الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الحجّ
سورة الحجّ مكّيّة إلاّ الآيات: قوله: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ} إلى آخر الآيتين، وقوله:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ} إلى آخر الآيتين، وقوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} إلى آخر هذه السّورة، فهذه الآيات مدنيّات، وكلّ شيء في القرآن {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهو مدنيّ، وكلّ شيء فيه {يا أَيُّهَا النّاسُ} فهو مكّيّ وفيه مدنيّ، ولا يوجد {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إلاّ مدنيّا فقط، هكذا روي عن ابن عبّاس.
وعدد آيات السّورة ثمان وتسعون آية، وخمسة آلاف وخمسة وتسعون حرفا، ومائتان وإحدى وتسعون كلمة.
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}
{يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (1)؛ قال ابن عبّاس: (يريد يا أهل مكّة اتّقوا ربّكم، واحذروا عقابه إنّ زلزلة قيام السّاعة شيء عظيم) أي هول عظيم، لا يوصف لفظه، والزّلزلة: شدّة الحركة مع الحال الهائلة.
قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أَرْضَعَتْ؛} أي يوم ترون تلك الزّلزلة تذهل في ذلك اليوم كلّ مرضعة عمّا أرضعت؛ أي تنسى.
وقيل: تشتغل، وقيل: تترك، يقال: ذهلت عن كذا إذا تركته. وقيل: معنى الآية: يوم ترون الزلزلة تشتغل كلّ مرضعة عن ولدها بغير فطام، {وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها،} وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام. وهذا إنّما يكون على وجه التّشبيه، والمعنى: أن لو كانت ثمّ مرضعة لذهلت عن ولدها، وحامل لوضعت حملها.
قوله تعالى: {وَتَرَى النّاسَ سُكارى؛} أي من شدّة الفزع والخوف من عذاب الله يتحيّرون كأنّهم سكارى، {وَما هُمْ بِسُكارى؛} من الشّراب، {وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ} (2) والمعنى: ترى الناس كأنّهم سكارى من ذهول عقولهم لشدّة ما يمر بهم فيضطربون اضطراب السّكران، وسكارى جمع سكران. وقرأ أهل الكوفة «(سكري وسكرى)» بغير ألف. قال الفرّاء:(هو وجه جيّد في العربيّة؛ لأنّه بمنزلة الهلكى والجرحى والمرضى)
(1)
.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [يقول الله تعالى يوم القيامة لآدم: يا آدم؛ قم فابعث بعث النّار. فيقول: لبّيك وسعديك؛ وما بعث النّار؟ فيقول: من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النّار، وواحد إلى الجنّة. فعند ذلك يشيب الصّغير، وتضع الحامل ما في بطنها، وترى النّاس سكارى وما هم بسكارى].
قالوا: يا رسول الله! أيّنا ذلك الرّجل الّذي يبقى؟ قال: [أبشروا؛ إنّي لأرجو أن يكون من يأجوج ومأجوج ألف ومنكم واحد] ثمّ قال: [إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنّة] فكبّرنا وحمدنا، ثمّ قال:[إنّي لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنّة] فكبّرنا وحمدنا
(2)
،ثمّ قال:[إنّي لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنّة، وأهل الجنّة مائة وعشرون صفّا، ثمانون منها أمّتي]
(3)
ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: [يدخل الجنّة من أمّتي سبعون ألفا بغير حساب، مع كلّ واحد سبعون ألفا] فقال عكاشة بن محيص: أدع الله أن يجعلني منهم، فقال:[أنت منهم] فقام رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم، فقال:[سبقك بها عكاشة]
(4)
.
(1)
معاني القرآن: ج 2 ص 214.
(2)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب التفسير: باب وَتَرَى النّاسَ سُكارى: الحديث (4741).
(3)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 5 ص 347.والطبراني في الأوسط: الحديث (543).وفي مجمع الزوائد: ج 10 ص 403؛قال الهيثمي: (هو في الصحيح باختصار رواه أحمد والبزار والطبراني في الثلاثة ورجالهم رجال الصحيح غير الحارث بن حصيرة وقد وثق).
(4)
أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الإيمان: باب موالاة المؤمنين: الحديث (216/ 367 و 218/ 371 و 218/ 372).
قوله تعالى: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ؛} قال ابن عبّاس:
(نزلت في النّضر بن الحارث؛ كان يكذّب بالقرآن ويزعم أنّه من أساطير الأوّلين، وكان كثير الجدل، ويقول: الملائكة بنات الله، ويزعم أنّ الله غير قادر على إحياء الموتى).والمعنى: ومن الناس من يخاصم في دين الله بغير علم ولا حجّة، {وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ} (3)؛أي متمرّد على الله.
قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ؛} أي كتب عليه الشيطان إضلال من تولاّه؛ {وَيَهْدِيهِ} وهدايته إياه {إِلى عَذابِ السَّعِيرِ} (4)؛وقيل: الهاء في قوله (كتب عليه) راجعة إلى من يتّبع الشيطان فيتقبّل منه.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ؛} معناه: يا أهل مكة إن كنتم في شكّ من البعث بعد الموت، فتفكّروا في ابتداء خلقكم فإنّ إعادتكم ليست بأشدّ من أوّل خلقكم، ثم بيّن ابتداء خلقهم فقال:{فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ} أي خلقنا أباكم آدم، ثم صوّرناه لحما ودما.
قوله تعالى: {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ؛} أي ثم جعلناكم بعد ذلك من النّطفة التي تكون من الذكر والأنثى، {ثُمَّ} خلقنا {مِنَ} تلك النطفة؛ {عَلَقَةٍ؛} وهي قطعة من الدم {ثُمَّ؛} جعلنا العلقة {مِنْ مُضْغَةٍ؛} وهي القطعة من اللّحم، تسمّى مضغة؛ لأنّها مقدار ما يمضغ من اللّحم.
قوله تعالى: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ؛} أي تامّة الخلق وغير تامة الخلق، وقيل: مصوّرة وغير مصوّرة، وهي السّقط. قال عبد الله بن مسعود: [إذا وقعت النّطفة في الرّحم؛ بعث الله ملكا يأخذها بكفّه فيقول: يا رب مخلّقة أو غير مخلّقة؟ فإن قال: غير مخلّقة؛ مجّتها الأرحام دما، وإن قال: مخلّقة، قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ وما رزقها وما أجلها؟ وشقيّ أم سعيد؟ وبأيّ أرض تموت؟
فيقال له: اذهب إلى أمّ الكتاب فإنّك تجد ذلك، فاستنسخ منه صفة هذه النّطفة، فينطلق فيستنسخها. فتخلق فتعيش في أجلها، وتأكل رزقها، حتّى إذا جاء أجلها ماتت، فتذهب إلى المكان الّذي كتب لها]
(1)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (18845).
قوله تعالى: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ؛} أي لنبيّن لكم كمال قدرتنا وحكمنا في تصريفنا في الخلق.
وقوله تعالى: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى؛} أي ونترك في الأرحام ما نشاء من الولد إلى وقت التّمام ولا نسقطه. وروي عن عاصم: (ونقرّ) بالنصب على العطف، وقراءة الباقين بالرفع على معنى: ونحن نقرّ. قوله تعالى:
{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً؛} أي ثم نخرجكم من الأرحام طفلا صغارا، وإنّما لم يقل أطفالا لأنه لم يخرجهم من أمّ واحدة، ولكن يخرجهم من أمّهات شتّى، كأنه قال:
ثم نخرج كلّ واحد منكم طفلا.
قوله تعالى: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ؛} أي ثم لنعمّركم لتبلغوا أشدّكم بمعنى الكمال والقوة، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى؛} قبل بلوغ الأشدّ، {وَمِنْكُمْ مَنْ؛} يعمّر حتى {يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ؛} أي هوانه وأخسّه وهو الهرم والخرف. قوله تعالى:{لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً؛} أي لكيلا يعقل من بعد عقله الأوّل شيئا.
قوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً؛} هذه دلالة أخرى تدلهم على إحياء الموتى بإحياء الأرض الميتة، والهامدة: هي اليابسة الجافّة، كأنه قال: وترى الأرض يابسة جافّة ذات تراب كالنار إذا اطفئت ورمدت، {فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ؛} أي على الأرض، {اِهْتَزَّتْ وَرَبَتْ؛} أي تحرّكت بالنبات، وازدادت وأضعفت النبات، وذلك أن الأرض ترتفع على النبات، فذلك تحريكها، وهو معنى قوله (وربت) أي ارتفعت وزادت وانتفخت للنبات، من ربا يربو إذا ازداد.
قوله تعالى: {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (5)؛أي وأخرجت أكما من كلّ لون حسن البهجة، ومن كلّ صنف مؤنق العين، والبهيج الحسن. قال الله تعالى:{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ}
(1)
.
(1)
النمل 60/
قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى؛} أي ذلك الذي وصفناه من تعريف الخلق على هذه الأحوال في إحياء الأرض الميتة؛ لتعلموا وتقرّوا بأنّ الله هو المستحقّ لصفات التعظيم، وهو الإله الواحد الذي يقدر على كلّ شيء.
قوله تعالى: {(وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى)} أي ويدلّكم على أنه يحيي الموتى كما أحياكم ابتداء، {وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (6)،وبأنه على كلّ شيء من الإيجاد والإعدام قدير، ويدلّكم
{وَأَنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (7)؛للحسنات والجزاء.
قوله تعالى: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ} (8)؛نزلت في النّضر بن الحارث أيضا، وقيل: نزلت في أبي جهل، ومعناه: يجادل ليحقّ الباطل، ويبطل ما دلّ عليه الدليل بغير معرفة ودليل ولا كتاب منير فيه حجّة ما يقول.
قوله تعالى: {ثانِيَ عِطْفِهِ؛} أي لاوي عنقه متكبرا معرضا عن ما يدعى إليه كبرا، وهو منصوب على الحال، والمعنى: ومن النّاس من يجادل في الله متكبرا شامخا بأنفه، {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ؛} أي عن دين الله وطاعته.
وقوله تعالى: {لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ؛} أي عقوبة بالمذمّة والقتل، {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ} (9)؛أي عذاب النار، فقتل النّضر بن الحارث يوم بدر أسيرا، ومن قال: نزلت في أبي جهل فهو قتل أيضا يوم بدر.
قوله تعالى: {ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ؛} مبالغة في إضافة الخزي إليه، {وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ} (10)؛ظاهر المعنى، فإن قيل: لم قال الله تعالى: {(بِظَلاّمٍ)} على صفة المبالغة وهو لا يظلم مثقال ذرّة؟ فقيل: تعالى إنه لو فعل أقلّ قليل الظّلم، لكان عظيما منه.
