الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة مريم
سورة مريم مكّيّة، وهي ثلاثة آلاف وثمانمائة حرف، وتسعمائة واثنتان وستّون كلمة، وثمان وتسعون آية.
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}
{كهيعص} (1)؛قال ابن عبّاس: (أوّل هذه السّورة ثناء أثنى به الرّبّ على نفسه، والكاف من كاف، والهاء من هاد، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصّاد من صادق وصمد)
(1)
.وقيل: معناه: كاف لخلقه هاد لعباده، يده فوق أيديهم، عالم ببريّته، صادق في وعده
(2)
.
قوله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّا} (2)؛أي بهذا اذكر رحمة ربك على زكريّا، أو ما يتلى عليكم ذكر رحمة ربك، و {(عَبْدَهُ)} منصوب بالرحمة.
قوله تعالى: {إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا} (3)؛أي إذ دعا ربّه سرّا في جوف اللّيل مخلصا لم يطّلع عليه إلاّ الله،
{قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي؛} أي ضعف منّي.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الآثار (17658 - 17681).
(2)
يلاحظ هنا: أن القرآن كلام عربي اللغة والأسلوب؛ خاطب الله به الناس بما تدل عليه اللغة بأفرادها واستعملته العرب بلسانها، وأصل الكلام عند العرب ما دلّ على معنى، والحروف بأفرادها لا تدل على معنى إلا إذا اجتمعت وغدت كلمة، وهي اسم وفعل وحرف جاء لمعنى حين يقرن مع غيره. لهذا لا نجد أن اللغة تدل على ما ذكر من أن الكاف تدل على الكبير أو الكافي أو غير ذلك من الحروف ما أشاروا إلى احتمال دلالتها. ويبقى مثل هذا عرضة للتأمل ويفتقر إلى الجزم، وهو ضرب من التفكر العقلي المحض. والله أعلم
قال قتادة: (شكا ذهاب أضراسه)،والوهن في اللغة: نقصان القوّة، {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً؛} يقول: شخت وضعفت، ومن الموت قربت.
والاشتعال: انتشار شعاع النّار، واشتعاله في الشّيب من أحسن الاستعارة؛ لأنه ينتشر في الرأس، كما ينتشر شعاع النار. قوله تعالى:{(شَيْباً)} نصب على المصدر، وهذا يدلّ على أن أفضل الدّعاء دعاء السرّ، كما قال صلى الله عليه وسلم:[خير الدّعاء الخفيّ، وأفضل الرّزق ما يكفي]
(1)
.
قوله تعالى: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} (4)؛أي كنت تجيبني إذا دعوتك، وقد عوّدتني الإجابة في ما مضى فلم لا تجيبني.
قوله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي؛} أي خفت العصبة وبني العمّ أن يرثوا علمي دون من كان من نسلي، ويقال: خفتهم على الدّين من ورائي؛ لأنّهم كانوا من أشرار بني إسرائيل. قرأ يحيى بن يعمر: «(خفّت)» بفتح الخاء وتشديد الفاء، و «(الموالي)» بسكون الياء، يعني ذهبت الموالي.
وقلت: وقوله تعالى: {(مِنْ وَرائِي)} أي بعد موتي. قوله تعالى: {وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً؛} أي عقيما من الولد، والرجل العاقر: الذي لا يولد له. وامرأته هي أخت أمّ مريم بنت عمران بن ماثان.
قوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} (5)؛أي أعطني من عندك ولدا،
{يَرِثُنِي،} يرث نبوّتي ومكاني {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ؛} العلم والنبوّة، أراد بذلك يعقوب بن ماثان وهم أخوال يحيى، وبنو ماثان كانوا رؤساء بني إسرائيل، وليس يعقوب هذا أبو يوسف. قرأ أبو عمرو والكسائي:«(يرثني ويرث)»
(1)
الحديث عن سعد بن أبي وقاص؛ أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 1 ص 172 و 178 و 180. وابن حبان في موارد الضمآن: كتاب الرقائق: باب الذكر: الحديث (2323)؛بلفظ: [خير الذّكر الخفيّ، وخير الرّزق ما يكفي].وإسناده ضعيف؛ فيه محمّد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة. في مجمع الزوائد: ج 10 ص 81؛قال الهيثمي: (رواه أحمد وأبو يعلى، وفيه محمّد بن عبد الرحمن وقد وثقه ابن حبان، قلت: وضعفه ابن معين، وبقية رجاله رجال الصحيح).
بالجزم فيهما على جواب الدّعاء، وقرأ الباقون برفعهما على الحال والصّفة. وقوله تعالى {(وَلِيًّا)} أي واليا.
قوله تعالى: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} (6)؛أي وفّقه للعمل حتى يصير ممّن ترضاه. وقال أبو صالح: (معناه: واجعله رب نبيّا كما جعلت أباه).وقيل:
اجعله صالحا تقيّا برّا مرضيّا.
وذهب بعض المفسّرين أنّ معنى قوله تعالى {(يَرِثُنِي)} اي يرث مالي، إلاّ أنّ حمل الآية على ميراث العلم أولى؛ لأن الأنبياء كانوا لا يشحّون بالمال، ولا يتنافسون على مصير المال بعد موتهم إلى مستحقّه؛ ولأنه قال {(وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)} ولم يرد بذلك المال، ولأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:[إنّا-معشر الأنبياء-لا نورث ما تركناه صدقة]
(1)
وإنّما دعاء زكريا بالولد ليلي أمور الدّين بعده؛ لخوفه من بني أعمامه أن يبدّلوا دينه بعد وفاته، وخاف أن يستولوا على علومه وكتبه فيحرّفونها، ويواكلون الناس بها، ويفسدون دينه، ويصدّون الناس عنه.
قوله: {يا زَكَرِيّا إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى؛} معناه: إنّ الله استجاب له فأوحى إليه: {(يا زَكَرِيّا إِنّا نُبَشِّرُكَ)} أي نفرّحك {(بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى)} ؛لأنّ الله أحيا به الإيمان والحكمة. قوله تعالى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} (7) قال الكلبيّ وقتادة: (معناه: لم نسمّ أحدا قبله يحيى)
(2)
،قال ابن جبير وعطاء:(لم نجعل له شبيها ولا مثلا؛ لأنّه لم يعص ولا يهمّ بمعصية).وقيل: لم تلد العواقر مثله.
وإنّما قال {(مِنْ قَبْلُ)} لأنه تعالى أراد أن يخلق بعده أفضل منه وهو محمّد صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن الله تعالى لم يرد بهذا القول جمع الفضائل كلّها ليحيى، وإنّما أراد في بعضها؛ لأن الخليل والكليم كانا قبله، وكانا أفضل منه.
(1)
الحديث بألفاظ كثيرة وأسانيد عديدة، وأخرجه الإمام مالك في الموطأ عن عائشة رضي الله عنها: كتاب الكلام: باب ما جاء في تركة النبي صلى الله عليه وسلم: الحديث (27).والإمام أحمد في المسند: ج 6 ص 145 و 262.والبخاري في الصحيح: كتاب الفرائض: الحديث (6727 و 6730).ومسلم في الصحيح: كتاب الجهاد: الحديث (1759).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (17703).
قوله تعالى: {قالَ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ؛} أي قال زكريّا لجبريل: يا سيّدي من أين يكون لي ولد، {وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً} من الولد، {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} (8)؛أي حال اليأس والجفف.
روي أنه كان له يومئذ بضع وستّون سنة، والعتيّ هو الذي غيّره طول الزمان إلى اليأس
(1)
.قال قتادة: (وإنّما قال ذلك لنحول عظمه) يقال: رجل عات اذا كان قاسي القلب غير ليّن. وقرأ حمزة والكسائي: {(عِتِيًّا)} بكسر العين وهما لغتان، وقد تقدّم أن هذا القول من زكريا لم يكن على جهة الإنكار، ولكن أحبّ من أيّ وجه يكون أبردّهما إلى الشّباب، أو يرزقهما الولد وهما على هذه الصفة.
قوله تعالى: {قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ؛} أي قال له جبريل:
هكذا قال ربّك، كما قلت لك هو عليّ هيّن، {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ؛} أي من قبل يحيى، {وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} (9)؛وكنت معدوما. قرأ حمزة والكسائيّ:«(وقد خلقناك من قبل)» بالنون والألف.
