُكر وإن كانَ في الحقيقةِ ظلَاّ للأفق الشرقيِّ لكنَّهم لا يعدونه ظلاً ولا يصفونه بأوصافهِ المعهودةِ ولعلَّ توجيه الرُّؤية إليه سبحانه وتعالى مع أنَّ المرادَ تقرير رؤيته صلى الله عليه وسلم لكيفة مدِّ الظِّلِّ للتنبيهِ على أن نظره صلى الله عليه وسلم غير مقصور على ما يُطالعه من الآثارِ والصَّنائعِ بل مطمح أنظارِه معرفةُ شئون الصَّانعِ المجيدِ وقوله تعالى {وَلَوْ شَآء لجعله ساكنا} جملةٌ اعترضتْ بين المعطوفين للتنبيه منْ أولِ الأمرِ عَلى أنَّه لا مدخل فيما ذكر من المدِّ للأسباب العاديَّةِ وإنَّما المؤثر فيه المشيئةُ والقدرةُ ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ على القاعدة المستمرَّة من وقوعها وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاءِ أي ولو شاء سكونَه لجعله ساكناً أي ثابتاً على حالِه من الطُّولِ والامتدادِ وإنما عُبِّر عن ذلك بالسُّكونِ لما أنَّ مقابِلَه الذي هو تغيُّر حاله حسب تغُّيرِ الأوضاعِ بين المضل وبين الشَّمسِ يُرَى رأيَ العينِ حركة وانتقالاً وحاصلُه أنه لا يعتريهِ اختلافُ حالٍ بأن لا تنسخه الشَّمسُ وأمَّا التَّعليلُ بأنْ يجعل الشَّمسَ مقيمةً على وضع واحد فمداره الغفُول عما سيق له النظم الكريم ونطقَ به صريحاً من بيان كمال قُدرته القاهرة وحِكمته الباهرة بنسبة جميعِ الأمور الحادثة إليه تعالى الذات وإسقاط الأسباب العاديَّةِ عن رُتبة السَّببيَّةِ والتَّاثيرِ بالكُلِّيةِ وقصرِها على مجرَّدِ الدِّلالةِ على وجود المسبَّبات لا بذكر قُدرته تعالى على بعض الخوارق كإقامةِ الشَّمسِ في مُقام واحدٍ على أنَّها أعظمُ من إبقاء الظلِّ على حالِه في الدِلالة على ما ذُكر من كمال القُدرةِ والحكمة مكونه من فُروعها ومُستتبعاتها فهي أَوْلَى وأحقُّ بالإيراد في معرضِ البيانِ وقولُه تعالى {ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً} عطفٌ على مدَّ داخلٌ في حُكمهِ أيْ جعلناها علامةً يستدلُّ بأحوالها المتغيِّرة على أحوالِه من غير أنْ يكونَ بينهما سببيّة وتأثيرٌ قطعاً حسبما نطقَ به الشَّرطيةُ المعترضة والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لما في الجعلِ المذكورِ العاري عن التَّأثيرِ مع ما يشاهد بين الشَّمسِ والظلِّ من الدَّورانِ المُطَّردِ المنبىءِ عن السَّببيّةِ من مزيد دلالة على عظمِ القُدرةِ ودقة الحكمةِ وهو السرُّ في إيراد كلمة التَّراخي وقولُه تعالى {ثُمَّ قبضناه}
سورة الفرقان (46 48)
{ثُمَّ قبضناه} عطف على مد داخل في حكمه وثمَّ للتَّراخي الزَّماني لما أنَّ في بيان كون القبض والمد مر تبين دائرينِ على قطبِ مصالحِ المخلوقاتِ مزيدَ دلالةِ على الحكمة الرَّبانيَّةِ ويجوز أنْ تكونَ للتَّراخي الرُّتبي أي أزلناه بهد ما أنشأناهُ ممتدَّاً ومحوناه بمحص قُدرتنا ومشيئتنا عند إيقاعِ شعاعِ الشَّمس موقعَه من غير أن يكون له تأثيرٌ في ذلك أصلاً وإنَّما عبَّر عنه بالقبضِ المنبىء عن جميع المنبسطِ وطيِّه لمَا أنَّه قد عبَّر عن إحداثِه بالمدِّ الذي هو البسطُ طولاً وقوله تعالى {إِلَيْنَا} للتَّنصيصِ على كونِ مرجعِه إليه تعالى كما أنَّ حدوثَه منع عز وجل {قَبْضاً يَسِيراً} أي على مهل قليلاً حسب ارتفاعِ دليله على وتيرة معيَّنةٍ مطَّردةٍ مستتبعة لمصالح المخلوقات ومرافقها وقبل إنَّ الله تعالى حين بنى السماء كالقبلة المضروبة ودَحَا الأرضَ تحتها ألقت القبة طلها على الأرضِ لعدمِ النيِّر وذلك مدُّه تعالى إيَّاه ولو شاء لجعله ساكنا مستقرَّاً على تلك الحالةِ ثم خلق الشَّمسَ وجعلها على ذلك الظلِّ أي سلَّطها عليه ونصَبها دليلاً متبوعاً له كما يتبعُ الدَّليل في الطَّريقِ فهو يزيدُ بها وينقصُ ويمتدُّ ويقلصُ ثم نسخه بها فقبضه قبضاً سهلاً يسيراً غير عسيرا وقبضا سهلاً عند قيام السَّاعةِ بقبضِ أسبابهِ وهي الأجرامُ التي تلقي الظلَّ فيكون قد ذُكر إعدامُه بإعدامِ أسبابِه كما ذُكر إنشاؤه بإنشائِها ووصفه باليسرِ على طريقةِ قوله تعالى ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على تحقُّقِ الوقوع
{وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاساً} بيانٌ لبعض بدائعِ آثارِ قُدرتِه تعالى وحكمتِه وروائع أحكام رحمته ونعمه الفائضِة على الخلق وتلوينُ الخطابِ لتوفيةِ مقامِ الامتنانِ حقَّه واللامُ متعلِّقةٌ بجعلَ وتقديمُها على مفعولَيْه للاعتناءِ ببيان كونِ ما يعقُبه من منافعِهم وفي تعقيبِ بيان أحوال الظل ببيان أحكامِ اللَّيلِ الذي هُو ظلُّ الأرضِ من لُطف المسلكِ ما لا مزيدَ عليه أي هُوَ الذى جعلَ لكُم اللَّيلَ كاللِّباسِ يسترُكم بظلامِه كما يسترُكم اللِّباسُ {والنوم سُبَاتاً} أي وجعلَ النَّومَ الذي يقعُ في اللَّيلِ غالباً قطعاً عن الأفاعيل المختصَّة بحال اليقظةِ عبَّر عنه بالسُّباتِ الذي الموتُ لما بينها من المُشابهةِ التَّامةِ في انقطاعِ أحكامِ الحياةِ وعليهِ قولُه تعالى وَهُوَ الذى يتوفاكم بالليل وقولُه تعالى الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا {وَجَعَلَ النهار نُشُوراً} أي زمانَ بعثٍ من ذلك السُّباتِ كبعثِ الموتى على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامَه أو نفسُ البعثِ على طريق المبالغة وفيه إشارة إلى أن النَّومَ واليقظةَ أنموذجٌ للموتِ والنُّشورِ وعن لُقمانَ عليه السلام يا بُنيَّ كما تنامُ فتوقظُ كذلك تموتُ وتنشرُ
{وَهُوَ الذى أَرْسَلَ الرياح} وقُرىء بالتَّوحيدِ على أنَّ المرادَ هو الجنسُ {بُشْرًا} تخفيفُ بُشُر جمعُ بَشُورٍ أي مُبشِّرينَ وقُرىء بُشْرى وقرى نُشْراً بالنُّونِ جمعُ نَشور أي ناشرات للَّسَّحابِ وقُرىء بالتَّخفيفِ وبفتحِ النُّونِ أيضاً على أنه مصدرٌ
سورة الفرقان (46 48)
وُصف به مبالغةً وقولُه تعالى {بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} استعارةٌ بديعةٌ أي قُدامَ المطرِ والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ في قولِه تعالى {وَأَنزَلْنَا من السماء ماء طَهُوراً} لإبرازِ كمالِ العنايةِ بالإيزال لأنَّه نتيجةُ ما ذُكر من إرسالِ الرِّياحِ أي أنزلنا بعظمتِنا بما رتَّبنا من إرسالِ الرِّياح من جهةِ الفوقِ ماءً بليغاً في الطَّهارةِ وما قيل إنَّه ما يكون طاهراً في نفسه ومطهراً لغيرهِ فهو شرح لبلاغته في الطَّهارةِ كما ينبُىء عنه قوله تعالى وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ فإنَّ الطَّهورَ في العربيةِ إمَّا صفةٌ كما تقول ماء طهورا واسم كما في قوله صلى الله عليه وسلم التُّرابُ طهورُ المؤمنِ وقد جاء بمعنى الطَّهارةِ كما في قولك تطهرتُ طَهوراً حسناً كقولك وَضُوءاً حسناً ومنه قوله تعالى صلى الله عليه وسلم لا صلاةَ إلا بطَهورٍ ووصف الماءِ به إشعارٌ بتمام النِّعمةِ فيه وتتميم للنِّعمةِ فيما بعده فإنَّ الماءَ الطَّهورَ أهنأُ وأنفعُ ممَّا خالطه ما يزيل طهوريَّتَه وتنبيه على أنَّ ظواهرهم لما كانت ممَّا ينبغي أن يطهورها فبواطهم أحقُّ بذلك وأولى
{لّنُحْيِىَ بِهِ} أي بما أنزلنا من الماءِ الطَّهورِ {بَلْدَةً مَّيْتاً} بإنبات النَّباتِ والتَّذكيرُ لأنَّ البلدةَ بمعنى البلدِ ولأنَّه غير جارٍ على الفعل كسائر أبنية المبالغةِ فأُجريَ مُجرى الجامدِ والمرادُ به القطعةُ من الأرضِ عامرةً كانت أو غامرةً {وَنُسْقِيَهِ} أي ذلك الماءُ الطَّهورُ عند جريانه في الأوديةِ أو اجتماعه في الحياضِ والمنافعِ أو الآبارِ {مِمَّا خَلَقْنَا أنعاما وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً} أي أهلَ البوادي الذين يعيشون بالحَيَا ولذلك نكَّر الأنعامَ والأَناسيَّ وتخصيصهم بالذكر لأنَّ أهل القرى والأمصار يقيمون بقرب الأنهار والمبالغ فيهم وبما لهم من الأنعام غنيةٌ عن سُقيا السَّماءِ وسائرُ الحيوانات تبعدُ في طلب الماء فلا يُعوِزُها الشُّربُ غالباً مع أنَّ مساقَ الآياتِ الكريمةِ كما هو للدِّلالة على عظم القدرة فهو لتعداد أنواع النِّعمةِ والأنعامُ حيث كانت قُنيةً للإنسان وعامة منافعهم ومعايشهم مَنوطةٌ بها قُدِّمَ سقيُها على سقيهم كما قُدِّم عليها إحياءُ الأرضِ فإنَّه سببٌ لحياتِها وتعيُّشِها وقُرىء نُسقيه وأَسْقَى وسَقَى لغتان وقيل أسقاهُ جعل له سُقيا وأَناسيَّ جمع إنسيَ أو إنسانٍ كظرابي في ظربان على أنَّ أصله أناسينَ فقُلبت نونُه ياءً وقُرىء أَناسيْ بالتَّخفيفِ بحذف ياءِ أفاعيلَ كأناعمَ في أناعيمَ
{ولقد صرفناه} أي وبالله لقد كررنا هذا القول الذي هو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر لما مر من الغايات الجميلة في القرآن وغيره من الكتب السماوية {بينهم} أي بين الناس من المتقدمين والمتأخرين {ليذكروا} ليتفكروا ويعرفوا بذلك كمال قدرته تعالى وواسع رحمته في ذلك ويقوموا بشكر نعمته حق قيام وقيل الضمير للمطر وتصريفه بينهم إنزاله في بعض البلاد دون غيرها أو في بعض الأوقات دون بعض أو جعله تارة وابلا وأخرى طلا وحينا ديمه ووقتا رهمة والأول هو الأظهر {فأبى أكثر الناس} ممن سلف وخلف {إلا كفورا} أي لم يفعل إلا كفران النعمة وقلة الاكتراث لها أو وإلا جحودها بأن يقولوا مطرنا بنوء كذا ولا يذكر وصنع الله تعالى ورحمته ومن لا يرى الأمطار إلا من الأنواء فهو كافر بخلاف من يرى أن الكل يخلق الله تعالى
سورة الفرقان (51 53)
والأنواء أمارات لجعله تعالى
{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً} نبيَّاً ينذر أهلها فيخف عليك أعباءَ النبوةِ لكن لم نشأْ ذلك فلم نفعلْه بل قصرنا الأمرَ عليك حسبما ينطِق به قوله تعالى لِيَكُونَ للعالمين نَذِيراً إجلالاً لك وتعظيماً وتفضيلاً لك على سائر الرُّسلِ
{فَلَا تُطِعِ الكافرين} أي فقابل ذلك بالثَّباتِ والاجتهاد في الدَّعوةِ وإظهار الحقِّ والتَّشددِ معهم كأنَّه نهيٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن المُداراة معهم والتَّلطفِ في الدَّعوةِ لما أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يودُّ أنْ يدخُلوا في الإسلام ويجتهدُ في ذلك بتأليفِ قلوبهم أشدَّ الاجتهاد {وجاهدهم بِهِ} أي بالقُرآن بتلاوةِ ما في تضاعيفِه من القوارع والزَّواجرِ والمَواعظِ وتذكير أحوال الأممِ المكذِّبةِ {جِهَاداً كَبيراً} فإنَّ دعوةَ كلِّ العالمينَ على الوجهِ المذكورِ جهادٌ كبيرٌ لا يُقادرُ قدرُه كمًّا وكيفاً وقيل الضَّميرُ المجرورُ لتِركِ الطَّاعةِ المفهوم من النَّهي عن الطَّاعةِ وأنتَ خبيرٌ بأنَّ مجرَّد تركِ الطَّاعةِ يتحقَّقُ بلا دعوةٍ أصلاً وليس فيه شائبةُ الجهاد فضلان عن الجهاد الكبيرِ اللهمَّ إلَاّ أنْ تجعلَ الباء للملابسةِ ليكون المعنى وجاهِدْهم بما ذُكر من أحكامِ القُرآن الكريم ملابَساً بتركِ طاعتِهم كأنَّه قيل فجاهدْهم بالشِّدَّةِ والعُنفِ لا بالمُلاءمةِ والمُداراةِ كما في قوله تعالى يأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ وقد جُعل الضميرُ لما دلَّ عليه قولُه تعالى ولو شئنا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍ نذيرا من كونه صلى الله عليه وسلم نذيرَ كافَّةِ القُرى لأنَّه لو بُعث في كلِّ قرية نذير لوجبَ على كلِّ نذير مجاهدةُ قريتِه فاجتمعتْ على رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم تلك المجاهداتُ كلُّها فكبُر من أجلِ ذلك جهادُه وعظم فقيل له صلى الله عليه وسلم وجاهدْهم بسببِ كونِك نذيرَ كافَّةِ القُرى جهاداً كبيراً جامعاً لكلِّ مُجاهدةٍ وأنت خبيرٌ بأنَّ بيانَ سبب كِبَرِ المُجاهدةِ بحسب الكميَّةِ ليس فيه مزيد فإنَّه بيِّنٌ بنفسِه وإنَّما اللائقُ بالمقامِ بيانُ سببِ كبرِها وعظمِها في الكيفيَّةِ
{وَهُوَ الذى مَرَجَ البحرين} أي خلَاّهما متجاورينِ مُتلاصقين بحيثُ لا يتمازجانِ من مَرَجَ دابَّته إذا خلَاّها {هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ} قامعٌ للعطشِ لغايةِ عذوبتِه {وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} بليغُ المُلوحةِ وقُرىء مَلْحٌ فلعلَّه تخفيفُ مالحٍ كبَرْدٍ في باردٍ {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً} حاجزاً غيرَ مرئيَ من قُدرتِه كما في قوله تعالى بغير عمد وترونها {وَحِجْراً مَّحْجُوراً} وتنافراً مُفرِطاً كأن كلامهما يتعوَّذُ من الآخرِ بتلك المقالِة وقيل حَدَّاً محدُوداً وذلك كدجلةَ تدخلُ البحرَ وتشقُّه وتجري في خلالِه فراسخَ لا يتغيَّرُ طعمُها وقيل المرادُ بالبحرِ العذبِ اله العظيمُ وبالمالحِ البحرُ الكبيرُ وبالبرزخ ما بينهما من الأرضِ فيكون أثرُ القُدرة في الفصلِ واختلافِ الصِّفةِ مع أنَّ مُقتضى طبيعةِ كلِّ عُنصرٍ التَّضامُّ والتَّلاصقُ والتشابه في الكيفية
سورة الفرقان (54 59)
{وَهُوَ الذى خَلَقَ مِنَ الماء بَشَراً} هو الماءُ الذي خمَّر به طينة آدمَ عليه السلام أو جعله جُزءاً من مادَّةِ البشر ليجتمع ويسلسَ ويستعدَّ لقبول الأشكال والهيئاتِ بسهولة أو هو النُّطفةُ {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} أي قسمه قسمينِ ذوَيْ نسبٍ أي ذكوراً يُنتسبُ إليهم وذوات صهرا أي أناثاً يُصاهرُ بهنَّ كقولهِ تعالى فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والانثى {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} مبالغاً في القُدرة حيث قدرَ على أنْ يخلقَ من مادَّةٍ واحدةٍ بشراً ذَا أعضاءٍ مختلفةٍ وطباعٍ مُتباعدةٍ وجعله قسمين متقابلتين ورُبَّما يخلق من نُطفةٍ واحدة توأمين ذكرا وأنثى
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} الذي شأنه ما ذكر {مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ} أي ما ليس من شأنِه النَّفعُ والضُّرُّ أصلاً وهو الأصنامُ أو كل ما يعبدون من دونه تعالى إذْ ما من مخلوقٍ يستقلُّ بالنَّفع والضُّرُّ {وَكَانَ الكافر على رَبّهِ} الذي ذُكرتْ آثارُ ربوبَّيتهِ {ظَهِيرًا} يُظاهر الشَّيطانَ بالعداوةِ والشركِ والمرادُ بالكافر الجنسُ أو أبُو جهلٍ وقيل هيِّناً مهيناً لا اعتدادَ به عندَه تعالى من قولِهم ظهرتَ به إذا نبذته خلفَ ظهرِك فيكون كقولِه تعالى وَلَا يُكَلّمُهُمُ الله وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ
{قُلْ} لهم {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على تبليغِ الرَّسالةِ الذي ينبىءُ عنه الإرسالُ مِنْ {أَجْرٍ} من جهتكم {إِلَاّ مَن شَاء أن يتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً} أي الأفعال من يُريد أنْ يتقرَّبَ إليه تعالى ويطلبَ الزُّلْفى عندَه بالإيمانِ والطَّاعةِ حسبَما أدعُوهم إليهما فصوَّرَ ذلك بصورةِ الأجرِ من حيثُ إنَّه مقصودُ الإتيانِ به واستثنى منه قلعاً كلَّياً لشائبةِ الطَّمعِ وإظهاراً لغاية الشَّفقةِ عليهم حيثُ جعلَ ذلك مع كونِ نفعِه عائدا إليهم عائدا إليه صلى الله عليه وسلم وقيل الاستثناءُ منقطعٌ أي لكِنْ منَ شاء أنْ يتخذ إلى ربه سبيلا فليفعلْ
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الحى الذى لَا يَمُوتُ} في الاستكفاءِ عن شرورِهم والإغناءِ عن أجورِهم فإنَّه الحقيقُ بأنْ يتوكل بأن عليه دون الأحياء الذين من شأنِهم الموتُ فإنَّهم إذا ماتوا اضاع مَن توكَّل عليهم {وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ} ونزَّهه عن صفاتِ النُّقصانِ مُثنياً عليه بنعوتِ الكمالِ طالباً لمزيدِ الإنعامِ بالشُّكرِ على سوابغِه {وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ} ما ظهرَ منها وما بطنَ {خَبِيراً} أي مُطَّلِعاً عليها بحيثُ لا يَخْفى عليه شيءٌ منها فيجزيهم جزاءً وافيا
قد سلفَ تفسيرُه ومحلُّ الموصولِ الجرُّ على أنَّه صفةٌ أُخرى للحيِّ وصف بالصِّفةِ الفعلية بعد وصفهِ بالأبديَّةِ التي هي من الصَّفاتِ الذَّاتيةِ والإشارةُ إلى الصافة بالعلمِ الشَّاملِ لتقريرِ وجوبُ التوكلِ عليه تعالى وتأكيده فإنَّ من أنشأَ هذه الأجرامَ العظامَ على هذا النمطِ الفائقِ والنَّسقِ الرَّائقِ بتدبيرٍ متينٍ وترتيبٍ رصينٍ في أوقاتٍ معيَّنة مع كمال قدرتِه على إبداعها دفعةً لحكمِ جليلةٍ وغاياتٍ جميلةٍ لا تقف على تفاصيلِها العقولُ أحقُّ مَن يُتوكَّل عليه وأَولى من يُفوَّضُ الأمرُ إليه {الرحمن} مرفوعٌ على المدحِ أي هو الرحمنُ وهو في الحقيقةِ وصفٌ آخرُ للحيِّ كما قُرىء بالجرِّ مفيد لزيادة تأكيد ما ذُكر من وجوبُ التوكلِ عليه تعالى وإنْ لم يتبْعه في الإعرابِ لما تقرَّر من أنَّ المنصوبَ والمرفوعَ مَدحاً وإنْ خرجَا عن التبيعة لما قبلهما صورةً حيثُ لم يتبعاهُ في الإعرابِ وبذلك سُمّيا قطعاً لكنَّهما تابعانِ له حقيقةً أَلَا يرى كيف النزموا حذف الفعل والمتدأ في النصب والرفع وما لتصوير كلَ منهما بصورةِ متعلِّقٍ من متعلَّقات ما قبلَه وتنبيهاً على شدَّةِ الاتِّصالِ بينهما وقد مرَّ تمامُ التَّحقيق في تفسير قولِه عز وجل الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب الآيةَ وقيل الموصولُ مبتدأٌ والرَّحمنُ خبرُه وقيل الرَّحمنُ بدلٌ من المستكنِّ في استوى {فَاسْأَلْ بِهِ} أي بتفاصيلِ ما ذُكر إجمالاً من الخَلْقِ واستواء لا بنفسِهما فقط إذْ بعد بيانِهما لا يبقى إلى السُّؤالِ حاجةٌ ولا في تعديتهِ بالباءِ فائدةٌ فإنَّها مبنيَّةٌ على تضمينهِ معنى الاعتناءِ المستدعِي لكون المسؤل أمراً خطيراً مهتمًّا بشأنِه غيرَ حاصلٍ للسَّائلِ وظاهرٌ أنَّ نفسَ الخلقِ والاستواءِ بعد الذِّكرِ ليس كذلكَ وما قيل من أن التَّقديرَ إنْ شككتَ فيه فاسألْ به خَبيراً على أن الخطاب له صلى الله عليه وسلم والمرادَ غيرُه بمعزلٍ من السَّدادِ بل التَّقديرُ إنْ شئتَ تحقيقَ ما ذُكر أو تفصيلَ ما ذُكر فاسألْ معنيًّا بهِ {خَبِيراً} عظيمَ الشَّأنِ محيطاً بظواهرِ الأمورِ وبواطِنها وهو الله سبحانَه يُطلعك على جليَّةِ الأمرِ وقيل فاسألْ به من جده في الكتبِ المتقدِّمةِ ليصدُقكَ فيه فلا حاجةَ حينئذٍ إلى ما ذَكرنا وقيل الضَّميرُ للرَّحمنِ والمعنى إنْ أنكرُوا إطلاقُه على الله تعالى فاسألْ عنه مَن يُخبرك من أهلِ الكتابِ ليعرفوا مجيء ما يردافه في كتبِهم وعلى هَذا يجوزُ أنْ يكونَ الرَّحمنُ مبتدأ وما بعده خبرا وقُرىء فَسَلْ
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن قَالُواْ وَمَا الرحمن} قالوا لما أنهم ما كانوا يُطلقونَهُ على الله تعالى أو لأنَّهم ظنُّوا أنَّ المرادَ به غيرُه تعالى ولذلك قالُوا {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} أي للذي تأمرُنا بسجودِه أو لأمرِك إيَّانا من غيرِ أنْ نعرفَ أن المسجود له ماذا وقيل لأنَّه كانَ مُعرَّباً لم يسمعُوه وقُرىء يأْمُرنا بياءِ الغَيبةِ على أنَّه قولُ بعضِهم لبعضٍ {وَزَادَهُمْ} أي الأمرُ بسجودِ الرَّحمنِ {نُفُورًا} عن الإيمانِ
{تَبَارَكَ الذى جَعَلَ فِى السماء بُرُوجاً} هيَ البروجُ الاثنَا عشرَ سُّمِّيتْ به وهي القُصور العاليةُ لأنَّها للكواكبِ السَّيارةِ كالمنازلِ الرَّفيعةِ لسُكَّانِها واشتقاقُه من البُرجِ لظهورِه {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً} هي الشَّمسُ لقولِه تَعالَى وجعل الشَّمسَ سراجاً وقُرىء سرجا وهي
سورة الفرقان (62 65)
الشَّمسُ والكواكبُ الكبارُ {وَقَمَراً مُّنِيراً} مُضيئاً بالليَّل وقُرىء قمرا أي ذا قمر وهي مع قَمراءَ ولما أنَّ اللَّياليَ بالقمر تكون قمرا ضيف إليها ثمَّ حُذفَ وأُجريَ حكمُه على المضافِ إليهِ القائمِ مقامَهُ كما في قولِ حسَّانَ رضي الله عنه {بردى يضيق بالرَّحيقِ السَّلسلِ} أي ماءُ بَردى ويُحتمل أنَّ يكونَ بمعنى القمرِ كالرَّشدِ والرُّشدِ والعَرَبِ والعُرْبِ
{وهو الذي جعل الليل والنهار خِلْفَةً} أي ذَوَي خلفةٍ يخلفُ كلٌّ منهما الآخرَ بأنْ يقومَ مقامَه فيما ينبغي أنْ يَعملَ فيه أو بأنْ يَعتِقبا كقوله تعالى واختلاف الليل والنهار وهي اسمٌ للحالةِ من خلفَ كالرِّكبةِ والجِلسةِ من رَكِبَ وجَلَس {لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} أي يتذكَّر آلاءَ الله عز وجل ويتفكَّر في بدائعِ صُنَعهِ فيعلم أنَّه لا بُدَّ لها من صانعٍ حكيمٍ واجبِ الذَّاتِ رحيمٍ للعبادِ {أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} أي أنْ يشكَر الله تعالى على ما فيهما من النِّعمِ أو ليكونا وقتين للذاكربن مَن فاتَهُ وِرْدُه في أحدهما تداركه في الآخر وقرى أنْ يذكُرَ من ذَكَر بمعنى تذكَّر
{وَعِبَادُ الرحمن} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ أو صاف خلَّصِ عبادِ الرَّحمنِ وأحوالِهم الدَّنيويةِ والأخُروَّيةِ بعد بيان حال النَّافرين عن عبادتِه والسُّجودِ له والإضافةُ للتَّشريفِ وهو مبتدأ خبرُه ما بعدَهُ من الموصولِ وما عُطف عليهِ وقيلَ هو ما في آخرِ السُّورةِ الكريمةِ من الجُملةِ المصدَّرةِ الإشارةِ وقُرىء عبادُ الرَّحمنِ أي عبادُه المقبُولونَ {الذين يَمْشُونَ على الارض هَوْناً} أي بسكينةٍ وتواضعٍ وهَوْناً مصدرٌ وُصف به ونصبُه إمَّا على أنَّه حالٌ من فاعلِ يمشُون أو على أنه نعث لمضدره أي يمشُون هيِّنين ليِّنيِ الجانبِ من غيرِ فظاظةٍ أو مشياً هيِّنا وقولُه تعالى {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون} أي السُّفهاءُ كما في قول من قال ألا لَا يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَينا فنجهل فوق جهل الجاهلية
…
{قَالُواْ سَلَاماً} بيانٌ لحالِهم في المُعاملة مع غيرِهم إِثرَ بيانِ حالِهم في أنفسِهم أي إذا خاطبُوهم بالسُّوءِ قالوا تسليماً منكمُ ومتاركةً لا خيرَ بيننا وبينكم شرَّ وقيل سَداداً من القولِ يسلمُون به من الأذيَّةِ والإثمِ وليسَ فيه تعرُّضٌ لمعاملتِهم مع الكَفَرةِ حتَّى يُقالَ نسختها آيةُ القتالِ كما نُقل عن أبي العاليةِ وقولُه تعالى
{وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وقياما} بيانٌ لحالِهم في معاملتِهم مع ربِّهم أي يكونون ساجدين لربِّهم وقائمين أي يحبون اللَّيلَ كُلاًّ أو بعضاً بالصَّلاةِ وقيل من قرأ شيئاً من القُرآنِ في صلاةٍ وإنْ قلَّ فقد باتَ ساجداً وقائماً وقيل هُما الرَّكعتانِ بعد المغربِ والرَّكعتانِ بعد العشاءِ وتقديمُ السُّجودِ على القيامِ لرعايةِ الفواصلِ
{والذين يَقُولُونَ} أي في أعقابِ صلواتِهم أو في عامة أو قاتهم {رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً}
أي شراً دائماً وهلاكاً لازماً وفيه مزيدُ مدحٍ لهم ببيان أنَّهم مع حُسن معاملتِهم مع الخلقِ واجتهادِهم في عبادةِ الحقِّ يخافُون العذابَ ويبتهلون إلى الله تعالَى في صرفِه عنهم مختلفين بأعمالِهم كقوله تعالَى والذين يُؤْتُونَ ما آتوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون
{إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} تعليلٌ لاستدعائِهم المذكورِ بسوءِ حالِها في نفسها إثرَ تعليلهِ بسوء حالِ عذابِها وقد جوز أن يكون تعليلاً للأُولى وليس بذاك وساءتْ في حكم بئستُ وفيها ضميرٌ مبهمٌ يفسِّره مستقرَّاً والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ معناه ساءتْ مستقرَّاً ومقاماً هَي وهذا الضَّميرُ هو الذي ربطَ الجملة باسمِ إنَّ وجعلَها خبراً لها قيلَ ويجوزُ أنْ يكونَ ساءتْ بمعنى أحزنتْ وفيها ضميرا اسم إنَّ ومستقرَّاً حالٌ أو تمييزٌ وهو بعيدٌ خالٍ عَّما في الأولِ من المبالغةِ في بيانِ سوءِ حالِها وكذا جعل التعليلينِ من جهتِه تعالى
{والذين إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ} لم يجاوزُوا حدَّ الكرمِ {وَلَمْ يَقْتُرُواْ} ولم يضيِّقُوا تضييقَ الشَّحيحِ وقيل الإسراف هو الإتفاق في المعاصِي والقترُ منعُ الواجباتِ والقُربِ وقُرىء بكسرِ التَّاءِ مع فتحِ الياءِ وبكسرها مخففة ومشدة مع ضمِّ الياءِ {وَكَانَ بَيْنَ ذلك} أي بين ما ذكر من الإسراف والقَترِ {قَوَاماً} وسطاً وعدلاً سُمِّي به لاستقامةِ الطَّرفينِ كما سُمِّيَ به سواءً لا ستوائهما وقُرىء بالكسرِ وهو ما يُقام به الحاجةُ لا يفضلُ عنها ولا ينقصُ وهو خبرٌ ثانٍ أو حالٌ مؤكِّدة أو هو الخبرُ وبين ذلك لغوٌ وقد جوز أن يكون اسمَ كانَ على أنَّه مبنيٌّ لأضافتِه إلى غيرِ متمكِّن ولا يَخْفى ضعفُه فإنَّه بمعنى القوام فيكون كالإخبارِ بشيءِ عن نفسِه
{والذين لَا يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخر} شروعٌ في بيان اجتنابِهم عن المعاصي بعد بيانِ إتيانِهم بالطَّاعات وذكرُ نفيِ الإسرافِ والقَتْرِ لتحقيقِ معنى الاقتصادِ والتَّصريحُ بوصفِهم بنفيِ الإشراكِ مع ظهورِ إيمانِهم لإظهارِ كمالِ الاعتناء بالتَّوحيدِ والإخلاصِ وتهويلِ أمرِ القتلِ والزِّنا بنظمِهما في سلكِه وللتَّعريضِ بما كانَ عليه الكَفَرةُ من قُريشٍ وغيرِهم أي لا يعبدونَ معه تعالى إلهاً آخرَ {وَلَا يَقْتُلُونَ النفس التى حَرَّمَ الله} أي حرَّمها بمعنى حرَّم قتلَها فحُذف المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليه مقامه مبالغةً في التَّحريمِ {إِلَاّ بالحق} أي لا يقتلونَها بسببٍ من الأسبابِ إلا بسببِ الحقِّ المزيلِ لحُرمتِها وعصمتِها أو لا يقتلون قتلاً ما إلا قتلاً ملتبساً بالحقِّ أو لا يقتلونها في حالٍ من الأحوالِ إلا حال كونهم ملتبسين بالحقِّ {وَلَا يَزْنُونَ} أي الذين لا يفعلُون شيئاً من هذه العظائمِ القبيحةِ التي جمعهنَّ الكفرةُ حيث كانُوا مع إشراكِهم به سبحانه مداومين على قتلِ النُّفوسِ المحرَّمةِ التي من جُملتها الموءودةُ مكبِّين على الزنا لا يرعون عنه أصلاً {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} أي ما ذُكر كما هو دأبُ الكَفرةِ
سورة الفرقان (69 72) المذكُورين {يَلْقَ} في الآخرةِ وقرىء يلقَّ بالتَّشديدِ مجزوماً {أَثَاماً} وهو جزاءُ الإثمِ كالوبال والنِّكال وزناً ومعنى وقيل هو الإثم أي يلقَ جزاءُ الإثم والتَّنوينُ على التَّقديرين للتفخيم وقُرىء أيَّاماً أي شدائدَ يقال يومٌ ذُو أيَّام لليومِ الصَّعبِ
{يضاعف لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة} بدلٌ من يلقَ لاتِّحادِهما في المعنى كقوله
…
متى تأتِنا تُلمِمْ بنا في ديارِنا
…
تجدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تأجَّجاً وقُرىء
…
بالرَّفع على الاستئنافِ أو على الحالَّيةِ وكذا ما عُطف عليه وقرىء يُضعَّف ونُضعِّف له العذابَ بالنُّون ونصبِ العذابِ {وَيَخْلُدْ فِيهِ} أي في ذلكَ العذابِ المضاعفِ {مُهَاناً} ذليلاً مستحقراً جامعاً للعذاب الجُسمانيِّ والرُّوحانيِّ وقرىء يُخلَد ويُخلَّد مبنياً للمفعول من الإخلاد والتَّخليدِ وقُرىء تخلُد بالتاء على الالتفات المنبىءِ عن شدَّة الغضبِ ومضاعفةِ العذابِ لانضمامِ المعاصي إلى الكفر كما يفصحُ عنه قولُه تعالى
{إلا من تاب وآمن وعمل صالحا} وذكر الموصوفِ مع جريانِ الصَّالحِ والصَّالحاتِ مَجرى الإسم للإعتناء والتنَّصيص على مغايرتهِ للأعمال السَّابقةِ {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى الموصولِ والجمعُ باعتبارِ معناه كما أن الإفراد في الأفعالِ الثَّلاثة باعتبار لفظةِ أي أولئك الموصُوفون بالتَّوبةِ والإيمانِ والعملِ الصَّالحِ {يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات} بأنْ يمحوَ سوابقَ معاصِيهم بالتَّوبةِ ويثبت مكانَها لواحقَ طاعتِهم أو يبدلَ بملكة المعصيةِ ودواعيها في النفس ملكةَ الطَّاعةِ بأنْ يُزيلَ الأُولى ويأتيَ بالثَّانيةِ وقيل بأنْ يُوفقَه لأضدادِ ما سلف منه أو أن يُثبت له بدَل كلِّ عقابٍ ثواباً وقيل يبدلهم بالشِّركِ إيماناً وبقتل المسلمينَ قتلَ المشركين وبالزِّنا عفَّةً وإحصاناً {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} اعتراض تذيبلى مقرِّرٌ لما قبله من المحوِ والإثبات
{وَمَن تَابَ} أي عن المعاصي بتركها بالكليَّة والنَّدمِ عليها {وَعَمِلَ صالحا} يتلافى به ما فَرَطَ منه أو خرج عن المعاصي ودخل في الطَّاعات {فَإِنَّهُ} بما فعلَ {يَتُوبُ إِلَى الله} أي يرجعُ إليه تعالى {مَتاباً} أي متاباً عظيمَ الشَّأنِ مرضيّاً عنده تعالى ما حيا للعقاب محصِّلاً للثَّوابِ أو يتوب متاباً إلى الله تعالى الذي يحبُّ التَّوابينَ ويحسن إليهم أو فإنَّه يرجعُ إليه تعالى أو إلى ثوابه مرجعاً حسناً وهذا تعيمم بعد تخصيصِ
{والذين لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} لا يُقيمون الشَّهادةَ الكاذبةَ أو لا يحضُرون محاضرَ الكذبِ فإنَّ مشاهدةَ الباطل مشاركةٌ فيه {وَإِذَا مَرُّواْ} على طريقِ الاتفاقِ {باللغو} أي ما يجبُ أنْ يُلغى ويُطرحَ مَّما لا خيرَ فيه {مَرُّواْ كِراماً} معرضين عنه مكرِمين أنفسَهم عن الوقوف عليه والخوض فيه ومن ذلك الإغضاءُ عن الفواحش والصَّفحُ عن الذُّنوب والكنايةُ عمَّا يُستهجنُ التصريح به
سورة الفرقان (73 75)
{والذين إذا ذكروا بآيات رَبّهِمْ} المنطويةِ على المواعظ والأحكامِ {لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} أي أكبُّوا عليها سامعين بآذانٍ واعيةٍ مجلين لها بعيون راعية وإنما عبَّر عن ذلك بنفي الضِّدِّ تعريضاً بما يفعله الكفرةُ والمنافقون وقيل الضَّميرُ للمعاصي المدلولِ عليها باللغو
{والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أزواجنا وذرياتنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} بتوفيقهم للطَّاعةِ وحيازة الفضائلِ فإنَّ المؤمنَ إذا ساعده أهلُه في طاغة الله عز وجل وشاركوه فيها يُسرُّ بهم قلبُه وتقرُّ بهم عينُه لما يشاهدُه من مشايعتهم له في مناهجِ الدِّينِ وتوقُّعِ لحوقِهم به في الجنَّة حسبما وعد بقوله تعالى أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ ومِن ابتدائتة او بيانية وقرئ وذريتا وتنكيرُ الأعينِ لإرادة تنكيرِ القُرَّة تعظيماً وتقليلُها لأنَّ المراد أعين المنقين ولا ريبَ في قلَّتِها نظراً إلى غيرِها {واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} أي اجعلنا بحيثُ يقتدون بنا في إقامة مواسم الدِّين بإفاضة العلم والتَّوفيقِ للعمل وتوحيدُه للدِّلالة على الجنس وعدم الإلباس كقوله تعالى ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً أو لأنَّ المرادَ واجعلْ كلَّ واحدٍ مَّنا إماماً أو لأنَّهم كنفس واحدةٍ لاتِّحاد طريقتهم واتِّفاق كلمتِهم كذا قالُوا وأنت خبيرٌ بأن مدارَ الكلِّ صدورُ هذا الدُّعاء إما عن الكلِّ بطريق المعيَّةِ وأنه محال لاستحانة اجتماعِهم في عصرٍ واحدٍ فما ظك باجتماعهم في مجلسٍ واحدٍ واتِّفاقِهم على كلمةٍ واحدةَ وإما عنْ كلَّ واحدٍ منْهُم بطريق تشريك غيره في استدعاءِ الإمامةِ وأنَّه ليس بثابتٍ جَزْماً بل الظَّاهرُ صوره عنهم بطريقِ الانفرادِ وأنَّ عبارةَ كلِّ واحدٍ منهم عند الدُّعاء واجعلني للمتَّقين إماماً خلا أنه حُكيت عباراتُ الكلِّ بصيغة المتكلِّم مع الغيرِ للقصدِ إلى الإيجاز على طريقة قوله تعالى يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا وأتقى إماماً على حاله وقيل الإمامُ جمعُ آمَ بمعنى قاصد كصيام جمع صائم ومعناه قاصدين لهم مُقتدين بهم وإعادةُ الموصولِ في المواقع السَّبعةِ مع كفايةِ ذكرِ الصِّلات بطريقِ العطفِ على صلة الموصول الأول للإبذان بأنَّ كلَّ واحدٍ ممَّا ذُكر في حيَّزِ صلةِ الموصولاتِ المذكورة وصفٌ جليلٌ على حِياله له شأنٌ خُطيرٌ حقيقٌ بأنْ يُفردَ له موصوفٌ مستقلٌّ ولا يُجعل شيءٌ من ذلكَ تتمة لغيرهِ وتوسيط العاطفِ بين الموصولاتِ لتنزيلِ الاختلافِ العنوانيِّ منزلةَ الاختلافِ الذاتيِّ كما في قولِه
…
إلى الملكِ القَرمِ وابنِ الهُمَام
…
وليثِ الكتائبِ في المزْدَحَمْ
…
{أولئك} إشارةٌ إلى المتَّصفين بما فصل في حين صلة الموصُولات الثمَّانيةِ من حيثُ اتِّصافُهم به وفيهِ دلالةٌ على أنَّهم متميِّزون بذلك أكملَ تميُّز منتظِمون بسببه في سِلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للإيذانِ ببُعد منزلتِهم في الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى {يُجْزَوْنَ الغرفة} والجملةُ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب مبينةٌ لما لَهُمْ فِى الآخرةِ من السَّعادةِ الأبديَّةِ إثرَ بيانِ ما لهُم في الدُّنيا من الأعمال السَّنيةِ والغُرفة الدَّرجةُ العاليةُ من المنازل وكلُّ بناء
سورة الفرقان (76 77)
مرتفعٍ عالٍ أي يُثابون أعلى منازل الجنَّةِ وهي اسمُ جنسٍ أُريد به الجمع كقولِه تعالى وَهُمْ في الغرفات آمنون وقيل هي اسمٌ من أسماء الجنَّةِ {بِمَا صَبَرُواْ} أي بصبرِهم على المشاقِّ من مضض الطَّاعاتِ ورفض الشَّهواتِ وتحمُّلِ المجاهدات {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا} من جهةِ الملائكةِ {تحية وسلاما} أي يحيهم الملائكةُ ويدعُون لهم بطول الحياة والسَّلامةِ من الآفاتِ أو يعطون النبقية والتَّخليدَ مع السَّلامةِ من كلِّ آفةٍ وقيل يُحيِّي بعضُهم بعضاً ويُسلِّم عليه وقُرىء يلقَون من لَقِي
