المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة النّور سورة النّور مدنيّة، وهي خمسة آلاف وستّمائة وثمانون حرفا، - تفسير الحداد المطبوع خطأ باسم التفسير الكبير للطبراني - جـ ٤

[أبو بكر الحداد]

الفصل: ‌ ‌سورة النّور سورة النّور مدنيّة، وهي خمسة آلاف وستّمائة وثمانون حرفا،

‌سورة النّور

سورة النّور مدنيّة، وهي خمسة آلاف وستّمائة وثمانون حرفا، وألف وثلاثمائة وستّ عشرة كلمة، وأربع وستّون آية.

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}

{سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها؛} أي هذه سورة أنزلنا جبريل عليه السلام بها، وقرأ طلحة بن مصرّف «(سورة)» بالنصب على معنى: أنزلنا سورة كما يقال: زيدا ضربته، ويجوز أن يكون نصبا على الإغراء

(1)

.قوله تعالى: {(فَرَضْناها)} أي أوحينا فيها أحكاما وفرائض مختلفة عليكم وعلى من بعدكم إلى يوم القيامة، وجحد من قرأ بالتخفيف، قوله {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ}

(2)

أي أحكام القرآن، والتشديد في «(فرّضناها)» لكثرة ما فيها من الفرائض

(3)

.قال مجاهد: (يعني الأمر بالحلال والنّهي عن الحرام)

(4)

.قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (1)؛أي دلالات واضحات على وحدانيّتنا وأحكامنا لكي تتّعظوا فتعملوا بما فيها.

قوله تعالى: {الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ؛} قال سيبويه: (معناه في الفرائض عليكم الزّانية والزّاني؛ لأنّه لولا ذلك لنصب بالأمر الّذي في قوله: فاجلدوا)

(5)

.والجلد في اللّغة: ضرب الجلد، يقال: جلده؛ إذا ضرب جلده ورأسه، إذا ضرب رأسه وبطنه، إذا ضرب بطنه.

(1)

ينظر: إعراب القرآن للنحاس: ج 3 ص 88.والكشاف للزمخشري: ج 3 ص 203.

(2)

القصص 85/.

(3)

ينظر: إعراب القرآن للنحاس: ج 3 ص 88.والكشاف للزمخشري: ج 3 ص 203.

(4)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (19456).

(5)

ينظر: الكتاب لسيبويه: ج 1 ص 143 - 144، ذكره بمعناه.

ص: 392

ومعنى الآية: الزّانية والزّاني إذا كانا حرّين بالغين عاقلين بكرين غير محصنين، فاضربوا كلّ واحد منهما مائة جلدة. فأمّا إذا كانا مملوكين، فيحدّ كلّ واحد منهما خمسون جلدة في الزّنا لقوله تعالى في الإماء:{فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ}

(1)

يعني إذا عقلن فعليهنّ نصف حدّ الحرائر.

وإذا كان الزّاني محصنا فحدّه الرجم؛ لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ماعز بن مالك الأسلميّ بزناه، وكان قد أحصن. وكان عمر عليه السلام يقول:(إنّي لأخشى إن طال الزّمان أن يقول قائل: لا نجد الرّجم في كتاب الله تعالى، فيضلّوا بترك الفريضة أنزلها الله، وقد قرأنا: [الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة] ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، ولولا أنّ النّاس يقولون: زاد عمر في كتاب الله لكتبت ذلك على حاشية الكتاب)

(2)

.واجتمعت الأمة على رجم المحصنين إذا زنيا إلاّ الخوارج.

وأما الإحصان في هذا فهو أن يكون حرّا بالغا عاقلا مسلما قد تزوّج قبل ذلك نكاحا صحيحا، ودخل بزوجته في وقت كانا جميعا فيه على صفة الإحصان، وهذا قول أبي حنيفة ومحمّد، فإنّهما يشرطان هذه الشّرائط السبعة في إحصان الزّاني.

وأما أبو يوسف فلا يجعل الإسلام من شرائط الإحصان، ولا يشترط كونهما على صفة الإحصان وقت الدّخول في النكاح الصحيح، فجعل الرجل البالغ العاقل المسلم محصنا بالدخول بزوجته الأمة والصبيّة والكتابيّة، ويجعل الزوجين الرّقيقين محصنين بالدخول في النكاح الذي بينهم إذا أعتقا بعد ذلك، فإن لم يوجد الدخول في ذلك النكاح بعد العتق إلى أن زنى واحد منهما، فهما غير محصنين عنده.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ رجلا من الأعراب جاء إلى رسول الله: أنشدك الله

(1)

النساء 25/.

(2)

أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الحدود: باب رجم الحبلى: الحديث (6830).ومسلم في الصحيح: كتاب الحدود: باب رجم الثيب بالزنى: الحديث (1691/ 15).والإمام أحمد في المسند: ج 1 ص 29 بإسناد صحيح.

ص: 393

إلاّ قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم الآخر: نعم يا رسول الله؛ اقض بيننا بكتاب الله، فقال صلى الله عليه وسلم:[قل] قال: إنّ ابني كان عسيفا على هذا، فزنى بامرأته، وإنّي أخبرت أنّ على ابني الرّجم، فافتديته بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أنّ على ابني مائة جلدة وتغريب عام، وأنّ على امرأة هذا الرّجم، فقال صلى الله عليه وسلم:[والّذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم ردّ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها] قال: فغدا عليها، فاعترفت؛ فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت

(1)

.

قوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ؛} أي لا تأخذكم بهما رأفة ورحمة يمنع عن إقامة الحدّ، ويحلّ بمقدار عدده وصفته، فإنه ليس من صفات المؤمنين تضييع حدود الله، وقوله تعالى:{(فِي دِينِ اللهِ)،} قال ابن عبّاس: (في حكم الله) كقوله {فِي دِينِ الْمَلِكِ}

(2)

أي في حكمه، {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ،} ولا تعطّلوا الحدود. قرأ ابن كثير «(رأفة)» بفتح الهمزة. وإنّما ذكر الضّرب بلفظ الجلد لئلاّ يبرّح ولا يبلغ به اللحم.

واختلف العلماء في قوله {(وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ)} فقال قوم: معناه: ولا تأخذكم الرأفة بهما فتعطّلوا الحدود ولا تقيموها شفقة عليهما، وهو قول عطاء ومجاهد وقتادة وعكرمة وسعيد بن جبير والنخعي والشعبيّ. وقال الزهريّ وسعيد بن المسيّب والحسن:(معناه: اجتهدوا في الجلد ولا تخفّفوا كما يخفّف في حدّ الشّرب، بل يوجع الزّاني ضربا، ولا يخفّف رأفة له، كأنّه قال: لا تأخذكم بهما فتخفّفوا الضّرب، بل أوجعوهما ضربا)

(3)

.

قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2)؛أي ليكن إقامة الحدّ عليهما بحضرة جماعة من المؤمنين ليستفيض الخبر بهما، ويبلّغ الشاهد

(1)

رواه البخاري في الصحيح: كتاب الشروط: الحديث (2724).ومسلم في الصحيح: كتاب الحدود: الحديث (1697/ 25 - 1698).

(2)

يوسف 76/.

(3)

جامع البيان: الآثار (19460 - 19468).

ص: 394

الغائب، فيرتدع الناس عن مثله، ويرتدع المضروب ويستحيي فلا يعود إلى مثل ذلك.

واختلفوا في مبلغ عدد الطائفة، فقال الزهريّ:(أقلّه ثلاثة)،وقال ابن زيد:(أربعة بعد شهود الزّنا)

(1)

،وقال قتادة:(نفر من المسلمين)

(2)

.

وفي الخبر: [إقامة حدّ في أرض خير لأهلها من مطر أربعين يوما]

(3)

.وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: [يا معشر النّاس؛ اتّقوا الزّنا فإنّ فيه ستّ خصال؛ ثلاث في الدّنيا وثلاث في الآخرة، فاللّاتي في الدّنيا: تذهب البهاء، وتورث الفقر، وتنقص العمر. وأمّا اللاّتي في الآخرة: فتوجب السّخط؛ وسوء الحساب؛ والخلود في النّار]

(4)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: [أعمال أمّتي تعرض عليّ في كلّ يوم مرّتين، فاشتدّ غضب الله على الزّناة]

(5)

.وعن وهب بن منبه قال: (مكتوب في التوراة: الزّاني لا يموت حتى يفتقر، والقوّاد لا يموت حتى يعمى).

فإن قيل: لم بدأ الله بذكر الزّانية قبل ذكر الزّاني فقال تعالى {(الزّانِيَةُ وَالزّانِي)} ،

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (19482).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (19479).

(3)

رواه النسائي في السنن: كتاب قطع السارق: باب الترغيب في إقامة الحد: ج 8 ص 76.وابن حبان في الإحسان: كتاب الحدود: الحديث (4397).والطبراني في الكبير: ج 11 ص 267: الحديث (11932)،وفي الأوسط بلفظ:[وحدّ يقام في الأرض بحقّه أزكى فيها من مطر أربعين عاما].

(4)

أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء: ج 4 ص 111؛وقال: (غريب من حديث الأعمش، تفرد به مسلمة، وهو ضعيف الحديث) من حديث حذيفة. وأخرجه ابن عدي في الكامل: ج 8 ص 19 - 20:ترجمة مسلمة بن علي: الرقم (1799/ 178)؛وقال: (منكر

متروك الحديث). وبلفظ [إياكم والزنا فإن فيه أربع خصال

] أخرجه الطبراني في الأوسط: الحديث (7092) عن ابن عباس. وفي مجمع الزوائد: ج 6 ص 254 - 255؛قال الهيثمي: (رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عمرو بن جميع، وهو متروك).

(5)

ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 12 ص 167.ولم أقف عليه.

ص: 395

وبذكر السّارق قبل ذكر السّارقة في آية السّرقة فقال: {وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ}

(1)

؟ قيل:

لأن الرجل هو الذي يسرق غالبا، والمرأة هي السبب في الزّنا غالبا، فأخرج الخطاب في المؤمنين على الأغلب.

قوله تعالى: {الزّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ؛} قال ابن عبّاس: (نزلت هذه الآية في قوم من المهاجرين، دخلوا المدينة ولم يكن لهم مساكن ولا مال يأكلون منه ولا أهل يأوون إليهم، وفي المدينة باغيات سافحات يكرين أنفسهم ويضربن الرّايات على أبوابهنّ يكتسبن بذلك، وكان أولئك المهاجرين الفقراء يطلبون معايشهم بالنّهار ويأوون إلى المساجد باللّيل، فقالوا: لو تزوّجنا منهنّ فعشنا معهم إلى يوم يغنينا الله عنهنّ، وقصدوا أن يتزوّجوهنّ وينزلوا منازلهنّ، ويأكلوا من كسبهنّ، فشاوروا النّبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأنزل الله هذه الآية، فنهوا أن يتزوّجوهنّ على أن يحلّوهنّ والزّنا)

(2)

.

والمعنى: لا يرغب في نكاح الزانية إلاّ زان مثلها، ونظيره قوله تعالى:

{(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ)} ميل الخبيث إلى الخبيث وميل الطيّب إلى الطيب، وقد يقع الطيب مع الخبيث، لكن الأعمّ والأغلب ما ذكرنا.

قوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (3)؛أي حرّم على المؤمنين تزويج تلك الباغيات المعلنات بالزّنا، وفيه بيان أن من يتزوج بامرأة منهنّ فهو زان، فالتحريم كان خاصّة على أولئك دون الناس.

ومذهب سعيد بن المسيّب: أنّ التحريم كان عامّا عليهم وعلى غيرهم، ثم نسخ التحريم بقوله تعالى {وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ}

(3)

،فإن تزوج الرجل امرأة وعاين منها الفجور لم يكن ذلك تحريما بينهما ولا طلاقا، ولكنه يؤمر بطلاقها تنزّها عنها، ويخاف عليه الإثم في إمساكها؛ لأن الله تعالى شرط على المؤمنين نكاح المحصنات من المؤمنات.

(1)

المائدة 38/.

(2)

بمعناه أخرجه الطبري في جامع البيان: الآثار (19489 - 19491).

(3)

النور 32/.

ص: 396

من المؤمنات.

وروي أنّ رجلا قال: يا رسول الله؛ إنّ امرأتي لا تردّ يد لامس! فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: [طلّقها] فقال: إنّي أحبّها، وأخاف إن طلّقتها أن أصيبها حراما، فقال له:

[أمسكها إذا]

(1)

.إلاّ أنّ هذا الحديث فيه خلاف الكتاب؛ لأن الله تعالى أذن في نكاح المحصنات، ثم أنزل الله في القاذف لامرأته آية اللّعان، وسنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التفريق بينهما، ولا يجتمعان أبدا، فكيف يأمره بالوقف على عاهرة لا تمتنع عمّن أرادها، والحديث الذي ذكر لم يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن صحّ فتأويله أنّها امرأة ضعيفة الرّأي في تضييع مال زوجها، فهي لا تمنعه من طالب ولا تحفظه من سارق، وهذا التأويل أشبه بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وأحرى لحديثه

(2)

.ويحتمل أن يكون قوله تعالى: {(وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)} إشارة إلى الزّنا.

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه: (أنّ هذه الآية نزلت في مرثد

(1)

أخرجه أبو داود في السنن: كتاب النكاح: باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء: الحديث (2049) عن ابن عباس رضي الله عنهما. والنسائي في السنن: كتاب النكاح: باب تزويج الزانية: ج 6 ص 67 - 68؛وقال: (هذا الحديث ليس بثابت، وعبد الكريم ليس بالقوي، وهارون ابن رئاب أثبت منه وقد أرسل هذا الحديث، وهارون ثقة وحديثه أولى بالصواب من حديث عبد الكريم).قلت: فالحديث من طريق هارون أولى. ثم لا أظن أن الحديث في موضوع الزنا، والأرجح موضوع المال والمحافظة عليه، وهو كما قال الإمام الطبراني بعد في تأويله، وهو ما ذهب إليه الإمام أحمد وغيره.

(2)

ربما يقال: (لو كان المراد السخاء لقيل: لا تردّ يد ملتمس؛ إذ السائل يقال له: الملتمس، لا لامس. وأما اللمس فهو الجماع أو بعض مقدماته، وأيضا السخاء مندوب إليه، فلا تكون المرأة معاقبة لأجله مستحقة للفراق).وهذا الجواب يقبل الدور والجواب عليه؛ لأن التأويل اللغوي محتمل وليس قطعيا، فلا يصلح في الجواب لما فيه من خلاف، لا سيما موضوع النص هو اليد وليس الفرج، ومتعلق اليد السؤال غالبا، وتناول المال. ثم لعمومات الشريعة في الباب يفهم النص على غير ما ذهب إليه البعض والله أعلم.

ص: 397

الغنويّ، كان قد أمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكان يحمل ضعفة

(1)

المسلمين من مكّة إلى المدينة، ومن المدينة إلى مكّة، وكانت له صديقة في الجاهليّة يقال لها: عناق، فلقيته بمكّة فدعته إلى نفسها فأبى وقال: إنّ الإسلام قد حال دون ذلك، فقالت له: فانكحني، فقال: حتّى أشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسعت به إلى المشركين، فهرب إلى المدينة وأخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وشاوره في تزوّجها، فأنزل الله هذه الآية)

(2)

.وبيّن أن نكاح المشركة زنا؛ لأنّها لا تحلّ له، وقرن بين الزّنا والشّرك على طريق المبالغة في الزّجر عن الزّنا حين كان القوم يألفون الزنا ألفا شديدا.

وكان بحسب ظاهر الآية أن يكون للزاني أن يتزوج المشركة، وللزّانية أن تتزوج المشرك، ولا خلاف أن ذلك غير جائز، وأنّ نكاح المشركات وتزوّج المشركين منسوخ بقوله تعالى {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ،} وبقوله {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا}

(3)

.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ معنى الآية: الزاني لا يطأ إلاّ زانية؛ أي لا يزني حين يزني إلاّ بزانية مثله، وكذلك الزانية لا يزني بها إلاّ زان مثلها، حتى إذا طاوع أحدهما الآخر، فهما سواء في استحقاق الحدّ وعقاب الآخرة، فكأنّ المراد بالنكاح الوطء.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ؛} أي يرمونهم بالزنا، {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ؛} على صحّة قذفهم إياهنّ بالزنا، {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً} .

والمحصنات: الحرائر المسلمات البالغات العاقلات العفيفات عن فعل الزّنا. وفي ذكر عدد الأربعة من الشّهود دليل على أن المراد القذف بصريح الزنا؛ لأن هذا العدد

(1)

الضّعفة: الأسارى عند أهل مكة من المسلمين المستضعفين. في رواية أبي داود والترمذي والنسائي.

(2)

رواه أبو داود في السنن: كتاب النكاح: باب في قوله تعالى: الزّانِي لا يَنْكِحُ إِلاّ زانِيَةً: الحديث (2051).والترمذي في الجامع: أبواب التفسير: الحديث (3177).والنسائي في السنن: كتاب النكاح: باب تزوج الزانية: ج 6 ص 66.وإسناده صحيح.

(3)

البقرة 221/.

ص: 398

لا يشترط إلاّ في الزّنا، ولا يقبل في ذلك شهادة النساء. وفي الآية دليل على أن من قذف جماعة من المحصنات لم يضرب إلاّ حدّا واحدا، وإذا كان القاذف عبدا فحدّه النّصف كما بيّنّا في حدّ الزنا.

قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً؛} يعني المحدودين في القذف لا تقبل شهادتهم أبدا، {وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} (4)؛أي الخارجون عن طاعة الله برميهم إياهنّ زورا وكذبا.

قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ؛} أي ندموا على قذفهم وعزموا على ترك المعاودة {وَأَصْلَحُوا؛} أعمالهم فيما بينهم وبين ربهم، {فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ؛} لمن تاب منهم، {رَحِيمٌ} (5)؛لمن مات على التوبة.

قال ابن عبّاس: (هذا الاستثناء لا يرجع إلى الشّهادة، وإنّما يرجع إلى الفسق)

(1)

.وقيل: إنّ توبته فيما بينه وبين الله مقبولة، وأما شهادته فلا تقبل أبدا، وهو قول شريح والحسن وإبراهيم

(2)

،وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وأصحابه.