قوله تعالى: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ؛} قال ابن عبّاس:
(نزلت هذه الآيات في أناس من بني أسد بن خزيمة، أصابتهم سنة شديدة فأجدبوا فيها، فمضوا بعيالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرين، فكانوا إذا أعطوا من
الصّدقة، وأصابوا خيرا اطمأنّوا بذلك وفرحوا به، وإن أصابهم وجع وآفة، وولدت نساؤهم البنات، وتأخّرت عنهم الصّدقة، قالوا: ما أصابنا مذ كنّا على هذا الدّين إلاّ شرّ، فينقلب عن دينه، وذلك الفتنة)
(1)
.
ومعنى الآية {(وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ)} اي على ضعف في العبادة، لضعف القيام على الأحرف لا يدخل في الدّين على ثبات وتمكّن. وقيل: معناه:
على شكّ كأنه قائم على حرف جدار وطرف جبل، لا يدخل في الدّين على ثبات ويقين وطمأنينة، فهو كالمضطرب على شفا جرف، {فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ؛} رخاء وعافية وسعة، {اِطْمَأَنَّ بِهِ} على عبادة الله بذلك الخير، {وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ؛} أي محنة تضييق العيش ونحو ذلك، {اِنْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ؛} أي رجع إلى دينه الأوّل وهو الشّرك بالله. قوله تعالى:{خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ؛} أي خسر في الدّنيا العزّ والغنيمة، وفي الآخرة الجنّة، {ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ} (11)؛ أي الظاهر. قرأ الأعرج ويعقوب:«(انقلب على وجهه خاسرا الدّنيا والآخرة)» بالألف «(والآخرة)» بالخفض، ونصب «(خاسر)» على الحال
(2)
.
قوله تعالى: {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ؛} أي يعبد من دون الله ما لا يضرّه إن ترك عبادته، ولا ينفعه إن عبده، {ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} (12)؛عن الحقّ والرّشد،
{يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ؛} أي يدعو ما لا نفع له أصلا، ومن عادة العرب أنهم يقولون لشيء لا منفعة فيه: لضرره أكثر من نفعه، كما يقولون لشيء لا يكون أصلا: هذا بعيد.
قوله تعالى: {لَبِئْسَ الْمَوْلى؛} أي بئس الناصر، وقوله تعالى:{وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} (13)؛أي بئس الصاحب والمعاشر، يعني الصنم.
واختلفوا في اللاّم في قوله (لمن ضرّه):قيل معناه التأخير كأنه قال: يدعو من والله لضرّه أقرب من نفعه، وإنّما قدمت اللام للتأكيد، ونظير هذا قولهم: عندي لما غيره خير منه، معناه: عندي ما لغيره خير منه. وقيل (لمن ضرّه) كلام مبتدأ وخبره
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (18863).وابن أبي حاتم في التفسير: الأثر (13797).
(2)
ينظر: جامع البيان: ج 10 ص 163.
(لبئس المولى ولبئس العشير)،ويكون المعنى الذي هو الضلال البعيد يدعوه، فهذا حدّ الكلام وما بعده كلام مستأنف. وقيل: هذه اللام صلة؛ أي يدعو من ضرّه أقرب من نفعه
(1)
.
قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ؛} ظاهر المعنى، {إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ} (14)؛بأوليائه وأهل طاعته من الكرامة، وبأهل معصيته من الهوان.
قوله تعالى: {مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ؛} الآية، معناه: من كان يظنّ أن لن ينصر الله محمّدا صلى الله عليه وسلم فليطلب سببا يصل به إلى السماء، {ثُمَّ لْيَقْطَعْ؛} نصرة الله لنبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم، {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ؛} أي يتهيّأ له الوصول إلى السّماء بحيلة، فكما لا يمكنه أن يحتال في الوصول إلى السّماء، كذا لا يمكنه الحيلة في قطع نصر الله تعالى للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقيل: معناه: من كان يظنّ أن لن ينصر الله النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى يظهر على الدّين، فليمت غيظا. وقيل: إن الهاء راجعة إلى (من كان يظنّ) كأنه قال: من كان يظنّ أن لن يرزقه الله فليمدد بحبل إلى سقف بيته وأضفى ذلك على حلقه مخنقا نفسه ليذهب غيظ نفسه.
وهذا مثل ضرب لهذا الجاهل؛ أي مثل هذا الذي يظنّ أن لن يرزقه الله على سبيل السّخط مثل من فعل هذا الفعل بنفسه، هل كان ذلك إلا زائدا في ثلاثة؟ وهل تذهب حقيقة نفسه غيظه في رزقه؟ وإنّما ذكر النّصرة بمعنى الرّزق؛ لأن العرب تقول: من ينصرني نصره الله؛ أي من يعطيني أعطاه الله. قوله تعالى: {ما يَغِيظُ} (15)؛ (ما) بمعنى المصدر؛ أي هل يذهبنّ كيده وحيلته غيظه.
قوله تعالى: {وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ؛} أي وكذلك أنزلنا القرآن على محمّد صلى الله عليه وسلم دلالات واضحات، {وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي؛} إلى النبوّة، {مَنْ يُرِيدُ} (16)؛وقيل: يهدي إلى الدّين وإلى الثواب.
(1)
ينظر: إعراب القرآن للنحاس: ج 3 ص 63.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا؛} أي إنّ الذين آمنوا بمحمّد والقرآن وجميع أصناف الكفّار من اليهود، {وَالصّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ؛} بين هؤلاء الفرق الخمس وبين المؤمنين، {يَوْمَ الْقِيامَةِ؛} بأن يدخل المؤمنين الجنّة، وتلك الفرق النار، {إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (17)؛أي عليم بكلّ شيء من أعمال هؤلاء.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ؛} أي ألم تعلم يا محمّد أنّ الله يسجد له أهل السّماوات من الملائكة، {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ؛} من الجنّ والإنس من المؤمنين.
قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ؛} يسجدون لله؛ أي يخضعون؛ لأنّ سجود هذه الأشياء خضوعها وانقيادها لخالقها فيما يريد منها. وقال أبو العالية: (ما في السّماء نجم ولا شمس ولا قمر إلاّ وهو يسجد لله حين يغيب، ثمّ لا ينصرف حتّى يؤذن له)
(1)
.
قوله تعالى: {وَكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ؛} أي وكثير من الكفّار الذين سيؤمنون من بعد، وانقطع ذكر الساجدين ثم استثناه فقال:{وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ؛} أي ممّن لا يوحّده وأبى السجود، وقوله تعالى:{وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ؛} أي من يهن الله بالشّقاء، فما أحد يكرمه بالسعادة، {إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ} (18)؛من الإهانة والكرامة والشّقاوة والسعادة، وهو المالك للعقوبة والمثوبة.
قوله تعالى: {*هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ؛} أراد بالخصمين المؤمنين والكفار، وقيل: أهل الكتاب وأهل القرآن، والمعنى: اختصموا في دين ربهم، فقالت اليهود والنصارى: نحن أولى بالله منكم؛ لأنّ نبيّنا قبل نبيّكم، وكتابنا قبل كتابكم، وقال المسلمون: نحن أحقّ بالله منكم، آمنّا بكتابنا وكتابكم ونبيّنا ونبيّكم، وأنتم كفرتم بنبيّنا حسدا.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (18882).
وقيل: أراد بالخصمين الفريقين الذين تبارزوا يوم بدر. والخصم يقع على الواحد والجميع، ألا ترى أنه جعل الكفار خصما، والمؤمنين خصما، ولهذا قال {(اخْتَصَمُوا)}؛لأنّهما جمعان وليس برجلين. وكان أبو ذرّ رضي الله عنه يقسم أنّ هذه الآية نزلت في ستّة نفر من قريش تبارزوا يوم بدر بثلاثة من المؤمنين وهم:(حمزة؛ وعليّ؛ وعبيدة بن الحارث) وثلاثة من المشركين وهم: (عتبة؛ وشيبة؛ والوليد بن عتبة)،قال:
وقال عليّ رضي الله عنه: (إنّي لأوّل من يبعث للخصومة يوم القيامة بين يدي الله عز وجل
(1)
.
قوله تعالى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ؛} أي نحاس قد أذيب في النار فيجعل على أبدانهم بمنزلة الثياب، وليس شيء إذا حمي أشدّ حرّا من النّحاس، {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ} (19)؛وهو الماء الحارّ الذي قد انتهى حرّه،
قوله تعالى: {يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} (20)؛أي يذاب بالحميم الذي يصبّ من فوق رءوسهم ما في بطونهم من الشّحوم حتى يخرج من أدبارهم، وتذاب به الجلود أيضا، فإن جلودهم تتساقط من حرّ الحميم. والصّهر الإذابة، يقال: صهرت الإلية بالنّار أصهرها؛ أي أذبتها.
قوله تعالى: {وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} (21)؛المقامع جمع مقمعة؛ وهي مدقّة الرّأس. روي أنّ الملائكة يضربون وجوههم بأعمدة من حديد، فيهوون في النّار سبعين خريفا. قال مقاتل:(تضرب الملائكة رأس الكافر بالمقمعة فينقب رأسه، ثمّ يصبّ فيه الحميم الّذي انتهى حرّه، فينفذ الجمجمة حتّى يخلص إلى جوف الكافر، فيسلت ما في جوفه من الأمعاء حتّى يحرق قدميه)
(2)
.
قوله تعالى: {كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها؛} أي كلما رفعتهم النار بلهبها فحاولوا الخروج منها في غمّ العذاب أعيدوا في النار بضرب المقامع، وقيل لهم:{وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ} (22)؛أي المحرق مثل الأليم بمعنى المؤلم. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى {(وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ)}
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (18885).وابن أبي حاتم في التفسير: الأثر (13816). والأثر رواه البخاري في الصحيح: كتاب التفسير: باب هذانِ خَصْمانِ: الحديث (4743).
(2)
في تفسير مقاتل: ج 2 ص 380.
قال: [لو وضع مقمع من حديد على الأرض، ثمّ اجتمع عليه الثّقلان ما رفعوه من الأرض]
(1)
.
ثم ذكر الله الخصم الآخر فقال: {إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً؛} قد تقدّم تفسيره في سورة الكهف.
قرأ أهل المدينة وعاصم: {(وَلُؤْلُؤاً)} بالنصب على معنى (يحلّون فيها لؤلؤا)، ومن قرأ بالخفض كان المعنى «(يحلّون فيها من أساور من لؤلؤ)» .
وقوله تعالى: {وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ} (23)؛ظاهر المراد. قال أبو سعيد الخدريّ: [من لبس الحرير في الدّنيا لم يلبسه في الآخرة، وإن دخل الجنّة لبسه أهل الجنّة ولم يلبسه هو]
(2)
.
