المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة طه سورة طه مكّيّة، وهي خمسة آلاف ومائتان واثنان وأربعون - تفسير الحداد المطبوع خطأ باسم التفسير الكبير للطبراني - جـ ٤

[أبو بكر الحداد]

الفصل: ‌ ‌سورة طه سورة طه مكّيّة، وهي خمسة آلاف ومائتان واثنان وأربعون

‌سورة طه

سورة طه مكّيّة، وهي خمسة آلاف ومائتان واثنان وأربعون حرفا، وألف وثلاثمائة وإحدى وأربعون كلمة، ومائة وخمس وثلاثون آية.

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}

{طه} (1)؛قرأ أبو عمرو وورش بفتح الطّاء وكسر الهاء، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بكسر الطّاء والهاء، وقرأ الباقون بالتفخيم فيهما. واختلفوا في معناه، فقال أكثر المفسّرين: إنّ معناه: يا رجل؛ يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو قول ابن عبّاس والحسن وعكرمة وابن جبير والضحّاك وقتادة ومجاهد

(1)

،إلاّ أن عكرمة قال:(هو بلسان الحبشة)

(2)

،وقال قتادة: (إنّما يقول هذه اللّغة أهل السّريانيّة

(3)

).

وروى السّدّيّ عن أبي ملك معنى قوله طه: (يا فلان)،قال الكلبيّ:(بلغة عكّ: يا رجل)

(4)

،قال ابن الأنباريّ: (ولغة قريش وافقت تلك اللّغة أيضا في هذا

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الآثار (18076 - 18082).والسيوطي في الدر المنثور: ج 5 ص 550.

(2)

في الدر المنثور: ج 5 ص 550؛ قال السيوطي: (أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة

وذكره).

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (18081).

(4)

أخرجه الطبري في جامع البيان: مج 9 ج 16 ص 171؛ قال: (معناه: يا رجل؛ لأنها كلمة معروفة في عكّ فيما بلغني، وأن معناها فيهم: يا رجل).وفي الجامع لأحكام القرآن: ج 11 ص 165 نقله القرطبي عن الكلبي قال: (لو قلت في عكّ لرجل يا رجل لم يجب حتى تقول: طه).

ص: 229

المعنى؛ لأنّ الله تعالى لم يخاطب نبيّه إلاّ بلسان قريش. قال الشّاعر

(1)

:

إنّ السّفاهة طه فى خلائقكم

لا قدّس الله أرواح الملاعين

يريد: يا رجل، وقال آخر:

هتفت بطه في القتال فلم يجب

فخفت عليه أن يكون موائلا

(2)

وقرئ «(طه)» بتسكين الهاء، وله معان؛ أحدها: أن تكون الهاء بدلا من همزة الطّاء كقولهم في: أرقت هرقت. والآخران: أن يكون على ترك الهمزة طا يا رجل بقدمك الأرض، ثم يدخل الهاء للوقف، فإنه روي: [أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في صلاة اللّيل بمكّة حتّى تورّمت قدماه، فكان إذا صلّى رفع رجلا ووضع أخرى، فأنزل الله تعالى {(طه)} أي طأ الأرض بقدمك

(3)

.

وقال بعضهم: أول السّورة قسم؛ أقسم الله بطوله وهدايته. وقال بعضهم:

الطاء من الطّهارة، والهاء من الهداية، كأنه تعالى قال لنبيّه صلى الله عليه وسلم: يا طاهرا من الذّنوب، ويا هاديا إلى علاّم الغيوب.

قوله تعالى: {ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى} (2)؛أي لتجهد نفسك وتتعب، وذلك أنه لمّا نزل عليه الوحي اجتهد في العبادة، حتى أنه كان يصلّي على إحدى رجليه لشدّة قيامه وطوله، فأمره الله أن يخفّف على نفسه، وذكر له أنه ما أنزل عليه القرآن ليتعب ذلك التعب، ولم ينزله،

{إِلاّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى} (3)؛قال مجاهد: (نزلت هذه الآية لسبب ما كان يلقى النّبيّ صلى الله عليه وسلم من التّعب والسّهر من قيام اللّيل).

(1)

قاله يزيد بن المهلهل.

(2)

نسبه الطبري في جامع البيان: ج 9 ص 171 لمتمم بن نويرة.

(3)

في الدر المنثور: ج 5 ص 550؛ قال السيوطي: (أخرجه ابن المنذر وعبد بن حميد عن الربيع بن أنس).وأخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 4 ص 251.وابن ماجة في السنن: كتاب الصلاة: باب ما جاء في طول القيام: الحديث (1419).

ص: 230

وقال الحسن: (هذا جواب للمشركين، وذلك أنّ أبا جهل والنّضر بن الحارث قالا للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: وإنّك لتشقى، لما رأوا من طول عبادته وشدّة اجتهاده، فقال صلى الله عليه وسلم:

[بعثت رحمة للعالمين] قالوا: بل أنت شقيّ، فأنزل الله هذه الآية {(ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى)} ولكن لتسعد وتنال الكرامة به في الدّنيا والآخرة).

والشّقاء في اللغة: احمرار ما شقّ على النفس من التعب.

قوله تعالى: {تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى} (4)؛نصب على المصدر؛ أي نزّلناه تنزيلا.

والعلى: جمع العلياء.

قوله تعالى: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى} (5)؛وقد تقدّم تفسيره.

قوله تعالى: {لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى} (6)؛أي له ما له في السّماوات وما في الأرض، وما بينهما من الخلق، معناه: أنه مالك كلّ شيء ومدبره، وقوله تعالى:{(وَما بَيْنَهُما)} يعني الهواء.

قوله تعالى: {(وَما تَحْتَ الثَّرى)} أي وما تحت التّراب. والمفسّرون يقولون هو التراب النديّ الذي تحت الأرض السّفلى، وقيل: تحت الصخرة التي عليها الثور، ولا يعلم ما تحت الثّرى إلاّ الله.

قوله تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى} (7)؛معناه:

ما حاجتك إلى الجهر، فإن الله لا يحتاج إلى جهرك ليسمع، فإنه تعالى يعلم السّر وأخفى منه. قال ابن عبّاس:(السّرّ ما أسررت به في نفسك، وأخفى منه ما لم تحدّث به نفسك ممّا يكون في غد، علم الله فيهما سواء)

(1)

والتّقدير: وأخفى منه، إلاّ أنه حذف للعلم به.

وعن سعيد بن جبير قال: (السّرّ ما تسرّه في نفسك، وأخفى منه ما لم يكن وهو كائن، فالله تعالى يعلم ما خفي عن ابن آدم ممّا هو فاعله قبل أن يفعله)

(2)

.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (18092).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (18095 - 18096).

ص: 231

قوله تعالى: {اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى} (8)؛أي له الصفات العليا.

قوله تعالى: {وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى} (9)؛هذا استفهام تقرير بمعنى الخبر، يريد: قد أتاك حديث موسى،

{إِذْ رَأى ناراً؛} قال ابن عبّاس: (كان موسى عليه السلام رجلا غيورا لا يصحب الرّفقة؛ لئلاّ يرى أحد امرأته، فأخطأ الطّريق في ليلة مظلمة، فرأى نارا من بعيد). {فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا؛} أي قال لامرأته:

أقيموا مكانكم، {إِنِّي آنَسْتُ ناراً؛} أي رأيتها وأبصرتها، {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ؛} أي بشعلة، {أَوْ أَجِدُ عَلَى النّارِ هُدىً} (10)؛أي من يدلّني على الطريق. قال الفرّاء:(أراد هاديا، فذكر بلفظ المصدر)

(1)

.قال السديّ: (لأنّ النّار لا تخلوا من أهل لها وناس عندها).

كانت رؤيته للنار في ليلة الجمعة، وكان قد استأذن شعيبا عليه السلام في الرجوع إلى والدته فأذن له، فخرج بامرأته، فولدت في الطريق في ليلة باردة مثلجة، وقد حاد عن الطريق، فقدح فلم ير نور المقدحة شيئا، فبينما هو في مداولة ذلك إذ أبصر نارا عن يسار الطريق، فقال لامرأته: امكثوا-أي أقيموا مكانكم-إنّي أبصرت نارا، لعلّي آتيكم منها بقبس، أو أجد على النّار من يدلّني على الطريق.

قوله تعالى: {فَلَمّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى} (11)؛أي فلمّا أتى النار أي شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنّها نار بيضاء تتّقد، فسمع تسبيح الملائكة، ورأى نورا عظيما، فخاف وتعجّب، وألقيت عليه السكينة، ثم نودي يا موسى،

{إِنِّي أَنَا رَبُّكَ؛} وإنّما كرّر الكناية؛ لتوكيد الدلالة، وإزالة الشّبهة، وتحقيق المعرفة. قرئ «(إنّي أن ربّك)» بفتح الهمزة وكسرها، فمن فتح فعلى معنى بأنّي، ومن كسر فعلى معنى الابتداء.

قال وهب: (نودي من الشجرة، فقيل: يا موسى، فأجاب سريعا لا يدري من دعاه، فقال: إنّي أسمع صوتك فلا أرى مكانك، فأين أنت؟ قال: أنا فوقك ومعك

(1)

ينظر: معاني القرآن: ج 2 ص 175.

ص: 232

وأمامك وخلفك وأقرب إليك من نفسك، فعلم أن ذلك لا ينبغي إلاّ لربه عز وجل، فأيقن به)

(1)

.قوله تعالى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ؛} قال الحسن: (إنّما أمر بخلع نعليه لينال قدماه بركة الوادي المقدّس، ويباشر تراب الأرض المقدّسة بقدمه، فيناله بركتها) وقوله تعالى: {(الْمُقَدَّسِ)} أي المطهّر. قال عكرمة: (كانت نعلاه من جلد حمار ميت)

(2)

.

قوله تعالى: {إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} (12)؛المقدّس: هو المطهّر، وقيل: المبارك، ولا يستدلّ بما قاله عكرمة على أنّ جلود الميتة لا تطهر بالدّباغ؛ لأنه إن كان كذلك فهو منسوخ بقوله عليه السلام:[أيّما إهاب دبغ طهر]

(3)

.قوله تعالى: {(طُوىً)} هو اسم الوادي.

قوله تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى} (13)؛أي اخترتك للرسالة؛ لكي تقوم بأمري، فاستمع لما يوحى إليك، فاحفظه حتى تؤدّيه للناس. وقرأ حمزة:«(وإنّا اخترناك)» بالتشديد في «(إنّا)» على التعظيم.

قوله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي؛} ولا تعبد غيري ظاهر المعنى، {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} (14)؛أي لتذكرني بها بالتسبيح والتعظيم كذا قال مجاهد والحسن، وقيل: لأن أذكرك بالثناء والمدح، وقال مقاتل:

(معناه: إذا نسيت الصّلاة، فأقمها إذا ذكرتها)،قال صلى الله عليه وسلم:[من تأخّر عن صلاة أو نسيها؛ فليصلّها إذا ذكرها، فإنّ ذلك وقتها] ثمّ قرأ {(وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)}

(4)

.

(1)

في الدر المنثور: ج 5 ص 554؛ قال السيوطي: (أخرجه أحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (18112).

(3)

أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الحيض: الحديث (366/ 105).وأبو داود في السنن: كتاب اللباس: باب في أهب الميتة: الحديث (4123).

(4)

تقدم.

ص: 233

قوله تعالى: {إِنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها؛} قال ابن عبّاس: (معناه:

أنّ القيامة كائنة أكاد أخفيها عن نفسي، فكيف أظهرها لغيري)،قال المبرّد:(هذا على عادة مخاطبة العرب؛ يقولون إذا بالغوا في كتمان السّرّ: كتمته من نفسي؛ أي لم أطلع عليه أحدا).

والمعنى: أنّ الله تعالى بالغ في إخفاء السّاعة، فذكره بأبلغ ما تعرف العرب. قال قتادة:(هي في بعض القراءة: أكاد أخفيها من نفسي، ولعمري لقد أخفاها الله عن الملائكة المقرّبين والأنبياء والمرسلين، وفي مصحف أبيّ وعبد الله: أكاد أخفيها من نفسي، فكيف يعلمها مخلوق؟).

ومعنى الآية: أكاد أخفيها عن عبادي؛ كي لا تأتيهم إلاّ بغتة، والفائدة في إخفائها عن العباد: التهويل والتخويف، وفي ذلك مصلحة لهم؛ لأنّهم إذا لم يعلموا متى قيامها كانوا على حذر منها في كلّ وقت، خائفين من الموت، مستعدّين لذلك بالتوبة والطاعة.