وذهب بعض العلماء إلى أن الاستثناء راجع إلى الفسق وإلى ردّ الشهادة، ويكون معنى قوله تعالى {(أَبَداً)} ما دام على القذف ولم يتب عنه. وأجمعوا جميعا أنّ هذا الاستثناء لا يرجع إلى الجلد، وذلك يقتضي أن يكون مقصورا على ما يليه وهو الفسق.

وأجمعوا أن المقذوفة إذا ماتت ولم تطالب بحدّ القذف ولم يحدّ القاذف ثم تاب، فإنه يجوز قبول شهادته؛ لأن على أصلنا أنّ الحاكم إذا أقام الحدّ على القاذف

(1)

في الجامع لأحكام القرآن: ج 2 ص 180؛ قال القرطبي: (الاستثناء إذا تعقّب جملا معطوفة عاد إلى جميعها عند مالك والشافعي وأصحابهما. وعند أبي حنيفة وجلّ أصحابه يرجع الاستثناء إلى أقرب مذكور؛ ولهذا لا تقبل شهادته، فإن الاستثناء راجع إلى الفسق خاصة لا إلى قبول الشهادة) ثم ذكر سبب الخلاف.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (19524 - 19527) عن شريح بأسانيد، و (19530) عن الحسن بإسنادين، و (19531) عن إبراهيم.

ص: 399

فكذبه وأبطل حينئذ شهادته، ولو جعل بطلان الشهادة حكما معلقا بتسمية الفسق ولم يجعل حكما على حاله مرتّبا على الجلد لبطلت فائدة قوله {(وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً)} من كتاب الله؛ لأن كلّ فاسق لا تقبل شهادته إلاّ بعد توبته عن الفسق.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ} (7)؛الآية، وذلك أنّ الله سبحانه لمّا أنزل الآية التي قبل هذه الآية في قذف المحصنات وشرط فيها الإتيان بأربعة شهداء وإلاّ جلد ثمانين جلدة، قرأها النبيّ صلى الله عليه وسلم على المنبر.

فقال عاصم بن عديّ: يا رسول الله! جعلني الله فداك، أرأيت إن رأى رجل منّا مع امرأته رجلا على بطنها، فأراد أن يخرج من بيته فيجيء بأربعة شهداء قضى الرّجل حاجته وخرج، وإن هو عجّل فقتله قتلتموه، وإن تكلّم بذلك جلدتموه، وإن سكت؛ سكت على غيظ شديد؟

فقال صلى الله عليه وسلم: [كفى بالسّيف] أراد أن يقول شاهدا، فأرسل عليه جبريل بالسّكوت، فأمسك لئلاّ يتسارع أحد من الرّجال إلى قتل أزواجهم

(1)

.

وقال ابن عبّاس: (لمّا نزلت: {(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً)}،قرأها النّبيّ صلى الله عليه وسلم على المنبر يوم الجمعة-فقال عاصم بن عديّ مقالته الّتي ذكرناها

(2)

-وقال: يا رسول الله! كيف لنا بالشّهداء

(1)

أدرج الطبراني رحمه الله رواية عبادة بن الصامت ورواية عاصم بن عدي؛ وأصلها كما رواه البغوي في معالم التنزيل: ص 892.ورواه أبو داود في السنن: كتاب الحدود: باب في الرجم: الحديث (4417)،وفيه الفضل بن دلهم، ليس بالحافظ كان قصابا بواسط. وفي مجمع الزوائد: ج 6 ص 265؛قال الهيثمي: (رواه الطبراني وفيه الفضل بن دلهم وهو ثقة، وأنكر عليه هذا الحديث من هذا الطريق فقط، وبقية رجاله ثقات).

(2)

ذكره القرطبي مختصرا في الجامع لأحكام القرآن: ج 12 ص 184.والبغوي في معالم التنزيل: ص 892.وأصله ذكره مقاتل في التفسير: ج 2 ص 409.وفي جامع البيان: الأثر (19545) ذكر الطبري بإسناده عن عكرمة قال: (والذي استفتى عاصم بن عدي).

ص: 400

ونحن إذا التمسناهم قضى الرّجل حاجته وخرج. وكان لعاصم هذا ابن عمّ يقال له عويمر، وكانت له امرأة يقال لها خولة بنت قيسي، فأتى عويمر عاصما فقال: لقد وجدت شريك بن سحماء على بطن امرأتي خولة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجمعة الأخرى، فقال: يا رسول الله؛ ما أسرع ما ابتليت بالسّؤال الّذي سألت في الجمعة الماضية في أهل بيتي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: [وما ذاك؟] قال: يا رسول الله؛ أخبرني عويمر أنّه رأى شريك بن سحماء على بطن امرأته خولة.

وكان عويمر وخولة وشريك كلّهم بني عمّ عاصم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم جميعا، وقال لعويمر:[اتّق الله؛ اتّق الله في زوجتك وخليلتك وابنة عمّك فلا تعذّبها بالبهتان] فقال: يا رسول الله؛ أقسم بالله أنّي رأيت شريكا على بطنها. فقال صلى الله عليه وسلم: [اتّق الله وأخبريني بما صنعت] فقالت: يا رسول الله؛ إنّ عويمرا رجل غيور، وإنّه رآني وشريكا نتحدّث، فحملته الغيرة على ما قال).

وروى عكرمة عن ابن عبّاس: (لمّا نزل قوله: {(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً)} قال سعد بن عبادة: والله لو أتيت لكاع وقد تفخّذها رجل لم يكن لي أن أقتله ولا أهيّجه ولا أخرجه حتّى آتي بأربعة شهداء، ولم يأت بهم حتّى فرغ من حاجته ويذهب! فإن قلت بما رأيت ضربتم ظهري ثمانين جلدة!

فقال صلى الله عليه وسلم: [يا معشر الأنصار ألا تسمعون إلى ما يقول سيّدكم!؟] قالوا: لا تلمه فإنّه رجل غيور، ما تزوّج امرأة قطّ إلاّ بكرا، ولا طلّق امرأة فاجترأ أحد منّا أن يتزوّجها. فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله! بأبي وأمّي أنت، والله إنّي لأعرف أنّها من الله وأنّها لحقّ، ولكنّني عجبت من ذلك. فقال صلى الله عليه وسلم:[والله يأبى إلاّ ذلك؟] فقال: صدق الله ورسوله.

فلم يلبثوا إلاّ يسيرا حتّى جاء هلال بن أميّة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه، فقال: يا رسول الله؛ إنّي جئت أهلي عشاء فوجدت رجلا مع امرأتي يزني بها، رأيت بعيني وسمعت بأذني. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتى به، وثقل عليه حتّى عرف ذلك في وجهه، وقال هلال: يا رسول الله؛ إنّي لأرى الكراهة في وجهك

ص: 401

لما أتيتك به، والله يعلم أنّي لصادق وما قلته إلاّ حقّا، وإنّي لأرجو أن يجعل الله لي فرجا، فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضربه الحدّ.

واجتمعت الأنصار وقالوا: ابتلينا بما قال سعد بن عبادة إلاّ أن يجلد هلالا.

فبينما هم كذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه، إذ نزل عليه الوحي، فأمسكوا عن الكلام حين عرفوا أنّ الوحي قد نزل. فلمّا فرغ تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية:

(والّذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلاّ أنفسهم

) إلى آخر الآيات، فقال صلى الله عليه وسلم:[أبشر يا هلال؛ فإنّ الله قد جعل لك فرجا] فقال: قد كنت أرجو ذلك من الله.

فقال صلى الله عليه وسلم: [أرسلوا إليها] فجاءت، فلمّا اجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت:

كذب عليّ يا رسول الله، فقال هلال: يا رسول الله! ما قلت إلاّ حقّا وإنّي لصادق، فقال صلى الله عليه وسلم:[الله يعلم أنّ أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟] فقال هلال: والله يا رسول الله ما كذبت. فقال صلى الله عليه وسلم: [لاعنوا بينهما].

فقيل لهلال: اشهد بالله أربع مرّات إنّك لمن الصّادقين، فقال هلال: أشهد بالله إنّي لمن الصّادقين فيما رميتها به، قال ذلك أربع مرّات. فقال له عليه السلام عند الخامسة:[اتّق الله يا هلال، فإنّ عذاب الدّنيا أهون من عذاب الآخرة، وإنّ عذاب الله أشدّ من عذاب النّاس، وإنّ هذه الخامسة هي الموجبة الّتي توجب عليكما العذاب].فقال هلال: والله ما يعذّبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فشهد الخامسة أنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزّنا.

ثمّ قيل للمرأة: اشهدي أنت، فقالت أربع مرّات: أشهد بالله إنّه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزّنا. فقال لها النّبيّ صلى الله عليه وسلم عند الخامسة: [اتّق الله فإنّ الخامسة هي الموجبة، وإنّ عذاب الله أشدّ من عذاب النّاس] فسكتت ساعة وهمّت بالاعتراف، ثمّ قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت الخامسة أنّ غضب الله عليها إن كان من الصّادقين فيما رماها به من الزّنا. ففرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقضى أنّ الولد لها ولا يدعى لأب.

ص: 402

ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [وإن جاءت به كذا وكذا فهو لزوجها، وإن جاءت به كذا وكذا فهو للّذي قيل فيه].فجاءت به غلاما أحمر كأنّه جمل أورق على الشّبه المكروه، وكان بعد ذلك أميرا على مصر لا يدري من أبوه

(1)

.

وعلى القول الأول أن القصة بين شريك بن سحماء وعويمر؛ قالوا: أمر

(2)

رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملاعنة، فقام فقال: أشهد بالله أنّ خولة بنت قيس زانية، وإنّي لمن الصّادقين فيما رميتها به. فقال في الثّانية: أشهد بالله إنّي رأيت شريكا على بطنها، وإنّي لمن الصّادقين. وقال في الثّالثة: أشهد بالله إنّها حبلى من غيري، وإنّي لمن الصّادقين-وكان عويمر قد اعتزلها أربعة أشهر لم يقربها، فظهر بها الحمل، فعلم أنّه من وطئ غيره-ثمّ قال في الخامسة: أنّ لعنة الله على عويمر-يعني نفسه-إن كان من الكاذبين فيما قال.

فأمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالقعود

(3)

وقال لزوجته: [قومي] فقامت فقالت: أشهد بالله ما أنا بزانية وأنّ عويمرا لمن الكاذبين. ثمّ قالت في الثّانية: أشهد بالله أنّه ما رأى شريكا على بطني، وإنّه لمن الكاذبين. ثمّ قالت في الثّالثة: أشهد بالله أنّي حبلى منه، وإنّه لمن الكاذبين. ثمّ قالت في الرّابعة: أشهد بالله ما رأى عليّ فاحشة قطّ، وإنّه لمن الكاذبين. ثمّ قالت في الخامسة: أنّ غضب الله على خولة-تعني نفسها-إن كان من الصّادقين.

ففرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، وقال:[لولا هذه الأيمان لكان لي في أمرها رأي، وكان لي ولها شأن].ثمّ قال: [إن جاءت بالولد صهيبا أثيبج

(4)

يضرب إلى

(1)

القصة بطولها أخرجها الطبري في جامع البيان: الحديث (19538 - 19540) عن عكرمة. وعن عكرمة عن ابن عباس وفيه قصة هلال بن أمية. والبغوي في معالم التنزيل: ص 892 - 894.

(2)

في الأصل المخطوط فراغ تركه الناسخ.

(3)

(بالقعود) سقطت من أصل المخطوط.

(4)

الثّبج: بفتحتين، ما بين الكاهل إلى الظّهر، وقيل: ثبج كلّ شيء وسطه و (الأثبج):العريض الثّبج، وقيل: النّاتئ الثّبج، وهو صغّر في الحديث:[إذا جاءت به أثيبج].ينظر: مختار الصحاح: ص 82.

ص: 403

السّواد، فهو لعويمر

(1)

،وإن جاءت به أورق جعد جماليا خدلج السّاقين، فهو لشريك بن سحماء الّذي رميت به. قال ابن عبّاس:(فجاءت بأشبه خلق الله بشريك ابن سحماء).

وعن الضّحاك عن ابن عبّاس قال

(2)

: (لمّا نزل قوله تعالى: {(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ)} الآية، قال عاصم بن عديّ: يا رسول الله! لو وجدت على بطن امرأتي رجلا؛ فقلت لها: يا زانية؛ أتجلدني ثمانين جلدة إلاّ أن آتي بأربعة شهداء؟! وإن مضيت لأربعة شهداء قضى الرّجل حاجته ومضى؟ فقال صلى الله عليه وسلم: [هكذا أنزل يا عاصم]،قال: فخرج سامعا مطيعا، فلم يصل إلى منزله حتّى استقبله هلال بن أميّة يسترجعه، فقال: ما وراءك؟ قال: شرّ، وجدت شريك بن سحماء على بطن امرأتي خولة يزني بها، فرجع معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، فبعث إليها فجاءت.

فقال لها النّبيّ صلى الله عليه وسلم: [ما تقولين؟] فقالت: يا رسول الله؛ إنّ شريك بن سحماء كان يأتينا، فنزل بنا فربّما تركه زوجي عندي وخرج ولم ينكر عليه من ليل ولا نهار، فلا أدري إنّه الآن أدركته الغيرة؛ أم بخل عليّ بالطّعام؟! فأنزل الله تعالى آية اللّعان {(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ. وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ)} .

فأقامه النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد العصر، وقال:[يا هلال! أنت الشّاهد أنّك رأيتها تزني] فقال: أشهد بالله رأيته على بطنها يزني بها وإنّي لمن الصّادقين، ما قربتها منذ أربعة أشهر، وإنّ حملها هذا الّذي في بطنها من شريك بن سحماء، وإنّي لمن الصّادقين.

أشهد بالله ما برئت منه ولا برئ منها، وإنّي لمن الصّادقين

إلى أن قال في

(1)

في أصل المخطوط: (فهو لشريك بن سحماء) ثم ذكر (فهو لعويمر) عاكسا بين الرامي والذي رميت به، تصحيفا من الناسخ. والصحيح كما أثبتناه، والله أعلم. ينظر: معالم التنزيل: ص 894 القصة.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (19543) مختصرا، و (19539) عن عكرمة عن ابن عباس مطولا.

ص: 404

الخامسة: أنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من ذلك. فقال القوم:

آمين.

فقال صلى الله عليه وسلم: [يا خولة ويحك! إن كنت ألممت بذنب فأقرّي به، فإنّ الرّجم بالحجارة في الدّنيا أيسر عليك من غضب الله في الآخرة، وإنّ غضبه عذابه] فقالت: يا رسول الله كذب. فأقامها مقامه، فقالت: أشهد بالله ما أنا زانية، وإنّه لمن الكاذبين، ما رآه على بطني. أشهد بالله لقد برئت من الزّنا وبرئ شريك بن سحماء منّي، وإنّه لمن الكاذبين. أشهد بالله لقد قربني منذ أربعة أشهر وإنّ ما في بطني لهلال، وإنّه لمن الكاذبين. وقالت في الخامسة: أنّ غضب الله عليها إن كان من الصّادقين. ثمّ فرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: [المتلاعنان لا يجتمعان أبدا]

(1)

.

قوله: {وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ؛} أي يدفع عنها الحدّ: {أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصّادِقِينَ} (9)؛وقرأ حفص: {(وَالْخامِسَةَ)} بالنصب، كأنه قال: وشهد الخامسة. وقرئ «(فشهادة أحدهم أربع شهادات)» بالرفع في قوله «(أربع)» على أنّها خبر المبتدأ، ويقرأ بالنصب على معنى: فشهادة أحدهم أن يشهد أربع شهادات

(2)

.

قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ؛} محذوف الجواب؛ تقديره:

لولا فضل الله عليكم ورحمته لفضحكم بما تركبون من الفواحش، ولعجّلكم بالعقوبة من غير إمهال، ولبيّن الصادق من الكاذب، فيقام الحدّ على الكاذب {وَأَنَّ اللهَ تَوّابٌ حَكِيمٌ} (10)؛أي توّاب على من رجع عن معاصي الله، حكيم فيما فرض من الحدود.

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ؛} وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يخرج إلى سفر أقرع بين نسائه، فأيّتهنّ خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه.

(1)

الحديث عن ابن عمر، أخرجه الدارقطني مختصرا في السنن: كتاب النكاح: باب المهر: الحديث (116) بإسناد جيد، والحديث (117) عن علي وعبد الله قال:[مضت السّنّة في المتلاعنين أن لا يجتمعا أبدا].وإسناده موقوف حسن.

(2)

ينظر: إعراب القرآن للنحاس: ج 3 ص 89.

ص: 405

قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها وهي غزوة بني المصطلق، فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بعد ما أنزل الحجاب كنت أحمل في هودجي، وأحمل فيه حتّى إذا فصل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته ورجع ودرنا إلى المدينة.

فلمّا كان ذات ليلة قمت حين آذنوا بالرّحيل، فمشيت حتّى جاوزت الجيش، فلمّا قضيت شأني أقبلت إلى الرّحل فلمست صدري فإذا عقدي قد انقطع، وكان من جزع ظفار

(1)

،فرجعت ألتمس عقدي وحبسني ابتغاؤه.

فأقبل الرّهط

(2)

الّذين كانوا يرحلون

(3)

لي، فحملوا هودجي على بعيري الّذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أنّي فيه، وكنّ نساء إذ ذاك خفافا لم يغشهنّ اللّحم، إنّما يأكلن العلقة

(4)

من الطّعام، ولم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رفعوه، وكنت جارية حديثة السّنّ، فبعثوا الجمل وساروا، ووجدت عقدي بعد ما استمرّ الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فتيمّمت

(5)

منزلي الّذي كنت فيه، وظننت أنّ القوم يفقدونني فيرجعون إليّ.

فبينما أنا جالسة في مجلسي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطّل السّلميّ قد عرّس

(6)

من وراء الجيش، فأدلج

(7)

فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتى إليّ فعرفني حين رآني، وقد كان رآني قبل أن يضرب الحجاب، فما استيقظت إلاّ باسترجاعه

(8)

حين عرفني، فخمّرت وجهي بجلبابي، فو الله ما

(1)

هو عقد نحو القلادة. والجزع: خرز يماني. وظفار: قرية باليمن.