قوله تعالى: {قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً؛} أي قال زكريا: يا رب اجعل لي علامة أعلم بها وقوع ما بشّرت به؛ لأتعجّل المسرّة، {قالَ آيَتُكَ؛} علامتك، {أَلاّ تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا} (10)،أي لا تقدر أن تكلم الناس، وأنت سويّ لا خرس بلسانك ولا آفة، فإنه كان يقرأ الزّبور ويدعو الله ويسبّحه، ولكنه اعتقل كلامه عن كلام الناس. وقوله {(سَوِيًّا)} أي صحيحا سالما من غير بأس ولا خرس، و {(سَوِيًّا)} منصوب على الحال.
قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ؛} أي خرج عليهم من مصلاّه متغيّر اللون، وهم ينتظرونه فأنكروه وقالوا: ما لك يا زكريا؟ {فَأَوْحى إِلَيْهِمْ؛} أي أشار إليهم وأومأ، ويقال: كتب بيده {أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} (11)؛أي صلّوا لله غدوة وعشيّة، والسّبحة الصلاة، فلما كان وقت حمل
(1)
في جامع البيان: الأثر (17711)؛قال الطبري: (قال قتادة: كان ابن بضع وسبعين سنة).
امرأته ومنع من الكلام، خرج إليهم يأمرهم بالصلاة إشارة، ثم تكلم بعد ثلاث، وأتى امرأته على طهر، فحملت بيحيى.
قوله تعالى: {يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ؛} أي قال الله ليحيى بعد ما بلغ البلغ الذي يجوز أن يخاطب: {(خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ)} أي اعمل بما في التّوراة بجدّ ومواظبة وعزيمة. قوله تعالى: {وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} (12)؛أي أعطيناه الحكمة، وهي الفهم لكتاب الله صبيّا، وكان يحيى عليه السلام على هيئة الصبيان، وله عقل البالغين. وقال ابن عبّاس:(وآتيناه النّبوّة في صباه وهو ابن ثلاث سنين)
(1)
.وروي أنه مرّ بالصّبيان وهو صغير، فقالوا: تعال نلعب، فقال: ما للّعب خلقنا
(2)
.
قوله تعالى: {وَحَناناً مِنْ لَدُنّا وَزَكاةً؛} أي وآتيناه تحنّنا على قومه، ورقّة قلب عليهم؛ ليدعوهم إلى طاعة ربهم، وقوله {(وَزَكاةً)} اي عملا صالحا وإخلاصا، وقيل: معناه: جعلناه طاهرا من الذّنوب. وقيل: معناه: {(وَحَناناً مِنْ لَدُنّا)} أي جعلناه رحمة من عندنا لأبويه {(وَزَكاةً)} أي صدقة عليهما. قوله تعالى: {وَكانَ تَقِيًّا} (13)؛أي مطيعا مخلصا بجميع كل ما يرضاه الله من عباده. قال المفسّرون:
وكان من تقواه أنه لم يعمل خطيئة ولا همّ بها.
قوله تعالى: {وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ؛} أي لطيفا بوالديه، محسنا إليهما، {وَلَمْ يَكُنْ جَبّاراً عَصِيًّا} (14)؛أي لم يكن متكبرا على من في دينه، ولا عاصيا لربه.
قوله تعالى: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ؛} أي سلامة وسعادة منّا عليه حين ولد وحين يموت، {وَيَوْمَ،} وحين؛ {يُبْعَثُ حَيًّا} (15)؛من القبر.
قال عطاء: (يريد سلامة له منّا).
قال سفيان بن عيينة: (أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن: يوم ولد فيرى نفسه خارجا ممّا كان فيه، ويوم يموت فيرى قوما ما لم يكن عاينهم، وأحكاما لم
(1)
ينظر: اللباب في علوم الكتاب: ج 9 ص 24.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (17737).
يعهدها، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر لم يره، فخصّه الله بالكرامة والسّلامة والسّلام في المواطن الثّلاثة)
(1)
.
وعن الحسن: (أنّ يحيى وعيسى عليهما السلام التقيا، فقال له عيسى: استغفر لي فأنت خير منّي، وقال يحيى: استغفر لي فأنت خير منّي، فقال عيسى: بل أنت خير منّي، أنا سلّمت على نفسي، وأنت سلّم الله عليك).
قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا} (16)؛أي اذكر يا محمّد في القرآن خبر مريم؛ لتعتبر الناس بدينها وصلاحها، والمعنى اذكر خبرها لأهل مكّة. قوله تعالى {(إِذِ انْتَبَذَتْ)} أي تنحّت من أهلها، وتفرّدت ممّن كانوا معها في الدار إلى مكان في جانب الشّرق، جلست فيه؛ لأنّها كانت في الشّتاء، فجلست في مشرقة الشمس.
وقال عكرمة: (أرادت الغسل من الحيض، فتحوّلت إلى مشرقة دارهم للغسل)
{فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً؛} أي من دون أهلها سترا لئلاّ يروها، ف؛بينما هي في مشرقة الدار تغتسل من الحيض، {فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا،} أي دخل عليها جبريل عليه السلام بعد ما فرغت من الاغتسال في صورة شابّ أمرد حسن الوجه جعد الشعر، وذلك قوله تعالى:{فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا} (17)؛وإنّما أرسل الله جبريل في صورة البشر؛ لتثبت مريم وتقدر على استماع كلامه.
قال ابن عبّاس: (فلمّا رأت مريم جبريل تقصّد نحوها نادته من بعيد)
(2)
،
{قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} (18)؛أي إن كنت تقيّا مخلصا مطيعا، فستنتهي لتعوذي بالله منك، وقيل: إنّ تقيّا كان رجلا من أمثل الناس في ذلك الزمان، فقالت: إن كنت في الصلاح مثل التقيّ، فإنّي أعود بالرّحمن منك،
(1)
في جامع البيان: مج 9 ج 16 ص 74؛ قال الطبري: (وقد ذكر ابن عيينة في ذلك ما حدثني أحمد بن منصور الفيروزي؛ قال: أخبرني صدقة بن الفضل قال: سمعت أبو عطية يقول:
…
وذكره).
(2)
ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 799.
قوله تعالى: {(فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا)} أي جبريل عليه السلام، خصّ بالإضافة إلى الله تعالى تشريفا له، وسمّي روحا؛ لأن الناس يحيون بما جاء في أديانهم، كما يحيون بأرواح أبدانهم.
قوله تعالى: {قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا} (19) أي لأهب لك بأمر الله ولدا صالحا طاهرا من الذنوب. ومن قرأ: (ليهب لك غلاما زكيّا) فالمعنى ليهب الله لك.
قوله تعالى: {قالَتْ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ؛} أي من أين يكون لي ولد، {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ؛} ولم يقربني زوج، {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} (20)؛أي ولم أكن فاجرة زانية، والباغية هي الطالبة للزّنى. قال ابن عبّاس:(قالت مريم ليس لي زوج، ولست بزانية، ولا يكون الولد إلاّ من الزّوج أو الزّنى).
قوله تعالى: {قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ؛} أي قال لها جبريل، كما قلت لك قال ربّك:{هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ؛} أي خلقه عليّ هيّن من غير هاتين الجهتين، كخلق آدم، لا أب ولا أمّ. قوله تعالى:{وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ وَرَحْمَةً مِنّا؛} أي لنجعله دلالة على قدرتنا ورحمة للخلق، وقيل: ورحمة لمن اتّبعه على دينه وصدقه وكان خلقه، {وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا} (21)؛أي محكوما به مفروغا منه، سابقا في علم الله أن يقع.
قوله تعالى: {*فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا} (22)؛وذلك أنّها لمّا سمعت كلام جبريل اطمأنّت إلى قوله، فدنا منها ونفخ في جيبها، فوصلت تلك النفخة إلى بطنها فحملت بعيسى عليه السلام. وقيل: نفخ جبريل بها من بعيد فوصلت النفخة إليها فحملت. فلما ظهر حملها انتبذت أي خرجت وانفردت، وتنحّت بولادتها إلى مكان بعيد من الناس. والانتباذ: مأخوذ من نبذت الشيء إذا رميت به، وجلس نبذة أي ناحية، والقاصي والقصيّ خلاف الدّاني.
واختلفوا في مدّة حملها، فقال بعضهم: تسعة أشهر كحمل سائر النّساء على ما جرت به العادة، وقال: بعضهم ثمانية أشهر، وكان ذلك آية أخرى؛ لأنه لم يعش
مولود وضع لثمانية أشهر غير عيسى عليه السلام، وقال بعضهم: ستة أشهر، وقيل: ثلاث ساعات، وقيل: ساعة واحدة.
وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: (ما هو إلاّ أن حملت فوضعت، ولم يكن بين الحمل والإنباذ إلاّ ساعة؛ لأنّ الله تعالى لم يذكر بينهما فصلا).وقال مقاتل:
(حملته في ساعة وصوّر في ساعة، ووضعته في ساعة حين زالت الشّمس من يومها وهي بنت عشر سنين، وقد حاضت حيضتين قبل أن تحمل بعيسى عليه السلام.قوله تعالى: {(مَكاناً قَصِيًّا)} أي مكانا بعيدا. قال ابن عبّاس: (أقصى الوادي فرارا من قومها أن يعيّروها بولادتها من غير زوج).
قوله تعالى: {فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ؛} أي ألجأها، ويقال: جاء بها وأجاءها بمعنى واحد، كما يقال ذهب به وأذهبه. والمخاض: وجع الولادة، وقيل: تحرّك الولد للولادة، وقيل: الحمل. وقرأ عبد الله: «(فآواها المخاض)» .وقوله تعالى: {إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ؛} وكانت نخلة يابسة في الصحراء ولم يكن لها سعف أي لا رأس لها، وقيل: كان جذعا ميتا قد أتي به لبناء بيت.
قوله تعالى: {قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا} (23) أي لم أخلق، وقيل: شيئا متروكا لا يذكر، والنّسي في كلام العرب: الشيء الحقير الذي إذا ألقي نسي، ولم يلتفت إليه. قال السديّ:(إنّما تمنّت مريم الموت استحياء من النّاس، خافت الفضيحة)
(1)
.
وقيل: للحال الذي دفعت إليها من الولادة، والصحيح: أنّها إنّما تمنّت لعلمها بأنّ الناس سيرمونها بالفاحشة فيأثمون بسببها، فتمنّت أن تكون ماتت قبل أن تقول الناس بسببها قولا يسخط الله تعالى. قرأ حمزة وحفص {(نَسْياً)} بفتح النون وهما لغتان.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (17788).
قوله تعالى: {فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاّ تَحْزَنِي؛} قال ابن عبّاس والسديّ والضحّاك وقتادة: (إنّ المنادي من تحتها هو جبريل عليه السلام، كأنّه كان في مكان أسفل من مكانها، فناداها ألاّ تحزني يا مريم على ولادة عيسى، فقد أحسن الله لك الاختيار، وجعل تحتك سريّا).قال السديّ: (هو النّهر الصّغير، سمّي سريّا؛ لأنّه يسري لجريانه)
(1)
.
وقال الحسن: (هو عيسى، وهو والله السّريّ من الرّجال)
(2)
.وهذا التأويل على قراءة من قرأ {(مِنْ تَحْتِها)} بكسر الميم والتّاء، وهي قراءة نافع وحمزة والكسائي وحفص، وقرأ الباقون بالفتح وهو عيسى عليه السلام لمّا خرج من بطن أمّه ناداها ألاّ تحزني، {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} (24)؛أي نهرا صغيرا.
قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ؛} قال ابن عبّاس: (ضرب جبريل، وقيل: عيسى عليه السلام برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب، وجرى تحت النّخلة، فحيت بعد يبسها فأورقت وأثمرت ورطبت).ومعنى الآية: حرّكي وخذي إليك جذع النخلة. والباء فيه زائدة، تقول العرب: هزّه وهزّ به، وخذ بالخطام وخذ الخطام.
قوله تعالى: {تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا} (25)؛قرأ يعقوب «(يساقط)» بالياء، يعني الجذع، وقرأ حفص بالتاء وضمّها وتخفيف السّين وكسر القاف. وقرأ حمزة «(تساقط)» بفتح التاء والقاف مخفّفا، وقرأ الباقون بفتح التاء وتشديد السين؛ أي يتساقط، فأدغمت الياء في السين. معناه: يسقط عليك النخلة، والرطب الجنيّ: هو الجنيّ من الثمرة الرطبة الطريّة. ونصب {(رُطَباً)} على التفسير. ومن قرأ {(تُساقِطْ)} بالضم انتصب على المفعول.
(1)
في كتاب الغريبين: ج 3 ص 892: (سرى):قال الهروي: (أي جدولا ونهرا وسمّي النهر سريّا؛ لأنّ الماء يسري فيه أي يمرّ جاريا).وفي الجامع لأحكام القرآن: ج 11 ص 94؛ قال القرطبي: (قال الجمهور: أشار لها إلى الجدول الذي كان قريبا من النخلة. قال ابن عباس: كان ذلك نهرا قد انقطع ماؤه، فأجراه الله تعالى لمريم، والنهر يسمى سريا؛ لأن الماء يسري فيه).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (17820).
قوله تعالى: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً؛} أي فكلي من الرّطب، واشربي من النهر، وقرّي عينا بولدك عيسى، وطيبي نفسا؛ أي يقال: قرّت عينه؛ أي بردت برد السرور بما ترى، ويقال: سكنت سكون السّرور برؤية ما تحبّ، فالأول من القرّ؛ والثاني من القرار. وانتصب {(عَيْناً)} على التفسير المحول، كما يقال: طيبي نفسا؛ أي طابت نفسك.
قوله تعالى: {فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً؛} أي فإما ترينّ من الآدميّين أحدا، فسألك عن الولد أو لامك عليه، {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً؛} أي صمتا، وكذلك كان يقرؤها ابن مسعود وأنس رضي الله عنهما، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما:(صمتا؛ أي أوجبت على نفسها أن لا تتكلّم)
(1)
.
وقال قتادة: (صامت عن الطّعام والشّراب والكلام) ولهذا قالت: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} (26)؛أي آدميّا، وكان قد أذن لها أن تتكلم بهذا القدر ثم سكتت. قال ابن مسعود رضي الله عنه:(أمرت بالصّمت؛ لأنّها لم يكن لها حجّة عند النّاس في شأن ولدها، فأمرت بالكفّ عن الكلام يكفيها ولدها الكلام بما يبرئ ساحتها)
(2)
.
وفي الآية دلالة أنّ الصمت كان قربة في زمانهم، ولولا ذلك لما نذرته مريم، ثم نسخ ذلك بنهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن صوم الصّمت. ويروى أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن صمت يوم إلى اللّيل
(3)
.
قوله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا} (27)؛روي أنّها أتت بعيسى تحمله إلى قومها بعد أن طهرت من نفاسها؛ أي بعد أربعين يوما، فتكلّم عيسى في الطريق وهو ابن أربعين يوما، فقال: يا أمّاه أبشري فإنّي عبد الله ومسيحه، فلما دخلت على قومها بكوا وحزنوا، وكانوا أهل
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (17831 - 17834).
(2)
في الدر المنثور: ج 5 ص 506؛ قال السيوطي: (أخرجه ابن أبي حاتم عن حارثة بن مقرب
…
وذكره).
(3)
رواه الدارقطني في السنن: ج 4 ص 162.
بيت صالح، و (قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريّا) أي منكرا عظيما لا يعرف منك، ولا من أهل بيتك.
قوله تعالى: {يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ؛} قال ابن عبّاس:
(هارون رجل صالح من بني إسرائيل نسبت إليه) والمعنى: يا شبيهة هارون في العبادة. روي أن أهل الكتاب قالوا: كيف يقولون إنّ مريم أخت هارون وبينهما ستّمائة سنة، فذكر ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:[إنّهم كانوا يسمّون باسم الأنبياء والصّالحين]
(1)
.
فعلى هذا يجوز أنّ أخا مريم كان يسمّى هارون. وقال السديّ: (هو هارون أخو موسى عليهما السلام، نسبت إليه؛ لأنّها من ولده كما يقال يا أخا بني فلان)
(2)
.وقيل: كان رجلا فاسقا معروفا بالفسق فنسبت إليه. وقوله تعالى: {(ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ)} قال ابن عبّاس: (يريد زانيا)، {وَما كانَتْ أُمُّكِ؛} حنّة؛ {بَغِيًّا} (28)؛أي ما كانت بغيّا، فمن أين لك هذا الولد.
قوله تعالى: {فَأَشارَتْ إِلَيْهِ؛} أي أشارت إلى عيسى عليه السلام وهو يرضع بأن كلّموه، فعجبوا من ذلك و {قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} (29)؛أي في الحجر رضيعا، والمهد ههنا حجر أمّه، وقيل: هو المهد بعينه. قال أبو عبيدة: (كان ههنا زائدة لا معنى لها).والمعنى كيف نكلّم صبيا في المهد، ويجوز أن تكون {(مَنْ)} في موضع الشّرط والجزاء، والمعنى من يكن في المهد صبيّا فكيف نكلّمه، والماضي بمعنى المستقبل في باب الجزاء، ويجوز أن يكون {(صَبِيًّا)} نصب على الحال؛ أي كيف نكلّم من في المهد صبيا؛ أي في هذه الحالة.