قوله تعالى: {لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى} (15)؛أي بسعيها، إما الثواب وإما العقاب. وقرأ الحسن وابن جبير:«(أكاد أخفيها)» بفتح الهمزة؛ أي أظهرها وأبرزها، يقال: خفيت الشّيء إذا أظهرته، وأخفيته إذا سترته

(1)

.

قوله تعالى: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها؛} أي فلا يصرفنّك عن الإيمان بالسّاعة من لا يصدّق بها، {وَاتَّبَعَ هَواهُ} بالإنكار {فَتَرْدى} (16)؛ أي فتهلك، وهو خطاب لموسى عليه السلام، ونهي لسائر المكلّفين. والصّدّ: هو الصّرف عن الخير، يقال: صدّه عن الخير، وصدّه عن الإيمان، ولا يقال: صدّه عن الشّرّ، ولكن يقال: صرفه عن الشرّ ومنعه عنه.

قوله تعالى: {وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى} (17)؛أي وما التي بيمينك يا موسى؟

{قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها} أي أعتمد عليها إذا أعييت، وإذا

(1)

ينظر: جامع البيان للطبري: ج 9 ص 188.

ص: 234

مشيت، فلفظ أوّل الآية استفهام؛ ومعناه: التقرير على المخاطب، أن الذي في يده عصا؛ لكيلا تهوله صارت تعبانا.

وقيل: كان الغرض بهذا السّؤال إزالة الوحشة منه؛ لأن موسى كان خائفا مستوحشا. قوله تعالى: {وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي؛} أي أخبط به الشجر؛ ليتناثر ورقه فيأكله غنمي. وقرأ عكرمة: {(وَأَهُشُّ)} بالشّين، يعني أزجر بها الغنم، وذلك أنّ العرب تقول: هشّ وقشّ.

قوله تعالى: {وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى} (18)؛أي حوائج أخرى، تقول:

لا إرب لي في هذا؛ أي لا حاجة لي فيه، واحد المآرب مأربة بضمّ الراء وكسرها وفتحها، وإنّما لم يقل: أخر؛ لأجل رءوس الآي.

قال ابن عبّاس: (كانت مآربه أنه إذا ورد ماء قصر عنه رشاؤه وصله بالمحجن، ثم أدلى العصا وكان في أسفلها عكّازة يقاتل بها السباع، وكان يلقي عليها كسائه يستظلّ تحتها، ومن مآربه أيضا أنه كان اذا أراد الاستسقاء من بئر أدلاها، فطالت على طول البئر، فصارت شعبتاها كالدّلو، وكان يظهر على شعبتيها الشّمعتين بالليل-يعني: يضيء له مد البصر ويهتدي بها-واذا اشتهى ثمرة من الثمار ركزها في الأرض، فتغصّنت أغصان تلك الشجرة، وأورقت أورقها وأثمرت)

(1)

.

ثم كان من المعلوم أنّ موسى لم يرد بهذا الجواب إعلام الله تعالى؛ لأن الله تعالى أعلم بذلك منه، ولكن لمّا اقتضى السؤال جوابا لم يكن بدّ له من الإجابة، فذكر منافع العصا إقرارا بالنعمة فيها والتزاما بما يجب عليه من الشّكر لله، وهكذا سبيل أولياء الله تعالى في إظهار شكر نعم الله تعالى، وفي هذا جواب عن بعض الملحدة في باب المسألة كانت عن فائدة ما في يده، ولم يكن عن منافعها، فلم كان الجواب عن ما لم يسأل؟

(1)

ينظر: الدر المنثور: ج 5 ص 555،بمعناه، قال:(أخرج أحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه).

ص: 235

وقوله تعالى: {قالَ أَلْقِها يا مُوسى} (19)؛أي ألقها من يدك،

{فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى} (20)؛تشتدّ رافعة رأسها، عيناها تتوقّدان نارا، تمشي بسرعة على بطنها، لها عرف كعرف الفرس، فلما عاين ذلك موسى ولّى مدبرا ولم يعقّب هاربا منها، فنودي يا موسى: ارجع، فرجع وهو شديد الخوف

و {قالَ؛} الله له: {خُذْها} بيمينك؛ {وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى} (21)؛عصا كما كانت.

فلما أمره الله بأخذها أدنى طرف ثوبه على يده، وكان عليه مدرعة من صوف، فلما جعل طرف المدرعة على يده ليتناولها، قال ملك: يا موسى؛ أرأيت لو أنّ الله قد رعاك ما تحاذره؟ أكانت المدرعة تغني عنك شيئا؟ قال: لا؛ ولكنّي ضعيف ومن ضعف.

فأمر أن يدخل يده في فمها فكشف عن يده، ثم وضعها في فم الحيّة، وإذا يده في الموضع الذي كان يضعها فيه بين الشّعبتين اللّتين في رأس العصا، وإنّما أمر بإدخال يده في فمها؛ لأنه إنّما يخشى من الحيّة من فمها، فأراد الله أن يريه من الآية التي لم يقدر عليها مخلوق، ولئلا يفزع منها اذا ألقاها عند فرعون، فلا يولّي مدبرا.

قوله تعالى: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى} (22)؛قال الفرّاء: (جناح الإنسان عضده أي من غير أصل إبطه)

(1)

والمعنى: أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء ذات شعاع من غير مرض ولا برص آية أخرى نعطيكها مع العصا،

{لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى} (23)؛سوى هاتين الآيتين، فكان عليه السلام إذا جعل يده في جيبه خرجت بيضاء يغلب شعاعها نور الشمس. قال ابن عبّاس:(كان ليده نور ساطع يضيء باللّيل والنّهار كضوء الشّمس والقمر وأشدّ ضوءا).

قوله تعالى: {اِذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى} (24)؛أي جاوز الحدّ في العصيان، وكفر وتكبّر.

(1)

قاله الفراء في معاني القرآن: ج 2 ص 178.

ص: 236

قوله تعالى: {قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} (26) أي وسّع لي صدري لأتمكّن من تحمّل أثقال الرسالة، والقيام بأدائها ومخاصمة الناس فيها، وسهّل لي أمري برفع المشقّة ووضع المحبّة.

قوله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} (28)؛أي وارفع العقدة من لساني؛ ليفقهوا قولي:

كلامي.

وكان سبب العقدة في لسانه أنه كان في حجرة فرعون، فأتى يوم فأخذ بلحيته فنتف منها شيئا، وقال فرعون لامرأته آسية: إنّ هذا عدوّي المطلوب وهمّ بقتله، فقالت له آسية: لا تفعل، فإنه طفل لا يعقل، ولا يفرّق بين الأشياء ولا يميز، وعلامة ذلك: أنه لا يميز بين الدّرّة والجمرة، ثم جاءت بطشتين، فجعلت في أحدهما الجمر من النار، وفي الآخر الجوهر والحليّ، ووضعتهما بين يدي موسى، فأراد موسى أن يأخذ شيئا من الحليّ، فأخذ جبريل بيده فوضعها على النار، فأخذ جمرة ووضعها في فمه حتى أحرق لسانه، فكانت في لسانه رتّة، فدفع عنه أكثر الضّررين بأقلّهما.

وقد اختلفوا في هذه العقدة: هل زالت بأجمعها في وقت نبوّته، أم لا؟ قال بعضهم-وهو الأصحّ وإليه ذهب الحسن-:أنّ الله استجاب له، فحلّ العقدة من لسانه؛ لأنه تعالى قال {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى} فعلى هذا قول فرعون {وَلا يَكادُ يُبِينُ}

(1)

أي لا يأتي ببيان يفهم، وكان هذا القول كذبا منه؛ ليصرف الوجوه عنه.

قوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي} (29)؛الوزير الذي يؤازر الأمير فيحمل عنه بعض ما يحمل، فيكون المعنى: واجعل لي عونا وظهرا من أهلي، وقال الزجّاج:(اشتقاقه من الوزر وهو الجبل الّذي يعتصم به لينجو من الهلكة).

ثم بيّن الوزير من هو، فقال:

{هارُونَ أَخِي} (30)،قيل: هارون مفعول {(اجْعَلْ)} ،تقديره: اجعل هارون أخي وزيرا لي،

{اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} (31)؛ أي أقوّي به ظهري، والأزر الظّهر، لنتعاون على الأمر الذي أمرتنا به، يقال: آزرت فلانا إذا عاونته.

(1)

الزخرف 52/. الرّتّة؛ بالضم: العجمة في الكلام.

ص: 237

قوله تعالى: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (32)،أي اجعله شريكا لي في تبليغ هذه الرسالة. ومن قرأ «(أشدد)» بفتح الألف و «(أشركه)» بضمّ الألف ردّ الفعل إلى موسى عليه السلام.

قوله تعالى: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} (34)؛أي كي نصلّي لك، وقيل: كي ننزّهك كثيرا، ونذكرك بالحمد والثّناء كثيرا بما أوليتنا من نعمتك، ومننت علينا من تحمّل رسالتك.

قوله تعالى: {إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً} (35)؛أي عالما.

قوله تعالى: {قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى} (36)؛أي أوتيت ما سألت يا موسى، وأوتيت مرادك.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَنَنّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى} (37)؛أي أنعمنا عليك كرّة أخرى قبل هذه المرّة.

ثم بيّن تلك النعمة، فقال تعالى:

{إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ؛} أي ألهمناها حين عنت بأمرك، وما كان فيه سبب نجاتك من القتل، {ما يُوحى} (38)؛أي ما يلهم، ثم فسّر ذلك الإلهام فقال:

{أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} وكان السبب في ذلك أن فرعون كان يقتل غلمان بني إسرائيل على ما تقدّم ذكره، ثم خشي أن يفنى نسل بني إسرائيل، فكان يقتل بعد ذلك في سنة ولا يقتل في سنة، فولد موسى في السّنة التي يقتل فيها الغلمان، فنجّاه الله من القتل بأن ألهم أمّه أن جعلته في التابوت، وأطرح التابوت في اليمّ وهو البحر، وأراد به النّيل ومعنى قوله تعالى:{(أَنِ اقْذِفِيهِ)} أي اجعليه.

قوله تعالى: {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسّاحِلِ؛} لفظه لفظ الأمر وهو خبر (بتقدير) حتى يلقيه اليمّ بالسّاحل. قوله تعالى: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ؛} وأراد به فرعون.

قوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي؛} وذلك أن أمّ موسى لمّا اتخذت لموسى تابوتا جعلت فيه قطنا محلوجا، ووضعت فيه موسى وألقته في النّيل، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون، فبينما هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية، إذا بالتابوت يجيء بالماء.

ص: 238

فلما رأى ذلك أمر الجواري والغلمان بإخراجه فأخرجوه، فإذا هو صبيّ من أحسن الناس وجها، فلما رآه فرعون أحبّه بحيث لم يتمالك، فذلك قوله تعالى:

{(وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي)} قال عطية العوفي

(1)

: (وجعل عليه مسحة من جمال فأحبّه كلّ من رآه).

وقال عطاء عن ابن عبّاس: (معنى قوله تعالى {(وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي)} أي لا يلقاك أحد إلاّ أحبّك من مسلم وكافر)

(2)

،وقال عكرمة:(ألقيت عليك محبّة وملاحة وحسنا)

(3)

،فحين أبصرت آسية وجهه قالت لفرعون: قرّة عين لي ولك. وقال أبو عبيدة: (معناه: جعلت لك محبّة عندي وعند غيري، أحبّك فرعون، فسلمت من شرّه، وأحبّتك امرأته فتبنّتك).قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي} (39)؛أي ولتربّى وتغذى بمرأى أراك على ما أريد بك من الرفاهية في غذائك. وقال قتادة: (معناه: لتغذى على محبّتي).

وأراد في

قوله تعالى: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ؛} وذلك أن موسى جعل يبكي ويطلب اللّبن، فأمر فرعون حتى أتى بالنّساء اللّواتي حول فرعون ليرضعن موسى، فلم يقبل ثدي واحدة منهن، وكانت أخت موسى متّبعة للتابوت ماشية خلفه.