قوله تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ؛} أي هدوا في الدّنيا إلى القول الطيّب، وهو قول لا إله إلاّ الله، وقيل: إلى القرآن. قوله تعالى: {وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ} (24)؛فالله الحميد، والصّراط: طريق الجنّة. والمعنى: أرشدوا إلى الإسلام. ويجوز أن يكون {(الْحَمِيدِ)} نعتا للصراط كما في قوله تعالى {حَقُّ الْيَقِينِ}
(3)
.وقيل: معنى الآية: وأرشدوا إلى القول الطيّب في الآخرة مثل قول الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ}
(4)
.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ؛} معناه: إنّ الذين كفروا بمحمّد والقرآن {(وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)} عطف المضارع على المضاف؛ لأن المراد بالمضارع الماضي أيضا. ويجوز أن يكون المعنى الذين كفروا فيما مضى وهم الآن يصدّون عن سبيل الله مع كفرهم، والمعنى: يمنعون الناس عن طاعة الله وعن
(1)
أخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب الأهوال: باب أول شافع: الحديث (8809)؛وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(2)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده: ج 3 ص 23 مرفوعا. وابن حبان في السنن: الحديث (5437). والحاكم في المستدرك: كتاب اللباس: الحديث (748) وصححه.
(3)
الواقعة 95/.
(4)
الزمر 74/.
الطّواف في {وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ؛} وهم أبو سفيان وأصحابه الذين صدّوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عام الحديبية.
قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ؛} معناه:
الذي جعلناه للناس كلّهم، لم يخصّ به بعضهم دون بعض سوى المقيم فيه، والذي يأتي من غير أهله، وليس الذين صدّوا عنه بأحقّ به من غيرهم.
قيل: المراد بالمسجد الحرام في هذه الآية الحرم كلّه، كما في قوله تعالى:{إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ}
(1)
وكان العهد بالحديبية. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إنّ مكّة لا يحلّ بيع رباعها ولا إجارة بيوتها]
(2)
.وقيل: إن المراد بالمسجد الحرام نفس المسجد سوى المعتكف فيه. المجاور والبادي الذي يكون ملازما له في حرمته وحقّ الله عليهما فيه سواء.
قرأ حفص: {(سَواءً)} بالنصب بإيقاع الجعل عليه، لأن الجعل يتعدّى إلى مفعولين. وقرأ الباقون بالرفع على الابتداء، وما بعده خبره. وقيل:«(سواء)» خبر مبتدأ متقدّم تقديره: العاكف فيه والبادي سواء
(3)
.
قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ} (25)؛ معناه: ومن يرد فيه إلحادا بظلم، وفي هذا دليل أن المراد بالمسجد الحرام كلّ الحرم، فإن الذنب في الحرم أعظم منه في غيره، فعلى هذا يكون قوله {(سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ)} أي سواء في النّزول، فليس أحدهما أحقّ بالمنزل يكون فيه. وحرّموا بهذه الآية كراء دور مكّة وإجارتها في أيام الموسم.
(1)
التوبة 7/.
(2)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 1 ص 33؛ قال القرطبي: (كذا رواه أبو حنيفة مرفوعا ووهم فيه، والصحيح أنه موقوف، وأسند الدارقطني أيضا عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وذكره).والحديث أخرجه الدارقطني في السنن: ج 3 ص 58:الرقم (223 - 227).
(3)
ينظر: جامع البيان: ج 10 ص 181.
قال عبد الله بن أسباط: (كان الحجّاج إذا قدموا مكّة لم يكن أحد من أهل مكّة أحقّ بمنزله منهم)
(1)
،روي:(أنّها كانت تدعى السّوائب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن)
(2)
.
والإلحاد هو الشّرك بالله تعالى، وقيل: كلّ ظالم فيه فهو ملحد. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [احتكار الطّعام بمكّة إلحاد]
(3)
.وأمّا دخول الباء في قوله: {(بِإِلْحادٍ)} فعلى معنى: ومن إرادته فيه بأن يلحد بظلم. وقيل: الإلحاد دخول مكة بغير إحرام، وأخذ حمام مكّة وأشياء كثيرة لا يجوز للمحرم أن يفعلها. قوله تعالى:{(نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ)} خبر لكل ما تقدّم من الجملتين من قوله تعالى {(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ)} ،ومن قوله تعالى {(وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ)} .
قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً؛} معناه: واذكروا إذ جعلنا البيت مثوى لإبراهيم ومنزلا. قال الحسن: (بوّأناه نزّلناه)،وقال مقاتل:(دللناه عليه)
(4)
،وقيل: هيّأنا، نظيره {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ}
(5)
، {وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ}
(6)
، {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً}
(7)
،وقيل: معنى {(بَوَّأْنا)} أي بيّنّا له مكان البيت.
قال السديّ: (لمّا أمر الله تعالى ببناء البيت لم يدر إبراهيم أين يبني، فبعث الله إليه ريحا، فكشفت له ما حول الكعبة عن الأساس الأوّل الّذي كان البيت عليه قبل أن يرفع أيّام الطّوفان)
(8)
،وقال الكلبيّ: (فبعث الله إليه سحابة على قدر البيت
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (18905).
(2)
في الدر المنثور: ج 6 ص 26؛ قال السيوطي: (أخرجه ابن أبي شيبة وابن ماجة عن علقمة بن نضلة).
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير: ج 8 ص 2484 الرقم (13865).والبيهقي في شعب الإيمان: الحديث (11221) كلاهما عن ابن عمر.
(4)
في تفسير مقاتل: ج 2 ص 381.
(5)
آل عمران 121/.
(6)
الأعراف 74/.
(7)
العنكبوت 58/.
(8)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (18829).وابن أبي حاتم في التفسير: ج 8 ص 2426.
فيها رأس يتكلّم فقامت بحيال البيت، وقالت: يا إبراهيم ابن على قدري)،قوله تعالى:{(أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً)} أي قلنا له وأوحينا إليه أن لا تعبد معي غيري.
قوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (26) أي طهّر من ذبائح المشركين، ومما كانوا يطرحون حوله من الدّم والفرث، وقيل:
طهّره من عبادة الأوثان، ومن دخول المشركين فيه. قوله تعالى:{(لِلطّائِفِينَ)} الذين يطوفون حوله، وأما القائمون الرّكّع السّجود فهم المصلّون.
قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ؛} أي وعهدنا إلى إبراهيم أيضا أن أذّن في النّاس بالحجّ يأتوك رجالا، فقال: يا رب وما يبلغ صوتي؟ فقال: عليك الأذان وعليّ البلاغ، فصعد أبا قبيس، ونادى في الناس: ألا إنّ ربّكم قد بنى بيتا، وأمركم أن تحجّوه فحجّوه، فاسمع الله نداءه جميع من في أصلاب الرجال وأرحام النّساء، وما بين المشرق والمغرب، والبرّ والبحر، فلبّاه كلّ حجر ومدر، وكلّ مؤمن ومؤمنة في أصلاب الآباء وأرحام الأمّهات، قالوا: لبّيك اللهمّ لبّيك، فجعل الله التلبية شعارا للحجّ، فكلّ من حجّ فهو ممن أجاب إبراهيم عليه السلام.
قوله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ؛} معناه: يأتوك مشاة على أرجلهم وعلى كلّ جمل مهزول أضمره السفر، ورجال جمع راجل، نحو صاحب وأصحاب. وعن ابن عبّاس أنه قال:(ما ندمت على شيء فاتني إلاّ أنّي لم أحجّ راجلا)
(1)
،وقد حجّ الحسن بن عليّ رضي الله عنهما خمسا وعشرين حجّة ماشيا من المدينة إلى مكّة، وأن النّجائب لتقاد معه.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال للحجّاج: [للرّاكب كلّ خطوة تخطوها راحلته سبعين حسنة، وللحاجّ الماشي بكلّ خطوة يخطوها سبعمائة حسنة من حسنات الحرم] قيل: وما حسنات الحرم؟ قال: [الحسنة بمائة ألف]
(2)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (18949).وابن أبي حاتم في التفسير: ج 8 ص 2488.
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط: الحديث (2696).والحاكم في المستدرك: كتاب المناسك: الحديث (1735).وفي مجمع الزوائد: ج 3 ص 209؛قال الهيثمي: (رواه البزار والطبراني في الأوسط-
قوله تعالى: {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (27)؛أي من بلدان شتّى، من كلّ طريق بعيد، يقال عميقة إذا كانت بعيدة القرار. وإنّما قال {(يَأْتِينَ)} ؛لأنه في معنى الجمع، وقيل: معناه: وعلى ناقة ضامرة.
وعن بشر بن محمّد قال: رأيت في الطّواف كهلا قد أجهدته العبادة، واصفرّ لونه، وبيده عصا وهو يطوف معتمدا عليها، فتقدّمت إليه لأسأله، فقال لي: من أين أنت؟ فقلت: من خراسان، قال: من أيّ ناحية هي؟ قلت: من نواحي المشرق، فقال لي: في كم تقطعون هذا الطريق؟ قلت: شهرين أو ثلاثة، قال: أفلا تحجّون في كلّ عام وأنتم جيران البيت؟ قلت: وأنتم كم بينكم وبين هذا البيت؟ فقال: مسيرة خمس سنين، فقلت: والله إن هذا الجهد لبيّن، والطاعة الجميلة والمحبة الصادقة، فضحك في وجهي وأنشأ يقول:
زر من هويت وإن شطت بك الدار
…
وحال من زرته حجب وأستار
لا يمنعنّك بعدا من زيارته
…
إنّ المحبّ لمن يهواه زوّار
وقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ؛} أي ليشهدوا ما ندبهم الله إليه مما لهم فيه نفع آخرتهم، ويدخل في ذلك منافع الدّنيا من التجارة بيعا ورخصة. قال ابن جبير:(يعني بالمنافع التّجارة)،وقال مجاهد:(هي التّجارة وما يرضي الله من أمر الدّنيا والآخرة)
(1)
.
وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول إذا وقف بعرفة: (اللهمّ إنّك دعوت إلى حجّ بيتك، وذكرت المنفعة على شهود مناسكك، وقد جئتك فاجعل منفعة ما تنفعني به أن تؤتيني في الدّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وأن تقيني عذاب النّار).
قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ؛} قال الحسن: (الأيّام المعلومات العشر، والأيّام المعدودات
(2)
-والكبير بنحوه وفيه قصة. وله عند البزار إسنادان أحدهما فيه كذاب والآخر فيه إسماعيل بن إبراهيم عن سعيد بن جبير ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات).
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (18956).