قال السديّ: (فلمّا أشارت إلى عيسى عليه السلام غضبوا وقالوا: لسخريتها بنا أشدّ من زناها. فلمّا سمع عيسى كلامهم، ترك الرّضاع وأقبل بوجهه عليهم
و {قالَ إِنِّي}
(1)
رواه مسلم في الصحيح: كتاب الآداب: باب النهي عن التكني بأبي القاسم: الحديث (2135/ 9).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (17852).
{عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ}
(1)
؛يعني علّمني التوراة والزبور. وقال مقاتل: (علّمه الله الإنجيل في بطن أمّه){وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} (30)؛أي حكم لي بالنبوّة في ما مضى.
قوله تعالى: {وَجَعَلَنِي مُبارَكاً؛} أي معلّما للخير، نفّاعا {أَيْنَ ما كُنْتُ؛} حيثما كنت أدعو إلى الله تعالى، وإلى توحيده وعبادته، {وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ؛} أي أمرني بإقامة الصّلاة وإيتاء الزكاة، {ما دُمْتُ حَيًّا} (31).
قوله تعالى: {وَبَرًّا بِوالِدَتِي؛} أي وجعلني برّا بوالدتي. قال ابن عبّاس:
(لمّا قال عيسى عليه السلام: بوالدتي، علموا أنّه شيء من الله تعالى)، {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا} (32)؛أي متعظّما، أقتل وأضرب على الغضب، ولا شقيّا عاصيا لربه.
قوله تعالى: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} (33) معناه: والسّلام عليّ يوم ولدت حتى لم يضرّني شيطان، ويوم أموت ويوم أبعث حيّا من القبر.
وفي هذا دليل على أنّ للإنسان أن يصف نفسه بصفاء الخير إذا أراد تعريفها إلى غيره، ولم يرد الافتخار، وهو مثل قول يوسف عليه السلام للملك {اِجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}
(2)
.قال ابن عبّاس: (إنّما كلّمهم عيسى عليه السلام بهذا الكلام لا غيره، ثمّ سكت ولم يتكلّم حتّى بلغ مقدار مدّة ما يتكلّم الصّبيان)
(3)
.
قوله تعالى: {ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ؛} أي ذلك الذي قال إنّي عبد الله عيسى بن مريم قول الحقّ، من قرأ بنصب {(قَوْلَ)} فالمعنى: قول الحقّ، ومن رفعه فالمعنى: هو قول الحقّ، أو كلمة الحقّ، والحقّ هو الحقّ تعالى. ومعنى قراءة
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (17859).
(2)
يوسف 55/.
(3)
في الدر المنثور: ج 9 ص 509 - 510؛ قال السيوطي: (أخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وابن عساكر عن طريق مجاهد).
النصب أقول قول الحقّ، {الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} (34)؛أي يشكّون فيختلفون، فإنّهم اختلفوا-يعنى النصارى-فقائل منهم يقول: هو الله، وقائل يقول: هو ابن الله، واليهود تقول: ولد لغير رشدة.
قوله تعالى: {ما كانَ لِلّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ؛} أي ما ينبغي لله أن يتخذ ولدا وليس ذلك من صفاته، وقوله تعالى:{سُبْحانَهُ؛} أي تنزيها له عن الولد والشريك. قوله تعالى: {إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (35)؛أي كيف يتّخذ ولدا من إذا شاء أمرا كان كما خلق عيسى بلا أب.
قوله تعالى: {وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ} (36)؛ هذا إخبار عن عيسى أنه قال ذلك. من قرأ بفتح الهمزة فالمعنى: وأوصاني أنّ الله ربي وربّكم، أو قضى أنّ الله ربي وربّكم، ومن كسرها فعلى الاستئناف، ويجوز أن يكون عطفا على {(إِنِّي عَبْدُ اللهِ)} .والصراط المستقيم هو الدّين المستمرّ في جهة واحدة، وقيل: معناه: هذا الذي أخبركم أنّ الله أمرني به هو الطريق المستقيم الذي يؤدّي إلى الجنّة.
قوله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ؛} ويعني بالأحزاب: النصارى، كانوا أحزابا متفرّقين في أمر عيسى عليه السلام، فبعضهم يقول: الله، وبعضهم يقول: هو ابن الله، وبعضهم يقول: ثالث ثلاثة.
قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (37)؛أي فويل للّذين تحدّثوا في عيسى من مشهد يوم عظيم يشهده الخلائق.
قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا؛} أي ما أسمعهم وما أبصرهم يوم القيامة؛ أي يشاهدون من الغيب ما يسمع ويبصر بلا شكّ ولا مرية. قال قتادة: (سمعوا حين لم ينفعهم السّمع، وأبصروا حين لم ينفعهم البصر)
(1)
.وقال
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (17882).وفي الدر المنثور: ج 5 ص 511 ح قال السيوطي: (أخرجه ابن أبي حاتم).
الحسن: (لئن كانوا في الدّنيا عميا وصمّا عن الحقّ، فما أبصرهم وأسمعهم يوم القيامة).قوله تعالى: {لكِنِ الظّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (38)؛أي لكنّهم في الدّنيا في كفر بيّن.
قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ؛} أي خوّف يا محمّد أهل مكّة يوم يتحسّر المسيء هلاّ أحسن العمل، والمحسن هلاّ ازداد من الأحسن. وقال أكثر المفسّرين: يعني الحسرة يوم يذبح الموت بين الفريقين، فلو مات أحد فرحا لما مات أهل الجنّة، ولو مات أحد حزنا لما مات أهل النار.
وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يجاء بالموت يوم القيامة كأنّه كبش أملح، فيوقف بين الجنّة والنّار، فيقال: يا أهل الجنّة هل تعرفون هذا؟ فيشرفون عليه، فيقولون: نعم؛ هذا الموت. فيقال لأهل النّار كذلك، فكلّهم قد عرفه، فيذبح، ويقال: يا أهل الجنّة خلود بلا موت، ويا أهل النّار خلود بلا موت] ثمّ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ)}
(1)
.قال مقاتل: (لولا ما قضى الله من تخليد أهل النّار وتعميرهم فيها، لماتوا حسرة حين رأوا ذلك).
قوله تعالى: {(إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ)} أي قضي لهم العذاب في الآخرة، وهم في الدّنيا في غفلة. وقال السديّ:({إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ}؛أي ذبح الموت وهم في غفلة في الدّنيا عمّا يصنع بالموت ذلك اليوم){وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (39)؛بما يصنع بالموت ذلك اليوم.
ويقال: معنى قوله تعالى {(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ)} هو يوم يأتيهم ملك الموت يقبض أرواحهم، فإذا وقعت المعاينة قال عند ذلك: رب أرجعوني، قال الله تعالى:
{حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما}
(1)
رواه البخاري في الصحيح: كتاب الرقائق: باب صفة الجنة والنار: الحديث (6548).ومسلم في الصحيح: كتاب الجنة وصفة نعيمها: باب النار يدخلها الجبارون: الحديث (2849/ 40).
{تَرَكْتُ}
(1)
وقوله تعالى: {(وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ)} أي وهم في الدّنيا في غفلة، وهم لا يؤمنون بالقرآن.
قوله تعالى: {إِنّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها؛} أي نمت سكّانها فنرثها، وهذا كقوله تعالى {وَنَحْنُ الْوارِثُونَ}
(2)
؛لأنّهم إذا ماتوا انقطع ملك العباد عن الأرض. قوله تعالى: {وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ} (40)؛أي بعد الموت، فنجزيهم بأعمالهم.
قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا} (41)؛ أي واذكر في القرآن لقومك قصّة إبراهيم؛ إنه كثير التصديق بالحقّ موقنا صدوقا رسولا نبيّا.
قوله تعالى: {إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ؛} أي لم تعبد من دون الله ما لا يسمع إن دعوته، ولا يبصر إن عبدته، يعني الصنم، {وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} (42)؛من عذاب الله، ولا يدفع عنك ضرّا.
قوله تعالى: {يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ؛} أي من العلم بالله والمعرفة، وإنّ من عبد غير الله عذبه، {فَاتَّبِعْنِي} على ديني {أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا} (43)؛أي أرشدك إلى دين مستقيم.
قوله تعالى: {يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ؛} أي لا تطعه فيما زيّن لك من الكفر والمعاصي، {إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا} (44)؛أي كثير العصيان لله تعالى.
قوله تعالى: {يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ؛} أي عذاب من الله بطاعتك للشيطان، {فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا} (45)؛أي قرينا في النار.
قوله تعالى: {قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ؛} أي قال له أبوه مجيبا له: أمعرض وتارك أنت عبادة آلهتي يا ابراهيم، {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ؛} عن
(1)
المؤمنون 99/-100.
(2)
الحجر 23/.