(2)

الرهط: جماعة دون العشرة.

(3)

يرحلون: يجعلون الرّحل على البعير.

(4)

العلقة: القليل، ويقال لها أيضا: البلغة.

(5)

تيمّمت منزلي: قصدته، لتأمن العثور عليها حين يرجعون.

(6)

عرّس: نزل آخر الليل ليستريح.

(7)

أدلج: سار في آخر الليل.

(8)

أي حين قال: (إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

ص: 406

كلّمني بكلمة غير استرجاعه، فأناخ راحلته فوطأت على يدها وركبتها، وانطلق يقود في الرّاحلة حتّى أتينا الجيش بعد ما نزلوا وقت الظّهيرة. فهلك من هلك في شأني، وخاض عبد الله بن أبيّ وحسّان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش الأسديّة في ذلك، وكان الّذي تولّى كبره منهم عبد الله بن أبيّ بن سلول.

فقدمت المدينة، فأصابني مرض حين قدمتها شهرا، والنّاس يخوضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يزورني في وجهي لا أرى منه اللّطف الّذي كنت أرى منه إذا مرضت من قبل ذلك، إنّما كان يدخل فيقول:[كيف تيكم؟] فذلك يحزنني ولا أشعر بالسّرّ حتّى خرجت بعد ما نقهت.

فخرجت معي أمّ مسطح قبل المناصع

(1)

وهي متبرّزنا، ولا نخرج إلاّ من ليل إلى ليل، وذلك قبل أن نتّخذ الكنف، وأمرنا أمر العرب الأوّل في التّبرّز. فانطلقت أنا وأمّ مسطح-وهي عاتكة بنت أبي رهم بن عبد المطّلب بن عبد مناف، وأمّها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصّدّيق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عبّاد بن عبد المطّلب

(2)

-فأقبلنا حتّى فرغنا من شأننا، فبينما نحن في الطّريق عثرت أمّ مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح! فقلت لها: بئس ما قلت! أتسبين رجلا شهد بدرا؟ قالت: أي هنتاه

(3)

،أي أو لم تسمعي ما قال؟ قلت: وماذا قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضا إلى مرضي.

فلمّا رجعت إلى بيتي، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم ثمّ قال:[كيف تيكم؟] قلت:

أتأذن لي أن آتي أبويّ؟ وإنّما قلت ذلك حينئذ لأتيقّن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجئت أبويّ، فقلت لأمّي: يا أمّاه! ماذا يتحدّث النّاس؟ فقالت: أي بنيّة هوّني عليك، فو الله لقلّما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبّها ولها ضرائر إلاّ

(1)

المناصع: مواضع خارج المدينة، كانوا يتبرزون فيها.

(2)

في جامع البيان: عباد بن المطلب.

(3)

هذه اللفظة تختص بالنداء، ويزاد معنى: يا هذه، وقيل: يا امرأة، وقيل: يا بلهاء، كأنها نسبت إلى قلة المعرفة بمكائد الناس وشرورهم.

ص: 407

وأكثرن عليها. قلت: سبحان الله! وقد تحدّث النّاس بهذا؟ قالت: نعم. قالت:

فمكثت تلك اللّيلة حتّى أصبحت لا يرقأ

(1)

لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثمّ أصبحت أبكي.

ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد وعليّ بن أبي طالب حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله، فأمّا أسامة فأشار عليه بالّذي يعلم من براءتي وبالّذي يعلم في نفسه لهم من الودّ؛ فقال: يا رسول الله هم أهلك وما نعلم إلاّ خيرا. وأمّا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: لم يضيّق الله عليك، والنّساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة جارية عائشة فقال:[أي بريرة؛ هل رأيت من شيء يريبك في أمر عائشة؟].فقالت: لا؛ والّذي بعثك بالحقّ نبيّا ما رأيت عليها أمرا قطّ أغمضته عليها أكثر من أنّها حديثة السّنّ، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الدّاجن فتأكله.

قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبيّ بن سلول وهو على المنبر، فقال:[يا معشر المسلمين؛ من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي، فو الله ما علمت في أهلي إلاّ خيرا؟] فقال سعد بن معاذ الأنصاريّ: يا رسول الله؛ أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.

فقام سعد بن عبادة الخزرجيّ وكان رجلا صالحا، ولكن احتملته الحميّة

(2)

فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على ذلك. فقام أسيد بن حصين؛ وهو ابن عمّ سعد بن معاذ؛ فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله؛ لتقتله فإنّك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيّان الأوس والخزرج حتّى همّوا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يحفظهم حتّى سكنوا.

(1)

يرقأ: ينقطع، أي لا ينقطع لي دمع.

(2)

ويروى أيضا: اجتهلته، أي استخفّته وأغضبته وحملته على الجهل.

ص: 408

قالت عائشة: فمكثت يومي لا يرقأ لي دمع، وأبويّ يظنّان أنّ البكاء فالق كبدي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي، استأذنت عليّ امرأة من الأنصار، فأذنت لها فجلست تبكي معي. فبينما نحن كذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ جلس، قالت:

ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل، وقد لبثت شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء. قالت: فتشهّد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس، ثمّ قال:[أمّا بعد يا عائشة؛ فإنّه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرّؤك الله، وإن كنت قد ألممت بذنب فاستغفري الله ثمّ توبي إليه، فإنّ العبد إذا اعترف بالذنب ثمّ تاب، تاب الله عليه].

قالت: فلمّا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلص دمعي

(1)

حتّى ما أحسّ منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عنّي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال. فقال: والله لا أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمّي: أجيبي عنّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: وأنا جارية حديثة السّنّ لا أقرأ كثيرا من القرآن، والله لقد عرفتم إنّكم قد سمعتم هذا حتّى استقرّ في أنفسكم وصدّقتم به، ولئن قلت لكم إنّي بريئة والله يعلم أنّي بريئة لا تصدّقوني في ذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم إنّي بريئة لتصدّقوني، والله ما أجد لي ولكم مثلا إلاّ ما قال أبو يوسف {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ}

(2)

.

قالت: ثمّ تحوّلت فاضطجعت على فراش، وأنا والله أعلم حينئذ أنّي بريئة، وأنّ الله منزّل ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظنّ أن ينزل في شأني وحيا يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلّم الله فيّ بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه رؤيا يبرّئني الله بها. قالت: فو الله ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتّى تغشّاه الوحي وأخذه ما كان يأخذه من البرحاء

(3)

عند نزول الوحي، حتّى أنّه ليتحدّر منه من الجمان

(4)

من العرق في اليوم الشّاتى. فلمّا سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هو يضحك، فكان أوّل كلمة تكلّم

(1)

قلص دمعي: ارتفع لاستعظام ما يعيبني من الكلام.

(2)

يوسف 18/.

(3)

البرحاء: الشدّة.

(4)

الجمان: الدر.

ص: 409

بها أن قال: [أبشري يا عائشة؛ إنّ الله قد برّأك] فقالت لي أمّي: قومي إليه، فقلت:

والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلاّ الله سبحانه الّذي أنزل براءتي، فأنزل الله عز وجل:

{(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ)} وهي عشر آيات.

فلمّا أنزل الله براءتي قال أبو بكر رضي الله عنه-وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره-:والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الّذي قال لعائشة ما قال. فأنزل الله تعالى {وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} إلى قوله تعالى {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ} قال أبو بكر: بلى؛ والله إنّي أحبّ أن يغفر الله لي. وأعاد إلى مسطح النّفقة وقال: لا أنزعها منه أبدا

(1)

.

ثمّ إنّ الخبر بلغ إلى صفوان؛ فقال: سبحان الله! والله ما كشفت كنف أنثى.

فقتل شهيدا في سبيل الله، وزاد في آخره: قالت: وقعد صفوان بن المعطّل لحسّان ابن ثابت فضربه بالسّيف، وقال حين ضربه:

تلقّ ذباب السّيف عنّي فإنّني

غلام إذا هوجيت لست بشاعر

ولكنّني أحمي حماي وأنتقم

من الباهت الرّامي البراء الظّواهر

فصاح حسّان واستغاث بالنّاس على صفوان، وجاء حسّان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغيث به على صفوان في ضربه إيّاه، فسأله النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يهب له ضربة صفوان إيّاه، فوهبها للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فعوّضه عليها حائطا من نخل عظيم وجارية روميّة. ثمّ باع حسّان ذلك الحائط من معاوية في ولايته بمال عظيم، وقال حسّان بن ثابت في براءة عائشة:

حصان رزان ما تزنّ بريبة

وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

خليّة خير النّاس دينا ومنصبا

نبيّ الهدى والمكرمات الفواضل

عقيلة حيّ من لؤيّ بن غالب

كرام المساعي مجدها غير زائل

مهذبة قد طيّب الله خيمها

(2)

وطهّرها من كلّ شين وباطل

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (19564 - 19566).

(2)

الخيم-بالكسر-:الشّيمة والطبيعة والخلق والأصل.

ص: 410

فإن كان ما قد جاء عنّي قلته

فلا رفعت سوطي إليّ أناملي

فكيف وودّي ما حييت ونصرتي

لآل رسول الله زين المحافل

له رتب عال على النّاس فضلها

تقاصر عنها سطوة المتطاول

ثمّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالّذين رموا عائشة فجلدوا جميعا ثمانين)

(1)

.

قوله تعالى: {(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ)} وهم أربعة: حسّان؛ ومسطح؛ وعبد الله بن أبي بن سلول؛ وحمنة بنت جحش. وقيل: العصبة من الواحد إلى الأربعين. والإفك في اللغة: الكذب.

قوله تعالى: {(لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ)} خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر ولعائشة فيما لحقهم من الحزن والغمّ الشديد. والمعنى: لا تحسبوه شرّا لكم بل هو خير لكم؛ لأنكم تؤجرون على ما قيل لكم من الأذى، وبما يكتب لكم من الثواب في الآخرة على الصّبر، ولما بيّن الله من طهارة عائشة وبراءتها بآيات تتلى في المحراب إلى يوم القيامة.

قوله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ؛} أي لكلّ امرئ من الخائضين في هذا الأمر جزاء ما كسب من الإثم. قوله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ؛} أي والذي تحمّل معظمه فبدأ بالخوض فيه وهو عبد الله بن أبيّ هو الذي بالغ في إشاعة هذا الحديث، وكان أهل الحديث يجتمعون عنده ويسيقون ذلك بأمره، {لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ} (11)؛يصغر في مقابلته كلّ عذاب يكون في الدّنيا.

قرأ حميد الأعرج ويعقوب «(كبره)» بضم الكاف، قال أبو عمرو بن العلاء:

(هو خطأ لأنّ الكبر هو بضمّ الكاف في الولاء والسّنّ، ومنه الحديث [الولاء الكبر])

(2)

.

(1)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 23 ص 92:الحديث (15).والبخاري في الصحيح: كتاب الشهادات: باب تعديل النساء بعضهن بعضا: الحديث (2661)،وفي المغازي: باب حديث الإفك: الحديث (4141)،وفي التفسير: الحديث (4750).

(2)

ينظر: جامع البيان: ج 10 ص 115.

ص: 411

وروى ابن أبي مليكة عن عائشة قالت في حديث الإفك: (ثمّ ركبت وأخذ صفوان بالزّمام، فمررنا بملإ من المنافقين، فقام عبد الله بن أبيّ بن سلول، فقال: من هذا؟ قالوا: عائشة، قال: والله ما نجت منه ولا نجا منها، وقال: امرأة نبيّكم باتت مع رجل حتّى أصبحت، ثمّ جاء يقودها. وشرع في ذلك حسّان ومسطح وحمنة، ثمّ فشا ذلك في النّاس)

(1)

.وقوله تعالى {(لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ)} يريد في الدّنيا الجلد ثمانين جلدة، وفي الآخرة يصيّره الله إلى النار.

قوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً؛} أي هلاّ إذ سمعتموه أنّها العصبة الكاذبة؛ أي هلاّ إذ سمعتم قذف عائشة بصفوان، ظنّ المؤمنون والمؤمنات من العصبة الكاذبة يعني حمنة بنت جحش وحسّان ومسطح بأنفسهم خيرا. قال الحسن:(بأهل دينهم لأنّ المؤمنين كنفس واحدة).ألا ترى ظنّ المؤمنون الذي هم كنفس واحدة فيما جرى عليها من الأمور بأنفسهم خيرا، {وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ} (12)؛أي كذب ظاهر بيّن.

وروي: أن المراد بهذه الآية أبو أيّوب الأنصاريّ وامرأته أمّ أيوب، قالت: أما تسمع ما يقول النّاس في عائشة؟ قال: بل وذلك الكذب البيّن، أرأيت يا أمّ أيّوب كنت تفعلين ذلك؟ قالت: لا؛ والله ما كنت أفعله، قال: فعائشة والله خير منك، سبحان الله! هذا بهتان عظيم، فأنزل الله هذه الآية

(2)

.والمعنى: هلاّ إذا سمعتموه ظنّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا كما فعل أبو أيّوب وامرأته قالا فيها خيرا.

قوله تعالى: {لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ؛} أي هلاّ جاء العصبة الكاذبة على قذفهم عائشة بأربعة شهداء يشهدون بأنّهم عاينوا منها ذلك، {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ} (13)؛أخبر الله تعالى أنّهم كاذبون في قذفها، يعنى: إنّهم كاذبون في الظاهر والباطن، وكفى بهذا براءة لعائشة

(1)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 899.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (19567).وابن أبي حاتم في التفسير: النص (14225).

ص: 412

رضي الله عنها، فمن جوّز صدق أولئك في أمر عائشة صار كافرا بالله لا محالة؛ لأنه ردّ شهادة الله لها بالبراءة.

قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ} (14)؛معناه: لولا منّة الله وإنعامه عليكم في الدّنيا والآخرة بتأخير العذاب عنكم، وقبول التوبة لمن تاب لمسّكم فيما خضتم فيه من الإفك عذاب عظيم هائل في الدنيا والآخرة لا انقطاع له.

قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ؛} قال الكلبيّ: (وذلك أنّ الرّجل منهم كان يلقى الرّجل فيقول: بلغني كذا وكذا، ويتلقّونه تلقّيا)،قال الزجّاج:(يلقيه بعضكم إلى بعض)

(1)

، {وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ؛} ولا بيان ولا حجّة، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً؛} أي تظنّون أن ذلك القذف سهل لا إثم فيه {وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ} (15)؛في الوزر والعقوبة. قرأ أبيّ:«(إذ تتلقّونه)» بتاءين، وقرأت عائشة «(إذ تلقونه)» بكسر اللام وتخفيف القاف من الولق، والولق الكذب، يقال: ولق فلان إذا استمرّ على الكذب، وولق فلان السّرّ إذا استمرّ به

(2)

.

قوله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا؛} معناه:

هلاّ قلتم حين سمعتم ذلك: لا يحلّ لنا أن نتكلّم بهذا. قوله تعالى: {سُبْحانَكَ؛} أي تنزيها لله تعالى أن تكون امرأة نبيّه زانية، قوله تعالى:{هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ} (16)؛أي كذب، يقال: بهته يبهته بهتا وبهتانا؛ إذا أخبره بالكذب عليه.

وقوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً؛} أي ينهاكم الله ويخوّفكم ويحرّم عليكم أن تعودوا لمثل هذا القذف، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (17)؛لأن قذف المحصنات لا يكون من صفات المؤمنين، وقوله تعالى {(لِمِثْلِهِ)} أي إلى مثله.

قوله تعالى: {وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ؛} أي الأمر والنهي، {وَاللهُ عَلِيمٌ؛} بمقالة الكاذبين في أمر عائشة، {حَكِيمٌ} (18)؛في ما شرّع من الأحكام.

(1)

قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: ج 4 ص 31.

(2)

في معاني القرآن وإعرابه: ج 4 ص 31؛قال الزجاج: (وقرأت عائشة رحمها الله: إذ تلقونه بألسنتكم ومعناه: إذ تسرعون بالكذب، يقال: ولق يلق إذا أسرع في الكذب وغيره.

ص: 413

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا؛} فيه بيان على أن العزم على الفسق فسق، وأنّ على الإنسان أن يحبّ للناس ما يحبّ لنفسه، وأن يكون في قلبه سلامة للمؤمنين، كما يكون مأمورا بكفّ اللسان والجوارح. ومعنى الآية: إن الذين يحبّون أن يفشو ويظهر الزّنا في الذين آمنوا بأن ينسبوه إليهم ويقذفوهم به، {لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا؛} يعني الجلد، {وَالْآخِرَةِ؛} يعني عذاب النار، يريد بذلك المنافقين، {وَاللهُ يَعْلَمُ؛} ما خضتم فيه من الإفك، وما فيه من سخط الله، {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (19)؛ ذلك، فحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع قاذفي عائشة.

قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} (20) محذوف الجواب تقديره: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته) لعجّل لكم العذاب وعاقبكم في ما قلتم في أمر عائشة ومحبّتكم إشاعة الفاحشة فيها، {(وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)} فلم يعاقبكم في ذلك. قال ابن عبّاس:(يريد مسطح وحسّان وحمنة).

قوله تعالى: {*يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ؛} أي لا تسلكوا طرق الشّيطان، ولا تعملوا بتزيينه ووسوسته في قذف عائشة، {فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ؛} أي يأمر بعصيان الله وكلّ ما يكره الله مما لا يعرف في شريعة ولا سنّة. وقيل: الفحشاء: القبيح من القول والعمل، والمنكر:

الفساد الذي ينكر العقل صحّته ويزجر عنه.

قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً؛} أي ما صلح منكم من أحد أبدا. وقيل: معناه: ما طهر منكم أحد يذنب ولا صلح أمره بعد الذي قال في عائشة ما قال، ولا قبل توبة أحد منكم، {وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ؛} أي يطهّر من يشاء من الإثم بالرحمة والمغفرة، فيوفّقه للتوبة، {وَاللهُ سَمِيعٌ؛} أي سميع لمقالتكم، {عَلِيمٌ} (21)؛بما في نفوسكم من النّدامة والتوبة. وقيل: معناه: سميع لمقالة الخائضين في أمر عائشة وصفوان، عليم ببراءتهما.

قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ؛} أي لا يحلف ذوو الغنى والسّعة منكم أن يعطوا

ص: 414

ذوي القربى والمساكين والمهاجرين من مكّة إلى المدينة. نزل ذلك في أبي بكر رضي الله عنه حين بلغه مقالة مسطح وأصحابه في خوضهم في أمر عائشة، حلف بالله لا ينفق عليه.

قيل: إنّه دعاه وقال له: (أغدوك يا مسطح بمالي وتؤذيني في ولدي؟ والله لا أنفق عليك).وكان مسطح ابن خالة أبي بكر رضي الله عنه، وكان مسطح من المهاجرين البدريّين. فلمّا نزلت هذه الآية تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضي الله عنه فقال:(بلى؛ أحبّ أن يغفر الله لي، أطيع ربي وأرغم أنفي وأردّ النّفقة عليه)

(1)

.

وقوله تعالى {(أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى)} معناه: أن لا يؤتوا فحذف (لا).قال ابن عباس: (قال الله لأبي بكر رضي الله عنه: قد جعلت فيك يا أبا بكر الفضل والمعرفة بالله وصلة الرّحم، وجعلت عندك السّعة فأنفق على مسطح، فله قرابة وله هجرة وله مسكنة).وقوله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (22)؛قال مقاتل: (قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: [أما تحبّ أن يغفر الله لك؟] قال: بلى، قال: [فاعف واصفح] قال: قد عفوت وصفحت، لا أمنعه معروفي بعد اليوم أبدا، وقد جعلت له مثل ما كان قبل اليوم)

(2)

.

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ؛} معناه: إن الذين يقذفون العفائف الغافلات عمّا قذفن به كغفلة عائشة عن ما قيل فيها، {الْمُؤْمِناتِ،} بالله ورسوله، {لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ؛} أي عذّبوا في الدّنيا بالحدّ، وفي الآخرة بعذاب النار. وسمّيت عائشة غافلة؛ لأنّها قذفت بأمر لم يخطر ببالها، فأصاب كلّ واحد من قاذفيها ذاهبة في الدّنيا. أمّا ابن أبيّ فقد مات كافرا ونهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصّلاة عليه، وأما حسّان فقد دخل على عائشة رضي الله عنها بعد ما ذهب بصره في آخر عمره، وأنشدها في بيتها:

حصان رزان ما تزنّ بريبة

وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

(1)

رواه البخاري في الصحيح: كتاب التفسير: الحديث (4750).

(2)

قاله مقاتل في التفسير: ج 2 ص 414.

ص: 415

قالت: إنّك لست كذلك، فلمّا خرج من عندها، قيل لعائشة: إنّ الله وعدهم بعذاب في الدّنيا والآخرة؟ فقالت: أوليس هذا عذاب؟ يعني ذهاب بصره.

واختلف المفسّرون في هذه الآية {(لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ)} {وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} (23)؛فقال مقاتل: (هذه الآية خاصّة في عبد الله بن أبيّ المنافق ورميه عائشة)

(1)

،وقال ابن جبير:(هذا الحكم خاصّة فيمن قذف عائشة، فمن قذفها فهو من أهل هذه الآية)

(2)

،وقال الضحّاك والكلبيّ:(هذا في عائشة وفي جميع أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّة دون سائر المؤمنين)

(3)

،قال ابن عبّاس:(هذه الآية في شأن أمّهات المؤمنين خاصّة ليس فيها توبة، وأمّا من قذف امرأة مؤمنة من غيرهنّ، فقد جعل الله له توبة).ثمّ قرأ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ} إلى قوله:

{إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا،} قال: (فجعل الله لهؤلاء توبة، ولم يجعل لأولئك)

(4)

.

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [من أشاع على رجل كلمة فاحشة وهو منها بريء يريد أن يسبّه بها في الدّنيا، كان حقّا على الله أن يدسّه بها في النّار. وأيّما رجل جاء في شفاعة حدّ من حدود الله تعالى فعليه لعنة الله إلى يوم القيامة]

(5)

.

قوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ؛} قال الكلبيّ: (تشهد عليهم يوم القيامة ألسنتهم بما تكلّموا به من الفرية في قذف عائشة){وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} (24)،قال ابن عبّاس:(تنطق بما عملت في الدّنيا)،وهذه عامّة في القاذفين وغيرهم. قرأ حمزة والكسائيّ:«(يوم يشهد)» بالياء لتقدّم الفعل.

(1)

قاله مقاتل في التفسير: ج 2 ص 414 بمعناه.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (19585).

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (19587).

(4)

أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (19589).

(5)

في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين: ج 4 ص 1773؛ قال العراقي: (رواه ابن أبي الدنيا موقوفا على أبي الدرداء، وقال: رواه الطبراني بلفظ آخر من حديثه مرفوعا).وفي مجمع الزوائد: ج 4 ص 200 - 201؛قال الهيثمي: (رواه كله الطبراني في الكبير، وإسناد الأول فيه من لم أعرفه، ورجال الثاني ثقات).عن أبي الدرداء بإسنادين، أوله:[أيّما رجل حالت شفاعته دون حدّ من حدود الله تعالى لم يزل في سخط الله حتى ينزع].

ص: 416

قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ؛} أي يوفّيهنّ جزاءهم الواجب على قدر أعمالهم، {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (25)؛أي ويعلمون يومئذ أنّ الله تعالى هو الحقّ المبين، يقضي بحقّ ويأخذ بحقّ ويعطي بحقّ.

قال ابن عباس: (وذلك أنّ عبد الله بن أبيّ بن سلول كان يشكّ في الدّين، ويعلم يوم القيامة أنّ الله هو الحقّ المبين).قرأ مجاهد: «(يومئذ يوفّيهم الله دينهم الحقّ)» برفع القاف على أنه نعتا لله، وتصديقه قراءة أبيّ «(يومئذ يوفّيهم الله الحقّ دينهم)»

(1)

.وقوله تعالى {(الْمُبِينُ)} أي يبيّن لهم حقيقة ما كان بعدهم في الدّنيا.

قوله تعالى: {الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ؛} معناه: الكلمات الخبيثات للخبيثين من الرّجال؛ أي لا يتكلم بالكلمات الخبيثات إلاّ الخبيث من الرجال والنساء. وقيل: معناه: إن الخبيث من القول لا يليق إلاّ بالخبيث من الناس، وكلّ كلام إنّما يحسن في أهله، فيضاف سيّء القول إلى من يليق به ذلك، وكذلك الطيّب من القول، وعائشة لا يليق بها الخبيثات؛ لأنّها طيّبة فيضاف إليها طيّبات الكلام من الثّناء الحسن وما يليق بها.

وقال بعضهم: معنى الآية: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرّجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء للمشاكلة التي بينهما، والطيّبات من النساء للطيّبين من الرجال، والطيّبون من الرجال للطيّبات من النساء. وفي هذا تبرئة عائشة رضي الله عنها؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان من أطيب الطيّبين، فلا يكون له إلاّ امرأة طيّبة.

(1)

في الجامع لأحكام القرآن: ج 12 ص 211؛ قال القرطبي: (وقرأ مجاهد برفع (الحق) على أنه نعت لله عز وجل. وقال أبو عبيد: ولولا كراهة خلاف الناس لكان الوجه الرفع؛ ليكون نعتا لله عز وجل، وتكون موافق لقراءة أبي، وذلك أن جرير بن حازم قال: رأيت في مصحف أبي (يوفّيهم الله الحقّ دينهم).قال النحاس: وهذا الكلام من أبي عبيد غير مرضي؛ لأنه احتجّ بما هو مخالف للسواد الأعظم. ولا حجة أيضا فيه؛ لأنه لو صح هذا أنه في مصحف أبي كذا جاز أن تكون القراءة: يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم، يكون (دينهم) بدلا من (الحق).) ينظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج: ج 4 ص 30.

ص: 417

قوله تعالى: {أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمّا يَقُولُونَ؛} يعني أن الطيّبين والطيبات مبرّءون مما يقول الخبيثون، والمبرّأ هو المنفيّ عن صفة الخبث، والمراد به عائشة وصفوان، فذكرهما بلفظ الجماعة كما في قوله تعالى {فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ}

(1)

والمراد أخوان. وقوله تعالى {(مُبَرَّؤُنَ)} أي منزّهون. وقوله تعالى: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (26)؛أي لهم مغفرة لذنوبهم وثواب حسن بإلحاقهم في الجنّة من الأذيّة.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (لقد أعطيت تسعا لم يعطهنّ امرأة: نزل جبريل بصورتي في راحته حين أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتزوّجني، ولقد تزوّجني بكرا وما تزوّج بكرا غيري، ولقد قبض ورأسه في حجري، ولقد قبر في بيتي، ولقد حفّت الملائكة بيتي، ولقد كان الوحي إذا نزل عليه تفرّقن عنه، وكان ينزل عليه وأنا معه في لحافه، وإنّي لابنة خليفته وصديقه، ولقد نزل عذري من السّماء، ولقد خلقت طيّبة لعبد طيّب، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما)

(2)

.

قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها؛} في الآية أمر بالتّحفّظ عن الهجوم عن ما لا يؤمن من العورات، وإلى هذا أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث قال للرّجل الذي قال له: أستأذن على أخواتي

(3)

؟ قال: [إن لم تستأذن رأيت منها ما تكره]

(4)

أي ربّما تدخل عليها وهي منكشفة فترى ما تكره. ومعنى قوله تعالى {(حَتّى تَسْتَأْنِسُوا)} أي حتى تستأذنوا، والاستئناس هو الاستعلام ليعلم من في الدار، وذلك يكون بقرع الباب والتّنحنح وخفق النّعل.

(1)

النساء 11/.

(2)

في مجمع الزوائد: ج 9 ص 241:كتاب المناقب: باب جامع فيما بقي من فضلها؛ قال الهيثمي: (رواه أبو يعلى وفي الصحيح وغيره بعضه، وفي إسناد أبي يعلى من لم أعرفهم).وذكره من وجه آخر قال: (رواه الطبراني ورجال أحد أسانيد الطبراني رجال الصحيح) وفي ص 242 ذكره من وجه آخر ضعيف.

(3)

في المخطوط: (أختي).

(4)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (19623) من حديث ابن عباس مرسلا.

ص: 418

وكان أبيّ بن كعب وابن عباس والأعمش يقرءونها «(حتّى تستأذنوا وتسلّموا على أهلها)» .وقيل: إن في الآية تقديم وتأخير؛ تقديره: حتى تسلّموا على أهلها وتستأذنوا، وهو أن يقول: السّلام عليكم؛ أدخل؟.

وروي أنّ أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألج؟ فقال صلى الله عليه وسلم لخادمة يقال لها روضة: [قومي إلى هذا فعلّميه، فإنّه لا يحسن يستأذن، قولي له: تقول: السّلام عليكم؛ أدخل؟]

(1)

.

وعن زينب امرأة ابن مسعود قالت: (كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق؛ كراهة أن يهجم علينا ويرى أمرا يكرهه)

(2)

.وعن أبي أيّوب

(3)

قال: (يتكلّم الرّجل بالتّكبيرة والتّسبيحة والتّحميدة، ويتنحنح يؤذن أهل البيت)

(4)

.

ويروى أنّ أبا موسى الأشعريّ رضي الله عنه أتى إلى منزل عمر رضي الله عنه فقال: السّلام عليكم؛ هذا عبد الله بن قيس؛ هل أدخل؟ فلم يؤذن له، ثمّ قال: السّلام عليكم؛ هذا أبو موسى. فلم يؤذن له، فذهب فوجّه عمر بعده من يردّه، فسأله عمّا منعه

(5)

فقال:

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك وإلاّ فارجع].فقال عمر رضي الله عنه: لتأتينّي بالبيّنة وإلاّ عاقبتك! فانطلق أبو موسى وأتى بأبيّ بن كعب وأبي سعيد الخدريّ فشهدا بذلك، وقال له: إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك؛ فلا تكوننّ عذابا على أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: وما فعلت؟! إنّما أنا سمعت بشيء فأحببت أن أتثبّت

(6)

.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (19616).وفي الدر المنثور: ج 6 ص 172؛ عزاه السيوطي إلى الطبري وحده.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (19626).

(3)

هو أبو أيوب الأنصاري، الصحابي رضي الله عنه.

(4)

أخرجه ابن ماجة في السنن: كتاب الأدب: باب الاستئذان: الحديث (3707)،وإسناده ضعيف؛ فيه أبو سورة، قال فيه البخاري:(منكر الحديث، يروي عن أبي أيوب مناكير لا يتابع عليها).

(5)

في المخطوط فراغ.

(6)

رواه البخاري في الصحيح: كتاب الاستئذان: باب التسليم والاستئذان: الحديث (6245).-

ص: 419

وروي أنّ رجلا قال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: أأستأذن على أمّي؟ قال: [نعم] قال: ليس لها خادم غيري، فأستأذن عليها كلّما دخلت؟ قال:[أتحبّ أن تراها وهي عريانة؟] قال: لا، قال:[فاستأذن]

(1)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من اطّلع في بيت قوم بغير إذنهم؛ حلّ لهم أن يفقئوا عينه]

(2)

.وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه رأى رجلا اطّلع في حجرته وبيد النّبيّ صلى الله عليه وسلم مدرا يحكّ به رأسه، فقال:[لو علمت أنّك تريد أن تنظر إلى عورة لفقأت بهذا عينك، إنّما جعل الاستئذان من أجل النّظر]

(3)

.

قوله تعالى: {ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (27)؛أي ذلك الاستئذان خير لكم من الدخول بغير إذن لكي تذكرون منه،

قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها؛} معناه: فإن لم تجدوا في البيوت أحدا من سكّانها فلا تدخلوها، {حَتّى يُؤْذَنَ لَكُمْ؛} وكذلك لو وجدوا البيوت خالية لم يجز دخولها أيضا إلاّ بإذن صاحبها.

قوله تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ؛} أي إذا أمرتم بالانصراف فانصرفوا وتقوّسوا على باب البيت فلعلّ صاحب البيت لا يرضى أن يقع بصر المستأذن على أحد من حرمه، وكذلك لو لم يقل لكم صاحب الدار

(6)

-ومسلم في الصحيح: كتاب الآداب: باب الاستئذان: الحديث (2153/ 33).وأبو داود في السنن: كتاب الآداب: الحديث (5180).

(1)

أخرجه الإمام مالك في الموطأ: كتاب الاستئ ذان: باب الاستئذان: ص 963.والبيهقي في السنن الكبرى: كتاب النكاح: باب استئذا ن المملوك والطفل: الحديث (13853) عن حذيفة موقوفا، و (13854) ع ن عطاء بن يسار مرسلا.

(2)

رواه الإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 266.ومسلم في الصحيح: كتاب الأدب: باب تحريم النظر في بيت غيره: الحديث (2158/ 43).وأبو داود في السنن: كتاب الآداب: باب الاستئذان: الحديث (5172).

(3)

رواه البخاري في الصحيح: كتاب الاستئذان: الحديث (1241).ومسلم في الصحيح: كتاب الآداب: الحديث (2156/ 40).

ص: 420

ارجعوا، ولكن وجد منه ما يدلّ على ذلك وجب الرجوع، لقوله صلى الله عليه وسلم:[الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك وإلاّ فارجع]

(1)

.وروي [الاستئذان ثلاث: مرّة يستمعون، ومرّة يستصلحون، ومرّة يأذنون].وقوله تعالى {(هُوَ أَزْكى لَكُمْ)} أي الرجوع أطهر وأنفع لدينكم من الجلوس على أبواب الناس، {وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (28)؛ أي بما تعملون من الدّخول بإذن وغير إذن عالم.

فلما نزلت آية الاستئذان؛ قالوا: فكيف بالبيوت التي بين مكّة والمدينة والشّام على ظهر الطّريق ليس فيها ساكن؟

فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ؛} بغير استئذان. وقيل: أراد بذلك المواضع التي لا يختصّ سكانها أحدا دون آخر مثل الخانات والرّباطات التي تتّخذ للمسافرين يتظلّلون فيها من الحرّ والبرد، ويدخل في هذا أخذ ما جرت العادة بأخذه مثل النواة والخرق الملقاة في الطريق، ويجوز أن يكون المراد بالبيوت في هذه الآية بيت التّجّار التي في الأسواق.

قوله تعالى: {فِيها مَتاعٌ لَكُمْ؛} أي منافع من اتّقاء الحرّ والبرد والاستمتاع بها. قال مجاهد: (كانوا يصنعون في طرق المدينة أقتابا

(2)

وأمتعة في البيوت ليس فيها أحد، وكانت الطّرق إذ ذاك آمنة، فأحلّ لهم أن يدخلوها بغير إذن)

(3)

.وقال عطاء: (معناه بالمتاع هو قضاء الحاجة من الخلاء والبول)

(4)

.قوله تعالى: {وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ} (29)؛أي لا يخفى عليه شيء من أعمالكم.

قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ؛} أي قل لهم يغضّوا من أبصارهم عن النظر إلى ما لا يحلّ لهم. واختلفوا في قوله تعالى {(مِنْ أَبْصارِهِمْ)}

(1)

تقدم.

(2)

الأقتاب جمع قتب: الرّحل الصغير على قدر سنام البعير.

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (19632).

(4)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (19636).

ص: 421

فقال بعضهم: هي صلة يغضّوا أبصارهم. وقال بعضهم: هي ثابتة في الحكم؛ لأن المؤمنين غير مأمورين بغضّ البصر أصلا وإنّما أمروا بالغضّ عمّا لا يحلّ. قوله تعالى:

{وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ؛} يعني عن الحرام، قال صلى الله عليه وسلم:[اضمنوا لي شيئا من أنفسكم أضمن لكم الجنّة: اصدقوا إذا حدّثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدّوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضّوا أبصاركم، وكفّوا أيديكم]

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: [النّظر إلى محاسن المرأة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن ردّ بصره ابتغاء ثواب الله أبدله الله بذلك ما يسرّه]

(2)

.وقوله تعالى: {ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ؛} أي أطهر وأصلح عند الله، {إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ} (30)؛ في الفروج والأبصار.

قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ؛} أي قل لهنّ يكففن أبصارهن عن ما لا يجوز، {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ،} عن الحرام. وقيل:

(يحفظن فروجهنّ) أي يستترن حتى لا يرى فروجهن أحد.

قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ ما ظَهَرَ مِنْها؛} أي لا يبدين مواضع زينتهنّ إلاّ ما ظهر من موضع الزّينة. والزّينة زينتان: ظاهرة وباطنة، فالباطنة:

المخانق والمعاضد والقلادة والخلخال والسّوار والقرط والمعاصم. وأما الزينة الظاهرة: الكحل والخاتم والخضاب، فليس على المرأة بحكم إلاّ هذا

(3)

به ستر وجهها وكفّيها في الصلاة.

(1)

رواه الإمام أحمد في المسند: ج 5 ص 223.والبيهقي في السنن الكبرى: الحديث (12960).

(2)

أخرجه الطبراني في الكبير: الحديث (10362).والحاكم في المستدرك: كتاب الرقاق: الحديث (1945).والقضاعي في مسند الشهاب: الحديث (292).

(3)

المعنى: أن الزينة الظاهرة هي محل الحكم؛ لأنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة وذلك في الصلاة والحج، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما. وذهب المصنف رحمه الله إلى هذا الوجه من التفسير، ومعه الدليل ولم يرجّح الرأي الثاني مع حسنه أيضا. ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 12 ص 229.

ص: 422

وفي غير الصلاة يجوز للأجانب من الرّجال النظر إلى وجهها لغير الشّهوة. فأما النظر مع الشهوة فلا يجوز إلاّ في أربعة مواضع: إذا أراد أن يتزوّج امرأة، أو يشتري جارية، أو يتحمّل الشهادة لها أو عليها، أو القاضي يقضي لها أو عليها.

وعن ابن مسعود: (أنّ الزّينة الظّاهرة: هي الجلباب والملاءة)

(1)

يعني الثّياب لقوله {خُذُوا زِينَتَكُمْ}

(2)

أي ثيابكم. وعن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت

(3)

أن تظهر إلاّ وجهها ويديها وإلى هاهنا وقبض على نصف الذّراع]

(4)

.

قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ؛} الخمر: جمع خمار؛ وهو ما تغطّي به المرأة رأسها، والمعنى: وليلقين مقانعهنّ على جيوبهنّ وصدورهن ليسترن بذلك شعورهن ومروطهن وأعناقهن ونحورهن، كما قال ابن عباس:(تغطّي المرأة شعرها وصدرها وترابها وسوالفها) لأن المرأة اذا أسدلت خمارها انكشف ما قدّامها وما خلفها فوقع الاطلاع عليها. والجيوب: جمع جيب وهو جيب القميص.

قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ؛} أراد به موضع الزينة الباطنة التي لا يجوز كشفها في الصّلاة، والمعنى: لا يظهرن موضع الزينة التي تكون تحت خمرهنّ إلاّ لأزواجهنّ، {أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ} أي أزواجهنّ، {أَوْ إِخْوانِهِنَّ؛} في النّسب أو الرّضاع، {أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ؛} وكلّ ذي رحم محرم منهنّ، {أَوْ نِسائِهِنَّ؛} يعني نساء أهل دينهنّ وهنّ المسلمات، ولا يحلّ لمسلمة أن تنكشف بين يدي يهوديّة أو نصرانية أو مجوسية أو مشركة. وقيل: المراد بذلك العفائف من النساء اللائى يكن اشكالا لهن.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (19644).وفي الدر المنثور: ج 6 ص 179؛ قال السيوطي: (أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر).

(2)

الأعراف 31/.

(3)

في أصل المخطوط: (غزلت).

(4)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (19656).وفي الدر المنثور: ج 6 ص 180؛ قال السيوطي: (أخرجه عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة).

ص: 423

ولا ينبغي للمرأة الصالحة أن تنظر إلى المرأة الفاجرة؛ لأنّها تصفها عند الرجل، ولا تضع جلبابها ولا خمارها عندها، ولا يحلّ لامرأة مؤمنة أن تنكشف أيضا عند مشركة أو كتابية إلاّ أن تكون أمة لها، فذلك قوله تعالى:{أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ؛} وروي أنّ عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي عبيدة: (أمّا بعد: فقد بلغني أنّ نساءكم يدخلن الحمّامات معهنّ نساء أهل الكتاب، فامنع من ذلك).فلمّا أتى الكتاب إلى أبي عبيدة قام في ذلك المكان مبتهلا وقال: (اللهمّ أيّما امرأة تدخل الحمّام من غير علّة ولا سقم تريد البياض لوجهها، فسوّد وجهها يوم تبيضّ الوجوه)

(1)

.

قوله تعالى: {(أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ)} ذهب بعضهم إلى أن المراد به العبد، فإنه لا بأس أن تظهر المرأة عند عبدها ما تظهر عند محارمها. وكان سعيد بن المسيّب يقول:

(لا يغرّنّكم قوله: {(أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ)} فإنّها نزلت في الإماء دون العبيد)،وعن مجاهد مثل ذلك، كأنّهما ذهبا إلى أن المراد بقوله:{(أَوْ نِسائِهِنَّ)} الحرائر، والمراد بقوله {(أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ)} الإماء والولائد والصّغار من الذّكور المماليك.

قوله تعالى: {أَوِ التّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ؛} يعني الذين يتبعون النساء من الأجر العمّال الذين لا حاجة لهم في النّكاح، وإنّما يخدمون القوم لينالوا من طعامهم، والإربة فعلة من الإرب وهو الحاجة، كالمشية من المشي. قال البعض:(هم قوم طبعوا على غير شهوة، لا يشتهون ولا يعرفون ما يشتهى من النّساء ولا يشتهيهم النّساء) يعني: لا يشتهون ولا يشتهون. وقال سعيد بن جبير:

(المعتوهون)،وقال عكرمة:(هو المجنون)،وقال الحكم بن أبان:(هم المخانيث الّذين لا إرب لهم في النّساء، ولا تقوم لهم شهوة)

(2)

.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (19673).وفي الدر المنثور: ج 6 ص 183؛ قال السيوطي: (أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي في سننه وابن المنذر).

(2)

بمعناه أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (19689).

ص: 424

وعن عائشة رضي الله عنها: أنّ مخنّثا كان يدخل عليهنّ، وكانوا يعدّونه من غير أولي الإربة، فسمعه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يقول في صفة امرأة: أنّها إذا أقبلت؛ أقبلت بأربع، وإذا أدبرت؛ أدبرت بثمان، فقال صلى الله عليه وسلم:[أو هذا المخنّث يعرف هذا الكلام؟! لا أراه يدخل عليكنّ]

(1)

.وقال مجاهد وعكرمة والشعبيّ: (هم الّذين لا إرب لهم في النّساء)

(2)

،وقال قتادة:(هو الّذي يتبعك لأجل أن يصيب من طعامك، ولا همّة له في النّساء)

(3)

.وقال مقاتل: (هو الشّيخ الهرم الّذي لا يستطيع غشيان النّساء ولا يشتهيهنّ)

(4)

.

وأما الخصيان فهم على وجهين: إن كان خصيّا قد جفّ ماؤه، فهو من غير أولي الإربة، وإن كان لم يجفّ، فهو من أولي الإربة، كما روي عن عائشة أنّها قالت:

(إنّ الخصياء مثله؛ وإنّها لم تحلّ ما حرّم الله).قوله تعالى: {(غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ)،} قرأ ابن كثير والفرّاء بخفض {(غَيْرِ)} على الصفة، وقرأ ابن عامر وعاصم بنصب «(غير)» على الاستثناء، ويكون «(غير)» بمعنى إلاّ، وقيل: على الحال.

قوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ؛} يعني الصغير الذي لا رغبة له في النساء، ولم يبلغ مبلغا يطيق إتيانهن، وقد يذكر الطّفل بمعنى الجماعة، والمراد به هاهنا: والجماعة من الأطفال. وأما الصبيّ الذي ظهرت له رغبة في النساء، فحكمه حكم البالغ، لقوله صلى الله عليه وسلم في الصّبيان:[مروهم بالصّلاة إذا بلغوا سبعا، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا، وفرّقوا بينهم في المضاجع]

(5)

.

(1)

رواه البخاري في الصحيح: كتاب المغازي: باب غزوة الطائف: الحديث (4324).ومسلم في الصحيح: كتاب السّلام: باب منع المخنث من الدخول على النساء: الحديث (2180).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (19687) عن مجاهد، و (19681) عن الشعبي.

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الآثار (19679 - 19682).

(4)

قاله مقاتل في التفسير: ج 2 ص 417.

(5)

رواه أبو داود في السنن: كتاب الصلاة: باب متى يؤمر الغلام: الحديث (4950).والحاكم في المستدرك: كتاب الصلاة: الحديث (734).

ص: 425

قوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ؛} قال الحسن: (كانت المرأة تمرّ على المجلس وعليها الخلخال، فتضرب إحدى رجليها بالأخرى ليعلم القوم أنّ عليها الخلخال، فنهين عن ذلك لأنّ ذلك ممّا يحرّك الشّهوة؛ لأنّ سماع صوت الزّينة بمنزلة إبدائه).وفي هذا دليل أن صوت المرأة عورة؛ لأن صوت خلخالها أقلّ من صوتها. وأما سوى مواضع الزينة فلا يحلّ النظر إليه إلاّ للزّوج خاصّة.

قوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ؛} أي وتوبوا إلى الله جميعا عمّا كنتم في الجاهليّة تعملون من الخصال المذمومة، واعملوا بطاعة الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (31)؛وقوله تعالى:{(أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ)} قرأ ابن عامر بضمّ (الهاء) ومنه (يا أيّه السّاحر) و (أيّه الثّقلان)،وينبغي أن لا يؤخذ بقراءته.

قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ؛} أي تزوّجوهم، والأيم اسم المرأة التي لا زوج لها، والرجل الذي لا امرأة له، يقال: رجل أيم وامرأة أيم، كما يقال:

رجل بكر وامرأة بكر، وقال الشاعر:

فإن تنكحي أنكح وإن تتأيّمي أكن

مدى الدّهر ما لم تنكحي أتأيّم

ويقال

(1)

:الأيم في النّساء كالعزب في الرّجال، وجمع الأيم الأيامى.

قوله تعالى: {وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ؛} أي وزوّجوا عبيدكم وإمائكم، وهذا أمر ترغيب واستحباب. وفائدة ذكر الصالحين: أن المقصود من النكاح العفاف، والصالح هو الذي يتعفّف. وقيل: الصلاح هاهنا الإيمان، ثم رجع إلى الأحرار فقال:{إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ؛} فيه حثّ على النكاح؛ لئلا يمتنعوا منه بسبب الفقر، فإن الله هو الغنيّ والمغني، إن يكونوا فقراء لا سعة لهم في التزويج (يغنيهم الله من فضله) أي يوسّع عليهم عند التزوّج.

(1)

آم الرجل-بالمد-والمرأة وتأيّما: إذا لم يتزوجا بكرين أو ثيبين، والشاهد الشعري اختلف الطبراني في نقله عن سائر المفسرين. ونقله ابن منظور في لسان العرب: ج 1 ص 290،والمعنى: يقول لمحبوبته: إن تتزوجي أتزوج، وإن لم تتزوجي لم أتزوج.

ص: 426

واختلفوا في الآية قوله تعالى: {(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ)} الآية؛ فقال بعضهم:

هذا الأمر على الحتم والإيجاب، أوجب الله النكاح على من استطاعه، وتأوّله الباقون على أنه أمر استحباب وندب، وهو المشهور الذي عليه الجمهور.

وقيل: يجب على المرأة والرجل أن يتزوّجا إذا تاقت أنفسهما إليه؛ لأن الله تعالى أمر به ورضيه وندب إليه، وبلغنا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:[تناكحوا؛ فإنّي أباهي بكم الأمم حتّى السّقط]

(1)

.وقال صلى الله عليه وسلم: [من أحبّ فطرتي فليستنّ بسنّتي]

(2)

وهو النكاح؛ لأنه ينتفع بدعاء ولده بعده، ومن لم تتق نفسه إليه فأحبّ إلينا أن يتخلّى لعبادة الله.

وعن أبي نجيح السلميّ؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من كان له ما يتزوّج به ولم يتزوّج فليس منّا]

(3)

،وقال صلى الله عليه وسلم:[من أدرك ولدا وعنده ما يزوّجه فلم يزوّجه فأحدث إثما فالإثم بينهما]،وقال صلى الله عليه وسلم:[إذا تزوّج أحدكم عجّ الشّيطان]

(4)

تأويله:

غنم ابن آدم مني ثلثي دينه. وقال صلى الله عليه وسلم: [مسكين مسكين رجل ليست له زوجة، مسكينة مسكينة امرأة ليس لها زوج] قالوا: يا رسول الله! وإن كانت غنيّة من المال؟ قال: [وإن كانت غنيّة من المال]

(5)

وقال: [شراركم عزّابكم]

(6)

.

(1)

رواه عبد الرزاق في المصنف: الحديث (10393).وفي تخريج أحاديث الإحياء: ج 2 ص 939؛ قال العراقي: (رواه أبو بكر بن مردويه في تفسيره من حديث ابن عمر بسند ضعيف).ورواه الطبراني في الأوسط: الحديث (5742).

(2)

رواه البيهقي في السنن الكبرى: الحديث (13735).وعبد الرزاق في المصنف: الحديث (10389).وفي مجمع الزوائد: ج 4 ص 253؛قال الهيثمي: (رواه أبو يعلى ورجاله ثقات إن كان عبيد بن حسن صحابيا، وإلا فهو مرسل).

(3 و 4) لم أجده.

(4)

ذكره المتقي الهندي في كنز العمال: الرقم (44445).ورواه الطبراني في الأوسط: الحديث (4472).

(5)

رواه الطبراني في الأوسط: الحديث (6585).

(6)

رواه الطبراني في الأوسط: الحديث (4473).

ص: 427

وقال صلى الله عليه وسلم: [أربعة يلعنهم الله من فوق عرشه: رجل يخصي نفسه عن النّساء فلا يتزوّج وهو قادر على ذلك، ولا يتسرّى خشية أن يولد له، ورجل تشبّه بالنّساء، وامرأة تشبّهت بالرّجال، ورجل يتهزّأ بالمساكين يقول لهم: تعالوا حتّى أعطيكم، فإذا جاءوا قال لهم: ليس معي شيء، ويقول للأعمى: احذر الحجر قبلك، واحذر الدّابّة، وليس قبله شيء]

(1)

.

وروي أن رجلا يقال له عكّاف بن وادعة الهلاليّ، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال له:[يا عكّاف؛ ألك زوجة؟] قال: لا، قال:[ولا جارية؟] قال: لا، قال:[وأنت صحيح موسر؟] قال: نعم، قال:[تزوّج فإنّك من إخوان الشّياطين، اصنع ما يصنع المؤمنون، فإنّ من سنّتنا النّكاح، شراركم أعزابكم، وما للشّيطان سلاح أبلغ من النّساء، ويحك يا عكّاف! إنّهنّ صواحبات يوسف وصواحبات داود وصواحبات كرسف].قالوا: يا رسول الله؛ ومن كرسف؟ قال: [رجل كان يعبد الله على ساحل من سواحل البحر ثلاثين عاما، يصوم النّهار ويقوم اللّيل لا يفتر، فقدّر عليه أن كفر والعياذ بالله من سبب امرأة عشقها، وترك ما كان عليه من عبادة ربه، وتداركه الله بعد ذلك ما سلف منه. ويحك يا عكّاف! تزوّج فإنّك من المذبذبين] قال: زوّجني من شئت يا رسول الله، فزوّجه على امرأة يقال لها كريمة بنت كلثوم الحميريّ

(2)

.

(1)

أخرج البيهقي في شعب الإيمان: الحديث (5385) شطرا منه عن أبي هريرة. وأخرجه ابن عدي في الكامل: ج 7 ص 462:الرقم (1698/ 77):ترجمة محمّد بن سلام الخزاعي. وفي مجمع الزوائد: ج 6 ص 272؛قال الهيثمي: (رواه الطبراني في الأوسط من طريق محمد بن سلام عن أبيه، قال البخاري: لا يتابع على حديثه هذا).

(2)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف: ج 6 ص 171:الحديث (10387) بلفظه. والإمام أحمد في المسند: ج 5 ص 163 - 164 عن مكحول عن رجل عن أبي ذر الغفاري. في الإصابة في تمييز الصحابة: ج 4 ص 535:الترجمة (5640)؛ قال ابن حجر: (رواه الطبري في مسند الشاميين). وفي مسند الشاميين: ج 1 ص 213:الحديث (381):أخرجه الطبري بلفظه، إلا أنه قال:[زينب بنت كلثوم الحميرية].

ص: 428

وعن عياض بن غنم الأشعريّ؛ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا عياض؛ لا تزوّجنّ عجوزا ولا عاقرا؛ فإنّي مكاثر بكم الأمم يوم القيامة]

(1)

،وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[تزوّجوا الأبكار؛ فإنّهنّ أعذب أفواها؛ وأنتق أرحاما؛ وأثبت مودّة؛ وأرضى باليسير، وإذا أراد أحدكم أن يتزوّج المرأة فليسأل عن شعرها كما يسأل عن وجهها، فإنّ الشّعر أحد الجمالين]

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: [تزوّجوا الزّرق فإنّ فيهنّ يمنا]

(3)

أي سعادة. وعن عائشة قالت:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أعظم نساء أمّتي بركة أصبحهنّ وجها وأقلّهنّ مهرا]

(4)

،وقال صلى الله عليه وسلم:[أعلنوا بالنّكاح واضربوا عليه بالدّفوف، وليولم أحدكم ولو بشاة]

(5)

.

وعن معاذ بن جبل قال: حضرت ملاك رجل من الأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطب النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأملك الأنصاريّ، ثمّ قال له:[على الألفة والخير والطّير الميمون] فجاء بسلال فيها فاكهة وسكّر فلم ينتهبوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[ألا تنتهبون؟] قالوا: يا رسول الله! إنّك نهيتنا عن النّهبة يوم كذا وكذا، فقال:[إنّما نهيتكم عن نهبة العساكر ولم أنهكم عن نهبة الولائم] ثمّ قال: [ألا فانتهبوا]

(6)

.

