المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

سورة الفرقان - تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم - جـ ٦

[أبو السعود]

الفصل: سورة الفرقان

سورة الفرقان

ص: 208

‌17

- 1 {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) نُصب على أنَّه مفعول لمضمرٍ مقدَّمٍ معطوف على قوله تعالى قل أذلك الخ أي واذكر لهم بعد التَّقريعِ والتَّحسيرِ يوم يحشرهم الله عز وجل وتعليقُ التَّذكيرِ باليوم مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادثِ الهائلةِ قد مرَّ وجُهه غيرَ مرَّةٍ أو على أنَّه ظرفٌ لمضمرٍ مؤخَّرٍ قد حُذف للتَّنبيةِ على كمال هو له وفظاعةِ ما فيه والإيذانِ بقُصورِ العبارةِ عن بيانِه أي يومَ يحشرُهم يكون من الأحوالُ والأهوالُ ما لا يفي ببيانِه المقالُ وقرئ بنونِ العظمةِ بطريقِ الالتفاتِ من الغَيبةِ إلى التَّكلمِ وبكسرِ الشِّينِ أيضاً (وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله) أُريد به ما يعمُّ العقلاء وغيرَهم إمَّا لأنَّ كلمةَ ما موضوعةٌ للكلِّ كما ينبئ عنه أنك إذا رأيت شَبَحاً من بعيدٍ تقولُ ما هو أو لأنَّه أُريد به الوصفُ لا الذَّاتُ كأنَّه قيل ومعبوديهم أو لتغليب الأصنامِ على غيرِها تنبيهاً على أنَّهم مثلُها في السُّقوطِ عن رتبة المعبودية أو اعتبارا لغلبة عبدتِها أو أُريد به الملائكةُ والمسيحُ وعزيرٌ بقرينةِ السُّؤالِ والجوابِ أو الأصنامُ ينطقها الله تعالى أو تكلُّم بلسانِ الحالِ كما قيل في شهادةِ الأيدِي والأرجلِ (فَيَقُولُ) أي الله عزل وجلَّ للمعبودينَ إثرَ حشرِ الكلِّ تقريعاً للعَبَدةِ وتبكيتاً لهم وقرئ بالنُّون كما عُطف عليه وقرئ هذا بالياء والأولُ بالنُّون على طريق الالتفاتِ إلى الغيبة (أأنتم أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَؤُلَاء) بأنْ دعوتُموهم إلى عبادتِكم كما في قوله تعالى أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله (أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل) أي عن السَّبيلِ بأنفسِهم لإخلالِهم بالنَّظر الصَّحيحِ وإعراضهم عن المرشدِ فحذف الجارَّ وأوصل الفعلُ إلى المفعول كقوله تعالى وهو يهدِي السَّبيلَ والأصلُ إلى السَّبيلِ أو السبيل وتقديم الضَّميرينِ على الفعلينِ لأنَّ المقصودَ بالسُّؤالِ هو المُتصدَّي للفعل لا نفسُه

ص: 208

(قالوا) استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا قالوا في الجواب فقيل قالوا (سبحانك) تعجُّباً ممَّا قيل لهم لأنَّهم إمَّا ملائكة معصومون وجمادات لا قُدرةَ لها على شيءٍ أو إشعاراً بأنَّهم الموسُومون بتسبيحِه تعالى وتوحيدِه فكيف يتأتَّى منهم إضلالُ عبادِه أو تنزيهاً له تعالى عن الأندادِ (مَا كان ينبغي لها) أي ما صح وما استقام لنا (أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ) أي متجاوزينَ إيَّاك (مِنْ أَوْلِيَاء) نعبدُهم لِما بنا من الحالةِ المُنافيةِ له فأنَّى يُتصوَّرُ أن نحمل غيرنا على أنْ يتَّخذَ ولياً غيرَك فضلاً أنْ يتخذنا وليا أو أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ أولياءَ أي أتباعاً فإنَّ الولي كما يُطلق على المتبوعِ يُطلق على التَّابعِ كالمَوْلى يُطلق على الأَعلى والأسفلِ ومنه أولياءُ الشَّيطانِ أي أتباعه وقرئ على البناءِ للمفعولِ من المتعدي إلى المفعولين كما في قوله تعالى واتخذ الله إبراهيم خَلِيلاً ومفعوله الثَّاني من أولياء على أنَّ مِن للتبعيضِ أي أنْ نتخذَ بعضَ أولياءٍ وهي على الأول مزيدةٌ وتنكيرُ أولياء من حيثُ إنَّهم أولياء مخصوصون