مقالتك، وتسكت عن شتم آلهتي وعيبها، {لَأَرْجُمَنَّكَ؛} أي لأرمينّك بالشّتم والعيب، وقيل: لأقتلنّك رجما، {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} (46)؛أي تباعد عنّي دهرا طويلا.
وقال الحسن وقتادة: (معنى مليّا؛ أي سالما سويّا من قبل أن يلحقك مكروه منّي)،وأصل الملاوة الزمان الطويل من الدهر، يقال: أقام في موضع كذا مليّا، والملوان: الليل والنهار.
قوله تعالى: {قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ؛} أي قال إبراهيم لأبيه: سلمت منّي لا أصيبك بمكروه، وذلك أنه لم يؤمن بقتاله على كفره، هذا سلام توديع، وقوله تعالى:{سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي؛} أي سأسأل الله لك توبة تنال بها مغفرته، ويرزقك التوحيد. قوله تعالى:{إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا} (47)؛أي لطيفا رحيما، وقيل: عالما يستجيب لي إذا دعوت.
قوله تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ؛} أي أتنحّى عنكم وأفارقكم، وأعتزل ما تدعون من دون الله يعني الأصنام، فاعتزلهم وهاجر إلى الأرض المقدسة. قوله تعالى:{وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا} (48)؛أي محروما خائبا.
قوله تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا} (49)؛أي فلما خرج إلى ناحية الشّام، وتركهم وترك أصنامهم آنسنا وحشته بأولاد كرام على الله تعالى، ووهبنا لهم نعما كثيرة، وأكرمناهم بالثّناء الحسن.
قوله تعالى: {وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا؛} أي وهبنا لهم المال والولد، وبسطنا لهم في الرّزق. وقال بعضهم: يعني الكتاب والنبوّة. قوله تعالى: {وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} (50)؛أي ثناء حسنا في الناس، مرتفعا سائرا في الناس، فكلّ أهل الملل والأديان يحسنون الثناء عليهم، ويتولّون إبراهيم ودينه.
قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا} (51) أي واذكر في القرآن خبر موسى إنه كان مخلصا لله تعالى بالعبادة والتوحيد، وكان رسولا رفيعا. ومن قرأ {(مُخْلَصاً)} بفتح اللام فمعناه: أخلصناه وأحببناه.
قوله تعالى: {وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ؛} قيل: إن النداء هو قول الله تعالى له يا موسى {إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ}
(1)
،والطّور: هو جبل بالشام، ناده الله تعالى من ناحية اليمنى، يعني يمين موسى، والمعنى أن موسى سمع
(2)
النداء عن يمينه، ولا يكون للجبل يمين ولا يسار.
قوله تعالى: {وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا} (52)؛أي جعلنا محلّه منّا، محل من قربه مولاه من مجلس كرامته، والنّجيّ هو المختصّ بإدراك كلام مكلّمه. قال ابن عبّاس رضي الله عنهما:(قرّب الله تعالى موسى إلى أعلى الحجب حتّى سمع صرير القلم)
(3)
.
قوله تعالى: {وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا} (53) وذلك حين سأل موسى ربّه فقال {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هارُونَ أَخِي}
(4)
فاستجاب الله دعاءه.
قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ؛} هو إسماعيل بن إبراهيم، ومعنى صادق الوعد؛ أي أنه كان إذا وعد أنجز. قال ابن عبّاس:
(إنّه وعد رجلا أن ينتظره حتّى رجع إليه، فأقام مكانه ينتظره حتّى حال الحول ورجع إليه الرّجل). {وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا} (54)؛إلى جرهم.
قوله تعالى: {وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ؛} قيل: أراد بالأهل أمّته، وأهل أمّته، ونظيره {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ}
(5)
أي قومك، {وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (55)؛أي صالحا زكيّا.
(1)
القصص 30/.
(2)
في أصل المخطوط: (سمي) والصحيح ما أثبتناه.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (17909).
(4)
طه 29/-30.
(5)
طه 132/.
قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا} (56)؛اسم ادريس أخنوخ، وهو جدّ أبي نوح، وسمي إدريس لكثرة درسه الكتب، وكان خيّاطا وهو أول من خطّ بالقلم، وهو أول من خاط الثياب ولبس المخيط، وأول من نظر في علم النّجوم والحساب.
قوله تعالى: {(إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا)} أنزلت عليه ثلاثون صحيفة، وهو أول من لبس القطن، وكانوا قبل ذلك يلبسون جلود الضّأن.
قوله تعالى: {وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا} (57)؛روي عن أنس بن مالك، وأبي سعيد الخدريّ ومجاهد:(أنّه رفع إلى السّماء الرّابعة)
(1)
،وقال ابن عبّاس والضحّاك:(إلى السّماء السّادسة).وقيل: معناه:
ورفعناه في العلم والنبوّة إلى درجة عالية. وروي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: [لمّا عرج بي رأيت إدريس في السّماء الرّابعة]
(2)
.
وكان سبب رفعه على قول ابن عبّاس: (أنه سار ذات يوم في حاجته فأصابه وهج الشمس، فقال: يا رب إنّي مشيت يوما واحدا، فكيف بمن حملها خمسمائة عام في يوم واحد، اللهمّ خفّف عنه من ثقلها واحمل عنه حرّها، فلما أصبح الملك الموكّل بها وجد خفّة في حرّها بخلاف ما يعرف، فقال: يا رب ما الذي قضيت؟ فقال: إنّ عبدي إدريس سألني أن أخفّف عنك حملها وحرّها فأجبته، فقال: يا رب اجمع بيني وبينه صبحة فأذن له حتى أتى إلى إدريس، فسأله عن ذلك فأخبره أنه دعا له شفقة عليه، ثم حمله ملك الشمس على جناحه، ورفعه إلى السّماء بإذن الله تعالى).
قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ؛} معناه: إن الذين ذكرتهم هم الذين أكرمهم الله بالنبوّة والإسلام من ذريّة آدم، وإنّما قرن ذكر نسبهم مع أنّ كلّهم كانوا لآدم ليبيّن مراتبهم في شرف النسب، فإنه كان
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (17924).وأخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الإيمان: باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم: الحديث (162/ 259).
(2)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 3 ص 260.والترمذي في السنن: كتاب تفسير القرآن: باب ومن سورة مريم: الحديث (3157).
لإدريس شرف القرب من آدم، وكان إبراهيم من ذريّة نوح، وكان إسماعيل واسحاق من ذريّة إبراهيم، وكان موسى وهارون وزكريّا ويحيى وعيسى من ذريّة إسرائيل، فقوله:{(مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ)} يعني إدريس ونوح، {وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ؛} في السفينة يعني إبراهيم؛ لأنه من ولد سام بن نوح، {وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ؛} يعني إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وقوله:{وَإِسْرائِيلَ؛} يعني أنّ من ذريّة إسرائيل: موسى وهارون ومن ذكرناه.
قوله تعالى: {وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا؛} أي هؤلاء كانوا ممّن أرشدنا واصطفينا لأداء الرّسالة، {إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ؛} التي أنزلت عليهم، {خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا} (58)؛أي وقعوا يسجدون لله تعالى، ويبكون من مخافة الله، والسّجّد: جمع ساجد، والبكيّ جمع باك.
قوله تعالى: {*فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ؛} أي فخلف من بعد هؤلاء الأنبياء المذكورين والصالحين {(فَخَلَفَ)} أي قوم سوء وهم اليهود والنصارى ومن لحق بهم. يقال في الرداءة: خلف بإسكان اللام، وفي الصّلاح:
خلف بفتح اللام.
وقوله تعالى: {(أَضاعُوا الصَّلاةَ)} أي أخّروها عن مواقيتها لغير عذر، وقيل:
تركوها أصلا. وقوله تعالى: {(وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ)} يعني المعاصي وشرب الخمر، واشتغلوا بالملذات في ما حرّم عليهم، وآثروها على طاعة الله تعالى. قال وهب:
(شرّابون القهوات؛ لعّابون بالكعاب؛ ركّابون الشّهوات؛ متّبعون الملذات؛ تاركون الجماعات؛ مضيّعون الصّلوات).
قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (59)؛قال ابن مسعود وعطاء: (هو واد في جهنّم بعيد القعر)
(1)
،قال ابن عبّاس: (الغيّ واد في جهنّم تستعيذ أودية جهنّم
(1)
في الدر المنثور: ج 5 ص 527؛ قال السيوطي: (أخرجه الفريابي وسعيد بن منصور وهناد وعبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه، والبيهقي في البعث من طرق).
من حرّه، أعدّ للزّاني وشارب الخمر وآكل الرّبا وأهل العقوق ولشاهد الزّور، ولامرأة أدخلت على زوجها ولدا من غيره).