(1)

رواه الطبراني في الكبير: الحديث (1008).والحاكم في المستدرك: كتاب معرفة الصحابة: الحديث (5321).وفي مجمع الزوائد: ج 4 ص 258؛قال الهيثمي: (فيه معاوية بن يحيى الصوفي، وهو ضعيف).

(2)

رواه الطبراني في الأوسط: الحديث (7673).وابن ماجة في السنن: كتاب النكاح: الحديث (1861).وفي مجمع الزوائد: ج 4 ص 259؛قال الهيثمي: (فيه أبو بلال الأشعري، ضعفه الدارقطني).

(3)

أخرجه الديلمي في الفردوس: الحديث (2292) عن أبي هريرة.

(4)

في مجمع الزوائد: كتاب النكاح: باب اليمن في المرأة: ج 4 ص 255؛قال الهيثمي: (رواه أحمد والبزار، وفيه ابن سخرة، وهو متروك).

(5)

أخرجه الترمذي في الجامع: أبواب النكاح: باب ما جاء في إعلان النكاح: الحديث (1089)، وقال: غريب. وابن ماجة في السنن: كتاب النكاح: الحديث (1895).

(6)

رواه الطبراني في الأوسط: الحديث (118).وأب ونعيم في الحلية: ج 6 ص 96.وفي مجمع-

ص: 429

وقال صلى الله عليه وسلم: [مسّوا بالإملاك؛ فإنّه أفضل في اليمين وأعظم في البركة]

(1)

.

وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: (كان عندي جارية من الأنصار في حجري فزوّجتها، فدخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يسمع غناء، فقال:[يا عائشة؛ ألا تغنّون لها، فإنّ هذا الحيّ من الأنصار يحبّون الغناء]

(2)

.

قوله تعالى: {(إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ)،} قال صلى الله عليه وسلم: [التمسوا الرّزق بالنّكاح]

(3)

.وشكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر، فقال:[عليك بالباءة]

(4)

.

وقال عمر رضي الله عنه: (ابتغوا الغنى في النّكاح، فالله تعالى يقول: {(إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ)}

(5)

{وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} (32)؛أي واسع بخلقه عليم بهم.

(6)

-الزوائد: ج 4 ص 290؛قال الهيثمي: (رواه الطبراني في الأوسط والكبير وفي إسناد الأوسط بشر بن إبراهيم، وهو وضاع. وفي إسناد الكبير حازم مولى بني هاشم عن لمازة، ولم أجد من ترجمهما، ولمازة هذا يروي عن ثور بن يزيد، متأخر وليس هو ابن زياد، ذاك يروي عن علي ابن أبي طالب ونحوه، وبقية رجاله ثقات).

(1)

أخرجه الثعلبي في الكشف والبيان: ج 7 ص 6 4 عن أبي هريرة رضي الله عنه. والمعنى: أنه يستحب عقد النكاح في المساية، كما يستحب العقد يوم الجمعة. ينظر: المغني لابن قدامة: ج 7 ص 435؛قال بعد أن ذكر الحديث: (لأنه أقرب إلى مقصوده-أي العاقد-وأقل لانتظاره) حال كونه مقبلا إلى سكينة الليل، واستحباب الجماع صباح الجمعة. وكلمة (مسوا بالملاك) هكذا رسمها الناسخ بوضوح.

(2)

رواه الإمام أحمد في المسند: ج 6 ص 269.والبخاري في الصحيح: كتاب النكاح: الحديث (5162).وابن حبان في ترتيب الصحيح: الحديث (5875).والبغوي في مصابيح السنة: الحديث (2345).

(3)

رواه الديلمي في الفردوس: الحديث (282).وفي كشف الخفا: الحديث (528)؛قال العجلوني: (رواه الثعلبي في تفسيره، والديلمي بسند فيه لين عن ابن عباس رفعه، ولكن له شاهد أخرجه البزار والدارقطني في العلل، والحاكم وابن مردويه عن عائشة مرفوعا.

(4)

ذكره الزمخشري في التفسير (الكشاف):ج 3 ص 231.وأصله أخرجه الترمذي في الجامع: أبواب النكاح: الحديث (1081).

(5)

ذكره ابن عطية في التفسير: ص 1359.

ص: 430

قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ؛} أي ليطلب الذين لا يجدون نكاحا العفّة عن الزنا والحرام، والمعنى: من لم يجد سعة للنكاح من مهر ونفقة، ولا يجد شيئا يشتري به أمة فليستعفف عن الزّنا حتى يجد ما يكفيه، كذلك وفي هذا بيان أنه لا عذر لأحد في السّفاح.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ؛} معناه الذين يطلبون المكاتبة من عبيدكم وإمائكم، {فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً؛} رشدا وصلاحا وصدقا ووفاء وأمانة وقدرة على المكسب، وهذا أمر استحباب في العبد الذي يقدر على الاكتساب وترغيب في الكتابة. فأما الذي لا يقدر على الكسب ولا يرغب في الكتابة، فلا يكون في كتابته إلاّ قطع حقّ المولى عنه من غير نفع يرجع إليه.

ومعنى الكتابة: أن يكاتب مملوكه على مال سلّمه إليه نجوما فيعتق بأدائه، وإن كانت الكتابة حالّة جازت عند أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي لا يجوّز إلاّ منجّما، وأقلّه نجمان فصاعدا.

قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ؛} اختلفوا في معنى ذلك، فروي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال:(يحطّ عن المكاتب ربع مال الكتابة)

(1)

.وعن ابن عباس: (يحطّ عنه شيء)،وعن عبد الله بن يزيد الأنصاريّ أنه قال: (هذا خطاب للأئمّة أن يسلّموا إلى المكاتبين ما فرض الله لهم في قوله تعالى {(وَفِي الرِّقابِ}

(2)

) وهذا أقرب إلى ظاهر الآية، لأن الإتيان في اللغة هو الإعطاء دون الحطّ.

قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً؛} قال ابن عبّاس: (نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبيّ سلول، كانت له جوار حسان: مسكة

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (19721).وفي الدر المنثور: ج 6 ص 191؛ قال السيوطي: (أخرجه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي من طريق عبد الرحمن السلمي. وقال: أخرجه عبد الرزاق وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، والديلمي وابن المنذر والبيهقي وابن مردويه من طرق عبد الله بن حبيب عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

البقرة 177/.

ص: 431

وأميمة ومقارة، كان يكرههنّ على الزّنا ليكتسبن له بالفجور، وكذلك كان أهل الجاهليّة يفعلون، فأتت الجواري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه ذلك، فأنزل الله هذه الآية).

قال مقاتل: (نزلت في ستّ جوار لعبد الله بن أبيّ سلول: معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وقتيلة وأروى، فجاءته إحداهنّ ذات يوم بدينار، وجاءت أخرى ببردة، فقال لهما: ارجعا فازنيا، وكان يؤجّرهنّ على الزّنا. فلمّا جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة: إنّ هذا الأمر الّذي نحن فيه قد آن لنا أن ندعه، فقال لهما عبد الله بن أبي سلول: امضيا فازنيا. فقالتا: والله ما نفعل ذلك قد جاء الله بالإسلام وحرّم الزّنا.

ثمّ مضيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكيا عليه، فأنزل الله هذه الآية)

(1)

.ومعناها: ولا تكرهوا إماءكم على البغاء؛ أي على الزّنا، {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا؛} من كسبهنّ وبيع أولادهن.

قوله تعالى: {(إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً)} يعني إذا أردن تحصّنا، خرج الكلام على وجه الحال لا على وجه الشّرط، ونظيره قوله تعالى:{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}

(2)

،ويجوز أن يكون معناه: أن الكلام قد تمّ عند قوله {(عَلَى الْبِغاءِ)} ثم ابتدأ بالشّرط فقال: {(إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً)} وجوابه محذوف؛ تقديره: إن أردن تحصينا فقد أصبن، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة:[أدفئيني] قالت: إنّي حائض، فقال صلى الله عليه وسلم:[وإن لم يردّ عليه] وأراد بذلك إن كنت حائضا فلا بأس بذلك

(3)

.

(1)

ذكره مقاتل في التفسير: ج 2 ص 481.وابن عطية في المحرر الوجيز: ص 1391.والبغوي في معالم التنزيل: ص 908.وأصل الحديث أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب التفسير: الحديث (3029/ 26) عن جابر بن عبد الله. وذكر الطبري قصة الحديث في جامع البيان: الأثر (19744 و 19745).

(2)

الاسراء 31/.

(3)

لم أقف عليه بهذا اللفظ، وكأنه معنى حديث الأسود عن عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلّي، فوجد القرّ، فقال:[يا عائشة أرخي عليّ قرطك] قالت: إنّي حائض، قال:[إنّ حيضتك ليست في يدك].ينظر: جامع المسانيد: ج 34 ص 108:الحديث (178).وفي مجمع الزوائد: ج 2 ص 49 - 50؛قال الهيثمي: (رواه أبو يعلى وإسناده حسن).

ص: 432

وقوله: {وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ؛} أي من يجبرهنّ على الزّنا، ولم تقدر المكرهة على الدفع عن نفسها بوجه من الوجوه لم تأثم، وإن صبرت عن الامتناع حتى قتلت كان أعظم لأجرها، وإن قتلت دفعا عن نفسها كان لها ذلك. وقوله تعالى:{فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (33)؛أي غفور لمن تاب منهنّ ومات على التوبة، غفور لمن تاب عن إكراههنّ على الزنا، رحيم بهم.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ؛} أي أنزلنا إليكم القرآن آيات ظاهرات واضحات لتعملوا بها. وقيل: يعني بذلك ما ذكر في هذه السّورة من الحلال والحرام. وقوله تعالى: {وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ؛} أي وأنزل فيها مثلا؛ أي خبرا من خبر الذين مضوا من قبلكم لتعتبروا، {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (34)؛عن الشّرك والفواحش.

قوله تعالى: {*اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؛} أي الله هادي أهل السّماوات وأهل الأرض بالآيات المبيّنات، لا هادي فيهما غيره، فبنوره الخلق يهتدون، وبهداه من الضّلالة ينجون، فلا يهتدي ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل إلاّ بهداه.

وقال الضحّاك: (معناه الله منوّر السّماوات والأرض)،وقال مجاهد:(معناه: الله مدبر الأمور في السّماوات والأرض)

(1)

،وقال الحسن وأبو العالية:(الله مزيّن السّماوات والأرض)،يعني مزيّن السّماوات بالشمس والقمر والنّجوم، ومزيّن الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين.

قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ؛} قال ابن عبّاس: (مثل نوره الّذي أعطاه المؤمنين)

(2)

،وقال السديّ:(مثل نوره الّذي في قلب المؤمن)،وكان أبيّ يقرأ «(مثل نور المؤمنين)».وقيل: كان يقرأ «(مثل نور من آمن به)»

(3)

.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (19755).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (19762).

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (19757).

ص: 433

قوله تعالى: {كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ؛} المشكاة في لغة الحبشة: كوّة غير نافذة، والمصباح: هو السّراج في القنديل من الزّجاج الصّافية. وقيل: المشكاة: عمود القنديل الذي فيه الفتيلة. وقال مجاهد: (هي القنديل)

(1)

،قال الزجّاج:(النّور في الزّجاج، وضوء النّار أبين منه في كلّ شيء، وضوؤه يزيد في الزّجاج ويتضاعف حتّى يظهر منه ما يقابله مثله)

(2)

.

قوله تعالى: {(فِيها مِصْباحٌ)} أي سراج، وأصله من الضّوء، ومن ذلك الصّبح، ورجل صبيح الوجه إذا كان وضيئا، وفرّق قوم بين المصباح والسّراج؛ فقالوا: المصباح دون السّراج، والسراج أعظم من المصباح؛ لأن الله تعالى سمّى الشمس سراجا، وقال في غيرها من الكواكب {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ}

(3)

.

ثم وصف الله الزجاجة التي فيها المصباح؛ فقال: {الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ؛} شبّه القنديل الذي يكون فيه السّراج بالكوكب الدّرّيّ؛ وهو النجم المضيء، ودراري النّجوم كبارها، وقوله (درّيّ) نسبة إلى أنه كالدّرّ في صفائه وحسنه، كأنّ الكواكب درّة بيضاء.

قرأ أبو عمرو والكسائيّ: «(درّئّ)» بكسر الدال مهموز ممدود؛ وهو فعّيل من الدّرء بمعنى الدّفع، يقال: درء يدرأ إذا دفع، فكأنه تلألؤ يدفع أبصار الناظرين إليه.

ويقال: كأنه رجم به الشياطين فدرأهم؛ أي دفعهم بسرعة في الانقضاض، وذلك أضوأ ما يكون.

وقرأ حمزة وأبو بكر: مضمومة الدال مهموز ممدود، قال أكثر النّحاة: هو لحن؛ لأنه ليس في كلام العرب، فقيل بضمّ الفاء وكسر العين، وأنكره الفرّاء والزجّاج وأبو العباس، وقال: (هذا غلط؛ لأنّه ليس في كلام العرب شيء على هذا

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (19779).

(2)

ينظر: معاني القرآن وإعرابه للزجاج: ج 4 ص 35.

(3)

الملك 5/.

ص: 434

الوزن)

(1)

.وقرأ الباقون بضمّ الدال وتشديد الياء من غير همز، فنسبوه إلى الدّرّ في صفائه وبهائه.

قوله تعالى: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ؛} فيه أربع قراءات، قرأ نافع وابن عامر: بياء مضمومة يعنون المصباح، وقرأ حمزة والكسائي وخلف: بتاء مضمومة يعنون الزّجاجة، وقرأ أبو عمرو:«(توقّد)» بالتاء وفتحها وفتح الواو مشدّدة بمعنى الماضي، وقرأ ابن محيصن: بتاء مفتوحة وتشديد القاف مثل قراءة أبي عمرو إلاّ أنه رفع الدال بمعنى الفعل المستقبل بمعنى: تتوقّد الزجاجة

(2)

.

قوله تعالى: {(مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ)} أي من زيت شجرة مباركة، فحذف المضاف؛ وأراد بالشّجرة المباركة شجرة الزّيتون، بورك لأهلها فيها، وليس في الشّجر شيء يورق غصنه من أوّله إلى آخره مثل الزّيتون والرّمان.

قوله تعالى: {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ؛} أي ليست تشرق عليها الشمس فقط من دون أن تغرب عليها، ولا غربيّة تغرب عليها فقط من دون أن تشرق عليها، بل هي شرقية غربية تأخذ حظّها من الأمرين جميعا، لا يظلّها جبل ولا شجر ولا كهف، نحو أن تكون على تلّ من الأرض تقع عليها الشمس في جميع النّهار، وإذا كانت على هذه الصّفة كان أنضر لها وأجود لزيتها وأتمّ لنبلتها وأنضج لثمرها. وقال الحسن:(أراد بهذا شجرة في الجنّة؛ لأنّ أشجار الأرض لا تخلو إمّا أن تكون شرقيّة أو غربيّة)

(3)

.

وسمّيت شجرة الزّيتون مباركة؛ لأنّها كثيرة البركة والمنافع؛ لأن الزيت يسرج به وهو إدام ودهان، ويوقد بحطبها ويدبغ بها ويغسل برمادها الإبريسم. وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:[ائتدموا بالزّيت وادهنوا به، فإنّه يخرج من شجرة مباركة]

(4)

.

(1)

ينظر: معاني القرآن للفراء: ج 2 ص 252.ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج: ج 4 ص 35.

(2)

إعراب القرآن للنحاس: ج 3 ص 96.والحجة للقراء السبعة: ج 3 ص 201.

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (19787).

(4)

رواه الترمذي في الجامع: أبواب الأطعمة: الحديث (1851).وابن ماجة في السنن: كتاب الأطعمة: الحديث (3319).

ص: 435

قوله تعالى: {يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ؛} أي يكاد زيت هذه الشّجرة ودهنها يتلألأ أو يشرق من وراء العصر من صفائه وإن لم تصبه نار؛ أي وإن لم يوقد بها، فكيف إذا استصبح بها.

قال المفسّرون: هذا مثل للمؤمنين، فالمشكاة والمصباح هو الإيمان والقرآن، والزجاجة صدر المؤمن. ومعنى قوله تعالى {(يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ)} أي يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى وقبل أن يأتيه العلم، فإذا جاء العلم ازداد هدى على هدى. وقيل: المشكاة نفسه، والزجاجة صدره، والمصباح القرآن والإيمان في قلبه توقد من شجرة مباركة وهو الإخلاص.

قوله تعالى: {نُورٌ عَلى نُورٍ؛} يريد به نور السّراج ونور الزّجاج ونور الدهن ونور الكوكب، فكما أن الزيت والزجاج والكوكب والسراج نور على نور في مشكاة لا يتفرّق بشعاع السّراج فيها، فكذلك الإيمان في قلب المؤمن من نور على نور، فإن المعرفة نور وعلمه نور، إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا قال صدق، وإذا حكم عدل، فهو يتقلّب في الأنوار، ومصيره يوم القيامة إلى النور، كما قال تعالى {يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ}

(1)

.

وقيل: هذا مثل ضربه الله لنبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم: المشكاة صدره، والزجاجة قلبه، والمصباح فيه النبوّة، توقد من شجرة مباركة وهي شجرة النبوّة، يكاد نور محمّد صلى الله عليه وسلم يضيء؛ أي يبين للناس ولو لم يتكلّم به، كما يكاد ذلك الزيت يضيء ولو لم تمسسه نار.

وقال ابن عمر في هذه الآية: (المشكاة: جوف محمّد صلى الله عليه وسلم، والزّجاجة: قلبه، والمصباح: النّور الّذي جعله الله فيه، (توقد من شجرة مباركة) يعني بالشّجرة إبراهيم الخليل عليه السلام، {(لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ)} أي لا يهوديّ ولا نصرانيّ

(2)

، {(نُورٌ عَلى}

(1)

الحديد 12/.

(2)

في أصل المخطوط تقديم وتأخير في عبارة النص، وضبطت على أصوله في المعجم الأوسط، وتخريج الهيثمي في مجمع الزوائد.

ص: 436

{نُورُ)} يعني النّور الّذي جعل في إبراهيم، والنّور الّذي جعل في محمّد عليه السلام

(1)

.