أيّام التّشريق)،وإنّما قال لها معدودات؛ لأنّها قليلة، وقيل لتلك المعلومات الحرص على علمنا بحسابها من أجل وقف الحجّ في آخرها، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة.
وقال أبو يوسف: (الأيّام المعلومات أيّام النّحر وهي ثلاثة أيّام، والأيّام المعدودات أيّام التّشريق وهي ثلاثة بعد اليوم الأوّل من أيّام النّحر، فيكون اليوم الأوّل من أيّام النّحر من المعلومات دون المعدودات، واليوم الآخر من أيّام التّشريق من المعدودات دون المعلومات، ويومين من وسطها من المعلومات والمعدودات جميعا)،وكان يستدلّ على هذا القول في الأيّام بهذه الآية، فإنه تعالى قال:{(وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ)} ،فاقتضى ظاهره أن المراد التسمية على ما ذبح من بهيمة بالمتعة والقران.
وأما على قول أبي حنيفة، فالمراد بالذّكر إكثار الذّكر في أيام العشر، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:[ما من أيّام العمل الصّالح أفضل فيهنّ من أيّام التّشريق، فأكثروا فيها من التّحميد والتّكبير والتّهليل]
(1)
.
وعلى هذا يكون معنى {(عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ)} لما رزقتهم من بهيمة الأنعام، كما قال {وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ}
(2)
أي لما هداكم، وقال محمّد بن كعب:(المعلومات والمعدودات واحد).قوله تعالى: {(عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ)} يعني الهدايا والضّحايا من الإبل والبقر والغنم.
قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ} (28)؛قال الحسن:
(وذلك أنّ أهل الجاهليّة كانوا إذا ذبحوا لطّخوا وجه الكعبة، وشرّحوا اللّحم فوضعوه على الحجارة حتّى تأكله السّباع والطّير، وقالوا: لا يحلّ لنا أن نأكل شيئا جعلناه لله.
فلمّا جاء الإسلام قال النّاس: يا رسول الله كنّا نضعه في الجاهليّة ألا نضعه الآن؟ فنزلت هذه الآية). {(فَكُلُوا مِنْها)} يعني الأنعام التي تنحرون، {(وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ)}
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 131 بهذا اللفظ. للحديث ألفاظ أخرى عند البخاري والترمذي وأبو داود وابن ماجة والطبراني والبيهقي وغيرهم.
(2)
البقرة 185/.
وهو الذي قد أصابه ضرر الجوع، و {(الْفَقِيرَ)} الذي لا شيء له. وقيل: البائس الذي بيّن عليه أثر البؤس بأن يمدّ يده إليك. وقيل: البائس الزّمن. وإنّما خصّص البائس الفقير؛ لأنه أحوج من غيره.
قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ؛} قال ابن عباس: (التّفث هو المناسك كلّها)
(1)
،والمراد هاهنا رمي الجمار والحلق، ويقال: قضاء التّفث إزالة الشّعث، وفي هذا دليل على أن المراد بقوله {(عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ)} دم المتعة والقران؛ لأن الله تعالى رتّب عليه قضاء التّفث والطواف بالبيت الحرام، لا دم ترتّب على هذه الأفعال إلاّ دم المتعة والقران، فذكر هذه الآية في جواز الأكل مما يذبح. وقيل: التّفث هو الوسخ والقذر من طول الشّعر والأظفار، وقضاؤه وإذهابه وإزالته.
قوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ؛} يعني نحر ما نذروا من البدن، وقيل:
يعني ما نذروا من أعمال البرّ في أيام الحجّ، وربّما نذر الرجل أن يتصدّق إن رزقه الله لقاء الكعبة. قوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (29)؛يعني طواف الزّيارة بعد التروية، أما يوم النّحر وما بعده فيسمّى طواف الإفاضة. والعتيق القديم؛ لأنه أول بيت وضع للناس. وقيل:[أعتق من أيدي الجبابرة، فلا يظهر عليه جبّار قط إلاّ أذلّه الله]
(2)
.وعن ابن عبّاس قال: حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا أتى وادي عسفان قال: [لقد مرّ بهذا الوادي نوح وهود وإبراهيم على بكرات حمر خطمهنّ اللّيف، يحجّون البيت العتيق]
(3)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (18983).وابن أبي حاتم في التفسير: ج 8 ص 13899.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (18994). عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
وذكره. وأخرجه الترمذي في الجامع: أبواب التفسير: الحديث (3170)،وقال: هذا حديث حسن غريب. والحاكم في المستدرك: كتاب التفسير: الحديث (3516)،وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه.
(3)
رواه الإمام أحمد في المسند: ج 1 ص 232.
قوله: {ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ؛} أي ذلك الذي أمرتم به، ومن يعظّم حرمات الله باجتناب ما حرّم الله تعظيما لله فهو خير له في الآخرة من ترك استعظامه. وقال بعضهم: الحرمات هاهنا البيت الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والمسجد الحرام. قوله تعالى: {(فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ)} أي قال: المعظّم خير له عند ربه من التّهاون، يعني في الآخرة.
قوله تعالى: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ؛} أي رخّصت لكم بهيمة الأنعام أن تأكلوها، {إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ؛} في كتاب الله من الميتة والدم وغير ذلك مما بيّنه الله في سورة المائدة من المنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة ومما لم يذكر اسم الله عليه. وقيل: معناه: وأحلّت لكم بهيمة الأنعام في حال إحرامكم إلاّ ما يتلى عليكم من الصّيد، فإنه حرام في حال الإحرام.
قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ؛} أي فاجتنبوا عبادتها وتعظيمها وأن تذبحوا لها، كما يفعل المشركون، سمّاها رجسا استقذارا لها واستخفافا لها، وذلك أنّ المشركين كانوا ينحرون هداياهم، ويصبّون عليها الدماء، وكانوا مع هذه النّجاسات يعظّمونها.
ويجوز أن يكون سمّاها رجسا للزوم اجتنابها كاجتناب الأنجاس. وأما حرف {(مَنْ)} في قوله {(مِنَ الْأَوْثانِ)} لتخصيص جنس من الأجناس، والمعنى: فاجتنبوا الرّجس الذي هو من وثن.
قوله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (30)؛يعني قول الكذب، ومن أعظم وجوه الكذب الكفر بالله، والكذب على الله، ويدخل في ذلك شهادة الزّور، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:[عدلت شهادة الزّور بالإشراك بالله]
(1)
،وقال صلى الله عليه وسلم:[شاهد الزّور لا تزول قدماه من مكانها حتّى تجب له النّار]
(2)
.
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 4 ص 187.والترمذي في الجامع: كتاب الشهادات: الحديث (2299).والبيهقي في السنن الكبرى: الحديث (20964).
(2)
أخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب الأحكام: الحديث (7124).والبيهقي في السنن الكبرى: الحديث (20965).
قوله تعالى: {حُنَفاءَ لِلّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ؛} أي مخلصين لله مستقيمين على أمره غير مشركين في تلبية ولا حجّ، وذلك أنّ أهل الجاهلية كانوا يقولون في تلبيتهم: لبّيك اللهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إلاّ شريكا تملكه يعنون الصّنم.
وانتصب قوله: {(حُنَفاءَ)} على الحال.
قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ؛} أي سقط من السّماء، {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ؛} في الهواء فتمزّقه، أو تذهب به الريح في موضع بعيد؛ أي منحدر فيقع على رأسه فيهلك، أي كما أنّ الذي سقط من السماء لا يملك نفعا ولا دفع ضرّ، وكذلك الذي تهوي به الريح في مكان سحيق، وكذلك المشرك لا ينتفع بشيء من أحماله ولا يقدر على شيء منها.
قرأ أهل المدينة «(فتخطّفه الطّير)» بالتشديد أي فتتخطفه، فأدغم أحد التّاءين في الأخرى، والخطف: الأخذ بسرعة. قال ابن عبّاس: (يريد يخطف لحمه)، {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ؛} أي تسقطه، {فِي مَكانٍ سَحِيقٍ} (31)؛أي بعيد. شبّه حال المشرك بحال هذا الهاوي من السّماء في أنه لا يملك حيلة حتى يسقط فهو هالك لا محالة، إما بإسلاب الطّير، وإما بالسّقوط في المكان السّحيق.
قوله تعالى: {ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ؛} أي ذلك التباعد والهلاك لمن أشرك بالله، من يعظّم شعائر الله؛ أي مناسك الله. وقيل: أراد بالشّعيرة البدن، فمن عظّمها باستمنانها واستحسانها، {فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (32)؛يعني من صفاوة القلوب. وإنّما أضاف التّقوى إلى القلوب؛ لأن حقيقة التقوى تقوى القلوب.
قوله تعالى: {لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى؛} أي لكم في بهيمة الأنعام المنافع تركبوها، وتشربون ألبانها قبل أن تشعروها وتسمّوها هديا إلى أن تقادوها، وسموها هديا، وأما إذا قلدوها وسمّوها هديا انقطعت هذه المنافع فلا يجوز له حينئذ شرب ألبانها ولا خزّ أصوافها ولا بيع أولادها.
وأما ركوبها عند الشافعيّ يجوز إذا لم يضرّ بها، وعندنا لا يجوز إلاّ اذا اضطرّ إليه. وعن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلا يسوق بدنة، فقال له: [ويحك!
اركبها] فقال له: إنّها بدنة، فقال:[ويحك! اركبها]
(1)
،وهذا عندنا محمول على أنّه عليه السلام إنّما أباحه لضرورة علمه من الرجل فأذن له في ذلك إن لم يجد ظهرا غيرها، يدلّ على ذلك أنه لا يجوز له أن يوجّهها للركوب.
قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (33)؛يعني أنّ نحرها إلى الحرم، وعبّر عن الحرم بالبيت؛ لأن حرمة الحرم متعلقة بالبيت، كما قال تعالى:
(2)
،ومن المعلوم أنّه لا يذبح عند البيت.
قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً؛} أي لكلّ أمّة مسلمة سبقت قبلكم جعلنا لها عيدا، قوله تعالى:{لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ؛} عند الذبح. وقيل: معناه: ولكلّ أمّة جعلنا عبادة في الذبح. وقيل:
معناه: جعلنا متعبّدا يعبدون الله فيه.
قرأ أهل الكوفة «(منسكا)» بكسر السّين؛ أي مذبحا وهو موضع القربان، وقرأ الباقون بفتح السّين على المصدر مثل المدخل والمخرج؛ أي هراقة الدّم أو ذبح القربات، فمن فتح السين أخذه من نسك ينسك مثل دخل يدخل، ويستوي فيه المكان والمصدر، ومن كسرها أخذه من نسك ينسك مثل جلس يجلس.