وقيل: الغيّ واد في جهنّم يسيل قيحا ودما أعدّ للغاوين، فسمي غيّا؛ لأنه جزاء الغيّ، كما قال تعالى {يَلْقَ أَثاماً}
(1)
أي جزاء الإثم. وقال كعب: (الغيّ واد في جهنّم أبعدها قعرا وأشدّها حرّا، فيه بئر يسمّى بهيم، كلّما خبت جهنّم فتح لها باب إلى تلك البئر فتسعر به جهنّم).
قوله تعالى: {إِلاّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً} (60)؛معناه: إلاّ التائبين منهم، ويجوز أن يكون نصبا استثناء من غير الأوّل على معنى لكن من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنّة ولا ينقصون من حسناتهم.
قوله تعالى: {جَنّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ؛} أي بساتين إقامة، وقوله تعالى:{(بِالْغَيْبِ)} يعني أنّهم غابوا عن ما فيها، وانتصب قوله {(جَنّاتِ)}؛ لأنه بدل من الجنة. قوله تعالى:{إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} (61)؛أي موعوده آتيا كائنا، وإنّما لم يقل آتيا؛ لأن كلّ ما أتاك فقد أتيته.
قوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاّ سَلاماً؛} أي لا يسمعون في الجنّة كلاما ساقطا، ولا يسمعون إلاّ سلاما، يسلّم بعضهم على بعض، والسّلام هو الكلام الذي لا لغو فيه ولا إثم. وقيل: معناه: لا يسمعون في الجنة كلاما باطلا وفحشاء وهدرا وفضولا من الكلام. وقال مقاتل: (يمينا كاذبة ولا يسمعون إلاّ سلاما، يسلّم بعضهم على بعض، ويسلّم عليهم الملائكة، ويرسل إليهم الرّبّ بالسّلام).
قوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا} (62)،قال المفسّرون:
ليس في الجنّة بكرة وعشيّة، ولكنّهم يؤتون رزقهم على مقدار ما يعرفون من الغداء والعشاء، قال قتادة: (كان العرب إذا حصل لأحدهم الغداء والعشاء أعجب به، فأخبر
(1)
الفرقان 68/.
الله تعالى أنّ لهم في الجنّة رزقهم بكرة وعشيّا على قدر ذلك الوقت)
(1)
؛أي يجمع لهم الطعام في هذين الوقتين كما يكون في الدّنيا، ويأكلون فيما عدا هذين الوقتين ما يشتهون كما في الدّنيا.
قوله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا} (63)؛أي هذه الجنة التي وصفها الله تعالى هي التي نورث من اتّقى معصية الله، وعمل بالطاعة والإيمان. قوله تعالى:{(نُورِثُ)} أي نعطي، وإنّما قال {(نُورِثُ)} ؛لأن الله تعالى أورثهم من الجنة مساكن أهل النار لو اطّلعوا
(2)
.وقيل: لأنه تمليك في حال مبتدأ بعد انقضاء أجل الدّنيا.
قوله تعالى: {وَما نَتَنَزَّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ؛} وذلك أن جبريل عليه السلام أبطأ على النبيّ صلى الله عليه وسلم بالوحي، فلمّا أتاه قال له:[ما زرتنا حتّى استبطأناك].وقيل: قال له: [ما يمنعك يا جبريل أن تزورنا أكثر ممّا تزورنا].فأنزل الله عذر جبريل
(3)
،والمعنى: قل له وما نتنزّل من السّماء إلاّ بأمر ربك. وقيل: استبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل، ثمّ جاءه فقال له:[يا جبريل أبطأت عليّ حتّى ساء ظنّي فاشتقت إليك] فقال له: إنّي كنت إليك أشوق، ولكنّي عبد مأمور، إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست. فأنزل الله هذه الآية {(وَما نَتَنَزَّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ)}
(4)
.
قوله تعالى: {لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ؛} أي له ما بين أيدينا من أمر الدّنيا وما خلفنا من الآخرة، وما بين ذلك؛ يعني: ما بين النّفختين وبينهما
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (17942).
(2)
في معالم التنزيل: ص 807؛ قال البغوي: (يورث عباده المؤمنين المساكن التي كانت لأهل النار لو آمنوا).
(3)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب تفسير القرآن: باب وَما نَتَنَزَّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ: الحديث (4731).
(4)
في الدر المنثور: ج 5 ص 530؛ قال السيوطي: (أخرجه ابن مردويه عن أنس
…
) وساق الحديث بلفظ قريب منه، وقال: (أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة
…
وذكره. وقال: أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي. وجمع الطبراني الألفاظ للأسانيد الثلاثة).
أربعون سنة. قوله تعالى: {وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (64)؛أي وما كان ربّك ليتركك، وإن تأخر عنك رسوله.
قوله تعالى: {رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ؛} أي اصبر على أمره ونهيه حتى الموت، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (65)؛أي شبيها ومثلا يعبد، وقيل: هل تعلم من يستحقّ الإلهيّة سواه، وقيل: هل تعلم أحدا يسمّى الله غيره، وقيل: هل تعلم من أحد سمّي ربّ السّماوات والأرض.
قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} (66)؛قال ابن عبّاس: (هو أبيّ بن خلف الجمحيّ، قال هذا القول إنكارا للبعث).وقوله تعالى:
{(لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا)} أي أخرج من القبر حيّا؛ استهزاء وتكذيبا منه للبعث.
قوله تعالى: {أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ؛} قرأ نافع وابن عامر وعاصم: {(أَوَلا يَذْكُرُ)} بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد وهو الاختيار؛ أي أولا يتّعظ ويتفكّر، وعلى القراءة الأولى {(يَذْكُرُ)} بالتخفيف ضد النّسيان، والمعنى: أولا يتّعظ الإنسان أنّا خلقناه من نطفة، {وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} (67)؛موجودا، فيستدلّ بالابتداء على الإعادة.
قوله تعالى: {فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ؛} يعني المنكرين للبعث، أقسم الله تعالى على نفسه لنحشرنّهم من قبورهم مع الشياطين الذين أضلّوهم، {ثُمَّ} لنجمعنّهم، {لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} (68)؛باركين على الرّكب؛ لأن المحاسبة إنّما تكون بقرب جهنّم، يقرن مع كلّ كافر شيطان في سلسلة.
قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا} (69)؛ أي ثم لنخرجنّ من كلّ فرقة وجماعة أيّهم أشدّ على الرّحمن تمرّدا وجرأة وفجورا وكفرا بدءا بالأعتى فالأعتى، والأكثر جرما. قال قتادة:(المعنى: لننزعنّ من كلّ قرية وأهل دين قادتهم ورؤساءهم في الشّرّ).
والشّيعة: الجماعة المعاونون على أمر من الأمور. قوله تعالى: {(أَيُّهُمْ)} رفع على الاستثناء، و {(لَنَنْزِعَنَّ)} يعمل في موضع {(مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ)} ،هذا قول يونس. وقال الخليل:
على معنى الذين يقال لهم أيّهم أشدّ فلنخرج.
قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا} (70)؛أي نحن أعلم بالأولى بدخول النار وشدّة العذاب، وأحقّهم بعظيم العقاب. والصّليّ: هو اللّزوم، من قولهم صلي بالنار صليّا.
قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها؛} اختلفوا في الخطاب الذي في أوّل هذه الآية، قال بعضهم: هو راجع إلى الكفار؛ لأنه تقدّمه قوله تعالى: {(ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا)،} وقال الأكثرون: هذا خطاب مبتدأ لجميع الخلق، ودليله قوله تعالى:{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ؛} أي ننجي من الواردين من اتّقى.
ثم اختلف هؤلاء أيضا في معنى الورود، قال بعضهم: هو الدّخول كما في قوله تعالى {فَأَوْرَدَهُمُ النّارَ}
(1)
أي أدخلهم النار، وقالوا: إلاّ أنّها تكون على المؤمنين بردا وسلاما، واستدلّوا بما روى جابر رضي الله عنه: أنّه أهوى بيديه إلى أذنيه وقال: صمّتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [الورود الدّخول، لا يبقى برّ ولا فاجر إلاّ دخلها، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما، كما كانت على إبراهيم، حتّى أنّ للنّار ضجيجا بورودهم]
(2)
.وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما من مسلم يموت له ثلاثة أولاد لم يلج النّار إلاّ تحلّة القسم، ثمّ قرأ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها}]
(3)
.