وقال محمّد بن كعب: (المشكاة إبراهيم، والزّجاجة إسماعيل، والمصباح محمّد صلى الله عليه وسلم. سمّاه

(2)

مصباحا كما سمّاه سراجا، فقال عز وجل {وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً}

(3)

.

وقوله تعالى {(يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ)} يعني إبراهيم، سمّاه مباركا؛ لأنّ أكثر الأنبياء كانوا من صلبه، {(لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ)} يعني أنّ إبراهيم عليه السلام لم يكن يهوديّا ولا نصرانيّا ولكن كان حنيفا مسلما.

وإنّما قال كذلك لأنّ النّصارى يصلّون قبل المشرق، واليهود قبل المغرب، قوله {(يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ)} يعني تكاد محاسن محمّد صلى الله عليه وسلم تظهر للنّاس قبل أن يوحى إليه، قوله تعالى:{(نُورٌ عَلى نُورٍ)} أي نور نبيّ من نسل نبيّ)

(4)

.

وقال الضحّاك: (يعني بالمشكاة عبد المطّلب شبّهه بها، ويعني بالزّجاجة عبد الله، وبالمصباح النّبيّ صلى الله عليه وسلم، كان في صلبهما فورث النّبوّة من الشّجرة المباركة وهي إبراهيم، توقد من شجرة مباركة، لا شرقيّة ولا غربيّة، بل هي مكّة في وسط الدّنيا)

(5)

.

(1)

في الدر المنثور: ج 6 ص 198؛ قال السيوطي: (أخرجه الطبراني وابن عدي وابن مردويه وابن عساكر).وأخرجه الطبراني في الأوسط: ج 2 ص 502:الحديث (1864)،وقال:(لم يرو عن سالم هذا الحديث إلا الوازع، وتفرّد به علي).وفي مجمع الزوائد: ج 7 ص 83:كتاب التفسير: سورة النور؛ قال الهيثمي: (رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه الوازع بن نافع، وهو متروك).

(2)

(سمّاه) ساقط من أصل المخطوط، وأضيفت لضرورة السياق.

(3)

الأحزاب 46/.

(4)

ذكره البغوي في عالم التنزيل: ص 910.

(5)

ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 12 ص 263.

ص: 437

ووصف بعض الفصحاء هذه الشجرة فقال: (هي شجرة الرّضوان وشجرة الهدى والإيمان، أصلها نبوّة؛ وفرعها مروءة؛ وأغصانها تنزيل؛ وورقها تأويل، وخدمها ميكال وجبريل).

وقيل: إنّما شبّه الله قلب المؤمن بالزّجاجة؛ لأنّها في الزجاجة يرى من خارجها، فكذلك ما في القلوب تبين على الظاهر في الأقوال والأعمال، فكما أن الزجاجة تنكسر بأدنى شيء، فكذلك القلب يفسد بأدنى آفة تحلّه.

وقوله تعالى: {يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ؛} أي يوفّق الله للإسلام، ويدلّ بأدلته من يشاء ليعرفوا بذلك أمر دينهم. قوله تعالى:{وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنّاسِ؛} أي يضرب الله الأشباه في القرآن تقريبا للشيء الذي أراده إلى الأفهام، وتسهيلا لسبيل الإدراك على الأنام، كما شبّه المعرفة في قلب المؤمن بالمصباح في الزجاجة. قوله تعالى:{وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (35)؛أي عليم بكلّ شيء من مصالح العباد.

قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ؛} يعني ذلك المصباح في بيوت، قيل: معناه: توقد في بيوت وهي المساجد، أذن الله في رفعها؛ أي رفع بنائها كما قال تعالى:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ}

(1)

،ويستدلّ من هذه الآية أن لا يؤذن في رفع شيء من الأبنية فوق الحاجة غير المساجد التي يصلّي فيها المؤمنون، ويستضيء بنور قناديلها العابدون. وقال الحسن:(معنى قوله {(أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ)} أي تعظّم وتصان عن الأنجاس واللّغو من الأقوال والأفعال وعن التّكلّم بالخنا).

قوله تعالى: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ؛} وفي الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:

[جنّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم؛ وبيعكم وشراءكم؛ وسلّ سيوفكم وإقامة حدودكم؛ وجمّروها في الجمع، واجعلوا على أبوابها المطاهر]

(2)

.قال ابن عبّاس:

(1)

البقرة 127/.

(2)

رواه ابن ماجة في السنن: كتاب المساجد والجماعات: باب ما يكره في المساجد: الحديث (750).وقال البوصيري: (إسناده ضعيف؛ فإن الحارث بن نبهان متفق على ضعفه).

ص: 438

(المساجد بيوت الله عز وجل في الأرض، وهي تضيء لأهل السّماء كما تضيء النّجوم لأهل الأرض).قوله تعالى: {(وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)} أي ويذكر في المساجد اسم الله تعالى وتوحيده.

وقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيها؛} أي يصلّي لله تعالى في تلك البيوت الصلاة المفروضة، {بِالْغُدُوِّ؛} أي صلاة الغداة، وقوله تعالى:{وَالْآصالِ} (36)، يعني العشيّات، والأصيل ما بين العصر إلى الليل، وسميت الصلاة تسبيحا لاختصاصها بالتسبيح. وقرأ ابن عامر:«(يسبّح)» بفتح الباء على ما لم يسمّ فاعله.

ثم فسّر من يصلي فقال: {رِجالٌ؛} كأنه قال: من يسبّح؟ فقيل: رجال {لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ؛} أي لا تشغلهم تجارة، ولا بيع عن طاعة الله، وعن إقامة الصّلاة في البيوت، وعن إعطاء الزكاة.

قال الفرّاء: (التّجارة لأهل الجلب، والبيع ما باعه الرّجل على يديه)

(1)

وخصّ قوم التّجارة هنا بالشّراء لذكر المبيع بعدها. والمعنى: لا يمنعهم ذلك عن حضور المساجد لإقامة الصلاة وإتمامها، وإذا حضر وقت الزكاة لم يحبسوها عن وقتها.

قوله تعالى: {يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ} (37)؛ أي يفعلون ذلك خوفا من يوم ترجف فيه القلوب، وتدور حدق العيون حالا بعد حال من الفزع والخوف رجاء أن

{لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا؛} في دار الدّنيا، {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ؛} بغير استحقاق، {وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ} (38)؛أي بغير حصر ولا نهاية.

قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً؛} معناه: أن أعمال الكفّار قد أحبطوا بكفرهم، كسراب بأرض مستوية ملساء، يظنّه العطشان ماء يرجو به النجاة، حتى إذا جاء السراب ليشرب لم يجده ماء، بل رأى أرضا بيضاء لا ماء فيها فيئس وتحيّر، كذلك الكافر في عمله ييأس في الآخرة عن عمله الذي كان يعتقده يبرئ، يتقطّع عنه طمعه عند شدّة

(1)

في معاني القرآن: ج 2 ص 253.

ص: 439

حاجته إليه، ثم يجد عند ذلك من العقاب كما قال تعالى:{وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ؛} أي عند عمله، يعني: قدم على الله، {فَوَفّاهُ حِسابَهُ؛} أي جازاه بعمله.

والسّراب: هو الشعاع الذي يتراءى للعين وقت الهاجرة في الفلوات، يرى من بعيد كأنه ماء وليس بماء. والبقيعة: جمع بقاع، والقيعة جمع قاع، نحو جار وجيرة، وهو ما انبسط من الأرض وفيه يكون السّراب.

وقيل: معناه: أنّ الكافر يحسب أن عمله يغني عنه وينفعه، فإذا أتاه الموت واحتاج إلى عمله لم يجده شيئا؛ أي لا منفعة فيه ووجد الله عنده بالمرصاد عند ذلك فوفّاه جزاء عمله، {وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ} (39)؛أي سريع حسابه كلمح البصر أو أقلّ؛ لأنه تعالى لا يتكلم بآلة حتى يشغله سمع عن سمع. وسئل عليّ رضي الله عنه:

كيف يحاسبهم في حالة واحدة؟ فقال: (كما رزقكم في حالة واحدة).

قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ؛} هذا تخير في المثل، والمعنى: أن مثل أعمال الكفار أيضا في الدّنيا، ومثل قلوبهم في حياتهم الدّنيا كمثل ظلمات في بحر لجّيّ؛ أي عميق كثير الماء يعلوه موج ومن فوق ذلك الموج الأعلى سحاب.

وهذا حدّ الكلام، ثم ابتدأ فقال:{ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ،} أراد به ظلمة البحر وظلمة الموج الأدنى وظلمة الموج الأعلى وظلمة السّحاب وظلمة الليل.

قال المفسّرون: أراد بالظّلمات أعمال الكفار، وبالبحر اللّجّيّ قلب الكافر، وبالموج ما يغشى عليه من الجهل والشكّ والحيرة، وبالسّحاب الدّين والختم والطبع على قلبه.

قال أبيّ بن كعب في هذه الآية: (الكافر يتقلّب في خمس من الظّلم: فكلامه ظلمة؛ وعمله ظلمة؛ ومدخله ومخرجه ظلمة؛ وقلبه ظلمة؛ ومصيره يوم القيامة إلى ظلمة، كما قال تعالى:{اِرْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً}

(1)

)

(2)

.

(1)

الحديد 13/.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (19822).وابن أبي حاتم في التفسير: الأثر (14688).

ص: 440

وقوله تعالى: {إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها؛} أي إذا أخرج يده من هذه الظّلمات لم يرها ولم يقارب أن يراها من شدّة الظلمات، فكذلك الكافر لا يبصر الحقّ والهدى. وقوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ} (40)؛ أي من لم يهده الله فما له من إيمان، ومن لم يجعل الله له نورا في الدّنيا، فما له من نور.

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إنّ الله تعالى خلقني من نوره، وخلق أبا بكر من نوري، وخلق عمر وعائشة من نور أبي بكر، وخلق المؤمنين من أمّتي من نور عمر، وخلق المؤمنات من أمّتي من نور عائشة. فمن لم يحبّني ويحبّ أبا بكر وعمر وعائشة؛ فما له من نور فينزل عليه، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور]

(1)

.

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ؛} معناه: ألم تعلم؛ {أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ؛} أي ينزّهه؛ {مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} من العقلاء وغيرهم، وكنّى عن الجميع بكلمة {(مَنْ)} تغليبا للعقلاء على غيرهم. وقيل: أراد بالآية العقلاء، وهذا عموم أراد به الخصوص في أهل الأرض وهم المؤمنون.

قوله تعالى: {وَالطَّيْرُ صَافّاتٍ؛} أي ويسبح له الطير باسطات أجنحتها في الهواء، والبسط في اللغة: الصّفّ

(2)

،والصّفّ في اللغة هو البسط، ويسمّى القديد صفيفا لأنه يبسط. وخصّ الطير بالذّكر من جملة الحيوان؛ لأنّها تكون بين السّماء والأرض، وهي خارجة عن جملة من في السّماوات والأرض.

قوله تعالى: {كُلٌّ؛} أي كلّ من هؤلاء، {قَدْ عَلِمَ؛} الله؛ {صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ}. قال المفسّرون: الصلاة لبني آدم، والتسبيح عامّ لما سواهم من الخلق. وفيه وجوه من التأويل:

(1)

أخرجه الثعلبي في التفسير: ج 7 ص 111، عن أنس، وفي إسناده متهمون. وذكره السيوطي في ذيل اللآلي: ج 1 ص 50،فالحديث موضوع.

(2)

(الصف) سقطت من المخطوط.

ص: 441

أحدها: كلّ مصلّ ومسبح قد علم الله تعالى صلاته وتسبيحه، والثاني: أن معناه: كلّ مصلّ ومسبح قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه، والثالث: قد علم كلّ منهم تسبيح الله وصلاته، {وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ} (41)؛من الطاعة وغيرها.

وقوله تعالى: {وَلِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؛} أي له تقديرهما وتدبيرهما وتصريف أحوالهما، {وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ} (42).

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً؛} أي ينشؤه ويسوقه سوقا دفيقا قطعا قطعا، {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ؛} أي يجمع بين قطع السّحاب المتفرقة، والسّحاب جمع واحده سحابة، والتّأليف ضمّ بعض إلى بعض حتى يجعله قطعة واحدة.

قوله تعالى: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً؛} أي متراكما بعضه فوق بعض، {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ؛} أي ترى المطر يخرج من وسطه وأثنائه، والخلال جمع الخلل مثل الجبال والجبل. قال الليث:(الودق المطر كلّه، شديده وهيّنه، وخلال السّحاب مخارج القطر منه).قرأ ابن عبّاس والضحاك: «(من خلله)»

(1)

.

قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ؛} أي من جبل في السّماء، وتلك الجبال من برد. قال ابن عبّاس:(أخبر الله أنّ في السّماء جبالا من برد)

(2)

ومفعول الإنزال محذوف، تقديره: وينزّل الله من جبال برد فيها، واستغنى عن ذكر المفعول للدلالة عليه، ومن الأولى لابتداء الغاية، لأن ابتداء الإنزال من السّماء، والثانية للتبعيض؛ لأن ما ينزله الله بعض تلك الجبال التي في السّماء، والثالثة لتبيين الجنس؛ لأن جنس تلك الجبال البرد، كما تقول: خاتم من حديد.

وكان عمر رضي الله عنه يقول: (جبال السّماء أكثر من جبال الأرض)، {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ؛} أي فيصيب بالبرد من يشاء فيهلكه ويهلك زرعه، {وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ؛} فلا يضرّه في زرعه وثمره.

(1)

ذكره ابن عطية في التفسير: ص 1367.

(2)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 913.

ص: 442

قوله تعالى: {يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ} (43)؛أي يكاد ضوء برق السّحاب يذهب بالأبصار من شدّة ضوئه وبريقه ولمعانه؛ لأن من نظر إلى البرق خيف عليه ذهاب البصر. قرأ أبو جعفر: «(يذهب بالأبصار)» بضمّ الياء وكسر الهاء.

قوله تعالى: {يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ؛} أي يقلّبها في الذهاب والمجيء والزيادة والنّقصان، {إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ} (44)؛أي إنّ في ذلك التقلّب، وفيما ذكر عبرة لذوي العقول من الناس، يقال: فلان صاحب بصر؛ أي صاحب عقل.

قوله تعالى: {وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ؛} من النّطفة، من ماء الذكر والأنثى، والخلق من الماء أعجب؛ لأنه ليس شيء إلاّ وهو أشدّ طوعا من الماء؛ لأنّ الماء لا يمكن إمساكه بيده ولا أن يبني عليه ولا أن يتخذ منه شيء. والمعنى: والله خلق كلّ حيوان شاهد في الدّنيا، ولا تدخل الجنّ والملائكة في هذا لأنّا لا نشاهدهم.

وقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ؛} كالحيّات والهوام والحيتان، وإنّما قال فمنهم {(مِنْ)} تغليبا للعقلاء، ولو كان لما لا يعقل لقال: فمنهم من يمشي على بطنه، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ؛} كالإنسان والطّير، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ؛} كالبهائم والسّباع. والدّابّة اسم لكلّ حيوان من مميّز أو غيره.

قوله تعالى: {يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (45)؛ ظاهر المعنى، قرأ الكوفيّون غير عاصم «(والله خالق)» على الاسم.

قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ؛} يعني القرآن هو مبيّن الهدى والأحكام، {وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} (46)؛أي يرشد من يشاء إلى دين الإسلام الذي هو دين الله وطريق رضاه وجنّته.

قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا؛} يعني المنافقين يقولون صدّقنا بتوحيد الله وبالرّسول محمّد صلى الله عليه وسلم وأطعناهما فيما حكما، {ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ؛} أي ثم تعرض طائفة منهم، {مِنْ بَعْدِ ذلِكَ؛} أي من

ص: 443

بعد قولهم آمنّا، {وَما أُولئِكَ؛} الذين أعرضوا عن حكم الله ورسوله، {بِالْمُؤْمِنِينَ} (47).

قوله تعالى: {وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ؛} معناه: إذا دعوا إلى كتاب الله ورسوله ليحكم بينهم الرسول فيما اختلفوا فيه، {إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} (48)؛عما يدعون إليه، نزلت هذه الآيات في بشر المنافق وخصمه اليهوديّ حين اختصما في أرض، فجعل اليهوديّ يجذبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما، وجعل المنافق يجذبه إلى كعب بن الأشرف، يقول: إنّ محمّدا يحيف عليه، فذلك قوله تعالى:{(وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ)}

(1)

عن الكتاب والسّنة.

قوله تعالى: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} (49)؛معناه:

وإن يكن لهم القضاء على غيرهم يأتون إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم مسرعين مطيعين منقادين لحكمه. والإذعان: الإقرار بالحقّ مع الانقياد له. قال الزجّاج: (الإذعان: الإسراع مع الطّاعة)

(2)

.

قوله تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ} (50)؛لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه التوبيخ، وذلك أشدّ ما يكون في الذمّ كما جاء في المبالغة في المدح:

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح

(3)

يعني أنتم كذلك.

قوله: {إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا؛} انتصب {(قَوْلَ)} على خبر كان، واسمها {(أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا)} .

(1)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 914.

(2)

ذكره ابن عادل في اللباب: ج 14 ص 428.

(3)

المطايا: جمع مطيّة، وهي الدابّة تمطو في مشيها، أي تسرع. وأندى: أسخى. والرّاح: جمع راحة، وهي الكفّ. والهمزة في (ألستم) ليست للاستفهام، وإنما هي لتقرير هذا الإخبار بثبوته، مدحا لعبد الملك بن مروان.

ص: 444

وذلك أن عليّا رضي الله عنه باع من عثمان رضي الله عنه أرضا بالمدينة لا ينالها الماء، فجاء قوم عثمان فندّموا عثمان على ما صنع وقالوا له: لا تذهب في خصومتك مع عليّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنّه يحكم له! فلم يقبل منهم عثمان، وتحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى لعليّ رضي الله عنه، فأبى قوم عثمان أن يرضوا بقضائه، فقال عثمان رضي الله عنه:

{(سَمِعْنا وَأَطَعْنا)} أي سمعنا قولك يا رسول الله وأطعنا أمرك ورضينا بحكمك وقضائك، وإن كان ذلك فيما يكرهونه ويضرّ بهم. وقوله تعالى:{وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (51)؛يعني الرّاضين بقضاء الله ورسوله.

