المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة النّمل سورة النّمل مكّيّة، وهي أربعة آلاف وسبعمائة وتسعة وتسعون - تفسير الحداد المطبوع خطأ باسم التفسير الكبير للطبراني - جـ ٥

[أبو بكر الحداد]

الفصل: ‌ ‌سورة النّمل سورة النّمل مكّيّة، وهي أربعة آلاف وسبعمائة وتسعة وتسعون

‌سورة النّمل

سورة النّمل مكّيّة، وهي أربعة آلاف وسبعمائة وتسعة وتسعون حرفا، ومائة وألف وتسع وأربعون كلمة، وثلاث وتسعون آية.

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}

{طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ؛} قال ابن عبّاس: (طس اسم من أسماء الله، أقسم به أنّ هذا القرآن الآيات الّتي وعدتم بها)

(1)

فقال قتادة: (هو اسم من أسماء القرآن)

(2)

.وقيل: هو اسم من أسماء السّورة. وقوله تعالى: {وَكِتابٍ مُبِينٍ} (1) معناه: وآيات الكتاب المبين بالحلال والحرام.

وقوله تعالى: {هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ} (2)؛يجوز أن يكون {(هُدىً)} في موضع رفع؛ أي هو هدى، والمعنى:{(هُدىً)} أي بيان من الضّلالة لمن عمل به، {(وَبُشْرى)} بما فيه من الثواب للمصدّقين به أنه من عند الله.

ثم عرّفهم فقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (3)؛ظاهر المعنى.

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} (4) أي زيّنّا لهم صلاتهم حتى رأوها حسنة، {(فَهُمْ يَعْمَهُونَ)} أي يتردّدون فيها متحيّرين،

{أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} (5)؛لأنّهم خسروا أنفسهم وأهليهم وصاروا إلى النار.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: ج 11 ص 160.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير: الأثر (16090).

ص: 5

قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} (6)؛أي إنّك لتعي القرآن وحيا من عند الله تعالى، أنزله بعلمه وحكمته.

قوله تعالى: {إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ؛} أي واذكر إذ قال موسى لامرأته:

{إِنِّي آنَسْتُ ناراً؛} أبصرتها، وكانت امرأته يومئذ ابنة شعيب عليه السلام، فقال لها حين ضلّ الطريق: أنّي أبصرت نارا، فامكثوا هاهنا، {سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ،} أي حتّى آتيكم من عند النار بخبر الماء والطريق، فإن لم أجد أحدا يخبرني عن الطريق آتيكم بشعلة نار، وهو قوله تعالى:{أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ؛} والشّهاب:

خشبة فيها نور ساطع، {لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} (7)؛أي لكي تصطلوا من البرد، وكان ذلك في شدّة الشّتاء، يقال: صلى بالنار وأصلى بها إذا استدفأ، والمعنى:

أو آتيكم بالشّعلة المقبسة من النار لكي تذودوا

(1)

من البرد.

والشّهاب: هو النار المستطار، ومنه قوله {فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ}

(2)

والقبس والجذوة: كلّ عود أشعل في طرفه نار. قرأ أهل الكوفة «(بشهاب قبس)» منوّن على البدل أو النعت للشهاب.

قوله تعالى: {فَلَمّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النّارِ؛} معناه: فلما جاء موسى إلى النار التي رآها نودي نداء الوحي: أن بورك من في طلب النار وهو موسى، {وَمَنْ حَوْلَها} من الملائكة. وهذه تحيّة من الله لموسى بالبركة كما حيّا إبراهيم بالبركة على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه، فقالوا: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت.

وقيل: المراد بالنار هو النّور، وذلك أن موسى رأى نورا عظيما، ولذلك ذكره بلفظ النار، ومن في النار هم الملائكة؛ لأن النور الذي رآه موسى كان فيه ملائكة لهم زجل بالتسبيح والتقديس، ومن حولها هو موسى؛ لأنه كان بالقرب منها ولم يكن فيها. وأهل اللغة يقولون: بورك فلان؛ وبورك فيه؛ وبورك له وعليه، بمعنى واحد.

والمراد بالبركة هاهنا ما نال موسى من كرامة الله له بالنبوّة.

(1)

في المخطوط: (تذوقوا)،والصحيح كما أثبتناه، أو (لكي تستدفئوا من البرد).

(2)

الصافات 10/.

ص: 6

قوله تعالى: {وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} (8)؛كلمة تنزيه عمّا تظنّ المشبهة أنّ الله تعالى كان في تلك النار، تعالى الله عمّا يقولون علوّا كبيرا.

قوله تعالى: {يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (9)؛أي أنا الدّاعي الذي يدعوك، أنا الله العزيز في ملكي، الحكيم في أمري وقضائي.

فإن قيل: بماذا عرف موسى؟ قلنا: إنّما عرف نبوّة نفسه أن ذلك النداء من الله تعالى حتى جعل يدعو الناس إلى نبوّة نفسه بالمعجزة، وذلك أنه رأى شجرة أخضر ما يكون من الشّجر في أنضر ما يكون، لها شعاع يرتفع إلى السّماء في الهواء، والنار تلتهب في أوراقها والأغصان، فلا النار تحرق الأوراق ولا رطوبة الشجر والأغصان تطفئ النار، فلما رأى ذلك بخلاف العادة، علم أنه لا يكون ذلك إلاّ من صنع الله تعالى.

قوله: {وَأَلْقِ عَصاكَ؛} أي وقيل له: ألق عصاك من يدك، فألقاها فاهتزّت {فَلَمّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ؛} أي تضطرب كأنّها جانّ، والجانّ: الحيّة البيضاء الخفيفة السريعة، السريع شدّة الاضطراب يقال لها المسلّة. وإنّما شبّهها بالجانّ في خفّة حركتها وسرعة انتشارها عن الأعين، وشبّهها في موضع آخر بالثّعبان لعظمها.

قوله تعالى: {وَلّى مُدْبِراً؛} أي أعرض موسى هاربا من الخوف من الحيّة، {وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي لم يرجع ولم يلتفت إلى شيء وراءه، يقال: عقّب فلان إذا رجع.

فقال الله: {يا مُوسى لا تَخَفْ،} من ضررها، {إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} (10)؛أي لا يخاف عندي وفي حكمي من أرسلته،

{إِلاّ مَنْ ظَلَمَ؛} من المرسلين بارتكاب الصغيرة {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ،} ثمّ تاب من بعد ذلك، {فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (11)؛به، فكان السبب في هذا الاستثناء أنّ موسى كان مستشعرا حقّه لما كان منه من قبل القبطيّ، فأمّنه الله بهذا الكلام.

ص: 7

والصغائر والكبائر من الذّنوب تسمّى ظلما؛ ولذلك قال موسى {إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي}

(1)

.ويقال: إن قوله {(إِلاّ مَنْ ظَلَمَ)} استثناء منقطع، ومعناه: لكن من ظلم، فإنه يخافني إلاّ أن يتوب ويعمل صالحا، فإنّي أغفر له وأرحمه. والمعنى: إلاّ من ظلم نفسه بالمعصية {(ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً)} أي توبة وندما {(بَعْدَ سُوءٍ)} عمله {(فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ)} كأنه قال: لا يخاف لديّ المرسلون الأنبياء والتّائبون، وقال بعضهم:{(إِلاّ)} هاهنا بمعنى (ولا) كأنه قال: {(لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلاّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ)}

(2)

.

قوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ؛} فيه بيان أنّ الله تعالى أعطاه آية أخرى في ذلك المكان، ومعنى {(تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ)} أي بيضاء لها شعاع من غير برص

(3)

،والجيب جيب القميص.

وقوله تعالى: {فِي تِسْعِ آياتٍ؛} أظهرها بين الآيتين، والآيات التّسع:

قلب العصاة حيّة، وجعل يده بيضاء، وما أصاب فرعون من الجدب في بواديهم، ونقص الثّمرات في مزارعهم، وإرسال الطّوفان والجراد والقمّل والضفادع والدّم، فهذه الآيات التّسع، قوله تعالى:{إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ} (12)؛أي خارجين عن طاعة الله.

قوله تعالى: {فَلَمّا جاءَتْهُمْ آياتُنا؛} أي فلمّا جاءت فرعون وقومه الآيات التسع، {مُبْصِرَةً؛} أي بيّنة واضحة، {قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ} (13)؛ كذبوا بالآيات التسع كلّها ونسبوا موسى إلى السّحر،

{وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ؛} أي جحدوا بألسنتهم وأنكروا تلك الآيات، وعلموا بقلوبهم أنّ تلك الآيات ليست من جنس أفعال السّحر، وأنّها من الله تعالى، أي علموا يقينا أنّها من عند الله لكن جحدوا بها تجبّرا وتكبّرا وذلك قوله تعالى:{ظُلْماً وَعُلُوًّا؛} أي شركا وتكبّرا عن أن يؤمنوا، {فَانْظُرْ؛} يا محمّد، {كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (14)؛في الأرض بالمعاصي، كيف أهلكهم الله بالغرق في اليمّ.

(1)

القصص 16/.

(2)

ينظر: إعراب القرآن للنحاس: ج 3 ص 137.

(3)

(غير) سقطت من المخطوط.

ص: 8

قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً؛} أي أعطيناهما معرفة الدّين وأحكام الشّريعة، وقيل: علما بقضاء الطّير والدّواب وتسبيح الجبال، فقابلا تلك النعمة بالشّكر، {وَقالا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي فَضَّلَنا؛} بالنبوّة والكتاب وإلانة الحديد وتسخير الشّياطين والجنّ والإنس، {عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} (15).

قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ؛} أي ورث نبوّته وعلمه وملكه، وذلك أنه كان لداود تسعة عشر ابنا ذكرا، فورث سليمان ملكه ومجلسه ومقامه ونبوّته من بينهم.