قوله تعالى: {فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا؛} أي أخلصوا دينكم وأعمالكم لله تعالى، {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} (34)؛أي المتواضعين بالجنّة، واشتقاق المخبتين من الخبت وهو المكان المطمئنّ، وقال مجاهد: (يعني المخبتين:
المطمئنّين إلى الله)،وقال الأخفش:(الخاشعين)،وقيل: الخائفين، وقيل: هم الذين إذا ظلموا لا ينصرون.
قوله: {الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ؛} أي إذا خوّفوا بالله خافوا.
قوله تعالى: {وَالصّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ؛} أي وبشّر الصّابرين على ما أصابهم
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 3 ص 291.والبخاري في الصحيح: كتاب الحج: الحديث (1689).ومسلم في الصحيح: كتاب الحج: الحديث (1322/ 372).
(2)
المائدة 95/.
من البلايا والنوائب الشدائد، وبشّر {وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ؛} في أوقاتها، وحذفت النون لطول الاسم، قوله تعالى:{وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} (35)؛أي يتصدّقون من الواجب وغيره.
قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ؛} جمع بدنة وهي الناقة والبقرة، والبدانة الضخامة، والمعنى: والإبل جعلناها لكم من أعلام دين الله؛ أي جعلناها لكم فيها عبادة لله من سوقها إلى البيت وتقليدها وإشعارها ونحرها والإطعام منها، قوله تعالى:{لَكُمْ فِيها خَيْرٌ؛} يعني النفع في الدّنيا والآخرة.
قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ؛} أي عند نحرها، وصوافّ جمع الصّافّة وهي القائمة على ثلاث قوائم قد عقلت، وكذا السّنة في الإبل، ومعنى الآية: فاذكروا اسم الله على نحرها قياما معقولة إحدى يديها وهي اليسرى. وعن يحيى بن سالم قال: (رأيت ابن عمر وهو ينحر بدنته، فنحرها وهي قائمة معقولة إحدى يديها)
(1)
يعني اليسرى.
وروي عن ابن مسعود كان يقول: «(صوافّن)» بالنون وهي المعقولة
(2)
،من قولهم: صفن الفرس إذا قام على ثلاث قوائم، قال الله تعالى:{الصّافِناتُ الْجِيادُ}
(3)
.وقرأ الحسن ومجاهد: «(صوافي)» بالياء أي صافية خالصة لله تعالى
(4)
.
قوله تعالى: {فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها؛} أي سقطت بعد النحر، فوضعت جنوبها على الأرض وخرجت روحها، {فَكُلُوا مِنْها؛} ولا يجوز الأكل من البدن إلاّ بعد خروج الروح، لأن ما بين عن الحيّ فهو ميت. وأصل الوجوب الوقوع، ومنه وجبت الشمس إذا وقعت في المغيب، ووجب الحائط إذا وقع، ووجب القلب إذا
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (19049).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (19058).وفي الدر المنثور: ج 6 ص 53؛ قال السيوطي: (أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن الأنباري عن قتادة).
(3)
ص 31/.
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (19054).
وقع فيه الفزع، ووجب الفعل إذا وجب ما يلزم به فعله. قوله تعالى:{(فَكُلُوا مِنْها)} أمرنا بإباحة ورخصة مثل قوله: {وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا}
(1)
،وقوله تعالى {فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ}
(2)
.
قوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ؛} اختلفوا في معناها، فروي عن ابن عبّاس ومجاهد:(أنّ القانع هو الّذي يقنع ويرضى بما عنده ولا يسأل، والمعترّ الّذي يعترض لك أن تطعمه من اللّحم)،يقال: قنع قناعة إذا رضي قانع، وعراه واعتراه إذا سأله، وكذلك قال عكرمة وقتادة:(إنّ القانع هو المتعفّف الجالس في بيته، والمعترّ السّائل الّذي يعتريك ويسألك)
(3)
.
قال سعيد بن جبير والكلبيّ: (القانع هو الّذي يسأل، والمعترّ هو الّذي يتعرّض لك ويريك نفسه ولا يسألك)
(4)
،فعلى هذا يكون القانع من القنوع وهو السّؤال، يقال منه: قنع الرجل يقنع إذا ذهب يسأل، مثل ذهب فهو قانع. قال الشمّاخ:
كمال المرء يصلحه فيغنى
…
مفاقره أعفّ من القنوع
(5)
أي من السّؤال. وقال زيد بن أسلم: (القانع هو المسكين الّذي يطوف فيسأل، والمعترّ الصّديق الزّائر، والمعترّ الّذي يعتري القوم للحمهم وليس بمسكين إلاّ أنّه ليست له ذبيحة، يأتي القوم لأجل لحمهم)
(6)
.
وقرأ الحسن: «(والمعتري)» بالياء من قولهم: اعتراه إذا غشيه لحاجته. وروى عطاء عن ابن عبّاس: (أنّ القانع الّذي يسأل، والمعترّ الّذي يأتيك بالسّلام، ويريك
(1)
المائدة 2/.
(2)
الجمعة 10/.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (19075 - 19076).
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (19080).
(5)
ذكره الطبري في جامع البيان: النص (19082).والزجاج في معاني القرآن: ج 3 ص 348. والمفاقر: وجوه الفقر، والقنوع السؤال.
(6)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (19086).
وجهه، ولا يسأل)،وعن مجاهد:(أنّ القانع جارك الغنيّ، والمعترّ الّذي يعتريك من النّاس).
فعلى هذا تقتضي الآية: أن المستحبّ أن يتصدّق بالثّلث؛ لأن في الآية أمر بالأكل وإعطاء الغنيّ وإعطاء الفقير السائل. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحرم:
[الأضاحي كلوا وادّخروا]
(1)
،وقال تعالى:{فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ،} فإذا جمعت بين الآية والخبر جعل الثلث للصدقة.
قوله تعالى: {كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (36)؛أي مثل ما وصفنا من نحرها وقيامها سخّرناها لكم؛ أي ذلّلناها لكم؛ لتتمكّنوا من نحرها على الوجه المسنون؛ لكي تشكروا نعم الله تعالى.
قوله تعالى: {لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ} قال الكلبيّ: (كان أهل الجاهليّة ينحرون البدن للأصنام ويلطّخون البيت بدمائها قربة إلى الله فنهى عن ذلك).والمعنى: لن يرفع الله لحومها ولا دماؤها، ولكن يرفع إلى الله منكم الأعمال الصالحة والتّقوى، وهو ما أريد به وجهه الكريم.
ويقال: إنّما لا يتقبّل الله اللحوم والدماء لأنها فعل الله، ولكن يتقبل التقوى الذي هو فعل العبد، فيوجب الثواب على ذاك، والمعنى: لن يتقبّل الله اللحوم والدماء اذا كانت من غير تقوى، وإنّما يتقبّل منكم التقوى والطاعة في ما أمركم به، بالنيّة والإخلاص به.
قوله تعالى: {كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ؛} أي ذلّلها لكم، {لِتُكَبِّرُوا اللهَ} أي لتعظّموه، {عَلى ما هَداكُمْ؛} لدينه، {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} (37)؛ بالجنّة يعني الموحّدين المخلصين. ويقال: معنى قوله {(عَلى ما هَداكُمْ)} يعني ما بيّن لكم وأرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجّه.
(1)
رواه الحاكم في المستدرك: كتاب الأضاحي: الحديث (7643).وأخرجه البخاري بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [كلوا من الأضاحي ثلاثا] في الصحيح: كتاب الأضاحي: الحديث (5574).
قوله تعالى: {*إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا؛} أي إذا ما أمرتم فعلتم به وخالفتم فعل الجاهليّة في نحرهم وإشراكهم بالله، فإن الله يدفع عنكم غائلة المشركين وأذاهم وينصركم عليهم، {إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوّانٍ كَفُورٍ} (38) أي لا يحبّ كلّ مظهر للنصيحة مضمر للغشّ والنّفاق كافر بالله وبنعمته.
قال ابن عبّاس: (يريد الّذين خانوا الله بأن جعلوا معه شريكا وكفروا نعمه)، قال الزجّاج:(من ذكر غير اسم الله وتقرّب إلى الأصنام بذبيحته فهو خوّان كفور)
(1)
، قرأ أبو عمرو وابن كثير:«(يدفع)» ،وقرأ الباقون:{(يُدافِعُ)} ،وهو بمعنى واحد.
قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا؛} قال ابن عبّاس:
(هذه أوّل آية نزلت في الإذن بالقتال، أذن الله تعالى للمؤمنين المهاجرين أن يقاتلوا كفّار مكّة بسبب ما ظلموا بأن أخرجوا من مكّة){وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (39)؛هذا وعد لهم بالنّصر.
وقيل: كان مشركو مكّة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يزالون محزونين من «بين»
(2)
مشجوج ومضروب، ويشكون ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لهم:
[اصبروا فإنّي لم اؤمر بالقتال]
(3)
حتّى هاجروا، فأنزل الله هذه الآية بالمدينة.
قرأ نافع وأبو عمرو وعاصم: {(أُذِنَ)} بضمّ الألف وكسر الذال، وقرأ الباقون «(أذن)» بالفتح؛ أي أذن الله لهم، وقوله {(يُقاتَلُونَ)} ،قرأ نافع وابن عامر وحفص: بفتح التاء؛ أي أذن للمؤمنين الذين يقاتلهم المشركون، وقرأ الباقون بكسرها، يعني أذن لهم في الجهاد يقاتلون المشركين
(4)
.
قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ؛} أوّل آية بدل من {(الَّذِينَ يُقاتِلُونَ)} أي أخرجهم أهل مكة من منازلهم بغير جرم منهم.
(1)
معاني القرآن: ج 3 ص 349.
(2)
(بين) سقطت من المخطوط.
(3)
ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 869.
(4)
ينظر: جامع البيان: ج 10 ص 225.
قوله تعالى: {(إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ)} معناه: لم يخرجوهم إلاّ بأن كانوا يوحّدون الله تعالى فأخرجوهم لتوحيدهم، المعنى: لم يخرجوهم من ديارهم إلاّ لقولهم ربّنا الله، فيكون {(أَنْ)} في موضع الخفض ردا على الباء في قوله {(بِغَيْرِ حَقٍّ)} ، ويجوز أن تكون {(أَنْ)} في موضع نصب على الاستثناء.
قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ؛} أي لولا أن يدفع الله الناس بعضهم ببعض لهدم في زمن كلّ شيء ما بني للصلاة والعبادة نحو الصّوامع، {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً} .
قال مجاهد والضحّاك: (يعني صوامع الرّهبان)
(1)
،وقال قتادة:(الصّوامع للصّابئين؛ وهي متعبّداتهم، والبيع جمع بيعة؛ وهي متعبّد النّصارى، والصّلوات هي كنائس اليهود، وكان اليهود يسمّونها بالعبرانيّة صلواتا، والمساجد الّتي يصلّي فيها المسلمون)
(2)
.