فلما حمل التابوت إلى فرعون، ذهبت هي معه، فقالت: هل أدلّكم على من يكفله؟ أي يرضعه ويضمّه ويحصنه؟ فقالوا: من هي؟ قالت: امرأة قد قتل ولدها، وهي تحبّ أن تجد صبيّا ترضعه. فأذن لها فرعون في إحضارها، فانطلقت وأتت بأمّ

(1)

عطية بن سعد بن جنادة العوفيّ الجدلي القيسي الكوفي، أبو الحسن. تابعي روى عن بعض الصحابة. تكلم فيه، وقال مسلم بن الحجاج:(قال أحمد وذكر عطية العوفي، فقال: ضعيف الحديث، ثم قال: بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي ويسأله عن التفسير).ترجم له ابن حجر في تهذيب التهذيب: ج 5 ص 590 - 592: الرقم (4755).

(2)

في الدر المنثور: ج 5 ص 567؛قال السيوطي: (أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم).

(3)

في الدر المنثور: ج 5 ص 568؛ قال السيوطي: (أخرجه عبد بن حميد).

ص: 239

موسى، فأعطته الثدي فأخذه موسى، وفرح به فرعون، وجعل لها الأجرة على الإرضاع، وحملته أمّه إلى دارها، فذلك قوله تعالى:{فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ؛} أي رددناك إليها؛ كي تطيب نفسها، ولا تحزن على ابنها.

قوله تعالى: {وَقَتَلْتَ نَفْساً؛} يعني القبطيّ الذي وكزه موسى فقضى عليه، {فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ؛} أي غمّ القود، وخلّصناك من أن تقتل. قوله تعالى:{وَفَتَنّاكَ فُتُوناً؛} أي أوقعناك في محنة بعد محنة، ونحن نخلّصك منها، وذلك أنه حمل به في السّنة التي يذبح فرعون فيها الأطفال، ثم إلقاؤه في البحر، ومنع الرّضاع إلاّ ثدي أمّه، ثم جرّ لحية فرعون حتى همّ بقتله، ثم تناوله الجمرة، ثم قتله القبطيّ، ثم خروجه إلى مدين خائفا يترقّب.

فمعنى: {(فَتَنّاكَ فُتُوناً)} اي خلّصناك من تلك المحن. وقيل: معناه شدّدنا عليك في أمر المعاش حتى رعيت لشعيب عشر سنين. وقال ابن عبّاس: (معناه: اختبرناك اختبارا)

(1)

،وقال الضحّاك:(ابتليناك ابتلاء)،وقال مجاهد:(خلّصناك خلاصا)

(2)

.

قوله تعالى: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ؛} يعني لبثت في أهل مدين حين كنت راعيا لشعيب، مكثت عشر سنين. وتقدير الكلام: وفتنّاك فتونا؛ فخرجت إلى أهل مدين فلبثت سنين. وبلاد أهل مدين على ثلاث مراحل من مصر. وقال وهب: (لبثت في أهل مدين عند شعيب ثماني وعشرين سنة، عشر سنين التي رعى فيها لشعيب، وثماني عشرة سنة أقام عنده حتى ولد له، وقتل القبطيّ يوم قتله وهو ابن اثنتي عشرة سنة).

قوله تعالى: {ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى} (40)؛معناه: فلبثت سنين في أهل مدين حين كنت راعيا لشعيب، ثم جئت على المقدار الذي قدّره الله عليك، وكتبه في اللّوح المحفوظ. قال ابن كيسان:(جاء على رأس أربعين سنة، وهو القدر الّذي يوحى فيه إلى الأنبياء).

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (18191).

(2)

في الدر المنثور: ج 5 ص 568؛ قال السيوطي: (أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم).

ص: 240

قوله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} (41)؛أي اختصصتك لوحيي ورسالتي، والاصطناع هو الإخلاص بالألطاف. وقال الزجّاج معناه:(اخترتك لإقامة حجّتي، وجعلتك بيني وبين خلقي).

قوله تعالى: {اِذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي؛} أي باليد والعصا، {وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي} (42)؛أي لا تقتّرا في تبليغ رسالتي إلى فرعون، ولا تضعفا عن ذكري، وقيل: لا تقصّرا ولا تبطئا.

قوله تعالى: {اِذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى} (43)؛قد تقدّم تفسيره.

قوله تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً؛} أي قولا له بالشّفقة، ولا تقولا له قولا عنيفا، فيزداد غيضا بغلظ القول. قال السديّ وعكرمة:(كنّياه قولا له: يا أبا العبّاس) وقيل: يا أبا الوليد

(1)

،ويا أيّها الملك. وقيل: يعني بالقول اللّين: {هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكّى. وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى}

(2)

.

وعن السديّ قال: (القول اللّيّن: أنّ موسى أتاه فقال له: تؤمن بما جئت به، وتعبد ربّ العالمين على أنّ لك شبابك فلا تهرم، وأنّ لك ملكك لا تنزع حتّى تموت، ولا تنزع عنك لذة الطّعام والشّراب والجماع حتّى تموت، فإذا متّ دخلت الجنّة. فأعجبه ذلك، وكان لا يقطع أمرا دون هامان، وكان هامان غائبا، فقال فرعون: إنّ لي ذا أمر غائب، فاصبر حتّى يقدم. فلمّا قدم قال له فرعون يا هامان إنّ موسى دعاني إلى أمر فأعجبني-وأخبره بالّذي دعاه إليه-وأردت أن أقبل منه.

فقال هامان: قد كنت أرى أنّ لك عقلا، بينما أنت ربّ فتريد أن تكون مربوبا، وأنت تعبد فتريد أن تعبد؟.فغلبه على رأيه فأبى.

روي أنّ رجلا قرأ في مجلس يحيى بن معاذ: {(فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً)} فبكى يحيى ابن معاذ وقال: (إلهي، هذا رفقك بمن يقول أنا إله، فكيف رفقك بمن يقول أنت إلهي، إنّ قول لا إله إلاّ الله يهدم كفر خمسين سنة).

(1)

ينظر: معالم التنزيل: ص 819.

(2)

النازعات 18/-19.

ص: 241

قوله تعالى: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى} (44)؛أي يتّعظ أو يخشى العاقبة، وكلمة (لعلّ) للترجّي والطمع؛ أي اذهبا على رجائكما وطمعكما وأنا عالم بما يفعل، فإن قيل: كيف قال {(لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ)} وعلمه سابق في فرعون أنه لا يؤمن، ولا يتذكر ولا يخشى؟ قيل: هذا مصروف إلى غير فرعون، تقديره: لكي يتذكر متذكر ويخشى خاش إذا رأى برئ، وألطافي بمن خلقته ورزقته وصحّحت جسمه وأنعمت عليه، ثم ادّعى الربوبية دوني.

قال بعض العارفين في قوله تعالى: {(فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً)} : (إذا كان هذا رفقك بمن ينافيك، فكيف رفقك بمن يصافيك؟ هذا رفقك بمن يعاديك، فكيف رفقك بمن يواليك؟ هذا رفقك بمن يسبّك، فكيف رفقك بمن يحبّك؟ هذا رفقك بمن يقول ندا فكيف بمن يقول فردا؟ هذا رفقك بمن ضلّ، فكيف رفقك بمن زلّ؟ هذا رفقك بمن اقترف، فكيف رفقك بمن اعترف؟ هذا رفقك بمن أصرّ، فكيف رفقك بمن أقرّ؟ هذا رفقك بمن استكبر، فكيف رفقك بمن استغفر؟).

وعن وهب بن منبه قال: (أوحى الله إلى موسى: انطلق إلى فرعون برسالتي، فمعك نظري وأنت جند عظيم من جنودي، بعثتك إلى خلق ضعيف قد عزّته الدنيا حتى كفر وأقسم بعزي لولا اتخاذ الحجّة عليه والعذر إليه لبطشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السّماوات والأرض، فإن أذن للسّماء صعقته، وللأرض ابتلعته، وللجبال دمّرته، وللبحار أغرقته، ولكنه وسعه حلمي، فبلّغه رسالتي وقل له فيما بين ذلك قولا لينا لا يغرّ بك فألبسه من لباس الدّنيا، فأجب ربك الذي هو واسع المغفرة، أنه قد أمهلك منذ خمسمائة سنة لم تهرم ولم تسقم ولم تفتقر، واعلم أنّ أفضل ما تزين به العباد الزهد في الدنيا، ومن أهان وليّا فقد بارزني بالمحاربة).

قوله تعالى: {قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى} (45) معناه: قال موسى وهارون: ربّنا إنّنا نخاف أن يفرط علينا، قال ابن عبّاس:(يعجّل والعقوبة)

(1)

،وقيل: تغليب أو أن يطغى بتكبّر ويستعصي علينا، ويقال: فرّط علينا فلان إذا أعجل بمكروه، وفرّط منه أمري بدر وسبق.

(1)

في الدر المنثور: ج 5 ص 580؛ عزاه السيوطي لابن أبي حاتم. وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير: ج 7 ص 2424.

ص: 242

قوله تعالى: {قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما؛} أي معكما بالبصيرة والعون، {أَسْمَعُ؛} ما يردّ عليكما، {وَأَرى} (46)؛ما يصنعه بكما، وقيل: معناه: أسمع دعاءكما فأجيبه، وأرى ما يريد بكما فأمنعه، ولست بغافل عنكما، فلا تهتمّا،

{فَأْتِياهُ فَقُولا إِنّا رَسُولا رَبِّكَ؛} أرسلنا إليك، {فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ؛} أي أطلقهم من اعتقالك، ولا تتعبهم بالأعمال الشّاقة، {قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ؛} أي بعلامة من ربك وهي اليد والعصا، وهما أوّل آية، وقيل: اليد خاصّة.

وكان فرعون قد أتعب بني إسرائيل بالأعمال الشّاقة، مثل اللّبن والطين والبناء، وما لا يقدرون عليه. فلمّا قال موسى: قد جئناك بآية من ربك، قال: ما هي؟ فأدخل يده في جيب قميصه ثم أخرجها، فإذا هي بيضاء لها شعاع غلب نور الشمس، ولم يره العصا إلاّ بعد ذلك يوم الزّينة.

قوله تعالى: {وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى} (47)؛ليس هو بتحيّة لفرعون ولكن معناه: أن من اتّبع الهدى سلم من عذاب الله بدليل أنه عقّبه

بقوله تعالى: {إِنّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلّى} (48)؛أي إنّما يعذّب الله من كذب بما جئنا به وأعرض عنه، فأمّا من اتّبعه فإنه يسلم.

قوله تعالى: {قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى} (49)؛أي من إلهكما الذي أرسلكما،

{قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ؛} أي ربّنا الذي خلق كلّ شيء على الهيئة التي ينتفع بها، فأعطاه صحّته وسلامته وركّب فيه شهوته، ثم هداه لمعيشته. وقيل: معناه: الذي صوّر كلّ جنس من الحيوان على صورة أخرى، فلم يجعل خلق الإنسان كخلق البهائم، ولا خلق البهائم كخلق الإنسان، ولكن خلق كلّ شيء فقدّره تقديرا.

وقال الضحّاك: ({أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ}؛يعني لليد البطش، وللرّجل المشي، وللّسان النّطق، وللعين النّظر، وللأذن السّمع)

(1)

.وقال سعيد بن جبير: (أعطى كلّ

(1)

ينظر: معالم التنزيل للبغوي: ص 820.

ص: 243

شيء شكله، للإنسان زوجة، وللبعير ناقة، وللفرس رمكة

(1)

،وللحمار أتانا، وللثّور بقرة، {ثُمَّ هَدى} (50)؛أي ألهم وعرّف كيف يأتي الذكر الأنثى في النّكاح)

(2)

.

قوله تعالى: {قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى} (51)؛قال: ما حال، وما بيان الأمم الماضية، لم يبعثوا ولم يجازوا على أفعالهم، ومعنى البال: الشأن والحال.

والمعنى: ما حالها، فإنّها لم تقرّ بالله، ولكنّها عبدت الأوثان، ويعني بالقرون الأولى، مثل قوم نوح وعاد وثمود،

{قالَ} موسى: {عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ؛} وإذا علم لا بدّ أن يجازي. وقيل: معناه: علم أعمالها عند ربي في كتاب الله، أراد به اللّوح المحفوظ.

قوله تعالى: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى} (52)؛أي لا يذهب عليه شيء، ولا يخطئ ولا ينسى ما كان من أمرهم حتى يجازيهم عليه، وقيل: لا يغفل ربي ولا يترك شيئا، ولا يغيب عنه شيء، وفي هذا دليل أنّ الله تعالى لم يكتب أفعال العباد لحاجته في معرفتها إلى الكتاب، ولكن لمعرفة الملائكة. ويقال: كان سؤال فرعون عن القرون الأولى: هل بعث فيهم أنبياء كما بعثت إلينا، فأحالها على ما في المعلوم من أمرها.

قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً} وقرأ أهل الكوفة {(مَهْداً)} بغير ألف؛ أي فرشا، والفراش: المهاد لغة فيه كالفرش والفراش؛ أي جعلها مبسوطة ليمكن القرار عليها، ولم يجعلها حادّة كرءوس الجبال.

قوله تعالى: {(وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً)} أي طرقا تذهبون وتجيئون فيها وتسلكونها. قال ابن عبّاس: (سلك أي سهّل لكم فيها طرقا)

(3)

. {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً؛} يعني المطر، قوله تعالى:{فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتّى} (53)؛أي فأخرجنا بالمطر أصنافا من نبات مختلف الألوان.

(1)

الرّمكة-بفتحتين-:الأنثى من البراذين.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير: ج 7 ص 2425.

(3)

ينظر: معالم التنزيل للبغوي: ص 820.

ص: 244

قوله تعالى: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ؛} أي كلوا من نبات الأرض، وارعوا أنعامكم من عشبها، {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى} (54)؛أي إنّما ذكرت لكم لعلامة دالّة على البعث لذوي العقول من الناس، وإنّما سميت العقول (نهى)؛لأن أصحابها ينتهون بها عن القبيح والمعاصي.

قوله تعالى: {*مِنْها خَلَقْناكُمْ؛} أي من الأرض خلقنا أباكم آدم وكلّكم من ذريّته، {وَفِيها نُعِيدُكُمْ؛} عند الموت والدفن، {وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى} (55)؛للبعث، وقد جرى ذكر الأرض في قوله تعالى:{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً}

(1)

.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى} (56)؛أي أرينا فرعون آياتنا السّبع كلّها فكذب وأبى، أي قال: ليست هذه من الله، وأبى أن يسلم ويقبل، ونسب موسى إلى السّحر؛

ف {قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا؛} أي مصر، {بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ؛} أي مثل ما جئتنا به، {فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً؛} أي ميقاتا وأجلا في موضع معلوم، {لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ؛} أي لا نجاوزه ولا يقع منا خلف في حضوره. قوله تعالى:{مَكاناً سُوىً} (58)؛أي مكانا مستويا يبيّن للناس ما بيننا، ويستوي حالنا من الرّضى به. وقيل: تستوي مسافته على الفريقين فتكون مسافة كلّ فريق إليه كمسافة الفريق الآخر.

فواعده موسى يوما معلوما وهو

قوله تعالى: {قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} أي يوم العيد الذي لكم. قال سعيد بن جبير: (كان يوم عاشوراء)

(2)

،قرأ الحسن:

«(يوم الزّينة)» بنصب الميم؛ أي في يوم. وقرأ الباقون بالرفع على الخبر

(3)

.

(1)

النبأ 6/.

(2)

في الدر المنثور: ج 5 ص 584؛ قال السيوطي: (أخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس).

(3)

ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: ج 11 ص 213.

ص: 245

قوله تعالى: {وَأَنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى} (59)؛أي ضحى ذلك اليوم، وأراد بالناس أهل مصر، ومعنى يحشرون أي يجتمعون إلى العيد، وإنّما جعل موسى موعدهم نهارا في يوم اجتماعهم؛ ليكون أبلغ في الحجّة، وأبعد من الرّيبة. قوله تعالى:{(وَأَنْ يُحْشَرَ)} يحتمل أن يكون في موضع رفع على معنى موعد كما حشر الناس وقت الضّحى يوم الزينة، ويحتمل أن يكون في موضع خفض عطفا على الزينة، المعنى يوم الزينة، ويوم حشر الناس في وقت الضّحوة.

قوله تعالى: {فَتَوَلّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى} (60)؛أي فأعرض فرعون عن الحقّ والطاعة فجمع كيده ومكره، وذلك جمعه السّحرة ثم أتى الموعد، والمعنى:{(فَجَمَعَ كَيْدَهُ)} اى سحرته، قيل: كانوا أربعمائة ساحر؛

و {قالَ لَهُمْ مُوسى؛} للسحرة: {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً؛} أي لا تشركوا مع الله أحدا، ولا تختلفوا عليه كذبا بتكذيبي، {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ؛} أي فيهلككم ويستأصلكم بعذاب من عنده، {وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى} (61)؛أي وقد خاب من اختلق على الله كذبا. ومعنى قوله:{(وَيْلَكُمْ)} أي ألزمكم الويل. قرأ أهل الكوفة: {(فَيُسْحِتَكُمْ)} بضمّ التاء وكسر الحاء، يقال: سحته الله وأسحته؛ أي أهلكه.

قوله تعالى: {فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى} (62)؛أي فتشاورت السحرة فيما بينهم من فرعون في أمر موسى، وأسرّوا المناجاة، فقالوا: إن غلبنا موسى اتّبعناه وآمنّا به فهذا نجواهم.

قوله تعالى: {قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ؛} أي قال الملأ من قوم فرعون:

إنّ موسى وهارون لساحران، {يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما؛} من أرض مصر، {وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى} (63)؛أي بدينكم الأمثل، وقيل: معناه: ويذهبا بأهل طريقتكم.

وأختلف القرّاء في قوله تعالى {(إِنْ هذانِ)} ،قرأ أبو عمرو «(هذين)» على اللغة المعروفة وهي لغة أهل الحجاز، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي {(هذانِ)}

ص: 246

بالألف

(1)

وهي لغة كنانة وبني الحارث بن كعب وخثعم وزيد وقبائل من اليمن:

يجعلون ألف الاثنين في الرفع والنصب والخفض على لفظ واحد، يقولون: أتاني الزّيدان، ورأيت الزّيدان، مررت بالزيدان. قال الفرّاء: (أنشدني رجل من بني أسد، وما رأيت أفصح منه:

فأطرق إطراق الأفعوان ولو يرى

مساغا لناباه الشّجاع لصمّما)

(2)

ويقولون: كسرت يداه وركبت علاه، يعني يديه وعليه، قال شاعرهم

(3)

:

تزوّد منّا بين أذناه ضربة

دعته إلى هابي التّراب عقيم

أراد بين أذنيه، فقال آخر:

أيّ قلوص راكب تراها

طاروا علاهنّ فطر علاها

أي عليهنّ وعليها، وقال آخر:

إنّ أباها وأبا أباها

قد بلغا في المجد غايتاها

وقال بعضهم (إن) هنا بمعنى: نعم. روي أنّ أعرابيا سأل ابن الزّبير شيئا فحرّمه، فقال: لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال ابن الزّبير:(إن وصاحبها) يعني نعم

(4)

.وقال الشاعر:

بكر العواذل في الصّبا

ح يلمنني وألومهنّه

ويقلن شيب قد علا

ك وقد كبرت فقلت إنّه

(1)

ينظر: الحجة للقراءات السبعة لأبي علي الفارسي: ج 3 ص 142.

(2)

في معاني القرآن: ج 2 ص 184،والبيت للمتلمس، كما في اللسان. والشجاع: هو الذكر من الحيّات. وصمم: عض في العظم.

(3)

هوبر الحارثي، كما في لسان العرب.

(4)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 821.

ص: 247

أي نعم

(1)

.وقد ذكر أهل النحو لتصحيح هذه القراءة وجوها:

أحدها: ضعف عمل (إن) لأنّها تعمل بالمشبّه بالفعل وليست بأصل في العمل، ألا ترى أنّها لمّا خففت لم تعمل.

والثاني: أنّها تشبه (اللّذين) في البناء؛ لأن (اللّذين) في الرفع والنصب والخفض سواء، ولأنّ الألف في {(هذانِ)} ليس ألف التشبيه لوجودها في الوحدان، وإنّما زيدت النون في التثنية ليكون فرقا بين الواحد والاثنين، كما قالوا (الّذي) ثم زادوا نونا تدلّ على الجمع، قالوا (الّذين) في رفعهم ونصبهم.

والثالث: (إن) هاهنا مخففة وليست مضمرة إلاّ أنه حذفت الهاء.

والرابع: أنه لمّا حذفت الألف صارت ألف التثنية عوضا منها.

والخامس: أنّ (إن) بمعنى نعم

(2)

.

وقوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ؛} قرأ أبو عمرو «(فاجمعوا)» بوصل الألف وفتح الميم من الجمع، وتصديقه قوله تعالى:{(فَجَمَعَ كَيْدَهُ)،} وقرأ الباقون {(فَأَجْمِعُوا)} بقطع الألف وكسر الميم، مأخوذ من أجمعت الأمر إذا عزمت عليه وأحكمته.

وقوله تعالى {(كَيْدَكُمْ)} أي مكركم وسحركم، وقوله تعالى:{ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا؛} مجتمعين؛ ليكون أنظم لأموركم، وأشدّ لهيبتكم. وقيل: معناه: ثم ائتوا المصلّى. والعرب تسمّي المصلّى صفّا. قال الزجّاج: (فعلى هذا معناه: ثمّ ائتوا الموضع الّذي تجتمعون فيه لعيدكم).قوله تعالى: {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى} (64)؛أي قد فاز بالفلاح والبقاء من كانت الغلبة له.

(1)

في الجامع لأحكام القرآن: ج 11 ص 218؛ قال القرطبي: (وعلى هذا يكون جائزا أن يكون قول الله عز وجل: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ بمعنى نعم، ولا تنصب).

(2)

ينظر: إعراب القرآن للنحاس: ج 3 ص 31 - 32.وجامع البيان للطبري: م ج 9 ج 16 ص 226 - 227.

ص: 248

قوله تعالى: {قالُوا يا مُوسى إِمّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى} (65) أي قالت السّحرة: يا موسى إمّا أن تلقى عصاك إلى الأرض، وإمّا أن نكون أوّل من ألقى العصيّ والحبال،

{قالَ} لهم موسى: {بَلْ أَلْقُوا؛} فألقوا حبالهم وعصيّهم.

روي أنّهم كانوا سبعين ألف ساحر، وكان عدد ما عملوا من الحبال والعصيّ حمل ثلاثمائة بعير، فألقوا ما معهم، {فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى} (66)؛أي تمشي وتتحرّك، وكانوا قد احتالوا فيها بحيلة، فكان كلّ من رآها من بعيد يخيّل إليه أنّها تتحرك.

قرأ ابن عامر: «(تخيّل)» بالتاء، ردّه إلى الحبال والعصيّ، وقرأ الباقون بالياء، ردّوه إلى الكيد والسّحر

(1)

،وذلك أنّهم لطّخوا حبالهم وعصيّهم بالزّئبق، فلما أصابه حرّ الشمس ارتعشت واهتزّت، فظنّ موسى أنّها تقصده

(2)

،

{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى} (67)؛أي أحسّ ووجد، وقيل: أضمر في نفسه خيفة.

فإن قيل: لم جاز أمرهم بالإلقاء وهو كفر؟ قيل: يجوز أن يكون معناه: ألقوا إن كنتم محقّين كما زعمتم، ويجوز أن يكون أمرا بالإلقاء على وجه الاعتبار.

وقوله تعالى {(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى، قُلْنا لا تَخَفْ)} ،فإن قيل: ما الذي خافه موسى؟ قيل: خاف أن يلتبس على الناس أمر السّحرة فيتوهّمون أنّ حبالهم وعصيهم بمنزلة عصاه. وقيل: كان خوفه خوف الطبع لما رأى من كثرة الحيّات العظام.

قوله تعالى: {قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى} (68) عليهم بالظّفر والغلبة.

قوله تعالى: {وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ؛} يعني العصا، {تَلْقَفْ ما صَنَعُوا؛} أي تلقم وتبلع ما طرحوا من العصيّ والحبال، {إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ؛} أي أنّ الذي

(1)

ينظر: جامع البيان: ج 9 ص 232.

(2)

ينظر: معالم التنزيل للبغوي: ص 822.

ص: 249

صنعوه كيد ساحر. وقرئ «(كيد سحر)» كما قالوا بمعنى حذر، {وَلا يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أَتى} (69)؛أي لا يغلب حقّك بباطله. وقيل: لا يسعد السّاحر حيث كان.

فألقى موسى عصاه فتلقّفت جميع ما صنعوا، ثم أخذها موسى فرجعت عصا كما كانت،

{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى} (70)؛فما رفعوا رءوسهم حتى رأوا الجنة والنار، ورأوا ثواب أهلها، فعند ذلك قالوا:(لن نؤثرك على ما جاءنا من البيّنات) يعني الجنة والنار، وما رأوا من درجاتهم.