وعن أبي هريرة قال: (نزل كتاب من السّماء إلى داود عليه السلام مختوما، فيه عشر مسائل؛ أن اسأل ابنك سليمان عنهنّ، فإن أخرجهنّ فهو الخليفة من بعدك. قال:

فدعا داود

(1)

سبعين قسّيسا وسبعين حبرا، وأجلس سليمان بينهم، وقال له: يا نبيّ الله؛ إنّه نزل كتاب من السّماء فيه عشر مسائل، أردت أن أسألك عنهنّ، فإن أنت أخرجتهنّ فأنت الخليفة من بعدي. فقال سليمان: لتسأل نبيّ الله عليه السلام عمّا الله يراه، وما توفيقي إلاّ بالله.

قال: أخبرني يا نبيّ: ما أبعد الأشياء؟ وما أقرب الأشياء؟ وما آنس الأشياء؟ وما أوحش الأشياء؟ وما القائمان؟ وما المختلفان؟ وما المتباغضان؟ وما الأمر الّذي إذا ركبه الرّجل حمد آخره؟ وما الأمر الّذي إذا ركبه الرّجل ذمّ آخره؟

فقال سليمان: أمّا أقرب الأشياء فالآخرة، وأمّا أبعد الأشياء فما فاتك من الدّنيا، وأمّا آنس الأشياء فجسد فيه روح، وأمّا أوحش الأشياء فجسد لا روح فيه، وأمّا القائمان فالسّماء والأرض، وأمّا المختلفان فاللّيل والنّهار، وأمّا المتباغضان فالموت والحياة، وأمّا الأمر الّذي إذا ركبه الرّجل حمد آخره فالحلم على الغضب، وأمّا الأمر الّذي إذا ركبه ذمّ آخره فالحدّة على الغضب.

قال: ففكّ الختم فإذا هي هذه المسائل سواء على ما نزل من السّماء. فقال القسّيسون والأخبار: لن نرضى حتّى نسأله عن مسألة، فإن هو أخرجها فهو الخليفة

(1)

في المخطوط: (سُلَيْمانُ) والسياق يقتضي (داوُدَ) فأثبتناه.

ص: 9

من بعدك. فقال سليمان: سلوني وما توفيقي إلاّ بالله، قالوا: ما الشّيء الّذي إذا صلح صلح كلّ شيء منه؟ وإذا فسد فسد كلّ شيء منه؟ قال: هو القلب؛ إذا صلح صلح كلّ شيء منه، وإذا فسد فسد كلّ شيء منه. قالوا: صدقت! أنت الخليفة من بعده. ودفع إليه داود قضيب الملك، ومات من الغد).

وعن محمّد بن جعفر عن أبيه قال: (أعطي سليمان ملك مشارق الأرض ومغاربها، فملك سبعمائة سنة وستّة أشهر، ملك أهل الدّنيا كلّهم من الجنّ والإنس والشّياطين والدّواب والطّير والسّباع، وأعطي علم كل شيء، ومنطق كلّ شيء)

(1)

.

وقوله تعالى: {وَقالَ يا أَيُّهَا النّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ؛} صوت منه.

قال الفرّاء: ({مَنْطِقَ الطَّيْرِ}:معنى كلام الطّير، جعله كمنطق الرّجل إذا فهم)

(2)

.قال مقاتل: (كان سليمان جالسا إذ مرّ به طائر، فقال لجلسائه: هل تدرون ما قال هذا الطّائر؟ قالوا: لا! قال: إنّه قال لي: السّلام عليك أيّها الملك المسلّط على بني إسرائيل.

ومرّ سليمان ذات يوم على بلبل فوق شجرة يحرّك رأسه ويميل ذنبه ويصيح، فقال لأصحابه: هل تدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا: الله أعلم! قال: إنّه يقول: أكلت نصف ثمرة فعلى الدّنيا العفاء)

(3)

.

وعن الكلبيّ قال: (صاح ورشان عند سليمان، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا:

لا! قال: إنّه يقول: لدوا للموت وابنوا للخراب. وصاحت فاختة عند سليمان؛ فقال:

إنّها تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا، وليتهم إذا خلقوا علموا لماذا خلقوا. وصاح هدهد فقال: إنّه يقول: كما تدين تدان، وصاح طاوس عنده؛ فقال: إنّه يقول: من لا يرحم لا يرحم. وصاح صرد عنده؛ فقال: إنّه يقول: استغفروا الله يا مذنبين. وصاح

(1)

رواه الحاكم في المستدرك: كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء: الحديث (4195).وتعقب الذهبي هذا الخب فقال: (هذا باطل).

(2)

معاني القرآن: ج 2 ص 288.وفي أصل المخطوط: (منطق الطير كلامه) وضبط النص كما في معاني القرآن للفراء.

(3)

ذكره القرطبي أيضا عن مقاتل؛ ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 13 ص 165.والبغوي في معالم التنزيل: ص 954 عن فرقد السّبخي.

ص: 10

خطّان عنده، فقال: إنّه يقول: قدّموا خيرا تجدوه. وهدرت حمامة؛ فقال: إنّها تقول:

سبحان ربي الأعلى ملئ سماواته وأرضه. وصاح قمريّ؛ فقال: إنّه يقول: سبحان ربي القدّوس. وصاح باز فقال: إنّه يقول: سبحان ربي وبحمده. والضّفدع يقول: كلّ شيء هالك إلاّ وجهه. والقطاة تقول: من سكت سلم. والحدأة تقول: سبحان المذكور بكلّ لسان)

(1)

.

وعن مكحول قال: (صاح درّاج عند سليمان عليه السلام فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا! قال: إنّه يقول: على العرش استوى)

(2)

.وعن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنّ الدّيك يقول في صياحه: اذكروا الله يا غافلين]

(2)

.وعن الحسن بن عليّ رضي الله عنه قال: (إذا صاح النّسر قال: يا ابن آدم عش ما عشت آخره الموت، وإذا صاح العقاب قال: في البعد من النّاس أنس، وإذا صاح القنبر قال: إلهي العن مبغضي آل محمّد)

(3)

.

وروي أنّ قوما من أهل العراق من أهل الكتاب وفدوا على ابن عبّاس رضي الله عنهما؛ فقال له: أنت ابن عمّ الذي يزعم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (نعم).قالوا:

يا قوم قد عرفنا الكتب، وعرفنا ما فيها ونحن نسألك عن سبعة أشياء، فإن أنت أخبرتنا بها آمنّا وصدّقنا، قال:(اسألوني تفقّها ولا تسألوني تعنّتا).قالوا: أخبرنا ما يقول القنبر في صفيره والزّرزور والدّراج؟ وما يقول الدّيك في صياحه؟ والضّفدع في نقيقه؟ والحمار في نهيقه، والفرس في صهيله؟

فقال: (أمّا القنبر فإنّه يقول: اللهمّ العن مبغضي محمّد وآل محمّد. وأمّا الزّرزور فإنّه يقول: اللهمّ إنّي أسألك قوت يوم بيوم يا رزّاق. وأمّا الدّراج فيقول:

الرّحمن على العرش استوى. وأمّا الدّيك فإنّه يقول: اذكروا الله يا غافلين. وأمّا الضّفدع فإنّه يقول: سبحان المعبود في لجج البحار. وأمّا الحمار فإنّه يقول: اللهمّ

(1)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 953.والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 13 ص 165 - 166، كله من كلام فرقد السبخي.

(2)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 954.

(3)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 954.والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 3 ص 166.

ص: 11

العن العشّار. وأمّا الفرس فإنّه يقول «إذا التقى الصّفّان»

(1)

:سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والرّوح).فقالوا: يا ابن عبّاس نشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا رسول الله، وحسن إسلامهم

(2)

.

قوله تعالى: {وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛} يعني من أمر الدّنيا والآخرة، وقال مقاتل:(يعني الملك والنّبوّة وتسخير الرّياح والجنّ والشّياطين)

(3)

.وقوله تعالى:

{إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} (16)؛أي الزيادة الظّاهرة على ما أعطي غيرنا.

قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ؛} أي جمع له من كلّ جهة جماعة من الجنّ والإنس والطّير. والحشر: جمع الخلق من موضع إلى موضع، ومنه المحشر لعرصات يوم القيامة. قال ابن عبّاس:(كان معسكر سليمان مائة فرسخ، خمسة وعشرون فرسخا للإنس، وخمسة وعشرون فرسخا للجنّ، وخمسة وعشرون فرسخا للسّباع، وخمسة وعشرون فرسخا للطّير)

(4)

.

ووجه تسخير الطّير له أنّ الله زاد في عقولها حتى كانت تفهم ما يقال ويراد منها، وتقبل الأدب وتخاف وتحذر، وكان لسليمان عليه السلام ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة صريحة، وسبعمائة سريّة، فيأمر الرّيح العاصف فترفعه، ويأمر الرّخاء فتسير به، فأوحى الله وهو يسير بين السّماء والأرض: أنّي قد زدت في ملكك أنّه لا يتكلّم أحد من الخلائق إلاّ جاءت به الرّيح فأخبرتك به.

قوله تعالى: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} (17)؛قال قتادة: (كان على كلّ صنف من جنوده وزعة ترد أولاهم على آخرهم ليجتمعوا ويتلاحقوا)

(5)

وهو من الوزع الذي هو الكفّ، يقال: وزعته أزعه وزعا، والشّيب وازع؛ أي مانع. قال الليث: (والوازع

(1)

ما بين (()) سقطت من المخطوط.

(2)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 954.

(3)

قاله مقاتل بمعناه في التفسير: ج 2 ص 471 - 472.

(4)

أخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب التواريخ: باب تسخير سليمان عليه السلام الإنس: الحديث (4197) عن محمّد بن كعب وسكت عنه.

(5)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (20452).وينظر: المحرر الوجيز: ص 1416.

ص: 12

في الحرب الموكّل بالصّفوف يزع من تقدّم منهم)

(1)

.