{خالدين فِيهَا} لا يموتُون ولا يُخرجون {حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} الكلامُ فيه كالذي مرَّ في مقابلة
{قُلْ} أُمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأنْ يبيِّن للنَّاسِ أنَّ الفائزون بتلك النَّعماءِ الجليلةِ التي يتنافسُ فيها المتنافسونَ إنَّما نالُوها بما عُدِّدَ من محاسنهم ولولاها لم يُعتدَّ بهم أصلاً أي قُل لهم كافَّةً مشافِهاً لهم بما صدرَ عن جنسهم من خيرٍ وشر {ما يعبأ بِكُمْ رَبّى لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} أيْ أيُّ عبءٍ يُعبأُ بكم وأيُّ اعتدادٍ يُعتدُّ بكم لولا عبادتُكم له تعالى حسبما مرَّ تفصيلُه فإنَّ ما خُلق له الإنسانُ معرفتُه تعالى وطاعتُه وإلَاّ فهو وسائرُ البهائمِ سواءٌ وقال الزَّجَّاجُ معناه أيُّ وزنٍ يكون لكم عنده وقيل معناه ما يصنع بكم ربي لولا دعاؤه إيَّاكم إلى الإسلامِ وقيل ما يصنعُ بعذابِكم لولا دعاؤكم معه آلهةً ويجوز أن تكون مانافية وقوله تعالى {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} بيانٌ لحال الكَفَرةِ من المخاطَبين كما أنَّ ما قبله بيانٌ لحال المُؤمنين منُهم أي فقد كذَّبتُم بما أخبرتكم به وخالقتموه أيُّها الكَفَرةُ ولم تعملوا عملَ أولئك المذكورينَ وقيل فقد قصَّرتمُ في العبادة من قولهم كذَب القتالُ إذا لم يُبالغ فيه وقُرىء فقد كذبَ الكافرون أي الكافرون منكُم لعمومِ الخطابِ للفريقينِ وفائدتُه الإيذانُ بأنَّ مناطَ فوزِ أحدِهما وخسرانِ الآخر مع الاتِّحاد الجنسيِّ المصحِّحِ للاشتراكِ في الفوزِ ليس إلا اختلافُهما في الأعمال {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} أي يكون جزاءُ التكذيبِ أو أثرُه لازماً يحيقُ بكم لا محالةَ حتَّى يُكبكم في النَّارِ كما تُعربُ عنه الفاءُ الدَّالَّةُ على لزومِ ما بعدها لما قبلَها وإنَّما أُضمر من غير ذكرٍ للإيذان بغاية ظهوره وتهويل أمره وللتنبيه على أنه مَّما لا يُكتنهه البيانُ وقيل يكون العذابُ لزاماً وعن مجاهد رحمه الله هو القتلُ يومَ بدرٍ وأنه لُوزم بين القَتْلى وقُرىء لَزاماً بالفتح بمعنى اللُّزومِ كالثَّباتِ والثُّبوتِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن قرأَ سورةَ الفرقانِ لقي الله تعالَى وهُو مؤمن بأن الساعة آنية لا ريبَ فيها وأُدخلَ الجنة بغير نصب
سورة الشعراء (1 4)
سورة الشعراء مكية إلا الآيات 197 ومن آية 224 إلى آخر السورة فمدنية وآياتها 227
{طسم} بتفخيمِ الألف وبإمالتِها وإظهارِ النُّونِ وبإدغامِها في الميمِ وهو إمَّا مسرودٌ على نمطِ التعديدِ بطريقِ التَّحدِّي على أحدِ الوجهينِ المذكورينِ في فاتحة البقرةِ فلا محلَّ له من الإعرابِ وإمَّا اسمٌ للسورة كما عليه الإطباق الأكثرِ فمحلُّه الرفعُ على أنَّه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ وهو أظهرُ من الرَّفع على الابتداءِ وقد مرَّ وجهُه في مطلعِ سُورة يونسَ عليه السلام أو النصبُ بتقديرِ فعلِ لائقٍ بالمقام نحوُ اذكُر أو اقرأْ وتلكَ في قولِه تعالى
{تلك آيات الكتاب المبين} إشارةٌ إلى السُّورة سواءٌ كانَ طسم مسروداً على نمطِ التعديدِ أو اسماً للسُّورة حسبما مرَّ تحقيقُه هناك وما في إسمِ الإشارةِ من معنى البُعد للتنبيه على بُعد منزلةِ المشارِ إليه في الفخامةِ ومحلُّه الرفعُ على أنه مبتدأ خبرُه ما بعَدُه وعلى تقديرِ كونِ طسم مبتدأً فهو مبدأ ثانٍ أو بدلٌ من الأَّولِ والمرادُ بالكتابِ القرآنُ وبالمبينِ الظَّاهرُ إعجازُه على أنه من أبان بمعنى بانَ أو المُبينُ للأحكامِ الشَّرعيةِ وما يتعلَّقُ بها أو الفاصلِ بين الحقِّ والباطلِ والمعنى هي آياتٌ مخصوصةٌ منه مترجمةٌ باسمِ مستقلٍ والمرادُ ببيانُ كونِها بعضا منه وصفُها بما اشتُهر به الكُلُّ من النُّعوتِ الفاضلةِ
{لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ} أي قاتلٌ وأصلُ البَخعِ أنْ يبلغَ بالذَّبحِ النُّخاعَ وهو عرقٌ مستبطنُ الفقارِ وذلك أقصى حدِّ الذَّبحِ وقُرىء باخِعُ نفسِك على الإضافةِ ولعل للإشتفاق أي أشفقْ على نفسِك أنْ تقتلَها حسرةً على ما فاتَك من إسلامِ قومِك {أَلَاّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} أي لعدمِ إيمانِهم بذلكَ الكتابِ المبينِ أو خيفةَ أنْ لا يُؤمنوا به وقوله تعالى
{إِن نَّشَأْ} الخ استئنافٌ مَسوقٌ لتعليلِ ما يُفهم من الكلام من النَّهي عن التَّحسرِ المذكور ببيانِ أنَّ إيمانَهم ليس ممَّا تعلَّقتْ به مشيئةُ الله تعالى حتماً فلا وجهَ للطَمعِ فيه والتَّألمِ من فواتِه ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ لكونه مضمونَ الجزاءِ أعني قوله تعالى {نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ من السماء آية} أي ملجئةً لهم إلى الإيمانِ قاسرةً عليه وتقديمُ الظَّرفينِ على المفعول الصَّريحِ لما مر مرارا من الإهتمام بالمقدم
سورة الشعراء (5 7)
والتَّشويقِ إلى المؤخَّرِ {فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين} أي مُنقادين وأصلُه فظلوا لها خاضعين فأقتحمت الأعناقُ لزيادةِ التَّقريرِ ببيانِ موضعِ الخضوعِ وتُرك الخبرُ على حالِه وقيل لمَّا وُصفت الأعناقُ بصفاتِ العُقلاء أُجريتْ مجراهم في الصِّيغةِ أيضاً كَما في قولِه تعالى رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ وقيل أُريد بها الرُّؤساءُ والجماعاتُ من قولِهم جاءنا عنقٌ من النَّاسِ أي فوجٌ منهم وقُرىء خاضعةً وقولُه تعالى فظلَّتْ عطفٌ على تنزل باعتبارِ محلِّه وقولُه تعالَى
{وَمَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ من الرحمن محدث إلا كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ} بيانٌ لشدَّةِ شكيمتهم وعدمِ ارعوائهم عمَّا كانوا عليه من الكُفر والتَّكذيبِ بغير ما ذُكر من الآيةِ المُلجئةِ لصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرصِ على إسلامِهم وقطعِ رجائِه عنه ومِن الأولى مزيدة لتأكيد العموم والثَّانيةُ لابتداء الغايةِ مجازاً متعلقةٌ بيأتيهم أو بمحذوف هو صفة الذكر وأياما كان ففيه دلالة على فضله وشرفه وشاعة ما فعلوا به والتعرض لعنُوان الرَّحمةِ لتغليظِ شناعتِهم وتهويلِ جنايتِهم فإنَّ الإعراضَ عمَّا يأتيهم من جنابِه عز وجل على الإطلاقِ شنيع قبيحٌ وعما يأتيهم بموجبِ رحمته تعالى المحض منفعتِهم أشنعُ وأقبحُ أي ما يأتيهم من موعظةٍ من المواعظ القرآنية أومن طائفة نازلة من القرآن تذكِّرهم أكملَ تذكيرٍ وتنبِّههم عن الغفلة أتم تنبيه كأنَّها نفسُ الذِّكرِ من جهتهِ تعالى بمقتضى رحمتِه الواسعةِ مجدد تنزيله حسبما تقتضيه الحكْمةُ والمصلحة إلا جدَّدوا إعراضاً عنه على وجه التكذيبِ والاستهزاء وإصرار أعلى ما كانوا عليه من الكفرِ والضَّلالِ والاستثناءُ مفرَّغٌ من أعمِّ الأحوالِ محلُّه النصبُ على الحالية من مفعول يأتيهم بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهورِ أي مَا يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ في حالٍ من الأحوالِ إلا حال كونهم مُعرضين عنه
{فَقَدْ كَذَّبُواْ} أي كذَّبوا بالذِّكرِ الذي يأتيهم تكذيباً صَريحاً مُقارناً للاستهزاءِ به ولم يكتفُوا بالإعراضِ عنه حيثُ جعلُوه تارة سحراً وأُخرى أساطيرَ وأُخرى شعراً والفاء في قوله تعالى {فَسَيَأْتِيهِمْ} لترتيبِ ما بعدها على ما قبلَها والسِّينُ لتأكيد مضمونِ الجملة وتقريرهِ أي فسيأتيهم البتةَ من غير تخلّفٍ أصلاً {أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يستهزؤون} عدلَ عمَّا يقتضيه سائرُ ما سلف من الإعراض والتَّكذيبِ للإيذان بأنَّهما كانا مقارنين للاستهزاءِ كما أشير إليه حسبما وقع في قوله تعالى وما تأتيهم من آيةٍ من آيات رَبّهِمْ إِلَاّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يستهزؤن وأنباؤُه ما سيحيقُ بهم من العُقوبات العاجلةِ والآجلةِ عبر عنها بذاك إما لكونها مما نبأ أبها القُرآنُ الكريمُ وإمَّا لأنَّهم بمشاهدتِها يقفُون على حقيقةِ حالِ القُرآنِ كما يقفُون على الأحوالِ الخافيةِ عنهم باستماعِ الأنباءِ وفيه تهويلٌ له لأنَّ النَّبأَ لا يُطلق إلا على خبرٍ خطيرٍ له وقعٌ عظيمٌ أي فسيأتيهم لا محالةَ مصداق ما كانوا يستهزءون به قَبلُ مِنْ غير أنْ يتدَّبروا في أحوالِه ويقفوا عليها
سورة الشعراء (8 10) والواو للعطف على مقدار يقتضيه المقام أي افعلُوا ما فعلُوا من الإعراضِ عن الآيات والتَّكذيبِ والاستهزاء بها ولم ينظرُوا {إِلَى الأرض} أي عجائبها الزَّاجرةِ عمَّا فعلُوا الدَّاعيةِ إلى الإقبال على ما أعرضُوا عنه وإلى الإيمانِ بهِ وقولُه تعالَى {كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} استئنافٌ مبيِّن لما في الأرضِ من الآيات الزَّاجرةِ عن الكُفر الدَّاعيةِ إلى الإيمان وكمْ خبريةٌ منصوبةٌ بما بعدها على المفعوليَّةِ والجمعُ بينها وبينَ كلِّ لإفادةِ الإحاطةِ والكثرةِ معاً ومن كل زوج أي صنف تمييز والكريمُ من كلِّ شيءٍ مرضيُّه ومحمودُه أي كثيراً من كلِّ صنفٍ مرضيَ كثير المنافع أنبتنا فيها وتخصيصُ إنباته بالذِّكر دون ما عداه من الأصنافِ لاختصاصِه بالدِّلالةِ على القُدرة والنعمة معاً ويُحتمل أنْ يرادَ به جميعُ أصناف النبات نافعِها وضارِّها ويكون وصفُ الكلِّ بالكرمِ للتنبيه على أنَّه تعالى ما أنبتَ شيئا إلا وفيه حكمة فائدةٌ كما نطقَ به قوله تعالى هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً فإنَّ الحكيمَ لا يكادُ يفعلُ فعلاً إلا وفيه حكمةٌ بالغةٌ وإنْ غفلَ عنها الغافلونَ ولم يتوصَّلْ إلى معرفةِ كُنْهِها العاقلون
{إِنَّ فِى ذَلِكَ} إشارةٌ إلى مصدرِ أنبتنا أو إلى كلُّ واحدٍ من تلك الأزواجٍ وأيَّا ما كان فما فيه من معنى البعد للإبذان ببُعدِ منزلتِهِ في الفضلِ {الآية} أي آيةً عظيمةً دالَّةً على كمالِ قُدرةِ مُنبتها وغايةِ وفُورِ علمهِ وحكمتِه ونهايةِ سعَةِ رحمتِه موجبةً للإيمانِ وازعةً عن الكُفرِ {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ} أي أكثر قومه صلى الله عليه وسلم {مُّؤْمِنِينَ} قيل أي في علم الله تعالى وقضائِه حيثُ علم أزلاً أنَّهم سيُصرفون فيما لا يزالُ اختيارُهم الذي عليه يدورُ أمرُ التَّكليفِ إلى جانب الشَّرِّ ولا يتدبَّرون في هذه الآياتِ العظامِ وقال سيبويِه كانَ صلةٌ والمعنى وما أكثرُهم مؤمنين وهو الأنسبُ بمقامِ بيانِ عُتوِّهم وغُلوِّهم في المكابرةِ والعنادِ مع تعاضد موجبات الإيمان من جهتِه تعالى وأما نسبةُ كفرِهم إلى علمهِ تعالى وقضائِه فرُبَّما يتُوهَّم منها كونُهم معذورينَ فيه بحسبِ الظَّاهرِ لأنَّ ما أُشير إليهِ من التَّحقيقِ ممَّا خفيَ على مَهَرةِ العُلماء المُتقنين كأنَّه قيل إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً باهرةً موجبةً للإيمانِ وما أكثرُهم مُؤمنين مع ذلكَ لغايةِ تمادِيهم في الكُفرِ والضلالة وانهاكهم في المعنى والجَهَالةِ ونسبةُ عدمِ الإيمانِ إلى أكثرِهم لأنَّ منهم مَن سُيؤمن
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز} الغالبُ على كلِّ ما يريده من الأمور التي من جملتها الانتقام من هؤلاء {الرحيم} المبالغ الرحمة ولذلك يمهلهم ولا يؤاخذهم بغته بما احترؤا عليهِ من العظائمِ المُوجبةِ لفُنون العُقُوباتِ وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ مع الإضافةِ إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تشريفهِ والعِدَةِ الخفيَّةِ بالانتقامِ من الكَفَرةِ ما لا يَخفْى
{وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لتقرير ما قبله من إعراضِهم عن كلِّ ما يأتيهم من الآيات التنَّزيليةِ وتكذيبِهم بها إثرَ بيانِ إعراضهم عمَّا يُشاهدونه من الآياتِ التَّكوينَّيةِ وإذ منصوب
سورة الشعراء (11 13)
على المفعوليةِ بمضمرِ خوطبَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم أي وأذكرُ لأولئك المعرضين المكذِّبين وقت ندائه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام وذكِّرهم بما جَرى على قوم فرعونَ بسبب تكذيبِهم إيَّاه زجراً لهم عمَّا هُم عليهِ من التكذيب وتحذيراً من أنْ يحيقَ بهم مثلُ ما حاق بأضرابهم المكذِّبين الظَّالمين حتَّى يتَّضحَ لك أنَّهم لا يُؤمنون بما يأتيهم من الآيات لكنْ لا بقياس حالِ هؤلاء بحالِ أُولئك فقط بل بمشاهدةِ إصرارُهم على ما هم عليه بعد سماع الوحي النَّاطقِ بقصَّتِهم وعدم اتِّعاظِهم بذلك كما يُلوِّحُ به تكريرُ قوله تعالى إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ عقيب كلِّ قصَّةٍ وتوجيهُ الأمر بالذِّكرِ إلى الوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادث قد مر سره مرارا {أَنِ ائت} بمعنى أي ائت على أنَّ أنْ مفسرةٌ أو بأن ائت على أنَّها مصدريةٌ حُذف منها الجارُّ {القوم الظالمين} أي بالكفر واالمعاصي واستبعاد بني إسرائيلَ وذبحِ أبنائِهم وليس هذا مطلعَ ما رود في حيِّزِ النَّداءِ وإنَّما هو ما فُصِّل في سورةِ طه من قوله تعالى إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ إلى قوله لِنُرِيَكَ مِنْ آياتنا الكبرى وإيراد ما جرى في قصَّةٍ واحدةٍ من المقالاتِ بعباراتٍ شَتَّى وأساليبَ مختلفةٍ قد مرَّ تحقيقُه في أوائل سورةِ الأعرافِ عند قوله تعالى أَنظِرْنِى
{قَوْمِ فِرْعَونَ} بدلٌ من الأولِ أو عطفُ بيانٍ له جيء به للإيذانِ بأنَّهم عَلَمٌ في الظُّلم كأنَّ معنى القومِ الظَّالمينَ وترجمتَهُ قومُ فرعونَ والاقتصارُ على ذكرِ قومِه للإيذانِ بشهرةِ أنَّ نفسَه أَوَّلُ داخلٍ في الحُكم {أَلا يَتَّقُونَ} استئنافٌ جيء به إثرَ إرسالِه عليه الصلاة والسلام إليهم للإنذارِ تعجيباً من غُلوِّهم في الظُّلم وإفراطِهم في العُدوان وقُرىء بتاء الخطابِ على طريقة الالتفاتِ المنبىءِ عن زيادة الغَضَبِ عليهم كأنَّ ذكرَ ظُلمِهم أدَّى إلى مشافهتِهم بذلك وهُم وإن كانُوا حينئذٍ غُيّباً لكنَّهم قد أُجروا مجرى الحاضرين في كلام المُرسل إليهم من حيثُ إنَّه مبلغه إليهم وإسماعُه مبتدأُ إسماعِهم مع ما فيه من مزيد الحثِّ على التقوى لمن تدبَّر وتأمَّل وقُرىء بكسرِ النُّونِ اكتفاءً به عن باء المتكلِّم وقد جُوِّزَ أنْ يكون بمعنى ألا ياناس اتقون نحو أن لا يسجدُوا
{قال} استئناف مبني على سؤالٍ نشأَ من حكايةِ ما مضى كأ هـ قيل فماذا قال موسى ععليه السَّلامُ فقيل قال متضرِّعاً إلى الله عز وجل {رَبّ إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ} من أوَّلِ الأمرِ
{ويضيق صدري ولا ينطلق لساني} معطوفا على أخافُ {فَأَرْسِلْ} أي جبريلَ عليه السلام {إِلَىَّ هارون} ليكون معنى وأتعاضدُ به في تبليغِ الرِّسالة رتَّب عليه الصلاة والسلام من حَبسةِ اللِّسان بانقباضِ الرُّوحِ إلى باطنِ القلبِ عند ضيقِه بحيث لا ينطبق لأنَّها إذا اجتمعتْ تمسُّ الحاجةُ إلى معينٍ يُقوِّي قلبه وينوبُ منابَه إذا اعتراء حبسه حتى
سورة الشعراء (14 18)
لا تختلَّ دعوتُه ولا تنقطعَ حجَّتُه وليس هذا من التَّعلل والتَّوقف في تلقِّي الأمرِ في شيءٍ وإنَّما هو استدعاءٌ لما يُعينه على الامتثالِ به وتمهيدُ عذرٍ فيه وقُرىء ويضيق ولا ينطق بالنَّصبِ عطفاً على يكذِّبون فيكونانِ من جملةً ما يَخافُ منه
{وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ} أي تبعةُ ذنبٍ فحُذف المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليه مقامه أو سمِّي باسمِه والمرادُ به قتلُ القِبْطيِّ وتسميتُه ذنباً بحسبِ زعمِهم كما ينبىءُ عنه قولُه لهم وهذا إشارةٌ إلى قصَّةٍ مبسوطةٍ في غيرِ موضعٍ {فَأَخَافُ} أي إنْ أتيتهم وحدي {أَن يَقْتُلُونِ} بمقابلتِه قبل أداءِ الرِّسالةِ كما ينبِغي وليس هذا أيضاً تعلُّلاً وإنما هو استدفاعٌ المبلية المتوقّعةِ قبل وقوعِها وقوله تعالى
{قال كلا فاذهبا بآياتنا} حكايةٌ لإجابتِه تعالى إلى الطِّلبتينِ الدَّفعِ المفهومِ من الرَّدعِ عن الخوفِ وضمِّ أخيهِ المفهومِ من توجيهِ الخطابِ إليهما بطريقِ التَّغليبِ فإنه معطوف على مضمر ينبىءُ عنه الرَّدعُ كأنَّه قيل ارتدِع يا موسى عمَّا تظنُّ فاذهب أنت ومن استدعيته وفي قوله بآياتنا رمزٌ إلى أنَّها تدفع ما يخافه وقوله تعالى {إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ} تعليلٌ للرَّدعِ عن الخوفِ ومزيد تسلية لهما بضمانِ كمال الحفظ والنصرة كقولِه تعالى إِنَّنِى مَعَكُمَا أسمع وأرى حيث كان الموعد بمحضرٍ من فرعونَ اعتبر ههنا في المعيَّةِ وقيل أجريا مجرى الجماعةِ ويأباهُ ما قبله وما بعده من ضمير التثنية أي سامعون ما يجري بينكما وبينه فنظهر كما عليه مثَّل حالَه تعالى بحالِ ذِي شَوكةٍ قد حضَر مجادلَة قومٍ يستمعُ ما يجري بينَهم ليمدَّ أولياءَهُ ويُظهرهم على أعدائِهم مبالغةً في الوعدِ بالإعانةِ أو استعير الاستماع الذي هو بمعنى الإصغاءِ للسَّمعِ الذي هو العلمُ بالحروفِ والأصواتِ وهو خبرٌ ثانٍ أو خبرُ وحدَهُ ومعكم ظرفُ لغوٍ والفاءُ في قوله تعالى
{فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين} لترتيبِ ما بعدها على ما قبلَها من الوعدِ الكريمِ وليس هَذا مجرَّدَ تأكيدٍ للأمرِ بالذِّهابِ لأنَّ معناهُ الوصولُ إلى المأتيِّ لا مجرَّدَ التَّوجهِ إليه كالذِّهابِ وإفراد الرَّسول إمَّا باعتبارِ رسالةِ كلَ منهُمَا أو لاتحاد مطلهما اولأنه مصدرٌ وُصفَ به وأنْ في قولِه تعالَى
{أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسرائيل} مفسِّرةٌ لتضمن الإرسالِ المفهومِ من الرَّسولِ معنى القولِ ومعنى إرسالِهم تخليتُهم وشأنَهم ليذهبُوا معهما إلى الشَّامِ
{قَالَ} أي فرعونُ لموسى عليه السلام بعد ما أتياهُ وقالا له ما أمر به يُروى أنَّهما انطلقا إلى بابِ فرعونَ فلم يؤذن لهم سنةً حتَّى قال البَّوابُ إنَّ ههنا إنساناً يزعمُ أنَّه رسولُ ربِّ العالمين فقال ائذنْ له لعلَّنا نضحكُ فأدَّيا إليه الرِّسالةَ فعرف
سورة الشعراء (19 22) مُوسى عليه السلام فقال عند ذلك {أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا} في حِجرِنا ومنازلِنا {وَلِيداً} أي طِفلاً عبر عنه بذلك لقُرب عهده بالولادة {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} قيل لبثَ فيهم ثلاثين سنةً ثم خرجَ إلى مدينَ وأقام بها عشرَ سنين ثمَّ عاد إليهم يدعُوهم إلى الله عز وجل ثلاثينَ سنة ثم بقي بعدَ الغرقِ خمسينَ سنة وقيل وكز القبطيَّ وهو ابنُ اثنتي عشرةَ سنة وفرَّ منهم على أثرِ ذلك والله أعلم
{وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التى فَعَلْتَ} يعني قتلَ القبطيِّ بعد ما عدَّد عليه نعمتَهُ من تربيته وتبليغِه مبلغَ الرِّجالِ وبَّخه بَما جَرَى عليه من قتلِ خبَّازِه وعظَّم ذلك وفظَّعه وقُرىء فِعلتك بكسر الفاء لأنَّها كانتْ نَوْعاً من القتل {وَأَنتَ مِنَ الكافرين} أي بنعمتي حيثُ عمدتَ إلى قتلِ رجلٍ من خواصّي أو أنت حينئذٍ ممَّن تكفِّرهم الآنَ وقد افترى عليه عليه الصلاة والسلام أو جهلَ أمره عليه الصلاة والسلام حيثُ كان يعايشهم بالتقنية وإلا فأينَ هُو عليه الصلاة والسلام من مشاركتِهم في الدين فالجملة حيئذ حال من إحدى التأمين ويجوزُ أنْ يكونَ حُكماً مبتدأ عليه أنه من الكافرينَ بإلهيته أو ممَّن يكفرُون في دينِهم حيثُ كانتْ لهم آلهةٌ يعبدونها أو من الكافرين بالنِّعم المعتادين لغمطها ومنِ اعتادَ ذلك لا يكونُ مثلُ هذه الجنايةِ بدعاً منْهُ
{قَالَ} مجُيباً له مصدِّقاً له في القتلِ ومكذِّباً فيما نسبه إليه من الكفر {فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} أي من الجاهلينَ وقد قُرىء كذلك لا من الكافرينَ كما زعمت افتراءً أي من الفاعلين فعل الجهلة والسُّفهاءِ أو من المخطئين لآنه لم يعتمد قتلَه بل أرادَ تأديبَه أو الذَّاهبين عمَّا يُؤدِّي إليه الوكز أو الناسين كقوله تعالى {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى
! فَفَرَرْتُ مِنكُمْ إلى ربيِّ {لما خفتكم} أن تصيبونني بمضرة وتؤاخذوني بماء لا استحقه بجنابتي من العقابِ {فَوَهَبَ لِى رَبّى حُكْماً} أي حكمةً أو النبوة {وجعلني من المرسلين} ردأ ولا بذلك ما وبَّخه به قدحاً في نبُّوته ثم كرَّ على ما عده عليه من النِّعمةِ ولم يصرِّحْ بردِّه حيثُ كان صدقاً غيرَ قادحٍ في دعواه بل نبَّه على أنَّ ذلك كان في الحقيقة نقمة فقال
{وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أنْ عبَّدتَ بني إسرائيلَ} أي تلك التربيةُ نعمةٌ تمنُّ بها عليَّ ظاهراً وهي في الحقيقةِ تعبيدُك بني إسرائيلَ وقصدُك إيَّاهم بذبحِ أبنائِهم فإنَّه السببُ في وقوعي عندكَ وحصولي في تربيتِك وقيل إنه مقدَّرٌ بهمزةِ الإنكار أي أوَ تلك نعمة تمنُّها عليَّ وهي أنْ عبَّدتَ بني إسرائيلَ ومحلُّ أنْ عبَّدتَ الرُّفعُ على أنَّه خبر مبتدأ محذوفٍ أو بدلٌ من نعمةٌ أو الجرُّ بإضمارِ الباءِ أو النَّصبُ بحذفهِا وقيل تلك إشارةٌ إلى خصلةٍ شنعاءَ مبهمةٍ وأنْ عبَّدتَ عطفُ بيانٍ لها والمعنى تعبيدُك بني إسرائيلَ نعمةٌ تمنُّها عليَّ وتوحيدُ الخطابِ في تمنُّها وجمعه فيما قبلَه لأن المنة منه خاصَّة والخوفُ والفرارُ منه ومن ملئه
سورة الشعراء (23 28)
{قَالَ فِرْعَوْنُ} لمَّا سمعَ منه عليه الصلاة والسلام تلك المقالةَ المتينةَ وشاهد تصلُّبهَ في أمرِه وعدمَ تأثُّرِه بما قدَّمه من الإبراقِ والإرعاد شرعَ في الاعتراض على دعواهُ عليه الصلاة والسلام فبدأ بالاستفسارِ عن المُرْسِل فقال {وَمَا رَبُّ العالمين} حكايةٌ لما وقع في عباراته عليه الصلاة والسلام أي أيُّ شيءٍ رب العالمينَ الذي أدَّعيتَ أنَّك رسولُه منكراً لأنْ يكون للعالمين ربٌّ سواه حسبما يُعرب عنه قولُه أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى وقولُه مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى وينطق به وعيدُه عند تمام أجوبتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ
{قال} موسى عليه السلام مجيبا له {رب السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} بتعيين ما أراه بالعالمين وتفصيله لزيادةِ التَّحقيقِ والتَّقريرِ وحسم مادَّةِ تزويرِ اللَّعينِ وتشكيكهِ بحملِ العالمينَ على ما تحت مملكتِه {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} أي إن كنتم موقنين الأشياء محقِّقين لها علمتُم ذلك أو إنْ كنتُم موقنينَ بشيءٍ من الأشياءِ فهذا أولى بالإيقانِ لظهورِه وإنارةِ دليله
{قَالَ} أي فرعونُ عند سماع جوابِه عليه الصلاة والسلام خوفاً من تأثيرِه في قلوبِ قومِه وإذعانِهم له {لِمَنْ حَوْلَهُ} من أشراف قومه قال ابن عباس رضي الله عنهما كانوا خمسائة عليهم الأساورُ وكانت للملوك خاصَّةً {أَلَا تَسْتَمِعُونَ} مرائياً لهمَّ أنَّ ما سمعُوه من جوابِه عليه الصلاة والسلام مع كونِه ممَّا لا يليق بأن يعتدبه أمر حقيق بأنْ يتُعجَّب منه كأنَّه قال ألا تستمعُون ما يقولُه فاستمعُوه وتعجَّبوا منه حيثُ يدَّعي خلافَ أمرٍ محقَّقٍ لا اشتباه فيه يُريد به ربوبيةَ نفسِه
{قال} عليه الصلاة والسلام تصريحاً بما كان مُندرجاً تحت جوابيِه السَّابقينِ {رَبُّكُمْ ورب آبائكم الأولين} وحطّاً له من ادِّعاءِ الرُّبوبيَّةِ إلى مرتبةِ المربُوبَّيةِ
{قَالَ} أي فرعونُ لمَّا واجهه مُوسى عليه السلام بما ذُكر غاظه ذلك وخافَ من تأثُّر قومِه منه فأراهُم أنَّ ما قالَه عليه الصلاة والسلام مما لا يصدُر عن العُقلاء صدَّاً لهمُ عن قبوله فقال مؤكدا لمفالته الشنعاء بحر في التَّأكيدِ {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} ليفتنهم بذلَك ويصرفهم عن قبولِ الحقِّ وسَّماهُ رسولاً بطريقِ الإستهزاء وأضافه إلى محاطبية ترفُّعاً من أنْ يكونَ مُرْسَلاً إلى نفسِه
{قال} عليه الصلاة والسلام {رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَا} قالَه عليه الصلاة والسلام تكميلاً لجوابه الأوَّلِ وتفسيرا له
سورة الشعراء (29 30)
وتنبيهاً على جهلِهم وعدمِ فهمِهم لمعنى مقالتِه فإنَّ بيانَ ربوبيَّتهِ تعالى للسَّموات والأرضِ وما بينَهما وإنْ كان متضمِّناً لبيانِ ربوبيَّتِه تعالى للخافقينِ وما بينَهُما لكن لمَّا لم يكُن فيه تصريحٌ بإستناد حركات السَّمواتِ وما فيها وتغيُّراتِ أحوالِها وأوضاعِها وكون الأرض تارةً مظلمةً وأخرى منورةً إلى الله تعالى أرشدَهُم إلى طريقِ معرفةِ ربوبيته تعالى لمَّا ذكر فإن ذكر المشرقِ والمغربِ منبىءٌ عن شروقِ الشَّمسِ وغروبِها المنُوطينَ بحركاتِ السَّمواتِ وما فيها على نمطٍ بديعٍ بترتيب عليه هذه الأوضاع الرَّصينةُ وكلُّ ذلك أمورٌ حادثةٌ مفتقرةٌ إلى محدثٍ قادرٍ عليمٍ حكيمٍ لا كذواتِ السَّمواتِ والأرضِ التي ربما يتوهَّم جهلةُ المُتوهمينَ باستمرارِها استغناءها عن الموجد المُتصرِّفِ {إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} أي إنْ كنتُم تعقلون شَيْئاً من الأشياءِ أو إنْ كنتُم من أهلِ العقلِ علمتُم أنَّ الأمرَ كمَا قتله وفيه إيذانٌ بغايةِ وضوحِ الأمرِ بحيثُ لا يشتبه على مَن له عقلٌ في الجُملةِ وتلويحٌ بأنَّهم بمعزلٍ من دائرةِ العقلِ وأنَّهم المتَّصفون بما رَمَوه عليه الصلاة والسلام به من الجنونِ
{قَالَ} لما سمع اللَّعينُ منه عليه الصلاة والسلام تلك المقالاتِ المبنيةِ على أساسِ الحِكَم البالغةِ وشاهدَ شدَّةَ حزمِه وقوَّةَ عزمِه على تمشية أمرِه وأنَّه ممَّن لا يجارى في حلبة المجاورة ضرب صفحا عن عن المُقاولةِ بالإنصافِ ونَأَى بجانبه إلى عُدْوةِ الجورِ والاعتسافِ فقال مُظهراً لما كانَ يُضمره عند السُّؤال والجوابِ {لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِى لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} لم يقتنْع منه عليه الصلاة والسلام بتركِ دعَوى الرِّسالةِ وعدمِ التَّعرض له حتَّى كلَّفه عليه الصلاة والسلام أنْ يتَّخذَه إلهاً لغاية عتوه وغلوه فيما فيه من دَعْوى الأُلوهيَّةِ وهذا صريحٌ في أنَّ تعجُّبَه وتعجيبَه من الجوابِ الأوَّلِ ونسبَتُه عليه الصلاة والسلام إلى الجنُونِ في الجوابِ الثَّاني كان لنسبته عليه الصلاة والسلام الرُّبوبَّيةَ إلى غيرِه وأما ما قيلَ مِنْ أنَّ سؤالَه كان عن حقيقةِ المُرْسِل وتعجُّبه من جوابِه كان لعدمِ مُطابقتِه له لكونِه بذكر أحوالَه فلا يُساعده النظمُ الكريمُ ولا حال فرعونَ ولا مقالُه واللامُ في المسجونينَ للعهدِ أي لأجعلنَّك ممَّن عرفتَ أحوالَهم في سجوني حيثُ كان يطرحُهم في هُوَّةٍ عميقة حتَّى يموتُوا ولذلك لم يقُل لأسجنَّنك
{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ} أي أتفعلُ بي ذلك ولو جئتُك بشيء مبينٍ أي موضِّحٍ لصدقِ دعو اى يريد به المعجزةَ فإنَّها جامعةٌ بين الدِّلالةِ على وجودِ الصَّانعِ وحكمتِه وبين الدِّلالةِ على صدقِ دَعْوى مَن ظهرتْ على يدِه والتغيير عنها بالشَّيءِ للتَّهويلِ قالوا الواوُ في أولو جئتُك للحالِ دخلتْ عليها همزةُ الاستفهامِ أي جائياً بشيء مبينٍ وقد سلفَ منَّا مرار أنَّها للعطفِ وأنَّ كلمةَ لَوْ ليستْ لانتفاءِ الشيءِ في الزمان الماضي لانتفاء غيرِه فيه فلا يلاحظ لها جوابٌ قد حُذف تعويلاً على دِلالة ما قبلها عليه ملاحظة قصدية إلا عند القصدِ إلى بيان الإعرابِ على القواعد الصناعيةِ بل هي لبيان تحققِ ما يفيده الكلامُ السابق من حكم الموجَبِ أو المنفي على كل حالٍ مفروض من الأحوالِ المقارنةِ له على الإجمالي بإدخالها على أبعدها منه وأشدِّها منافاةً له ليظهرَ
سورة الشعراء (31 35)
بثبوته أو انتفائِه معه ثبوتُه أو انتفاؤُه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية لما أن الشيءَ متى تحقق مع المنافي القويَّ فلأنْ يتحقَّقَ مع غيره أولى لذلك لا يُذكرُ معه شيءٌ من سائر الأحوال ويكتفى عنه بذكر العاطف للجُملة على نظيرتها المقابلةِ لها الشاءلة لجميع الأحوالِ المغايرةِ لها عند تعدُّدها ليظهر ما ذكر من تحقُّق الحكم على جميع الأحوال فإنَّك إذا قلتَ فلانٌ جوادٌ يُعطي ولو كان فقيرا تريد بيان تحقق الإعطاء منه على كلِّ حالٍ من أحوالِه المفروضةِ فتعلق الحكم بأبعدِها منه ليظهر بتحقُّقهِ معه تحقُّقه معَ ما عداه من الأحوال التي لا مُنافاة بينها وبينَ الحكم بطريقِ الأولويَّةِ المُصحِّحةِ للاكتفاء بذكرِ العاطفِ عن تفصيلِها كأنَّك قلتَ فلانٌ جوادٌ يُعطي لو لم يكنْ فَقيراً ولو كان فَقيراً أي يُعطى حال كونه غنيا وحال كونِه فقيراً فالحالُ في الحقيقة كلنا الجملتين المتعاطفين لا المذكورةُ على أنَّ الواوُ للحالِ وتصديرُ المجيءِ بما ذُكر من كلمة لَوْ دون أنْ ليس لبيانِ استبعادُه في نفسه بل بالنِّسبة إلى فرعونَ والمعنى أتفعلُ بي ذلك حال عدم مجييء بسيء مبين وحال مجيىء به
{قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} أي فيما يدل عليه كلامُك من أنكَّ تأتي بشيءٍ مبينٍ موضِّحٍ لصدقِ دَعْواك أو في دَعْوى الرِّسالة وجوابُ الشَّرطِ المحذوفُ لدلالةِ ما قبله عليه
{فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} أي ظاهرٌ تثعبانيته لا أنَّه شيءٌ يُشبهه واشتقاق الثعبان من ثعبت الماءَ فانثعبَ أي فجَّرتُه فانفجرَ وقد مرَّ بيانُ كيفيةِ الحالِ في سوُرة الأعرافِ وسورة طه
{ونزع يده} من جيبه {فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء للناظرين} قيل لَّما رأى فرعون الآيةَ الأُولى وقال هل لكَ غيرُها فأخرجَ يدَهُ فقال ما هذه قال فرعونُ يدُك فما فيها فأدخلها في إبطهِ ثمَّ نزَعَها ولها شعاعٌ يكادُ يغشي الأبصارَ ويسدُّ الأفقَ
{قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ} أي مستقرِّين حولَه فهو ظرفٌ وقعَ موقعَ الحالِ {إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ} فائقٌ في فنِّ السِّحرِ
{يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم} قَسْراً {مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تأمرون} بهره سلطان لمعجزة وحيرَّه حتَّى حطَّه عن ذروةِ ادَّعاءِ الرُّبوبيةِ إلى حضيضِ الخُضوعِ لعبيدِه في زعمه والإمتثال بأمرهم وإلى مقامِ مؤامرتِهم ومشاورتِهم بعد ما كانَ مستقلاً في الرَّأيِ والتَّدبيرِ وأظهر استشعارُ الخوفِ من استيلائه على مُلكه ونسبةُ الإخراج والأرض إليهم لتنفيرهم عن موسى عليه السلام
سورة الشعراء (36 44)
{قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} أخِّر أمرهما وقيل احبسهُما {وابعث فِى المدائن حاشرين} أي شُرَطاً يحشرُون السَّحرةَ
{فَجُمِعَ السحرة لميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} هو ما عيَّنه مُوسى عليه السلام بقوله مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى
{وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ} قيل لهم ذلك استبطاءً لهم في الاجتماعِ وحثّاً لهم على المُبَادرة إليه
{لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين} أي نتبعهم في دينِهم إنْ كانوا الغالبين لا مُوسى عليه السلام وليس مرادُهم بذلك أنْ يتَّبعوا دينَهم حقيقةً وإنَّما هو أنْ لا يتَّبعوا مُوسى عليه السلام لكنَّهم ساقُوا كلامَهم مساقَ الكنايةِ حَمْلاً لهم على الاهتمامِ والجِدَّ في المُغالبة
{فَلَمَّا جَاء السحرة قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ إئِنَّ لَنَا لاجْرًا} أي أجراً عظيماً {إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين} لا مُوسى عليه السَّلامُ
{قَالَ نَعَمْ} لكُم ذلك {وَإِنَّكُمْ} مع ذلك {إِذاً لَّمِنَ المقربين} عندي قيل قال لهم تكونُون أولَ من يدخلُ عليَّ وآخرَ مَن يخرجُ عنِّي وقُرىء نعِم بكسرِ العين وهُما لغُتانِ
{قَالَ لَهُمْ موسى} أي بعد ما قالَ له السَّحرةُ إِمَّا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أنْ نكون أول من ألقى {أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ} ولم يُرد به الأمرَ بالسِّحرِ والتَّمويهَ بل الإذنَ في تقديمِ ما هُم فاعلُوه البتةَ توسُّلاً به إلى إظهارِ الحقِّ وإبطالِ الباطلِ
{فَأَلْقَوْاْ حبالهم وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ} أي وقد قالُوا عند الإلفاء {بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} قالُوا ذلك لفرطِ اعتقادِهم في أنفسِهم وإتيانِهم بأقصى ما يُمكن أنْ يُؤتى به من السِّحرِ
سورة الشعراء (45 51)