قال: وكانت امرأة فرعون تسأل من غلب؟ فقيل لها: موسى، فقالت: آمنت برب موسى وهارون، فأرسل إليها فرعون، فقال: انظروا إلى أعظم صخرة تجدونها فأتوها، فإن هي رجعت عن قولها وإلاّ فألقوها عليها، فلما أتوها رفعت ببصرها إلى السّماء فرأت الجنّة فقالت:{رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ}

(1)

فانتزعت روحها، والصخرة على جسد لا روح فيه.

قوله تعالى: {قالَ آمَنْتُمْ لَهُ؛} بموسى، {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؛} في الإيمان. والفرق بين {(آمَنْتُمْ لَهُ)} وآمنتم به: أنّ في {(آمَنْتُمْ لَهُ)} معنى الاتّباع له، وآمنتم به إيمان بالخبر من اتباع له في ما دعا اليه.

قوله تعالى: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ؛} أي رئيسكم ومعلّمكم، وإنّما قال فرعون هذه المقالة قصدا منه إلى صرف الناس عن اتّباع موسى؛ لأن السّحرة لم يتعلّموا من موسى، وإنّما كانوا يعلّمون السحر قبل قدوم موسى وقبل ولادته، {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ؛} قد تقدّم تفسيره، {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ؛} أي على جذوع النّخل، أقيم حرف {(فِي)} مقام حرف (على)،فكان فرعون أوّل من قطع اليد والرّجل من خلاف وصلب. قوله تعالى:{وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى} (71)؛أي لتعلمنّ أيّنا أشدّ عذابا وأبقى عذابا، أنا أم ربّ موسى وهارون.

(1)

التحريم 11/.

ص: 250

قوله تعالى: {قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ؛} أي قالت السحرة لفرعون: لن نختارك على ما جاءنا من الحقّ والبراهين يعني اليد والعصا.

وقال عكرمة: (هو لمّا رفعوا رءوسهم من السّجود رأوا الجنّة والنّار، ورأوا منازلهم في الجنّة).

قوله تعالى: {وَالَّذِي فَطَرَنا؛} أي لن نؤثرك على الله الذي فطرنا؛ أي خلقنا، ويجوز أن يكون قوله {(وَالَّذِي فَطَرَنا)} قسما، {فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ؛} أي اصنع ما أنت صانع، {إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا} (72)؛أي إنّما تحكم علينا في الدّنيا وهي منقضية لا محالة، وأما الآخرة فليس لك فيها حظّ.

قوله تعالى: {إِنّا آمَنّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا؛} أي إشراكنا في الجاهليّة ويغفر لنا {وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ؛} قال ابن عبّاس: (كان فرعون يكره النّاس على تعلّم السّحر حتّى لا ينقطع عنهم)

(1)

.وقيل: إنه أكره هؤلاء السّحرة على معارضة موسى.

قوله تعالى: {وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى} (73)؛أي هو خير ثوابا إن أطيع، وأبقى عقابا إن عصي. ويقال: ما عند الله من الكرامة والثواب أفضل وأدوم مما تعطينا أنت من المال، وهذا جواب عن قوله (ولتعلمنّ أيّنا أشدّ عذابا وأبقى) وهاهنا انتهى قول السّحرة.

قوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} أي من يأت إلى موضع الحساب عاصيا، {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها؛} فيستريح، {وَلا يَحْيى} (74)؛ حياة تنفعه، قال ابن عبّاس:(المجرم الكافر).

قوله تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصّالِحاتِ؛} أي قد عمل الطاعات، {فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى} (75)؛ أي الرفيعة في الجنّة.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (18267).

ص: 251

ودرجات الجنة بعضها أعلى من بعض، والعلى جمع العليا، قال صلى الله عليه وسلم:[إنّ أهل الدّرجات العلى ليراهم من هو أسفل منهم كأضواء كوكب درّيّ، وإنّ أبا بكر وعمر منهم]

(1)

.

قوله تعالى: {جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكّى} (76)؛أي من تطهّر من الذنوب بالطاعة بدلا من تدنّس النفوس بالمعصية.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي؛} يعني أسر بهم في أوّل الليل من أرض مصر، يعني بني إسرائيل، {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً؛} أي يابسا، وذلك أنّ الله تعالى أيبس لهم ذلك الطريق حتى لم يكن فيه ماء ولا طين. قوله تعالى:{لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى} (77)؛أي إنك آمن لا تخاف أن يدركك فرعون، ولا تخش الغرق من البحر.

وقرأ حمزة «(لا تخف)» على النّهي مجزوما، {(وَلا تَخْشى)} بالألف، كأنه استأنف، وتقديره: وأنت لا تخشى، كقوله:{يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ}

(2)

.

قوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ؛} من قرأ {(فَأَتْبَعَهُمْ)} بالتخفيف فمعناه: ألحق جنوده بهم، والباء في (جنوده) زائدة، والمعنى: أمرهم أن يتّبعوا موسى وقومه، ومن قرأ «(فاتّبعهم)» بالتشديد، فالمعنى اتّبعهم بنفسه ومعه الجنود. قوله تعالى:

{فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ} (78)؛أي علاهم وسترهم من البحر ما علاهم وهو الغرق.

وذلك أنّه لمّا تراءى الجمعان، أمر الله موسى أن يضرب بعصاه البحر، فضربه فانفلق الماء في عرض البحر حتى صار فيه اثنا عشر طريقا، وبقي الماء قائما بين

(1)

أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 3 ص 27.والترمذي في الجامع: كتاب المناقب: باب مناقب أبي بكر: الحديث (2358).وابن ماجة في السنن: الحديث (96).

(2)

آل عمران 111/.

ص: 252

الطريقين كالجبل، فسلك موسى، وأخذ كلّ سبط من بني إسرائيل طريقا من هذه الطّرق.

فلما أشرف فرعون وقومه على البحر فرأوه منفلقا فيه طرق يابسة، أوهم قومه أنّ البحر إنّما انفلق من هيبته! فدخل فرعون خلف بني إسرائيل، فصاحت الملائكة في القوم: أن الحقوا الملك حتى إذا دخل آخرهم، وهمّ أوّلهم بالخروج أن يخرج، أطبق الله تعالى البحر عليهم فغرقوا.

وقال وهب: (استعار بنو إسرائيل حليّا كثيرا من القبط، ثم خرج بهم موسى من أوّل الليل، وكانوا سبعين ألفا، فأخبر فرعون بذلك فركب في ستمائة ألف من القبط يقصّ أثر بني إسرائيل.

فلما رأى قوم موسى رهج الخيل-أي غبارها-قالوا: إنا لمدركون، قال موسى: كلاّ، إنّ معي ربي سيهدين، فلما قربوا قالوا: يا موسى أين تمضي البحر أمامنا وفرعون خلفنا؟!

فضرب البحر بعصاه فانفلق وصار فيه اثنا عشر طريقا يابسة، لكلّ سبط طريق، وصار بين كلّ طريقين كالطّود العظيم من الماء، وكانوا يمرّون في الطريق ولا يرى بعضهم بعضا، فاستوحشوا وخافوا، فجعل الله الأطواد شبكات يرى بعضهم بعضا، ويسمع بعضهم كلام بعض.

فلما أتى فرعون الساحل ورأى بني اسرائيل قد عدوا البحر، جاء جبريل على رمكة

(1)

طالبة للذكر، وكان فرعون على حصان، فأدخل الرّمكة في الماء فلم يتمالك حصان فرعون أن اقتحم على إثرها، ودخل القبط عن آخرهم، فلما ولجوا كلّهم أوحى الله تعالى إلى البحر: أن أغرقهم عن آخرهم، فعلاهم الماء فغرقوا).

قال كعب: (فعرف السّامريّ فرس جبريل، فحمل من أثره ترابا، وألقاه في العجل حين اتّخذوه).

(1)

الرّمكة: بفتحتين، الأنثى من البراذين، وجمعها رماك ورمكات، وأرماك.

ص: 253

قوله تعالى: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى} (79)؛أي أضلّهم حين دعاهم إلى عبادته، {(وَما هَدى)} أي وما أرشدهم حين أوردهم مواقع الهلكة، وهذا تكذيب له في قوله {وَما أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرَّشادِ}

(1)

.

قوله تعالى: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ؛} يعني فرعون أغرقه بمرأى منهم، {وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ؛} قرأ حمزة: «(نجّيتكم

»

«ووعدتكم

ورزقتكم)»

(2)

بغير ألف.

وذلك أنّ الله وعد موسى بعد ما أغرق فرعون ليأتي جانب الطّور الأيمن فيؤتيه التوراة فيها بيان ما يحتاج إليه. {وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى} (80) في التّيه،

{كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ؛} أي من حلال ما رزقناكم من المنّ والسّلوى، واشكروا إنعامي. قوله تعالى:{وَلا تَطْغَوْا فِيهِ،} أي لا تبطروا فيما أنعمت عليكم فتتظالموا، ولا تجاوزوا عن شكري إلى معاصيّي، ولا تجحدوا نعمتي فتكونوا طاغين، {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي،} أي فتجب عليكم عقوبتي. قرأ الأعمش والكسائيّ: «(فيحلّ)» أي فينزل.

قوله تعالى: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى} (81)؛أي فقد تردّ في النار. وقيل: معناه: فقد هلك وسقط في النار. وقرأ الكسائيّ: «(ومن يحلل)»

(3)

بضمّ اللام، قال الفرّاء:(والكسر أولى من الضّمّ؛ لأنّ الضّمّ من الحلول وهو الوقوع، ويحلل بالكسر يجب، وجاء التّفسير بالوجوب لا بالوقوع)

(4)

.

قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى} (82) أي لمن تاب من الشّرك، وآمن بالله وعمل صالحا، ثم استقام على معرفة الله وأداء فرائضه واجتناب محارمه حتى مات على ذلك بتوفيق الله.

(1)

غافر 29/.

(2)

ينظر: الحجة للقراء السبعة لأبي علي الفارسي: ج 3 ص 149.

(3)

ينظر: الحجة للقراء السبعة لأبي علي الفارسي: ج 3 ص 150.

(4)

في معاني القرآن: ج 2 ص 188.

ص: 254

قوله تعالى: {*وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى} (83)؛الآية، روي: أنّ موسى لمّا ذهب مع السبعين الذين اختارهم إلى الميقات ليأخذ التوراة من ربه، تعجّل إلى الميقات قبل السّبعين شوقا إلى ربه، وخلف أولئك السبعين وأمرهم أن يلحقوه ويتبعوه إلى الجبل وهو الطّور والميقات، فقال الله تعالى له:{(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى)}

{قالَ؛} أي موسى: يا رب، {هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي؛} أي هم أولاء يجيئون بعدي، {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى} (84)؛أي لتزداد رضى عنّي، والرّضى من الله إيجاب الدرجة والكرامة لهم.

قوله تعالى: {قالَ فَإِنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ} (85) أي ابتلينا قومك الذين خلفتهم مع هارون وكانوا ستمائة ألف. وقال الزجّاج:

(معنى: {فَتَنّا قَوْمَكَ}؛أي ألقيناهم في فتنة ومحنة)،وقال ابن الأنباريّ:(صيّرناهم مفتونين أشقياء بعبادة العجل، فافتتنوا بالعجل غير اثني عشر ألفا).قوله تعالى: {(مِنْ بَعْدِكَ)} أي من بعد انطلاقك إلى الجبل، قوله {(وَأَضَلَّهُمُ السّامِرِيُّ)} أي دعاهم إلى عبادة العجل وحملهم عليها.

قوله تعالى: {فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً؛} أي رجع من الميقات إلى السبعين، إلى قومه. فلما سمع صوت الفتنة رجع {(غَضْبانَ أَسِفاً)} أي حزينا شديد الحزن جزعا مع عصبة و {قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً؛} أي ألم يعدكم إنزال التوراة لتعملوا بما فيها فتستحقّوا الجنة والكرامة الدائمة، {أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ؛} مدّة مفارقتي إياكم، {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ؛} بأن ينزل بكم بعبادتكم العجل، {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} (86)؛ ما وعد المولى من حسن الخلافة بعدي.

قوله تعالى: {قالُوا؛} أي الذين لم يعبدوا العجل، {ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا،} ونحن نملك من أمرنا شيئا؛ أي لم نطق ردّ عبدة العجل من ما ارتكبوه لكثرتهم وقلّتنا؛ لأنّهم اثنا عشر ألفا، والذين عبدوا العجل خمسمائة ألف وثمانية وثمانون ألفا؛ لأنّهم كانوا جميعا ستّمائة ألف.