ص: 208

سورة الفرقان 19 وهم الجنُّ والأصنام (ولكن متعتهم وآباءهم) استدارك مسوقٌ لبيان أنَّهم هم الضَّالُّون بعد بيان تنزههم عن إضلالهم وقد نُعي عليهم سوءُ صنيعِهم حيث جعلُوا أسبابَ الهداية أسباباً للضَّلالة أي ما أضللناهم ولكنَّك متعتهم وآباءَهم بأنواع النِّعم ليعرفوا حقَّها ويشكروها فاستغرقُوا في الشَّهواتِ وانهمكُوا فيها (حتى نَسُواْ الذكر) أي غفَلوا عن ذكرِك أو عن التَّذكرِ في آلائِك والتَّدبرِ في آياتِك فجعلُوا أسبابَ الهداية بسوء اختيارِهم ذريعةً إلى الغَوايةِ (وَكَانُواْ) أي في قضائِك المبنيِّ على علمِك الأزليِّ المتعلق بما سيصدرُ عنهم فيما لا يزال باختيارِهم من الأعمالِ السَّيئةِ (قَوْماً بُوراً) أي هالكينَ على أنَّ بُوراً مصدرٌ وُصف به الفاعلُ مبالغةً ولذلك يستوي فيه الواحدُ والجمعُ أو جمعُ بائرٍ كعُوذٍ في جمعِ عائذٍ والجملةُ اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله وقوله تعالى

ص: 209

(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) حكايةٌ لاحتجاجِه تعالى على العَبَدة بطريق تلوين الخطابِ وصرفِه عن المعبودينَ عند تمام جوابِهم وتوجيهه إلى العَبَدة مبالغةٌ في تقريعهم وتبكيتِهم على تقديرِ قولٍ مرتَّبٍ على الجواب أي فقال الله تعالى عند ذلك فقد كذَّبوكم المعبودون أيُّها الكفرةُ (بِمَا تَقُولُونَ) أي في قولِكم إنَّهم آلهةٌ وقيل في قولكم هؤلاء أضلُّونا ويأباه أنَّ تكذيبَهم في هذا القول لا تعلق له بما بعَدُه من عدم استطاعتِهم للصَّرف والنصر أصلاً وإنما الذي يستتبُعه تكذيبُهم في زعمهم أنَّهم آلهتهم وناصروهم وأيَّا ما كان فالباءُ بمعنى في أو هي صلةٌ للتكذيب على أنَّ الجارَّ والمجرورَ بدل اشتمال من الضمير المنصوب وقرئ بالياء أي كَذبوكم بقولهم سبحانك الآيةَ (فَمَا تَسْتَطِيعُونَ) أي ما تملكُون (صَرْفاً) أي دفعاً للعذاب عنكم بوجه من الوجه كما يعرف عنه التَّنكيرُ أي لا بالذَّاتِ ولا بالواسطة وقيل حيلةً من قولهم إنَّه ليتصرف في أموره أي يحتال فهيا وقيل توبة (وَلَا نَصْراً) أي فرداً من أفراد النَّصر لا من جهةِ أنفسِكم ولا من جهةِ غيرِكم والفاءُ لترتيبِ عدمِ الاستطاعةِ على ما قبلها من التَّكذيبِ لكن لا على منى أنه لولاء لوُجدتْ الاستطاعةُ حقيقةً بل في زعمِهم حيثُ كانُوا يزعُمون أنَّهم يدفعون عنهم العذابَ وينصرونهم وفيه ضربُ تهكّمٍ بهم وقرئ يستطيعون على صيغة الغَيبةِ أي ما يستطيعُ آلهتُكم أنْ يصرفوا عنكم العذابَ أو يحتالُوا لكم ولا ينصروكم وترتب ما بعد الفاء عَلى ما قبلَها كَما مرَّ بيانُه (وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ) أيُّها المكلَّفون كدأبِ هؤلاءِ حيث ركبُوا متنَ المُكابرة والعناد واستمرُّوا على ما هم عليه من الفساد وتجاوزوا في اللجاجِ كلَّ حدَ معتادٍ (نُذِقْةُ) في الآخرة (عَذَاباً كَبِيراً) لَا يقادَر قدرُه وهُوَ عذابُ النار وقرئ يُذقه على أنَّ الضَّمير لله سبحانه وتعالى وقيل لمصدر الفعلِ الواقعِ شرطاً وتعميمُ الظُّلمِ لا يستلزمُ اشتراكَ الفاسقِ للكافر في إذاقة العذابِ الكبيرِ فإنَّ الشَّرطَ في اقتضاء الجزاءِ مقيَّدٌ بعدمِ المُزاحمِ وفاقاً وهو التَّوبةُ والإحباطِ بالطَّاعةِ إجماعا وبالعفو عندنا

ص: 209