والمعنى: لولا كفّ الله الناس بعضهم ببعض بالجهاد، وكفّ الظّلم لحرب في كلّ شريعة، كلّ بنى المكان الذي يصلّى فيه، فكان لولا الدفع لهدم في زمن موسى عليه السلام الكنائس، وفي زمن عيسى عليه السلام الصّوامع والبيع، وفي زمن محمّد صلى الله عليه وسلم المساجد.
وعن مجاهد أنه قال: (البيع لليهود يسمّونها صلوات)،وقال أبو العالية:(هي مساجد للصّابئين).فعلى هذا يكون المعنى: لهدّمت صوامع الصلوات. ويقال: أراد بالصّلوات الصلوات المعهودة التي للمسلمين، وهدمها إبطالها وإهلاك من يفعلها.
والأولى أن يستدلّ بهذه الآية على أنّ هذه المواضع المذكورة التي يجري فيها اسم الله تعالى لا يجوز أن تهدم في شريعة نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم على كلّ من كان له ذمّة، أو جهاد من الكفّار، فأما في ديار الحرب فيجوز للمسلمين هدمها إذا فتحت دارهم عنوة، ولم يقرّوا عليها بالجزية، كما يجوز هدم سائر دورهم.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (19111).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (19114 و 19116 و 19122 و 19128).
قوله تعالى: {(لَهُدِّمَتْ)} الهدم هو نقض البناء. قرأ أهل الحجاز {(لَهُدِّمَتْ)} بالتخفيف. فإن قيل: لم قدّم مصلّيات الكافرين على مساجد المؤمنين؟ قيل: لأنّها أقدم، وقيل: لقربها من الهدم، وقرب المساجد من الذّكر، كما خرّج السّابق في قوله تعالى:{فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ} إلى قوله تعالى: {بِالْخَيْراتِ}
(1)
.
قوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ؛} أي لينصرنّ الله تعالى من ينصر دينه، {إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (40)؛أي لقويّ على أخذ الأعداء، عزيز أي ممتنع بالنعمة منهم.
قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ؛} نعت للذين ينصرون بدين الله؛ أي هم الذين إن مكّنهم الله في الأرض ينصرهم الله في عدوّهم حتى يمكّنوا في البلاد، لم يعملوا ما عمله الذين من قبلهم، ولكن أقاموا الصلاة المكتوبة، {وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ،} وأعطوا الزكاة المفروضة، وأمروا بالحقّ ونهوا عن الباطل. قال مقاتل: (هم أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم
(2)
،وقال الحسن:(هم هذه الأمّة أهل الصّلوات الخمس).وقوله تعالى:
{وَلِلّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ} (41)؛بطل كلّ ملك سوى ملكه، فتصير الأمور كلها إليه بلا منازع ولا مدّع.
قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ؛} في هذه الآية تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والمعنى: إن يكذّبوك-قومك-فقد كذبت الأمم أنبياءهم من قبلك، وقوله:{وَكُذِّبَ مُوسى؛} أي كذبه فرعون، {فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ؛} أي أمهلتهم، وأخّرت عقوبتهم، {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ؛} بالعقوبة، {فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ} (44)؛أي فكيف كان إنكاري عليهم حتى بيدوا أو خرّبت قراهم، فأبدلتهم بالنعمة نقمة؛ وبالكثرة قلّة؛ وبالحياة هلاكا. قال الزجّاج:(معناه: فأنكرت أبلغ الإنكار).
(1)
فاطر 32/.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير: ص 2498: النص (13977) عن أبي العالية.
قوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ؛} أي كم من قرية أهلكناها بالعذاب بكفرهم. وقرى أهلكناها، والاختيار أهلكتها بالتاء لقوله {(فَأَمْلَيْتُ)} ،قوله:{فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها؛} أي ساقطة على سقوفها، وذلك أن السّقف يقع قبل الحيطان، ثم تقع الحيطان عليه، قوله تعالى:{وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ؛} أي كم بئر عطلها أربابها وكم من {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} (45)؛ عطّله أهله. والمشيد هو المجصّص، والشّيد الجصّ والنّورة، ويجوز أن يكون معنى المشيد الرفيع، يقال: شاد البناء وأشاده إذا اطلاه بالشّيد.
قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها؛} أي أفلم يسر قومك يا محمّد في أرض اليمن والشّام؛ لينظروا آثار المهلكين، فيعقلوا بقلوبهم ما نزل بمن كذب من قبلهم، ويسمعوا بآذانهم خبر الأمم المكذّبة. قوله تعالى:{(فَتَكُونَ لَهُمْ)} نصب على جواب الجحد.
قوله تعالى: {فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ؛} الهاء في قوله {(فَإِنَّها)} عماد، وهو إضمار على شريطة التفسير، والمعنى: فإنّ الأبصار لا تعمى؛ أي يرون بأبصارهم، {وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (46)؛قلوبهم بذهابها عن إدراك الحقّ بما يؤدّي إليه الدليل.
وفي الآية دليل أنّ العقل في القلب بخلاف ما قاله الفلاسفة والأطباء: أن محلّ العقل الرأس الدماغ؛ لأن العقل لو لم يكن في القلب لم يوصف القلب بأن يعمى، كما لا توصف بذلك اليد والرّجل، وأما وصف القلوب بأنّها في الصّدور فعلى وجه التأكيد، كما في قوله تعالى {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ}
(1)
،وقوله تعالى {وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ}
(2)
.
قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ؛} أي ويستعجلونك يا محمّد بالعذاب، كما قالوا:{فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ}
(3)
،
(1)
آل عمران 167/.
(2)
الأنعام 38/.
(3)
الشعراء 187/.
وقالوا {فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ}
(1)
،ولن يخلف الله وعده في إنزال العذاب بهم في الدّنيا. قال ابن عبّاس:(يعني يوم بدر).
قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ} (47)؛ معناه: إنّهم يستعجلون بالعذاب، وإنّ يوما من أيّام عذابهم في الآخرة ألف سنة، فكيف يستعجلونه؟! قال الفرّاء في هذه الآية:(وعيد لهم بالعذاب في الدّنيا والآخرة)
(2)
.
وقيل: معناه: وإنّ يوما عند الله وألف سنة في قدرته لواحد، فليس تأخّر العذاب عنهم إلاّ تفضّلا من الله عليهم. قال الزجّاج:(أعلم الله أنّه لا يفوته شيء، وإنّ يوما عنده وألف سنة سواء، ولا فرق بين إيقاع ما يستعجلونه من العذاب في تأخيره في القدرة، إلاّ أنّ الله تفضّل بالإمهال، فسواء عنده في الإمهال يوم وألف سنة؛ لأنّه قادر عليهم متى شاء أخذهم)،قال الكوفيّون وابن كثير:«(ممّا يعدّون)» بالياء، وقرأ الباقون بالتاء
(3)
.
قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} (48)؛ظاهر المعنى.
قوله تعالى: {قُلْ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} (49)؛أي قل لهم يا محمّد: يا أهل مكّة إنّما أنا لكم رسول مخوّف بالنار لمن عصى الله بلغة يعرفونها،
{فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ؛} لدينهم، {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (50)؛حسن في الجنّة.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ؛} أي والذين أسرعوا في تكذيب آياتنا، وإبطال الدين مبالغين لله ظانّين أن يعودنا ويفوتنا بقولهم أن لا جنة ولا نار ولا بعث ولا نشور، {أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ} (51)؛قال قتادة:
(1)
الأنفال 32/.
(2)
في معاني القرآن: ج 2 ص 229.
(3)
ينظر: الحجة للقراء السبعة: ج 2 ص 174.
(ظنّوا بجهلهم أنّهم يعجزون الله فلا يقدر عليهم، وهيهات)
(1)
.وهذا كقوله {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا}
(2)
،ومن قرأ «(معجزين)» فمعناه: أنّهم كانوا يعجزون مع من اتبع النبيّ صلى الله عليه وسلم أي ينسبونهم إلى العجز.
وقوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ؛} قال ابن عبّاس وابن جبير والضحّاك: (وذلك أنّ الشيطان أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل وهو قائم يصلّي عند الكعبة يقرأ سورة (والنجم) حتّى اذا انتهى إلى قوله تعالى {أَفَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَالْعُزّى، وَمَناةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرى}
(3)
ألقى الشيطان على لسانه (تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى)،فلما سمع المشركون أعجبهم ذلك، فلما انتهى إلى آخر السورة سجد، وسجد معه المسلمون والمشركون إلاّ الوليد بن المغيرة، فإنه لم يقدر على السّجود لكبره، فقال: ائتوني بالتّراب، فأتوه بالتراب فوضعه على كفّه، ثم سجد على كفّه، فلما نزل جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر له ذلك، فقال جبريل: ما جئتك بهذه ولا أنزله الله تعالى، فقال: أتاني شيء في مثل صورتك فألقاه عليّ)
(4)
.
وهذا حديث أنكر أهل العلم إجراءه على ظاهره، وقالوا: كيف يجوز أن يجعل الله للشيطان على رسوله هذا السلطان، أو يختار لرسالته من لا يميّز بين وحي الله ووساوس الشّيطان؟! ومن المعلوم أن من نسب النبيّ صلى الله عليه وسلم به إلى ما يرجع إلى تعظيم الأصنام فقد كفر، إلاّ أنه يحتمل أن يكون الشيطان ألقى في تلاوة النبيّ صلى الله عليه وسلم ما لم يقله، وخيّل إلى من سمع تلاوته من الذين كانوا بالبعد منه أنه جرى على لسانه، وإنّما هو من لسان الشيطان، وكان ذلك فتنة للتابعين، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم معصوما من أن يجري
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (19153).وابن أبي حاتم في التفسير: ج 8 ص 2500.
(2)
العنكبوت 4/.
(3)
النجم 19/ و 20.
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الآثار (19158 و 19159 و 19160).
على لسانه ما لم ينزّله الله. وقد يذكر التّمنّي ويراد به القراءة كما قال الشاعر
(1)
:
تمنّى كتاب الله أوّل ليله
…
وآخره لاقي حمام المقادر
وقال جماعة من المفسّرين: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على إيمان قومه، وتمنّى في نفسه من الله أن يأتيه ما يقارب بينه وبين قومه، فجلس ذات مرّة بهم في مجلس كثير أهله، وأحبّ يومئذ أن يأتيه من الله شيء فقرأ عليهم سورة النّجم، فلما بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَالْعُزّى، وَمَناةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرى} ألقى الشيطان على لسانه (تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهم ترتجى) فلما سمعت قريش ذلك فرحوا وقالوا: قد ذكر محمّد آلهتنا بأحسن الذكر، ومضى النبيّ صلى الله عليه وسلم في قراءته، فلما ختم السورة سجد في آخرها وسجد معه المسلمون والمشركون إلاّ الوليد بن المغيرة وسعيد بن العاص فإنّهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتهما وسجدا عليها؛ لأنّهما كانا شيخين كبيرين لم يستطيعا أن يسجدا.