{فألقى موسى عصاه فَإِذَا هِىَ تلقَف} أي تبتلعُ بسرعة وقرىء تلقف بحذق إحدى التأمين من تَتَلقَّفُ {مَا يَأْفِكُونَ} أي ما يقلبونَهُ من وجهه وصورته بتمويههم وتزويرهم فيخيِّلُون حبالَهم وعصيَّهم أنَّها حيَّاتٌ تسعى أو إفكهم تسميةً للمأفوكِ به مبالغةً
{فَأُلْقِىَ السحرة ساجدين} أي إثر ما شتهدوا ذلك من غيرِ تلعثمٍ وترددٍ غير متمالكينَ كأنَّ مُلقياً ألقاهُم لعلمِهم بأنَّ مثلَ ذلك خارجٌ عن حدودِ السِّحرِ وأنه أمرٌ إلهيٌّ قد ظهر على يدهِ عليه الصلاة والسلام لتصديقه وفيه دليلٌ على أنَّ قصارَى ما ينتهِي إليه هممُ السَّحرةِ هو التَّمويهُ والتزوير تخيبل شيءٍ لا حقيقةَ له
{ربَّ موسى وهارون} بدلٌ من ربِّ العالمين للتَّوضيحِ ودفعِ توهم إرادةِ فرعونَ حيثُ كان قومُه الجَهَلةُ يسمونه بذلك والإشعار بأنَّ الموجبَ لإيمانِهم به تعالى ما أجراهُ على أيديهما من المُعجزةِ القاهرةِ
{قال} أي فرعون للسحرة {آمنتم له قبل أن آذن لَكُمْ} أي بغيرِ أنْ آذان لكم كما في قوله تعالى لنقد البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى لا أن الإذنَ منه ممكنٌ أو متوقَّعٌ {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذى علمكم السحر} فتواطأتم على ما فعلتم أو علَّمكم شيئا دون شيء ولذلك غلبَكم أرادَ بذلك التَّلبيس على قومِه كيلا يعتقدُوا أنَّهم آمنُوا عن بصيرةٍ وظهورِ حقَ وقُرىء أأمنتُم بهمزتينِ {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي وبالَ ما فعلتُم وقوله {لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلَافٍ وَلَاصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} بيانٌ لما أو عدهم به
{قَالُواْ} أي السَّحرةُ {لَا ضَيْرَ} لا ضررَ فيه علينا وقولُه تعالى {إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ} تعليلٌ لعدم الضَّيرِ أي لا ضيرَ في ذلك بل لنا فيه نفعٌ عظيمٌ لما يحصلُ لنا في الصَّبرِ عليه لوجهِ الله تعالى من تكفيرِ الخَطَايا والثَّوابِ العظيم أو لا ضيرَ علينا فيما تتوعَّدنا به من القتلِ أنه لا بُدَّ لنا من الانقلابِ إلى رَّبنا بسببِ من أسبابِ الموتِ والقتلُ أهونُها وأرجاها وقولُه تعالى
{إنا نطمع أن يغفر لَنَا رَبُّنَا خطايانا أَن كُنَّا} أي لأن كنا {أَوَّلُ المؤمنين} أي من أتباعِ فرعونَ أو من أهل المشهد تعليل
سورة الشعراء (52 58)
ثانٍ لنفي الضَّيرِ أي لا ضيرَ علينا في قتلِك إنَّا نطمعُ أنْ يغفر لنا ربنا خطايانا لكونِنا أوَّلَ المُؤمنين وقُرىء إِنْ كُنَّا على الشَّرطِ لهضمِ النَّفسِ وعدم الثَّقةِ بالخاتمة أو على طريقةِ قول المُدلِّ بأمرِه كقول العاملِ لمستأجرٍ أخَّر أجرتَه إنْ كنتُ عمِلتُ لك فوفِّني حقِّي
{وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى} وذلك بعد بضعِ سنينَ أقامَ بين أظهُرِهم يدعُوهم إلى الحقِّ ويُظهر لهم الآياتِ فلم يزيدُوا إلَاّ عُتُوَّاً وعناداً حسبما فُصِّل في سورة الاعراف بقوله تعالى وَلَقَدْ أخذنا آل فِرْعَوْنَ بالسنين الآيات وقرىء بكسر النون ووصل الألف من سرى وقرىء أنْ سِرْ من السير {إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ} تعليلٌ للأمرِ بالإسراءِ أي يتبعكُم فرعونُ وجنودُه مصبحينَ فأسرِ بمَن معك حتَّى لا يُدركوكم قبل الوصولِ إلى البحرِ فيدخلُوا مداخلَكم فأُطبقَه عليهم فأُغرقَهم
{إِنَّ هَؤُلآء} يريدُ بني إسرائيلَ {لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} استقلَّهم وهم ستمائة ألفٍ وسبعونَ ألفاً بالنسبةِ إلى جُنوده إذروي أنَّه أرسل في أثرِهم ألف ألف وخمسائة مَلكٍ مُسوَّرٍ مع كل مَلِكٍ ألفٌ وخرجَ فرعونُ في جمعٍ عظيم وكانت مقدِّمتُه سبعَمائة ألفِ رجلٍ على حصان وعلى رأسِه بيضةٌ وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما خرجَ فرعونُ في ألفِ ألفِ حصانٍ سوى الإناثِ
{وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذرون} يريدُ أنَّهم لقلَّتهم لا يُبالى بهم ولا يتوقَّع غلبتَهم وعلوَّهم ولكنَّهم يفعلون أفعالاً تغيظا وتضيق صدورَنا ونحن قومٌ عادتا التَّيقُّظُ والحذرُ واستعمالُ الحزمِ في الأمورِ فإذا خرجَ علينا خارج سارعنا إلى إطفاء نائرة فسادِه وهذه معاذيرُ اعتذر بها إلى أهلِ المدائن لئلَاّ يُظنُّ به ما يكسر من قهرهِ وسلطانه وقُرىء حَذِرون فالأوَّلُ دالٌّ على التَّجدُّدِ والثَّاني على الثَّباتِ وقيل الحاذرُ المؤدِّي في السلام وقُرىء حادِرون بالدَّالِ المُهملة أي أقوياءُ وأشدَّاءُ وقيل مدجَّجون في السِّلاحِ قد كسبهم ذلك حدارةً في أجسامِهم
{وكنوز ومقام كريم {
سورة الشعراء (59 65)
كانت لهم جملة ذلك {كذلك}
{كذلك} إمَّا مصدرٌ تشبيهيٌّ لأخرجنا أي مثلَ ذلك لإخراج العجيبِ أخرجناهُم أو صفة لمقام كريم أي من مقامٍ كريمٍ كائنٍ كذلك أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي الأمرُ كذلك {وأورثناها بني إسرائيل} أي ملَّكناها إيَّاهم على طريقةِ تمليكِ مالِ المورَّثِ للوارثِ كأنَّهم ملكُوها من حينِ خروجِ أربابِها منها قبل أنْ يقبضُوها ويتسلَّموها
{فَأَتْبَعُوهُم} أي فلحقُوهم وقُرىء فاتَّبعوهم {مُشْرِقِينَ} داخلينَ في وقتِ شُروق الشَّمسِ أي طلوعها
{فلما تراءى الجمعان} تقارَبا بحيثُ رأى كل واحد منهما الآخرون وقُرىء تَراءتِ الفئتانِ {قَالَ أصحاب موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} جاءوا بالجملةِ الاسميةِ مؤكَّدة بحر في التَّأكيدِ للدِّلالةِ على تحقُّقِ الإدراك واللحاقِ وتنجُّزهما وقُرىء لمدَّركُون بتشديد الدَّالِ من أدرك الشَّيءُ إذا تتابعَ ففنيَ أي لمتتابعون في الهلاكِ على أيديهم
{قَالَ كَلَاّ} ارتدِعُوا عن ذلك فإنَّهم لا يُدركونكُم {إِنَّ مَعِىَ رَبّى} بالنَّصرةِ والهدايةِ {سَيَهْدِينِ} البتةَ إلى طريق النَّجاةِ منُهم بالكلَّية رُوي أَنَّ يُوشعِ عليه السلام قال يا كليَم الله أين أُمرتَ فقد غشِيَنا فرعونُ والبحرُ أمامَنا قال عليه السلام ههُنا فخاضَ يوشعُ عليه السلام الماءوضرب مُوسى عليه السلام بعصاهُ البحرَ فكانَ ما كانَ ورُوي أنَّ مؤمناً من آل فرعونَ كان بين يدي موسى عليه السلام فقال أينَ أُمرت فهذا البحرُ أمامَك وقد غشيك آلُ فرعونَ قال عليه السلام أُمرتُ بالبحر ولعلي أُومر بما أصنعُ فأمر بما أُمر بهِ وذلك قولُه تعالى
{فَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنِ اضرِبْ بّعَصَاكَ البحر} الفلزم أو النِّيلَ {فانفلق} الفاء فصيحةٌ أي فضربَ فانفلق فصارَ اثني عشر فِرقاً بعددِ الأسباطِ بينهنّ مسالكُ {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ} حاصلٍ بالانفلاق {كالطود العظيم} كالجبلِ المنيف الثابت في مقرِّه فدخلُوا في شعابِها كلُّ سِبْطٍ في شعبٍ منها
{وَأَزْلَفْنَا} أي قرَّبنا {ثَمَّ الاخرين} أي فرعونَ وقومَه حتَّى دخلُوا على أثرِهم مداخلَهم
{وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ} بحفظِ البحرِ على تلك الهيئةِ إلى أنْ عبروا إلى البر
سورة الشعراء (66 68)
(ثم أغرقنا الآخرين) بإطبافه عليهم
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في جميعِ ما فُصِّل ممَّا صدرَ عن مُوسى عليه السلام وظهر على يديهِ من المعجزاتِ القاهرةِ وممَّا فعلَ فرعونُ وقومُه من الأقوالِ والأفعالِ وما فُعل بهمْ منَ العذابِ والنَّكالِ وما في إسمِ الإشارةِ من معنى البعد لتهويل أمرِ المُشار إليهِ وتفظيعِه كتنكير الآيةِ في قوله تعالى {لآيَةً} أي أيّة آيةٍ أو أيةً عظيمة لا تكادُ تَوصف موجبة لأنْ يعتبرَ بها المعتبرون ويقيسُوا شأنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بشأنِ مُوسى عليه السلام وحال أنفسهم بحال أولئك المُهَلكين ويجتنبُوا تعاطيَ ما كانُوا يتعاطَونه من الكفرِ والمَعَاصي ومخالفةِ الرَّسُولِ ويُؤمنوا بالله تعالى ويُطيعوا رسولَه كيلا يحِل بهم مثلُ ما حلَّ بأولئك أو إنَّ فيما فُصِّل من القصَّةِ من حيثُ حكايتُه عليه الصلاة والسلام إيَّاها على ما هي عليه من غير أن يسمعها من أحد لآيَةً عظيمة دالة على أن ذلك بطريقِ الوحيِ الصَّادقِ موجبةً للإيمانِ بالله تعالى وَحْدَهُ وطاعةِ رسولِه عليه الصلاة والسلام {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ} أي أكثرُ هؤلاءِ الذينَ سمعُوا قصَّتهم منه عليه الصلاة والسلام {مُّؤْمِنِينَ} لا بأنْ يقيسُوا شأنَه بشأن مُوسى عليهما السلام وحالَ أنفسِهم بحال أولئك المكذِّبين المهلكينَ ولا بأنْ يتدبَّروا في حكايتِه عليه الصلاة والسلام لقصتهم من غيرِ أن يسمعها من أحد مع كونِ كلَ من الطَّريقينِ مَّما يُؤدِّي إلى الإيمان قطعاً ومعنى ما كان أكثرهم مؤمنين وما أكثرُهم مؤمنين على أنَّ كانَ زائدة كما هُو رأيُ سيبويهِ فيكون كقولِه تعالى وَمَا أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وهو إخبارٌ منه تعالى بما سيكون من المشركين بعد ما سمعُوا الآياتِ النَّاطقةَ بالقصَّة تقريراً لما مرَّ من قوله تعالى وَمَا يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من الرحمن مُحْدَثٍ إِلَاّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ الخ وإيثارُ الجملة الاسميةِ للدلالة على استقرارهم على عدمِ الإيمانِ واستمرارهم عليه ويجوزُ أن يجعل كان كان بمعنى صَار كما فعل ذلك في قولِه تعالَى وَكَانَ مِنَ الكافرين فالمَعْنى وما صار أكثرُهم مؤمنين مع ما سمعُوا من الآية العظيمة الموجبة له بما ذُكر من الطرفين فيكون الإخبارُ بعدم الصَّيرورةِ قبل الحدوث للدِّلالةِ على كمالِ تحقُّقهِ وتقرّره كقولِه تعالى أتى أَمْرُ الله الآيةَ
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز} الغالبُ على كلِّ ما يريده من الأمور التي من جملتها الانتقام من المكذِّبين {الرحيم} المبالِغُ في الرحمة ولذلك بمهلهم ولا يجعل عقوبتَهم بعدم إيمانهم بعد مُشاهدة هذه الآية العظيمة بطريقِ الوحيِ مع كمال استحقاقِهم لذلك هذا هو الذي يقتضيهِ جزالةُ النَّظمِ الكريمِ من مطلعِ السُّورةِ الكريمةِ إلى آخر القِصص السبع بل إلى آخرِ السورة الكريمة اقتضاء بيِّناً لا ريبَ فيه وأما ما قيل من أنَّ ضميرَ أكثرُهم لأهل عصرِ فرعونَ من القبطِ وغيرِهم وأنّ المعنى وما كان أكثرُ أهل مصرَ مؤمنين حيثُ لم يؤمن منهم إلا آسيةُ وحِزقيلُ ومريمُ ابنةُ يامُوشاً التي
سورة الشعراء (69 72)
دلَّتْ على تابوتِ يوسفَ عليه السلام وبنُو إسرائيلَ بعد ما نجَوا سألُوا بقرةً يعبدونَها واتَّخذوا العجلَ وقالُوا لن نؤمنَ لك حتى نرى الله جهرة فبمزل من التَّحقيقِ كيف لا ومساقُ كل قصَّةٍ من القصص الواردةِ في السُّورة الكريمة سوى قصَّةِ إبراهيمَ عليه السلام إنَّما هو لبيان حال طائفة معيَّنةٍ قد عتَوا عن أمر ربَّهم وعصَوا رسلَه عليهم الصلاة والسلام كما بفصح عنه تصدير القصصِ بتكذيبهم المرسلينَ بعد ما شاهدُوا بأيديهم من الآياتِ العظامِ ما يُوجب عليهم الإيمان ويزجرُهم عن الكفرِ والعصيانِ وأصرُّوا على ما هم عليه من التَّكذيب فعاقبهم الله تعالى لذلك بالعُقوبة الدُّنيويَّةِ وقطع دابَرهم بالكُليَّة فكيف يُمكن أن يخبرَ عنهم بعدم إيمان أكثرهم لا سيما بعد الإخبار بإهلاكهم وعدّ المؤمنين من جُملتهم أولاً وإخراجهم منها آخِراً مع عدم مشاركتِهم لهم في شيء ما حكي عنهم من الجنايات أصلاً مَّما يُوجب تنزيهُ التنزيلِ عن أمثالِه فتدبَّر
{واتل عَلَيْهِمْ} عطفٌ على المضمرِ المقدَّر عاملاً لإذ نادى الخ أي واتل على المشركينَ {نَبَأَ إبراهيم} أي خبَره العظيمَ الشَّأنِ حسبما أُوحيَ إليك لتقف على ما ذكر م عدمِ إيمانِهم بما يأتيهم من الآيات بأحد الطَّريقين
{إِذْ قَالَ} منصوب إما على الظَّرفيةِ للنبأ أي نبأه وقت قوله {لاِبِيهِ وقومه} أو على المفعولية لاتلُ على أنَّه بدلٌ من نبأ أي واتلُ عليهم وقت قوله لهم {مَا تَعْبُدُونَ} على أنَّ المتلو ما قاله لهم في ذلك الوقتِ سألهم عليه الصلاة والسلام عن ذلك ليبني على جوابِهم أنَّ ما يعبدونه بمعزل من استحقاقِ العبادةِ بالكُلِّية
{قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عاكفين} لم يقتصرُوا على الجواب الكافي بأنْ يقولُوا أصناماً كما في قوله تعالى ويسألونك مَاذا يُنْفِقُونَ قُل العفو وقوله تعالى مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق ونظائرهما بل أطنبُوا فيه بإظهار الفعلِ وعطفُ دوامِ عكوفهم على أصنامِهم قصداً إلى إبرازِ ما في نفوسِهم الخبيثةِ من الابتهاجِ والافتخارِ بذلك والمرادُ بالظلول الدَّوامُ وقيل كانُوا يعبدونَها بالنَّهارِ دُون اللَّيلِ وصلة العكوف كلمةُ عَلَى وإيرادُ اللَاّمِ لإفادةِ معنى زائدٍ كأنَّهم قالوا فنظلُّ لأجلِها مُقبلين على عبادتها أو مستدبرين حولَها وهذا أيضاً من جملة إطباعهم
{قال} استئناف مبني على سؤالِ نشأ من تفصيلِ جوابهم {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} أي هل يسمعُون دعاءَكم على حذف المضافِ أو يسمعونكم تدعُون كقولك سمعتُ زَيْداً يقول كيتَ وكيتَ فخذف لدلالةِ قوله تعالى {إِذْ تَدْعُونَ} عليه وقُرىء هل يُسمعونكم من الإسماع أي هل يُسمعونكم شَيْئاً من الأشياءِ أو الجواب عن دعائكم وهل يقدِرون على ذلك وصيغة المضارع مع إذ على حكايةِ الحالِ
سورة الشعراء (73 78)
الماضيةِ لاستحضار صُورتِها كأنَّه قيل لهم استحضُروا الأحوالَ الماضيةَ التي كنتُم تدعونها فيها وأجيبُوا هل سمعُوا أو سنعوا قط
{أَوْ يَنفَعُونَكُمْ} بسبب عبادتِكم لها {أَوْ يَضُرُّونَ} أي يضرونكم بترككم لعبادتها إذا لابد للعبادة لا سيَّما عند كونِها على ما وصفتُم من المبالغة فيها من جلب نفعٍ أو دفعِ ضرَ
{قالُوا بل وجدنا آباءَنا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} اعترفُوا بأنَّها بمعزلٍ مَّما ذكر من السَّمعِ والمنفعةِ والمضرَّةِ بالمرَّة واضطرُّوا إلى إظهار أنْ لا سندَ لهم سوى التَّقليد أي ما علمنا أو ما رأينا منهم ما ذُكِرَ منَ الأمورِ بل وجدنا آباءَنا كذلك يفعلُون أي مثلَ عبادِتنا يعبدون فاقتدينا بهم
{قال أفرأيتم مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} أي أنظرتُم فأبصرتُم أو أتأمَّلتمُ فعلمتم ما كنتُم تعبدونَهُ
{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى} بيانٌ لحال ما يعبدونَه بعد التَّنبيهِ على عدم علمِهم بذلك أي فاعلموا أنَّهم أداء لعابديهم الذين يجبونهم كحبِّ الله تعالى لما أنهم يتضرَّرون من جهتهم فوق ما يتضرَّر الرَّجلُ من جهة عدوِّه أو لأنَّ مَن يُغريهم على عبادتهم ويحملُهم عليها هو الشيطان الذي هو أعدى عدوِّ الإنسانِ لكنَّه عليه الصلاة والسلام صوَّر الأمر في نفسه تعريضاً بهم فإنَّه أنفعُ في النَّصيحة من التَّصريح وإشعاراً بأنَّها نصيحة بدأ بها نفسَه ليكون أدعى إلى القَبولِ والعدوُّ والصَّديقُ يجيئانِ في معنى الواحدِ والجمعِ ومنه قولَه تعالى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ شبها بالمصادر للموازنةِ كالقبول والولوع والحنين والصَّهيلِ {إلا رب العالمين} استثناءٌ منقطعٌ أي لكِنْ ربُّ العالمينَ ليس كذلك بل هو وليّ في الدُّنيا والآخرة لا يزال يتفضَّلُ عليَّ بمنافعهما حسبما يُعرب عنه ما وصفه تعالى به من أحكام الولايةِ وقيل متَّصلٌ وهو قولُ الزَّجاجِ على أنَّ الضَّميرَ لكلِّ معبود وكان من آبائِهم من عبدَ الله تعالى وقوله تعالى
{الذى خَلَقَنِى} صفةٌ لربِّ العالمينَ وجعلُه مبتدأً وما بعْدَه خبراً غيرُ حقيقٍ بجزالة التَّنزيلِ وإنَّما وصفه تعالى بذلك وبما عطفه عليهِ مع اندراجِ الكلِّ تحت ربوبيتهِ تعالى للعالمين تصريحاً بالنِّعم الخاصَّةِ به عليه الصلاة والسلام وتفصيلاً لها لكونِها أدخلَ في اقتضاءِ تخصيصَ العبادةِ به تعالى وقصرِ الالتجاء في جلبِ المنافعِ الدِّينيةِ والدُّنيويةِ المضارِّ العاجلةِ والآجلةِ عليه تعالى {فهو يهدين}
سورة الشعراء (79 82)
يهديك أي هو يهديني وحدَهُ إلى كلِّ ما يُهمني ويُصلحني من أمور الدِّين والدُّنيا هدايةً متصلةً بحين الخلقِ ونفخ الرُّوحِ متجددة على الاستمرار كما ينبىءُ عنه الفاءُ وصيغةُ المضارعِ فإنَّه تعالى يهدي كلَّ ما خلقه لما خُلق له من أمور المعاش والمعادِ هدايةً متدرجة من مبدأ إتجاده إلى منتهى أجلِه يتمكَّن بها من جلبِ منافعهِ ودفع مضارِّه إمَّا طبعاً وإمَّا اختياراً مبدؤُها بالنَّسبة إلى الإنسان هداية الجنينِ لامتصاص دمِ الطَّمثِ ومنتهاها الهدايةُ إلى طريق الجنَّةِ والتَّنعمِ بنعيمها المقيمِ
{والذى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ} عطفٌ على الصِّفة الأولى وتكريرُ الموصولِ في المواقعِ الثَّلاثةِ مع كفاية عطف ما وقع في حيِّز الصِّلةِ من الجُمل السِّتِّ على صلة الموصول الأول للإيذانِ بأنَّ كلَّ واحدةٍ من تلك الصِّلاتِ نعتٌ جليلٌ له تعالى مستقلٌّ في استيجاب الحكم حقيقة بأنْ تجري عليه تعالى بحيالها ولا تجعل من روادِف غيرها
{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} عطفٌ على يُطعمني ويسقين نُظم معهما في سلك الصِّلةِ لموصول واحدٍ لما أنَّ الصِّحَّةَ والمرض من متفرِّعاتِ الأكل والشُّرب غالباً ونسبةُ المرضِ إلى نفسه والشفاءء إلى الله تعالى مع أنَّهما منه تعالى لمراعاة حُسنِ الأدبِ كما قال الخَضِرُ عليه السلام فأردتُ أنْ أعيبها وقال فأرادَ ربُّك أنْ يبلُغا أشدَّهما وأما الإماتُة فحيث كانتْ من معظم خصائصِه تعالى كالإحياءِ بدَءاً وإعادةً وقد نيطتْ أمورُ الآخرةِ جميعاً بها وبما بعدَها من البعث نظمهما في سمطٍ واحدٍ في قوله تعالى
{والذى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ} على أنَّ الموتَ لكونه ذريعةً إلى نيله عليه الصلاة والسلام للحياة الأبديَّةِ بمعزل من أن يكون غيرَ مطبوع عنده عليه الصَّلاة والسَّلام
{والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين} ذِكرِه عليه الصلاة والسلام هضماً لنفسه وتعليماً للأمَّةِ أنْ يجتنبُوا المعاصي ويكونوا على حَذَرٍ وطلب مغفرة لَما يفرطُ منهم وتلافياً لما عَسَى يندرُ منه عليه الصلاة والسلام من الصَّغائر وتنبيهاً لأبيه وقومه على أنْ يتأمَّلوا في أمرهم فيقفُوا على أنَّهم من سوء الحال في درجةٍ لا يقادَر قدرُها فإنَّ حالَه عليه الصلاة والسلام مع كونه ف طاعة الله تعالى وعبادتِه في الغاية القاصيةِ حيثُ كانت بتلك المثابة فما ظك بحال أولئك المغمُورين في الكُفر وفُنون المعاصي والخطايا وحملُ الخطيئة على كلماتِه الثَّلاثِ إنِّي سقيمٌ بل فعله كبيرُهم وقوله لسارَّةَ حتى أختي مَّما لا سبيلَ إليه لأنَّها مع كونها معاريض لا من قبيل الخطايا المفتقرةِ إلى الاستغفار إنَّما صدرتْ عنه عليه الصلاة والسلام بعد هذه المقاولةِ الجاريةِ بينه وبين قومِه أما الثَّالثةُ فظاهرةٌ لوقوعِها بعد مهاجرتِه عليه الصلاة والسلام إلى
الشأمِ وأما الأوليانِ فلأنَّهما وقعتا مكتنفتينِ بكسرِ الأصنامِ ومن البيِّن أنَّ جريانَ هذه المقالاتِ فيما بينهم كان في مبادىءِ الأمرِ تعليق مغفرةِ الخطيئةِ بيومِ الدَّينِ مع أنَّها إنَّما تُغفر الدنيا لأن أثرها يومئذ يتبيَّن ولأنَّ في ذلك تهويلاً له وإشارةً إلى وقوعِ الجزاءِ فيه إنْ لم تُغفر
{رَبّ هَبْ لِى حُكْماً} بعد ما ذكر عليه الصلاة والسلام لهم فنونَ الألطافِ الفائضةِ عليه من الله عز وجل من مبدأِ خلقِه إلى يومِ بعثهِ حمله ذلك على مُناجاتِه تعالى ودعائِه لربط العتيدِ وجلبِ المزيدِ والحكم الحكمة التي هي الكمالُ في العلم والعملِ بحيثُ يتمكَّنُ به من خلافةِ الحقِّ ورياسة الخلقِ {وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} ووفقنِي من العُلومِ والأعمال والملكات لما يرشحن للانتظامِ في زُمرةِ الكاملينَ الرَّاسخينَ في الصَّلاحِ المنزَّهينَ عن كبائرِ الذُّنوبِ وصغائِرها أو اجمعْ بيني وبينَهُم في الجنَّة ولقد أجابَه تعالى حيثُ قال وَإِنَّهُ فِى الأخرة لَمِنَ الصالحين
{واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الأخرين} أي جاهاً وحسنَ صيت في الدُّنيا بحيثُ يبقى أثرُه إلى يومِ الدِّين ولذلك لا ترى أمةً من الأُمم إلا وهي محبَّةٌ له ومثنيةٌ عليه أو صادقاً من ذريتي يحدد أصلَ ديني ويدعُو النَّاسَ إلى ما كنتُ أدعُوهم إليهِ من التَّوحيدِ وهو النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولذلك قال صلى الله عليه وسلم أنا دعوةُ أبي إبراهيمَ
{واغفر لاِبِى} بالهدايةِ والتَّوفيقِ للإيمان كما يلوحُ به تعليلُه بقوله {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين} أي طريقَ الحقَّ وقد مرَّ تحقيقُ المقامِ في تفسير سورة التَّوبةِ وسورة مريمَ بما لا مزيدَ عليهِ
{وَلَا تُخْزِنِى} بمعاتبتي على ما فرطت أو ينقص رُتبتي عن بعض الورَّاثِ أو بتعذيبي لخفاءِ العاقبةِ وجوازِ التَّعذيبِ عقلاً كلُّ ذلك مبنيٌّ على هضمِ النَّفسِ منه عليه الصلاة والسلام أو بتعذيب ولدي أو يبعثه في عدادِ الضَّالين بعدمِ توفيقِه للإيمانِ وهو من الخِزيِ بمعنى الهران أو من الخزايةِ بمعنى الحياءِ {يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي النَّاسُ كافَّةً والإضمار قبل الذكرِ لما في عُموم البعثِ من الشُّهرة الفاشيةِ المغنيةِ عنه وتخصيصه بالضَّالِّين مما يخلُّ بتهويلِ اليوم
{يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} بدلٌ من يومَ يبعثُون جِيء به تأكيداً للتَّهويلِ وتمهيداً لما يعقُبه منْ الإستثناء وهو من أعمِّ المفاعيلِ أي
سورة الشعراء (89 94)
لا ينفعُ مالٌ وإن كان مصرُوفاً في الدُّنيا إلى وجوهِ البرِّ والخيراتِ ولا بنون وإن كانُوا صُلحاءَ مستأهلينَ للشَّفاعةِ أحداً
{إِلَاّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي عن مرض الكُفرِ والنِّفاقِ ضرورةَ اشتراطِ نفع كلَ منهما بالإيمان وفيه تأييدٌ لكونِ استغفارِه عليه الصلاة والسلام لأبيه طلباً لهدايتِه إلى الإيمانِ لاستحالةِ طلبِ مغفرتِه بعد موته كافراً مع علمه عليه الصلاة والسلام بعدم نفعه لأنَّه من باب الشَّفاعةِ وقيل هو استثناءُ من فاعلٍ ينفعُ بتقدير المضاف أي إلا مال من أو بنو من أتى الله الآية وقيل المضاف المحذوف ليس من جنس المُستثنى منه حقيقةً بل بضرب من الاعتبارِ كما في قولِه تحيةُ بينِهم ضربٌ وجيعُ أي إلا حالَ من أتى الله بقلبٍ سليم على أنَّها عبارةٌ عن سلامة القلبِ كأنَّه قيل إلا سلامةَ قلبِ مَن أتى الله الآية وقيل المضاف المحذوف ما دلَّ عليه المالُ والبنون من الغنى وهو المُستثنى منه كأنَّه قيل يومَ لا ينفعُ غِنَى إلا غنى من أتى الله الآيةَ لأنَّ غنى المرءِ في دينِه بسلامةِ قلبِه وقيل الاستثناءُ منقطعُ والمعنى لكن سلامة قلبه تنفعه
{وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ} عطف على لا ينفع وصيغةُ الماضي فيه وفيما بعدَهُ من الجُمل المنتظمةِ معه في سلك العطف للدِّلالة على تحقُّق الوقوعِ وتقرُّره كما أن صيغة المضارع في المعطوفِ عليه للدِّلالة على استمرار انتفاءِ النَّفع ودوامِه حسبما يقتضيهِ مقامُ التَّهويل والتَّفظيعِ أي قُربتِ الجنَّةُ للمتَّقين عنِ الكفرِ والمعاصِي بحيثُ يُشاهدونها من الموقفِ ويقفُون عَلى ما فَيها من فنُون المحاسنِ فيبتهجُون بأنَّهم المحشورون إليها
{وَبُرّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ} الضَّالِّين عن طريقِ الحقِّ الذي هو الإيمانُ والتَّقوى أي جُعلت بارزةً لهم بحيث يَرَونها مع ما فيها من أنواع الأحوالِ الهائلةِ ويُوقنون بأنَّهم مواقعوها ولا يجدون عنها مصرفا
{قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} في الدنيا {ما تَعْبُدُونَ} {مِن دُونِ الله} أي أين آلهتكم الذين كنتُم تزعمون في الدُّنيا أنَّهم شفعاؤكم في هذا الموقفِ {هَلْ يَنصُرُونَكُمْ} بدفعِ العذابِ عنكم {أَوْ يَنتَصِرُونَ} بدفعه عن أنفسهم وهذا سؤالُ تقريعٍ وتبكيتٍ لا يُتوقَّع له جوابٌ ولذلك قيل
{فَكُبْكِبُواْ فِيهَا} أي أُلقوا في الجحيمِ على وجوهِهم مرة بعد أرى إلى أنْ يستقرُّوا في قعرها {هُمْ} أي آلهتُهم {والغاوون} الذين كانُوا يعبدونهم وفي تأخير
سورة الشعراء (95 99)
ذكرهم عن ذكر آلهتم رمزٌ إلى أنَّهم يؤخَّرون عنها في الكبكبةِ ليُشاهدوا سوءَ حالِها فيزدادوا غمِّاً إلى غمَّهم
{وجنود إبليس} أي شياطنية الذين كانوا يغرونهم ويُوسوسون إليهم ويسوِّلون لهم ما هم عليه من عبادةِ الأصنام وسائر فنون الكُفر والمعاصي ليجتمعُوا في العذاب حسبما كانُوا مجتمعين فيما يُوجبه وقيل متبعوه من عصاة الثَّقلينِ والأوَّلُ هو الوجه {أجمعين} تأكيد للضمير وما عُطِف عليه وقوله تعالى
{قَالُواْ} الخ استئنافٌ وقع جوابا عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ حالهم كأنه قيل ماذا قالوا حينَ فُعل بهم ما فُعل فقيل قال العَبَدةُ {وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} أي قالوا معترفين بخطئهم في أنهما كهم في الضَّلالةِ متحسَّرين معيِّرين لأنفسهم والحال أنَّهم في الجحيم بصددِ الاختصام مع من معهم من المذكورينَ مخاطبين لمعبودِيهم على أنَّ الله تعالَى يجعلُ الأصنامَ صالحةً للاختصام بأنْ يُعطيها القدرةَ على الفهم والنُّطقِ
{تالله إِن كُنَّا لَفِى ضلال مُّبِينٍ} إنْ مخففةٌ من الثَّقيلةِ قد حُذف اسمَها الذي هو ضميرُ الشأن واللام فارقة بينها وبن النَّافيةِ أي إنَّ الشأنَ كُنَّا في ضلال واضح لإخفاء فيه ووصفهم له بالوضوح للإشباع في إظهار ندمهم وتحسُّرهم وبيان عِظَمِ خطئهم في رأيهم مع وضوح الحقِّ كما ينبىءُ عنه تصديرُ قَسَمهم بحرف التَّاءِ المُشعرةِ بالتَّعجُّبِ وقوله تعالى
{إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ العالمين} ظرفٌ لكونهم في ضلالٍ مبين وقيل لما دل عليه الكلامُ أي ضللنا وقيل للضَّلال المذكورِ وإن كان فيه ضعفٌ صناعيٌّ من حيث إنَّ المصدرَ الموصوفَ لا يعمل بعد الوصف وقيل ظرفٌ لمبين وصيغةُ المضارعِ لاستحضارِ الصُّورَةِ الماضية أي تالله لقد كُنَّا في غاية الضَّلالِ الفاحش وقت تسويتنا إيَّاكُم أيُّها الأصنامُ في استحقاقِ العبادة بربِّ العالمين الذي أنتم أدنى مخلوقاته وأدلهم وأعجزُهم وقولهم
{وَمَا أَضَلَّنَا إِلَاّ المجرمون} بيان لسبب ضلالهم بعد اعترافِهم بصدوره عنهم لكنْ لا على مَعْنى قصرِ الإضلال على المجرمين دون عداهم بل على مَعنى قصر ضلالِهم على كونه بسبب إضلالهم من غير أنْ يستقلُّوا في تحقُّقهِ أو يكون بسبب إضلال الغيرِ كأنَّه قيل وما صدرَ عنَّا ذلك الضَّلالُ الفاحش إلا بسبب إضلالِهم والمرادُ بالمجرمين الذين أضلوهم روساؤهم وكُبراؤُهم كما في قولِه تعالى رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا وعن السدى رحمة الله الأَوَّلُون الذين اقتدَوا بهم وأياما كان ففيه أوفرُ نصيب من التعريض الذين قالُوا بل وجدنا آباءَنا كذلك يفعلون وعن ابنِ جريج
سورة الشعراء (100 103)
إبليسُ وابنُ آدمَ القاتلُ لأنَّه أوَّلُ من سَنَّ القتلَ وأنواعَ المعاصِي
{وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} كما نرى لهم أصدقاءَ أو فما لنا من شافعين ولا صديقٍ حميمٍ من الذين كنَّا نعدُّهم شفعاءَ وأصدقاءَ على أنَّ عدمَهما كنايةٌ عن عداوتِهما كما أنَّ عدمَ المحبَّةِ في مثلِ قولِه تعالى والله لَا يُحِبُّ الفساد كنايةٌ عن البُغضِ حسبما ينبىءُ عنه قوله تعالى الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَاّ المتقين أو وقعنا في مهلكة لا يخلصنا منها شافعٌ ولا صديقٌ على أنَّ المرادَ بعدمهما عدمُ أثرهِما وجمعُ الشَّافعِ لكثرة الشُّفعاءِ عادةً كما أنَّ إفرادَ الصَّديقِ لقلَّتهِ أو لصحَّةِ إطلاقِه على الجمعِ كالعدوِّ تشبيهاً لهما بالمصادرِ كالحنينِ والقَبولِ وكلمةُ لَوْ في قوله تعالى
{فلو أن لنا كرة} للتَّمنِّي كليتَ لما أنَّ بينَ معنييهما تلاقياً في معنى الفرضِ والتَّقديرِ كأنَّه قيل فليتَ لنا كرَّةً أي رجعةً إلى الدُّنيا وقيل هي علي أصلِها من الشَّرطِ وجوابُه محذوفٌ كأنَّه قيل فلو أنَّ لنا كرةً لفعلنا من الخيراتِ كيتَ وكيتَ ويأَّباهُ قوله تعالى {فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} لتحتُّم كونِه جواباً للتمني مفيدا لترتيب إيمانهم على وقوعِ الكَرَّةِ البتة بلا تخلف كما هو مقتضى حالِهم وعطفه على كرة طريقة للبس عباءة وتقرعيني كما يستدعيه كون لو على أصلها إنَّما يفيد تحقُّقَ مضمون الجوابِ على تقدير تحقق كرتهموإيمانهم معاً من غير دلالة على استلزامِ الكرَّة للإيمانِ أصلاً مع أنَّه المقصودُ حتماً
{إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيما ذُكر من نبأ إبراهيمَ عليه السلام المشتملِ على بيان بُطلانِ ما كان عليه أهلُ مكَّةَ من عبادةِ الأصنامِ وتفصيلِ ما يؤول إليه أمرُ عَبَدتها يومَ القيامةِ من اعترافِهم بخطئِهم الفاحشِ وندمِهم وتحسُّرهم على ما فاتَهُم من الإيمان وتمنِّيهم الرَّجعةَ إلى الدُّنيا ليكونُوا من المؤمنين عند مشاهدتِهم لما أزلفت لهم جنَّاتُ النَّعيمِ وبُرِّزتْ لأنفسهم الجحيم وغشيهم ما غشيهم من ألوانِ العذابِ وأنواعِ العقابِ {لآيَةً} أي آية عظيمةٌ لا يُقادرُ قَدرُها موجبةً على عبدة الأصنامِ كافَّةً لا سيَّما على أهلِ مكَّةَ الذين يدَّعُون أنَّهم على ملَّةِ إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام أنْ يجتنبُوا كلَّ الاجتنابِ ما كانُوا عليه من عبادتها خوفاً أنْ يحيقَ بهم مثلُ ما حاق بأولئك من العذابِ بحكم الاشتراكِ فيما يُوجبه أو أن في ذكر نبئةِ وتلاوته عليهم على ما هو عليه من غير أنْ تسمعه من أحد لآيَةً عظيمة دالَّة على أنَّ ما تتلوه عليهم وحيٌ صادقٌ نازلٌ من جهةِ الله تعالى موجبة للإيمان به قطعاً {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مؤمنين} أي أكثرُ هؤلاءِ الذينَ تتلُو عليهم النبأَ مؤمنين بل هم مُصرُّون على ما كانُوا عليهِ من الكُفرِ والضَّلالِ وأمَّا أنَّ ضمير أكثرُهم لقومِ إبراهيمَ عليه السلام كما توهَّمُوا فمما لا سبيلَ إليه أصلاً لظهور أنَّهم ما ازدادوا مما سمعُوا منه عليه الصَّلاةُ والسلام
سورة الشعراء (104 111)
إلا طُغياناً وكفراً حتَّى اجترؤا على تلك العظيمةِ التي فعلُوها به عليه الصلاة والسلام فكيف يعبَّر عنهم بعدم إيمان أكثرِهم وإنما آمنَ له لوطٌ فنجَّاهُما الله عز وجل إلى الشَّامِ وقد مرَّ بقيَّةُ الكلام في آخرِ قصَّةِ موُسى عليه السَّلامُ
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} أي هو القادرُ على تعجيلِ العُقوبةِ لقومِك ولكنه يمهلهم بحكم الواسعةِ ليؤمن بعضٌ منهم أو من ذريَّاتِهم
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين} القوم مؤَّنثٌ ولذلك يُصغَّر على قُويمةٍ وقيل القومُ بمعنى الأُمَّةِ وتكذيبهم للمرسلين إما باعتبارِ إجماع الكلِّ على التَّوحيد وأصولِ الشَّرائعِ التي لا تختلفُ باختلاف الأزمنةِ والأعصارِ وإمَّا لأنَّ المرادَ بالجمعِ الواحدُ كما يقال فلانٌ يركب الدَّوابَّ ويلبس البرود وماله إلا دابة وبردة وإذفى قوله تعالى
{إِذْ قَالَ لَهُمْ} ظرفٌ للتَّكذيبِ على أنَّه عبارةٌ عن زمانٍ مديدٍ وقعَ فيه ما وقعَ من الجانبينِ إلى تمام الأمر كما أنَّ تكذيبَهم عبارةٌ عمَّا صدرَ عنهم من ابتداءِ دعوتِه عليه الصلاة والسلام إلى انتهائها {أَخُوهُمْ} أي نسيبُهم {نُوحٌ أَلَا تتقون} الله حين تعبدُون غيرهَ
{وما أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على ما أنا متصدَ له من الدُّعاءِ والنُّصحِ {مِنْ أَجْرٍ} أصلاً {إِنْ أَجْرِىَ} فيما أتولَاّهُ {إِلَاّ على رَبّ العالمين} والفاء في قوله تعالى
{فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} لترتيب ما بعدها على ما قبلها من تنزهه عليه الصلاة والسلام عن الطَّمعِ كما أن نظيرتَها السَّابقةَ لترتيب ما بعدها على أمانتِه والتَّكريرُ للَّتأكيدِ والتَّنبيهِ على أن كلاًّ منهما مستقلٌّ في إيجاب التَّقوى والطَّاعةِ فكيف إذا اجتمَعا وقُرىء إن أَجْرِيْ بسكون الياء
{قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} أي الأقلُّون جاهاً ومالاً جمع الأرذلِ على الصِّحَّةِ فإنَّه بالغلبة صار جاريا مجرى الإسم
سورة الشعراء (112 118)
كالأكبرِ والأكابرِ وقيل جمعُ أرذُلٍ جمعُ رَذْلٍ كأكالبَ وأَكلُبٍ وكَلْبٍ وقُرىء وأتباعُك وهو جمع تابعٍ كشاهدٍ وأشهادٍ أو جمع تَبَع كبطلٍ وأبطالٍ يعنُون أنَّه لا عبرةَ باتِّباعِهم لك إذْ ليس لهم رزانةُ عقلٍ ولا إصابةَ رأيٍ وقد كان ذلك منهم في بادىءٍ الرَّأي كما ذكر في موضع آخر وهذا من كمال سخافةِ عقولِهم وقصرهم أنظارَهم على حطام الدنيا وكون الأشراف عندهم مَن هو أكثرُ منها حظَّاً والأرذلُ مَن حُرمها وجهلِهم بأنَّها لا تزنُ عندَ الله جناحَ بعوضةٍ وأنَّ النعيم هو نعيمُ الآخرةِ والأشرفُ من فازَ به والأرذلُ من حُرمه