فلما نزلت هذه الآية أقبل عثمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله؛ والله لئن شئت لأخرجنّ من أرضي كلّها الّتي أملكها وأدفعها إليه)

(1)

فأنزل الله تعالى:

{وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ؛} معناه: ومن يطع الله ورسوله فيما ساءه وسرّه ويخش الله فيما مضى من ذنوبه ويتّق الله فيما بعد فلم يعص الله، {فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ} (52)،برضى الله وحسناته.

وقوله: {*وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ؛} أي حلفوا بالله وبالغوا في القسم، {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ،} من مالهم كلّه لفعلوا، {قُلْ} لهم:

{لا تُقْسِمُوا؛} أي لا تحلفوا، وتمّ الكلام هاهنا. ثمّ قال:{طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ؛} أي هذا القول منكم يعني القسم طاعة حسنة.

وقال بعضهم: هذه الآية نزلت في المنافقين؛ كانوا يحلفون لئن أمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى الجهاد ليخرجنّ، ولم يكن في نيّتهم الخروج

(2)

،فقيل لهم: لا تقسموا طاعة معروفة مثل من قسمكم بما لا تصدّقون، وقوله تعالى:{إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} (53)؛يعني عليم بما تعملون من طاعتكم بالقول «و» مخالفتكم بالفعل

(3)

.

(1)

لم أقف عليه، إلا أن القرطبي ذكر في الجامع لأحكام القرآن: ج 12 ص 293 قصة قريبة من هذا المعنى بين المغيرة بن وائل من بني أمية وعلي رضي الله عنه، وقال:(ذكره الماوردي).

(2)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 915 بمعناه.

(3)

في المخطوط: (بالقول مخالفتكم بالفعل) من دون (و).

ص: 445

وقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ؛} ظاهر المعنى، وقوله تعالى:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ؛} أي فإن أعرضوا عن طاعة الله وطاعة رسوله فإنّما على الرسول ما حمّل من التبليغ وأداء الرسالة، وعليكم ما حمّلتم من الطاعة، {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (54)؛أي ليس عليه إلاّ أن يبلّغ ويبيّن لكم.

قوله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؛} نزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أقاموا بمكّة مدّة قبل الهجرة لا يمكنهم إظهار الإسلام، ولا أذن لهم في القتال، وكذلك بعد ما هاجروا إلى المدينة وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلاّ مع السّلاح ولا يصبحون إلاّ فيه.

فجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله؛ أهكذا جالدتّنا أبدا؟ فأنزل الله هذه الآية {(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ)}

(1)

أي ليبوّأنّهم أرض المشركين من العرب والعجم كما استخلف بني اسرائيل بأرض مصر والشّام بعد إهلاك الجبابرة بأن أورثهم أرضهم وديارهم وجعلهم سكّانا وملوكا.

وقوله تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ؛} أي وليوسّع لهم البلاد حتى يملكوها ويظهر دينهم على جميع الأديان، {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً؛} وقوله تعالى:{يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً؛} يجوز أن يكون في موضع نصب على الحال؛ أي لأفعلنّ ذلك في حال عبادتهم.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (19835) بمعناه. وذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 12 ص 297.وأخرجه الواحدي في أسباب النزول: ص 221 و 222 مرسلا. وأخرجه الطبراني في الأوسط: ج 8 ص 17:الحديث (7025).والحاكم في المستدرك: كتاب التفسير: الحديث (3564).وفي مجمع الزوائد: ج 7 ص 83؛قال الهيثمي: (رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات).

ص: 446

قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} (55).

وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (56)؛ ظاهر المراد.

قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ؛} أي ولا تحسبنّ كفار مكة يا محمّد فائتين من عذاب الله أو يفوتنا هربا، فقدرة الله تعالى محيطة بهم، {وَمَأْواهُمُ النّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (57).

قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرّاتٍ؛} أي ليستأذنكم في الدّخول عليكم عبيدكم وإمائكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم أي من أحراركم من الرّجال والنساء، والمعنى:

ليستأذنكم عبيدكم وإمائكم والذين لم يبلغوا الحلم من صغير أولادكم من الأحرار في الدّخول عليكم في ثلاث أوقات من الليل والنهار يكون الغالب فيها كشف العورات.

ثمّ بيّن الأوقات الثلاث فقال: {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ؛} أي وقت القيام من المضاجع والتّهيّؤ للصّلاة بالطهارة، {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ؛} وهو وقت القيلولة، {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ؛} أراد به العشاء الأخيرة، وهذه الأوقات الثلاثة:{ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ؛} لأنّ الإنسان يضع ثيابه فيها في العادة.

من قرأ {(ثَلاثَ)} بالرفع، فمعناه: هذه الأوقات الثلاثة ثلاث عورات لكم. ومن قرأ «(ثلاث)» بالنصب جعله بدلا من قوله {(ثَلاثَ مَرّاتٍ)} .قال السديّ: (كان أناس من الصّحابة يعجبهم أن يواقعوا نساءهم في هذه السّاعات الثّلاث ليغتسلوا ثمّ يخرجوا إلى الصّلاة، فأمرهم الله أن يأمروا الغلمان والمماليك أن يستأذنوا في هذه الثّلاث ساعات إذا دخلوا).

قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ؛} أي لا جناح عليكم ولا عليهم في أن لا يستأذنوا في غير هذه الأوقات.

ص: 447

قوله تعالى: {طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ؛} أي طوّافون عليكم يدخلون ويخرجون ويذهبون ويجيئون ويتردّدون في أحوالهم واشتغالهم بغير إذن، يريد أنّهم خدمكم، شئ فلا بأس أن يدخلوا في غير هذه الأوقات بغير إذن. قال مقاتل:(معناه: يطوف بعضهم وهم المماليك على بعض وهم الموالي)

(1)

.

قوله تعالى: {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ؛} أي هكذا يبيّن الله لكم الدّلالات والأحكام في أمر الاستئذان، {وَاللهُ عَلِيمٌ؛} بمصالح العباد، {حَكِيمٌ} (58)؛فيما حكم من استئذان الخدم في هذه الأوقات الثلاثة.

قوله تعالى: {وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا؛} معناه: إذا بلغ الأطفال من أحراركم وعبيدكم فليستأذنوا في جميع الأوقات وفي عموم الأحوال، {كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؛} المذكورين من قبلهم على ما بيّن الله في كتابه، يعني بقوله؛ الأحرار الكبار الذين أمروا بالاستئذان على كلّ حال في قوله {حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها} فليس للعبد البالغ أن يدخل منزل مولاه ولا للولد البالغ أن يدخل على أمّه وعلى ذات محارمه في كلّ وقت إلاّ بإذن {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (59).

قوله تعالى: {وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ؛} معناه: والقواعد من النّساء اللاتي قعدن عن الحيض من الكبر وهنّ العجائز اللاتي لا يردن النكاح لكبرهنّ، فليس عليهنّ حرج في، {أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ؛} يعني الجلباب والرّداء والقناع الذي فوق الخمار لأجل الثياب.

قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ،} التّبرّج: أن تظهر المرأة محاسنها من وجهها وجسدها، والمعنى من غير أن يردن بوضع الجلباب أن يرى زينتهن. قال مقاتل:(ليس لها أن تضع الجلباب، تريد بذلك أن تظهر قلائدها وقرطها وما عليها من الزّينة)

(2)

.

(1)

قاله مقاتل في التفسير: ج 2 ص 425.

(2)

قاله مقاتل في التفسير: ج 2 ص 426.

ص: 448

وقوله تعالى: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ؛} معناه: وأن يستعففن فلا يضعن الجلباب في الملاءة والقناع فهو خير لهنّ من أن يضعن، {وَاللهُ سَمِيعٌ؛} مقالة العباد، {عَلِيمٌ} (60)؛بأعمالهم. يقال: امرأة عداد أقعدت عن الحيض، فإذا قال: قاعدة بالهاء أراد به جالسة، والجمع فيهما جميعا قواعد.

قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ؛} وذلك أنّ المسلمين كانوا إذا غزوا خلّفوا أزمانهم وكانوا يدفعون إليهم المفاتيح ويقولون لهم قد أبحنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا يتحرّجون من ذلك ويقولون: لا ندخلها وهم في غيب امتثالا لقوله تعالى {لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ}

(1)

فنزلت هذه الآية رخصة لهم.

ومعناها: نفي الحرج عن الزّمنى في أكلهم من بيوت أقاربهم أو بيوت من يدفع إليهم المفتاح إذا خرج للغزو وخلفه بحفظ ماله؛ لأنّهم كانوا يتحرّجون أن يأكلوا مما يحفظونه، فأعلمهم الله تعالى أنه لا جناح عليهم في ذلك

(2)

.

وذهب الحسن إلى أن معنى الآية: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج في ترك الخروج إلى الجهاد).

قوله تعالى: {وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ؛} أي لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم، أراد بهذا بيوت أبنائكم ونسلهم، وإنّما أضاف بيوت الأبناء إليهم لأنّهم من أنفسهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:[أنت ومالك لأبيك]

(3)

،ولهذا قابله ببيوت الآباء، فقال:{أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ؛} ولم يقل بيوت أبنائكم، فعلم أن المراد بقوله:{(وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ)} أي بيوت أبنائكم وأزواجكم، وبيت المرأة كبيت الزّوج.

(1)

النساء 29/.

(2)

نقله الطبري عن بعض المفسرين في جامع البيان: مج 10 ج 18 ص 224.

(3)

رواه الإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 204.وأبو داود في السنن: كتاب البيوع: الحديث (3530).والبيهقي في السنن الكبرى: الحديث (16177).

ص: 449

قوله تعالى: {أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ؛} أخرج الكلام على وفق العادة؛ لأن الغالب من أحوال هؤلاء أن تطيب أنفسهم بذلك، فجاز الأكل من بيوتهم بغير إذن لدلالة الحال.

فأمّا إذا علم أن صاحب البيت لا تطيب نفسه بذلك، لا يحلّ له أن يتناول شيئا من ذلك، {أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ؛} يعني بيوت عبيدكم وإمائكم، وذلك أن السيّد يملك بيت عبده، أو المفاتح معناها الخزائن، كقوله تعالى {وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ}

(1)

أي خزائن الغيب.

ومعناه: المفاتيح التي يفتح بها الخزائن، يعني بذلك الوكلاء والأمناء والعبيد الذين يملكون أمر الخزائن وتكون مفاتحها بأيديهم، فليس عليهم في الأكل جناح إذا كان أكلا يسيرا مثل أن يأكل من ثمر حائط يكون قيّما عليه أو يشرب من لبن ماشية يكون قيّما عليها. وقال السديّ:(الرّجل يولّي طعامه غيره يقوم عليه، فلا بأس أن يأكل منه)

(2)

.

قوله تعالى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ؛} يعني صديقا يسرّه أن يأكل من طعامه، وإنّما أطلقه على عادة الصحابة رضي الله عنهم كما روي في سبب نزول هذا: أنّ مالك بن يزيد والحارث بن عمرو كانا صديقين، فخرج الحارث غازيا وخلّف مالكا في أهله وخزائنه، فلمّا رجع من الغزو رأى مالكا مجهودا، قال: ما أصابك؟ قال:

لم يكن عندي شيء، ولم يحلّ لي أن آكل من مالك، فنزل قوله تعالى {(أَوْ صَدِيقِكُمْ)}

(2)

.

قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً} سبب نزول هذه الآية: أن بني كنانة-وهم حيّ من العرب-كان الواحد منهم يجوع أيّاما ولا يأكل حتّى يجد ضيفا فيأكل معه، وإذا لم يجد أحدا فلا يأكل شيئا، وربّما

(1)

الأنعام 59/.

(2 و 2) ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 919.

ص: 450

كانت معه الإبل مجفّلة فلا يشرب من ألبانها حتّى يجد من يشاربه، فأعلم الله تعالى أن الرجل منهم إذا أكل وحده فلا إثم عليه. ومعنى {(أَشْتاتاً)} متفرّقين.

ويستدلّ من هذه الآية أن للجماعة في السّفر أن يخلطوا طعامهم فيأكلوا جميعا أو يأكل واحد منهم من زاده ولا حرج عليه في ذلك. والغرض من هذه الآيات: نفي الحرمة عن كلّ ما تطيب به الأنفس.

وعن ابن عبّاس رضي الله عنه في سبب نزول هذه الآيات: (أنّ الله تعالى لمّا أنزل قوله تعالى {لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ}

(1)

تحرّج المسلمون من مؤاكلة المرضى والزّمنى والعميان والعرج، وقالوا: قد نهانا الله عن أكل المال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطّيّب من الطّعام، والأعرج لا يستطيع المزاحمة، والمريض لا يستوفي حقّه من الطّعام، فأنزل الله هذه الآيات).

والمعنى: ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض حرج. وقال الضحّاك: (كان العميان والعرجان يتنزّهون عن مؤاكلة الأصحّاء؛ لأنّ النّاس يتقذرونهم ويكرهون مؤاكلتهم، وكان أهل المدينة لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا أعرج ولا مريض تقذّرا، فأنزل الله هذه الآيات).

قوله تعالى: {فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ؛} أي يسلّم بعضكم على بعض، وإنّما قال {(عَلى أَنْفُسِكُمْ)} لأن المؤمنين كنفس واحدة. وقيل: هذا في دخول الرجل بيت نفسه، والسّلام على أهله ومن في بيته. قال قتادة: (إذا دخلت بيتك فسلّم على أهلك فهم أحقّ من سلّمت عليه، وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد، فقل:

السّلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين، ومن السّنّة إذا دخل الرّجل بيت نفسه أن يسلّم على أهله، فإنّه يزداد بذلك بركة في بيته وأهله)

(2)

.

(1)

النساء 29/.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير: الأثر (14902).وفي الدر المنثور: ج 6 ص؟؟؛قال السيوطي: (أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي).

ص: 451

وقال صلى الله عليه وسلم: [إذا دخلتم بيوتكم فسلّموا على أهليكم، وإذا طعمتم طعاما فاذكروا اسم الله عليه، فإنّ الشّيطان إذا سلّم أحدكم لم يدخل بيته، وإذا ذكر اسم الله على طعامه قال لجنده من الشّياطين: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإن لم يسلّم حين يدخل بيته ولم يذكر اسم الله على طعامه، قال الشّيطان لجنده: أدركتم العشاء والمبيت]

(1)

.

قوله تعالى: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً؛} أي افعلوا ذلك تحيّة أمركم الله بها، لكم فيها البركة والمغفرة والثواب، {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ؛} أي هكذا بيّن الله لكم الدلالات والأحكام، {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (61)؛أي لكي تعقلون.

قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ؛} في الآية ثناء على المؤمنين، وإذا كانوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في أمر جامع؛ أي في أمر طاعة يجتمعون عليه لحقّ الجمعة وصلاة العيدين والجهاد وأشباه ذلك، {لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ} .

قال المفسّرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة، وأراد الرّجل أن يخرج لطاعة أو عذر؛ لم يخرج حتّى يقوم بحيال النّبيّ صلى الله عليه وسلم حيث يراه، فيعرف أنّه إنّما قام ليستأذن، فيأذن لمن يشاء منهم. قال مجاهد:(وإذا أذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده)

(2)

.

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ} نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين استأذن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الرّجوع من غزوة تبوك إلى

(1)

رواه الإمام أحمد في المسند: ج 3 ص 383.ومسلم في الصحيح: كتاب الأشربة: الحديث (2018/ 103).وابن ماجة في السنن: كتاب الدعاء: الحديث (3887).وأبو داود في السنن: كتاب الأطعمة: الحديث (3756).

(2)

ذكره الطبري في جامع البيان: مج 10 ج 18 ص 233.

ص: 452

المدينة لعلّة كانت به

(1)

.قوله تعالى: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ؛} قيل: إنّ هذا منسوخ بقوله تعالى {عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ}

(2)

،قوله تعالى:{وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ؛} أي استغفر لهؤلاء المستأذنين إذا استأذنوك لعذرهم، {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ؛} للنّاس، {رَحِيمٌ} (62)؛بهم.

قوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً؛} أي ادعوه بالخضوع والتعظيم، وقولوا: يا رسول الله؛ ويا نبيّ الله، في لين وتواضع وخفض صوت، ولا تقولوا: يا محمّد! ولا يا أبا القاسم! كما يدعو بعضهم بعضا باسمه.

قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً؛} أراد به المنافقين، كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا خطب النّاس يوم الجمعة عابهم في خطبته، فإذا سمعوا ذلك نظروا يمينا وشمالا، فإن أبصرهم أحد لم يقوموا، وإن لم يبصرهم أحد قاموا فخرجوا من المسجد يتسلّلون

(3)

.والتّسلّل الخروج في خفية.

واللّواذ: أن يستر بعضه بعضا ثم يمضي، يقال: لاوذت بفلان ملاوذة ولواذا.

قال ابن عبّاس: (هو أن يلوذ بغيره فيهرب من المسجد من غير استئذان).

قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ؛} أي ليحذر الذين يعرضون عن أمر الله ويخالفون في أمره، {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ؛} أي بليّة، {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} (63) في الآخرة.

قوله تعالى: {أَلا إِنَّ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؛} أي له كلّ ذلك ملكا وقدرة وإحاطة، {قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ؛} أي يعلم ما يبديه كلّ منكم وما يخفيه، وقوله تعالى:{وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ؛} معناه: يعني يعلم يوم يبعثون متى هو، {فَيُنَبِّئُهُمْ؛} فيه؛ {بِما عَمِلُوا؛} أي يجزيهم بما عملوا في دار الدّنيا، {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (64)؛من أعمال العباد وغير ذلك.

(1)

ذكره مقاتل في التفسير: ج 2 ص 427.

(2)

التوبة 43/.

(3)

ذكره مقاتل في التفسير: ج 2 ص 428.ونقله ابن عادل في اللباب: ج 14 ص 463 عن الكلبي.

ص: 453

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [من قرأ سورة النّور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ مؤمن ومؤمنة فيما مضى وفيما بقي]

(1)

.

آخر تفسير سورة (النور) والحمد لله رب العالمين

(1)

أخرجه الثعلبي في الكشف والبيان: ج 7 ص 62،وإسناده واه.

ص: 454