ومعنى الآية: {(فَهُمْ يُوزَعُونَ)} أي كان يحبس أوّلهم على آخرهم ليتلاحقوا، وكانوا يجتمعون ويتفرّقون ويقومون في مسيرهم على مراتبهم. والإيزاع هو المنع من الذهاب، والوازع هو القيّم بأمر الجيش، ومن ذلك قول الحسن:(لا بدّ للنّاس من وزعة)

(2)

أي من سلطان يكفّهم، ويقال: لا بدّ للسّلطان من وزعة؛ أي من يمنع الناس عنه. وأصل الوزع الكفّ والمنع، ومنه الحديث:[إنّ الله ليزع بالسّلطان أكثر ممّا يزع بالقرآن]

(3)

.

قوله تعالى: {حَتّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ؛} أي ساروا جميعا حتّى إذا وصلوا إلى واد كثير النّمل، قال كعب:(هو واد بالطّائف)،وقال قتادة ومقاتل:(هو بالشّام)

(4)

، {قالَتْ نَمْلَةٌ؛} لأصحابها على وجه التّحذير:{يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ؛} أي منازلكم، {لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ؛} أي لا يكسرنّكم سليمان وجنوده، {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (18)؛بذلك؛ أي وهم لا يعلمون بحطمكم ووطئكم، فطارت الريح بكلام النّملة، فأدخلته في أذن سليمان عليه السلام ليسمعها،

{فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها؛} وكان أكثر ضحك الأنبياء عليهم السلام التّبسّم.

ونصب قوله تعالى: {(ضاحِكاً)} على الحال، وسبب ضحكه من قولها التعجّب، وذلك أنّ الإنسان إذا رأى ما لا عهد له به عجب وضحك. قال مقاتل:(ثمّ حمد ربّه حين علّمه منطق الطّير، وسمع كلام النّملة)

(5)

{وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ}

(1)

نقله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 13 ص 167 معلقا.

(2)

ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز: ص 1416.

(3)

ذكره ابن العربي في أحكام القرآن: ج 3 ص 1450؛ قال: (روى أشهب قال: قال مالك بن أنس: قال عثمان: (ما يزع الناس السلطان، أكثر مما يزعهم القرآن).والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 13 ص 168.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير: الأثر (16198).

(5)

قاله مقاتل في التفسير: ج 2 ص 472.

ص: 13

{نِعْمَتَكَ؛} يقال: فلان موزع بكذا؛ أي مولع به، وقيل: معناه: وفّقني أن أشكر نعمتك، {الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ} و، وفّقني، {وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصّالِحِينَ} (19)؛في الآخرة.

فإن قيل: بماذا عرفت النملة سليمان، وعلى أيّ سبيل كانت معرفتها به؟ قلنا:

إنّها كانت مأمورة بطاعته، فلا بدّ أن تعرف من أمرت بطاعته، ولا يمنع أن تعرف الدوابّ والبهائم هذا الضرب، كما تعرف كثيرا من منافعها ومضارّها، والنملة فيها من الفهم فوق هذا، فإنّا نشاهد صنعها في إدخال رزقها وحفظه وتعهّده، حتى إنّها تكسر ما تجمعه من الحبوب نصفين نصفين لئلاّ تنبت، إلاّ اللّويزة فإنّها تكسرها أربع قطع؛ لأنّها إذا كسرتها نصفين تنبت، فالذي هداها إلى هذه الأمور هو الذي ألهمها معرفة سليمان عليه السلام.

قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ؛} أي طلبها وبحث عنها، والطّير اسم جامع للجنس، وكانت الطير تصحب سليمان في سفره، تظلّه بأجنحتها. قوله تعالى:

{فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ؛} أي قال: ما الهدهد لا أراه أعينا؛ أي لحظته فلم تره بين الطير، {أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ} (20).

واختلفوا في سبب تفقّده عن حال الهدهد. قال ابن عبّاس: (كان الهدهد يرى الماء من تحت الأرض كما تراه من الزّجاج، وكان سليمان إذا احتاج إلى الماء في مسيره، أمر الهدهد حتّى ينظر إلى أقرب موضع من الماء، فاحتاج في ذلك اليوم إلى الماء، فلذلك تعرّف عن حال الهدهد).

قال عكرمة

(1)

:قلت: يا ابن عبّاس؛ كيف يرى الهدهد الماء وإنّ صيّادتنا يأخذونه بالفخّ فلا يرى الخيط والشّبكة؟! قال ابن عبّاس: (ما ألقى هذه الكلمة على لسانك إلاّ الشّيطان، أما تعلم أنّه إذا جاء القدر ذهب البصر).وعن سعيد بن جبير: (أنّ ابن عبّاس سئل عن تفقّد سليمان الهدهد، فقال: لأنّه كان يعرف مسافة الماء. وأنّ الصّبيّ يضع له الفخّ فيغطّي عليه بشيء من التّراب فيجيء فيقع فيه، فقال:

(1)

في جامع البيان: مج 11 ج 19 ص 175: (قال له نافع بن الأزرق).

ص: 14

ويحك! أما علمت أنّ القدر يحول دون البصر).وروي أنه قال: (إذا نزل القضاء والقدر ذهب اللّبّ وعمي البصر)

(1)

.

وقال وهب: (كان سبب تفقّده له لإخلاله بالنّوبة

(2)

،كما يتعرّف الوالي عن رعيّته)

(3)

،ويقال: كانت الطير تظلّه من الشّمس، كانت تقف في الهواء مصطفّة موصولة الأجنحة ومتقاربة، فلما أخلى الهدهد بمكانه بان ذلك لوقوع الشّمس عليه، فلذلك تعرّف عن حاله.

قوله تعالى: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً؛} قال المفسّرون: تعذيبه إيّاه أن ينتف ريشه ثمّ يلقيه في الشّمس فلا يمنع من نملة ولا من شيء من هوامّ الأرض.

ويقال: هو قصّ جناحه، ويجوز أن يعاقب بأن لا يجري عليه القلم على وجه التأديب، كما يؤدّب الأب ولده الصغير. وقيل: تعذيبه أن ينتف ريشه ويدعه ممعّطا

(4)

في بيت النمل فيلدغوه. وقيل: معناه: لأشدّنّ رجليه وألقيه في الشّمس، وقيل: لأطلبنّه بالقطر وأجعله في الشّمس. وقيل: لأفرّقنّ بينه وبين إلفه. وقيل: لأمنعنّه من خدمتي.

قوله تعالى: {أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ؛} أي لأقطعنّ حلقه، {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} (21)؛أي بحجّة ظاهرة توجب عذره في غيبته، وقصّته: أنّ سليمان عليه السلام لمّا فرغ من بناء بيت المقدس عزم على الخروج إلى أرض الحرم، فتجهّز للسير واستصحب من الجنّ والإنس والشّياطين والطّيور والوحوش ما بلغ معسكره مائة فرسخ، وأمر الرّيح فحملتهم، فلما وافى الحرم أقام به ما شاء الله أن يقيم، وكان ينحر كلّ يوم مدّة إقامته خمسة آلاف ناقة، ويذبح خمسة آلاف ثور، وعشرون ألف شاة، وأقام بمكّة حتى قضى نسكه.

(1)

هذه الروايات أخرجها الطبري في جامع البيان: الآثار (20459 - 20460).وابن عطية في المحرر الوجيز: ص 1417.والبغوي في معالم التنزيل: ص 956.

(2)

في المخطوط: (لإجلاله نبوته).

(3)

ذكره الطبري في جامع البيان: مج 11 ج 19 ص 176 من غير إسناد.

(4)

في مختار الصحاح: ص 628: (معط): (رجل (أمعط) بيّن المعط، وهو الّذي لا شعر في جسده، و (امتعط) شعره و (تمعّط) أي تساقط من داء ونحوه).

ص: 15

ثم سار إلى أرض اليمن فوافى صنعاء اليمن وقت الزّوال، فأحبّ النّزول ليصلّي ويتغدّى، فطلبوا الماء فلم يجدوه، وكان الهدهد دليله على الماء، فلما نزل سليمان قال الهدهد: إنّ سليمان قد اشتغل بالنّزول، فارتفع الهدهد إلى جهة السّماء، فنظر يمينا وشمالا فرأى خضرة بساتين مأرب في أرض بلقيس، فمال إلى جهة الخضرة، فالتقى بهدهد من هدهد سبأ، فقال له: من أين أقبلت وأين تريد؟ قال:

أقبلت من الشّام مع نبيّ الله سليمان عليه السلام، قال له: ومن سليمان؟ قال: ملك الإنس والجنّ والشياطين والوحوش والطّيور. ثمّ قال له هدهد سليمان: وأنت من أين أقبلت؟ قال: من هذه البلاد، قال: ومن ملكها؟ قال: امرأة يقال لها بلقيس؛ ملكت اليمن كلّها وتحتها اثنا عشر ألف قائد، مع كلّ قائد مائة ألف مقاتل، فهل أنت منطلق معي ننظر إلى ملكها؟ قال: أخاف أن يفقدني سليمان في وقت الصّلاة إذا احتاج إلى الماء، فقال له هدهد بلقيس: إنّ صاحبكم يسرّه أن تأتيه بخبر هذه الملكة. فانطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها، وما رجع إلاّ وقت العصر.

قال: فلما نزل سليمان ودخل عليه وقت الصّلاة، طلب الهدهد لأنه نزل غير ماء، فسأل الإنس عن الماء فقالوا: ما نعلم هنا ماء، فسأل الجنّ والشياطين فلم يعلموا، ففقد الهدهد فلم يجده، فدعا بعفريت الطير النّسر، فسأله عن الهدهد، فقال:

ما أدري أين ذهب، فغضب سليمان عند ذلك، وقال {(لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)} أي بحجّة.