{قَالَ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} جواب عَّما أُشير إليه من قولهم إنَّهم لم يُؤمنوا عن نظرٍ وبصيرةٍ أي وما وظيفتي إلَاّ اعتبارُ الظَّواهرِ وبناءُ الأحكامِ عليها دون التَّفتيشِ عن بواطنهم والشَّقِّ عن قلوبهم
{إِنْ حِسَابُهُمْ} أي ما محاسبةُ أعمالِهم والتَّنقيرُ عن كفايتها البارزةِ والكامنةِ {إِلَاّ على ربي} فإنه المضطلع السَّرائرِ والضَّمائرِ {لَوْ تَشْعُرُونَ} أي بشيءٍ من الأشياءِ أو لو كنتُم من أل الشُّعور لعلمتم ذلك ولكنَّكم لستُم كذلك فتقولون ما تقولُون
{وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين} جواب عمَّا أوهمُه كلامُهم من استدعاءِ طردِهم وتعليقِ إيمانِهم بذلك حيثُ جعلوا اتِّباعَهم مانعاً عنه وقوله
{إِنْ أَنَاْ إِلَاّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} كالعلَّةِ أي ما أنا إلا رسولٌ مبعوثٌ لإنذار المكلَّفين وزجرهِم عن الكفر والمعاصي سواءً كانُوا من الأعزَّاء أو الأذِلَاّء فكيف يتسنَّى طرد الفُقراء لاستتباع الأغنياءِ أو ما عليَّ إلَاّ إنذارُكم بالبرهان الواضحِ وقد فعلتُه وما عليَّ استرضاءُ بعضِكم بطردِ الآخرين
{قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يا نوح} عمَّا تقول {لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين} من المشتُومين أو المرميين بالحجارةِ قالوه قاتلهم الله تعالى في أواخرِ الأمرِ ومعنى قوله تعالى
{قَالَ رَبّ إِنَّ قَوْمِى كذبون} تموا على تكذيبي وأصرُّوا على ذلك بعد ما دعوتُهم هذه الأزمنةَ المُتطاولة ولم يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلَاّ فِرَاراً كما يُعرب عنه دُعاؤْه بقولِه
{فافتح بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} أي أحكُم بيننا بما يستحقُّه كلُّ واحدٍ منَّا وهذه حكايةٌ إجماليةٌ لدعائِه المفصَّل في سورة نوحٍ عليه {وَنَجّنِى وَمَن مَّعِى مِنَ المؤمنينَ} أي من قصدِهم أو من
سورة الشعراء (119 128)
شؤمِ أعمالِهم
{إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وما كان أكثرهم مؤمنين} {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} الكلامُ فيه كالذي مرَّ خلا أنَّ حمل أكثرهم على أكثر قومِ نوحٍ أبعدُ من السَّدادِ وأبعدُ
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ} الكلام في أن المراد بتكذيبهم وبما وقعَ فيه من الزَّمانِ ماذا كما مرَّ في صدرِ قصَّة نوحٍ عليه السلام أي أَلا تَتَّقُونَ الله تعالى فتفعلون ما تفعلونَ
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} {فاتقوا الله وأطيعون} {وما أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إن أجرى إلا على رَبّ العالمين} الكلامُ فيه كالذي مرَّ وتَصديرُ القصص به للتنبيه على أنَّ مبنى البعثةِ هو الدُّعاءِ إلى معرفةِ الحقِّ والطَّاعةِ فيما يُقرب المدعوَّ إلى الثَّوابِ ويُبعده من العقابِ وأنَّ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ مُجمعون على ذلك وإن اختلفُوا في بعض فروع الشَّرائعِ المختلفة باختلاف الأزمنةِ والأعصارِ وأنَّهم متنزِّهون عن المطامع الدنية والأغراض الدُّنيويةِ بالكُلِّية
{أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ} أي مكانٍ مرتفعٍ ومنه رِيعُ الأرض لإرتفاعها {آية} عَلَماً للمارة {تَعْبَثُونَ} أي ببنائها إذْ كانُوا يهتدون بالنُّجومِ في أسفارِهم فلا يحتاجُون إليها أو بروج الحمام
سورة الشعراء (129 137)
أو بُنياناً يجتمعون إليه ليعبثوا لمن مرَّ عليهم أو قُصوراً عاليةً يفتخرونَ بها
{وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} أي مآخذَ الماءِ وقيل قُصوراً مشيَّدة وحصوناً {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أي راجين أنْ تُخلدوا في الدُّنيا أي عاملين عملَ من يرجو من ذلك فلذلك تحكمُون بنيانها
{وإذا بطشتم} بصوت أو سيفٍ {بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} متصلطين غاشمينَ بلا رأفةٍ ولا قصدِ تأديبٍ ولا نظرٍ في العاقبةِ
{فاتقوا الله} واتركُوا هذه الأفعال {وأطيعونِ} فيما أدعُوكم إليه فإنَّه أنفعُ لكم
{واتقوا الذى أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} من أنواع النَّعماء وأصنافِ الآلاءِ أجملَها أوَّلاً ثم فصَّلها بقوله
{أَمَدَّكُمْ بأنعام وَبَنِينَ} بإعادة الفعل لزيادةِ التَّقريرِ فإنَّ التَّفصيلَ بعد الإجمال والتَّفسيرَ إثر الإبهامِ أدخلُ في ذلك
{وجنات وَعُيُونٍ} {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ} إنْ لم تقوموا بشكرِ هذهِ النِّعم {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} في الدُّنيا والآخرةِ فإنَّ كُفران النِّعمةِ مستتبعٌ للعذاب كما أنَّ شكرَها مستلزمٌ لزيادتِها قال تعالى لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى شديد
{قَالُواْ سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أم لم تكن من الواعظين} فإنَّا لنْ نرعويَ عما نحن عليه وتغير الشِّقِّ الثِّاني عن مقابله للمبالغة في بيان قلَّةِ اعتدادها بوعضه كأنهم قالوا ألم تكُن من أهلِ الوعظ ومباشريهِ أصلاً
{إِنَّ هَذَا} ما هذا الذي جئتنا به {إِلَاّ خلق الأولين} أي عادتهم كانوا يلفِّقون مثلَه ويسطرونَه أو ما هذا الذي نحنُ عليه من الدِّين إلَّا خُلُق الأولين وعادتهم ونحن بهم مقتدون أو ما هذا الذي نحن عليه من الموتِ والحياةِ إلا عادةٌ قديمةٌ لم يزل النَّاسُ عليها وقُرىء خَلْق الأوَّلين بفتح الخاء أي إختلاق الأولَّينَ كما قالُوا أساطيرُ الأوَّلينَ أو ما خلقُنا هذا إلا خلقُهم نحيا
سورة الشعراء (150 158)
كما حيُوا ونموت كما ماتُوا ولا بعثَ ولا حسابَ
{فَكَذَّبُوهُ} أي أصرُّوا على ذلك {فأهلكناهم} بسببه بريحٍ صرصرٍ {إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} {كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين} إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالح أَلا تَتَّقُونَ {الله تعالى} إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} {وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين} {أتتركون في ما ها هنا آمِنِينَ} إنكارٌ ونفيٌ لأن يتركوا فيما هيم فيه من النِّعمة أو تذكير للنعمة في تخلينه تعالى إيَّاهم وأسباب تنعمِهم آمنين وقولُه تعالى
{فِى جنات وَعُيُونٍ} {وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} تفسير لما قبله من المبهم والهضيمُ اللَّطيفُ الليِّنُ للطف الثمر أو لأنَّ النخلَ أُنثى وطلع الإناث ألطفُ وهو ما يطلع منها كنصل السَّيفِ في جوفه شماريخُ القنوِ أو متدلَ متكسرٌ من كثرةِ الحملِ وإفراد النخل لفضله على سائر أشجارِ الجنَّاتِ أو لأن المرادَ بها غيرُها من الأشجارِ
بطرين أو حازقين من الفراهةِ وهي النَّشاطُ فإنَّ الحاذقَ يعملُ بنشاطٍ وطلب قلب وقرئ فَرِهين وهو أبلغ
{فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} {وَلَا تُطِيعُواْ أَمْرَ المسرفين} استعير الطَّاعة التي هي انقيادُ الأمرِ لامتثالِ الأمر وارتسامِه أو نُسب حكم الأمر إلى أمرِه مجازاً
{الذين يُفْسِدُونَ فِى الأرض} وصف موضِّحٌ لإسرافهم ولذلك عطف {وَلَا يُصْلِحُونَ} على يُفسدون لبيان خلوصِ إفسادِهم عن مخالطةِ الإصلاحِ
{قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين} أي الذين سُحروا حتَّى غُلب على عقولِهم أو من ذوي السَّحْر أي من الإنسِ فيكون قوله تعالى
{مَا أَنتَ إِلَاّ بشرٌ مّثْلُنَا} تأكيداً له {فَأْتِ بآية إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} أي في دعواكَ
{قَالَ هذه نَاقَةٌ} أي بعد ما أخرجَها الله تعالى من الصَّخرةِ بدعائه عليه الصلاة والسلام حسبمَا مرَّ تفصيلُه في سورة الأعراف وسورة هودٍ {لَّهَا شِرْبٌ} أي نصيبٌ من الماء كالسِّقيِ والقِيت للحظِّ من السِّقيِ والقوت وقرئ بالضَّمِّ {وَلَكُمْ شربُ يومٍ مَّعْلُومٍ} فاقتنعُوا بشربكم ولا تزاحمُوا على شِربها
{وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوء} كضرب وعقر {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وصف اليوم بالعظمِ لعظم ما يحلُّ فيه وهو أبلغُ من تعظيم العذابِ
{فَعَقَرُوهَا} أسند العقرَ إلى كلِّهم لما أنَّ عاقَرها عقرَها برأيهم ولذلك عمَّهم العذابُ {فَأَصْبَحُواْ نادمين} خوفاً من حُلول العذابِ لا توبةً أو عند معاينتهم لمباديه ولذلكَ لَمُ ينفعْهم النَّدمُ وإن كان بطريق التَّوبةِ
{فَأَخَذَهُمُ العذاب} أي العذابُ الموعودُ {إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مؤمنين}
سورة الشعراء (159 168)
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} قيل في نفيِ الإيمان عن أكثرهم فلي هذا المعرض إيماءً إلى أنَّه لو آمن أكثرُهم أو شطرُهم لما أُخذوا بالعذابِ وأنَّ قُريشاً إنَّما عُصموا من مثلِه ببركةِ مَن آمنَ منهم وأنتَ خبيرٌ بأن قُريشاً هم المشهورونَ بعدمِ إيمانِ أكثرِهم
{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المرسلين} {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} {وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أجرى إلا على رب العالمين} {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين} أى أتأتون من بينِ منَ عداكم من العالمين الذكران لا يشارككم فيه غيرُكم أو أتأتون الذكران من أولادِ آدمَ مع كثرتِهم وغلبة النَّساءِ فيهم مع كونهم أليقَ بالاستمتاعِ فالمرادُ بالعالمين على الأول ما يُنكح من الحيوانِ وعلى الثَّاني الناسُ
{وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ} لأجل استمتاعِكم وكلمة مِن في قوله تعالى {مّنْ أزواجكم} للبيان إنْ أريد يما جنسُ الإناثِ وهو الظَّاهرُ وللتبعيضِ إنْ أُريد بها العُضو المباحُ منهنَّ تعريضاً بأنَّهم كانُوا يفعلون ذلك بنسائِهم أيضاً {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} متعدُّون متجاوزونَ الحدَّ في جميعِ المعاصي وهذا من جُملتها وقيل متجاوزونَ عن حدِّ الشَّهوةِ حيث زادُوا على سائرِ النَّاسِ بل الحيواناتِ
{قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يا لوط} أي عن تقبيح أمرِنا ونهينا عنه أو عن دَعْوى النُّبوة التي من جُملةِ أحكامِها التَّعرضُ لنا {لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين} أي من المنفيينَ من قريتنا وكأنَّهم كانوا يخرجون منَ أخرجوه من بيتهم على عنفٍ وسوءِ حالٍ
أي من المُبغضين غايةَ البغضِ كأنه يقْلى الفؤادَ والكبدَ لشدَّتِه وهو أبلغُ من أنْ يُقال إنِّي لعملِكم قالٍ لدلالتِه على أنه عليه الصلاة والسلام من زُمرة الرَّاسخين في بعضه المشهورينَ في قِلاه ولعلَّه عليه الصلاة والسلام أراد إظهارَ الكراهة في مُساكنتِهم والرَّغبةِ في الخلاصِ من سوءِ جوارهم ولذلك أعرضَ عن محاورتِهم وتوجَّه إلى الله تعالى قائلاً
{فنجيناه وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} أي أهلَ بيتهِ ومَن اتبعه في الدِّين بإخراجِهم من بينهم عند مشارفةِ حُلولِ العذابِ بهم
{إِلَاّ عَجُوزاً} هي امرأةُ لوط استثنيت من أهله فلا يضرُّه كونُها كافرةً لأنَّ لها شركةً في الأهلية بحقِّ الزَّواجِ {فِى الغابرين} أي مقدرا كونُها من الباقين في العذابِ لأنَّها كانت مائلةً إلى القوم راضيةً بفعلهم وقد أصابها الحجرُ في الطَّريقِ فأهلكها كما مرَّ في سُورة الحجرِ وسُورة هودٍ وقيل كانت فيمن بقيَ في القريةِ ولم تخرجْ مع لوطٍ عليه السلام
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا} أي مطراً غيرَ معهودٍ قيل أمطر الله تعالى على شُذّاذ القوم حجارةً فأهلكتهم {فَسَاء مَطَرُ المنذرين} اللام فيه للجنسِ وبه يتسنَّى وقوعُ المضاف إليه فاعلَ ساءَ والمخصوص بالذمِّ محذوفٌ وهو مطرهم
{إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وما كان أكثرهم مؤمنين} {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} {كذب أصحاب الأيكة المرسلين} الأيكةُ الغَيضةُ التي تُنبتُ ناعمَ الشَّجر وهي غَيضةٌ بقرب مَدْيَن يسكنها طائفة وكانُوا ممَّن بُعثَ إليهم شعيبٌ عليه السالم وكان أجنبيَّاً منهم ولِذلك قيل
سورة الشعراء (178 187) أخُوهم وقيل الأيكةُ الشَّجرُ الملتفُّ وكان شجرُهم الدَّومَ وهو المقل وقرئ بحذف الهمزةِ وإلقاءِ حركتِها على اللامِ وقُرئت كذلك مفتوحةً على أنَّها لَيْكةُ وهي اسمُ بلدهم وإنَّما كُتبت ههنا وفي ص بغيرِ ألفٍ إتباعاً للفظِ اللافظ
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} {فاتقوا الله وأطيعون} {وما أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إن أجرى إلا على رب العالمين} {وَأَوْفُوا الكيل} أي أتمُّوه {وَلَا تَكُونُواْ مِنَ المخسرين} أي حقوقَ النَّاس بالتّطفيف
{وَزِنُواْ} أي الموزوناتِ {بالقسطاس المستقيم} بالميزانِ السَّويِّ وهو إن كانَ عربيَّاً فإنْ كان من القسط ففعلا س بتكرير العين وإلا ففعلا ل وقرئ بضمِّ القاف
{وَلَا تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} أي لا تُنقصوا شيئاً من حقوقِهم أي حقَ كان وهذا تعميمٌ بعد تخصيصِ بعضِ الموادِّ بالذكر لغاية أنهما كهم فيها {وَلَا تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ} بالقتل والغارة وقطعِ الطَّريقِ
{واتقوا الذى خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين} أى ذوى الجُبْلَّةِ الأوَّلينَ وهم مَن تقدمهم من الخلائق وقرئ بضمِّ الجيمِ والباءِ وبكسرِ الجيمِ وسكون الباءِ كالخِلْقة
{قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين} {وَمَا أَنتَ إِلَاّ بشرٌ مثلُنا} إدخالُ الواو بين الجملتينِ للدِّلالة على أنَّ كلاً من التَّسحيرِ والبشريةِ منافٍ للرِّسالةِ مبالغةً في التَّكذيبِ {وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين} أي فيما تدَّعيه من النُّبوة
{فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ السماءِ} أى قطعا وقرئ بسكون السِّينِ وهو أيضاً جمعُ كِسفةٍ وقيل الكِسفُ والكِسفةُ كالرِّيعِ والرِّيعةِ وهي القطعةُ والمرادُ بالسَّماءِ إمَّا السَّحابُ أو المظلة ولعلَّه جواب
سورة الشعراء (188 192) لام أشعر به الأمرُ بالتَّقوى من التَّهديد {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} في دعواكَ ولم يكُن طلبُهم ذلك إلا لتصميمهم على الجُحود والتَّكذيبِ وإلَاّ لمَا أخطرُوه ببالهم فضلاً أنْ يطلبُوه
{قَالَ رَبّى أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الكُفر والمعاصي وبما تستحقُّون بسببه من العذابِ فسينزله عليكم في وقتهِ المقدَّرِ لهُ لا محالة
{فَكَذَّبُوهُ} أي فتمُّوا على تكذيبه وأصرُّوا عليه {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة} حسبما اقترحُوا أمَّا إن أرادُوا بالسَّماءِ السَّحابُ فظاهرٌ وأما إن أرادوا المظلة فلأنَّ نزولَ العذابِ من جهتها وفي إضافة العذابِ إلى يومِ الظُّلَةِ دون نفسها إيذانٌ بأنَّ لهم يومئذٍ عذاباً آخرَ غيرَ عذاب الظُّلة وذلك بأنْ سلَّط الله عليهم الحرَّ سبعةَ أيام ولياليَها فأخذَ بأنفاسهم لا ينفعه ظل ولا ماءٌ ولا سَرَبٌ فاضطرُّوا إلى أنْ خرجُوا إلى البريَّةِ فأظلتُهم سحابةٌ وجدوا لها بَرْداً ونَسيماً فاجتمعُوا تحتها فأمطرتْ عليهم ناراً فاحترقُوا جميعاً رُوي أن شعيبا عليه السلام بُعث إلى أمَّتينِ أصحابِ مَدْينَ وأصحابِ الأَيكةِ فأُهلكتْ مَدْينُ بالصَّيحةِ والرَّجفةِ وأصحابُ الأيكةِ بعذابِ يوم الظُّلَّةِ {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم} أي في الشِّدَّةِ والهَوْلِ وفظاعةِ ما وقع فيه من الطَّامةِ والدَّاهيةِ التَّامةِ
{إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين} {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} هذا آخرُ القِصصِ السَّبعِ التي أُوحيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لصرفه صلى الله عليه وسلم عن الحرصِ على إسلام قومِه وقطعِ رجائه عنه ودفع تحسُّره على فواتِه تحقيقاً لمضمونِ ما مرَّ في مطلعِ السورةِ الكريمة من قوله تعالى وَمَا يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من الرحمن مُحْدَثٍ إِلَاّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق الآيةَ فإنَّ كلَّ واحدةٍ من هذه القصص ذكرٌ مستقلُّ متجدِّد النُّزولِ قد أتاهم من جهتِه تعالى بموجب رحمتِه الواسعة وما كان أكثرُهم مؤمنين بعد ما سمعُوها على التَّفصيلِ قصَّةً بعد قصَّةٍ لا بأنْ يتدَّبروا فيها ويعتبروا بما في كلِّ واحدة منها من الدَّواعي إلى الإيمان والزَّواجرِ عن الكفر والطُّغيان ولا بأنْ يتأمَّلوا في شأن الآياتِ الكريمةِ النَّاطقة بتلك القصص على ما هي عليه مع علمهم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يسمعْ شيئاً منها من أحدٍ أصلاً واستمرُّوا على ما كانُوا عليهِ من الكفرِ والضَّلالِ كأنْ لم يسمعوا شيئاً يزجرهم عن ذلكَ قطعاً كما حُقِّقَ في خاتمة قصَّةِ موسى عليه السلام
{وَأَنَّهُ} أي ما ذُكر من الآيات الكريمة النَّاطقةِ بالقصص المحكيَّة أو القُرآن الذي هي مِن جُملته {لَتَنزِيلُ رَبّ العالمين} أي منزَّل من جهتِه تعالى سمِّي به مبالغةً ووصفه تعالى بربوبيَّةِ العالمين للإيذانِ بأنَّ تنزيلَه من أحكامِ تربيتهِ تعالى ورأفتِه للكُلِّ كقوله تعالى ومن أرسلناك إلا رحمة
سورة الشعراء (193 197) العالمين
{نَزَلَ بِهِ} أي أنزلَه {الروح الأمين} أي جبريلَ عليه السلام فإنَّه أمينُ وحيهِ تعالى وموصِلُه إلى أنبيائِه عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وقرئ بتشديدِ الزَّايِ ونصبِ الرُّوحِ والأمينِ أي جعل الله تعالى الرُّوحَ الأمينَ نازلاً به
{على قَلْبِكَ} أي رُوحك وإن أُريد به العُضو فتخصيصه به لأنَّ المعانَيَ الرُّوحانيَّةَ تنزل أولاً على الرُّوحِ ثمَّ تنتقلُ منه إلى القلبِ لما بينَهما من التَّعلُّق ثم تتصعدُ إلى الدماغ فينتصف بها لوحُ المتخيلةِ {لِتَكُونَ مِنَ المنذرين} متعلِّق بنزلَ به أي أنزله لتنذرَهم بَما فِي تضاعيفِه من العقوباتِ الهائلةِ وإيثارُ مَا عليهِ النظمُ الكريم للدلالة على انتظامه صلى الله عليه وسلم في سلكِ أولئك المنذرينَ المشهورينَ في حقِّيةِ الرِّسالةِ وتقرُّرِ وقوعِ العذابِ المُنذَر
{بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ} واضحِ المعنى ظاهرِ المدلولِ لئلَاّ يبقَى لهُم عذرٌ ما وهُو أيضاً متعلِّق بنزل به وتأخيره للاعتناءِ بأمر الإنذارِ وللإيماء إلى أنَّ مدارَ كونِه من جُملة المنذرين المذكورينَ عليهم السلام مجرد انزاله عليه صلى الله عليه وسلم لا إنزالُه باللِّسان العربيِّ وجعلُه متعلِّقاً بالمنذرين كما جَوَّزه الجمهورُ يؤدِّي إلى أنَّ غاية الإنزال كونُه صلى الله عليه وسلم من جملة المنذرينَ باللغة العربية فقط من هود وصالح وشعيب عليه السلام ولا يخفى فسادُه كيف لا والطَّامةُ الكُبرى في باب الإنذارِ ما أنذره نوح وموسى عليهما السلام وأشدُّ الزَّواجرِ تأثيراً في قلوب المشركينَ ما أنذَره إبراهيمُ عليه السلام لانتمائِهم وادِّعائِهم أنهم على ملَّته عليه الصلاة والسلام
{وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الأولين} أي وإنَّ ذكره أو معناه لفي الكتبِ المتقدِّمةِ فإن أحكامه التي لا تحتملُ النَّسخَ والتَّبديلَ بحسب تبدُّلِ الأعصار من التَّوحيد وسائر ما يتعلَّق بالذَّات والصِّفاتِ مسطورة فيها وكذا ما في تضاعيفِه من المواعظ والقصصِ وقيلَ الضَّميرُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وليس بواضحٍ
{أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آية} الهمزة للإنكارِ والنَّفيِ والواو للعطفِ على مقدرٍ يقتضيه الماقم كأنَّه قيل أغفلوا عن ذلك ولم يكن لهم آيةٌ دالَّةٌ على أنَّه تنزيلٌ مّن ربِّ العالمينَ وأنه في زُبُر الأوَّلينَ على أنه لهم متعلق بالكون قُدِّم على اسمه وخبرهِ للإهتمام به أو بمحذوفٍ هو حالٌ من آيةً قُدِّمت عليها لكونها نكرةً وآية خبر للكون قُدِّم على اسمهِ الذي هو قوله تعالى {أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بني إسرائيل} لما مر مرارا من الاعتياء والتشويق إلى المؤخر أي أن يعرفوه بنعوتِه المذكورة في كُتبهم ويعرفُوا من أنزل عليه وقرئ تكن بالتَّأنيثِ وجعلت آيةٌ اسماً وأن يعلمه خبراً وفيه ضعفٌ حيث وقع النَّكرةُ اسماً والمعرفة خبراً وقد قيل في تكن ضمير القصة
سورة الشعراء (198 203) وآية أنْ يعلمَه جملة واقعة موقعَ الخبرِ ويجوزُ أن يكون لهم آيةٌ هي جملة الشَّأنِ وأن يعلمه بدلاً من آية ويجوز مع نصبِ آية تأنيث تكُن كما في قوله تعالى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَاّ أَن قالوا وقرئ تعلمُه بالتَّاءِ
{وَلَوْ نزلناه} كما هو بنظمه الرَّائقِ المعجز {على بَعْضِ الأعجمين} الذين لا يقدرُون على التَّكلُّمِ بالعربيةِ وهو جمع أعجمِي على التَّخفيفِ ولذلك جُمع جمعَ السلامة وقرئ الأعجميينَ وفي لفظ البعضِ إشارةٌ إلى كونِ ذلك واحداً من عرض تلك الطَّائفةِ كائناً من كان
{فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم} قراءةً صحيحة خارقة للعادات {مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} مع انضمامِ إِعجازَ القراءة إلى إعجازِ المقروءِ لفرطِ عنادِهم وشدَّةِ شكيمتهم في المكابرةِ وقيل المعنى ولو نزَّلناه على بعض الأعجمين بلغة العجمِ فقرأَهُ عليهم ما كانُوا به مؤمنين لعدم فهمِهم واستنكافِهم من اتِّباع العجمِ وليس بذاكَ فإنَّه بمعزل من المناسبة لمقام بيان تمادِيهم في المكابرةِ والعنادِ
{كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ} أي مثلَ ذلك السَّلْكِ البديعِ المذكورِ سلكناهُ أي أدخلنا القرآنَ {فِى قُلُوبِ المجرمين} ففهمُوا معانيه وعرَفوا فصاحتَه وأنه خارجٌ عن القُوى البشرَّية من حيث النَّظمُ المُعجزُ ومن حيث الإخبار عن الغيبِ وقد انضمَّ إليه اتِّفاقُ علماء أهل الكتبِ المنزلة قبله على تضمها للبشارة إنزاله وبعثةِ مَن أنزل عليه بأوصافِه فقوله تعالى
{لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيانِ أنَّهم لا يتأثَّرون بأمثال تلك الأمور الداعية إلى الإيمان به بل يستمرُّون على ما هم عليه {حتى يَرَوُاْ العذاب الاليم} الملجئ إلى الإيمانِ به حين لا ينفعُهم الإيمانُ
{فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} تحسُّراً على ما فاتَ من الإيمانِ وتمنيَّاً للإمهالِ لتلاِفي ما فرَّطُوه وقيل معنى كذلك سلكناهُ مثل تلك الحالِ وتلك الصِّفةِ من الكفرِ به والتَّكذيبِ له وضعناه في قلوبِهم وقوله تعالى لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ في موقعِ الإيضاحِ والتَّلخيص له أو في موقعِ الحالِ أي سلكناهُ فيها غير مؤمنٍ به والأولُ هو الأنسبُ بمقام بيان غايةِ عنادِهم ومكابرتِهم مع تعاضدِ أدلَّة الإيمانِ وتآخذ مبادئ الهدايةِ والإرشادِ وانقطاعِ أعذارِهم بالكلِّية وقيل ضمير سلكناهُ للكُفر المدلولِ عليه بمَا قَبْلَهُ منْ قولِه تعالى مَّا كَانُواْ بِهِ مؤمنين ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسنِ ومجاهدٍ رحمهما الله تعالى أدخلنا
سورة الشعراء [204 209] الشِّركَ والتَّكذيبَ في قلوب المجرمين
{أفبعذابنا يستعجلون} بقولهم أمطر عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماءِ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وقولهم فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ونحوهِما وحالهم عند نزولِ العذابِ كما وصف من طلبِ الإنذارِ فالفاءُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيهِ المقام أي أيكونُ حالُهم كما ذُكر من الاستنظارِ عند نزول العذابِ الأليمِ فيستعجلون بعذابِنا وبينهما من التَّنافي ما لا يخفى لى أحد وأيغفلون عن ذلك مع تحقُّقِه وتقرُّرهِ فيستعجلونَ الخ وإنَّما قُدمِّ الجارُّ والمجرورُ للإيذانِ بأنَّ مصبَّ الإنكارِ والتَّوبيخِ كون المستعجل به عذابَه تعالى مع ما فيهِ من رعايةِ الفواصلِ
{أَفَرَأَيْتَ} لمَّا كانت الرُّؤيةُ من أقوى أسبابِ الإخبارِ بالشَّيء وأَشهرِها شاعَ استعمالُ أرأيت في معنى أخبرني والخطابُ لكلِّ من يصلُح له كائناً من كانَ والفاء لترتيب الاستخبار على قولهم هل نحن منظرون وما بينَهما اعتراض للتَّوبيخِ والتَّبكيتِ وهي متقدِّمةٌ في المعنى على الهمزةِ وتأخيرها عنها صورةً لاقتضاءِ الهمزةِ الصدارة كما هو رأي الجمهور أي فاخبرنِي {إِن متعناهم سِنِينَ} متطاولةً بطول الأعمار وطيب المعاش
{مَا أغنى عَنْهُمْ} أيُّ شيء أو أى أعناه أغنى عنهم {ما كانوا يُمَتَّعُونَ} أي كونُهم ممتَّعينَ ذلك التمتيعَ المديدَ عَلى أنَّ مَا مصدريةٌ أو ما كانُوا يمتَّعون به من متاعِ الحياةِ الدُّنيا على أنَّها موصولةٌ حذف عائدها وأيَّاً ما كان فالاستفهامُ الإنكار والنَّفي وقيل ما نافيةٌ أي لم يغن عنهم تمتعهم المتطاولُ في دفعِ العذابِ وتخفيفِه والأول هو الأَولى لكونِه أوفقَ لصورة الاستخبارِ وأدلَّ على انتفاءِ الإغ 2 باء على أبلغِ وجهٍ وآكدِه كأن كلَّ مَن مِن شأنِه الخطابُ قد كلِّف أنْ يخبر بأنَّ تمتيعهم ماذا أفادَهم وأي شيء أغنى عنُهم فلم يقدرْ أحدٌ على أنْ يخبر بشيءٍ من ذلك أصلاً وقرئ يمتعون من الإمتاعِ
{وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ} من القُرى المهلكة {إِلَاّ لَهَا مُنذِرُونَ} قد أنذروا أهلَها إلزاماً للحجَّةِ
{ذِكْرِى} أي تذكرةً ومحلُّها النصب على العلَّةِ أو المصدر لأنَّها في معنى الإنذارِ كأنَّه قيل مذكرون ذكرى أو على أنَّه مصدرٌ مؤكد لفعل هو صفةٌ لمنذرون أي إلا لها منذرون يذكرونهم ذكرى أو الرَّفع على أنَّها صفةُ منذرون بإضمار ذوو أو بجعلِهم ذكرى لإمعانِهم في التَّذكرةِ أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ
سورة الشعراء [210 215] والجملةُ اعتراضيةٌ وضميرُ لها للقُرى المدلولِ عليها بمفردِها الواقع في حيِّز النَّفي على أنَّ معنى أن للكل منذرين أعمُّ من أن يكونَ لكلِّ قريةٍ منها منذر واحد أو أكثر {وَمَا كُنَّا ظالمين} فنهلك غيرَ الظَّالمينَ وقيل الإنذارُ والتعبيرُ عن ذلك بنفي الظالمية مع أنه إهلاكَهم قبل الإنذارِ ليس بظلمٍ أصلاً على ما تقرر من قاعدةِ أهلِ السُنَّةِ لبيانِ كمالِ نزاهتِه تعالَى عنْ ذلكَ بتصويرِه بصورةِ ما يستحيلُ صدورُه عنْهُ تعالَى من الظلم وقد مرَّ في سورةِ آلِ عمرانَ عند قولِه تعالى وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ
{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين} ردٌّ لما زعمه الكفرةُ في حقِّ القرآنِ الكريمِ من أنه من قبيل ما يُلقيه الشَّيطانُ على الكَهنةِ بعد تحقيقِ الحقِّ بيان أنه نزل به الرُّوحُ الأمينُ
{إِنَّهُمْ عَنِ السمع} لكلامِ الملائكة {لمعزولون} لانتفاء المشاركةِ بينهم وبين الملائكةِ في صفاء الذوات الاستعداد لقبولِ فيضان أنوار الحقِّ والانتقاش بصور العلومِ الرَّبانيةِ والمعارف النُّورانيةِ كيف لا ونفوسُهم خبيثةٌ ظلمانية شريرةٌ بالذَّاتِ غير مستعدة إلا لقبولِ ما لا خيرَ فيه أصلاً من فنُون الشُّرورِ فمن أينَ لهُم أنْ يحومُوا حولَ القرآن الكريم المنطوي على الحقائقِ الرَّائقةِ الغيبَّيةِ التي لا يمكن تلقِّيها إلا من الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام
{فَلَا تَدْعُ مَعَ الله إلها آخر فَتَكُونَ مِنَ المعذبين} خُوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم مع ظهور استحالة صدور المنهى عنه عنه صلى الله عليه وسلم تهييجاً وحثاً على ازديادِ الإخلاصِ ولطفاً لسائرِ المكلَّفين ببيانِ أنَّ الإشراكَ من القُبح والسُّوء بحيث يُنهى عنه من لا يمكنُ صدورُه عنه فكيف بمن عداهُ
{وَأَنذِرِ} العذابَ الذي يستتبعهُ الشِّركُ والمُعاصي {عَشِيرَتَكَ الأقربين} الأقربَ منهم فالأقربَ فإنَّ الإهتمامَ بشأنِهم أهمُّ رُوي أنَّه لمَّا نزلتْ صعدَ الصفا وناداهم فحذا فَخِذاً حتى اجتمعُوا إليه فقال لو أخبرتُكم أنَّ بسفح هذا الجبلِ خيلاً أكنتُم مُصدِّقِيّ قالوا نعمَ قال فإنيِّ نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد وروى أنه قال يا بنى عبدِ المطَّلبِ يا بني هاشمِ يا بني عبدِ منافٍ افتدُوا أنفسَكم من النَّارِ فإنِّي لا أُغني عنكم شيئاً ثم قالَ يا عائشةُ بنت أبي بكرٍ ويا حفصةُ بنتَ عمرَ ويا فاطمةُ بنتَ محمَّدٍ ويا صفيَّةُ عمَّة محمَّدٍ اشترينَ أنفسكنًّ من النَّارِ فإنِّي لا أُغني عنكُنَّ شيئاً
سورة الشعراء [216 223] أي ليِّن جانَبك لهم مستعارٌ من حال الطَّائرِ فإنَّه إذا أرادَ أنْ ينحطَّ خفضَ جناحَه ومن للتَّبيين لأنَّ من اتبَّع أعمّ ممَّن اتبع لدينِ أو غيره أو للتَّبعيض على أن المراد بالمؤمنينَ المشارفون للإيمانِ أو المصدِّقون باللَّسانِ فحسب
{فَإِنْ عَصَوْكَ} ولم يتَّبعوك {فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ} أي ممَّا تعملُون أو من أعمالكم
{وَتَوكَّلْ عَلَى العزيز الرحيم} الذي يقدرُ على قهرِ أعدائِه ونصرِ أوليائِه يكفِك شر من يعصيك منهم ومن غيرهم وقرئ فتوكل على أنَّه بدلٌ من جواب الشَّرطِ
{وَتَقَلُّبَكَ فِى الساجدين} وتردُّدك في تصفُّحِ أحوالِ المتهجديَن كما روي أنه لما نسخ فرضُ قيام اللَّيلِ طاف صلى الله عليه وسلم تلك الليلةَ ببيوت أصحابِه لينظرَ ما يصنعون حرصاً على كثرةِ طاعتِهم فوجدها كبيوتِ الزَّنابيرِ لمَا سمع منها من دندنِتهم بذكر الله تعالى والتِّلاوةِ أو تصرّفَك فيما بين المصلِّين بالقيامِ والرُّكوعِ والسُّجودِ والقُعودِ إذا أممتهم وإنَّما وصفَ الله تعالى ذاتَه بعلمِه بحاله صلى الله عليه وسلم التي بها يستأهلُ ولايتَه بعد أنْ عبَّر عنه بما ينبئ عن قهرِ أعدائِه ونصرِ أوليائِه من وصفي العزيزِ الرَّحيمِ تحقيقاً للتَّوكلِ وتوطيناً لقلبه عليه
{هَلْ أُنَبّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين} أي تتنزلُ بحذف إحدى التامين وهو استئناف مسوق لبيان استحالةِ تنزُّلِ الشيَّاطينِ على رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بعد بيانِ امتناع تنزُّلهم بالقرآنِ ودخولُ حرفِ الجرِّ على مَن الاستفهاميةِ لما أنَّها ليستْ موضوعةً للاستفهامِ بل الأصلُ أمن فحذف حرفُ الاستفهامِ واستمر الاستعمالُ على حذفِه كما حُذف من هَلْ والأصل أهَلْ وقوله تعالى
{تَنَزَّلُ على كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} قصرٌ لتنزُّلهم على كل من اتَّصف بالإفكِ الكثيرِ والإثمِ الكبيرِ من الكهنةِ والمتنبّئة وتخصيصٌ له بهم بحيثُ لا يتخطَّاهم إلى غيرِهم وحيثُ كانت ساحة رسول الله صلى الله عليه وسلم منزَّهةً عن أنْ يحومَ حولَها شائبةُ شيءٍ من تلك الأوصافِ اتَّضح استحالةُ تنزلهم عليه صلى الله عليه وسلم
{يُلْقُون} أي الأفَّاكون {السمع}