ص: 255

وأكثر القرّاء {(بِمَلْكِنا)} بالكسر أي بأمرنا. ومن قرأ بفتح الميم فهو المصدر، ومن قرأ بضمّ الميم فمعناه: بسلطاننا وقدرتنا؛ أي لم نقدر على ردّهم

(1)

.

قوله تعالى: {وَلكِنّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ؛} أي أثقالا وحمالا من حليّ آل فرعون، والوزر في اللغة: هو الحمل الثقيل، وذلك أن موسى كان أمرهم أن يستعيروا من حليّهم حين أرادوا أن يسروا، هكذا روي عن ابن عباس.

وقيل: إنهم كانوا استعاروها؛ ليتزيّنوا بها في عيد كان لهم، ثم يردّوها عليهم عند الخروج، وكان ذلك ذنبا منهم، فعلى ذلك يكون معناه: حمّلنا آثاما من حليّ القوم

(2)

.

وقوله تعالى: {فَقَذَفْناها؛} أي فقذفنا الحليّ في النار ليذاب، {فَكَذلِكَ أَلْقَى السّامِرِيُّ} (87)؛ما معه من الحليّ كما ألقينا، وذلك أنّ الله تعالى قد وقّت لموسى ثلاثين ليلة ثم أتمّها بعشر، فلما مضت الثلاثون قال السامريّ: إنّما أصابكم هذا عقوبة لكم بالحليّ الذي معكم، فاجمعوها حتى يجيء موسى فيقضي فيها، فجمعت له، فصنع منها العجل في ثلاثة أيّام، ثم قذف فيه القبضة التي

(3)

اتخذها من أثر فرس جبريل.

قوله تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ؛} أي أخرج لهم من النار صورة عجل صاغها من الحليّ، قوله تعالى:{(لَهُ خُوارٌ)} أي صوت كصوت العجل.

واختلفوا في هذا الخوار؛ قال مجاهد: (خواره حفيف الرّيح إذا دخلت جوفه، وذلك أنّه كان جعل في جوف العجل خروقا إذا دخلتها الرّيح أوهم أنّه يخور).قال الحسن وقتادة والسديّ: (كان السّامريّ ألقى عليه شيئا من أثر فرس جبريل كما قال:

(1)

ينظر: جامع البيان: ج 9 ص 245.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (18301).

(3)

في المخطوط: (الذي).

ص: 256

{فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها}

(1)

،فانقلب العجل حيوانا يخور) أي وكان معلوما في ذلك الزمان أنّ من أخذ من حافر دابة ملك، فألقاها على شيء صار ذلك الشيء حيوانا.

قالوا: وإنّما عرف أن راكب تلك الدّابة جبريل؛ لأنّها كانت لا تضع حافرها على موضع إلاّ اخضرّ. ويروى أن هارون مرّ بالسامريّ وهو يصنع العجل، فقال له:

ما تصنع؟ قال: أصنع ما ينفع ولا يضرّ، ثم قال لهارون: ادع لي، فقال: اللهمّ أعطه ما يسأل كما يحبّ، فسأل الله أن يجعل للعجل خوارا، فكان الخوار يخرج من ذلك الجسد المجسّد كما يخور الثور، فأوهمهم السامريّ أنه حيّ فافتتن به قوم فعبدوه، ولو رجعوا إلى عقولهم لعرفوا أنه لا يصلح أن يكون إلها؛ لأنه مصنوع صنعة آدميّ مخلوق من حليّ مخلوقة

(2)

.

قوله تعالى: {فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى؛} أي قال لهم السامريّ ذلك ووافقه قوم على ذلك. قوله تعالى: {فَنَسِيَ} (88)؛أي فنسي السامريّ الإسلام؛ أي فتركه، وقيل: معناه: قال السامريّ لمن وافقه على كفره: إن موسى أراد هذا العجل، فترك الطريق الذي كان يصل إليه؛ أي أن موسى ترك إلهه هنا، وذهب يطلبه.

قوله تعالى: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً؛} أفلا يرى السامريّ وأصحابه (أنّه) يعني العجل لا يردّ إليهم جوابا، {وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً} (89)؛جرّ منفعة ولا دفع ضرّ شيء.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ؛} وذلك أن السامريّ لمّا دعاهم إلى عبادة العجل وقال لهم: إنّ هذا إلهنا وإله موسى، وأن موسى معنيّ في طلبه، وهو ههنا.

(1)

طه 96/.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (18307 - 18308).

ص: 257

فقام هارون فيهم خطيبا، وقال: يا قوم إنّما فتنتم بعبادة العجل، {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ؛} لا العجل، {فَاتَّبِعُونِي؛} لما أدعوكم اليه، {وَأَطِيعُوا أَمْرِي} (90)؛لا أمر السامريّ، فعصوه؛

{قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ؛} أي لا نزال مقيمين على عبادته، {حَتّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى} (91)؛ومعنى قوله تعالى {(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ)} أي من قبل أن يأتي موسى.

فلما رجع موسى؛

{قالَ} لهارون: {يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا} (92)؛بعبادة العجل،

{أَلاّ تَتَّبِعَنِ؛} لا زائدة؛ أي ما منعك من اتّباعي واللحوق بي بمن أقام على إيمانه، {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} (93)؛بإقامتك بينهم وقد كفروا، ثم أخذ موسى برأس هارون ولحيته غضبا منه عليه ف

{قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي؛} ولا بشعر رأسي، {إِنِّي خَشِيتُ؛} إن فارقتهم واتبعتك بمن أقام على دينك أن يتفرّقوا أحزابا، وخشيت أن يقتل بعضهم بعضا و {أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ؛} أي ولم تحفظ، {قَوْلِي} (94)؛وصيّتي، ولم تنتظر قدومي وأمري، فلذلك لم أتّبعك بمن أقام منهم على دينك.

قال ابن عبّاس: (كان هارون أخا موسى لأبيه وأمّه، وإنّما قال: يا ابن أمّ ليرفقه ويستعطفه عليه)،وفي قوله {(يَا بْنَ أُمَّ)} قراءتان، من قرأ بفتح الميم جعله بمنزلة اسم واحد يصل الثاني بالأول، مثل خمسة عشر، ومن قرأ بالكسر فعلى معنى الإضافة، ودلّت كسرة الميم على الياء التي بعدها.

فإن قيل: كيف جاز أن يأخذ موسى بلحية هارون ورأسه مع أن ذلك يقتضي الاستخفاف به؟ قيل: لأن العادة في ذلك الوقت لم تكن كهذه العادة، بل كان ذلك في زمانهم يجري مجرى القبض على يده، وقيل: لأنه أجرى هارون مجرى نفسه؛ لأنه لم يكن يتّهم، كما لا يتهم على نفسه، فقد يأخذ الإنسان بلحية نفسه إذا غضب، ويقال:

(إنّ عمر عليه السلام كان إذا غضب يفتل شاربه).

قوله تعالى: {(أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي)} أي فتركت وصيّتي، قوله تعالى:{(وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي)} يعني: ولم تحفظ وصيّتي حين قلت لك أخلفني في قومي وأصلح.

ص: 258

فلما اعتذر هارون بهذا العذر أقبل موسى على السامريّ؛

{قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ} (95)؛أي ما شأنك وما الذي دعاك إلى ما صنعت؟ وقيل:

معناه: ما هذا الخطب العظيم الذي دعاك إلى ما صنعت، والخطب هو الجليل من الأمر.

قال قتادة: (كان السّامريّ من عظماء بني إسرائيل، من قبيلة يقال لها سامرة، ولكنّه بعد ما قطع البحر مع بني إسرائيل مرّ بجماعة وهم يعكفون على أصنام لهم ومعه بنو إسرائيل، فقالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، فاغتنمها السّامريّ فاتّخذ العجل)،

{قالَ؛} السّامريّ مجيبا لموسى: {بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ؛} أي رأيت ما لم يروا، بصرت به، وعرفت ما لم يعرفوا وفطنت ما لم يفطنوا، قال له موسى: وما الذي بصرت به دون بني إسرائيل؟

قال: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ؛} من حافر فرس جبريل، وكان قد ألقي في نفسي أن أقبضها؛ وما ألقيه على شيء إلاّ صار له روح ولحم ودم، فحين رأيت قومك طلبوا منك أن تجعل لهم إلها حدّثتني نفسي بذلك، {فَنَبَذْتُها} أي فطرحتها في العجل، {وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} (96)؛أي زيّنت لي نفسي من أخذ القبضة وإبقائها في صورة العجل. وقيل: معناه {(وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)} اي أطمعتني نفسي في أن العجل ينقلب حيوانا.

وقرأ الحسن: «(فقبصت قبصة)»

(1)

بالصاد فيهما، والفرق بينهما أن القبض بجميع الكفّ، والقبص بأطراف الأصابع.

قوله تعالى: {قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ؛} أي قال موسى: فاذهب من بيننا، فإن لك ما دمت حيّا أن تقول:{(لا مِساسَ)} أي لا أمسّ ولا أمسّ ولا أخالط، وأمر موسى أن لا يؤاكلوه ولا يخالطوه ولا يبايعوه، فحرّم عليهم مخالطة السامريّ زجرا لفعله، وكان هو يقيم في البريّة مع الوحوش والسّباع.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (18332).

ص: 259

ويقال: إنه ابتلي بالوسواس، ويقال: إنّ موسى همّ بقتل السامريّ فقال الله: لا تقتله فإنه سخيّ! فكان السامريّ إذا لقي أحدا يقول: لا مساس؛ أي لا تقربني ولا تمسّني، وذلك عقوبة له ولولده، عاقبه الله بذلك حتى أن بقاياهم اليوم يقولون كذلك. وذكر أنه إذا مسّ واحد من نسله أحدا من غيرهم حمّ كلاهما في الوقت.

قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ؛} معناه: وإن لك يا سامريّ أجلا يكافئك الله فيه على ما فعلت وهو يوم القيامة.

قرأ الحسن وابن مسعود: «(نخلفه)»

(1)

وابن كثير وابن عامر «(تخلفه)» بكسر اللام؛ أي لن يغيب عنه بل يوافقه، ولا مذهب لك عنه، وقرأ الباقون بفتح اللام بمعنى لن يخلفه الله.

قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ؛} أي وانظر إلى العجل الذي أقمت على عبادته، وزعمت أنه إلهك ومعبودك، {الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً؛} أي مقيما تعبده، تقول العرب ظلت أفعل كذا بمعنى ظللت.

قوله تعالى: {لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً} (97)؛قال ابن عبّاس: (حرّقه بالنّار، ثمّ ذرّاه في اليمّ) وهذه القراءة تدلّ على أن ذلك العجل صار حيوانا لحما ودما لأن الذهب والفضّة لا يمكن إحراقهما بالنار.

وذكر في بعض التفاسير: أن موسى أخذ العجل فذبحه فسال منه دم، لأنّه كان قد صار دما ولحما، ثم أحرقه بالنار ثم ذرّاه في البحر

(2)

.

وكان الحسن يقرأ «(لنحرقنّه)» بالتخفيف، ومعناه: لنذبحنّه ثم لنحرقنه بالنار، لأنه لا يجوز إحراق الحيوان قبل الذبح كما روي في الخبر: [لا تعذّبوا أحدا

(1)

سقطت من المخطوط: (وابن مسعود: نخلفه).وفي الكشاف: ج 3 ص 83؛ قال الزمخشري: (وعن ابن مسعود: (نخلفه) بالنون، أي لن يخلفه الله).وفي اللباب في علوم الكتاب: ج 13 ص 375؛قال ابن عادل: (وابن مسعود والحسن بضم نون العظمة وكسر اللام).وقال: (والمعنى: لن يخلف الله موعده الذي وعدك).

(2)

ذكره البغوي أيضا في معالم التنزيل: ص 826.

ص: 260

بعذاب الله]

(1)

.

وقرأ أبو جعفر وأشهب العقيلي: «(لنحرقنّه)» بنصب النون وضمّ الراء؛ أي لنبردنّه بالمبرد، يقال: حرقت الشيء أحرقه إذا بردته

(2)

،والمحرق هو المبرد، وهذه القراءة تدلّ على أن العجل كان ذهبا، ولكن كان له خوار. قوله تعالى:{(ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً)} أي لنذرّيه في البحر تذرية، يقال: نسف فلان الطعام بالمنسف إذا ذرّاه ليطير عنه قشوره وترابه.

قوله تعالى: {إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ؛} أي قال لهم موسى: {(إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ)} أي لا معبود للخلق سواه، فهو الذي يستحقّ العبادة لا العجل. قوله تعالى:{وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} (98)؛أي أحاط علمه بكلّ شيء، فلا يخفى عليه شيء من أعمال العباد.