ثم دعا بالعقاب وقال له: عليّ بالهدهد الساعة، فرفع العقاب نفسه حتى التزق بالهواء وارتفع حتى نظر إلى الدّنيا كالقصعة في يدي أحدكم، ثم التفت يمينا وشمالا، فإذا هو بالهدهد مقبل من نحو اليمن، فانقضّ العقاب نحوه يريده، فلما رأى الهدهد ذلك علم أن العقاب يقصده بسوء، فناشده الله تعالى، فقال له: بحقّ الذي قوّاك وأقدرك عليّ إلاّ رحمتني ولا تتعرض لي بسوء، فولّى العقاب عنه وهو يقول له: ثكلتك أمّك! إنّ نبي الله قد حلف ليعذّبنّك أو ليذبحنّك، ثم طارا متوجّهين نحو سليمان.

فلما وصل إليه قال له العقاب: قد جئتك يا نبيّ الله، فلما قرّب إليه الهدهد رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرّهما على الأرض تواضعا لسليمان، فلما دنا

ص: 16

منه، قال له: أين كنت؟ لأعذّبنّك عذابا شديدا، فقال له الهدهد: يا نبيّ الله؛ اذكر وقوفك بين يدي الله سبحانه، فلما سمع ذلك سليمان ارتعدت فرائصه فعفا عنه.

ثم قال له: ما أبطأك عنّي؟ فقال: أحطت بما لم تحط به، وذلك قوله تعالى:

{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ؛} أي لم يلبث إلاّ يسيرا حتى جاء الهدهد، {فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ؛} أي علمت شيئا من جميع جهاته، وقيل: معناه: اطّلعت على ما لم تطّلع عليه، وجئتك بأمر لم يخبرك به الجنّ والإنس، وبلغت ما لم تبلغه أنت ولا جميع جنودك، {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} (22)؛أي بخبر صدق ولا شكّ فيه.

وقرئ «(من سبإ)» بالتنوين. قال الزجّاج: (من لم يصرفه فلأنّه اسم مدينة تعرف من اليمن، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيّام، ومن صرفه؛ فلأنّه اسم البلد، ويكون مذكّرا سمّي به مذكّر)

(1)

.وفي الحديث: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن سبإ، فقال: [كان رجلا له عشرة من البنين، تيامن منهم ستّة، وتشامّ أربعة

]

(2)

.وسنذكر أسماءهم وقصّتهم في سورة سبأ إن شاء الله تعالى.

قرأ عاصم ويعقوب {(فَمَكَثَ)} بفتح الكاف، وقراءة العامّة بضمّ الكاف، وهما لغتان.

قوله تعالى: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ؛} واسمها بلقيس بنت الشّرح، وقيل: شراحيل بن ذي جدن

(3)

،وكان ملكا عظيم الشّأن، وكان قد ملك أرض اليمن كلّها، وكان يقول لملوك الآفاق: ليس أحد منكم كفؤ لي، وأبى أن

(1)

بمعناه؛ قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: ج 4 ص 87.

(2)

رواه الطبراني في المعجم الكبير: ج 22 ص 2025:الحديث (639).في مجمع الزوائد: ج 7 ص 94؛قال الهيثمي: (رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح غير شيخ الطبراني علي بن الحسن؛ لم أعرفه).

(3)

تاريخ الطبري: تاريخ الأمم والملوك: ج 1 ص 289: تاريخ ما قبل الهجرة؛ قال الطبري: (وهي -فيما يقول أهل الأنساب-يلمقة ابنة اليشرح؛ ويقول بعضهم: ابنة أيلي شرح، ويقول بعضهم: ابنة ذي شرخ بن ذي جدن بن أيلي شرح بن الحارث بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان).

ص: 17

يتزوج منهم، فزوّجوه امرأة من الجنّ يقال لها: ريحانة بنت السكن، فولدت بلقيس، ولم يكن له ولد غيرها

(1)

.

وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: [كان أحدهم يؤتى بلقيس جنّيا]

(2)

فلمّا مات أبوها ولم يخلّف أحدا غيرها طمعت في الملك، فطلبت من قومها أن يبايعوها، فأطاعها قوم وعصاها قوم آخرون، واختاروا عليها رجلا فملّكوه عليهم، فافترقوا فرقتين، كلّ فرقة منهم استولت بملكها على طرف من أرض اليمن.

ثمّ إنّ هذا الملك الّذي ملّكوه أساء السّيرة في أهل مملكته حتّى كان يمدّ يده إلى حرم رعيّته ويفجر بهنّ، فأراد أصحابه أن يخرجوه فلم يقدروا، فلمّا رأت بلقيس ذلك أدركتها الغيرة، فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه، فأجابها إلى ذلك، وقال: ما منعني أن أبدأك بالخطبة إلاّ اليأس منك، فقالت: إنّي راغبة إليك لأنك كفؤ كريم، فاجمع رجال قومي فاخطبني إليهم، فجمعهم فخطبها إليهم فقالوا: لا نراها تفعل هذا، قال: إنّها هي الّتي ابتدأتني، فذكروا لها ذلك، فقالت: نعم؛ لأجل الولد، ولم أزل كنت كارهة لذلك، فالآن قد رضيت، فزوّجوها منه.

فلمّا زفّت إليه خرجت في ناس كثير من خدمها وحشمها، فلمّا جاءته سقته الخمر حتّى سكر، ثمّ حزّت رأسه وانصرفت من اللّيل إلى منزلها، فلمّا أصبح رأوا الملك قتيلا ورأسه منصوبا على رأس دارها، فعلموا أنّ تلك المناكحة كانت مكرا وخديعة منها، فاجتمعوا إليها وقالوا لها: أنت أحقّ بهذا الملك من غيرك، فقالت:

لولا العار والشّنار ما قتلته، ولكن عمّ فساده وأخذتني الحميّة حتّى فعلت ما فعلت، فملّكوها فأسّست أمرها

(3)

.

قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛} قال عطاء (من زينة الدّنيا من المال والجنود)، {وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ} (23)،أي سرير من ذهب طوله ثمانون

(1)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 957.

(2)

في الدر المنثور: ج 6 ص 351؛قال السيوطي: (أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه وابن عساكر عن أبي هريرة).وفي في العظمة: ص 421:الحديث (1608/ 16).

(3)

ذكر مثله البغوي في معالم التنزيل: ص 957 - 958.

ص: 18

ذراعا وعرضه أربعون ذراعا وارتفاعه في السّماء ثلاثون ذراعا مضروب بالذهب مكلّل بالدّرّ والياقوت الأحمر والزّبرجد الأخضر. قال مجاهد: (وكان تحتها اثنا عشر ألف قيل-والقيل بلغة اليمن-تحت يدي كلّ قيل ألف مقاتل)

(1)

.وقيل: كان سريرها له أربع قوائم: قائمة من ياقوت أخضر، وقائمة من ياقوت أحمر، وقائمة من زمرّد، وقائمة من درّ، وصفائح السرير من ذهب، وعليه سبعة أبيات لكلّ بيت باب مغلق

(2)

.

قوله تعالى: {وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ؛} قال الحسن: (كان القوم مجوسا وكانوا يتعطّفون

(3)

على وجوههم مواجهين للشّمس)، وقوله تعالى:{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ؛} أي حسّن لهم قبيح أعمالهم، {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ؛} أي عن الطريق، {فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} (24)؛إلى طريق الحقّ.

قوله تعالى: {أَلاّ يَسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} يجوز أن يكون ابتداء خطاب من الله، ويجوز أن يكون من قول الهدهد أو من قول سليمان.

قرأ الكسائيّ والأعرج ويعقوب وحميد وأبو جعفر: «ألا يسجدوا» بالتخفيف:

ألا يا هؤلاء اسجدوا، جعلوه من أمر الله مستأنفا، وحذفوا (هؤلاء) اكتفاء بدلالة (يا) عليها، فعلى هذه القراءة (اسجدوا) في موضع جزم على الأمر والوقف عليه (ألا يا)،ثم يبتدئ (اسجدوا)،وفي قراءة عبد لله «(هلاّ يسجدوا لله)» .وقرأ الباقون {(أَلاّ يَسْجُدُوا)} بالتشديد على معنى وزيّن لهم الشيطان ألاّ يسجدوا

(4)

.

وقوله تعالى: {(يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)} ،الخبأ: كلّ ما غاب عن الإدراك، مصدر وقد وقع موقع المفعول كالخلق بمعنى المخلوق والعلم بمعنى المعلوم،

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (20502 و 20503) عن ابن عباس.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير: الأثر (16261).

(3)

عطف: مال. وعطف الوسادة ثناها. ومنعطف الوادي منعرجه ومنحناه.

(4)

ينظر: الحجة للقراء السبعة: ج 3 ص 234.وإعراب القرآن للنحاس: ج 3 ص 141 - 142.

ص: 19

وخبأ السّماوات: الأمطار، وخبأ الأرض: النبات، فعلى هذا تكون {(فِي)} بمعنى (من).

قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ} (25)؛أي يعلم ما يخفون في قلوبهم، وما يعلنون بألسنتهم. وفي قراءة الكسائيّ بالتاء، لأنّ أول الآية خطاب على قراءته بتخفيف (ألا) يا اسجدوا.

قوله تعالى: {اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (26)؛ أراد بالعرش في هذه الآية سرير الملك الذي عظّمه الله ورفعه فوق سماوات سبع وجعله أعظم من السّماوات والأرض، ومن أعظم كلّ خلق، وجعل الملائكة تحفّ به وترفع أعمال العباد إليه؛ أي هو الذي يستحقّ العبادة لا غيره، وهو ربّ العرش لا ملكة سبأ؛ لأن عرشها وإن كان عظيما لا يبلغ عرش الله في العظم.

فلمّا فرغ الهدهد من كلامه، {*قالَ؛} سليمان للهدهد:{سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ؛} فيما أخبرتنا به من هذه القصّة، {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ} (27) فنعذّبك.