ومعنى القسم: أن أول هذه الآية فيها إضمار القسم؛ تقديره: والله ما منكم من أحد إلاّ واردها، وروي عن ابن مسعود أنه قال:[الصّراط على متن جهنّم مثل حدّ السّيف، تمرّ عليه الطّائفة الأولى كالبرق، والثّانية كالرّيح، والثّالثة كالجواد السّابق، والرّابعة كأجود البهائم، ثمّ يمرّون والملائكة يقولون: اللهمّ سلّم؛ اللهمّ سلّم]
(4)
.
(1)
هود 98/.
(2)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 3 ص 329.والحاكم في المستدرك: كتاب الأهوال: باب يرد الناس النار ثم يصدرون عنها: الحديث (8782).
(3)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الأيمان والنذور: باب قوله تعالى وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ: الحديث (6656).ومسلم في الصحيح: كتاب البر والصلة: باب فضل من يموت وله ولد: الحديث (2632/ 150).
(4)
رواه الحا كم في المستدرك: كتاب التفسير: باب شعار المسلمين على الصراط: الحديث (3475)؛-
وعن أبي هريرة: أنّه أوى إلى فراشه فقال: (يا ليت أمّي لم تلدني، فقالت امرأته ميسرة: إنّ الله عز وجل قد أحسن إليك، هداك إلى الإسلام. قال: أجل؛ ولكنّ الله تعالى قد بيّن لنا أنّا لواردون النّار، ولم يبيّن لنا أنّا خارجون منها).
وقال بعضهم: الورود هو الإشراف على النار بلا دخول؛ لأن موضع المحاسبة يكون قريبا من النار، وقد قال الله تعالى:{وَلَمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ}
(1)
ولم يكن موسى دخل الماء، واستدلّوا بما روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:[لن يدخل النّار-إن شاء الله تعالى- واحد شهد بدرا أو الحديبية]
(2)
.
وعن مجاهد أنه قال: (الحمّى حظّ كلّ مؤمن من النّار)
(3)
.فعلى هذا من حمّ من المسلمين فقد وردها، لأن الحمّى من فيح جهنّم.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه عاد مريضا من وعك كان به، فقال له:[أبشر؛ إنّ الله يقول: هي ناري أسلّطها على عبدي المؤمن لتكون حظّه من النّار]
(4)
.
قال الزجّاج: (والحجّة القاطعة على أنّهم لا يدخلون النّار قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ، لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ}
(5)
) وهذه حجّة لا معارض لها
(6)
.
(4)
-وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ورواه مرفوعا في الرقم (3473) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم. ورواه الترمذي مرفوعا في السنن: كتاب تفسير القرآن: باب ومن سورة مريم: الحديث (3159)؛وقال: هذا حديث حسن.
قوله تعالى: {كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا} (71)؛الحتم: القطع بالأمر، والمقضيّ هو الذي قضى بأنه يكون.
قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا؛} أي الذين اتّقوا الشرك وصدّقوا، {وَنَذَرُ الظّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا} (72)؛أي ونذر المشركين فيها جثيّا على الرّكب.
قوله تعالى: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا؛} معناه:
وإذا تتلى على الكفّار آيات القرآن المنزّلة قالوا {لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ؛} أي الدّينين، {خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} (73)؛خير مسكنا وخير مجلسا في الدّنيا، فكذلك يكون في الآخرة.
يعني أنّ مشركي قريش كانوا يقولون لفقراء المؤمنين: أيّ الفريقين خير مقاما؛ نحن أم أنتم؟ والمقام والمسكن والمنزل والنّديّ والنادي: مجلس القوم ومجتمعهم، وكانوا يلبسون أحسن الثّياب، ثمّ يقولون مثل هذا للمؤمنين.
فأجابهم الله تعالى بقوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً} (74)؛أي وكم أهلكنا قبل قريش من الأمم الخالية هم أحسن أموالا وأحسن منظرا، والأثاث: المال، جمع الإبل والغنم والعبيد والمتاع، وقال الحسن:
(الأثاث: اللّباس، والرّئيّ: المنظر).
وقرئ «(وريا)» بغير همز من الرّيّ الذي هو ضدّ العطش، والمراد: أن منظرهم مرتو من النعمة كأنّ النعيم بيّن فيهم؛ لأن الرّيّ يتبعه الطراوة، كما أنّ العطش يتبعه الذّبول.
قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا؛} أي قل لهم يا محمّد: من كان في العماية عن التوحيد، ودين الله فليمدد له الرّحمن؛ أي ليزد في ماله وعمره وولده، ويقال: ليدعه الله في طغيانه حتى إذا وصل الآخرة لم يكن له فيها نصيب. وهذا اللفظ أمر؛ ومعناه الخبر.
قوله تعالى: {حَتّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السّاعَةَ؛} يعني الذين مدّهم الله في الضلالة. وأخبر عن الجماعة لأنّ لفظ {(مَنْ)} يصلح للجماعة.
ثم ذكر ما يوعدون، فقال:{(إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السّاعَةَ)} يعني القتل والأسر والقيامة والخلود في النار، {فَسَيَعْلَمُونَ} حينئذ {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً؛} أي أهم أم المؤمنون؛ لأن مكانهم جهنم، ومكان المؤمنين الجنّة. قوله تعالى: و {وَأَضْعَفُ جُنْداً} (75)؛هذا ردّ عليهم في قولهم: أيّ الفريقين خير مقاما، وأحسن نديّا.
قوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً؛} أي يزيدهم هذا بالإيمان والشّرائع، ويزيدهم هدى بالأدلّة والحجج والطاعات التي تدعو إلى الحسنات.
قوله تعالى: {وَالْباقِياتُ الصّالِحاتُ؛} قد تقدّم تفسيرها، سميت باقيات؛ لبقاء ثوابها للإنسان. قوله تعالى:{خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً؛} أي أنفع من مقامات الكفّار التي يفتخرون بها، {وَخَيْرٌ مَرَدًّا} (76)؛أي وأفضل مرجعا في الآخرة، وأفضل ما يردّ على صاحبه.
قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً} (77) أنزلت هذه الآية في العاص بن وائل، قال خبّاب بن الأرتّ:(كان لي دين على العاص ابن وائل، فحسب دينه منه، فقال: لا أقضيك حتّى تكفر بمحمّد، قال: لا والله؛ لا أكفر بمحمّد حيّا ولا ميّتا ولا حين أبعث، قال: فدع مالك، فإذا بعثت أعطيت مالا وولدا وأعطيك هنالك-قال ذلك مستهزئا-قال: فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية)
(1)
.
وقال الحسن: (نزلت في الوليد بن المغيرة)،ومعنى: لأوتينّ مالا وولدا: لئن كان ما يقول محمّد في الآخرة حقّا لأعطينّ مالا وولدا في الآخرة. ومن قرأ «(وولدا)» بالضمّ؛ فمعناه واحد، كالحزن والحزن، وقيل: إنه جمع الولد كما يقال أسد وأسد.
قوله تعالى: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً} (78)؛أي أعلم ذلك غيبا أم عهد الله إليه عهدا بما تمنّى؟! وقال ابن عبّاس: (ومعناه: ما غاب عنه حتّى يعلم أفي الجنّة هو أم لا).وقال الكلبيّ: (أنظر ما في اللّوح المحفوظ).
(1)
خرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (18012).وفي الدر المنثور: ج 5 ص 536؛ قال السيوطي: (أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس) وذكره بلفظ قريب منه.
قوله تعالى: {(أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً)،} قال ابن عبّاس: (معناه أم قال: لا إله إلاّ الله؛ فأرحمه بها)
(1)
.وقال قتادة: (أقدّم عملا صالحا يرجوه)
(2)
،
{كَلاّ؛} أي ليس الأمر على ما قال: أنه يولّي المال والولد. ويجوز أن يكون معناه: كلاّ إنّه لم يطّلع الغيب، ولم يتّخذ عند الرحمن عهدا.
قوله تعالى: {سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ؛} أي سنأمر الحفظة بإثبات ما يقول لنجازيه به في الآخرة، {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا} (79)؛أي نزيده عذابا فوق العذاب.
قوله تعالى: {وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ؛} أي نرثه المال والولد بعد إهلاكنا إياه، فلا يعود بعد ذلك إليه، كما لا يعود المال إلى من خلفه بعد موته، {وَيَأْتِينا؛} في الآخرة، {فَرْداً} (80)؛أي وحيدا خاليا من المال والولد.
قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} (81)؛ أي واتّخذ أهل مكة من دون الله أصناما آلهة؛ ليكونوا لهم أعوانا وشفعاء في الآخرة.
والعزّ: الامتناع من الضمّ، فهم اتخذوا هذه الآلهة؛ ليصيروا بها إلى العزّ في زعمهم فلا يصيبهم سوء، وذلك أنّهم رجوا منها الشفاعة والنّصرة والمنع من عذاب الله.