سورة الشعراء [224] إلى الشَّياطينِ فيتلَّقَون منهم أوهاماً وأماراتٍ لنقصان علمهم فيضمُّون إليها بحسبِ تخيلاتِهم الباطلةِ خرافاتٍ لا يُطابق أكثرُها الواقعَ وذلك قوله تعالى {وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون} أي فيما قالُوه من الأقاويلِ وقدور في الحديثِ الكلمة يخطفُها الجنيُّ فيقرُّها في أذنِ وليَّهِ فيزيد فيها أكثرَ من مائةِ كذبةٍ أو يلقون السَّمعَ أي المسموعَ من الشياطين إلى الناس وأكثرُهم كاذبون يفترُون على الشَّياطينِ ما لم يوحوا إليهم والأظهر أنَّ الأكثريةَ باعتبار أقوالهم على معنى أنَّ هؤلاء قلَّما يصدُقون فيما يحكون عن الجنيِّ وأما في أكثره فهم كاذبونَ ومآلُه وأكثرُ أقوالِهم كاذبةٌ لا باعتبار ذواتِهم حتى يلزمَ من نسبة الكذبِ إلى أكثرهم كونُ أقلِّهم صادقينَ على الإطلاقِ وليس معنى الأفَّاكِ من لا ينطقُ إلا بالإفكَ حتَّى يمتنعَ منه الصِّدقُ بل من يكثُر الإفكَ فلا ينافيه أن يصدقَ نادراً في بعض الأحايين وقيل الضَّميرُ للشَّياطينِ أي يلقون السَّمعَ أي المسموعَ من الملأ الاعلى قبل أنْ رجموا من بعضِ المغيبات إلى أوليائِهم وأكثرُهم كاذبونَ فيما يُوحون به إليهم إذ لا يسمعُونهم على نحو ما تكلَّمت به الملائكةُ لشرارتِهم أو لقصورِ فهمهم أو ضبطهم أو إفهامِهم ولا سبيلَ إلى حملِ إلقاء السَّمعِ على تسمُّعهم وإنصاتِهم إلى الملأ الأعلى قبل الرَّجمِ كما جَوَّزه الجمهورُ لما أن يلقون كما صرَّحوا به إما حالٌ من ضمير تنزل مفيدة لمقارنة التنزل للإلقاءِ أو استئناف مبيِّنٌ للغرض من التَّنزلِ مبنيٌّ على السَّؤالِ عنه ولا ريبَ في أن إلقاء السَّمعِ إلى الملأ الأعلى بمعزلٍ من احتمال أنْ يقارن التَّنزل أو يكون غرضاً منه لتقدُّمهِ عليه قطعاً وإنَّما المحتملُ لهما الإلقاء بالمعنى الأول فالمعنى على تقدير كونِه حالاً تنزل الشَّياطينِ على الأفَّاكين ملقين إليهم ما سمعوه من الملأ الأ على وعلى تقدير كونه فهو وصفة لكلِّ أفَّاكٍ لأنَّه في معنى الجمعِ سواء أُريد بإلقاء السَّمعِ الإصغاءُ إلى الشَّياطينِ أو إلقاء المسموعِ إلى النَّاس ويجوزُ أنْ يكونَ استئنافُ إخبارٍ بحالِهم على كِلا التَّقديرينِ لِما أنَّ كُلاًّ من تلقيهم من الشَّياطينِ وإلقائِهم إلى الناسِ يكون بعد التَّنزيلِ وأنْ يكونَ استئنافاً مبنيَّاً على السُّؤالِ على التَّقديرِ الأوَّلِ فقط كأنَّه قيل ما يفعلونَ عند تنزلِ الشَّياطينِ عليهم فقيل يُلقون إليهم أَسماعَهم ليحفظُوا ما يُوحون به إليهم وقولُه تعالى وأكثرُهم كاذبونَ على التَّقدير الأوَّلِ استئنافٌ فقط وعلى الثَّاني يحتملُ الحاليةَ من ضميرِ يُلقون أي ما سمِعُوه من الشَّياطين إلى النَّاس والحالُ أنهم في أكثرِ أقوالِهم كاذبونَ فتدبَّرْ
{والشعراء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} استئنافٌ مسوقٌ لإبطال ما قالُوا في حقِّ القُرآنِ العظيمِ من أنه من قبيل الشِّعرِ وأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من الشعراء ببيان حال الشعراء المنافية لحاله صلى الله عليه وسلم بعد إبطالِ ما قالُوا أن من قبيلِ ما يلقي الشَّياطينُ على الكهنةِ من الأباطيلِ بما مرَّ من بيانِ أحوالِهم المضادة لأحوالِه صلى الله عليه وسلم والمعنى أنَّ الشُّعراءَ يتَّبعُهم أي يُجاريهم ويسلكُ مسلكَهم ويكونُ من جُملتهم الغاوون الضَّالُّون عن السَّنَنِ الحائرون فيما يأتُون وما يَذَرُون لا يستمرُّون على وَتيرةٍ واحدة الأفعالِ والأقوالِ والأحوالِ لا غيرُهم من أهلِ الرُّشدِ المهتدين إلى
سورة الشعراء (225 227) طريقِ الحقِّ الثَّابتينِ عليهِ وقوله تعالى
{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ} استشهادٌ على أنَّ الشُّعراء إنَّما يتبعُهم الغَاوُون وتقريرٌ له والخطابُ لكلِّ من تتأتَّي منه الرُّؤيةُ للقصدِ إلى أنَّ حالَهم من الجَلاءِ والظُّهورِ بحيثُ لا تختصُّ برؤيةِ راءٍ دُونَ راءٍ أي ألم تَر أنَّ الشُّعراءَ في كلِّ وادٍ من أوديةِ القيلِ والقالِ وفي كلِّ شِعبٍ من شِعابِ الوهمِ والخيالِ وفي كلِّ مسَلكٍ من مسالك الغَيِّ والضَّلالِ يهيمونَ على وجوهِهم لا يهتدون إلى سبيلٍ مُعيَّنٍ من السُّبلِ بل يتحيرَّون في فيافي الغَوايةِ والسَّفاهةِ ويتيهُون في تيه المجُون والوقاحِة دينُهم تمزيقُ الأعراضِ المحميَّةِ والقَدحُ في الأنسابِ الطَّاهرةِ السَّنيَّةِ والتسيب بالحرامِ والغَزلُ والإبتهارُ والتَّرددُ بين طرفي الإفراطِ والتفريطِ في المدحِ والهجاءِ
{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} من الأفاعيلِ غيرَ مُبالين بما يستتبعُه من اللوائم فيكف يُتوهَّم أنْ يتبعَهم في مسلكِهم ذلكَ ويلتحقَ بهم وينتظمَ في سلكهم مَن تنزَّهت ساحتُه عن أنْ يحومَ حولها شائبةُ الإتصافِ بشيءٍ من الأمورِ المذكُورةِ واتَّصف بمحاسنِ الصِّفاتِ الجليلةِ وتخلَّق بمكارمِ الأخلاقِ الجميلةِ وحازَ جميعَ الكمالاتِ القدسيَّةِ وفاز بجُملة الملكاتِ الأنسيَّةِ مُستقراً على المنهاجِ القويمِ مستمرَّاً على الصِّراطِ المستقيمِ ناطقاً بكلِّ أمرٍ رشيدٍ دَاعياً إلى صراطِ العزيزِ الحميدِ مؤيَّداً بمعجزاتٍ قاهرةٍ وآياتٍ ظاهرةٍ مشحونةٍ بفنونِ الحكمِ الباهرةِ وصنوفِ المعارفِ الزَّاهرةِ مستقلَّةٍ بنظمٍ رائقٍ أعجز كل منطيق ماهرٍ وبكَّت كلَّ مُفلقٍ ساحرٍ هذا وقد قيل في تنزيهه صلى الله عليه وسلم عن أن يكونَ من الشعراء أن أباع الشُّعراء الغَاوون وأتباعَ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ليسُوا كذلك ولا ريبَ في أنَّ تعليلَ عدمِ كونه صلى الله عليه وسلم منهم بكون أتباعه صلى الله عليه وسلم غير غاوين مما ليا يليقُ بشأنِه العالِي وقيل الغَاوُون الراوُون وقيل الشَّياطينُ وقيل هم شُعراء قُريشٍ عبد الله بن الزبعري وهبيرة بن أبي وهب المَخزوميُّ ومسافعُ بنُ عبدِ منافٍ وأبُو عَّزةَ الجُمَحيُّ ومن ثقيفٍ أميَّةُ بنُ أبي الصَّلتِ قالوا نحنُ نقول مثل قول نحمد صلى الله عليه وسلم وقرئ والشُّعراءَ بالنَّصبِ على إضمارِ فعلِ يفسره الظاهر وقرئ يتْبَعُهم على التَّخفيفِ ويتبعْهم بسكون العين تشبها لبعه بعضد
{إلا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً وانتصروا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} استثناءٌ للشُّعراء المؤمنينَ الصَّالحينَ الذينُ يكثرون ذكرَ الله عز وجل ويكونُ أكثرُ أشعراهم في التَّوحيدِ والثَّناءِ على الله تعالى والحثِّ على طاعتِه والحكمةِ والموعظةِ والزُّهُدِ في الدُّنيا والتَّرغيبِ عن الركونِ إليها والزَّجرِ عن الاغترارِ بزخارفِها والافتتانِ بملاذِّها الفانية ولو وقع منهم في بعضِ الأوقات هجوٌ وقع ذلك منهم بطريقِ الانتصارِ ممَّن هجاهُم وقيل المرادُ بالمستثنَينَ عبدُ اللَّه بنِ رَواحةَ وحسَّانُ بنُ ثابتٍ وكعبُ بنُ مالكٍ وكعبُ بنُ زُهيرِ بنِ أبي
سُلْمى والذين كانُوا يُنافحون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكافحون هُجاةَ قُريشٍ وعن كعبِ بنِ مالكٍ رضي الله تعالى عنْهُ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له اهجهم فو الذي نفسِي بيدِه لهُو أشدُّ عليهم من النَّبلِ وكان يقولُ لحسَّانَ قُل ورُوحُ القُدُسِ مَعَك {وَسَيَعْلَمْ الذين ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} تهديد شديد وعيد أكيدٌ لما في سيعلمُ من تهويلٍ متعلَّقةِ وفي الذين ظلموا من الإطلاقِ والتعميم وفي أيَّ منقلبٍ ينقلبون من الإبهامِ والتهويلِ وقد قاله أبُو بكرٍ لعمر رضي الله عنها حين عهد غليه وقرئ أي مُنفلتٍ ينفلتونَ من الانفلاتِ بمعنى النجاةِ والمعنى أنَّ الظَّالمين يطمعُون أنْ ينفلتُوا من عذابِ الله تعالى وسيعلمُون أنْ ليس لهم وجهٌ من وجوهِ الانفلات عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَن قرأَ سورةَ الشُّعراءِ كان له منَ الأجرِ عشرَ حسناتٍ بعدد من صدَّقَ بنوحٍ وكذَّبَ به وهودٍ وصالحٍ وشُعيبٍ وإبراهيمَ وبعددِ من كذَّب بعيسى وصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم سورة النمل مكية وهي ثلاث أو أربع وتسعون آية بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم
{طس} بالتفخيم وقرئ بالإمالةِ والكلامُ فيهِ كالذي مرَّ في نظائرِه من الفواتحِ الشريفةِ ومحلَّه على تقديرِ كونِه اسماً للسورةِ وهو الأظهر الأشهر الرفع على أنه خبر لمبتدأٍ محذوفٍ أي هذا طس أي مسمَّى بهِ والإشارةُ إليهِ قبلَ ذكرِه قد مرَّ وجهُها في فاتحةِ سورةِ يونسَ وغيرِها ورفعُه بالابتداءِ على أنَّ ما بعده خبره ضعيفٌ لما ذُكر هناك {تِلْكَ} إشارةٌ إلى نفسِ السُّورةِ لأنَّها التي نوَّهتْ بذكرِ اسمِها لا إلى آياتِها لعدمِ ذكرِها صريحاً لأنَّ إضافتَها إليها تأبى إضافتَها إلى القُرآنِ كما سيأتي وما في اسمِ الإشارةِ من معنى البعد مع قُرب العهدِ بالمُشار إليه للإيذان ببعد منزلِته في الفضلِ والشرفِ ومحله الرفعُ على الابتداء خبره {آيات القرآن} والجملةُ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما أفادَه التسميةُ من نباهةِ شأنِ المسمَّى والقرآنُ عبارةٌ عن الكلِّ أو عن الجميعِ المنزلِ عند نزولِ السُّورةِ حسبَما ذُكر في فاتحة فاتحةِ الكتابِ أي تلك السورةُ آياتُ القرآنِ المعروفِ بعلوِّ الشأنِ أي بعضٌ منه مترجمٌ مستقلٌّ باسمٍ خاصَ {وكتاب} أي كتابٌ عظيمِ الشأنِ {مُّبِينٌ} مظهرٌ لما في تضاعيفهِ من الحكمِ والأحكامِ وأحوالِ الآخرةِ التي من جُملتِها الثوابُ والعقابُ أو لسبيلِ الرشدِ والغيِّ أو فارقٍ بين الحقِّ والباطلِ والحلالِ والحرامِ أو ظاهرُ الإعجازِ على أنه من أبان بمعنى بانَ ولقد فخَّم شأَنه الجليلَ بما جَمع فيه من وصفِ القرآنيةِ المنبئةِ عن كونِه بديعاً في بابهِ ممتازاً عن غيرِه بالنظمِ المعجزِ كما يُعربُ عنه قوله تعالى قرآنا عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ ووصفُ الكتابيةِ المعربةِ عن اشتمالُه على صفاتِ كمالِ الكتبِ الإلهيةِ فكأنه كلُّها وقدَّم الوصفَ الأولَ ههنا نظراً إلى تقدمِ حالِ القرآنية على
سورة النمل (25) حالِ الكتابيةِ وعكسَ في سورةِ الحجرِ نظراً إلى ما ذُكر هناك من الوجهِ وما قيلَ من أنَّ الكتابَ هو اللوحُ المحفوظُ وإبانته أنَّه خطَّ فيهِ ما هو كائنٌ فهو يبينه للناظرينَ فيه لا يساعدُه إضافةُ الآياتِ إليه إذ لا عهدَ باشتمالِه على الآياتِ ولا وصفِه بالهداية والبشارة إذا هُما باعتبارِ إبانتِه فلا بُدَّ من اعتبارِها بالنسبةِ إلى النَّاسِ الذين من جملتهم المؤمنون الا إلى الناظرين فيه وقرئ وكتابُ بالرفعِ على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مقامَه أي وآياتُ كتابٍ مبينٍ
{هُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ} في حيز النصبِ على الحالية من الآياتِ على أنَّهما مصدرانِ أُقيما مُقامَ الفاعلِ للمبالغةِ كأنَّهما نفسُ الهُدَى والبشارةِ والعاملُ معنى الإشارة أى هادية ومبشرة أو الرفع على أنَّهما بدلانِ من الآياتِ أو خبرانِ آخرانِ لتلك أو لمبتدأٍ محذوفٍ ومعنى هدايتها لهم وهمُ مهتدون أنَّها تزيدُهم هُدى قال تعالى فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأمَّا معنى تبشيرِها إيَّاهُم فظاهرٌ لأنَّها تبشِّرهم برحمةٍ من الله ورضوان وجنَّاتٍ لهم فيها نعيمٌ مقيمٌ وقولُه تعالى
{الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة} صفةٌ مادحةٌ لهم وتخصيصُهما بالذكرِ لأنَّهما قرينَتا الإيمانِ وقطر العباداتِ البدنيَّةِ والماليَّةِ مستتبعانِ لسائرِ الأعمالِ الصَّالحةِ وقولُه تعالى {وَهُم بالأخرة هُمْ يُوقِنُونَ} جملةٌ اعتراضيةٌ كأنَّه قيلَ وهؤلاء الذينَ يُؤمنون ويعملُون الصَّالحاتِ هم الموقنون بالآخرة حقَّ الإيقانِ لا مَن عداهُم لأنَّ تحمُّلَ مشاقِّ العباداتِ لخوفِ العقابِ ورجاءِ الثَّوابِ أو هُو مِن تتمةِ الصِّلةِ والواوُ حالَّيةٌ أو عاطفةٌ له على الصِّلةِ الأُولى وتغييرُ نظمه الدلالة على قوَّةِ يقينهم وثباتِه وأنَّهم أوحديُّون فيه
{إِنَّ الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالأخرة} بيانٌ لأحوالِ الكَفَرة بعدَ بيانِ أحوالِ المُؤمنينَ أي لا يُؤمنون بها وبما فيها من الثَّوابِ على الأعمالِ الصَّالحةِ والعقابِ على السَّيِّئاتِ حسبما ينطقُ به القرآنُ {زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم} القبيحةَ حيثُ جعلناها مشتهاةً للطَّبعِ محبوبةً للنَّفسِ كما ينبئ عنه قوله صلى الله عليه وسلم حُفَّتِ النَّارُ بالشَّهواتِ أو الأعمالَ الحسنةَ ببيانِ حُسنها في أنفسِها حالاً واستتباعِها لفنونِ المنافعِ مآلاً وإضافتُها إليهم باعتبارِ أمرِهم بها وإيجابِها عليهم {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} يتحيرون ويتردَّدون على التَّجددِ والاستمرارِ فمع الاشتغالِ بها والانهماكِ فيها من غيرِ ملاحظةٍ لما يتبعها من نفع وضرَ أو في الضَّلالِ والإعراض عنها والفاء على الأول لترتيبِ المسبَّبِ على السَّببِ وعلى الثَّاني لترتيبِ ضدِّ المُسبَّبِ على السَّببِ كما في قولك وعظتُه فلم يتَّعظ وفيه إيذانٌ بكمالِ عتوِّهم ومكابرتِهم وتعكيسهم في الأمور
{أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين وهو مبتدأ خبرُه الموصولُ بعدَهُ أَيْ أولئكَ الموصُوفون بالكُفر والعمهِ {الذين لَهُمْ سُوء العذاب}
أي في الدَّنيا كالقتلِ والأسرِ يومَ بدرٍ {وَهُمْ فِى الأخرة هُمُ الأخسرون} أي أشدُّ النَّاس خُسراناً لفواتِ الثَّوابِ واستحقاقِ العقابِ
{وإنك لتلقى القرآن} كلام مستأنفٌ قد سيق بعد بيان بعض شئون القرآن الكريمِ تمهيداً لما يعقبُه من الأقاصيصِ وتصديرُه بحرفَيْ التَّأكيدِ لإبراز كمالِ العنايةِ بمضمونِه أي لتؤتاه بطريق التَّلقيةِ والتَّلقينِ {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} أيْ أيِّ حكيمٍ وأيِّ عليمٍ وفي تفخيمهما تفخيمٌ لشأن القرآن وتنصيصٌ على علوِّ طبقته صلى الله عليه وسلم في معرفتِه والإحاطةِ بما فيه منْ الجلائلِ والدقائقِ فإنَّ من تلقى العلومَ والحكمَ من مثل ذلك الحكيمِ العليمِ يكون عَلَماً في رصانةِ العلمِ والحكمةِ والجمع بينهما مع دخولِ العلم في الحكمةِ لعموم العلمِ ودلالة الحكمة على إتقانِ الفعلِ وللإشعارِ بأنَّ ما في القرآنِ من العلوم منها منا هو حكمةٌ كالعقائدِ والشَّرائعِ ومنها ما ليسَ كذلك كالقصصِ والأخبارِ الغيبَّية وقولُه تعالى
{إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ} منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ خوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأُمر بتلاوةِ بعضٍ من القرآن الذي يلقاه صلى الله عليه وسلم من لَدْنه عز وجل تقريراً لما قبله وتحقيقاً له أي أذكُر لهم وقت قوله عليه الصلاة والسلام لأهلِه في وادي طوى وقد غشيتُهم ظلمةُ اللَّيلِ وقدَح فأصلَدَ زنده فبدا له من جانب الطور نار {إِنّى آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} أي عن حال الطَّريقِ وقد كانوا ضلوه والسين الدلالة على نوعِ بُعدٍ في المسافةِ وتأكيد الوعد والجمع إنْ صحَّ أنَّه لم يكن معَهُ عليه الصلاة والسلام إال امرأتُه لما كنى عنها بالأهلِ أو للتَّعظيمِ مبالغةً في التَّسليةِ {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} بتنوينهما على أن الثَّاني بدلٌ من الأَوَّلِ أو صفة له لأنَّه بمعنى مقبوسٍ أي بشعلة نارٍ مقبوسةٍ أي مأخوذه من أصلها وقرئ بالإضافةِ وعلى التَّقديرينِ فالمرادُ تعيينُ المقصودِ الذي هو القَبس الجامعُ لمنفعتي الضِّياءِ والاصطلاءِ لأنَّ من النَّار ما ليس بقبسٍ كالجمرِ وكلتا العُدَّتينِ منه عليه الصلاة والسلام بطريق الظنِّ كما يفصحُ عن ذلك ما في سورةِ طه من صيغة التَّرجى والتَّرديدُ للإيذانِ بأنَّه إن لم يظفرْ بهما لم يعدم أحدهما بناءً على ظاهرِ الأمرِ وثقةً بسُنَّةِ الله تعالى فإنَّه تعالى لا يكادُ يجمع على عبده حرمانينِ {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} رجاءَ أنْ تستدفئوا بها والصِّلاءُ النَّارُ العظيمةُ
{فَلَمَّا جَاءهَا نُودِىَ} من جانب الطُّورِ {أَن بُورِكَ} معناه أي بُورك على أن مفسرة لما في النِّداءِ من معنى القولِ أو بأن بروك على أنها مصدرية حذف عنها الحار جرياً على القاعدة المستمرَّةِ وقيل مخفَّفةٌ من الثَّقيلة ولا ضير فلي فقدان التعويض بلا أوقد أو السِّينِ أو سوفَ لما أنَّ الدُّعاء يخالفُ غيرَه في كثير من الأحكامِ {مَن فِى النار وَمَنْ حَوْلَهَا} أي من في مكانِ النَّارِ وهي البقعةُ المباركةُ المذكورةُ في قوله سبحانه نُودي من
سورة النمل (910) شاطئ الوادي الأيمنِ في البقعة المباركة ومن حولَ مكانها وقرئ تباركتِ الأرضُ ومَن حولَها والظَّاهرُ عمومُه لكلِّ مَن في ذلك الوادِي وحواليه من أرض الشَّامِ الموسومةِ بالبركات لكونها مبعثَ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلام وكفاتهم أحياءً وأمواتاً ولا سيَّما تلك البقعةُ التي كلَّم الله تعالى فيها مُوسى وقيل المرادُ موسى والملائكةُ الحاضرونَ وتصديرُ الخطابِ بذلك بشارةٌ بأنَّه قد قضى له أمر عظيمٌ دينيٌّ تنتشر بركاتُه في أقطارِ الشَّامِ وهو تكليمُه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام واستنباؤه له وإظهار المعجزات على يدِه عليه الصلاة والسلام {وسبحان الله رَبّ العالمين} تعجيبٌ لموسى عليه الصلاة والسلام من ذلك وإيذان بأن ذلك مر يده ومكونُه ربُّ العالمينَ تنبيهاً على أنَّ الكائنَ من جلائل الأمور وعظائم الشئون ومن أحكامِ تربيته تعالى للعالمين
{يا موسى إِنَّهُ أَنَا الله} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان آثارِ البركةِ المذكورة والضمير إما للشأن وأنا اللَّهُ جملة مفسِّرةٌ له وإمَّا راجعٌ إلى المتكلِّمِ وأنا خبرُه والله بيانٍ له وقولُه تعالى {العزيز الحكيم} صفتانِ لله تعالى ممهدتانِ لما أريد إظهارُه على يدِه من المعجزاتِ أى أما القويُّ القادرُ على ما لا تناله الأوهامُ من الأمورِ العظامِ التي من جُملتها أمرُ العصا واليدُ الفاعل كلَّ ما أفعله بحكمةٍ بالغة وتدبير رصين
{وَأَلْقِ} عطف على بُورك منتظمٌ معه في سلك تفسير النِّداءِ أي نُودي أنْ بُورك وأن ألقِ {عَصَاكَ} حسبما نطقَ به قولُه تعالى وأنْ ألقِ عصاك بتكريرِ حرفِ التَّفسير كما تقول كتبتُ إليه أنْ حُجَّ وأنِ اعتمرْ وإن شئتَ أن حجَّ واعتمرْ والفاء في قوله تعالى {فلما رآها تهتز} فصيحة تفصيح عن جملة قدد حُذفت ثقةً بظهورها ودلالةً على سرعةِ وقوع مضمونِها كما في قوله تعالى فلما رأينه أكبرنه بعد قوله تعالى اخرج عَلَيْهِنَّ كأنه قيل فألقاها فانقلب حيةً تسعى فأبصرَها فلَّما أبصرها متحركةً بسرعة واضطراب قوله تعالى {كَأَنَّهَا جَانٌّ} أي حيَّةٌ خفيفة سريعة الحركة جملة حالية إما من مفعول رأى مثل تهتز كمَا أُشير إليهِ أو من ضميرِ تهتز على طريقة التداخل وقرئ جأن على لغةِ مَنْ جدَّ في الهربِ من التقاءِ السَّاكنينِ {ولى مُدْبِراً} من الخوفِ {وَلَمْ يُعَقّبْ} أي لم يرجعْ على عقبةِ مِن عقّب المقاتلُ إذا كرَّ بعد الفرِّ وإنما اعتراهُ الرُّعب لظنِّه أن ذلك لأمر أريد به كما ينبئ عنه قوله تعالى {يا موسى لَا تَخَفْ} أي من غيري ثقةً بي أو مطلقاً لقوله تعالى {إِنّى لا يخاف لدى المرسلون} فإنَّه يدلُّ على نفيِ الخوفِ عنهم مُطلقاً لكن لا في جميعِ الأوقاتِ بل حين يُوحى إليهم كوقتِ الخطابِ فإنَّهم حينئذٍ مستغرقون في مطالعة شئون الله عز وجل لا يخطرُ ببالِهم خوفٌ من أحدٍ أصلاً وأما في سائرِ الأحيانِ فهم أخوفُ النَّاسِ منه سبحانَه أو لا يكون لهم عندي سوءُ عاقبة ليخافُوا منه
سورة النمل (11 14)
{إَلَاّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوء فَإِنّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ} استثناءٌ منقطع استدرك به ما عسى يختلِجُ في الخلد من نفي الخوفِ عن كلِّهم مع أنَّ منهم مَنْ فرطت منه صغيره ما مما يجوز صدورُه عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنَّهم وإنْ صدرَ عنهم شيءٌ من ذلك فقد فعلوا عقيبه ما يبطلُه ويستحقُّون به من الله تعالى مغفرةً ورحمةً وقد قصد به التَّعريض بما وقعَ من موسى عليه الصلاة والسلام من وكزهِ القبطيَّ والاستغفارِ وتسميتُها ظُلماً لقوله صلى الله عليه وسلم رب إني ظلمت نفسي فاغفرْ لي فغفرَ له
{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ} لأنَّه كان مدرعةَ صوفٍ لا كم لها وقيل الجيبُ القميصُ لأنَّه يُجاب أي يُقطع {تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء} أي آفة كبر ص ونحوه {في تسع آيات} في جُملتها أو معها على أنَّ التِّسعَ هي الفَلْقُ والطوفانُ والجَرادُ والقُمّلُ والضفادعُ والدَّمُ والطَّمسةُ والجَدبُ في بواديهم والنُّقصان في مزارعِهم ولمن عدَّ العصَا واليدَ من التسعِ أن يعدَّ الأخيرين واحداً ولا يعدُّ الفَلْق منها لأنه لم يُبعث به إلى فرعونَ أو اذهب في تسع آيات على أنه استئنافٌ بالإرسالِ فيتعلَّق به {إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} وعلى الأولين يتعلَّق بنحو مبعوثاً أو مرسلاً {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين} تعليل للإرسالِ أي خارجين عن الحدود في الكفرِ والعُدوان
{فلما جاءتهم آياتنا} وظهرتْ على يدِ مُوسى {مُبْصِرَةً} بينة اسم فاعلِ أطلق على المفعول إشعاراً بأنَّها لفرطِ وضوحِها وإنارتِها كأنَّها تُبصر نفسَها لو كانت ممَّا يبُصر أو ذاتُ تبصُّرٍ من حيث أنها تهدي والعمي لا تهتدي فضلاً عن الهدايةِ أو مبصرة كلَّ مَن ينظر إليها ويتأمَّلُ فيها وقرئ مَبْصرة أي مكاناً يكثُر فيه التَّبصرُ {قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} واضحٌ سحريته
{وَجَحَدُواْ بِهَا} أي كذَّبوا بها {واستيقنتها أَنفُسُهُمْ} الواو للحالِ أي وقد استيقنتها أى علمتها أنفسه علماً يقينياً {ظُلْماً} أي للآياتِ كقوله تعالى بِمَا كَانُواْ بآياتنا يَظْلِمُونَ ولقد ظلُموا بها أيَّ ظلم حيث حطُّوها عن رتُبتها العاليةِ وسمَّوها سحراً وقيل ظُلماً لأنفسِهم وليس بذاك {وَعُلُوّاً} أي استكباراً عن الإيمان بها كقوله تعالى والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها وانتصابهما إما على العلَّةِ من جحدوا بها أو على الحاليةِ من فاعله أي جحدُوا بها ظالمين لها مستكبرين عنها {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} من الإغراقِ على الوجهِ الهائل الذي هو عبرةٌ للعالمين وإنَّما لم يذكر تنبيهاً على أنَّه عرضة لكل ناظر مشهور فيما بين كل بادٍ وحاضرٍ
سورة النمل (15 16)
{ولقد آتينا داود وسليمان عِلْماً} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لتقرير ما سبق من أنه صلى الله عليه وسلم يلقى القرآن من لدن حكيمٍ عليمٍ فإنَّ قصَّتهمَا عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ من جملة القرآنِ الكريمِ لُقّيه صلى الله عليه وسلم من لدنه تعالى كقصَّةِ موسى عليه الصلاة والسلام وتصديرُه بالقسمِ لإظهارِ كمالِ الاعتناءِ بتحقيقِ مضمونِه أي آتينا كل واحد منهما طائفةً من العلم لائقةً به من علمِ الشرَّائعِ والأحكامِ وغير ذلك مما يختصُّ بكلَ منهما كصنعةِ لبوسٍ ومنطقِ الطَّيرِ أو علماً سنياً عزيزاً {وَقَالَا} أي قال كلُّ واحد منهما شُكراً لما أوتيه من العلمِ {الحمد لِلَّهِ الذي فضلنا} بما أتاناه من العلمِ {على كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ المؤمنين} على أنَّ عبارةَ كلَ منهما فضَّلني إلا أنَّه عبَّر عنهما عند الحكايةِ بصيغة المتكلِّم مع الغير إيجازاً فإن حكايةَ الأقوالِ المتعدِّدة سواء كانتْ صادرةً عن المتكلِّم أو عن غيره بعبارةٍ جامعة للكُلِّ مما ليس بعزيزٍ ومن الأوَّلِ قوله تعالى يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا وقد مرَّ في سورةِ قد أفلح المؤمنون وبهذا ظهر حسنُ موقع العطفِ بالواو إذ المتبادر من العطفِ بالفاء ترتبُ حمدِ كلَ منهما على إيتاءِ ما أوتي كلٌّ منهما لا على إيتاءِ ما أوتي نفسه فقط وقيل في العطفِ بالواوِ إشعارٌ بأنَّ ما قالاهُ بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلمِ وشيء من مواجبه فأضمر ذلك ثم عطف عليه التَّحميد كأنَّه قيل ولقد آتيناهُما علماً فعملا به وعلمناه وعرفا حقِّ النِّعمةِ فيه وقالا الحمدُ لله الآية فتأمَّل والكثيرُ المفضل عليه من لم يُؤت مثل علمهما وقيل من لم يُؤت علماً ويأباه تبيينُ الكثير بالمؤمنين فإنَّ خلوهم من العلم بِالمرةِ مما لا يمكن وفي تخصيصها الأكثرَ بالذِّكر رمزٌ إلى أنَّ البعضَ مفضَّلون عليهما وفيه أوضحُ دليلٍ على فضل العلمِ وشرفِ أهلهِ حيثُ شكرا على العلمِ وجعلاه أساسَ الفضلِ ولم يعتبرا دونَه ما أُوتيا من الملكِ الذي لم يُؤته غيرهما وتحريضٌ للعلماءِ على أن يحمدُوا الله تعالى على ما آتاهُم من فضلِه ويتواضعوا ويعتقدُوا أنَّهم وإنْ فُضِّلوا على كثيرِ فقد فضل عليهم كثيرو فوق كلَّ ذي علمٍ عليمٌ ونِعمّا قال أميرَ المؤمنينَ عمرَ رضي الله عنه كلُّ النَّاس أفقهُ من عمر
{وورث سليمان داود} أي النُّبوةَ والعلمَ أو الملكَ بأنْ قامَ مقامَهُ في ذلكَ دونَ سائرِ بنيهِ وكانُوا تسعةَ عشَر {وَقَالَ} تشهيراً لنعمةِ الله تعالى وتنويهاً بها ودعاءً للنَّاسِ إلى التصديقِ بذكرِ المُعجزاتِ الباهرةِ التي أُوتيها {يا أيها الناس عُلّمْنَا مَنطِقَ الطير وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَىْء} المنطقُ في المتعارَفِ كلُّ لفظٍ يُعبَّر بهِ عمَّا في الضميرِ مُفرداً كانَ أو مُركباً وقد يُطلق على كلِّ ما يُصوَّتُ بهِ من المفرد والمؤلَّفِ المفيدِ وغيرِ المفيدِ يقالُ نطقت الحمامةُ وكلُّ صنفٍ من أصنافِ الطيرِ يتفاهُم أصواتُه والذي عُلِّمه سليمانُ عليه السلام من منطقِ الطيرِ هو ما يُفهم بعضُه من بعضٍ من معانيهِ وأغراضِه ويُحكَى أنَّه مرَّ على بُلبلٍ في شجرةٍ يُحرِّكُ رأسَهُ ويُميلُ ذنبَهُ فقالَ لأصحابِه أتدرونَ ما يقولُ قالوُا الله ونبيه أعلم قال
سورة النمل (17) يقولُ إذا أكلتُ نصفُ تمرةٍ فعلى الدُّنيا العَفاءُ وصاحتْ فاختةٌ فأَخبرَ أنَّها تقولُ ليتَ الخلقَ لم يخلقوا وصاح طاوس فقالَ يقول كَمَا تَدينُ تُدانُ وصاحَ هُدهدٌ فقالَ يقول استغفرُوا الله يا مُذنبينَ وصاحَ طَيْطَوى فقال يقول كُلُّ حيَ ميتٌ وكلُّ جديدٍ بالٍ وصاحَ خُطَّافٌ فقالَ يقولُ قَدِّمُوا خيراً تجدوه وصاحَ قَمْريٌّ فأَخبرَ أنَّه يقولُ سُبحانَ ربِّي الأَعْلَى وصاحت رخمةٌ فقال تقول سبحان ربي الأعلى ملءَ سمائِه وأرضِه وقالَ الحِدَأةُ تقولُ كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا الله والقطاةُ تقولُ منْ سكتَ سلَمْ والببغاءُ تقولُ ويلٌ لمنْ الدٌّنيا همُّه والديكُ يقولُ اذكرُوا الله يا غافلينَ والنَّسرُ يقولُ يا ابنَ آدمَ عِشْ مَا شئتَ آخرُكَ الموتُ والعُقابُ تقولُ في البعدِ عن النَّاسِ أُنسٌ والضِّفدِعُ يقولُ سبُحانَ رَبِّي القُدُّوسِ وأرادَ عليه الصلاة والسلام بقولِه عُلِّمنا وأُوتينَا بالنُّونِ التي يُقال لها نونُ الواحدِ المُطاع بيانَ حالِه وصفتِه من كونِه ملكاً مطاعاً لكنْ لا تجبُّراً وتكبُّراً بل تمهيداً لما أرادَ منهم من حُسنِ الطاعةِ والانقيادِ له في أوامرِه ونواهيِه حيثُ كان على عزيمةِ المسيرِ وبقولِه من كلِّ شيءٍ كثرةَ ما أُوتيه كما يُقال فلانٌ يقصده كلُّ أحدٍ ويعلمُ كلَّ شيءٍ ويُرادُ بهِ كثرةَ قُصَّادِه وغزارةَ علمهِ ومثلُه قولُه تعالى وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء وقالَ ابن عباس رضي الله عنهما كلُّ ما يهمُّه من أمرِ الدُّنيا والآخرةِ وقال مقاتلٌ يعني النُّبوةَ والملكَ وتسخيرَ الجنِّ والإنسِ والشياطينِ والريحِ {إِنَّ هَذَا} إشارةٌ إلى ما ذكر من التعليمِ والإيتاء {لَهُوَ الفضل} والإحسانُ من الله تعالَى {المبين} الواضحُ الذي لا يخفى على أحد أو إنَّ هَذا الفضلَ الذي أُوتيهِ لهو الفضلُ المبينُ على أنَّه عليه الصلاة والسلام قاله على سبيل الشكرِ والمحمدةِ كما قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخرَ أي أقولُ هذا القولَ شُكراً لا فخراً ولعلَّه عليه الصلاة والسلام رتَّب على كلامه ذلك دعوةَ النَّاسِ إلى الغزوِ فإنَّ إخبارَهم بإيتاءِ كُلّ شَىْء من الأشياء التي من جُملتها آلاتُ الحربِ وأسبابُ الغزوِ ممَّا ينبئ عن ذلك فمعنى قوله تعالى
{وَحُشِرَ لسليمان جُنُودُهُ} جُمع له عساكرُه {مِنَ الجن والإنس والطير} بمباشرة مخاطبيِه فإنَّهم كانوا رؤساءَ مملكتِه وعظماءَ دولتهِ من الثَّقلينِ وغيرِهم بتعميم النَّاس للكلِّ تغليباً وتقديمُ الجنِّ على الإنسِ في البيانِ للمسارعةِ إلى الإيذانِ بكمالِ قوَّة مُلكِه وعزَّةِ سُلطانِه من أولِ الأمرِ لما أنَّ الجن طائفة عانية وقبيلةٌ طاغيةٌ ماردةٌ بعيدةٌ من الحشرِ والتسخيرِ {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي يُحبس أوائلُهم على أواخِرهم أي يُوقف سُلافُ العسكرِ حتى يلحقَهم التَّوالي فيكونُوا مجتمعينَ لا يتخلف منهم أحدٌ وذلك للكثرة العظيمةِ ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ لترتيب الصُّفوفِ كما هو المُعتاد في العساكرِ وفيه إشعارٌ بكمال مسارعتِهم إلى السير وتخصيص حبس أوائلِهم بالذكر دون سوقِ أواخرهم مع أنَّ التلاحقَ يحصلُ بذلكَ أيضاً لما أنَّ أواخرَهم غيرُ قادرينَ على ما يقدرُ عليه أوائلُهم من السيرِ السريعِ وهذا إذَا لم يكُن سيرُهم بتسييرِ الرِّيح في الجوِّ رُوي أنَّ معسكرَه عليه الصلاة والسلام كان مائةَ فرسخٍ في مائةٍ خمسةٌ وعشرونَ للجنِّ وخمسةٌ وعشرونَ للإنس وخمسةٌ وعشروَن للطيرِ وخمسةٌ وعشرونَ للوحشِ وكان له عليه الصلاة والسلام ألف بيتٍ من قوارير على الخشب فيها ثلثمائة منكوحةٍ وسبعمائةُ سريةٍ وقد نسجتْ له الجنُّ بساطاً من ذهبٍ وإِبْرِيْسَمَ فرسخاً في فرسخٍ وكان يُوضعُ منبرُه في وسطِه وهو من ذهب
سورة النمل (18) فيقعدُ عليه وحوله ستمائة ألفِ كرسيَ من ذهبٍ وفضةٍ فيقعدُ الأنبياءُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ على كَرَاسي الذهبِ والعلماءُ على كَرَاسي الفضَّةِ وحولَهم النَّاسُ وحول النَّاسِ الجنُّ والشياطينُ وتظله الطيرُ بأجنحتِها حتَّى لا تقعَ عليه الشمسُ وترفع ريحُ الصَّبا البساطَ فتسيرُ به مسيرةَ شهرٍ ويُروى أنَّه كان يأمُر الريحَ العاصفَ تحملُه ويأمُر الرُّخاء تسيره فأَوحى الله تعالى إليهِ وهو يسيرُ بين السماءِ والأرضِ إنَّي قد زدتُ في ملككَ لا يتكلم أحدٌ بشيءٍ إلا ألقته الريحُ في سمعِك فيُحكى أنه مرَّ بحرَّاثٍ فقال لقد أُوتيَ آلُ داودَ ملكاً عظيماً فألقته الريحُ في أذنِه فنزلَ ومشى إلى الحرَّاثِ وقال إنَّما مشيتُ إليكَ لئلَاّ تتمنى مالا تقدرُ عليه ثمَّ قال لتسبيحةٌ واحدةٌ يقبلها الله تعالى خيرٌ مما أُوتي آلُ داودَ
{حتى إِذَا أَتَوْا على وَادِى النمل} حتَّى هي التي يُبتدأ بها الكلامُ ومع ذلك هي غايةٌ لما قبلها كالتي في قولهِ تَعالَى حتى إذا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل الآيةَ وهي ههنا غاية لما ينبئ عنه قولُه تعالى فهُم يُوزعونَ من السير كأنَّه قيلَ فسارُوا حتَّى إذا أتَوا الخ ووادي النَّمل وادٍ بالشامِ كثيرُ النَّمل على ما قالَه مقاتلٌ رضي الله عنه وبالطَّائفِ على ما قالَه كعب رضي الله عنه وقيلَ هو وادٍ تسكنُه الجنُّ والنملُ مراكبُهم وتعديةُ الفعلِ إليه بكلمةِ عَلى إمَّا لأنَّ إتيانَهم كان من فوق وإمَّا لأنَّ المرادَ بالإتيانِ عليه قطعُه من قولِهم أتَى على الشيءِ إذا أنفَدَه وبلغَ آخرَهُ ولعلَّهم أرادُوا أنْ ينزلُوا عند مُنتهى الوادي إذْ حينئذٍ يخافُهم ما في الأرضِ لا عند سيرِهم في الهواءِ وقولُه تعالى {قَالَتْ نَمْلَةٌ} جوابُ إذا كأنَّها لما رأتهُم متوجهينَ إلى الوادي فرَّتْ منهم فصاحتْ صيحةً تنبهتْ بها ما بحضرتِها من النملِ لمرادِها فتبعها في الفرارِ فُشبِّه ذلك بمخاطبةِ العُقلاءِ ومناصحتِهم فأُجروا مُجراهم حيث جُعلتْ هي قائلةً وما عداها من النمل مقولا لهم حيث قيل {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} مع أنَّه لا يمتنعُ أنْ يخلُق الله تعالى فيها النُّطقَ وفيما عداها العقلَ والفهم وقرئ نملة يأيها النَّمُل بضمِّ الميمِ وهو الأصلُ كالرجُل وتسكينُ الميمِ تخفيفٌ منه كالسَّبْعِ في السبع وقرئ بضمِّ النونِ والميمِ قيل كانتْ نملةً عرجاءَ تمشي وهي تتكاوسُ فنادتْ بما قالتْ فسمعَ سليمانُ عليه السلام كلامَها من ثلاثةِ أميالٍ وقيل كان اسمُها طاخية وقرئ مسكنَكم وقولُه تعالى {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سليمان وَجُنُودُهُ} نهيٌ في الحقيقة للنَّملِ عن التأخرِ في دخولِ مساكنِهم وإنْ كانَ بحسبِ الظَّاهر نهياً له عليه الصلاة والسلام ولجنودِه عن الحطْمِ كقولِهم لا أرينَّك هَهُنا فهُو استئنافٌ أو بدلٌ من الأمرِ كقولِ مَنْ قالَ فقلتُ له ارحلْ لا تُقيمنّ عندنا لا جوابَ له فإنَّ النُّون لا تدخلُه في السعة وقرئ لا يحطمنكم بالنون الخفيفة وقرئ لا يَحَطَمنكم بفتحِ الحاءِ وكسرِها وأصلُه لا يحتطمنَّكم وقولُه تعالى {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} حالٌ من فاعلِ يحطمنَّكم مفيدةٌ لتقييدِ الحطمِ بحالِ عدمِ شعورِهم بمكانِهم حتَّى لو شعروا بذلك لم يحطَّمُوا وأرادتْ بذلكَ الإيذان بأنها عارفة بشئون سليمانَ وسائرِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام من عصمتِهم عن الظُّلم والإيذاءِ وقيل هو استئنافٌ أي فهمَ سليمان ما قالته وللقوم
سورة النمل لا يشعرونَ بذلكَ