ثم كتب سليمان كتابا ختمه بخاتم ودفعه إلى الهدهد، وذلك قوله تعالى:

{اِذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ؛} أي إلى أهل سبأ. وقوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ؛} أي انصرف عنهم، وهذا على التقديم والتأخير، تقديره:{فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ} (28)؛ثمّ تولّ عنهم؛ لأن التولّي عنهم بعد الجواب، ومعنى {(فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ)} أي ماذا يردّون من الجواب. وقيل: معناه: {(ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ)} أي انصرف عنهم قليلا إلى حيث لا يرونك {(فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ)} أي يقولون ويردون ويحسبون.

وكان كتاب سليمان عليه السلام: من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ، السّلام على من اتّبع الهدى. أمّا بعد: فلا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين

(1)

.وقال ابن جريج: (لم يزد سليمان على نص الله في كتابه)

(2)

.فلمّا كتب الكتاب طبعه بالمسك وختمه بخاتمه، وقال للهدهد: اذهب به، فأخذ الكتاب بمنقاره وذهب به.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (20494).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (20496).

ص: 20

فلما أغلقت المرأة الأبواب دونها ونامت على سريرها، ووضعت المفاتيح تحت وسادتها، فأتى بها الهدهد من الكوّة وهي نائمة مستلقية على قفاها، فألقى الكتاب على وجهها ونبّهها بمنقاره وصوته، فأخذت الكتاب، وكانت كاتبة قارئة عربيّة من تبّع بن سراحيل الحميريّ، فقرأت الكتاب وناخر الهدهد غير بعيد، فدعت بذوي الرّأي من قومها وهم اثنا عشر ألف قائد مع كلّ قائد مائة ألف مقاتل.

وقال قتادة: (كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا)

(1)

فجاءوا إليها،

و {قالَتْ} لهم: {يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ} (29)؛أي حسن، وقيل: شريف، وقيل: مختوم، قال صلى الله عليه وسلم:[كرامة الكتاب ختمه]

(2)

.وقوله تعالى:

{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ؛} أي الكتاب من سليمان، {وَإِنَّهُ؛} المكتوب، {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاّ تَعْلُوا} أي لا تستكبروا، {عَلَيَّ} ولا ترفّعوا عليّ، {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (31)؛منقادين طائعين.

قوله تعالى: {(أَلاّ تَعْلُوا عَلَيَّ)} بدل من {(كِتابٌ)} وموضعه على هذا القول رفع، ويجوز أن يكون نصبا على معنى بأن لا تعلوا عليّ. وقيل: معنى قوله {(وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)} أي مؤمنين بالله ورسوله من الإسلام الذي هو دين الله. وقيل: مستسلمين لأمري فيما أدعوكم إليه، فإنّي لا أدعوكم إلاّ إلى حقّ، فأطيعوني قبل أن أكرهكم على ذلك.

قوله تعالى: {قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي؛} أي قالت لأهل مشورتها: بيّنوا لي. ما أعمل في أمري بما هو الصواب، وأشيروا عليّ، فإنّي {ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً؛} من الأمور في ما مضى، {حَتّى تَشْهَدُونِ} (32)؛ تحضرون فتشاوروني، فأشيروا عليّ في هذا الكتاب، ما أصنع فيه؟

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (20495)،بلفظ:(وكان أولو مشورتها ثلاث مائة واثني عشر).

(2)

أخرجه الطبراني في الأوسط: ج 4 ص 519:الحديث (3884)،وقال:(تفرد به يحيى بن طلحة).وفي مجمع الزوائد: ج 8 ص 99؛قال الهيثمي: (رواه الطبراني في الأوسط، وفيه محمّد ابن مروان السدي الصغير، وهو متروك).وفي المخطوط بلفظ: (كَرِيمٌ).

ص: 21

{قالُوا؛} مجيبين لها: {نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ؛} وعدّة في القتال لم يبلغنا عدوّ قط، ونحن {وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ؛} في الحرب، ذكروا لها قوّتهم وشجاعتهم، وهذا تعريض منهم بالقتال إن أمرتهم بذلك.

ثم قالوا: {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ؛} أي في القتال وتركه إن أمرتنا بالقتال قاتلناه، وإن أمرتنا بغير ذلك فعلناه، وذلك معنى قوله:{فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ} (33) أي ماذا تشيرين علينا.

قوله تعالى: {قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها؛} أي قالت مجيبة لهم عن التعريض بالقتال: إنّ الملوك إذا دخلوا قرية عنوة عن غفلة وقتال أفسدوها؛ أي خرّبوها وأهلكوها، {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً؛} أي وأهانوا أشرافها وكبراءها كي يستقيم لهم الأمر. وقيل: معنى قوله {(وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً)} أي بالقتل والأسر والاستعباد وأخذ المال، وانتهى الكلام هاهنا.

قال الله تصديقا لها: {وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ} (34)؛أي كما قالت هم يفعلون. ومعنى الآية: أنّها حذرتهم مسير سليمان إليهم ودخول بلادهم. قوله تعالى:

{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} (35)؛وذلك أنّها لمّا تدبّرت في أمرها قوّت الملاطفة بالهدايا، وكانت من أولاد الملوك، تعرف عادتهم وحسن مواقع الهدايا عندهم، فإنّ ذلك هو الأولى، وكانت بلقيس امرأة لبيبة أديبة، فقالت بهذا القول اختبارا لسليمان: أملك هو أم نبيّ؟ فإن كان ملكا قبل الهدايا وترك الوصول إلى بلدها، وإن كان نبيّا لم يرض بالهديّة، ولا يرضيه إلاّ أن تتّبعه، فهيّأت الهدايا من المسك والعنبر والعود وغير ذلك، وأهدت له خمسمائة عبد وخمسمائة جارية، وأهدت له أيضا صحاف الذهب وخمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة لبنة من فضّة، وتاجا مكلّلا بالدّر والياقوت.

قوله تعالى: {فَلَمّا جاءَ سُلَيْمانَ} أي فلما جاء رسولها إلى سليمان يهديه، {قالَ؛} له سليمان:{أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمّا آتاكُمْ} وأنا أكثر أهل الدّنيا مالا ولست ممّن يرغب في المال، {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ

ص: 22

تَفْرَحُونَ} (36)؛أي إذا أهدى بعضكم إلى بعض فرحوا بذلك، وأما أنا فلا أفرح لأنّكم أهل مفاخرة ومكاثرة في الدّنيا.

وفي الخبر: أنّ سليمان عليه السلام لمّا علم بالهدايا قبل أن تصل إليه أمر أن يضرب لبنات من الذهب أحسن وأجود مما كان مع رسولها، وأمر أن تلقى تلك اللّبنات بين قوائم الدّواب حتى تروث وتبول عليها، فلمّا رأى ذلك الرسول استخفّ الهديّة التي كانت معه، وكانت بلقيس قد قالت لرسولها: إذا دخلت عليه، فإذا نظر إليك نظر غضب، فاعلم أنّه ملك فلا يهولنّك منظره، فأنا أعزّ منه، وإن نظر إليك بوجه طلق فإنه نبيّ مرسل، فتفهّم قوله وردّ الجواب. فانطلق الرسول بالهدايا ومعه الهدهد مسرعين إلى سليمان.

فلمّا وصل الرسول إلى سليمان وجده قاعدا في مجلسه على سريره، وعلى يمينه أربعة آلاف كرسيّ من ذهب، وعن يساره مثل ذلك، وقد اصطفّت الإنس صفوفا وفراسخ، واصطفّت الجنّ والشياطين والوحوش والسّباع والهوامّ والطير كذلك صفوفا وفراسخ، عن يمينه ويساره.

فلما رأوا الشياطين نظروا إلى منظر فضيع ففزعوا منهم، فقالت لهم الشياطين:

جوزوا فلا بأس عليكم، فكانوا يمرّون على كلّ كرءوس من الجنّ والإنس والطير والوحوش حتى وقفوا بين يدي سليمان، فنظر إليهم نظرا حسنا بوجه طلق، وقال: ما وراءكم؟

فأخبرهم رئيسهم بما جاءوا به من الهديّة، وأعطاه كتابا من الملكة، فنظر فيه، ثم قال لرسولها:

{اِرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها؛} أي بعساكر لا طاقة لهم بها، {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها؛} من بلادهم، {أَذِلَّةً؛} مغلولة أيديهم إلى أعناقهم، {وَهُمْ صاغِرُونَ} (37)؛أي مهانون.

فلمّا أخبرها الرسول بذلك، قالت: قد عرفت ما هذا بملك، وما لنا به من طاقة ولا ينبغي لنا مخالفته، فتجهّزت للمسير إليه، ثم عمدت إلى سريرها فوضعته في سبعة بيوت مقفلة الأبواب، بيت فوق بيت وجعلته في الطّبقة السابعة، وجعلت الجيوش حوله وخرجت متوجّهة إلى سليمان.

ص: 23

فجاء جبريل عليه السلام إلى سليمان وأخبره بمجيئها إليه،

{قالَ} سليمان:

{يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها؛} أي سرير ملكها، {قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (38)؛أي مؤمنين، وقيل: صاغرين مستسلمين منقادين.

وإنّما خصّ العرش بالطلب؛ لأنه أعجبه صفته، فأحبّ أن يعاتبها به، ويختبر عقلها به إذا رأته، تعرفه أم تنكره، وأحبّ أن يريها قدرة الله في معجزة يأتي بها في عرشها، وأحبّ أن يأخذ عرشها قبل أن تسلم، فلا يحلّ أخذ مالها بعد الإسلام، فذلك قوله تعالى:{(قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)} .

قوله تعالى: {قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ؛} يعرف بعمرو، والجنّيّ والعفريت في كلّ شيء: المبالغ الحاذق، يقال: رجل عفر وعفريت وعفرية، بمعنى واحد، والجمع عفاريت وعفارى، وقيل: العفريت من الجنّ المارد القويّ الغليظ الشديد. وقيل:

اسم العفريت الدّاهية.