قوله: {كَلاّ؛} أي لا يمنعهم منّي شيء، {سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ؛} أي يجحد الآلهة عبادة المشركين لها كما قالوا:{تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيّانا يَعْبُدُونَ}
(3)
.
قوله تعالى: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} (82)؛أي يصيرون أعوانا عليهم يكذّبونهم يلعنونهم يتبرّءون منهم.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} (83)؛ أي ألم تعلم أنّا خلّينا بين الشياطين والكفار وسلطانهم عليهم، فلم نعصم الكفار من القبول
(4)
منهم، وتسمّى التخلية إرسالا في سعة اللغة. قوله تعالى:{(تَؤُزُّهُمْ أَزًّا)} أي
(1)
في الدر المنثور: ج 5 ص 536؛ قال السيوطي: (ابن أبي حاتم).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (180170) بلفظ: (بعمل صالح قدّمه).
(3)
القصص 63/.
(4)
في المخطوط: (القبور) وهو تصحيف والصحيح كما أثبتناه.
تزعجهم إلى معصية الله تعالى إزعاجا، وتغريهم إغراء. وقال القتيبيّ:(تحرّكهم إلى المعاصي).وأصله الحركة والغليان، ومنه الحديث المرويّ:[ولجوفه أزيز كأزيز المرجل]
(1)
.
قوله تعالى: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ؛} أي لا تعجل بمسألة إهلاكهم، {إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} (84)؛أي نعدّ أنفاسهم نفسا بعد نفس، كما نعدّ أيّامهم وآجالهم.
قوله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً} (85)؛أي اذكر لهم يا محمّد اليوم الذي نجمع فيه من اتّقى الله في الدّنيا؛ أي اجتنب الكبائر والفواحش إلى دار الرّحمن؛ وهي موضع الكرامة والثواب. قوله تعالى: {(وَفْداً)} أي ركبانا، قال ابن عبّاس:(يؤتون بنوق لم تر الخلائق مثلها، عليها رحال الذهب وأزمّتها الزّبرجد، فيركبون عليها حتّى يقربوا أبواب الجنّة)،وإنّما وحّد الوفد لأنه مصدر.
قوله تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ؛} أي يحثّهم على السير إلى جهنم، وقوله تعالى:{وِرْداً} (86)؛أي عطاشى مشاة حفاة عراة قد تقطّعت أعناقهم من العطش، والورد: الجماعة التي ترد الماء، ولا يرد أحد الماء إلاّ بعد العطش.
قوله تعالى: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ؛} أي لا يقدرون على الشفاعة، {إِلاّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً} (87)؛أي لكن من اتّخذ عند الرحمن عهدا وهم المؤمنون، فإنّهم يملكون الشفاعة. قال ابن عبّاس:(شهادة أن لا إله إلاّ الله).و {(مَنِ)} في موضع نصب على الاستثناء المنقطع. قال ابن عبّاس: (لا يشفع إلاّ من قال: لا إله إلاّ الله، وتبرّأ من الحول والقوّة إليه، ولا يرجو إلاّ الله عز وجل.
وعن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذات يوم: [أيعجز أحدكم أن يتّخذ كلّ صباح ومساء عند الله عهدا؟!] قالوا: كيف؟ قال: يقول: [اللهمّ فاطر السّماوات والأرض، عالم الغيب والشّهادة، إنّي أعهد إليك في هذه الدّنيا بأنّي أشهد أن لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك، وأنّ محمّدا عبدك ورسولك، وأنّك إن تكلني
(1)
أخرجه أبو داود في السنن: كتاب الصلاة: الحديث (904).والنسائي في السنن: كتاب السهو: باب البكاء في الصلاة: ج 3 ص 13 وتقدم تخريجه وإسناده حسن.
إلى نفسي، تقرّبني من الشّرّ وتباعدني من الخير، وإنّي لا أثق إلاّ برحمتك، فاجعله لي عهدا توفّينه يوم القيامة، إنّك لا تخلف الميعاد. فإذا قال ذلك طبع الله عليه بطابع ووضع تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة، نادى مناد: أين الّذين لهم عند الله عهد فيدخلون الجنّة]
(1)
.
قوله تعالى: {وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا} (89)؛ أي قال المشركون: الملائكة بنات الله، وقالت النّصارى: المسيح ابن الله، وقالت اليهود:
عزيز ابن الله. يقال لهم: {(لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا)} أي منكرا عظيما.
قوله تعالى: {تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ؛} أي يتشقّقن من عظم هذا القول، {وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ؛} فتصّدّع، {وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا} (90)؛ أي يسقط بعضها على بعض بشدّة صوت، بأن سمّوا،
{أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} (92)؛قرأ أهل الحجاز والكسائي: {(يَتَفَطَّرْنَ)} بالتاء مشدّدة، وقرأ نافع «(يكاد)» بالياء لتقدّم الفعل. قال المفسرون: اتخذ الرحمن ولدا، اقشعرّت الأرض، وغضبت الملائكة، وأسعرت جهنم، وفزعت السموات والأرض والجبال.
قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً} (93) أي ما من أحد في السّماوات والأرض إلاّ سيأتي الرحمن مقرّا بالعبودية، ويأتيه يوم القيامة عبدا ذليلا. يعني أن الخلق كلّهم عبيده، وأن عيسى والعزير من جملة العبيد.
قوله تعالى: {لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} (94)؛أي لقد علم عددهم وأفعالهم، ولا يخفى عليه شيء منهم مع كثرتهم.
قوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً} (95)؛لا أنصار لهم ولا أعوان ولا مال ولا ولد، كلّ امرئ مشغول بنفسه لا يهمّه غيره.
(1)
أخرجه الطبراني في الكبير: الحديث (8918).والحاكم في المستدرك: كتاب تفسير القرآن: باب تفسير آية إِلاّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً: الحديث (3478)؛وقال: هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وفي مجمع الزوائد: ج 10 ص 84؛قال الهيثمي: (فيه المسعودي وهو ثقة ولكنه قد اختلط وبقية رجاله ثقات).
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا} (96)؛أي يحبّهم في الدّنيا، ويحببهم إلى عباده المؤمنين من أهل السّماوات وأهل الأرضين. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:[إذا أحبّ الله العبد، قال الله تعالى: يا جبريل إنّي قد أحببت فلانا فأحبّه، فيحبّه جبريل، ثمّ ينادي في أهل السّماوات: إنّ الله قد أحبّ فلانا فأحبّوه، فيحبّه أهل السّماء، ثمّ توضع له المحبّة في الأرض. وإذا أبغض العبد قال مثل ذلك. وما أقبل عبد بقلبه على الله إلاّ أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتّى يرزقه الله مودّتهم ومحبّتهم]
(1)
.
قوله تعالى: {فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ؛} أي يسّرنا قراءة القرآن على لسانك، {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} أي بالقرآن؛ {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا} (97) أي قوما ذوي جدل بالباطل، واللّدّ جمع الألدّ: شديد الخصومة، نظيره الأصمّ
(2)
.
قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ؛} أي كم أهلكنا يا محمّد قبل قومك من قرون ماضية، {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ؛} أي هل ترى منهم من أحد؟ {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} (98)؛أي صوتا.
والإحساس مأخوذ من الحسّ، يقال: هل أحسست فلانا؛ أي هل رأيته.
والرّكز: هو الصوت الخفيّ الذي لا يفهم، ومنه الرّكاز: وهو المغيّب في الأرض.
قال الحسن في معنى الآية: (ذهب القوم فلا يسمع لهم صوت).وقال قتادة:
(معناه: هل ترى من عين أو تسمع من صوت).
وعن أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [من قرأ سورة مريم أعطي من الأجر بعدد من صدّق بزكريّا ويحيى ومريم وعيسى وهارون وإبراهيم وإسماعيل
(1)
رواه البخاري في الصحيح: كتاب الآداب: باب المحبة من الله: الحديث (6040).ومسلم في الصحيح: كتاب البر والصلة: باب إذا أحب الله عبدا: الحديث (2637/ 157).
(2)
في المخطوط: (نظيره الأصم والأصم) فهو إما سهو من الناسخ، أو أنه أراد أن يقول:(والألدّ هو الأصمّ عن الحقّ).
وإسحاق ويعقوب وإدريس، وبعدد من كذبهم، وبعدد من دعا لله ولدا، وبعدد من وحّد الله تعالى]
(1)
.
آخر تفسير سورة (مريم) والحمد لله رب العالمين
(1)
أخرجه الثعلبي في الكشف والبيان: ج 6 ص 235،وإسناده واه.