وتفرّقت قريش وقد سرّهم ما سمعوا
(2)
وقالوا: قد عرفنا أن آلهتنا تشفع لنا، فنزل جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له: يا محمّد لقد تلوت قومك ما لم آتك به عن الله عز وجل، فاشتدّ ذلك على النبيّ صلى الله عليه وسلم وحزن حزنا شديدا وخاف من الله خوفا كثيرا، فأنزل الله هذه الآية تطيّب نفس محمّد صلى الله عليه وسلم وتخبره
(3)
بأن الأنبياء قبله كانوا مثله، ولم يبعث نبيا إلاّ تمنّى أن يؤمن قومه، ولم يتمنّ ذلك نبيّ إلاّ ألقى الشيطان عليه ما يرضي قومه. فلما نزلت هذه الآية قالت قريش: ندم محمّد على ما ذكره من منزلة آلهتنا عند الله فغيّر ذلك وجاء بغيره
(4)
.
(1)
البيت لحسان بن ثابت رضي الله عنه يرثي عثمان بن عفان رضي الله عنه وأول ليلة أو أول ليله، أي قرأ القرآن كله أول الليل. وسيأتي بلفظ آخر قريبا.
(2)
في المخطوط: (فأسمعوا) وهو غير مناسب.
(3)
في المخطوط: (ويخبره).
(4)
روايات من حديث محمّد بن كعب القرظي، أخرجه الطبري في جامع البيان: الرقم (19155 - 19156).
وقال عطاء عن ابن عبّاس: (إنّ شيطانا يقال له الأبيض أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فألقى في قرآنه: إنّها الغرانيق العلى وأن شفاعتها لتترجى، ولم يقلها النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل سمعه القوم من الشيطان، وكلّ ذلك فتنة من الله تعالى لعباده المسلمين والمشركين، فالمشركون ازدادوا كفرا بذلك، والمسلمون اشتدّ عليهم الأمر).
ومعنى الآية: وما أرسلنا من قبلك من رسول وهو الذي يأتيه جبريل بالوحي عيانا وشفاها، ولا نبيّ وهو الذي تكون نبوّته إلهاما أو مناما، فكلّ رسول نبيّ، وليس كلّ نبيّ مرسل. قوله تعالى:{(إِلاّ إِذا تَمَنّى)} أي أحبّ شيئا واشتهاه وحدّث نفسه من غير أن يؤمر به (ألقى الشّيطان في أمنيته) أي في قراءته وتلاوته، ونظيره قوله تعالى:
{لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاّ أَمانِيَّ}
(1)
أي قراءة تقرأ عليهم. قال الشاعر في عثمان رضي الله عنه:
تمنّى كتاب الله أوّل ليلة
…
وآخرها لاقى حمام المقادر
وقال الحسن: (أراد بالغرانيق الملائكة) يعني أن شفاعتهم ترتجى منهم لا من الأصنام. قوله تعالى: {(فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ)} أي يبطله ويزيله ثم يحكم الله آياته فيثبتها، {وَاللهُ عَلِيمٌ؛} بمصالح عباده، {حَكِيمٌ} (52)؛في تدبيره.
قوله تعالى: {لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ؛} أي ليجعل ما يلقي الشيطان في قراءته فتنة للذين في قلوبهم شكّ ونفاق؛ لأنّهم افتتنوا بما سمعوا فازدادوا عتوّا، وظنّوا أن محمّدا صلى الله عليه وسلم يقول الشيء من عند نفسه فيبطله.
قوله تعالى: {وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ؛} يعني المشركين كذلك ازدادوا فتنة وضلالة وتكذيبا، سمّاهم قاسية قلوبهم؛ لأنّها لا تلين لتوحيد الله، وقوله تعالى:
{وَإِنَّ الظّالِمِينَ؛} يعني أهل مكّة، {لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ} (53)؛أي مشاقّة بعيدة عن الحقّ.
قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ؛} معناه:
وليعلم المؤمنون رجوعك إلى الصواب، إنّ ذلك حقّ من ربك فتخضع وتذلّ له قلوبهم. وقيل: معناه: وليعلم الّذين أوتوا العلم التوحيد والقرآن.
(1)
البقرة 78/
قال السديّ: (التّصديق أنّه الحقّ) أي إنّ نسخ ذلك وإبطاله حقّ من الله، {فَيُؤْمِنُوا بِهِ؛} وتصديق النّسخ، {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ؛} أي ترقّ قلوبهم للقرآن فينقادوا لأحكامه، بخلاف المشركين الذين قيل: لهم (والقاسية قلوبهم).
قوله تعالى: {وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} (54)؛ فيه بيان أن هذا الإيمان والإخبات إنّما هو بلطف الله وهدايته إياهم، والمعنى: وإنّ الله لهاديهم إلى دين يرضاه.
قوله تعالى: {وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ؛} أي في شكّ من القرآن، {حَتّى تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً؛} يعني ساعة موتهم، {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} (55)؛يعني يوم بدر في قول ابن عباس وقتادة ومجاهد
(1)
،سمّاه الله العقيم الذي لا يأتي بخير. وقيل: يوم القيامة سمّاه الله عقيما لأنه لا مثال له في عظم أمره.
قوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ؛} أي الملك يوم القيامة لله تعالى من غير منازع ولا مدّع، لا يظهر الأمر فيه إلاّ لله تعالى، {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ} (57)؛فيقضي فيه بين المؤمنين والكافرين بإدخال المؤمنين الجنّة، وإدخال الكافرين النار.
قوله: {وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً؛} معناه: والذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوطانهم في طاعة الله من مكّة إلى المدينة، ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنّهم الله رزقا حسنا وهو نعيم الجنة، {وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ} (58).
قوله تعالى: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ؛} يعني به المنازل التي أعدّها الله لهم في الجنّة، لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، خالدين فيها لا يبغون
(1)
ينظر: جامع البيان: ج 10 ص 253.
عنها حولا، قوله تعالى:{وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ؛} أي عليم بمصالح عباده ونيّاتهم، {حَلِيمٌ} (59) لا يعجّل بعقوبة أعدائه.
قوله تعالى: {ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ؛} الآية؛ أي ذلك الأمر الذي قصصنا عليك، ثم قال {(وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ)} ، {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ؛} نزلت هذه الآية في قوم من المشركين لقوا جماعة من المسلمين فقاتلوهم في الشّهر الحرام، فنهاهم المسلمون عن ذلك فأبوا، فلما أبوا قاتلهم المسلمون فنصروا؛ أي ومن عاقب بالقتال بمثل ما عوقب به؛ أي بالقتال في الشهر الحرام ثم بغي على الدافع لينصرنّه الله على من بغى عليه، {إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ؛} أي متجاوز عن من فات {غَفُورٌ} (60)؛لمن مات على التوبة.
قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ؛} أي ذلك النصر بأنه القادر على ما يشاء، فمن قدرته أنه يولج الليل في النهار، {وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (61)؛أي سميع لمن دعاه بصير بعباده.
قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ؛} أي ذلك الذي نقلته من نصرة المؤمنين بأنّ الله ذو الحقّ في فعله وقدرته، {وَأَنَّ ما يَدْعُونَ؛} المشركون؛ {مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ؛} ليس فيه نفع ولا ضرر، {وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ؛} على كلّ شيء بقدرته، {الْكَبِيرُ} (62)؛الذي يصغر كلّ شيء سواه.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً؛} أي ألم تعلم وتشاهد أنّ الله أنزل من السّماء ماء؛ يعني المطر، فتصبح الأرض ذات خضرة بالنبات، {إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ؛} بأرزاق عباده واستخراج النبات من الأرض، {خَبِيرٌ} (63)؛بما في قلوب العباد وبما يصلح لهم.
قوله تعالى: {لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ؛} عبدا وملكا، {وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ؛} عن عباده، {الْحَمِيدُ} (64)؛إلى أوليائه وأهل طاعته، وقيل: الغنيّ عن إيمان الخلق وطاعتهم، المحمود في أفعاله.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ؛} أي ألم تعلم أنّ الله ذلّل لكم ما في الأرض؛ يعني البهائم التي تركب، وسخّر لكم {وَالْفُلْكَ؛} أي السّفن؛ {تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} .
قوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاّ بِإِذْنِهِ؛} أي حبس عنكم السّماء حتى لا تقع عليكم فتهلكوا. قوله تعالى: {(إِلاّ بِإِذْنِهِ)} أي إلاّ بإرادته، {إِنَّ اللهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} (65)؛أي متفضّل على عباده، منعم عليهم.
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ؛} أي أحياكم في أرحام أمّهاتكم، ولم تكونوا شيئا. وقيل: معناه: أحياكم بعد أن كنتم نطفة ميتة، ثم يميتكم بعد انقضاء آجالكم، ثم يحييكم بعد الموت عند البعث للحساب، {إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ} (66)؛يعني المشرك الجحود لنعم الله حتى ترك توحيده بعد ظهور الآيات الداعية إلى الحقّ.
قوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ؛} أي لكلّ أهل دين جعلنا شريعة هم عاملون بها، وقيل: موضعا تعتادونه لعبادة الله، ومكانا تعيشونه وتعملون الخير فيه. وقيل: معناه: لكلّ أمّة جعلنا عبرا. وقال قتادة: (موضع قربان يذبحون فيه)،وقيل: المنسك جميع العبادات التي أمر الله بها، كما قال صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى:[إنّ أوّل نسك في يومنا هذا الصّلاة ثمّ الذبح]
(1)
.وقيل: أراد بالمنسك في هذه الآية المذبح الذي يتقرّبون فيه بذبائحهم إلى الله تعالى، كما جعل مكانا منحرا للإنسان؛ لأن النّسك إذا أطلق أريد به الذبح من جهة القربة، كما قال {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}
(2)
.
قوله تعالى: {فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ؛} معناه: النّهي عن المنازعة بعد ظهور ما يوجب نسخ الشرائع المتقدّمة، كما يقال: لا يخاصمك فلان في هذا الأمر.
وقيل: معناه: لا ينازعنّك في أمر الذبح، وذلك أن كفار قريش خاصموا رسول الله
(1)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده: ج 4 ص 282.والبيهقي في السنن الكبرى: ج 5 ص 98.
(2)
البقرة 196/.
صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في أمر الذبيحة؛ وقالوا: ما لكم تأكلون ما قتلتم بأيديكم، ولا تأكلون ما قتله الله؟
قوله تعالى: {وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} (67)؛أي أدع إلى دين ربك وطاعته إنّك على هدى مستقيم، وقيل: على دلالة ودين مستقيم.
{وَإِنْ جادَلُوكَ؛} على سبيل المراء والتّعنّت كما يفعله السفهاء، {فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ} (68)؛أي ادفعهم بهذا القول، ولا تجادل إلاّ لتبيين الحقّ، والمعنى: وإن خاصموك في أمر الذبيحة فقل الله أعلم بما تعملون من التكذيب فهو يجازيكم به، وهذا قبل الأمر بالقتال.
وقوله تعالى: {اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ؛} أي يقضي بينكم يوم القيامة، {فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (69) من الدّين والذبيحة.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ؛} أي قد علمت وأيقنت ذلك، وهذا استفهام يراد به التقرير، وقيل: معناه: ألم تعلم يا محمّد أنّ الله يعلم أعمال أهل السّماء والأرض وأسرارهم؟ {إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ؛} يعني ما يجري في السّماء والأرض، كلّ ذلك مكتوب في اللّوح المحفوظ، {إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} (70)؛أي أنّ علم الله بجميع ذلك عليه يسير سهل.
قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ؛} معناه: ويعبدون من دونه الأصنام ما لم ينزّل به كتابا ولا حجّة، وما ليس لهم به علم أنّها آلهة، {وَما لِلظّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} (71)؛أي وما للمشركين من مانع يمنع عذابا عنهم، نزلت هذه الآية في أهل مكّة.
قوله تعالى: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ؛} أي وإذا يقرأ عليهم القرآن تعرف في وجوههم الإنكار للقرآن من الكراهة والعبوس، {يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا؛} أي يكادون يسطون بالمؤمنين ليردّوهم. وقيل: معناه: يكادون يقعون بمحمّد صلى الله عليه وسلم من شدّة الغيظ. وقيل: يكادون يسطون إلى المؤمنين أيديهم بالسّوء. يقال:
سطا فلان على فلان إذا تناوله بالسّطو والعنف، وأخذه بالشدّة والإخافة.
قوله تعالى: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ؛} أي قل يا محمّد أفأخبركم بشرّ عليكم من غيظكم على التالي لآيات الله وهو {النّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا؛} يصيرون إليها، {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (72)؛وقيل: إنّ الكفار قالوا:
والله ما رأينا قوما أقلّ حظّا منكم يا أصحاب محمّد، قال الله تعالى: قل يا محمّد:
أفأخبركم بشرّ من ذلكم؛ أي بشرّ مما قلتم: النار من دخلها فحاله شرّ من حالنا.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ؛} معناه: يا أهل مكّة بيّن مثل آلهتكم فاستمعوا له: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ؛} من الأصنام، {لَنْ يَخْلُقُوا؛} أي لن يقدروا أن يخلقوا، {ذُباباً؛} مع صغره وقلّته، {وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ؛} العابد والمعبود على ذلك، وكان لهم ثلاثمائة وستّون صنما حول الكعبة.
قوله تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ؛} قال ابن عبّاس: (كانوا يطلون أصنامهم بالزّعفران والعسل، فيأتي الذّباب فيحمله فلا يقدرون أن يستردّوه من الذّباب)
(1)
.وقال السديّ: (كانوا يجعلون للأصنام طعاما، فيقع عليه الذّباب فيأكل منه فلا يستطيعون إنقاذه منه)
(2)
ف {ضَعُفَ الطّالِبُ؛} من الأصنام، {وَالْمَطْلُوبُ} (73)؛هو الذباب. وقال الضحّاك:(معناه ضعف العابد والمعبود)
(3)
.وقيل: معناه: ضعف الذّباب الطالب لما يأخذه من الصّنم، وضعف المطلوب يعني الصّنم. وقيل: ضعف الطالب من هذا الصنم المتقرّب إليه، والصنم المطلوب منه ذلك.
وقيل: إن المشركين كانوا خرجوا في عيد لهم بأصنامهم، وقد زيّنوها باليواقيت واللآلئ وأنواع الجواهر، وطيّبوها بأنواع الطّيب وغشّوها بالحليّ والحلل، فجاء ذباب فأخذ شطبة من تلك الزّينة-أي قطعة-فطار بها في الهواء، فأراهم الله تعالى العبرة في ضعفهم وضعف معبودهم، فلا أحد مما لا يمكنه الاستنقاذ من الضعيف.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير: ج 8 ص 2505.
(2)
ينظر: معالم التنزيل للبغوي: ص 875.
(3)
ينظر: معالم التنزيل للبغوي: ص 875.
قوله تعالى: {ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ؛} أي ما عرفوه حقّ معرفته، ولا عظّموه حقّ تعظيمه حيث عدلوا به من لا يقدر أن يخلق ذبابا، أو يستنقذ من ذباب ما ذهب به منه، {إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (74)؛أي قويّ على خلقه، عزيز في ملكه، لا يقدر أحد على مغالبته.
قوله تعالى: {اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً؛} معناه: الله يختار من الملائكة رسلا يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، {وَمِنَ النّاسِ} يعني من النبيّين. أخبر الله عز وجل أنّ الاختيار إليه، ويختار من يشاء ممن خلقه، فيجعلهم رسله وأنبياءه يبعثهم إلى خلقه، فأطيعوهم واحذروا معصيتهم، {إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ؛} بمقالتكم، {بَصِيرٌ} (75)؛بأعمالكم وضمائركم.
قوله تعالى: {يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ؛} أي يعلم ما بين أيدي الملائكة ورسله قبل أن يخلقهم، {(وَما خَلْفَهُمْ)} أي ما يكون بعد فنائهم {وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} (76)؛عواقب الأمور.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا؛} أي صلّوا، قوله تعالى:{وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ؛} أي بجميع العبادات، {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ؛} من أنواع البرّ مثل صلة الرّحم، وبرّ الوالدين، ومكارم الأخلاق، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (77)؛روي أنّهم كانوا في أوّل الإسلام يسجدون بغير ركوع، حتى نزلت هذه الآية.
قوله تعالى: {وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ؛} أي جاهدوا المشركين بحسب الطّاقة واستفراغها، ولا تخافوا في الله لومة لائم، وقال بعض المفسّرين: معناه:
اعبدوا الله حقّ عبادته وأطيعوه حقّ طاعته. قال السديّ: (هو أن يطاع فلا يعصى)
(1)
وقال مقاتل: (نسختها آية التّغابن {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}
(2)
)،وقيل: هو مجاهدة النّفس والهوى، وذلك حقّ الجهاد وهو الجهاد الأكبر.
(1)
أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير: ج 8 ص 2506.
(2)
الآية 16/.
وقال بعضهم: هو حقّ الجهاد
(1)
؛لما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال حين رجع من بعض غزواته: [رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر]
(2)
.وقال بعضهم: في حقّ الجهاد أنه [كلمة عدل عند سلطان جائر]
(3)
.وقال الحسن: (هو أن تؤدّي جميع ما أمرك الله به، وتجتنب جميع ما نهاك الله عنه، وتترك رغبة الدّنيا).وقال الضحّاك:
(معناه: جاهدوا بالسّيف من كفر بالله، وإن كانوا الآباء والأبناء).
قوله تعالى: {هُوَ اجْتَباكُمْ؛} أي اختاركم لدينه وجهاد أعدائه، والاجتباء: هو اختيار الشّيء بما فيه من الصّلاح، يقال: الحقّ يجتبى، والباطل يتّقى.
قوله تعالى: {وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ؛} أي ما جعل عليكم في شرائع دينكم من ضيق، وذلك أنه ما يتخلّص منه بالتوبة، وما يتخلّص منه بردّ المظلمة، ويتخلص منه بالقصاص، وليس في دين الإسلام ما لا سبيل إلى الخلاص من العقاب به، بل من أذنب ذنبا جعل الله له مخرجا منه بالتوبة والكفّارات، ولم يبق في ضيق ذلك الذنب. وقال مجاهد:(يعني الرّخص عند الضّرورات كالقصر؛ والتّيمّم؛ وأكل الميتة؛ والإفطار عند المرض والسّفر).
قوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ؛} أي الزموا واتّبعوا ملّته، وقيل:
معناه: وسّع عليكم في الدّين كملّة أبيكم إبراهيم، إلاّ أنه لمّا حذف حرف الجرّ نصب الملّة، وإنّما أمر باتّباع ملّة إبراهيم؛ لأنّها داخلة في ملّة نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم.
وإنّما قال: {(أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ)} وإن لم يكن جميعهم من نسبه؛ لأن حرمة إبراهيم عليه السلام على المسلمين كحرمة الوالد على الولد، وحقّه كحقّ الوالد، كما قال تعالى:
{وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ}
(4)
.
(1)
في جامع البيان: تفسير الآية: مج 10 ج 17 ص 268؛قال الطبري: (وحق الجهاد: هو استفراغ الطاقة فيه).
(2)
ذكره البغوي أيضا في معالم التنزيل: ص 876.
(3)
أخرجه أبو داود في السنن: كتاب الملاحم: باب الأمر والنهي: الحديث (4344).والترمذي في الجامع: أبواب الفتن: الحديث (2174).
(4)
الأحزاب 6/.
قوله تعالى: {هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ؛} نزول القرآن، {وَفِي هذا؛} القرآن، كما روي أنّ الله تعالى أوحى إلى إبراهيم: يبعث بعدك نبيّ فيكون قومه مسلمين. وقيل: معناه: إن إبراهيم سمّاكم المسلمين، كما قال في دعائه {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}
(1)
.
قوله تعالى: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ؛} أي ليكون محمّد صلى الله عليه وسلم شهيدا عليكم يوم القيامة بطاعة من أطاع في تبليغه، وعصيان من عصى، {وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ؛} أنّ الرّسل بلّغتهم.
قوله تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ؛} أي أدّوهما كما وجبتا.
قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ؛} أي واعتصموا بدين الله وتمسّكوا به. وقيل:
معناه: اتّقوا بالله وتوكّلوا عليه، {هُوَ مَوْلاكُمْ؛} أي هو ربّكم وحافظكم، {فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (78)؛أي فنعم الحافظ لكم، ونعم الناصر.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [من قرأ سورة الحجّ؛ أعطي من أجر حجّة وعمرة اعتمرها بعدد من حجّ واعتمر فيما مضى وفيما يبقى]
(2)
.
آخر تفسير سورة (الحج) والحمد لله رب العالمين
(1)
البقرة 128/.
(2)
ذكره الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 169.