قيل: إنّها سارت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل، تحت كلّ قيل ألوف كثيرة، فخرج سليمان ذات يوم وإذا هو يرى هرجا قريبا منه، فقال: ما هذا؟ قالوا:

بلقيس، قال: قد نزلت منّا بهذا المكان. قال ابن عبّاس: (وهو مكان بين الحيرة والكوفة بعيد فرسخ) فأقبل حينئذ سليمان على جنوده، وقال:{(أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ؟)} .

واختلف أهل العلم في السّبب الذي لأجله أمر سليمان بإحضار عرشها، قيل:

أن يحرم عليه أخذه بإسلامها. وقال قتادة: (إنّه أعجبه صفته لمّا وصفه له الهدهد، فأحبّ أن يراه)

(1)

،وقال ابن زيد:(أراد أن يختبر عقلها بتنكير عرشها ولينظر هل تعرفه إذا رأته أو تنكره)

(2)

،وقيل: ليريها قدرة الله وعلم سلطانه.

قوله تعالى: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ؛} أي من مجلس قضائك، وكان سليمان يجلس للقضاء من الغداة إلى انتصاف النّهار، وقال مقاتل:

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (20525).وابن أبي حاتم في التفسير: الأثر (16359).

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير: الأثر (16415) عن ابن عباس بمعناه وإسناده ضعيف.

ص: 24

(قال العفريت: أنا أضع قدمي عند منتهى بصري، فليس شيء أسرع منّي)

(1)

{وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} (39)؛أي قويّ على حمله، أمين على ما فيه من الذهب والجواهر. فقال سليمان: أريد أسرع من ذلك.

قوله تعالى: {قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ؛} وهو آصف بن برخيا كان يعلم الاسم الأعظم

(2)

الذي إذا دعي به أجاب، وهذا قول أكثر المفسّرين. وقال بعضهم: هو جبريل، وقيل: هو ملك من الملائكة.

وقوله تعالى: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ؛} قال ابن جبير: (قال لسليمان: انظر إلى السّماء، فما طرف حتّى جاء به فوضعه بين يديه)

(3)

.

والمعنى: حتى يعود إليك طرفك بعد مدّه إلى السّماء. وقيل: معناه: بقدر ما تفتح عينيك، وهذا الكلام عبارة عن المبالغة في السّرعة.

قال محمّد بن اسحاق: (انخرق مكان عرشها حيث هو، ثمّ نبع بين يدي سليمان)

(4)

ومثل هذا روي عن ابن عبّاس. وقال الكلبيّ: (خرّ آصف ساجدا ودعا بالاسم الأعظم، فغار عرشها تحت الأرض حتّى نبع عند كرسيّ سليمان)

(5)

.

قال أهل المعاني: لا ينكر من قدرة الله «نقله» من حيث كان، ثم يوجده حيث كان سليمان بالأفضل، لدعاء الذي عنده علم من الكتاب، ويكون ذلك كرامة للوليّ ومعجزة للنبيّ.

واختلفوا في ذلك الدّعاء الذي دعا به آصف، فقال مقاتل ومجاهد:(يا ذا الجلال والإكرام)

(6)

،وقال الكلبيّ:(يا حيّ يا قيّوم)،وقيل: قال له سليمان: قد رأيتك ترجع شفتيك فما قلت؟ قال: قلت إلهي وإله كلّ شيء واحد لا إله إلاّ أنت

(1)

قاله مقاتل في التفسير: ج 2 ص 477.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير: الأثر (16381).

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير: الأثر (16388) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير: الأثر (16390).

(5)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 962،وأصله كما في الأثر السابق عند ابن أبي حاتم.

(6)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (20543).

ص: 25

ائت به. وقال بعضهم: هو يا إلهنا وإله كلّ شيء، يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلاّ أنت. وقال الحسن: (اسم الله الأعظم: يا رحمان، وذلك أنّه لا يسمّي أحد بهذين الاسمين على الإطلاق غير الله عز وجل.

قوله تعالى: {فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا؛} أي فلمّا رأى سليمان العرش مستقرّا، {عِنْدَهُ،} نابتا بين يديه، {قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي؛} أي هذا التمكين من حصول المراد من حصول فضل الله وعطائه، {لِيَبْلُوَنِي؛} أي ليختبرني ويمتحنني على هذه النعمة، {أَأَشْكُرُ؛} أأشكره فيما أعطاني من نعمة، {أَمْ أَكْفُرُ؛} أي أترك شكرها، {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ؛} أي من شكر نعمة ربه فإنّما منفعة شكره راجع إلى نفسه، يعني ثواب شكره يعود إليه، {وَمَنْ كَفَرَ؛} أي ترك شكر نعمته، {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ؛} عنه وعن شكره، {كَرِيمٌ} (40)؛ يقبل الشّكر؛ أي ويزيد عليه في النعمة في الدّنيا ويثيب عليه في العقبى.

قوله تعالى: {قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها؛} قال سليمان: غيّروا سريرها وزيدوا فيه وأنقصوا منه حتى، {نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} .

قوله تعالى: {فَلَمّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ؛} أي فلما جاءت بلقيس إلى سليمان، قيل: أهكذا سريرك؟ فجعلت تعرف وتنكر، وعجبت من حضوره عند سليمان، و {قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ؛} وقال مقاتل:(عرفته ولكنّها شبّهت عليه كما شبّهوا عليها، ولو قيل لها: أهذا عرشك؟ لقالت: نعم. فقيل لها: فإنه عرشك، فما أغنى عنك إغلاق الأبواب، وكانت قد خلّفته وراء سبعة أبواب لمّا خرجت والمفاتيح معها، فلم تقرّ ولم تنكر، فعلم سليمان كمال عقلها)

(1)

.

وقال عكرمة: (كانت حكيمة، قالت: إن قلت هو هو خشيت أن أكذب، وإن قلت لا خشيت أن أكذب)

(2)

فلم تقل نعم، ولا قالت لا؛ لأنه كان يشبه سريرها، وشكّت في وصوله إلى سليمان بعد أن وضعته في أحصن المواضع، وشكّت أيضا لما أحدثوا فيه من التغيّر.

(1)

قاله مقاتل في التفسير: ج 2 ص 478.

(2)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 963.

ص: 26

قوله تعالى: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنّا مُسْلِمِينَ} (42)؛هذا من قول سليمان عليه السلام وقومه؛ أي قالوا: وأعطينا العلم بها وبملكها وسريرها من قبل مجيئها، وهو ما أخبر به الهدهد من شأنها وقصّتها، وقالوا: وكنّا مسلمين بحمد الله عز وجل من قبل مشاهدة المعجزات، وهذا قول مجاهد.

وقال بعضهم: هذا قول من بلقيس لمّا رأت عرشها قالت: وأوتينا العلم بصحّة نبوّة سليمان عليه السلام من قبل الآية في العرض وكنا مسلمين طائعين منقادين لأمر سليمان عليه السلام قبل أن نجيء إليه.

قوله تعالى: {وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ؛} أي منعها الإيمان بالله العبادة التي كانت عليها من عبادة الشّمس. والمعنى: وصدّها عن الإيمان والتوحيد الذي كانت تعبد من دون الله؛ وهو الشّمس؛ لأنّها نشأت في قوم لم يكونوا يعرفون إلاّ عبادة الشّمس؛ لأنّها كانت من المجوس.

قوله تعالى: {إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ} (43)؛أي إنّها كانت من قوم يعبدون الشّمس، فنشأت في ما بينهم. وقال بعضهم معنى قوله:{(وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ)} أي صدّها سليمان؛ أي منعها ذلك، وحال بينه وبينها، فعلى هذا يكون موضع {(ما)} نصبا.

قوله تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ؛} وذلك أنّ بلقيس لمّا لم تسلم بما رأت من الآيات، أراد سليمان عليه السلام أن يريها آية أخرى لتسلم، فأمر الجنّ والشياطين أن يبنوا لها صرحا؛ أي قصرا من زجاج مملّس، وأن يجروا تحته الماء، ويجعلوا فيه المسك والزّمرّد الأملس، وشجرة مرداء؛ أي ملساء لا ورق لها. ففعلوا ذلك ثم وضعوا له سريرا في صدر الصّرح فجلس عليه، وعكفت عليه الطير والجنّ والإنس.

وقيل: إنّ سليمان عليه السلام إنّما أمر ببناء الصّرح؛ لأن الجنّ كانوا قد أخبروه أن رجلها رجل حمار، وإنّها شعراء الرّجلين؛ لأن أمّها كانت من الجنّ، فخافوا أن يتزوّجها فتفشي إليه أسرار الجنّ، فأرادوا أن يزهدوه فيها بهذا الكلام، وقالوا له أيضا: إنّ في عقلها شيء، فأراد أن يختبر حقيقة قولهم أنّ رجلها كحافر الحمار،

ص: 27

ولينظر إلى ساقها هل به شعر كما قالوا {(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ)} أي القصر، وقيل:

صحن القصر.

قال الزجّاج: (والصّرح: القصر والصّحن، يقال: هذه ساحة الدّار وصرحة الدار)

(1)

.والصّرح في اللغة: هو البسط المنكشف من غير سقف، ومنه صرّح بالأمر إذا أفصح به ولم يكنّ عنه، والتصريح بخلاف التّضمير.

قوله تعالى: {فَلَمّا رَأَتْهُ؛} أي فلمّا رأت بلقيس الصّرح على تلك الصّفة، {حَسِبَتْهُ لُجَّةً؛} واللّجّة معظم الماء الكثير، {وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها؛} أي رفعت ثيابها عن ساقيها حتى لا تبتلّ ثيابها على ما هو العادة من قصد الماء. قال ابن عبّاس: (لمّا كشفت ساقها رأى سليمان قدما لطيفا وساقا حسنا خدلجا

(2)

،إلاّ أنّها كثيرة شعر السّاقين).فلمّا رأى سليمان ذلك صرف بصره عنها، وناداها:{قالَ إِنَّهُ،} ليس هذا بماء، وإنّما هو، {صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ؛} أي مملّس من زجاج، فلا تخافي واعبري عليه، فلمّا رأت السّرير والصّرح علمت أنّ ملك سليمان من الله عز وجل، و {قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي؛} بعبادة الشّمس، {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} (44)؛أي أخلصت التوحيد.