قوله تعالى: {كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ؛} أي كما قصصنا عليك يا محمّد خبر موسى وقومه كذلك نقصّ عليك من أخبار من قد مضى وتقدّم من أخبار الرّسل وأممهم، {وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنّا ذِكْراً} (99) أي وقد أكرمناك بالقرآن العظيم.

قوله تعالى: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً} (100)؛ أي من أعرض عن القرآن فلم يؤمن به فإنه يحمل يوم القيامة إثما. والوزر هاهنا:

الحمل الثقيل من الإثم.

قوله تعالى: {خالِدِينَ فِيهِ؛} أي مقيمين في عقوبة ذلك الإثم وعذابه، {وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً} (101)؛أي ساء وزرهم، يومئذ حملا.

(1)

أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الجهاد والسير: الحديث (3017).والترمذي في الجامع: كتاب الحدود: باب ما جاء في المرتد: الحديث (1458).

(2)

في مختار الصحاح: (حرق) قال الرازي: (و (حرق) الشيء بالتخفيف، برده وحكّ بعضه ببعض).

ص: 261

قوله تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ؛} قرأ أبو عمرو بنون مفتوحة، وقرأ الباقون بياء مضمومة غير تسمية الفاعل، والصّور: قرن ينفخ فيه يومئذ؛ ليقوم الناس من قبورهم مثل بوق الرّحيل وبوق النّزول.

قوله تعالى: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} (102)،قيل: معناه: قد ازرقّت أعينهم من شدّة العطش؛ لأن العطش إذا اشتدّ يغيّر سواد العين إلى الزّرقة.

وقيل: معناه: عميا، ومعنى الزّرقة الخضرة في سواد العين كعيني السّنّور، والمعنى في هذا: تشويه الخلق سواد الوجوه، وزرقة العيون.

قوله تعالى: {يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ؛} أي يتشاورون فيما بينهم، يقول بعضهم لبعض:{إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ عَشْراً} (103)؛أي ما لبثتم من النّفخة الأولى إلى الثانية إلاّ عشر ليال، وذلك أنّهم يكفّ عنهم العذاب فيما بين النّفختين وهو أربعون سنة، فاستقصروا مدّة لبثهم لهول ما عاينوا. وقيل: معناه: يقولون ما لبثتم في الدّنيا إلاّ عشر ليال، وذلك لشدّة ما يرون من هول يوم القيامة ينسون ما لبثوا في الدّنيا.

قوله تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً؛} أي أعلمهم عندهم، {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّ يَوْماً} (104)؛نسوا مقدار لبثهم لشدّة وهمهم، فقالوا هذا القول وهو كذب منهم.

قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ؛} أي يسألك الكفار عن حال الجبال يوم القيامة: أين تذهب مع عظمها. وقال ابن عبّاس: (سأل رجل من ثقيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف تكون الجبال يوم القيامة؟ فأنزل الله هذه الآية

(1)

.

قوله تعالى: {فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً} (105)؛أي يصيّرها رملا تسيل سيلا، ثم يرسل عليها الرياح فتفرّقها كتذرية الطعام من القشور والتراب، فيصيّرها كالهباء وكالصّوف المنفوش.

(1)

ينظر: معالم التنزيل للبغوي: ص 827.

ص: 262

قوله تعالى: {فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً} (106)؛أي أرضا ملساء مستوية لا نبات فيها، والصّفصف: الأملس الذي لا نبات فيه.

قوله تعالى: {لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً} (107)؛قال ابن عبّاس: (العوج: الأودية، والأمت: الرّوابي)

(1)

، وقال مجاهد:(انخفاضا وارتفاعا)

(2)

،وقال قتادة:(لا ترى فيها صدعا ولا أكمة)

(3)

، وقال الحسن:(العوج: ما انخفض من الأرض، والأمت: ما يستر من الرّوابي)، ويقال: مدّ حبله حتى ما ترك فيه أمتا، وملأ سقاءه حتى ما ترك فيه أمتا؛ أي انثناء.

قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ؛} أي يومئذ يتّبعون داعي الله الذي يدعوهم إلى موقف القيامة وهو اسرافيل لا عوج لدعائه، وقيل: لا عوج لهم عن دعائه؛ أي لا يزيغون عنه، بل يتبعونه سرايا لا يعدلون عن الطريق يمينا ولا شمالا ولا يملكون التأخّر.

قوله تعالى: {وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ؛} أي ذلّت الأصوات لهيبة الرّحمن، وقيل: سكنت الأصوات له، فوصف الأصوات بالخشوع، والمعنى لأهلها، قوله تعالى:{فَلا تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً} (108)؛أي إلاّ صوتا خفيّا يعني صوت نقل الأقدام إلى المحشر.

والهمس: الصوت الخفيّ كأخفاف صوت الإبل في المشي. وقال ابن عبّاس:

(معنى الهمس تحريك الشّفاه بغير منطق) وهو قول مجاهد

(4)

،والكلام الخفيّ، والمعنى على هذا التفسير: سكنت الأصوات فلا يجهر أحد بكلام إلاّ كالمشير من الإشارة بالشّفة، وتحريك الفم من غير صوت.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (18357).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (18358).

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (18360).

(4)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (18367).وفي الدر المنثور: ج 5 ص 600؛قال السيوطي: (أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد).

ص: 263

قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ؛} أي لا تنفع لأحد من الناس إلاّ من أذن الله أن يشفع له فذاك الذي تنفعه الشفاعة، وقيل:

لا تنفع شفاعة أحد إلاّ من أذن له الرّحمن في أن يشفع. قوله تعالى: {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} (109)؛في الدّنيا وهم المؤمنون، فإنّ الله لا يرضى إلاّ قول المؤمنين.

قوله تعالى: {يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ؛} هذا كناية راجعة إلى الّذين يتّبعون الداعي؛ أي يعلم ما قدّموا واخلفوا. قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (110)؛الكناية تعود إلى ما في قوله (ما بين أيديهم وما خلفهم) أي هو يعلم ذلك.

قوله تعالى: {*وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ؛} أي ذلّت الوجوه وخضعت واستسلمت للحيّ الذي لا يموت، القائم الذي لا ندّ له، والعاني في اللغة:

هو الأسير، ومنه قولهم: أخذت الشيء عنوة؛ أي غلبة بدل المأخوذ منه، قال الشاعر:

مليك على عرش السّماء مهيمن

لعزّته تعنو الوجوه وتسجد

وقال الحسن: (القيّوم: القائم على كلّ نفس بما كسبت حتّى يجزيها).قوله تعالى: {وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} (111)؛أي خاب من ثواب الله من حمل شركا، ومعنى خاب أي خسر.

قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً؛} في سيّئاته، {وَلا هَضْماً} (112)؛بالنّقصان من حسناته، والهضم: النّقص؛ يقال: هضمني فلان حقّي؛ أي نقصني، وهذا شيء يهضم الطعام أي ينقص نقله.

قوله تعالى: {وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا؛} أي وهكذا أنزلناه قرآنا على اللّغة العربية، {وَصَرَّفْنا فِيهِ؛} أي وكرّرنا فيه، {مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ؛} وقيل: معنى {(وَصَرَّفْنا)} أي بيّنّا فيه من الوعيد، يعني الوقائع في الأمم المكذّبة؛ لكي يتّقوا الشّرك بالاتّعاظ بمن قبلهم، {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} (113)؛ أي يحدث لهم القرآن اعتبارا فيذكروا به عقاب الله، وقيل: معناه: أو يحدث لهم

ص: 264

ذكرا شرفا بإيمانهم، كما قال تعالى {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}

(1)

أي شرف لك ولقومك.

قوله تعالى: {فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ؛} أي ارتفعت صفة الرّحمن فوق كلّ شيء سواه، لأنه أقدر من كلّ قادر، وأعلم من كلّ عالم، وكلّ قادر وعالم سواه محتاج إليه، وهو غنيّ عنه، قوله {(الْمَلِكُ الْحَقُّ)} أي يحقّ له الملك، وإن كان ملك سواه يملك بعض الأشياء ويبيد ملكه.

قوله تعالى: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ؛} قال الحسن: [كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي عجّل بقراءته مخافة نسيانه، وكان يقرأ مع الملك مخافة أن يذهب عنه، فنهي عن ذلك] فقال {(وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ)} أي بقراءته من قبل أن يفرغ جبريل من تلاوته عليك)

(2)

.قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (114)؛أي زدني حفظا لا أنساه.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ؛} أي أمرناه أن لا يأكل من الشّجرة من قبل هؤلاء الذين نقضوا عهدي، وتركوا الإيمان بي، وهم الذين ذكرهم الله في قوله {(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)} ،والمعنى أن هؤلاء الذين صرّف لهم في القرآن الوعيد إذ ضيّعوا عهدي وخالفوا أمري، فإنّ أباهم آدم عليه السلام عهدنا إليه أيضا، {فَنَسِيَ؛} وترك عهدي وما أمر به، {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} (115)؛أي لم نجد له حفظا لما أمرنا به.

وقال الحسن: (معناه: ولم نجد له صبرا عمّا نهي عنه، ولم نجد له رأيا معزوما عليه)،حيث أطاع عدوّه إبليس الذي حسده وأبى أن يسجد له. قال الحسن:

(كان عقل آدم كعقل جميع ذرّيّته)،قال الله {(وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)}.وجاء في الحديث:

[لو وزن حلم بني آدم مذ كان آدم إلى أن تقوم السّاعة لرجح حلم آدم على

(1)

الزخرف 44/.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير: ج 7 ص 2437.وفي الدر المنثور: ج 5 ص 602؛ قال السيوطي: (أخرجه الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه).

ص: 265

حلمهم، وقد قال الله تعالى:{(وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)} ]

(1)

.

قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبى} (116)؛قد تقدّم تفسيره.

قوله تعالى: {فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ؛} أي لك ولامرأتك، فلا تميلا إليه، ولا تعيلا منه، {فَلا يُخْرِجَنَّكُما؛} أي فيكون ذلك سبب خروجكما، {مِنَ الْجَنَّةِ؛} إلى شدائد الدنيا وجوعها وعطشها وفقرها وتعبها في طلب المعاش، وهذا معنى قوله:

{فَتَشْقى} (117)؛أي تتعب بالأكل من كدّ يدك، وما تكسبه لنفسك، والمعنى:

إنّ عيشك لا يكون إلاّ من كدّ يمينك وعرق جبينك. قال سعيد بن جبير: (أهبط الله إلى آدم ثورين، فكان يحرث عليهما، ويمسح العرق عن جبينه)

(2)

فهو شقاؤه الذي قال الله تعالى، وكان من حقّه أن يقول: فيشقيا أو تشقى أنت وزوجك، لكن غلّب المذكّر؛ لأن تعبه أكثر، وقيل: لأجل رءوس الآي.

قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى} (118)؛أي إنّك ما دمت مقيما في الجنّة على طاعة الله فلا تجوع فيه ولا تعرى؛ أي لكثرة أثمارها وأثوابها ونعيمها،

{وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها؛} أي لا تعطش، {وَلا تَضْحى} (119)؛أي ولا تبرز إلى الشّمس؛ لأنه ليس في الجنّة شمس، إنّما هو ظلّ ممدود. وقرئ:«(وإنّك لا تظمأ)» بكسر الهمزة عطفا على {(إِنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ)} ،وقرئ بالنصب عطفا على «(أن لا تجوع)» .

قوله تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ؛} أي وسوس له ليأكل من الشجرة ف {قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ؛} أي على شجرة من أكل منها خلّد ولم يمت، {وَمُلْكٍ لا يَبْلى} (120)؛ويبقى في ملك لا يبلى ولا يفنى.

(1)

ذكره السيوطي في الدر المنثور موقوفا على محمّد بن كعب: ج 5 ص 604؛وقال: (أخرجه ابن المنذر).وذكره ابن عادل الحنبلي في اللباب في علوم الكتاب موقوفا على أبي أمامة الباهلي: ج 13 ص 402.

(2)

في الدر المنثور: ج 5 ص 605؛ قال السيوطي: (أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر).