{فَتَبَسَّمَ ضاحكا مّن قَوْلِهَا} تعجباً من حذرها واهتدائِها إلى تدبير مصالحِها ومصالحِ بني نوعِها وسروراً بشهرة حالِه وحالِ جنودِه في بابِ التَّقوى والشَّفقةِ فيما بين أَصنافِ المخلوقاتِ التي هي أبعدُها من إدراك أمثالِ هذه الأمورِ وابتهاجاً بما خصَّه الله تعالى به من إدراك همسِها وفهمِ مُرادِها رُوي أنَّها أحسَّتْ بصوتِ الجنودِ ولا تعلمُ أنَّهم في الهواءِ فأمرَ سليمانُ عليه السلام الريحَ فوقفتْ لئلَاّ يذعَرنَ حتَّى دخلن مساكنهنَّ {وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} أي اجعلني أزعُ شكرَ نعمتكَ عندي واكفَّه وأرتبطُه بحيثُ لا ينفلتُ عنِّي حتَّى لا أنفكُّ عن شكرك أصلا وقرئ بفتحِ ياءِ أَوزعني {التى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ} أدرج فيه ذكرهما تكثيراً للنعمة فإنَّ الإنعامَ عليهما إنعامٌ عليه مستوجبٌ للشُّكرِ {وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه} إتماماً للشُّكرِ واستدامةً للنِّعمةِ {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين} في جملنهم الجنَّةَ التي هي دارُ الصالحينَ
{وَتَفَقَّدَ الطير} أي تعرَّف أحوال الطير فلم يرا الهُدهدَ فيما بينها {فَقَالَ ما لي لَا أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغائبين} كأنَّه قال أولا مالي لا أراه لسائر سترَه أو لسببٍ آخرَ ثم بدا له أانه غائبٌ فأضربَ عنْه فأخذَ يقولُ أهو غائبٌ
{لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} قيلَ كان تعذيبُه للطيرِ بنتفِ ريشه وتشميسه وقيل يجعله مع ضده في قفص وقيل بالتفريق بينه وبين إلفِه {أَوْ لَاذْبَحَنَّهُ} ليعتبرَ به أبناءُ جنسهِ {أَوْ لَيَأْتِيَنّى بسلطان مُّبِينٍ} بحجَّةٍ تبينُ عذرَهُ والحَلِفُ في الحقيقةِ على أحدِ الأَولينِ على تقديرِ عدمِ الثَّالث وقرئ ليأتينَّنِي بنونينِ أولاهُما مفتوحةٌ مشددةٌ قيلَ إنَّه عليه الصلاة والسلام لما أتمَّ بناء بيتَ المقدسِ تجهَّز للحجِّ بحشرهِ فَوَافى الحرِمَ وأقامَ به ما شاء وكان يقرِّب كلَّ يومٍ طولَ مقامِه خمسةَ آلافِ ناقةٍ وخمسةَ آلافِ بقرةٍ وعشرينَ ألفَ شاةٍ ثم عزمَ على السير إلى اليمنِ فخرج من مكةَ صباحاً يؤمُّ سُهَيلاً فوافى صنعاءَ وقتَ الزَّوالِ وذلكَ مسيرةَ شهرٍ فرأى أرضاً حسناءَ أعجبته خضرتها فنزل ليتغذى ويصلِّي فلم يجد الماءَ وكان الهدهد قناقنه وكان يَرَى الماءَ من تحتِ الأرضِ كما يَرَى الماء في الزجاجة فيجئ الشياطينُ فيسلخونَها كما يُسلخُ الأهابُ ويستخرجون الماءَ فتفقَّده لذلك وقد كانَ حين نزل سليمان عليه السلام حلَّق الهدهُد فرأى هدهداً واقعاً فانحطَّ إليه فوصفَ له ملكَ سليمانَ عليه السلام وما سخر له من كلِّ شيءٍ وذكر له صاحبُه ملكَ بلقيسَ وأنَّ تحت يدِها اثني عشرَ ألفَ قائدٍ تحت يد كلِّ قائدٍ مائةُ ألفٍ وذهبَ معه لينظرَ فما رجع إلا بعدَ العصرِ وذلك قوله تعالى
سورة النمل (22)
{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} أي زمانا غير مديد وقرئ بضمِّ الكافِ وذُكر أنَّه وقعتْ نفحةٌ من الشمس على رأسِ سليمانَ عليه السلام فنظر فإذا موضعُ الهدهدِ خالٍ فدعا عرِّيفَ الطير وهوالنسر فسألَه عنه فلم يجدْ عنده علمَه ثم قال لسيدِ الطيرِ وهو العُقابُ عليَّ به فارتفعتْ فنظرتْ فإذا هو مقبلٌ فقصدتْهُ فناشدها الله وقال بحقِّ الله الذي قوَّاكِ وأقدركِ عليَّ إلَاّ رحِمتنِي فتركتْهُ وقالتْ ثكلتكَ أمُّك إنَّ نبيَّ الله قد حلفَ ليعذبنَّك قال وما استثنَى قالت بلى قال أوليأتيني بعذرٍ مبينٍ فلمَّا قرُب من سليمان عليه السلام أَرْخى ذنبَه وجناحيِه يجرُّها على الأرضِ تواضعاً له فلما دنا منه أخذ عليه السلام برأسه فمدَّه إليه فقال يا نبيَّ الله اذكرُ وقوفكَ بين يدَي الله تعالى فارتعدَ سليمانُ عليه السلام وعفا عنه ثم سألَه {فَقَالَ أحطت بما لم تحط بِهِ} أي علماً ومعرفةً وحفظتُه من جميعِ جهاتِه وقرئ أحطتُ بادغامِ الطَّاءِ في التَّاءِ بإطباقٍ وبغيرِ إطباقٍ ولا خفاء في أنَّه لم يُرد بما ادَّعى الإحاطةَ به ما هو من حقائق العلومِ ودقائقِ المعارفِ التي تكونُ معرفتُها والإحاطةُ بها من وظائف أربابِ العلمِ والحكمةِ لتوقفها على علمٍ رصينٍ وفضلٍ مبينٍ حتَّى يكونَ إثباتُها لنفسه بين يدي نبيِّ الله سليمانَ عليه السلام تعدِّياً عن طورهِ وتجاوزاً عن دائرة قدرهِ ونفيُها عنه عليه الصلاة والسلام جنايةً على جنايةٍ فيُحتاجَ إلى الاعتذار عنخ بأنه ذلك كان منهلا بطريق الإلهامِ فكافَحه عليه الصلاة والسلام بذلك مع ما أُوتي عليه الصلاة والسلام من فضل النُّبوة والحكمةِ والعلومِ الجمَّة والإحاطةِ بالمعلوماتِ الكثيرةِ ابتلاءً له عليه الصلاة والسلام في علمِه وتنبيهاً على أنَّ في أدنى خلقِه تعالى وأضعفِهم من أحاطَ علماً بما لم يُحط به لتتحاقر إليه نفسُه ويتصاغر إليه علمُه ويكون لطفاً له في تركِ الاعجاب الذي هو فتنةُ العلماء بل أرادَ به ما هو من الأمورِ المحسوسةِ التي لا تُعد الإحاطةُ بها فضيلة ولا الغفلةُ عنها نقيصةً لعدم توقف إدراكِها إلا على مجردِ إحساسٍ يستوى فيه العقلاءُ وغيرُهم وقد علم أنَّه عليه الصلاة والسلام ولم يشاهدْهُ ولم يسمعْ خبره من غيرِه قطعاً فعبَّر عنه بما ذُكر لترويج كلامِه عنده عليه الصلاة والسلام وترغيبهِ في الإصغاء إلى اعتذاره واستمالةِ قلبهِ نحو قبولِه فإنَّ النفسَ للإعتذار المنبئ عن أمرٍ بديعٍ أقبلُ وإلى تلقِّي ما لا تعلمُه أميلُ ثم أيَّده بقولِه {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} حيثُ فسَّر إبهامه نوع تفسير وأرادَ عليه الصلاة والسلام أنَّه كان بصدد إقامةِ خدمةٍ مهمةٍ له حيثُ عبَّر عمَّا جاء به بالنبأِ الذي هو الخبرُ الخطيرُ والشَّأنُ الكبيرُ ووصفَهُ بما وصفَهُ وإلَاّ فماذا صدر عنه عليه الصلاة والسلام مع ما حُكي عنه ما حُكي من الحمد والشُّكرِ واستدعاءِ الإيزاعِ حتَّى يليقَ بالحكمة الإلهيةِ تنبيهُه عليه الصلاة والسلام على تركِه وسبأٌ منصرفٌ على أنَّه اسمٌ لحيَ سُمُّوا باسم أبيهم الأكبرِ وهو سبأُ بنُ يشجبَ بن يعرب بن قحطان قالُوا اسمُه عبدُ شمسٍ لُقِّب به لكونه أوَّلَ من سبى وقرئ بفتحِ الهمزةِ غيرَ مُنصرفٍ على أنَّه اسمٌ للقبيلةِ ثمَّ سُميت مدينةُ مأربَ بسبأٍ وبينها وبينَ صنعاءَ مسيرةُ ثلاثٍ وعلى هذه القراءةِ يجوزُ أنْ يرادَ به القبيلةُ والمدينةُ وأمَّا عَلى القراءةِ الأُولى فالمرادُ هو الحيُّ لا غيرُ وعدمُ وقوفِ سليمانَ عليه السلام على نبئِهم قبلَ إنباءِ الهُدهدِ ليس بأمرٍ بديعٍ لا بدَّ له من حكمةٍ داعيةٍ إليه البتةَ وإنِ استحال خلوُّ إفعالِه تعالى من الحكمِ والمصالحِ لما أنَّ المسافةَ بين محطِّه عليه الصَّلاة
سورة النمل (23 25) والسَّلام وبين مأربَ وإن كانتْ قصيرةً لكن مدةُ ما بين نزولِه عليه الصلاة والسلام هناك وبين يجئ الهدهدِ بالخبرِ أيضاً قصيرةٌ نعم اختصاصُ الهدهدِ بذلك مع كون الجنِّ أقوى منه مبنيٌّ على حِكَمٍ بالغةٍ يستأثرُ بها علَاّمُ الغُيوبِ وقولُه تعالى
{إِنّى وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ} استئنافٌ ببيان ما جاء به من النبأ وتفصيلٌ له إثرَ الإجمالِ وهي بلقيسُ بنتُ شراحيلَ بنِ مالكِ بنِ ريَّانَ وكان أبُوها ملكَ أرضِ اليمنِ كلِّها ورثَ المُلكَ من أربعين أباً ولم يكُن له ولدٌ غيرُها فغلبتْ بعدَه على المُلكِ ودانتْ لها الأمَّة وكانتْ هي وقومُها مجوساً يعبدونَ الشمسَ وإيثارُ وجدتُ على رأيتُ لما أشير إليه من الإيذانِ بكونِه عند غيبته بصددِ خدمتِه عليه الصلاة والسلام بإبراز نفسه في معرضِ من يتفقدُ أحوالَها ويتعرَّفها كأنَّها طِلبتُه وضالَّتُه ليعرضَها على سليمانَ عليه السلام وضميرُ تملكُهم لسبأٍ على أنَّه اسمٌ لحيَ أو لأهلها المدلولِ عليهم بذكرِ مدينتِهم على أنَّه اسمٌ لها {وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء} أيْ منَ الأشياءِ التي يحتاجُ إليها الملوكُ {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} قيل كان ثلاثينَ ذراعاً في ثلاثين عَرضاً وسَمكاً وقيل ثمانينَ في ثمانينَ من ذهب وفضه مكالا بالجواهر وكانت قوامه من ياقوتٍ أحمرَ وأخضرَ ودُرَ وزمردٍ وعليه سبعةُ أبياتٍ على كلِّ بيتٍ بابٌ مغلقٌ واستعظامُ الهدهدِ لعرشِها مع ما كان يشاهدُه من ملكِ سليمانَ عليه السلام إمَّا بالنسبة إلى حالِها أو إلى عروشَ أمثالِها من الملوكِ وقد جوز أن يكون لسليمانَ عليه السلام مثلُه وأيا ما كان فوصفُه بذلكَ بينَ يديهِ عليه الصلاة والسلام لما مرَّ من ترغيبِه عليه الصلاة والسلام في الإصغاءِ إلى حديثِه وتوجيهِ عزيمتِه عليه الصلاة والسلام نحو تسخيرِها ولذلك عقبه بما وجب غزوها من كُفرِها وكُفر قومِها حيثُ قال
{وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله} أي يعبدونَها متجاوزينَ عبادةَ الله تعالى {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم} التي هي عبادةُ الشمسِ ونظائِرها منْ أصنافِ الكفرِ والمَعَاصي {فَصَدَّهُمْ} بسببِ ذلكَ {عَنِ السبيل} أي سبيلِ الحقِّ والصوابِ فإنَّ تزيينَ أعمالِهم لا يتصورُ بدون تقويمِ طرقِ كفرِهم وضلالِهم ومن ضرورته نسبةُ طريقِ الحقِّ إلى العوجِ {فهم} بسبب ذلك {لا يَهْتَدُونَ} إليهِ وقولُه تعالى
{أَلَاّ يَسْجُدُواْ للَّهِ} مفعولٌ له إمَّا للصدِّ أو للتزيينِ عَلَى حذفِ اللامِ منهُ أى فصدهم لئلا يسجدوا له تعالى أو زين لهم أعمالهم لئلا يسجدوا أو بدلٌ على حالِه من أعمالَهم وما بينهما اعتراضٌ أيْ زيَّن لهم أنْ لا يسجدوا وقيل هو في موقع المفعولِ ليهتدون بإسقاطِ الخافضِ ولا مزبدة كما في قوله تعالى لّئَلَاّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب والمعنى فهم لا يهتدون إلى أنْ يسجدوا له تعالى وقرئ أَلَا يَا اسجدُوا على التنبيه والنداء محذوفٌ أيْ أَلَا يا قوم اسجدوا كما
سورة النمل (26 28) في قولِه [أَلَا يا اسلَمي يا دارَ مَي عَلَى البِلَى] ونظائِره وعلى هذا يحتملُ أنُ يكونَ استشافا من جهةِ الله عز وجل أو من سليمانَ عليه السلام ويُوقف على لا يهتدونَ ويكون أمراً بالسجود وعلى الوجوهِ المتقدمةِ ذمَّاً على تركه وأياما كان فالسجود واجب وقرئ هَلاّ وهَلَا بقلبِ الهمزتينِ هاء وقرئ هَلَاّ تسجدون بمعنى ألا تسجدونَ على الخطاب (الذى يخرج الخبء في السموا والأرض) أيْ يظهرُ ما هو مخبوء ومخفى فيهما كائناً ما كان وتخصيصُ هذا الوصفِ بالذكرِ بصددِ بيانِ تفرُّده تعالى باستحقاق السُّجودِ له من بين سائرِ أوصافِه الموجبةِ لذلك لما أنَّه أرسخُ في معرفتِه والإحاطةِ بأحكامه بمشاهدة آثارهِ التي من جُملتها ما أودعَه الله تعالى في نفسه من القدرة على معرفةِ الماءِ تحتَ الأرضِ وأشارَ بعطفِ قولِه {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تعلنون} ) عل يخرجُ إلى أنَّه تعالى يخرج ما في العالم الإنسانيِّ من الخَفَايَا كما يخرج ما في العالم الكبير من الخَبَايَا لِما أنَّ المرادَ يظهرُ ما تُخفونَهُ من الأحوال فيجازيكُم بها وذكرُ ما تُعلنون لتوسيع دائرة العلم أو للتنبيه على تساويهما بالنسبة إلى العلم الإلهي وقرئ ما يُخفون وما يُعلنون على صيغةِ الغَيبةِ بلا التفاتٍ وإخراجُ الخبءِ يعمُّ إشراقَ الكواكبِ وإظهارَها من آفاقها بعد استنارها وراءها وإنزالَ الأمطارِ وإنباتَ النباتِ بل الإنشاءَ الذي هو إخراجُ ما في الشيء بالقوَّةِ إلى الفعلِ والإبداعَ الذي هو إخراجُ ما في الإمكان والعدمِ إلى الوجود وغيرَ ذلك من غيوبِه عز وجل وقرئ الخَبَ بتخفيف الهمزةِ بالحذفِ وقرئ الخبا بتخفيفها بالقلب وقرئ ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ويعلم سركم وما تعلنون
(الله لَا إله إِلَاّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم) الذي هو أولُ الأجرامِ وأعظمها وقرئ العظيمُ بالرَّفعِ عَلى أنَّه صفةُ الربِّ واعلمْ أن ما حُكي من الهُدهدِ من قولِه الذي يُخرج الخبءَ إلى هُنا ليس داخلاً تحت قولِه أحطتُ بما لم تحط به وإنما هو من لعلوم والمعارفِ التي اقتبسها من سليمانَ عليه السلام أوردَهُ بياناً لما هو عليهِ وإظهاراً لتصلُّبهِ في الدِّينِ وكلُّ ذلكَ لتوجيهِ قلبِه عليه الصلاة والسلام نحو قبولِ كلامِه وصرفِ عَنَانِ عزيمتِه عليه السلام إلى غزوِها وتسخيرِ ولايتِها
{قال} استشاف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية كلام الهُدهدِ كأنَّه قيلَ فماذا فعلَ سليمانُ عليه السلام عند ذلكَ فقيل قال {سَنَنظُرُ} أي فيما ذكرتَه من النَّظر بمعنى التَّأملِ والسِّينُ للتأكيدِ أي سنتعرفُ بالتجربةِ البتةَ (أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين) كان مُقتضى الظَّاهرِ أم كذبتَ وإيثارُ مَا عليهِ النظمُ الكريمُ للإيذانِ بأنَّ كذبَهُ في هذه المادة يستلزمه انتظامَهُ في سلكِ الموسومينَ بالكذبِ الراسخينَ فيه فإنَّ مساقَ هذه الأقاويلِ الملفَّقةِ على ترتيبٍ أنيقِ يستميلُ قلوبَ السامعينَ نحوَ قَبُولِها من غير أن يكون لها مصداقٌ أصلاً لا سيما بين يَدَي نبيَ عظيم الشأنِ لا يكادُ يصدرُ إلا عمَّن له قدم راسخٌ في الكذب والإفكِ وقولُه تعالى
سورة النمل (29 31){إليهم} استئناف مبين لكيفية النَّظر الذي وعدَه عليه الصلاة والسلام وقد قالَه عليه الصلاة والسلام بعد ما كتبَ كتابَه في ذلكَ المجلسِ أو بعدَهُ وتخصيصُه عليه الصلاة والسلام إيَّاه بالرِّسالةِ دونَ سائرِ ما تحتَ مُلكِه من أمناءِ الجنِّ الأقوياءِ على التصرف والتعرُّفِ لما عاينَ فيه من مخايل العلمِ والحكمةِ وصحَّةِ الفراسةِ ولئلَاّ يبقى له عذرٌ أصلاً {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} أي تنحَّ إلى مكانٍ قريبٍ تَتَوارى فيه {فانظر} أي تأمَّلَ وتعرَّفْ {مَاذَا يَرْجِعُونَ} أي ماذا يرجعُ بعضُهم إلى بعضٍ من القول وجمعُ الضمائرِ لما أنَّ مضمونَ الكتابِ الكريمِ دعوةُ الكُلِّ إلى الإسلام
{قَالَتْ} أي بعدَ ما ذهبَ الهدهدُ بالكتابِ فألقاهُ إليهم وتنحَّى عنهم حسبما أُمر به وإنَّما طُوي ذكرُه إيذاناً بكمالِ مسارعتِه إلى إقامةِ ما أُمر بهِ من الخدمة وإشعاراً باستغنائه عن التَّصريحِ به لغايةِ ظهورِه روُي أنَّه عليه الصلاة والسلام كتب كتابَه وطبعه بالمسكِ وختَمه بخاتمِه ودفعَه إلى الهدهدِ فوجدَها الهدهدُ راقدةً في قصرِها بمأربَ وكانتْ إذا رقدتْ غلَّقتِ الأبوابِ ووضعتِ المفاتيحَ تحتَ رأسِها فدخلَ من كُوَّةٍ وطرحَ الكتابَ على نحوها وهي مستقلية وقيل نقرَها فانتبهتْ فَزِعةً وقيل أتاها والقادةُ والجنودُ حواليَها فرفرفَ ساعةً والنَّاسُ ينظرونَ حتَّى رفعتْ رأسَها فألقى الكتاب على حجرِها وكانت قارئةً كاتبةً عربيةً من نسلٍ تُبَّع الحميريِّ كَما مَرَّ فلما رأتِ الخاتمَ ارتعدتْ وخضعتْ فعندَ ذلكَ قالتْ لأشرافِ قومها {يا أيها الملا إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} وصفتْه بالكرمِ لكرمِ مضمونِه أو لكونِه من عندَ ملكٍ كريمٍ أو لكونِه مختوماً أو لغرابةِ شأنِه ووصولِه إليها على منهاجٍ غيرِ معتادٍ
{إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ} استئنافٌ وقعَ جواباً لسؤالٍ مقدرٍ كأنَّه قيل ممن هُو وماذا مضمونُه فقالتْ إنَّه منْ سُليمان {وَأَنَّهُ} أي مضمونُه أو المكتوبُ فيه {بسم الله الرحمن الرحيم} وفيه إشارةٌ إلى سببِ وصفها إياه بالكرم وقرئ أنَّه وأنَّه بالفتحِ على حذفِ اللامِ كأنها عللتْ كرمَه بكونِه من سليمانَ وبكونِه مُصدَّراً باسمِ الله تعالى وقيل على أنَّه بدل من كتاب وقرئ أنْ من سُليمان وأنْ بسم الله الرحمن الرحيم على أنْ المفسرةُ
{أَلَاّ تَعْلُواْ عَلَىَّ} أنْ مفسرةٌ ولا ناهيةٌ أي لا تتكبروا كما يفعلُ جبابرةُ الملوكِ وقيل مصدريةٌ ناصة للفعلِ ولا نافيةٌ محلُّها الرفع على أنها من كتابٌ أو خبرٌ لمبتدأٍ مضمرٍ يليقُ بالمقام أي مضمونُه أنْ لا تعلُوا أو النَّصبُ بإسقاطِ الخافضِ أي بأنْ لا تعلوا علي وقرئ أن لا تغلُوا بالغينِ المعجمةِ أي لا تجاوزُوا حدَّكم {وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ} أي مؤمنينَ وقيل منقادينَ والأولُ هو الأليقُ بشأن النبيِّ صلى الله عليه وسلم على أنَّ الإيمانَ مستتبعٌ للانقياد حتماً روي أنَّ نسخةَ الكتابِ من عبدِ الله سليمان بنِ داودَ إلى بلقيسَ ملكةِ سبأً السَّلامُ على من اتبعَ الهُدَى أمَّا بعدُ فلا تعلُوا عليَّ وأتوني مسلمينَ وليسَ الأمرُ فيه بالإسلامِ قبل إقامةِ الحجَّة على رسالتِه حتَّى يُتوهم كونه استدعاء للتقليدِ فإنَّ إلقاء الكتابِ إليها على تلك الحالةِ معجزةٌ باهرةٌ دالَّةٌ على رسالةِ مُرسِلها دلالةً بينةً
سورة النمل (32 35)
{قَالَتْ} كُررتْ حكايةُ قولِها للإيذانِ بغايةِ اعتنائِها بما في حيزه من قولِها {يا أيها الملا أَفْتُونِى فِى أَمْرِى} أي أجيبونِي في أمرِي الذي حَزَبني وذكرتُ لكم خُلاصتَه وعبرتْ عن الجوابِ بالفَتوى التي هي الجواب في الحوادث المشكلة غالباً تهويلاً للأمر ورفعاً لمحلهم بالإشعار بأنهم قادرونَ على حلِّ المشكلاتِ المُلمَّةِ وقولُها {مَا كُنتُ قاطعة أَمْراً} أي من الأمورِ المتعلقةِ بالملكِ {حتى تَشْهَدُونِ} أي إلا بمحضرِكم وبموجبِ آرائِكم استعطاف لهم واستمالة لقلوبِهم لئلَاّ يخالفُوها في الرَّأي والتدبير
{قالوا} استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية قولِها كأنَّه قيل فمَاذا قالُوا في جوابِها فقيلَ قالُوا {نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ} في الأجسادِ والآلاتِ والعُددِ {وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي نجدةٍ وشجاعةٍ مفرطةٍ وبلاءٍ في الحربِ {والأمر إِلَيْكِ} أي هو موكولٌ إليكِ {فانظرى مَاذَا تَأْمُرِينَ} ونحنُ مطيعونَ لكِ فمُرينا بأمرِك نمتثلْ به ونتبعْ رأيكِ وأرادوا نحنُ من أبناءِ الحربِ لا من أبناءِ الرأي والمشورةِ وإليكِ الرَّأي والتَّدبيرِ فانظرِي ماذا ترينَ نكنْ في الخدمةِ فلَّما أحسَّتْ منهم الميلَ إلى الحرابِ والعدولَ عن سَنَنِ الصَّوابِ شرعت في تزييف مقلتهم المبنيةِ على الغفلةِ عن شأنِ سليمانَ عليه السلام وذلك قولُه تعالى
{قَالَتْ إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً} من القُرى على منهاجِ المقاتلةِ والحرابِ {أَفْسَدُوهَا} بتخريبِ عماراتِها وإتلافِ ما فيها من الأموالِ {وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} بالقتلِ والأسرِ والإجلاءِ وغيرِ ذلك من فُنونِ الإهانةِ والإذلالِ {وكذلك يَفْعَلُونَ} تأكيدٌ لما وصفتْ من حالِهم بطريقِ الاعتراضِ التذييليِّ وتقريرٌ له بأنَّ ذلك عادتُهم المستمرةُ وقيل تصديقٌ لها من جهة الله تعالى على طريقة قوله تعالى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً إثر قوله تعالى لنفد البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى
{وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} تقرير لرأيها بعدما زيفتْ آراءَهم وأتتْ بالجملةِ الاسميةِ الدالةِ على الثبات المصدرةِ بحرفِ التحقيق للإيذانِ بأنَّها مزمعةٌ على رأيها لا يَلويها عنه صارفٌ ولا يَثْنيها عاطفٌ أيْ وإنِّي مرسلةٌ إليهم رُسُلاً بهديةٍ عظيمة {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون} حتَّى أعملَ بما يقتضيهِ الحالُ رُوي أنَّها بعثت خمسمائةِ غلامٍ عليهم ثيابُ الجَوَاري وحليُّهن الأساورُ والأطواقُ والقِرَطةُ راكبى خيلٍ مغشَّاةٍ بالديباجِ محلَاّةِ اللُّجمِ والسُّروجِ بالذهبِ المُرَّصعِ بالجواهرِ وخمسمائةِ جاريةٍ على رِماك في زيِّ الغلمانِ وألفَ لبنةٍ من ذهبٍ وفضةٍ وتاجاً مكللاً بالدرِّ والياقوتِ المرتفعِ والمسكِ والعنبرِ وحُقَّاً فيه درةٌ عذراءُ وجزعة معوجة الثقبِ وبعثتْ رجلاً من أشرافِ قومِها المنذرَ بنَ عمروٍ وآخرَ ذار أي وعقلٍ وقالتْ إنْ كانَ نبياً ميَّز بين الغلمانِ والجواري وثقب الدرة نقبا مستوياً وسلك في الخرزةِ خيطاً ثمَّ قالتْ للمنذرِ إنْ نظرَ إليكَ نظرَ غضبانَ فهو ملكٌ فلا يهولنك
سورة النمل (36 37) وإن رأيته بشاص لطيفاً فهو نبيٌّ فأقبلَ الهدهدُ فأخبرَ سليمانَ عليه السلام بذلك فأمرَ الجنَّ فضربُوا لِبنَ الذهبِ والفضَّةِ وفرشُوه في ميدانٍ بين يديِه طولُه سبعةُ فراسخ وجعلُوا حولَ الميدانِ حائطاً شرفاتُه من الذَّهبِ والفِضَّةِ وأمرَ بأحسنِ الدَّوابِّ في البرِّ والبحرِ فربطُوها عن يمينِ الميدانِ ويسارِه على اللبن وأمرَ بأولادِ الجنِّ وهم خلقٌ كثيرٌ فأُقيمُوا على اليمينِ واليسارِ ثم قعدَ على سريرِه والكراسيُّ من جانبيِه واصطفتِ الشياطينُ صفوفاً فراسخَ والإنسُ صفوفاً فراسخَ والوحشُ والسباعُ والطيورُ والهوامُّ كذلك فلما دنا القومُ ونظرُوا بُهتوا ورَأوا الدوابَّ تروثُ على اللبنِ فتقاصرتْ إليهم نفوسُهم ورمَوا بما معهم ولما وقفُوا بين يديِه نظَر إليهم بوجهٍ طَلْقٍ وقال ما وراءكم وقال أينَ الحُقُّ وأخبرَهُ جبريلُ عليهما السلام بما فيه فقالَ لهم إنَّ فيه كذا وكذا ثم أمرَ بالأَرَضةِ فأخذتْ شعرةً ونفذتْ في الدُّرة فجعلَ رزقَها في الشَّجرةِ وأخذتْ دودةٌ بيضاءُ الخيطَ بفيها ونفذتْ في الجَزَعةِ فجعلَ رزقَها في الفواكِه ودعا بالماءِ فكانتِ الجاريةُ تأخذُ الماء بيدِها فتجعلُه في الأُخرى ثم تضربُ به وجهَها والغلامُ كما يأخذُه يضربُ به وجهه ثم رد الهدية وذلك قولُه تعالى
{فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ} أي الرَّسولُ {قَالَ} أي مخاطباً للرَّسولِ والمُرْسِلِ تغليباً للحاضرِ على الغائبِ وقيل للرَّسولِ ومن مَعه ويؤيدُه أنَّه قرئ فلمَّا جاءُوا والأولُ أَولى لما فيِه من تشديدِ الإنكارِ والتَّوبيخِ وتعميمهُما لبلقيسَ وقومِها ويؤيدُه الإفرادُ في قولِه تعالى ارجعْ إليهم {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} وهو إنكارٌ لإمدادِهم إيَّاه عليه الصلاة والسلام بالمالِ مع عُلوِّ شأنِه وسعَةِ سُلطانِه وتوبيخٌ لهم بذلكَ وتنكيرُ مالٍ للتحقيرِ وقولُه تعالى {فَمَا آتاني الله} أيْ ممَّا رأيتُم آثارَه منَ النُّبوةِ والمُلكِ الذي لا غايةَ وراءَه {خير مما آتاكم} أي منَ المالِ الذي مِنْ جُملتِه ما جئتُم به فلا حاجةَ لي إلى هديَّتِكم ولا وقعَ لها عندي تعليل للإنكارِ ولعلَّه عليه الصلاة والسلام إنَّما قال لهم هذه المقالةَ إلى آخرِها بعدَ مَا جَرى بينَهُ وبينهم ما حكي من قصة الحُقِّ وغيرها كما أشير إليه لا أنه عليه الصلاة والسلام خاطبَهم بها أولَ ما جاءوه كما يُفهم من ظاهرِ قولِه تعالى فلمَّا جاءَ الخ وقرئ أتُمدُّونِّي بالإدغامِ وبنونٍ واحدةٍ وبنونين وحذفِ الياءِ وقولُه تعالى {بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} إضرابٌ عمَّا ذكر من إنكارِ الإمدادِ بالمالِ إلى التَّوبيخِ بفرحِهم بهديتهم التي أهدَوها إليه عليه الصلاة والسلام فرحَ افتخارٍ وامتنانٍ واعتدادٍ بها كما ينبئ عنه ما ذكر من حديثِ الحقِّ والجَزَعةِ وتغييرِ زيِّ الغِلمانِ والجواري وغيرِ ذلك وفائدةُ الإضرابِ التَّنبيهُ على أنَّ إمدادَهُ عليه الصلاة والسلام بالمالِ منكرٌ قبيح وعدُّ ذلكَ مع أنَّه لا قدرَ له عنده عليه الصلاة والسلام مما يتنافسُ فيه المتنافسون أقبحُ والتَّوبيخُ به أدخلُ وقيلَ المضافُ إليهِ المُهدى إليهِ والمعنى بل أنتمُ بما يهدى إليكم تفرحونَ حُبَّاً لزيادةِ المالِ لما أنَّكم لا تعلمون إلا ظاهراً من الحياةِ الدُّنيا
{اْرجِعِ} أفردَ الضميرَ هَهُنا بعد جمعِ الضمائر الخمسةِ فيما سبقَ لاختصاصِ الرجوعِ بالرسول عموم الإمداد ونحوه
سورة النمل (38 40) للكلِّ أي ارجعْ أَيُّها الرَّسُولُ {إِلَيْهِمُ} أي إلى بلقيس وقومها فليأتينهم أي فوالله لنأتينَّهم {بِجُنُودٍ لَاّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} أي لا طاقةَ لَهمُ بمقاومتِها ولا قدرةَ لهم على مقابلتها وقرئ بهم {وَلَنُخْرِجَنَّهُم} عطفٌ على جوابِ القسمِ {مِنْهَا} من سبأٍ {أَذِلَّةٍ} أي حالَ كونهم أذلة بعدما كانُوا فيه من العزِّ والتمكينِ وفي جمعِ القِلَّةِ تأكيدٌ لذِلَّتِهم وقولُه تعالى {وَهُمْ صاغرون} أي أُسارَى مُهَانون حالٌ أخرى مفيدةٌ لكونِ إخراجِهم بطريقِ الأسرِ لا بطريقِ الإجلاءِ وعدمُ وقوعِ جوابِ القسمِ لأنَّه كانَ معلَّقاً بشرطٍ قد حُذفَ عندَ الحكايةِ ثقةٍ بدلالةِ الحالِ عليهِ كأنَّه قيلَ ارجعْ إليهم فليأتُوا مسلمينَ وإلا فلنأتينَّهم الخ
{قال يا أيها الملا أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا} قالَه عليه الصلاة والسلام لما دَنا مجيءُ بلقيسَ إليه عليه الصلاة والسلام يُروى أنَّه لمَّا رجعتْ رسلُها إليها بما حُكي من خبرِ سُليمانَ عليه السلام قالتْ قد علمتُ والله ما هذا بملكٍ ولا لبابه من طاقةٌ وبعثتْ إلى سليمانَ عليه السلام إنِّي قادمةٌ إليكَ بملوكِ قَوْمي حتى أنظرَ ما أمرُك وما تدعُو إليهِ من دينِك ثمَّ آذنتْ بالرَّحيلِ إلى سليمانَ عليه السلام فشخصتْ إليه في اثني عشر ألف قيل تحتَ كلِّ قَيْلٍ ألوفٌ ويُروى أنَّها أمرتْ فجُعِلَ عرشُها في آخرِ سبعةِ أبياتٍ بعضُها في بعضٍ في آخرِ قصرٍ من قصورٍ سبعةٍ لها وغلَّقتِ الأبوابَ ووكَّلتْ به حَرَساً يحفظونَهُ ولعَلَّه أُوحيَ إلى سليمانَ عليه السلام باستيثاقِها من عرشِها فأرادَ أنْ يُريها بعضَ ما خصَّه الله عزَّ سلطانُه به من إجراءِ التعاجيبِ على يدهِ مع إطلاعِها على عظيم قدرتِه تعالى وصحة نبوتِه عليه الصلاة والسلام ويختبرَ عقلَها بأنْ يُنكِّرَ عرشَها فينظرَ أتعرفُه أم لا وتقييدُ الإتيانِ به بقولِه تعالى {قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ} لمَا أنَّ ذلكَ أبدعُ وأغربُ وأبعدُ من الوقوعِ عادةً وأدل على عظيم قدرة الله تعالى وصحَّةِ نبُّوتِه عليه الصلاة والسلام وليكونَ اختبارُها وإطلاعُها على بدائعِ المعجزاتِ في أولِ مجيئِها وقيلَ لأنَّها إذَا أتتْ مُسلمةً لم يحلَّ له أخذُ ما لها بغيرِ رِضَاها
{قَالَ عِفْرِيتٌ} أي ماردٌ خبيثٌ {مّن الجن} بيانٌ له إذْ يقالُ للرجلِ الخبيثِ المنكرِ المعفرِ لأقرانِه وكان اسمُه ذكوانَ أو صخرا {أنا آتيك بِهِ} أي بعرشِها {قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} أي من مجلِسك للحكومةِ وكان يجلسُ إلى نصفِ النَّهار وآتيكَ إمَّا صيغةُ المضارعِ أو الفاعلِ وهو الأنسبُ لمقامِ ادِّعاءِ الإتيانِ به لا محالةَ وأوفقُ لما عُطفَ عليه من الجملةِ الاسميةِ أي أنا آتٍ به في تلك المُدَّةِ البتةَ {وَإِنّى عَلَيْهِ} أي على الإتيانِ به {لَقَوِىٌّ} لا يثقلُ عليَّ حملُه {أَمِينٌ} لا أختزلُ منه شيئاً ولا أُبدِّلُه
{قَالَ الذى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب} فُصلَ عمَّا قبلَه للإيذانِ بما بينَ القائلينِ ومقاليهما
وكيفيّتي قدرتِهما على الإتيانِ به من كمال التباينِ أو لإسقاطِ الأولِ عن درجةِ الاعتبارِ قيلَ هو آصِفُ بن بزخيا وزيرُ سليمانَ عليه السلام وقيل رجلٌ كان عنده اسمُ الله الأعظمُ الذي إذا سُئل به أجابَ وقيل الخَضِرُ أو جبريلُ أو مَلَكٌ أيَّده الله عز وجل بهِ عليهم السلام وقيل هو سُليمانُ نفسُه عليه السلام وفيه بُعدٌ لا يَخْفى والمرادُ بالكتابِ الجنسُ المنتظِمُ لجميعِ الكتبِ المنزلِة أو اللوحُ وتنكيرُ عِلْمٌ للتفخيمِ والرمزِ إلى أنَّه علمٌ غيرُ معهودٍ ومِن ابتدائيةٌ {أَنَاْ آتيك بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} الطَّرفُ تحريكُ الأجفانِ وفتحُها للنَّظرِ إلى شيء وارتداده انضمامها ولكونِه أمراً طبيعياً غيرَ منوطٍ بالقصدِ أُوثر الارتدادُ على الردِّ ولمَّا لم يكُنْ بينَ هذا الوعدِ وإنجازه مدة ما كما في وعدِ العفريتِ استغنى عن التأكيدِ وطُوي عند الحكاية ذكرُ الإتيانِ به للإيذانِ بأنَّه أمرٌ متحققٌ غنيٌّ عنِ الإخبارِ بهِ وجيءَ بالفاءِ الفصيحةِ لا داخلة على جملةٍ معطوفة على دجنلة مقدرةٍ دالةٍ على تحققِه فقط كما في قولِه عز وجل فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق ونظائِره بل داخلة على الشرطيةِ حيثُ قيل {فَلَمَّا رَآهُ مُستقرّاً عِندَه} أيْ رأى العرشَ حاضراً لديهِ كما في قولِه عز وجل فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ للدلالةِ على كمالِ ظهورِ ما ذُكر مِن تحققةِ واستغنائِه عن الإخبارِ به ببيان ظهورِ ما يترتبُ عليه من رؤيةِ سُليمان عليه السلام إيَّاهُ واستغنائِه أيضاً عن التصريح به إذِ التَّقديرُ فأتاه به فَرآهُ فلمَّا رآه الخ فحذفَ ما حذف لما ذكرو للإيذان بكمالِ سرعةِ الإتيانِ به كأنَّه لم يقعْ بينَ الوعدِ به وبين رؤيتِه عليه الصلاة والسلام إيَّاه شيءٌ ما أصلاً وفي تقييدِ رؤيتِه باستقرارِه عندَهُ عليه الصلاة والسلام تأكيدٌ لهذا المَعْنى لإيهامهِ أنَّه لم يتوسط بينَهما ابتداء الإتيانِ أيضاً كأنَّه لم يزلْ موجُوداً عندَهُ معَ ما فيه من الدلالة على دوامِ قرارِه عنده مُنتظماً في سلكِ مُلكه {قال} أي سليمان عليه السلام تلقياً للنعمةِ بالشُّكرِ جرياً على سَنَن أبناءِ جنسه من أنبياء الله تعالى عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وخلَّصِ عبادِه {هذا} أي حضورُ العرشِ بين يديِه في هذهِ المُدَّة القصيرةِ أو التمكنُ من إحضارِه بالواسطةِ أو بالذاتِ كما قيلَ {مِن فَضْلِ رَبّى} أي تفضله عليَّ منْ غيرِ استحقاقٍ لهُ من قِبلَي {ليبلوني أأشكر} بأنْ أراهُ محضَ فضلِه تعالى من غيرِ حولٍ من جهتي ولا قوةٍ وأقومَ بحقِّه {أَمْ أَكْفُرُ} بأنْ أجدَ لنفسي مدخلاً في البينِ أو أقصِّر في إقامةِ مواجبِه كما هو شأنُ سائرِ النعمِ الفائضةِ على العبادِ {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأنَّه يرتبطُ به عتيدُها ويستلجب به مزيدُها ويحطُّ بهِ عن ذمَّته عبءَ الواجبِ ويتخلصُ عن وصمةِ الكُفرانِ {وَمَن كَفَرَ} أيْ لم يشكُرْ {فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ} عن شُكرهِ {كَرِيمٌ} بتركِ تعجيلِ العقوبةِ والإنعامِ مع عدمِ الشكرِ أيضاً
{قال} أي سليمان عليه السلام كُررتِ الحكايةُ مع كونِ المحكيِّ سابقاً ولاحقاً من كلامِه عليه الصلاة والسلام تنبيهاً على ما بين السَّابقِ واللاحقِ من المخالفةِ لما أنَّ الأولَ من باب الشكر لله تعالى والثَّاني أمرٌ لخدمِه {نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا} أي غيِّروا هيئتَه بوجهٍ من الوجوه {ننظر} بالجزمِ على أنَّه جوابُ الأمر وقرئ بالرَّفعِ على الاستئنافِ {أَتَهْتَدِى} إلى معرفتِه أو إلى الجوابِ اللائقِ بالمقام وقيل إلى الإيمانِ بالله تعالى ورسولِه عند رؤيتِها لتقدمِ عرشها عرشِها من مسافةٍ طويلةٍ في مدةٍ قليلةٍ وقد خلَّفته مغلقةً عليه الأبوابَ موكلةً عليه الحَّراسَ والحجَّابَ
سورة النمل (42 43) ويأباهُ تعليقُ النظرِ المتعلقِ بالاهتداءِ بالتنكيرِ فإنَّ ذلكَ ممَّا لا دخلَ فيه للتنكيرِ {أَمْ تَكُونُ} أي بالنسبةِ إلى علمنا {مِنَ الذين لَا يَهْتَدُونَ} أي إلى ما ذكر من معرفةِ عرشِها أو الجوابِ الصَّوابِ فإنَّ كونَها في نفسِ الأمرِ منهم وإنْ كان أمرا مستمرا لكن كونُها منهم عند سليمان عليه السلام وقومه أمرٌ حادثٌ يظهرُ بالاختبارِ
{فَلَمَّا جَاءتْ} شروعٌ في حكايةِ التَّجربةِ التي قصدَها سليمانُ عليه السلام أَي فلمَّا جاءتْ بلقيسُ سليمانَ عليه السلام وقد كان العرشُ بين يديِه {قِيلَ} أي من جهةِ سُليمانَ عليه السلام بالذاتِ أو بالواسطةِ {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} لم يقُل أهذا عرشُكِ لئلَاّ يكونَ تلقيناً لها فيفوتَ ما هو المقصودُ من الأمرِ بالتَّنكيرِ من إبرازِ العرشِ في مَعْرضِ الإشكالِ والاشتباهِ حتَّى يتبينَ حالها وقد ذكرت عنده عليه الصلاة والسلام بسخافةِ العقلِ {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} فأنبأتْ عن كمالِ رجاحةِ عقلِها حيثُ لم تقُلْ هُو هُو مع علمِها بحقيقةِ الحالِ تلويحاً بما اعتراهُ بالتَّنكير من نوعِ مغايرةٍ في الصِّفاتِ مع اتحادِ الذاتِ ومراعاةً لحسنِ الأدبِ في محاورتِه عليه الصلاة والسلام {وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} من تتمةِ كلامِها كأنَّها ظنَّت أنه عيه الصَّلاةُ والسَّلامُ أرادَ بذلك اختبارَ عقِلها وإظهارَ معجزةٍ لها فقالتْ أُوتينا العلمَ بكمالِ قدرةِ الله تعالى وصحَّةِ نبوتِك من قبلِ هذه المعجزةِ التي شاهدنَاها بما سمعناهُ من المنذرِ من الآياتِ الدالَّةِ على ذلكَ وكُنَّا مسلمينَ من ذلكَ الوقتِ وفيهِ من الدِّلالةِ على كمالِ رزانةِ رأيها ورصانةِ فكرِها ما لا يخفى وقوله تعالى
{وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله} بيانٌ منْ جهتِه تعالَى لِمَا كانَ يمنعُها من إظهارِ ما ادَّعتْهُ من الإسلامِ إلى الآنَ أي صدَّها عن ذلكَ عبادتُها القديمةُ للشمسِ وقولُه تعالى {إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كافرين} تعليلٌ لسببيةِ عبادتِها المذكورةِ للصدِّ أيْ أنَّها كانتْ من قومٍ راسخينَ في الكفرِ ولذلكَ لم تكُنْ قادرةً على إظهارِ إسلامِها وهي بينَ ظهرانيهم إلى أنْ دخلتْ تحتَ مُلكةِ سليمان عليه السلام وقرئ أنَّها بالفتحِ على البدليةِ من فاعلِ صدَّ أو على التَّعليلِ بحذفِ اللامِ هذا وأمَّا مَا قيلَ مِنْ أنَّ قولَه تعالى وَأُوتِينَا العلم إلى قولِه تعالى مِن قَوْمٍ كافرين من كلامِ سليمانَ عليه السلام وملئِه كأنَّهم لما سمعُوا قولهَا كأنَّه هُو تفطنُوا لإسلامِها فقالُوا استحساناً لشأنِها أصابتْ في الجوابِ وعلمت قدرةَ الله تعالى وصحَّةَ النُّبوةِ بما سمعتْ من المنذرِ من الآياتِ المتقدمةِ وبما عاينِتْ من هذهِ الآيةِ الباهرةِ من أمرِ عرشِها ورُزقتِ الإسلامَ فعطفُوا عَلى ذلك قولَهم وأُوتينَا العلمَ الخ أي وأُوتينا نحنُ العلمَ بالله تعالى وبقرته وبصحَّةِ ما جاءَ من عنده قبلَ علمِها ولم نزلْ على دينِ الإسلامِ شُكراً لله تعالَى على فضلِهم عليها وسبقِهم إلى العلمِ بالله تعالَى والإسلام قبلها وصدَّها عن التقدمِ إلى الإسلامِ عبادةُ الشمسِ ونشؤُها بين ظهراني الكفرةِ فمما لا يخف ما فيهِ من البُعدِ والتعسف
سورة النمل (44 46)
{قِيلَ لَهَا ادخلى الصرح} الصَّرحُ القصرُ وقيل صحنُ الدَّارِ رُوي أنَّ سليمانَ عليه السلام أمرَ قبلَ قدومِها فبنَى له على طريقها قصر من زجاجٍ أبيضَ وأُجري منْ تحته الماءُ وأُلقَي فيه من دوابَ البحرِ السَّمك وغيرُه ووضعَ سريرُه في صدرِه فجلسَ عليهِ وعكفَ عليه الطيرُ والجنُّ والإنسُ وإنَّما فعلَ ذلك ليزيدها استعظاما لأمه وتحققا لبنوته وثباتاً على الدِّينِ وزعمُوا أنَّ الجنَّ كرهوا أنْ يتزوجَها فتفضيَ إليه بأسرارِهم لأنَّها كانتْ بنتَ جنيةٍ وقيل خافُوا أنْ يولَد له منْهَا ولدٌ يجتمعُ له فطنةُ الجنِّ والإنسِ فيخرجونَ من مُلكِ سلِيمانَ عليه السلام إلى مُلكٍ هو أشدُّ وأفظعُ فقالُوا إنَّ في عقلِها شيئاً وهي شَعراءُ الساقينِ ورجلُها كحافِر الحمارِ فاختبرَ عقلَها بتنكيرِ العرشِ واتخذَ الصَّرحَ ليتعرَّفَ ساقَها ورجلَها {فَلَمَّا رَأَتْهُ} وهو حاضرٌ بينَ يديها كما يَعربُ عنه الأمرُ بدخولِها وأحاطتْ بتفاصيلِ أحوالِه خبراً {حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا} وتشمرتْ لئلَاّ تبتلَّ أذيالُها فإذَا هي أحسنُ النَّاسِ ساقاً وقدماً خلا أنَّها شعْراءُ قيلَ هيَ السببُ في اتخاذِ النورةِ أمرَ بها الشياطينَ فاتخذوهَا واستنكحَها عليه الصلاة والسلام وأمرَ الجنَّ فبنَوا لها سيلحينَ وغمدانَ وكان يزورُها في الشهرِ مرةً ويقيمُ عندها ثلاثةَ أيامٍ وقيل بل زوَّجها ذا تُبَّعٍ ملكِ هَمْدانَ وسلَّطه علي اليمنِ وأمر زوبعةَ أميرَ جنِّ اليمنِ أنْ يطيعَه فبنى له المصانع وقرئ سأفيها حملا للمفردِ على الجمعِ في سُؤْقٍ وأَسْؤُقٍ {قَالَ} عليه الصلاة والسلام حين رأَى ما اعتراها من الدَّهشةِ والرُّعبِ {أَنَّهُ} أي ما توهمْتُه ماءً {صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ} أي مملسٌ {مّن قَوارِيرَ} من الزجاجِ {قَالَتْ} حينَ عاينتْ تلكَ المعجزَة أيضاً {رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى} بما كنتُ عليهِ إلى الآنَ من عبادةِ الشمس وقيل بظى بسليمانَ حيثُ ظنَّتْ أنَّه يريدُ إغراقَها في اللُّجةِ وهو بعيدٌ {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سليمان} تابعةً له مقتديةً به وما في قولِه تعالى {لِلَّهِ رَبّ العالمين} من الانتفات إلى الاسمِ الجليلِ ووصفُه بربوبيةِ العالمينَ لإظهارِ معرفتِها بألوهيتِه تعالَى وتفرُّده باستحقاقِ العبادة وبوبيته لجميعِ الموجُوداتِ التي منْ جُملتها ما كانتْ تعبدُه قبلَ ذلكَ من الشَّمسِ
{وَلَقَدْ أَرْسَلنَا} عطفٌ على قوله تعالى ولقد آتينا داود وسليمان عِلْماً مسوقٌ لما سيقَ هُو له من تقريرِ أنَّه عليه الصلاة والسلام يلقى القرآن من لدن حكيمٍ عليمٍ فإنَّ هذه القصة أيضا من جملة القرآن الكريم الذي لقيَهُ عليه الصلاة والسلام واللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ وبالله لقد أرسلنَا {إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا} وأنْ في قولِه تعالَى {أَنِ اعبدوا الله} مفسرةٌ لما في الإرسالِ من معنى القولِ أو مصدريةٌ حُذف عنها الباءُ وقرئ بضمِّ النُّونِ إتباعاً لها للباءِ {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يختصمون} ففاجئوا التفرق والاختصامَ فآمنَ فريقٌ وكفر فريق والواو لمجموع الفريقين
{قال} عليه
سورة النمل (47 49) الصَّلاة والسَّلام للفريقِ الكافرِ منهم بعدَ ما شاهدَ منهم ما شاهدَ من نهايةِ العتوِّ والعنادِ حتَّى بلغُوا من المُكابرةِ إلى أنْ قالُوا له عليه الصلاة والسلام يا صالحُ ائتِنا بما تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين {يا قوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة} أي بالعقوبةِ السيئةِ {قَبْلَ الحسنة} أي التوبةِ فتؤخرونَها إلى حينِ نزولِها حيثُ كانُوا من جهلِهم وغوايتِهم يقولونَ إنْ وقعَ إيعادُه تُبنَا حينئذٍ وإلَاّ فنحنُ على ما كناعليه {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ الله} هلَاّ تسغفرونه تعالَى قبل نزولِها {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بقبولها إذ لا إمكانَ للقبولِ عندَ النُّزولِ
{قَالُواْ اطيرنا} أصلُه تطَّيرنَا والتَّطيرُ التشاؤمُ عُبِّر عنه بذلك لما أنَّهم كانُوا إذا خرجُوا مسافرينَ فيمرّون بطائرٍ يزجرونَه فإنْ مرَّ سانحاً تيمَّنوا وإنْ مرَّ بارحاً تشاءمُوا فلما نسبُوا الخيرَ والشرَّ إلى الطائرِ استُعير لما كانَ سبباً لهما من قدرِ الله تعالى وقسمتِه أو من عمل العبدِ أي تشاءمنا {بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} في دينك حيث تتابعت علينا الشدائدُ وقد كانُوا قحطوا أو لم نزل في اختلافٍ وافتراقٍ مُذ اخترعتُم دينَكُم {قَالَ طَائِرُكُمْ} أي سببُكم الذي منْهُ ينالُكم ما ينالُكم من الشرِّ {عَندَ الله} وهو قدرُه أو عملُكم المكتوبُ عندَهُ وقولُه تعالى {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} أي تُختبرون بتعاقبِ السرَّاءِ والضرَّاءِ أو تعذبون أو بفتنكم الشيطانُ بوسوستِه إليكم الطيرةَ إضرابٌ من بيانِ طائرِهم الذي هو مبدأُ ما يحيقُ بهم إلى ذكِر ما هو الدَّاعي إليهِ
{وَكَانَ فِى المدينة} وهي الحِجْرُ {تِسْعَةُ رَهْطٍ} أي أشخاصٍ وبهذا الاعتبارِ وقعَ تمييزاً للتسعةِ لا باعتبارِ لفظِه والفرقُ بينه وبينَ النَّفرِ أنَّه من الثلاثةِ أو من السبعةِ إلى العشرةِ والنَّفرُ من الثلاثةِ إلى التسعةِ وأسماؤهم حسبَما نُقل عن وهبٍ الهذيلُ بنُ عبدِ ربَ وغُنم بنُ غنمٍ ورئابُ بنُ مهرجٍ ومصدعُ بنُ مهرجٍ وعميرُ بنُ كردبةَ وعاصمُ بنُ مخرمةَ وسبيطُ بنُ صدقةَ وشمعانُ بنُ صفي وقُدارُ بن سالف وهم الذين سَعَوا في عَقْرِ النَّاقةِ وكانُوا عتاةَ قومِ صالحٍ وكانُوا من أبناءِ أشرافِهم {يُفْسِدُونَ فِى الأرض} لا في المدينةِ فقط إفساداً بحتاً لا يُخالطُه شيءٌ ما من الإصلاحِ كما ينطق به قوله تعالى {وَلَا يُصْلِحُونَ} أي لا يفعلون شيئا من الإصلاحِ أو لا يصلحون شيئاً من الأشياءِ
{قالوا} اسئناف ببيانِ بعضِ ما فعلُوا من الفسادِ أي قالَ بعضُهم لبعضٍ في أثناءِ المُشاورةِ في أمرِ صالحٍ عليه الصلاة والسلام وكانَ ذلَك غِبَّ ما أنذرَهُمْ بالعذب وقولِه تمتعُوا في دارِكم ثلاثةَ أيامٍ الخ {تَقَاسَمُواْ بالله} إمَّا أمرٌ مقولٌ لقالُوا أو ماضٍ وقعَ بدلاً منه أو حالاً من فاعلِه بإضمارِ قدْ وقولُه تعالى {لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} أي لنباغتنَّ صالحاً وأهلَه ليلا ونقتلنهم وقرئ بالتَّاءِ على خطابِ بعضِهم لبعض وقرئ بياءِ الغَيبةِ وضمِّ التَّاءِ على أنَّ تقاسمُوا فعلٌ ماضٍ {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيّهِ} أي لولي صالح وقرئ بالتَّاءِ والياءِ كما قبلَه {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} أي ما حضرنَا هلاكَهم أو وقت هلاكَهم أو مكانَ هلاكِهم فضلاً أنْ نتولَّى إهلاكَهم وقرئ مهلَك بفتحِ اللامِ فيكونَ مصدراً {وِإِنَّا لصادقون} من تمامِ القولِ أو حالٌ أي نقول
سورة النمل (50 54) ما نقولُ والحالُ إنَّا لصادقونَ في ذلكَ لأنَّ الشاهدَ للشيءِ غيرُ المباشرِ له عُرفاً أو لأنَّا ما شاهدنا مهلكَهم وحدَه بل مهلِكه ومهلكَهم جميعاً كقولِك ما رأيتُ ثمةَ رجلاً بل رجلين
{وَمَكَرُواْ مَكْراً} بهذهِ المواضعةِ {وَمَكَرْنَا مَكْراً} أي أهلكَناهم إهلاكاً غيرَ معهودٍ {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أو جازيناهم مكرُهم من حيثُ لا يحتسبونَ
{فانظر كيف كان عاقبة مَكْرِهِمْ} شروعٌ في بيانِ ما ترتَّبَ على ما باشرُوه من المكرِ وكيفَ معلِّقةٌ لفعلِ النظرِ ومحلُ الجملةِ النصبُ بنزعِ الخافضِ أي فتفكر في أنَّه كيف كان عاقبة مكرهم وقولُه تعالى {أَنَّا دمرناهم} إما بدلٌ من عاقبةُ مكرِهم على أنَّه فاعلُ كان وهي تامَّة وكيفَ حالٌ أي فانظُرْ كيفَ حصلَ أي على أيِّ وجهٍ حدثَ تدميرُنا إيَّاهُم وإمَّا خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ والجملةُ مبينة لما في عاقبةُ مكرِهم من الإبهامِ أي هي تدميرُنا إيَّاهم {وَقَوْمَهُمْ} الذين لم يكونُوا معُهم في مباشرةِ التبييتِ {أَجْمَعِينَ} بحيثُ لم يشذ منهم شاذو إما تعليل لما ينبئ عنه الأمرُ بالنَّظرِ في كيفيةِ عاقبةِ مكرِهم من غايةِ الهولِ والفظاعةِ بحذفِ الجارِّ أي لأنَّا دمَّرناهم الخ وقيلَ كانَ ناقصةٌ اسمها عاقبة مكرم وخبرها كيفَ كانَ فالأوجُه حينئذٍ أنْ يكونَ قولُه تعالى أنَّا دمَّرناهم الخ تعليلاً لما ذكر وقرئ إنَّا دمَّرناهم الخ بالكسرِ على الاستئنافِ رُوي أنَّه كانَ لصالحٍ عليه السلام مسجدٌ في الحجر في شعبٍ يصلِّي فيهِ فقالُوا زعمَ صالحٌ أنَّه يفرغُ منَّا إلى ثلاثٍ فنحنُ نفرغُ منه ومن أهلهِ قبل الثَّلاثِ فخرجُوا إلى الشِّعبِ وقالُوا إذَا جاءَ يُصَلِّي قتلناهُ ثمَّ رجعنَا إلى أهله فقلناهم فبعثَ الله تعالى صخرةً من الهضبِ حيالَهم فبادرُوا فطبقتِ الصَّخرةُ عليهم فم الشِّعبِ فلم يدرِ قومُهم أينَ هُم ولم يدروا ما فُعل بقومِهم وعذَّب الله تعالى كلاً منهم في مكانِه ونجَّى صالحاً ومَن معه وقيلَ جاءُوا بالليلِ شاهرِي سيوفِهم وقد أرسلَ الله تعالى الملائكةَ ملءَ دارِ صالحِ فدمغُوهم بالحجارةِ يرون الحجارةَ ولا يَرون رامياً
{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ} جملةً مقرِّرة لما قبلها وقوله تعالى {خَاوِيَةٍ} أي خاليةً أو ساقطةً متهدمةً {بِمَا ظَلَمُواْ} أي بسببِ ظلمِهم المذكورِ حالٌ من بيوتُهم والعاملُ معنى الإشارة وقرئ خاويةٌ بالرَّفعِ على أنَّه خبرُ لمبتدأٍ محذوفٍ {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيما ذُكر من التَّدميرِ العجيبِ بظلِمهم {لآيَةً} لعبرةً عظيمةً {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي ما مِنْ شأنه أن يُعلم شَيْئاً من الأشياءِ أو لقومٍ يتصفونَ بالعلم
{وأنجينا الذين آمنوا} صالحاً ومَن مَعَهُ من المؤمنينَ {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} أي الكفَر والمعاصي اتقاءً مستمراً فلذلك خُصُّوا بالنَّجاةِ
{وَلُوطاً} منصوبٌ بمضمرٍ معطوفٍ على أرسلنا
سورة النمل (55 59) في صدرِ قصَّة صالحٍ داخلٌ معه في حيزِ القسمِ أي وأرسلنا لوطاً وقولُه تعالى {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} ظرفٌ للإرسالِ على أنَّ المرادَ به أمرٌ ممتدٌ وقعَ فيه الإرسالُ وما جرَى بينَه وبينَ قومِه من الأقوالِ والأحوالِ وقيل انتصابُ لوطاً بإضمارِ اذكُر وإذْ بدلٌ منه وقيل بالعطفِ على الَّذِينَ آمنُوا أي ونجينا لوطاً وهو بعيدٌ {أَتَأْتُونَ الفاحشة} أي الفعلة المتناهية في القُبح والسَّماجةِ وقولُه تعالى {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} جملةٌ حاليةٌ من فاعلِ تأتُون مفيدةٌ لتأكيدِ الإنكارِ وتشديدِ التَّوبيخِ فإنَّ تعاطيَ القبيحِ من العِالمِ بقُبحه أقبحُ وأشنعُ وتُبصرون من بصرِ القلبِ أي أتفعلونَها والحالُ أنَّكم تعلمونَ علماً يقينياً بكونِها كذلك وقيل يبصرُها بعضُكم من بعضٍ لما كانُوا يُعلنون بَها
{أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً} تثنية للغنكار وتكريرٌ للتوبيخِ وبيانٌ لما يأتونَهُ من الفاحشةِ بطريق التصريح وتحلية الجملة بحر في التأكيدِ للإيذانِ بأنَّ مضمونَها مما لا يُصدِّق وقوعَه أحدٌ لكمالِ بُعدِه من العقولِ وإيرادُ المفعولِ بعُنوانِ الرُّجوليةِ لتربيةِ التقبيحِ وتحقيقِ المباينةِ بينها وبين الشهوةِ التي عُلل بها الإتيانُ {مّن دُونِ النساء} متجاوزينَ النساءَ اللاتي هُنَّ محالُّ الشهوةِ {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} تفعلونَ فعلَ الجاهلينَ بقبحِه أو تجهلون العاقبةَ أو الجهلُ بمعنى السَّفاهة والمجُون أي بل أنتُم قوم سفهاء ما جنون والتَّاءُ فيه مع كونِه صفةً لقومٍ لكونِهم في حيِّزِ الخطابِ
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَاّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ آل لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} يتنزهونَ عن أفعالِنا أو عن الأقذارِ ويعدّون فعلَنا قذراً وعن أن عباس رضي الله تعالى عنُهمَا أنَّه استهزاءٌ وقد مرَّ في سورةِ الأعرافِ أنَّ هذا الجوابَ هو الذي صدر عنهم في المرة الأخيرة من مرات مواعظ لوط عليه السلام بالأمرِ والنَّهي لا أنَّه لم يصدُرْ عنهم كلامُ آخرُ غيرُه
{فأنجيناه وَأَهْلَهُ إِلَاّ امرأته قدرناها} أي قدرنَا أنَّها {مِنَ الغابرين} أي الباقينَ في العذابِ
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا} غيرَ معهودٍ {فَسَاء مَطَرُ المنذرين} قد مرَّ بيانُ كيفيةِ ما جرى عليهم من العذابِ غيرَ مرَّةٍ
{قُلِ الحمد لِلَّهِ وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى} إثرَ ما قصَّ الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم قصصَ الأنبياءِ المذكورينَ عليهم الصَّلاة والسَّلام وأخبارَهم الناطقةَ بكمالِ قُدرته تعالى وعظمِ شأنِه وبما خصَّهم به من الآياتِ القاهرةِ والمعجزاتِ الباهرةِ الدالَّةِ على جلالةِ أقدارِهم وصحَّةِ أخبارِهم وبيَّن على ألسنتهم حقِّيةَ الإسلامِ والتَّوحيدِ وبطلانَ الكفرِ والإشراكِ وأنَّ من اقتَدى بهم فقد اهتدَى ومن أعرضَ عنهم فقد تردَّى في مَهاوي الرَّدى وشرح صدَره عليه الصلاة والسلام بمَا في تضاعيف تلك
سورة النمل (60) القصص من فنونِ المعارفِ الرَّبانية ونوَّر قلبَه بأنوارِ الملكاتِ السُّبحانية الفائضةِ من عالمِ القدسِ وقرَّر بذلكَ فحوى ما نطقَ به قولُه عز وجل وَإِنَّكَ لتلقي القرآن من لدن حكيم عَلِيمٍ أمرهَ عليه الصلاة والسلام بأنْ يحمدَه تعالى على ما أفاضَ عليه من تلك النِّعمِ التي لا مطمعَ وراءَها لطامعٍ ولا مطمحَ من دونِها لطامحٍ ويسلِّم على كافَّةِ الأنبياءِ الذين من جُمْلتهم الذين قصَّت عليه أخبارُهم التي هي من جُملة المعارف التي أوجبت إليه عليه الصلاة والسلام أداء لحق تقمهم واجتهادِهم في الدِّين وقيلَ هو أمرٌ للوطٍ عليه السلام بأنْ يحمدَه تعالى على إهلاكِ كَفَرة قومِه ويسلِّم على من اصطفَاه بالعصمةِ عن الفواحشِ والنَّجاةِ عن الهلاكِ ولا يخفى بعدُه {الله خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} أي أللَّهُ الذي ذكرت شئونه العظيمةُ خيرٌ أمْ مَا يشركونَه به تعالى من الأصنامِ ومرجعُ الترديدِ إلى التَّعريضِ بتبكيتِ الكفرةِ من جهتِه تعالى وتسفيِه آرائِهم الركيكةِ والتهكمِ بهم إذْ من البيِّن أنْ ليسَ فيما أشركُوه به تعالى شائبةُ خيرٍ ما حتَّى يمكن أنْ يوازنَ بينَهُ وبينَ مَنْ لا خيرَ إلا خيرُه ولا إلَه غيره وقرئ تشركونَ بالتَّاءِ الفوقانيَّةِ بطريقِ تلوينِ الخطابِ وتوجيهِه إلى الكفرةِ وهو الأليقُ بما بعدَهُ من سياقِ النَّظمِ الكريمِ المبنيِّ على خطابِهم وجعلُه من جملةِ القولِ المأمورِ به يأباهُ قولُه تعالى فأنبتْنا الخ فإنَّه صريحٌ في أنَّ التبكيتَ من قبله عز وجل بالذاتِ وحملُه على أنَّه حكايةٌ منه عليه الصلاة والسلام لما أمر به بعبارته كما في قولِه تعالى قُلْ يا عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ تعسفٌ ظاهر من غيرِ داعٍ إليهِ وأمْ في قولِه تعالى
{أمْ مَنْ خلقَ السماوات والأرض} منقطعةٌ وما فيها من كلمةِ بَلْ على القراءةِ الأولى للاضرابِ والانتقالِ من التبكيت تعريضاً إلى التَّصريحِ به خطاباً على وجهٍ أظهرَ منه لمزيد التأكيد والتشديدِ وأمَّا على القراءةِ الثَّانية فلتثنية التبكيتِ وتكريرِ الإلزامِ كنظائرِها الآتيةِ والهمزةُ لتقريرِهم أي حملِهم على الإقرارِ بالحقِّ على وجهِ الاضطرارِ فإنَّه لا يتمالك أحدٌ ممن له أدنى تمييزٍ ولا يقدرُ على أنْ لا يعترفَ بخيريةِ مَن خلقَ جميعَ المخلوقاتِ وأفاضَ على كلَ منها ما يليقُ به من منافعِه من أخسِّ تلك المخلوقاتِ وأدناها بل بأن لا خير يرى فيه بوجه ممن الوجوهِ قطعاً ومَن مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ مع أمِ المُعادِلةِ للهمزةِ تعويلاً على ما سبقَ في الاستفهامِ الأولِ خلا أنَّ تُشركون ههنا بتاءِ الخطابِ على القراءتينِ معاً وهكذا في المواضعِ الأربعةِ الآتية والمعنى بلْ أمَّن خلقَ قُطري العالمِ الجسمانيِّ ومبدأي منافع ما بينهما {وَأَنزَلَ لَكُمْ} التفاتٌ إلى خطابِ الكَفَرةِ على القِراءةِ الأُولَى لتشديدِ التبكيتِ والإلزامِ أي أَنزل لأجلكم ومنعتكم {مِنَ السماء مَاء} أي نوعاً منه هو المطرُ {فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ} أي بساتينَ محدقةً ومحاطةً بالحوائطِ {ذَاتَ بَهْجَةٍ} أي ذاتَ حُسنٍ ورَوْنقٍ يبتهجُ به النُّظَّارُ {مَّا كَانَ لَكُمْ} أي ما صح وما أمكنَ لكُم {أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} فضلاً عن ثمرها وسائرِ صفاتِها البديعةِ خيرٌ أم ما تشركون وقرئ أَمَنْ بالتَّخفيفِ على أنَّه بدلٌ من الله وتقديمُ صِلَتى الإنزالِ على مفعولِه لما مر مرارا من التَّشويقِ إلى المؤخَّرِ والالتفاتُ إلى التكلم في
سورة النمل (61) قوله تعالى فَأَنبَتْنَا لتأكيدِ اختصاصِ الفعلِ بذاتِه تعالى والإيذانِ بأنَّ إنباتَ تلك الحدائقِ المختلفةِ الأصنافِ والأوصافِ والألوانِ والطُّعومِ والرَّوائحِ والأشكالِ مع ما لها من الحُسنِ البارعِ والبهاءِ الرَّائعِ بماءٍ واحدٍ ممَّا لا يكادُ يُقدر عليه إلا هو وحده حسبما ينبئ عنه تقييدُها بقولِه تعالى مَّا كَانَ لَكُمْ الخ سواء كانت صفةً لها أو حالاً وتوحيدُ وصفها الأولِ أعني ذاتَ بهجةٍ لما أنَّ المَعنى جماعةُ حدائقَ ذاتُ بهجةٍ على نهجِ قولِهم النِّساءُ ذهبتْ وكذا الحالُ في ضميرِ شجرها {أإله مَّعَ الله} أي أإلهٌ آخرُ كائنٌ مع الله الذي ذُكرَ بعضُ أفعالِه التي لا يكادُ يقدرُ عليها غيرُه حتَّى يتوهَّم جعلَه شريكاً له تعالَى في العبادةِ وهذا تبكيتٌ لهم بنفي الألوهيةِ عمَّا يُشركونه به تعالى في ضمنِ النَّفي الكليِّ على الطريقةِ البُرهانيةِ بعد تبكيتِهم بنفي الخيريةِ عنْهُ بما ذكرَ من التَّرديدِ فإنَّ أحداً ممَّن له تمييزٌ في الجُملةِ كما لا يقدرُ على إنكارِ انتفاءِ الخيريةِ عنه بالمرةِ لا يُكاد يَقدِر على إنكارِ انتفاءِ الألوهيةِ عنه رأساً لا سيَّما بعد ملاحظةِ انتفاءِ أحكامِها عمَّا سواهُ تعالى وهكذا الحالُ في المواقعِ الأربعةِ الآتيةِ وقيل المرادُ نفَي أنْ يكونَ معه تعالى إلهٌ آخرُ فيما ذكر من الخلقِ وما عطفَ عليه لكن لا على أنَّ التبكيتَ بنفس ذلك النفي فقط كيفَ لا وهم لا يُنكرونَه حسبما ينطِق به قولُه تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ من خَلَقَ السمواتِ والأرضِ لَيَقُولُنَّ الله بل بإشراكِهم به تعالَى في العبادةِ ما يعترفون بعدمِ مشاركتِه له تعالى فيما ذكرَ من لوازمِ الألوهيَّةِ كأنَّه قيلَ أإلهٌ آخرُ مع الله في خواصِّ الأُلوهيةِ حتى يجعل شريكا له تعالى في العبادةِ وقيل المعنى أغيرُه يُقرن به ويجعلُ له شريكاً في البعادة مع تفرد تعالى بالخلقِ والتَّكوينِ فالإنكارُ للتوبيخِ والتبكيتِ مع تحقيقِ المنكرِ دون النفي كما في الوجهينِ السابقينِ والأولُ هو الأظهرُ الموافقُ لقولِه تعالَى وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إله والأوفى بحقِّ المقامِ لإفادتِه نفي وجودِ إلهٍ آخرَ معه تعالى رأساً لا نفيَ معيَّته في الخلقِ وفروعِه فقط وقرئ آإلهٌ بتوسيطِ مدةٍ بينَ الهمزتينِ وبإخراجِ الثَّانيةِ بينَ بين وقرئ أإلها بإضمار فعلٍ يناسبُ المقامَ مثل أندعون أو أتشركونَ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} إضرابٌ وانتقالٌ من تبكيتِهم بطريقِ الخطابِ إلى بيانِ سوءٍ حالِهم وحكايتِه لغيرِهم أي بل هُم قومٌ عادتُهم العُدولُ عن طريقِ الحقِّ بالكليةِ والانحراف عن الساتقامة في كلِّ أمرٍ من الأمورِ فلذلك يفعلونَ ما يفعلونَ من العُدول عن الحقِّ الواضحِ الذي هو التَّوحيدُ والعُكوفُ على الباطلِ البيِّن الذي هو الإشراكُ وقيل يعدلونَ به تعالَى غيرَهُ وهو بعيدٌ خالٍ عن الإفادةِ
{أَم مَّنْ جَعَلَ الأرض قَرَاراً} قيلَ هو بدلٌ من أمْ مَنْ خلقَ السمواتِ الخ وكذا ما بعدَه من الجُملِ الثَّلاثِ وحكم الكلِّ واحدٌ والأظهرُ أنَّ كلَّ واحدةٍ منها إضرابٌ وانتقالٌ من التبكيتِ بما قبلها إلى التبكيتِ بوجهٍ آخرَ أدخلُ في الإلزامِ بجهةٍ من الجهاتِ أي جعلها بحيث يستقر عليها الإنسان والدواب بإيذاء بعضها من الماء ودحوها وتسويتِها حسبما تدورُ عليه منافعهُم {وَجَعَلَ خِلَالَهَا} أوساطَها {أَنْهَاراً} جاريةً ينتفعونَ بها
سورة النمل (62 63){وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ} أي جبالاً ثوابتَ تمنعها أنْ تميدَ بأهلها ويتكونُ فيها المعادنُ وينبعُ في حضيضِها الينابيعُ ويتعلقُ بها من المصالح مالا يُحصى {وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين} أي العذب والمالحِ أو خليجيْ فارسَ والرومِ {حَاجِزاً} برزخاً مانعاً من الممازجةِ وقد مرَّ في سورةِ الفرقانِ والجعلُ في المواقعِ الثلاثةِ الأخيرةِ إبداعيٌّ وتأخيرُ مفعولِه عن الظرفِ لما مرَّ مرارا من التشويق {أإله مَّعَ الله} في الوجودِ أو في إبداعِ هذه البدائعِ على ما مرَّ {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أي شيئاً من الأشياءِ ولذلك لا يفهمونَ بطلانَ ما هم عليه من الشركِ مع كمالِ ظهورِه
{أَم مَّنْ يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} وهو الذي أحوجتْه شدةٌ من الشَّدائدِ وألجأته إلى اللجَأِ والضَّراعةِ إلى الله عز وجل اسم مفعولٍ من الاضطرارِ الذي هو افتعالٌ من الضِّرورةِ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هو المجهودُ وعن السدى رحمه الله تعالى مَن لا حولَ له ولا قوةَ وقيل المذنبُ إذا استغفرَ واللامُ للجِنسِ لا للاستغراقِ حتَّى يلزمَ إجابة كلِّ مضطرٍ {وَيَكْشِفُ السوء} وهُو الذي يعترِي الإنسانَ مما يسوؤُه {ويجعلكم خلفاء الأرض} أي خلفاءَ فيها بأنْ ورَّثكم سُكناها والتَّصرفَ فيها ممَّن قبلكم من الأممِ وقيل المرادُ بالخلافةِ الملك والتسلط {أإله مَّعَ الله} الذي يُفيض على كافةِ الأنامِ هذه النعمَ الجسامَ {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} أي تذكرا قليال أو زماناً قليلاً تتذكرونَ وما مزيدةٌ لتأكيدِ معنى القلَّةِ التي أريدَ بها العدمُ أو ما يجري مجراه في الحقارةِ وعدمِ الجدوى وفي تذييل الكلامِ بنفي التذكرِ عنهم إيذانٌ بأنَّ مضمونَهُ مركوزٌ في ذهنِ كلِّ ذكيَ وغبيَ وأنَّه من الوضوحِ بيحث لا يتوقفُ إلا على التوجه إليه وتذكره وقرئ تتذكرونَ على الأصلِ وتذّكرون ويذكرون بالتاءِ والياءِ مع الإدغامِ
{أَم مَّنْ يَهْدِيكُمْ فِى ظلمات البر والبحر} أي في ظلماتِ الليالي فيهما على أنَّ الإضافةَ للملابسةِ أو في مشتَبِهات الطرقِ يقالُ طريقةٌ ظلماءُ وعمياءُ للتي لا منارَ بها {وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} وهي المطرُ ولئن صحَّ أن السببَ الأكثريَّ في تكونِ الريحِ معاودةُ الأدخنةِ الصاعدةِ من الطبقةِ الباردةِ لانكسارِ حرِّها وتمويجِها للهواءِ فلا ريبَ في أنَّ الأسبابَ الفاعليةَ والقابليةَ لذلك كلِّه من خلقِ الله عز وجل والفاعلُ للسببِ فاعلٌ للمسبب قطعا {أإله مَّعَ الله} نفيٌ لأنْ يكونَ معه إلهٌ آخرُ وقولُه تعالى {تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} تقريرٌ وتحقيقٌ له وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقعِ الإضمارِ للإشعارِ بعلةِ الحُكمِ أي تعالَى وتنزه بذاتِه المنفردةِ بالألُوهيةِ المستتبعةِ لجميعِ صفات الكمال ونعوت الجمال والجلالِ المقتضيةِ لكونِ كلِّ المخلوقاتِ مقهُوراً تحتَ قُدرتِه عمَّا يُشركون أيْ عنْ وجودِ ما يُشركونَه به تعالَى لا مُطلقاً فإنَّ وجودَه مما لا مردَّ له بل عن
سورة النمل (64 66) وجودِه بعُنوانِ كونِه إلهاً وشريكاً له تعالَى أو عن إشراكِهِم
{أَم مَّنْ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي بلْ أمن يبدأُ الخلقَ ثمَّ يعيده بعد الموت بالبعث {وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض} أي بأسبابٍ سماويةٍ وأرضيةٍ قد رتبَّها على ترتيبٍ بديعٍ تقتضيهِ الحكمةُ التي عليها بُني أمرُ التكوينِ خيرٌ أمْ ما تشركونَه به في العبادةِ من جمادٍ لا يتوهم قدرتُه على شيءٍ ما أصلاً {أإله} آخرُ موجودٌ {مَعَ الله} حتى يجعل شريكا له في العبادةِ وقولُه تعالَى {قُلْ هَاتُواْ برهانكم} أمرٌ له عليه الصلاة والسلام بتبكيتِهم إثرَ تبكيتٍ أي هاتُوا بُرهاناً عقلياً أو نقلياً يدلُّ على أنَّ معه تعالى إلهاً لا على أنَّ غيرَه تعالى يقدُر على شيءٍ ممَّا ذُكر من أفعالِه تعالى كما قيلَ فإنَّهم لا يدعونَهُ صريحاً ولا يلتزمونَ كونَه من لوازمِ الألوهيةِ وإن كان منها في الحقيقةِ فمطالبتُهم بالبرهانِ عليه لا على صريحِ دعواهم مما لا وجهَ لَهُ وفي إضافةِ البرُهان إلى ضميرهم تهكمٌ بهم لما فيَها من إيهامٍ أنَّ لهم برهاناً وأنَّى لهُم ذلكَ {إِن كُنتُمْ صادقين} أي في تلك الدَّعوى
{قُل لَاّ يَعْلَمُ مَن في السماوات والأرض الغيب إِلَاّ الله} بعدما حقق تفرده تعالى بالأُلوهيةِ ببيان اختصاصه بالقدرة الكاملة التامة والرحمة الشاملة العامة عقبه بذكر ما هو من لوازمه وهو اختصاصِه بعلمِ الغيبِ تكميلاً لما قبله وتمهيداً لما بعدَه من أمرِ البعثِ والاستثناءُ منقطعٌ ورفعُ المستثنى على اللُّغةِ التميمية للدِّلالةِ على استحالةِ علمِ الغيبِ من أهلِ السَّمواتِ والأرضِ بتعليقِه بكونِه سبحانه وتعالى منُهم كأنَّه قيلَ إنْ كانَ الله تعالَى ممن فيهما ففيهم مَن يعلمُ الغيبَ أو متصلٌ على أنَّ المرادَ بِمَنْ فِى السَّمواتِ والأَرضِ مَن تعلقَ علمُه بهما واطَّلع عليهما اطِّلاعَ الحاضرِ فيهما فإنَّ ذلكَ معنى مجازيٌّ عامٌّ له تعالَى ولأوُلي العلمِ من خلقِه ومَن موصولةٌ أو موصوفةٌ {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أي مَتَى يُنشرون من القبورِ معَ كونِه ممَّا لا بُدَّ لهم منْهُ ومن أهم الأُمورِ عندهم وأيَّان مركبةٌ من أي وآن وقرئ بكسرِ الهمزةِ والضَّميرُ للكفرةِ وإنْ كانَ عدمُ الشُّعورِ بما ذُكر عامَّاً لئلَاّ يلزمَ التفكيكُ بينَه وبينَ ما سيأتي من الضَّمائِر الخاصَّةِ بهم قطعاً وقيلَ الكل لمن وإساد خواصِّ الكفرةِ إلى الجميعِ من قبيلِ قولِهم بنُو فُلانٍ فعلُوا كَذَا والفاعلُ بعض منهم
{بل ادَّارك علمُهم في الآخرةِ} لمَّا نفَى عنهم علمَ الغيبِ وأكَّد ذلكَ بنفِي شعورِهم بوقت ما هو مصيرُهم لا محالةَ بُولغَ في تأكيدِه وتقريرِه بأنْ أضربَ عنْهُ وبيَّن أنَّهم في جهلٍ أفحشَ من جهلهِم بوقت بعثِهم حيثُ لا يعلمونَ أحوالَ الآخرةِ مُطلقاً معَ تعاضدِ أسبابِ معرفِتها على أنَّ معنى ادَّارك علمُهم في الآخرةِ تداركَ وتتابعَ علمُهم في شأنِ الآخرةِ التي ما ذُكر من البعثِ حالٌ مِن أحوالِها حتَّى انقطعَ ولم يبقَ لهم علمٌ بسيء ممَّا سيكونُ فيها قطعاً لكنْ لا على مَعْنى أنه
سورة النمل (67) كانَ لهم علمٌ بذلكَ على الحقيقةِ ثمَّ انتفَى شيئاً فشيئاً بلْ على طريقةِ المجازِ بتنزيلِ أسبابِ العلمِ ومباديِه من الدَّلائلِ العقليةِ والسَّمعيةِ منزلةَ نفسِه وإجراءِ تساقطِها عن درجةِ اعتبارِهم كلَّما لاحظُوها مُجرى تتابعِها إلى الانقطاعِ ثمَّ أضربَ وانتقلَ عن بيانِ عدمِ علمِهم بها إلى بيانِ ما هُو أَسوأُ منه وهو حيرتُهم في ذلكَ حيثُ قيلَ {بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا} أي في شكَ مُريبٍ من نفسِ الآخرةِ وتحققها كَمن تحيَّر في أمرٍ لا يجدُ عليه دليلاً فضلاً عن الأمورِ التي ستقعُ فيها ثمَّ أضربَ عن ذلكَ إلى بيانِ أنَّ ما هُم فيه أشدُّ وأفظعُ من الشكِّ حيث قيل {بل هم مّنْهَا عَمُونَ} بحيثُ لا يكادونَ يُدركون دلائلَها لاختلالِ بصائرهم بالكلية وقرئ بل أدّرك علمُهم بمعنى انتهى وفَنِيَ وقد فسَّره الحسن البصري اضمحل علمهم وقيل كلنا الصيغتين على معناها الظاهرِ أي تكاملَ واستحكَم أو تمَّ أسبابُ علمِهم بأن القيامة كائنةٌ لا محالةَ من الآيات القاطعةِ والحُججِ السَّاطعةِ وتمكَّنُوا من المعرفِة فضلَ تمكنٍ وهم جاهلُون في ذلكَ وقولُه تعالَى بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا إضرابٌ وانتقالٌ من وصفهم بمطلقِ الجهلِ إلى وصفِهم بالشكِّ وقولُه تعالَى بَلْ هُمْ مهاعمون إضرابٌ من وصفِهم بالشكِّ إلى وصفِهم بَما هُو أشدُّ منْهُ وأفظعُ من العَمَى وأنتَ خبيرٌ بأنَّ تنزيلَ أسبابِ العلمِ منزلةَ العلمِ سَننٌ مسلوكٌ لكنْ دلالةُ النَّظمِ الكريمِ على جهلِهم حينئذٍ ليستْ بواضحةٍ وقيلَ المرادُ بوصفِهم باستحكامِ العلمِ وتكاملِه التَّهكمُ بهم فيكونَ وصفاً لهُم بالجهل مُبالَغةً والإضرابانِ على ما ذُكر وأصلُ ادَّاركَ تَدَارك وبه قرأَ أُبَيٌّ فأُبدلتِ التَّاءُ دالاً وسُكِّنتْ فتعذَّرَ الابتداءُ فاجتُلِبتْ همزةُ الوصلِ فصار ادارك وقرئ بلِ ادَّرك وأصلُه افتعلَ وبلْ أَأَدَّرك بهمزتينِ وبلْ آأدْرَك بألفٍ بينَهما وبلْ أدرك بالتَّخفيفِ والنَّقلِ وبَلَ ادَّرك بفتحِ اللامِ وتشديدِ الدَّالِ وأصلُه بلْ أدّركَ على الاستفهامِ وبَلَى ادّركَ وبَلَى أَأَدْرك وأمْ تَدَارك وأمِ ادَّرك فهذهِ ثِنْتا عشرةَ قراءةً فما فيهِ استفهامٌ صريحٌ أو مضمَّنٌ من ذلكَ فهُو إنكارٌ ونفيٌ وما فيهِ بَلَى فإثباتٌ لشعورِهم وتفسيرٌ له بالإدراكِ على وجهِ التَّهكمِ الذي هو أبلغُ وجوهِ النَّفي والإنْكارِ وما بعدَهُ إضرابٌ عن التَّفسيرِ مبالغةً في النَّفي ودلالةً على أنَّ شعورَهم بها أنَّهم شاكُّون فيها بلْ إنَّهم منها عمون أورد إنكار لشعورِهم
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} بيانٌ لجهلِهم بالآخرةِ وعَمَهِهم منها بحكايةِ إنكارِهم للبعثِ ووضعُ الموصول موضع ضميرهم لذمِّهم بما في حيزِ صلته والإشعارِ بعلَّة حكمِهم الباطلِ في قولهم {أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لَمُخْرَجُونَ} أي أنخرجُ من القبورِ إذا كنَّا تُراباً كما ينبئ عنه مخرجونَ ولا مَساغَ لأنْ يكونَ هو العاملَ في إذَا لاجتماعِ موانعَ لو تفرَّدَ واحدٌ منها لكَفَى في المنعِ وتقييدُ الإخراجِ بوقتِ كونِهم تُراباً ليس لتخصيصِ الإنكارِ بالإخراجِ حينئذٍ فقط فإنَّهم منكرِون للإحياءِ بعدَ الموتِ مُطلقاً وإنْ كانَ البدنُ على حالِه بل لتقويةِ الإنكارِ بتوجيههِ إلى الإخراجِ في حالةٍ منافيةٍ له وقولُه تعالَى وآباؤُنا عطفٌ على اسمِ كانَ وقامَ الفصلُ مع الخبرِ مقامَ الفصلِ بالتأكيدِ وتكريرُ الهمزةِ في أثنا للمبالغةِ والتَّشديدِ في الإنكارِ وتحليةُ الجُملةِ بأنَّ واللامِ لتأكيدِ الإنكارِ لا لإنكارِ التاكيد كما يوهمه ظاهرِ النظمِ فإنَّ تقديمَ الهمزةِ لاقتضائِها الصدارةَ كما في قولِه تعالى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ونظائرِه عَلَى رَأي الجُمهورِ فإن المعنى عندهم تعقيبُ الإنكارِ لا إنكارُ التعقيبِ كما هو المشهور
سورة النمل (68 73) وقرئ إذَا كنَّا بهمزةٍ واحدةٍ مكسورة وقرئ إنَّا لمخرجُون على الخبرِ
{لَقَدْ وُعِدْنَا هذا} أي الإخراج {نحن وآباؤنا مِن قَبْلُ} أي من قبلِ وعدِه عليه الصلاة والسلام وتقديمُ الموعودِ على نحنُ لأنَّه المقصودُ بالذكرِ وحيثُ أُخّرَ قُصد به المبعوثَ والجملةُ استئنافٌ مَسوقٌ لتقريرِ الإنكارِ وتصديرُها بالقسمِ لمزيدِ التأكيدِ وقولُه تعالى {إِنْ هذا إِلَاّ أساطير الأولين} تقريرُ إثرَ تقريرٍ
{قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين} بسببِ تكذيبِهم للرُّسلِ عليهمْ الصَّلاةُ والسَّلامُ فيما دَعَوهم إِلَيْهِ منَ الإيمانِ بالله عز وجل وحَدهُ وباليومِ الآخرِ الذي تُنكرونَهُ فإنَّ في مشاهدةِ عاقبتِهم ما فيهِ كفايةٌ لأُولي الأبصارِ وفي التعبيرِ عن المُكذبينَ بالمجرمينَ لُطفٌ بالمؤمنينَ في تَرْكِ الجرائم
{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} لإصرارِهم على الكُفْرِ والتَّكذيبِ {وَلَا تَكُن فِى ضَيْقٍ} في حَرَجِ صدرٍ {مّمَّا يَمْكُرُونَ} من مكرِهم فإنَّ الله تعالى يعصمك من لاناس وقرئ بكسرِ الضَّادِ وهُو أيضاً مصدر ويجوزأن يكونَ المفتوحُ مخفَّفاً من ضيق وقد قرئ كذلكَ أي لا تكُن في أمرٍ ضيِّقٍ
{وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد} أي العذابُ العاجلُ الموعودُ {إِن كُنتُمْ صادقين} في إخبارِكم بإتيانِه والجمعُ باعتبارِ شركة المؤنين في الإخبارِ بذلَك
{قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم} أي تبعكُم ولحقكُم والَّلامُ مزيدةٌ للتأكيدِ كالباءِ في قولهِ تعالى وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة أو الفعلُ مضمَّنٌ معنى فعلٍ يُعدَّى باللَّامِ وقرئ بفتحِ الدَّالِ وهي لغةٌ فيه {بَعْضُ الذى تَسْتَعْجِلُونَ} وهو عذابُ يومِ بدرٍ وعسَى ولعلَّ وسوف في مواعيد الملوك بمنزلة الجزم بها وإنما يطلقونها إظهار اللوقار وإسعارا بأنَّ الرَّمزَ من أمثالِهم كالتَّصريحِ ممَّن عداهُم وعلى ذلك مَجرى وعدِ الله تعالى ووعيدهِ وإيثارُ مَا عليهِ النَّظمُ الكريمُ عَلى أنْ يُقالَ عَسى أنْ يردفَكم الخ لكونِه أدلَّ على تحققِ الوعدِ
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} أي لذُو إفضالٍ وإنعامٍ على كافَّة النَّاسِ ومن جُملةِ إنعاماتِه تأخيرُ عقوبةِ هؤلاءِ على ما يرتكبونَهُ من المَعَاصي التي من جُملتِها استعجالُ العذابِ {ولكن أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} لا يعرفون حقَّ النعمةِ فيه فلا يشكرونَهُ بل يستعجلونَ بجهلِهم وقوعَهُ كدأب هؤلاء
سورة النمل (74 80)
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} أي ما تخفيه وقرئ بفتحِ التَّاءِ من كننتُ الشيءَ إذا سترتُه {وَمَا يُعْلِنُونَ} من الأفعالِ والأقوالِ التي من جملتها ما حُكي عنهم من استعجالِ العذابِ وفيه إيذانٌ بأنَّ لهم قبائحَ غيرَ ما يُظهرونَهُ وأنَّه تعالَى يُجازيهم على الكلِّ وتقديمُ السرِّ على العَلَن قد مرَّ سرُّه في سُورةِ البقرةِ عند قوله تعالى أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ
{وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِى السماء والأرض} أي من خافيةٍ فيهما وهُما من الصِّفاتِ الغالبةِ والتَّاءُ للمبالغة كَما في الرِّوايةِ أو اسمانِ لما يغيبُ ويَخْفى والتَّاءُ للنقلِ إلى الاسميَّةِ {إِلَاّ فِى كتاب مُّبِينٍ} أيْ بيِّنٍ أو مُبينٍ لما فيهِ لَمنْ يُطالعه وهو اللَّوحُ المحفوظُ وقيلَ هُو القضاءُ العدلُ بطريقِ الاستعارة
{إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أَكْثَرَ الذى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} منْ جُملتِه ما اختلفُوا في شأنِ المسيحِ وتخزبوا فيهِ أحزاباً وركبُوا متنَ العُتوِّ والغُلوِّ في الإفراطِ والتَّفريطِ والتَّشبيهِ والتَّنزيهِ ووقعَ بينُهم التَّناكُدُ في أشياءَ حتَّى بلغَ المُشاقَّة إلى حيثُ لعنَ بعضُهم بعضاً وقد نزلَ القرآنُ الكريمُ ببيانِ كُنْهِ الأمرِ لو كانُوا في حيِّز الإنصافِ
{وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤمِنِينَ} على الإطلاقِ فيدخلُ فيهم مَن آمنَ مِن بني إسرائيلَ دُخولاً أَوَّلِياً
{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ} أي بينَ بني إسرائيلَ {بِحُكْمِهِ} بما يحكمُ بهِ وهو الحقُّ أو بحكمتِه ويؤيده أنه قرئ بحُكمه {وَهُوَ العزيز} فلا يردُّ حكمُه وقضاؤُه {العليم} بجميعِ الأشياءِ التي مِنْ جُملتها ما يقضى بهِ والفاءُ في قوله تعالى
{فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} لترتيبِ الأمرِ على ما ذكر من شئونه عز وجل فإنَّها موجبةٌ للتوكلِ عليهِ وداعيةٌ إلى الأمرِ بهِ أي فتوكَّل عَلى الله الذي هَذا شأنُه فإنَّه موجبٌ على كلِّ أحدٍ أنْ يتوكلَ عليهِ ويفوض جميعَ أمورِه إليهِ وقولُه تعالى {إِنَّكَ عَلَى الحق المبين} تعليلٌ صريحٌ للتَّوكلِ عليه تعالَى بكونه عليه الصلاة والسلام على الحقِّ البيِّنِ أو الفاصلِ بينَهُ وبينَ الباطلِ أو بين المحق والمبطل فإنَّ كونَهُ عليه الصلاة والسلام كذلكَ ممَّا يُوجبُ الوثوقَ بحفظِه تعالى ونُصرتِه وتأييدِه لا محالةَ وقولُه تعالَى
الخ تعليلٌ آخرُ للتَّوكلِ الذي هو عبارة عن التبتُل إلى الله تعالَى وتفويضِ الأمرِ إليهِ والإعراضِ عن التشبث بما سواه وقد عُلِّل أولاً بما يُوجبه من جهتِه تعالى أعني قضاءَهُ بالحقِّ وعزَّتِه وعلمهِ تعالى وثانياً بما يُوجبه من جهتِه عليه الصلاة والسلام على أحدِ الوجهينِ أعنِي كونَه عليه الصلاة والسلام على الحقِّ ومن جهتِه تعالى على الوجهِ الآخرِ أعني إعانتَه تعالى وتأييده للمحق ثم عُلِّل ثالثاً بما يُوجبه لكنْ لا بالذَّاتِ بل بواسطةِ إيجابِه للإعراضِ عن التشبث بما سواه تعالى فإنَّ كونَهم كالمَوتى والصُمِّ والعُمْي موجبٌ لقطعِ الطمعِ عن مشايعتِهم ومعاضدتِهم رأساً وداعٍ إلى تخصيصِ الاعتضادِ به تعالى وهو المعنى بالتَّوكل عليه تعالى وإنَّما شُبِّهوا بالموتى لعدمِ تأثرِهم بما يُتلى عليهم من القوارعِ وإطلاقُ الإِسماعِ عن المفعولِ لبيانِ عدمِ سماعهم لشيءٍ من المسموعاتِ ولعل المراد تشببه قلوبِهم بالمَوتى فيما ذُكر من عدمِ الشُّعور فإنَّ القلبَ مَشعرٌ من المشاعرِ أشُير إلى بطلانِه بالمرةِ ثم بُيِّن بطلانُ مشعري الأذنِ والعينِ كما في قولِه تعالى لَهُمْ قُلُوبٌ لَاّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَاّ يُبْصِرُونَ يبصرون بها وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا وإلا فبعد تشبيهِ أنفسِهم بالمَوتى لا يظهر لتشبيهِهم بالصُّمِّ والعمى مزيد مزية {وَلَا تُسْمِعُ الصم الدعاء} أي الدَّعوةَ إلى أمرٍ من الأمُور وتقييدُ النفيِّ بقولِه تعالى {إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ} لتكميلِ التشبيهِ وتأكيدِ النفيِّ فإنَّهم مع صَمَمِهم عن الدُّعاء إلى الحقِّ معُرضونَ عن الدَّاعي مولُّون على أدبارِهم ولا ريبَ في أنَّ الأصمَّ لا يسمعُ الدُّعاءَ مع كونِ الدَّاعِي بمقابلةِ صُماخه قريباً منه فكيفَ إذا كانَ خلفَهُ بعيدا منه وقرئ ولا يسمع الصم الدعاء
{وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى عَن ضلالتهم} هدايةً موصِّلةً إلى المطلوبِ كما في قولِه تعالى إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ فإنَّ الاهتداءَ منوطٌ بالبصرِ وعن متعلِّقِةٍ بالهدايةِ باعتبارِ تضمنِه معنى الصَّرفِ وقيل بالعمى يقال عمى عن كذا وفيهِ بعدٌ وإيرادُ الجملةِ الاسميةِ للمُبالغةِ في نفي الهداية وقرئ وما أنت تَهدي العُميَ {إِن تُسْمِعُ} أي ما تُسمع سماعاً يُجدي السامعَ نفعاً {إِلَاّ مَن يُؤْمِنُ بآياتنا} أي مِن شأنِهم الإيمانُ بها وإيرادُ الإسماعِ في النفيِّ والإثباتِ دونَ الهدايةِ مع قُربها بأنْ يقالَ إنْ تُهدي إلا مَن يُؤمن الخ لِما أنَّ طريقَ الهدايةِ هو إسماعُ الآياتِ التنزيليَّةِ {فَهُم مُّسْلِمُونَ} تعليلٌ لإيمانِهم بَها كأنَّه قيلَ فإنَّهم مُنقادونَ للحقَّ وقيلَ مُخلصون لله تعالى من قولِه تعالى بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ
{وَإِذْا وَقَعَ القول عَلَيْهِم} بيانٌ لما أُشير إليه بقولِه تعالى بَعْضُ الذى تَسْتَعْجِلُونَ من بقيةِ ما يستعجلونَهُ من السَّاعةِ ومباديها والمُرادُ بالقولِ ما نطقَ من الآيات الكريمة بمجئ السَّاعةِ وما فيها مِنْ فُنونِ الأَهوالِ التي كانُوا يستعجلُونها وبوقوعِه قيامُها وحصولُها عبَّر عن ذلكَ به للإيذان بشدَّةِ وقعِها وتأثيرِها وإسنادُه إلى القولِ لِما أنَّ المرادُ بيانُ وقوعِها منْ حيثُ إنَّها مصداقٌ للقولِ النَّاطقِ بمجيئها وقد أُريدَ بالوقوعِ دُنوُّه واقترابُه كما في قوله تعالى أتى أَمْرُ الله أي إذا دَنَا وقوعُ مدلولِ القولِ
المذكورِ الذي لا يكادُون يسمعونَهُ ومصداقُه {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مّنَ الأرض} وهي الجسَّاسةُ وفي التَّعبيرِ عنها باسمِ الجنسِ وتأكيدُ إبهامِه بالتَّنوينِ التفخيميِّ من الدِّلالةِ على غَرَابةِ شأنِها وخروجِ أوصافِها عن طور البيانُ ما لا يخفى وقد وردَ في الحديثِ أنَّ طولها ستُّون ذراعاً لا يدركها طالبٌ ولا يفوتها هارب وروي أن لها أربع قوائم ولها زغب وريشٌ وجناحانِ وعن ابن جُريجٍ في وصفِها رأسُ صور وعين خنزير وأذن قيل وقرنُ أيلُ وعنقُ نعامةٍ وصدرُ أسدٍ ولونُ نمرٍ وخاصرةُ هرةٍ وذَنَبُ كبشِ وخُفُّ بعيرٍ وما بين المفصلينِ اثنا عشرَ ذراعاً بذراعِ آدمَ عليه السلام وقال وهبٌ وجهُها وجه الرَّجلِ وباقي خَلقِها خَلْقُ الطَّيرِ ورُوي عن عليَ رضي الله عنه أنَّه قال ليس بدابةٍ لها ذنبٌ ولكنْ لها لحيةٌ كأنه يشير إلى أنه رجلٌ والمشهورُ أنَّها دابَّةٌ وروي لا تخرجُ إلا رأسُها ورأسُها يبلغُ عنانَ السَّماءِ أو يبلغُ السَّحابَ وعن أبي هريرةَ رضيَ الله تعالى عنه فيها كلُّ لونٍ ما بينَ قَرنيها فرسخٌ للرَّاكبِ وعن الحسنِ رضي الله عنه لا يتمُّ خروجُها إلا بعدَ ثلاثةِ أيَّام وعنْ علي رضي الله عنه أنَّها تخرجُ ثلاثَة أيَّامٍ والنَّاسُ ينظرونَ فلا يخرجُ كلَّ يومٍ إلا ثلثُها وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه سُئل من أين تخرجُ الدَّابةُ فقال من أعظمِ المساجدِ حرمةً على الله تعالى يعني المسجدَ الحرامَ ورُوي أنَّها تخرجُ ثلاثَ خرجاتٍ تخرجُ بأقصى اليمن ثم تتكمن ثم تخرجُ بالباديةِ ثم تتكمن دهراً طويلاً فبينا النَّاسُ في أعظمِ المساجدِ حرمةً على الله تعالى وأكرمِها فما يهولُهم إلا خروجُها من بينِ الركنِ حذاءً دار بني مخزومِ عن يمين الخارجِ من المسجد فقومٌ يهربون وقومٌ يقفون نظارةً وقيل تخرجُ من الصفاو روى نبينا عيسى عليه السلام يطوفُ بالبيتِ ومعه المُسلمون إذْ تضطربُ الأرضُ تحتهم تحرُّكَ القنديلِ وينشقُّ الصَّفا مَّما يلِي المَسْعى فتخرجُ الدَّابةُ من الصَّفا ومعها عصا مُوسى وخاتمُ سليمانَ عليهما السلام فتضربُ المؤمنَ في مسجدِه بالعصَا فتنكتُ نُكتةً بيضاء فتفشو حتى يضء لها وجهُه وتكتبُ بين عينيهِ مؤمنٌ وتنكتُ الكافرَ بالخاتمِ في أنفهِ فتفشُو النكتةُ حتَّى يسودَّ لها وجهُه وتكتبُ بين عينيهِ كافرٌ ثم تقولُ لهم أنتَ يا فلانُ من أهل الجنَّة وأنتَ يا فلانُ من أهل الجنَّة وانتلا يا فلان من أهل النَّارِ ورُوي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنه قرع الصفا بعصاء وهو مُحرمٌ وقال إنَّ الدَّابةَ لتسمعُ قرعَ عصايَ هذه ورَوَى أبُو هريرةَ عن النبي صلى اله عليه وسلم أنَّه قال بئسَ الشّعبُ شِعبُ أجيادٍ مرتينِ أو ثلاثاً قيلَ ولم ذاكَ يا رسولَ الله قالَ تخرجُ منه الدَّابةُ فتصرخُ ثلاثَ صرخاتٍ يسمعُها مَن بين الخافقينِ فتتكلمُ بالعربيةِ بلسانٍ ذلقٍ وذلك قولُه تعالى {تُكَلّمُهُمْ أَنَّ الناس كانوا بآياتنا لَا يُوقِنُونَ} أي تُكلمهم بأنَّهم كانُوا لا يُوقنون بأياتِ الله تعالى النَّاطقةِ بمجئ السَّاعة ومباديها أو بجميع آياته التي من جملتها تلك الآياتُ وقيل بآياته التي من جُملتها خروجُها بينَ يدي السَّاعةِ والأولُ هو الحقُّ كما سُتحيط به علما وقرئ بأنَّ النَّاس الآيةَ وإضافةُ الآياتِ إلى نُونِ العظمةِ لأنَّها حكايةٌ منه تعالى لمعنى قولِها لا لعينِ عبارتِها وقيل لأنَّها حكايةٌ منها لقولِ الله عز وجل وقيل لاختصاصِها به تعالى وأثرتِها عنده كما يقولُ بعضُ خواصِّ الملكِ خيلُنا وبلادُنا وإنَّما الخيلُ والبلادُ لمولاهُ وقيلَ هناكَ مضافٌ محذوفٌ أي بآياتِ ربِّنا ووصفُهم بعدمِ الإيقانِ بها معَ أنَّهم كانُوا جاحدينَ بها للإيذانِ بأنَّه كانَ من حقِّهم أنْ يُوقنوا بها ويقطعُوا بصحتها وقد اتصفوا بنقيضه وقرئ إنَّ النَّاس بالكسرِ على إضمارِ القولِ أو إجراءِ الكلامِ مَجراهُ والكلامُ في الإضافةِ كالذي سبقَ وقيل هو استئنافٌ مَسوقٌ من جهتِه تعالَى لتعليلِ إخراجِها أو تكليمِها ويردُّه الجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل
سورة النمل (83 95) فإنَّه صريحٌ في كونِه حكايةً لعدمِ إيقانِهم السابقِ في الدُّنيا والمرادُ بالنَّاسِ إمَّا الكَفَرةُ على الإطلاقِ أو مُشركو مكَّةَ وقد رُوي عن وهْبٍ أنَّها تخبرُ كل مَن تراهُ أنَّ أهلَ مكَّةَ كانُوا بمحمدٍ والقرآنِ لا يوُقنون وقرئ تُكلِّمهم مِن الكَلْمِ الذي هو الجُرْحُ والمُرادُ به ما نُقلِ من الوسمِ بالعَصَا والخاتمِ وقد جُوِّزَ كونُ القراءةِ المشهورةِ أيضاً منه لمعنى التَّكثيرِ ولا يخفى بعدُه
{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمَّةٍ فَوْجاً} بيانٌ إجماليٌّ لحال المُكذِّبينَ عند قيامِ السَّاعةِ بعد بيانِ بعضِ مَبَاديها ويومَ منصوبٌ بمضمرٍ خوطبَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم والمرادُ بهذا الحشرِ هو الحشرُ للعذابِ بعدَ الحشرِ الكُليِّ الشَّاملِ لكافَّةِ الخَلْق وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادث قد مر بيانُ سرِّه مراراً أي واذكرُ لهم وقتَ حشرنا أي جمعِنا مِن كُلّ أمَّةٍ من أممِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام أو من أهلِ كلِّ قَرن من القُرون جماعةً كثيرةً فمن تبعيضيةٌ لأنَّ كلَّ أمةٍ منقسمةٌ إلى مصدَّقٍ ومكذِّبٍ وقولُه تعالى {مّمَّن يكذب بآياتنا} بيانُ للفوجِ أي فوجاً مكذبين بها {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي يحبس أولهم على أخرِهم حتىَّ يتلاحقُوا ويجتمعُوا في موقف التوبيخ والمنافشة وفيه من الدلالة على كثرةِ عددِهم وتباعُدِ أطرافِهم ما لَا يخفي وعن ابن عباس رضي الله عنهما أبوُ جهلٍ والوليدِ بن المُغيرة وشَيُبةُ بنُ ربيعةَ يُساقون بين يَدَي أهلِ مكَّةَ وهكذا يُحشر قادةُ سائرِ الأُمم بينَ أيديهم إلى النَّارِ
{حتى إذا جاؤوا} إلى موقفِ السُّؤالِ والجَوَاب والمُناقشةِ والحسابِ {قَالَ} أي الله عز وجل موبَّخاً لهم على التَّكذيبِ والالتفاتِ لتربية المهابة {أكذبتم بآياتي} النَّاطقةِ بلقاءِ يومِكم هذا وقولُه تعالى {وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً} جملةٌ حاليَّةٌ مفيدةٌ لزيادةِ شَنَاعة التَّكذيبِ وغايةِ قُبْحهِ ومؤكدةٌ للإنكارِ والتَّوبيخِ أي أكذَّبتُم بها بادئ الرَّأي غيرَ ناظرينَ فيها نظراً يُؤدِّي إلى العلمِ بكُنهِها وأنَّها حقيقةٌ بالتَّصديقِ حَتماً وهذا نصٌ في أنَّ المرادَ بالآياتِ فيما سلف في الموضعينِ هي الآياتُ القُرآنيةُ لأنَّها هيَ المُنطويةُ على دَلائلِ الصِّحةِ وشواهدِ الصِّدقِ التي لم يُحيطوا بها علماً مع وجُوبِ أنْ يتأمَّلوا ويتدبَّروا فيها لا نفسُ السَّاعة وما فيها وقيلَ هو معطوفٌ على كذَّبتم أي أجمعتُم بين التكذيب وعدم التَّدبرِ بها {أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي أمْ أيُّ شيءٍ كنتم تعملون بها أو أمْ أيُّ شيءٍ كنتُم تعملون غيرَ ذلكَ بمعنى أنَّه لم يكُن لهم عملٌ غيرُ ذلكَ كأنَّهم لم يُخلقوا إلا للكفر والمَعَاصي مع أنَّهم ما خُلقوا إلا للإيمانِ والطَّاعةِ يخاطبون بذلك تبكيا ثم يُكبُّون في النَّار وذلك قولُه تعالى
{وَوَقَعَ القول عَلَيْهِم} أي حلَّ بهم العذابُ الذي هو مدلولُ القولِ النَّاطقِ بحلولِه ونزولِه {بِمَا ظَلَمُواْ} بسببِ ظُلمِهم الذي هو تكذيبُهم بآياتِ الله {فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ} لانقطاعِهم عن الجوابِ بالكُلِّية وابتلائِهم بشغلٍ شاغلٍ من العذابِ الأليمِ
سورة النمل (86 87)
{أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ} الرؤيةٌ قلبية لا بصريةٌ لأنَّ نفسَ الليلِ والنَّهارِ وإنْ كانَا من المُبصرات لكن جعلُهما كما ذُكر من قبيلِ المعقولاتِ أي ألم يعلموا أنَّا جعلنا الليل بما فيهِ من الإظلامِ ليستريحُوا فيه بالنَّومِ والقرارِ {والنهار مُبْصِراً} أي ليبُصروا بما فيهِ من الإضاءةِ طرقَ التقلبِ في أمورِ المعاش فبُولغَ فيه حيثُ جُعل الإبصارُ الذي هو حالُ النَّاسِ حالاً له ووصفاً من أوصافِه التي جُعل عليها بحيثُ لا ينفكُّ عنها ولم يسلك في الليلِ هذا المسلكَ لما أنَّ تأثيرَ ظلامِ الليَّلِ في السُّكونِ ليس بمثابةِ تأثيرِ ضَوْء النَّهارِ في الأبصارِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في جعلِهما كما وُصفا وما في اسمِ الإشارةِ من معنى البعد للإشعارِ ببُعدِ درجتِه في الفضلِ {لأَيَاتٍ} أي عظيمةً كثيرةً {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} دالةٌ على صحَّةِ البعثِ وصدقِ الآياتِ النَّاطقةِ به دلالةً واضحةً كيف لا وإنَّ مَن تأمَّلَ في تعاقُبِ اليل والنهارِ واختلافِهما على وجوه بديعةٍ مبنيةٍ على حِكَمٍ رائقة تحار في فهمها العقول ولا يُحيطُ بها إلا الله عز وجل وشاهدَ في الآفاقِ تبدلَ ظُلمةِ الليلِ المحاكيةِ للموتِ بضياءِ النهار المضاهي للحية وعاينَ في نفسِه تبدلَ النَّومِ الذي هُو أخوُ الموتِ بالانتباه الذي هو مثلُ الحَيَاةِ قَضَى بأنَّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنَّ الله يبعثُ مَنْ في القبورِ قضاءً متقناً وجزمَ بأنَّه تعالى قد جعلَ هذا أُنموذجاً له ودليلاً يستدلُّ به على تحققِه وأنَّ الآياتِ الناطقةَ به وبكونِ حالِ اللَّيل والنهار بُرهاناً عليهِ وسائرَ الآياتِ كلِّها حقٌّ نازلٌ من عندِ الله تعالى
{وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور} إمَّا معطوفٌ على يومَ نحشرُ منصوبٌ بناصبِه أو بمضمرٍ معطوفٍ عليه والصُّور هُو القَرْنُ الذي ينفخُ فيه إسرافيلُ عليه السلام عن أبي هريرةَ رضي الله عنه إن رسولَ الله صلى اله عليه وسلم قالَ لمَّا فرغَ الله تعالى مِن خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ خلقَ الصُّور فأعطاهُ إسرافيلَ فهُو واضُعه على فيهِ شاخصٌ بصرُه إلى العرشِ متى يُؤمر قال قلتُ يا رسولَ الله ما الصُّور قال القَرنُ قال قلتُ كيف هُو قال عظيمٌ والذي نفسي بيدِه إنَّ عظَم دارةٍ فيه كعرضِ السماءِ والأرضِ فيُؤمر بالنَّفخِ فيه فينفُخ نفخةً لا يبقَى عندها في الحياةِ أحدٌ غيرُ مَن شاءَ الله تعالى وذلكَ قولُه تعالى وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فى السموات ومن فى الأرض إِلَاّ مَن شَاء الله ثم يُؤمر بأُخرى فينفُخ نفخةً لا يبقَى معها ميتٌ إلا بُعث وقامَ وذلكَ قولُه تعالى ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ والذي يستدعيِه سِباقُ النظمِ الكريمِ وسياقُه أنَّ المرادَ بالنَّفخ هَهُنا هي النفخة الثانية وبالفزعِ في قولِه تعالى {فَفَزِعَ مَن فِى السماوات وَمَن فِى الأرض} ما يعتري الكلَّ عند البعثِ والنِّشورِ بمشاهدةِ الأمورِ الهائلةِ الخارقةِ للعاداتِ في الأنفس والآفاق من الرُّعبِ والتَّهيبِ الضروريين الجبلين وإيراد صيغة الماضي مع كونِ المعطوفِ عليه أعني ينفخُ مضارعاً للدِّلالةِ على تحققِ وقوعِه إثرَ النَّفخِ ولعلَّ تأخيرَ بيانِ الأحوالِ الواقعةِ عند ابتداءِ النَّفخةِ عن بيانِ ما يقعُ بعدها من حشرِ المكذبينَ من كلِّ أُمَّة لتثنيةِ التَّهويل بتكريرِ التَّذكيرِ إيذاناً بأنَّ كلَّ واحدٍ منهما
سورة النمل (88) طَّامةٌ كُبرى وداهيةٌ دهياء حقيقة بالتَّذكيرِ على حيالِها ولو رُوعي الترتيبُ الوقوعيُّ لربما توهم أن الكل داهيةٌ واحدةٌ قد أُمر بذكرِها كما مرَّ في قصَّةِ البقرةِ {إِلَاّ مَن شَاء الله} أي أنْ لا يفزعَ قيلَ هُم جبريلُ وميكائيلُ وإسرافيلُ وعزرائيلُ عليهم السلام وقيلَ الحُورُ والخزنة وحَمَلةُ العَرْشِ {وَكُلٌّ} أي كلَّ واحدٍ من المبعوثينَ عند النَّفخةِ {أَتَوْهُ} حضُروا الموقف بين يدي ربَّ العِزَّة جل جلاله للسؤالِ والجواب والمناقشة والحساب وقرئ أَتَاهُ باعتبارِ لفظِ الكلِّ كَما أنَّ القراءةَ الأُولى باعتبار معناه وقرئ آتُوه أي حاضِرُوه {داخرين} أي صاغرين وقرئ دَخِرينَ وقولُه تعالى
{وَتَرَى الجبال} عطفٌ على يُنفخ داخلٌ في حكمِ التَّذكيرِ وقولُه عز وجل {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} أي ثابتةً في أماكنِها إمَّا بدلٌ منه أو حالٌ من ضميرِ تَرَى أو من مفعولِه وقولُه تعالى {وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} حالٌ من ضميرِ الجبالِ في تحسبُها أو في جامدةً أي تَرَاها رأيَ العينِ ساكنةً والحالُ أنَّها تمرُّ مرَّ السَّحابِ التي تسيرها الرِّياح سيراً حثيثاً وذلكَ أنَّ الأجرامَ العظامَ إذا تحركتْ نحوَ سمتٍ لا تكادُ تتبينُ حركتُها وعليهِ قولُ مَنْ قالَ
…
بأر عن مثلِ الطَّوْدِ تحسَب أنَّهم
…
وقوفٌ لحاجٍ والرِّكابُ تُهَمْلِجُ
…
وقد أُدمج في هذا التشبيه حالِ الجبالِ بحالِ السَّحابِ في تخلخل الأجزاءِ وانتفاشِها كما في قوله تعالى وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش وهذا أيضاً ممَّا يقعُ بعد النَّفخةِ الثَّانيةِ عندَ حشرِ الخلقِ يُبدِّلُ الله عز وجل الأرضَ غيرَ الأرضَ ويغيرُ هيآتِها ويُسيِّر الجبالَ عن مقارِّهَا عَلى ما ذُكر من الهيئةِ الهائلةِ ليُشاهدَها أهلُ المحشرِ وهيَ وإنِ اندكتْ وتصدعتْ عند النَّفخةِ الأولى لكنْ تسييرُها وتسويِةُ الأرضِ إنَّما يكونانِ بعد النَّفخةِ الثانيةِ كما نطقَ به قوله تعالى ويسألونك عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صفصا لا ترى فيها عوجا وَلا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى وقولُه تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسمواتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحدِ الْقَهَّارِ فإنَّ اتّباعَ الدَّاعِي الذي هُو إسرافيلُ عليه السلام وبروزُ الخلقِ لله تعالى لا يكونُ إلا بعدَ النَّفخةِ الثَّانيةِ وقد قالُوا في تفسيرِ قولِه تعالى وَيَوْمَ نُسَيّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً وحشرناهم إنَّ صيغةَ الماضِي في المعطوفِ مع كونِ المعطوفِ عليه مُستقبلاً للدِّلالةِ على تقدمِ الحشر على التسيير والرؤوية كأنه قيل وحشرناهم قبل ذلك هذا وقد قيلَ إنَّ المرادَ هي النَّفخةُ الأُولى والفزعُ هو الذي يستتبعُ الموتَ لغايةِ شدَّةِ الهولِ كما في قولِه تعالى فَصَعِقَ مَن فِى السموات ومن فى الأرض الآية فيختص أثرها بما كانَ حياً عندَ وقوعِها دُونَ مَن ماتَ قبلَ ذلك من الأُمم وجُوِّز أنَّ يرادَ بالإتيانِ داخرينَ رجوعُهم إلى أمرِه تعالى وانقيادُهم له ولا ريبَ في أنَّ ذلك ممَّا ينبغي أن ينزه ساحة التنزيل عن أمثاله وأبعدُ مِن هذا ما قبل إنَّ المرادَ بهذه النَّفخةِ نفخةُ الفزعِ التي تكونُ قبل نفخةِ الصَّعقِ وهي التي أريدتْ بقولِه تعالى ما ينظر هَؤُلآء إِلَاّ صَيْحَةً واحدة مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ فيسيِّرُ الله تعالى عندها الجبالَ فتمرُّ مرَّ السَّحابِ فتكون سراباً وتُرجُّ الأرضُ بأهلِها رجَّاً فتكون كالسَّفينةِ الموثقة في البحرِ أو كالقنديلِ المعلَّق ترججه الأرواحُ
سورة النمل (89 90) فإنَّه ممَّا لا ارتباطَ له بالمقامِ قطعاً والحقُّ الذي لا محيدَ عنه ما قدمناه ومَّما هُو نصٌّ في البابِ ما سيأتِي من قولِه تعالى وَهُمْ مّن فزع يومئذ آمنون {صنع الله} مصدرٌ مؤكّدٌ لمضمون ما قبله أي صنعَ الله ذلك صُنعاً على أنَّه عبارةَ عمَّا ذُكر من النَّفخِ في الصُّورِ وما ترتَّب عليهِ جميعاً قُصد به التنبيهُ على عظَمِ شأنِ تلك الأفاعيلِ وتهويلِ أمرِها والإيذانُ بأنَّها ليستْ بطريقِ إخلالِ نظامِ العالمِ وإفسادِ أحوالِ الكائناتِ بالكُلِّية من غيرِ أنْ يدعوَ إليها داعيةٌ أو يكونَ لها عاقبةٌ بل هي من قبيلِ بدائعِ صنعِ الله تعالى المبنية على أساسِ الحكمةِ المستتبعةِ للغاياتِ الجميلةِ التي لأجلِها رُتبت مقدماتُ الخلق ومبادئ الإبداعِ على الوجهِ المتينِ والهج الرَّصينِ كما يُعرب عنه قولُه تعالى {الذى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء} أي أحكَم خلقَهُ وسوَّاهُ على ما تقتضيِه الحكمةُ وقولُه تعالى {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} تعليلٌ لكون ما ذُكر صُنعاً مُحكماً له تعالى ببيانِ أنَّ عِلمَهُ تعالى بظواهرِ أفعالِ المُكلفينَ وبواطنِها مَّما يدعُو إلى إظهارِها وبيانِ كيفيَّاتِها على ما هي عليه من الحسن والسُّوء وترتيب أجزيتها عليها بعد بعثهم وحشرِهم وجعلُ السَّمواتِ والأرضِ والجبالِ على وُفقِ ما نطقَ به التَّنزيلُ ليتحققُوا بمشاهدةِ ذلك أن وعد حقٌّ لا ريب فيه وقرئ خبيرٌ بما يفعلونَ وقولُه تعالى
{مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا} بيانٌ لما أُشير إليه بإحاطةِ علمِه تعالى بأفعالِهم من ترتيبِ أجزيتِها عليها أي مَن جاءَ منكُم أو من أولئكَ الذين أتَوه تعالى بالحسنة فله من الجزاءِ ما هو خيرٌ منها إمَّا باعتبارِ أنَّه أضعافُها وإمَّا باعتبارِ دوامِه وانقضائِها وقيلَ فلُه خيرٌ حاصلٌ من جهتِها وهو الجنَّةُ وعن ابن عباس رضي الله عنهما الحسنةُ كلمةُ الشَّهادةِ {وَهُمْ} أي الذينَ جاءوا بالحسناتِ {مّن فَزَعٍ} أي عظيمٍ هائل لَا يقادَر قدرُه وهُوَ الفزعُ الحاصِلُ من مشاهدة العذابِ بعد تمامِ المُحاسبةِ وظهورِ الحَسَنات والسيئاتِ وهُو الَّذي في قولِه تعالى لَا حزنهم الفزع الأكبر وعنِ الحَسَنِ رحَمهُ الله تعالى حينَ يُؤمر بالعبدِ إلى النَّارِ وقالَ ابنُ جريجٍ حينَ يذُبح الموتُ ويُنادِي المنادي يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت {يومئذ} أي يوم إذ ينفخ في الصور {آمنون} لا يعتريهم ذلكَ الفزعُ الهائلُ ولا يلحقهم ضررُه أصلاً وأما الفزعُ الذي يعتري كلَّ مَن فى السموات ومن فى الأرض غيرَ مَنِ استثناه الله تعالى فإنَّما هو التَّهيبُ والرُّعبُ الحاصلُ في ابتداءِ النَّفخةِ من معاينةِ فنونِ الدَّواهي والأهوالِ ولا يكادُ يخلُو منه أحدٌ بحكم الجبلَّةِ وإنْ كان آمِناً من لُحوق الضَّررِ والأمنُ يُستعمل بالجارِّ وبدونِه كما في قولِه تعالى أَفَأَمِنُواْ مكر الله وقرئ من فزع يومئذ بالإضافة مع كسر الميم وفتحِها أيضاً والمرادُ هو الفزعُ المذكورُ في القراءةِ الأُولى لا جميعُ الأفزاعِ الحاصلةِ يومئذٍ ومدارُ الإضافةِ كونُه أعظمَ الأفزاعِ وأكبرُها كأنَّ ما عداهْ ليس بفزعٍ بالنسبةِ إليهِ
{وَمَن جَاء بالسيئة} قيل هو الشركُ {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النار} أي كُبُّوا فيها على وجوهِهم منكوسين أو كُبَّت فيها أنفسُهم على طريقةِ وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَاّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} على الالتفاتِ للتَّشديدِ أو على إضمارِ القولِ أي مقولاً لهم ذلك
سورة النمل (91 92)
{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ البلدة الذى حرمها} أمر صلى الله عليه وسلم أنْ يقولَ لهم ذلك بعد ما بيَّن لهم أحوالَ المبدأِ والمعادِ وشرحَ أحوالَ القيامةِ تنبيهاً لهم على أنَّه قد أتمَّ أمرَ الدَّعوةِ بما لا مزيدَ عليهِ ولم يبقَ له صلى الله عليه وسلم بعد ذلك شأنٌ سوى الاشتغالِ بعبادةِ الله عز وجل والاستغراقِ في مُراقبتهِ غيرَ مُبالٍ بهم ضلُّوا أمْ رشدُوا صلحُوا أو فسدُوا ليحملَهم ذلك على أنْ يهتمُّوا بأمورِ أنفسِهم ولا يتوهَّمُوا من شدَّةِ اعتنائه صلى الله عليه وسلم بأمر دعوتهم أنه صلى الله عليه وسلم يُظهر لهم ما يُلجئهم إلى الإيمانِ لا محالةَ ويشتغلوا بتداركِ أحوالِهم ويتوجَّهُوا نحوَ التَّدبرِ فيما شاهدُوه من الآياتِ الباهرةِ والبلدةُ هي مكَّةُ المعظمةُ وتخصيصُها بالإضافةِ لتفخيمِ شأنِها وإجلال مكانها والتعرف لتحريمهِ تعالى إيَّاها تشريفٌ لها بعد تشريفٍ وتعظيمٌ إثرَ تعظيمٍ مع ما فيه من الإشعارِ بعلَّةِ الأمرِ وموجبِ الامتثالِ به كما في قوله تعالى فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وآمنهم مّنْ خوْفٍ ومن الرَّمزِ إلى غايةِ شَنَاعةِ ما فعلُوا فيها ألا يَرَى أنَّهم مع كونِها محرَّمةً من أنْ تنتهكَ حرمتُها باختلاءِ خلاها وعضْدِ شجرِها وتنفيرِ صيدِها وإرادةِ الإلحادِ فيها بوجهٍ من الوجوهِ قد استمرُّوا فيها على تعاطِي أفجرِ أفرادِ الفُجور وأشنعِ آحادِ الإلحادِ حيثُ تركُوا عبادةَ ربَّها ونصبُوا فيها الأوثانَ وعكفُوا على عبادتِها قاتلَهم الله أنَّى يُؤفكون وقرئ حَرَمَها بالتَّخفيفِ وقولُه تعالى {وَلَهُ كُلُّ شَىء} أي خلقاً وملكاً وتصرُّفاً من غير أن يشاركه شيء في شيء من ذلك تحقيقٌ للحقِّ وتنبيهٌ على أنَّ إفرادَ مكَّةَ بالإضافةِ لما ذُكر من التَّفخيمِ والتَّشريفِ مع عُمومِ الرُّبوبيةِ لجميعِ الموجُوداتِ {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} أي أثبت على ما كنتُ عليهِ من كونِي من جُملةِ الثَّابتين على ملَّة الإسلامِ والتَّوحيدِ أي الذين أسلمُوا وجوهَهم لله خالصةً من قوله تعالى وَمَن أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ
{وأن أتلو القرآن} أي أواظبَ على تلاوتِه لتنكشفَ لي حقائقُه الرائعةُ المخزونةُ في تضاعيفهِ شيئاً فشيئاً أو على تلاوتِه على النَّاسِ بطريقِ تكريرِ الدَّعوةِ وتثنيةِ الإرشادِ فيكونَ ذلك تنبيهاً على كفايتهِ في الهدايةِ والإرشادِ منْ غيرِ حاجةٍ إلى إظهارِ مُعجزةٍ أُخرى فمعنى قولِه تعالى {فَمَنُ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ} حينئذٍ فَمَنُ اهتدى بالإيمانِ به والعملِ بما فيهِ من الشَّرائعِ والأحكامِ وعلى الأولِ فمنِ اهتدَى باتَّباعِه إيَّاي فيما ذُكر من العبادةِ والإسلامِ وتلاوةِ القُرآن فإنَّما منافعُ اهتدائهِ عائدةٌ إليهِ لا إليَّ {وَمَن ضَلَّ} بالكفرِ به والإعراضِ عن العملِ بما فيه أو بمُخالِفتي فيما ذُكر {فَقُلْ} في حقَّه {إِنَّمَا أَنَاْ مِنَ المنذرين} وقد خرجتُ عن عُهدة الإنذارِ فليسَ عليَّ من وبالِ ضلالِه شيءٌ وإنَّما هو عليه فقط
سورة النمل (93)
{وَقُلِ الحمد لِلَّهِ} أي علَى ما أفاضَ عليَّ من نعمائِه التي أجلُّها نعمةُ النُّبوةِ المستتبعةِ لفنونِ النِّعمِ الدِّينيةِ والدُّنيويةِ ووفَّقنِي لتحمل أعبائِها وتبليغِ أحكامِها إلى كافَّة الوَرَى بالآياتِ البينةِ والبراهينِ النيرةِ وقولُه تعالى {سيريكم آياته} من جُملةِ الكلامِ المأمورِ به أي سيُريكم البتةَ في الدُّنيا آياتِه الباهرةَ التي نطقَ بها القرآنُ كخروجِ الدابةِ وسائرِ الأشراطِ وقد عُدَّ منها وقعةُ بدرٍ ويأباهُ قولُه تعالى {فَتَعْرِفُونَهَا} أي فتعرفونَ أنَّها آياتُ الله تعالى حينَ لا تنفعُكم المعرفةُ لأنَّهم لا يتعرفون بكونِ وقعةِ بدرٍ كذلك وقيل سيُريكم في الآخرةِ وقولُه تعالَى {وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} كلامٌ مسوقٌ من جهتِه تعالى بطريقِ التَّذييلِ مقررٌ لما قبلَه متضمنٌ للوعدِ والوعيدِ كما ينبئ عنه إضافةُ الربِّ إلى ضمير النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتخصيصُ الخطابِ أولاً به صلى الله عليه وسلم وتعميمُه ثانياً للكَفَرةِ تغليباً أيْ وَمَا رَبُّكَ بغافلٍ عَمَّا تعملُ أنتَ من الحسناتِ وما تعملونَ أنتُم أيُّها الكفرةُ من السيئاتِ فيُجازي كُلاًّ منكم بعملِه لا محالة وقرئ عمَّا يعملُون على الغَيبةِ فهُو وعيدٌ محضٌ والمعنى وما ربُّك بغافلٍ عن أعمالِهم فسيعذبُهم البتةَ فلا يحسبُوا أنَّ تأخيرَ عذابِهم لغفلتِه تعالى عن أعمالِهم الموجبةِ له والله تعالى أعلم عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَن قرأَ سورةَ طس كان له منَ الأجرِ عشرَ حسناتٍ بعدد من صدق بسليمان وهو وصالحٍ وإبراهيمَ وشُعيبٍ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ ومن كذَّب بهم ويخرجُ من قبرِه وهو ينادي لا له إلا الله
تم بحمد الله الجزء السابع ويليه الجزء الثامن وأوله سورة القصص قوله (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) التلاوة فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ وحينئذ فلا حاجة لبيان نكتة التعبير بالربوبية المضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام بقوله (وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ الخ)