والمعنى: أنّ بلقيس استدلّت بما شاهدت على وحدانيّة الله وصحّة نبوّة سليمان بما رأت من شدّة قوّته وما كان من ترسّل الطير له، وإحضار عرشها في أسرع مدّة على بعد المسافة، وبناء الصّرح من القوارير على وجه الماء، فلذلك قالت:{(ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)} فتزوّجها سليمان عليه السلام.

وقيل: لمّا أراد سليمان أن يتزوّجها كره ذلك لما رأى من كثرة شعر ساقيها، فسأل الإنس: ما يذهب هذا؟ قالوا: الموسى، فقال: إنّها تقطع ساقيها، فسأل الجنّ فقالوا: لا ندري، ثم سأل الشياطين فقال لهم: كيف لي أن أقلع هذا الشّعر من غير

(1)

في معاني القرآن وإعرابه: ج 4 ص 93،وقال:(وصحنة الدار، وباحة الدار، وقاعة الدار، هذا كلّه في معنى الصّحن).

(2)

الخدلجة من النساء: الرياء، الممتلئة، وقيل: هي الضخمة الساقين. ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: ج 5 ص 322: (الخدلجة)

ص: 28

مضرّة للجسد؟ فدلّوه على عمل النّورة، وكانت النّورة والحمّامات من يومئذ، فاتّخذوا لها النّورة والحمّام، وتزوّجها سليمان عليه السلام، فلما تزوّجها أحبّها حبّا شديدا، وأقرّها على ملكها، وأمر الجنّ بأن يبنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير مثلها حسنا وارتفاعا؛ وهي: سيلحين وسون وغمدان، ثم كان سليمان يزورها في كلّ شهر مرّة بعد أن ردّها إلى ملكها، ويقيم عندها ثلاثة أيّام، وولدت له أولادا في ما ذكر.

وروي أنّ رجلا جاء إلى عبد الله بن عتبة وسأله: هل تزوّج سليمان بلقيس؟ فقال: (عهدي بها أن قالت: وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين)

(1)

يعني أنه لا يعلم ذلك.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ؛} يعني بأن اعبدوا الله وحده، فآمن به فريق وكفر به فريق، فجعل الفريقان يختصمون كما قال تعالى في سورة الأعراف {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} .

(2)

وقوله تعالى: {فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ} (45)؛أي فإذا هم مؤمن وكافر، مصدّق ومكذّب، يختصمون في الدّين، كل فريق منهم يقول: الحقّ معي.

وقوله تعالى: {قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ؛} فيه ضمير تقديره: إنّ المؤمنين أوعدوا الكافرين على كفرهم وتكذيبهم، فاستعجل الكافرون العذاب، فقال صالح عليه السلام للكافرين المكذّبين:{(لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ)} أي بالعذاب قبل الرّحمة، ولا تستعجلون الثّواب الموعود على الإيمان. قوله تعالى:{لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ؛} أي هلاّ تستغفرون الله عن كفركم وتكذيبكم، {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (46)؛أي فلا تعذبون في الدّنيا.

قوله تعالى: {قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ؛} أي تشاء منا بك وبمن معك بما لحقنا من نقصان الزّرع والثمار والمياه. والتّطيّر: هو التّشاؤم، وأصله: تطيّرنا بك

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير: الأثر (16449).

(2)

الأعراف 75/.

ص: 29

وبمن معك، وذلك أنه قحط المطر عنهم وجاعوا فقالوا: أصابنا هذا البلاء والضرّ من شؤمك وشؤم أصحابك.

وإنّما ذكر التطيّر بلفظ التّشاؤم على عادة العرب في نسبتهم الشّؤم إلى ما يأتي من الطّير ناحية اليد الشّؤمى وهي اليسرى، ويسمّون الطّير الذي يأتي من ناحية اليد اليسرى البارح، وأما الطّير الذي يأتي من ناحية اليد اليمنى فهو السّانح.

قوله تعالى: {قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ؛} أي قال لهم صالح عليه السلام ردّا عليهم: {(طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ)} أي الشّؤم أتاكم من عند الله بكفركم، وهذا الذي أصابكم من الجدب والخصب عند الله مكتوب عليكم، لازم لكم في أعناقكم وليس ذلك إليّ ولا علمه عندي، وهذا كقوله {يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ} .

قوله تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} (47)؛أي تخسرون في الدّنيا باختلاف الأحوال من الخير والشرّ. وقيل: معناه: بل أنتم قوم تعذبون بذنوبكم.

وقيل: تمتحنون بإرسالي إليكم لتثابوا على متابعتي، وتعاقبوا على مخالفتي. وقيل:

بمعنى {(تُفْتَنُونَ)} أي تعاقبون كما في قوله تعالى: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ}

(1)

أي عقوبتكم.

قوله تعالى: {وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} (48)؛معناه: كان في مدينة صالح عليه السلام وهي الحجر تسعة رهط من الفسّاق من أبناء رؤسائهم وهم غواة قوم صالح يفسدون في الأرض بالمعاصي ولا يصلحون ولا يطيعون الله، ولا

(2)

يأتمرون بالصّلاح، وأسماؤهم قدار بن سالف؛ ومصدع؛ وأسلم؛ ودهم؛ وذهيم؛ وذعما؛ ودغيم؛ وقتّال؛ وضرّاب

(3)

.

(1)

الذاريات 14/.

(2)

(لا) سقطت من المخطوط.

(3)

في الجامع لأحكام القرآن: ج 13 ص 215 - 216 بعد ذكر أسمائهم واختلاف الروايات؛ قال القرطبي: (وذلك لا ينضبط برواية، غير أني أذكره على وجه الاجتهاد والتخمين).وفي التفسير الكبير: الأثر (16466) أخرج ابن أبي حاتم بإسناده عن ابن عباس قال: [كانت أساميهم: رعمي، ورعيم، وداد، وصواب، ورياب، ومسطح، وقدار بن سالف عاقر الناقة.]

ص: 30

قوله تعالى: {قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ؛} أي قالوا فيما بينهم:

احلفوا بالله؛ أي تحالفوا بالله لتدخلنّ على صالح وعلى أهله الذين آمنوا معه ليلا فنقتلهم بياتا. قرأ يحيى وحمزة والأعمش والكسائي وخلف «(لتبيّتنّه)» بالتاء و «(ليقولنّ)» بالياء وضمّ التاء واللاّم على الخطاب.

قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنّا لَصادِقُونَ} (49)؛فيما نقول، وقرأ عاصم برواية أبي بكر «(مهلك)» بفتح الميم واللام، والمهلك: يجوز أن يكون مصدرا بمعنى الإهلاك، ويجوز أن يكون الموضع.

وروى حفص عن عاصم {(مَهْلِكَ)} بفتح الميم وكسر اللاّم وهو اسم المكان على معنى: ما شهدنا موضع هلاكهم

(1)

.

قال الزجّاج: (تحالف هؤلاء التّسعة على أن يبيّتوا صالحا وأهله، ثمّ ينكروا عند أوليائه، وكان هذا منكرا عزموا عليه)

(2)

،كما قال تعالى:

{وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (50)؛أي دبّروا في أمر صالح عليه السلام وأهله من حيث لم يشعر بهم صالح ولا أهله، {(وَمَكَرْنا مَكْراً)} أي دبّرنا نحن في هلاكهم مجازاة لهم على مكرهم بتعجيل عقوبتهم {(وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)} بما أردنا فيهم.

قوله تعالى: {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ؛} أي فانظر يا محمّد {(كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ)} أي كيف كان آخر مكرهم، {أَنّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} (51).

قرأ الحسن وأهل مكّة والأعمش {(أَنّا دَمَّرْناهُمْ)} بفتح الهمزة ولذلك وجهان في أحدهما: أن تكون بدلا في محلّ الرفع تبعا للعاقبة، كأنّه قال: العاقبة أنّا دمّرناهم.

والثاني: أنّ موضعها نصب على خبر كان، تقديره: كان عاقبة مكرهم التّدمير. وقرأ الباقون بالكسر على الابتداء وهو تفسير ما كان قبله مثل قوله {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ، أَنّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا} .

(3)

(1)

ينظر: الحجة للقراء السبعة: ج 3 ص 240.

(2)

في معاني القرآن وإعرابه: ج 4 ص 94،وحكاه المصنف رحمه الله بتصرف ليس بالنص كما هو.

(3)

عبس 4/-25. ينظر: معاني القرآن للفراء: ج 2 ص 296.وإعراب القرآن للنحاس: ج 3 ص 147 - 148.

ص: 31

والتدمير: هو الإهلاك على وجه عظيم قطيع. واختلفوا في كيفيّة هلاكهم، قال ابن عبّاس:(أرسل الله الملائكة تلك اللّيلة إلى دار صالح يحرسونها، وجاءت التّسعة إلى دار صالح شاهرين سيوفهم، فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث كانوا يرون الحجارة ولا يرون الملائكة فقتلتهم)

(1)

.وقال مجاهد: (نزلوا في سفح جبل ينظر بعضهم بعضا ليأتوا دار صالح، فختم عليهم الجبل فأهلكهم وأهلك الله قومهم أجمعين بصيحة جبريل عليه السلام.

قوله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا؛} أي خاوية عن الأهل والخير والنّعمة بسبب ظلمهم لم يبق فيها منهم ديّار، قرأ العامّة «(خاوية)» بالنصب على الحال، والمعنى: فانظر إلى بيوتهم خاوية بما ظلموا؛ أي بظلمهم وشركهم أهلكناهم حتى جعلنا بيوتهم خاوية؛ أي منازلهم ساقطة على عروشها.