ص: 266

قوله تعالى: {فَأَكَلا مِنْها؛} أي أكل آدم وحوّاء من الشجرة على وجه الخطأ في التأويل لا تعمّدا في المعصية إذ الأنبياء عليهم السلام لا يقيمون المعصية، وهم أشدّ خوفا من الله أن يفعلوا ذلك. لأنّ بعض المفسّرين قال: إن الله تعالى أشار بالنّهي إلى شجرة بعينها، فقال له: لا تأكل من هذه الشجرة، وأرادوا جنس تلك الشجرة، فنسي آدم الاستدلال بذلك على الجنس، فحمل النهي على العين.

وهذا كما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنّه أخذ الذهب بإحدى يديه، والحرير بالأخرى، وقال:[هذان حرامان على ذكور أمّتي، حلّ لإناثهم]

(1)

وأراد به الجنس دون العين.

قوله تعالى: {فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما؛} أي ظهرت لهما عوراتهما، وإنّما جمع السّوءات ولم يثنّهما؛ لأن كلّ شيء من شيء فهو جمع في موضع التثنية.

قوله تعالى: {وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما؛} أي جعلا يقطعان عليهما، {مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ؛} ويجعلانه على سوءاتهما.

وقوله تعالى: {وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ؛} أي عصاه بأكل الشجرة، {فَغَوى} (121)؛أي فعل ما لم يكن له فعله. وقيل: ضلّ حين طلب الخلد بأكل ما نهي عن أكله. وقيل: الغيّ الفساد؛ أي فسد عليه عيشه، وقيل:{(فَغَوى)} أي أخطأ، وقيل: خاب في طلبه في أكل الشجرة.

قوله تعالى: {ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ؛} أي اجتباه للرّسالة، وقيل: قرّبه، {فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى} (122)؛إلى ذكره، وقيل: اصطفاه فتاب عليه وهداه حين قال {رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا}

(2)

الآية.

(1)

عن عمر بن الخطاب؛ أخرجه الطبراني في الأوسط: الحديث (3629).في مجمع الزوائد: ج 5 ص 143؛قال الهيثمي: (وفيه عمرو بن جرير وهو متروك).وعن علي بن أبي طالب؛ أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الصلاة: باب الرخصة في الحرير والذهب للنساء: الحديث (4320).

(2)

الأعراف 23/.

ص: 267

قوله تعالى: {قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً؛} قد تقدم تفسيره، قوله تعالى:

{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ؛} يعني آدم وذريّته وإبليس وذريّته، قوله تعالى:{فَإِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً؛} أراد به الكتاب والرّسول، {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ؛} أي من اتّبع الكتاب والرسول، {فَلا يَضِلُّ} في الدّنيا، {وَلا يَشْقى} (123) في الآخرة. قال ابن عبّاس رضي الله عنه:(ضمن الله لمن قرأ القرآن وعمل به أن لا يضلّ ولا يشقى)

(1)

.

قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي؛} أي عن موعظتي، وقيل:

عن القرآن فلم يؤمن به ولم يتّبعه، {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً،} الضّنك: الضيّق والشدة والصّعوبة. قال ابن عبّاس: (يعني أنّ عيشه يكون منغّصا عليه غير موقن بالخلف والجزاء)،وقال عبد الله بن مسعود وأبو سعيد الخدريّ والسديّ:(معنى قوله {(مَعِيشَةً ضَنْكاً)} عذاب القبر؛ يضيق عليه حتّى تختلف أضلاعه)

(2)

،وقال الحسن:(هو الضّريع والزّقّوم في النّار)،قال عكرمة:(هو أكل الحرام في الدّنيا الّذي يؤدّيه إلى النّار).

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [أتدرون ما المعيشة الضّنكة؟] قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:[عذاب الكافر في قبره، والّذي نفسي بيده إنّه ليسلّط عليه تسعة وتسعون تنّينا، لكلّ تنّين سبعة رءوس، ينهشونه ويلسعونه ويخدشون لحمه إلى يوم القيامة، ولو أنّ تنّينا نفخ في الأرض لم تنبت شيئا]

(3)

.وقال ابن زيد: (المعيشة الضّنكى: الزّقّوم والغسلين والضّريع)،وقال الضحّاك:(الكسب الخبيث)،وقيل: إذا كان العبد سيّء الظنّ بالله ضاق عليه عيشه وضنك. وقال ابن جبير: (معنى قوله:

{(فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً)} أي سلبه القناعة حتّى لا يشبع).

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (18408).وابن أبي حاتم في التفسير: ج 7 ص 2438.

(2)

في الدر المنثور: ج 5 ص 607؛ قال السيوطي: (أخرجه عبد الرزاق وسعيد بن منصور ومسدد في مسنده وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في عذاب القبر عن أبي سعيد الخدري مرفوعا).

(3)

رواه ابن حبان في الصحيح: الحديث (3122).والآجري في الشريعة: ج 3 ص 1273:الحديث (840)،وإسناده حسن.

ص: 268

قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى} (124)؛قال ابن عبّاس:

(عمى البصر)،وقال مجاهد:(أعمى عن الحجّة؛ أي لا حجّة له يهتدي إليها)

(1)

،

{قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} (125)؛بعينيّ،

{قالَ كَذلِكَ؛} تكون كما {أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها؛} أي فتركتها وأعرضت عنها، {وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى} (126)؛أي تترك في النار.

قوله تعالى: {وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ؛} أي كما جزينا من أعرض عن القرآن، كذلك نجزي من أسرف على نفسه بالمعاصي، {وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى} (127)؛أي أشدّ من عذاب الدّنيا وأدوم، لأن عذاب الدّنيا ينقطع.

قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ؛} من قرأ بالياء فمعناه: ألم نبيّن، يعني كفّار مكّة كم أهلكنا قبلهم من القرون، والمعنى: ألم نبيّن لهم طرق الاعتبار بكثرة إهلاكنا القرون قبلهم بتكذيب الرسل فيعتبروا ويؤمنوا. وكانت قريش تتّجر إلى الشّام فترى مساكن قوم لوط وثمود وعلامات الإهلاك. ومن قرأ بالنّون فمعناه: ألم نبيّن لأهل مكة بيانا يهتدون به فيرتدعوا عن المعاصي. قوله تعالى:

{يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى} (128)؛أي لذوي العقول.

قوله تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى} (129)؛ معناه: ولولا كلمة سبقت من ربك في تأخير العذاب عن هؤلاء الكفّار إلى يوم القيامة، قوله {(وَأَجَلٌ مُسَمًّى)} لكان العذاب لازما لهم، واقعا في الحال. وتقدير الآية:

ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمّى لكان لازما؛ أي لكان العذاب لازما لهم في الدّنيا، كما لزم القرون الماضية الكافرة.

قوله تعالى: {فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ؛} أي فاصبر يا محمّد على ما يقولون من الشّتم والتكذيب فسيعود عليهم وبال ذلك، قوله تعالى:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ؛} أي صلّ صلاة الفجر، {وَقَبْلَ غُرُوبِها؛} يعني صلاة

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (18426).

ص: 269

العصر، {وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ؛} يعني المغرب والعشاء، وآناء اللّيل ساعاته.

قوله تعالى: {وَأَطْرافَ النَّهارِ؛} يعني صلاة الظهر، قال قتادة:(كأنّه ذهب إلى أنّه آخر النّصف الأوّل من النّهار طرف، وأوّل النّصف الثّاني طرف).وقال الحسن: {(وَقَبْلَ غُرُوبِها)} :الظّهر والعصر، {(وَأَطْرافَ النَّهارِ)}:صلاة التّطوّع).قوله تعالى: {لَعَلَّكَ تَرْضى} (130)؛قرأ الكسائيّ وأبو بكر بضمّ التاء؛ أي تعطى الرّضى بالدرجات الرفيعة، يرضاك الله ويسمى مرضيّا، وتصديقه قوله تعالى:{وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}

(1)

.وقرأ الباقون {(تَرْضى)} بفتح التاء؛ أي لعلّك ترضى بالثّواب والشّفاعة، ودليل ذلك قوله تعالى:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى}

(2)

،والمعنى: أقم هذه الصّلوات لكي تعطى من الثواب ما ترضى

(3)

.

قوله تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا؛} أي لا تنظرنّ بعين الرّغبة إلى ما متّعنا به رجالا منهم زينة الحياة الدّنيا، {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ؛} أي لنختبرهم في ما أعطيناهم من الزّينة. وقيل: لنجعله فتنة لهم وضلالا بأن أزيد لهم في النعمة، فيزدادوا كفرا وطغيانا.

قال أبو رافع: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهوديّ، فقال:[قل له: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني إليك لتسلفه كذا وكذا من الدّقيق، أو تبيعه وتصبر عليه إلى هلال رجب] فأتيته، فقال: والله ما أبيعه ولا أسلفه إلاّ برهن! فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال:

[والله لو باعني أو أسلفني لقضيته، وإنّي لأمين في الأرض، اذهب بدرعي إليه] ثمّ حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، فنزلت هذه الآية كأنه يعزّيه عن الدّنيا)

(4)

.

(1)

مريم 55/.

(2)

الضحى 5/.

(3)

ينظر: جامع البيان: ج 9 ص 291.

(4)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (18453 - 18454).وابن أبي حاتم في التفسير: النص (13587).وفي الدر المنثور: ج 5 ص 612؛ قال السيوطي: (أخرجه ابن أبي شيبة وابن راهويه والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والخرائطي في مكارم الأخلاق وأبو نعيم في المعرفة).

ص: 270

وقيل: معنى قوله تعالى {(أَزْواجاً)} أي أصنافا من نعم الدّنيا وزهرتها. قوله:

{وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى} (131)؛أي ورزق ربك الذي وعدك في الجنّة خير وأبقى مما رزق هو.

قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها؛} أي وأمر قومك الذين على دينك، {لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً؛} لخلقنا ولا لنفسك، لم نخلقك لحاجتنا إليك كحاجة السّادة إلى عبيدهم، بل {نَحْنُ نَرْزُقُكَ؛} ونرزق جميع خلقنا. قوله تعالى:{وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى} (132)؛أي والعاقبة المحمودة لمن يتّقي الله ولا يعصيه، وتقديره: والعاقبة لأهل التقوى. [وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليه بعض الضيّق في الرّزق أمر أهله بالصّلاة، ثمّ قرأ هذه الآية {(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ)} إلى آخرها]

(1)

.

قوله تعالى: {وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ؛} أي قال المشركون من أهل مكّة: هلاّ يأتينا محمّد بآية من ربه كما أتى بها الأنبياء، نحو الناقة والعصا، {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى} (133)؛أي بيان ما في التّوراة والإنجيل من البشارة بما وافقهما من صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقيل: معناه: أولم يأتهم ما في الصّحف الأولى من أنبياء الأمم الذين أهلكناهم لمّا سألوا الآيات ثم كفروا بها، فماذا يؤمّنهم أن يكون حالهم في سؤالهم الآية كحال أولئك. وهذا البيان إنّما قصّ عليهم في القرآن.

قوله تعالى: {وَلَوْ أَنّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ؛} أي لو أنّا أهلكناهم بعذاب الاستئصال من قبل إرسال الرّسل لقالوا: هلاّ أرسلت إلينا رسولا يرشدنا إلى دينك فنتّبع دلائلك، {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ؛} في الدّنيا بالقتل ونفضح في الآخرة بالعذاب. والمعنى: ولو أنّا أهلكنا كفّار مكّة بعذاب من قبل بعث محمّد صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن لقالوا يوم القيامة:

(1)

رواه الطبراني في الأوسط: الحديث (890).والبيهقي في شعب الإيمان: الحديث (9705).وفي مجمع الزوائد: ج 7 ص 67؛قال الهيثمي: (ورجاله ثقات).

ص: 271

ربّنا هلاّ أرسلت إلينا رسولا يدعونا إلى طاعتك فنتّبع آياتك من قبل أن ينزل العذاب، {وَنَخْزى} (134)؛في جهنّم.

قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا؛} أي قل لهم يا محمّد: كلّ منّا ومنكم منتظر، فانتظروا نحن ننتظر بكم ما وعدنا الله فيكم من النّصر والفتح، وأنتم تنتظرون بنا أن نموت فتستريحون منّا، وذلك أنّهم كانوا يقولون: نتربّص بمحمّد ريب المنون. قوله تعالى: {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى} (125)؛فستعلمون بعد هذا إذا قامت القيامة من أصحاب الدّين المستقيم، ومن اهتدى إلى الرّشد والصلاح نحن أم أنتم!

وعن أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [من قرأ سورة طه أعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار]

(1)

.

آخر تفسير سورة (طه) والحمد لله رب العالمين

(1)

ينظر: تفسير الكشاف: ج 3 ص 97،والحديث موضوع.

ص: 272