وقيل: «(خاوية)» نصب على القطع، تقديره: فتلك بيوتهم الخاوية، فلما قطع منها الألف واللام نصب، كقوله {وَلَهُ الدِّينُ واصِباً} .

(2)

وقرأ عيسى بن عمر «(خاوية)» بالرفع على الخبر.

قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (52)؛أي إنّ في إهلاكنا إيّاهم لدلالة ظاهرة وعبرة لمن علم توحيد الله وقدرته. قوله تعالى:

{وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا؛} أي أنجينا الذين آمنوا بصالح من العذاب {وَكانُوا يَتَّقُونَ} (53)؛الشّرك والعقاب.

قوله تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ؛} أي واذكر لوطا إذ قال لقومه: {أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ؛} يعني اللّواطة، سمّاها فاحشة لعظم قبحها، {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} (54)؛أي وأنتم تعلمون أنّها فاحشة. وقيل: وأنتم تبصرون بعضكم بعضا وكانوا لا يستترون.

(1)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 964.

(2)

النحل 52/.

ص: 32

قوله تعالى: {أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (55)؛أي تجهلون العذاب الموعود على هذه الفاحشة، وقيل:

تجهلون القيامة وعاقبة المعاصي.

قوله تعالى: {*فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (56)؛أي عن أدبار الرّجال يقولون استهزاء بهم.

وقوله تعالى: {فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ} (57)؛ أي قدّرنا عليها أن تكون من الغابرين؛ أي من المتخلّفين فتهلك فيمن هلك، لا جرمها مثل جرمهم لأنّها كانت راضية بأفعالهم القبيحة فجرت مجراهم في العذاب.

قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً؛} أي على مسافريهم، أي حجارة؛ {فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} (58)؛فبئس المطر مطر قوم أنذرهم لوط عليه السلام فلم يؤمنوا.

قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى؛} أي قيل للوط عليه السلام: قل الحمد لله على هلاك كفّار قومي. وقيل: الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أي قل يا محمّد: الحمد لله على هلاك كفّار الأمم الخالية. وقيل: على جميع نعم الله سبحانه.

وقوله تعالى: {(وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى)} قال يعني الانبياء الذي اختارهم الله لرسالته، وقال ابن عبّاس: (هم أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم

(1)

،وقال الكلبيّ:

(هم أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم والّذين اصطفاهم الله لمعرفته وطاعته)

(2)

،ومعنى السّلام عليهم:

أنّهم سلموا ممّا عذّب به الكفار.

قوله تعالى: {آللهُ خَيْرٌ أَمّا يُشْرِكُونَ} (59)؛أي قل لأهل مكّة:

أعبادة الله أفضل أم عبادة من تشركون به من دونه من الأصنام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (20539).وابن أبي حاتم في التفسير الكبير: الأثر (16495).

(2)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 966.

ص: 33

إذا قرأ هذه الآية، قال:[الله أبقى وأجلّ وأكرم ممّا تشركون]

(1)

.قرأ عاصم وأهل البصرة «(أمّا يشركون)» بالياء، وقرأ الباقون بالتّاء.

قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؛} فيه إضمار كأنه قال:

آلهتكم أم من الذي خلق السّماوات والأرض بما فيها من العجائب والبدائع، {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً؛} يعني المطر، {فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ؛} أي بساتين، {ذاتَ بَهْجَةٍ؛} أي منظر حسن وأنوار، والحديقة: هي البستان التي يحاط عليه بما فيه من النّخل والشّجر، فإن لم يكن عليه حائط فليس بحديقة.

قوله تعالى: {ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها؛} هذا نفي، يعني ما قدرتم عليه، والمعنى: ما ينبغي لكم ذلك؛ لأنّكم لا تقدرون عليها، ثم قال استفهاما منكرا عليهم:{أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؛} أي هل معه معبود سواه أعانه على صنعه في خلق هذه الأشجار. قوله تعالى: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (60)؛يعني كفّار مكّة قوم يعدلون الأصنام بخالقهم بجهلهم. وقيل: {(يَعْدِلُونَ)} أي يشركون بالله غيره. وقيل:

يميلون عن الطريق وعن النّظر في الدّلائل المؤدّية إلى العلم بوحدانيّة الله.

قوله تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً؛} أي مستقرّة لا تميل بأهلها، بل جعلها مسكنا يسيرون فيها ويصرفون عليها، فلا هي تضطرب بهم، ولا هي حزنة غليظة مثل رءوس الجبال.

وقوله تعالى: {وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً؛} أي جعل وسط الأرض أودية وعيونا من عذب ومالح، {وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ؛} أي جعل على الأرض جبالا ثوابت وأودية أوتادا لها، {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً؛} أي بين الملح والعذب مانعا بلطفه وقدرته فلا يختلط أحدهما بالآخر، ولا يبغي أحدهما على صاحبه، وقوله تعالى:{أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؛} أي مع الله إله فعل شيئا من هذه الأشياء، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (61)؛توحيد ربهم وسلطانه وقدرته.

(1)

ذكره مقاتل في التفسير: ج 2 ص 482.والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 13 ص 221 من غير إسناد.

ص: 34

وقوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ؛} المضطرّ: المكروب المجهود المدفوع إلى ضيق من الأمور من غرق أو مرض أو بلاء أو حبس أو كرب إذا دعاه، {وَيَكْشِفُ السُّوءَ،} فيكشف ضرّه ويفرج عنه فيبعده من الغرق وينجيه ويشفيه من المرض، ويعافيه من البلاء. وقال السديّ:(المضطرّ الّذي لا حول له ولا قوّة)،وقال دو النّون:(هو الّذي قطع العلائق عمّا دون الله)

(1)

.

قوله تعالى: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ؛} أي يأتي بقوم بعد قوم، ويخلق قرنا بعد قرن، وكلّما أهلك قرنا أنشأ آخرين، فيكون كلّ خلفاء لمن قبلهم.

وقوله تعالى: {أَإِلهٌ مَعَ اللهِ؛} أي إله سوى الله فعل ذلك، {قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ} (62)؛أي قليلا ما تتّعظون.

قوله تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ؛} معناه: أمّن يرشدكم إلى الطريق في ظلماء اللّيل في البرّ والبحر إذا سافر، ثم بما خلق لكم من القمر والنّجوم والمسالك، وهذا كقوله {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ،}

(2)

ويجوز أن يكون المراد بالظّلمات الشّدائد، {وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ؛} أي قدّام المطر، والنّشر: جمع نشور؛ وهي الرياح التي تأتي بالسّحاب، قوله تعالى:{أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمّا يُشْرِكُونَ} (63)؛أي جلّ وعزّ أن يكون له شريك.

قوله تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ؛} معناه: أمّن يبدأ الخلق في الأرحام من النّطفة ثم يميته ثم يعيده للبعث والنّشور، وقوله تعالى:{وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؛} أي يرزقكم من السّماء المطر، ومن الأرض النبات والزّرع، وقوله تعالى:{أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ؛} أي حجّتكم فيما تدّعونه من إله سواه، {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} (64)؛أي مع الله آلهة أخرى تصنع شيئا من هذه الأشياء.

(1)

ذكره الثعلبي في الكشف والبيان: ج 7 ص 219،ونقله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 13 ص 223.

(2)

الأنعام 97/.

ص: 35

قوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ؛} أي قل لهم يا محمّد: {(لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)} يعني الملائكة، {(وَالْأَرْضِ)} يعني الناس، لا يعلم أحد منهم شيئا من الغيب من وقت نزول العذاب وقيام السّاعة وغير ذلك مما غاب عن العباد، ولا يعلم ذلك إلاّ الله عز وجل وحده، {وَما يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ} (65)؛أي ولا يدرون متى يبعثون من القبور، والأصل في {(أَيّانَ)} (أيّ) و (إن) ضمّنا وجعلا أداة واحدة، قالت عائشة:(من زعم أنّه يعلم ما في غد، فقد أعظم الفرية على الله تعالى، قال الله تعالى: {(لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ})

(1)

.

قوله تعالى: {بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ؛} فيه قراءتان، قرأ الحسن والأعمش وشيبة ونافع وعاصم وحمزة والكسائي وخلف {(بَلِ ادّارَكَ)} بكسر اللام وتشديد الدال؛ أي تدارك وتتابع عليهم في الآخرة، ومنه قوله تعالى:{حَتّى إِذَا ادّارَكُوا فِيها جَمِيعاً،}

(2)

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب ومجاهد «(بل أدرك)» من الإدراك؛ أي تبع ولحق

(3)

،كما يقال: أدركه علمي؛ أي بلغه ولحقه. قال ابن عبّاس:

(يريد ما جهلوه في الدّنيا، وسقط علمه عنهم علموه في الآخرة)

(4)

.

وقال السديّ: (اجتمع علمهم يوم القيامة فلم يشكّوا ولم يختلفوا).وقال مقاتل: (بل علموا في الآخرة حينما عاينوها ما شكّوا فيه وعموا عنه في الدّنيا)

(5)

.

{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها؛} أي بل هم اليوم في الدّنيا في شكّ من السّاعة، {بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ} (66)؛جمع عم، وهو عميّ القلب، وقيل: معنى {(بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ)} متحيّرون بترك التأمّل، يقال: رجل عمه وعامه وعم، إذا كان متحيّرا، وقوم

(1)

رواه مسلم في الصحيح: كتاب الإيمان: باب (77):الحديث (177/ 287).

(2)

الأعراف 38/.

(3)

ينظر: الحجة للقراء السبعة: ج 3 ص 243.

(4)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (20601).وابن أبي حاتم في التفسير الكبير: الأثر (16541).

(5)

قاله مقاتل في التفسير: ج 2 ص 482.

ص: 36

عمون؛ أي متحيّرون، ويجوز أن يكون معنى {(ادّارَكَ عِلْمُهُمْ)} أي لحق علمهم ذلك بما نصب لهم من الأدلّة، بل هم في شكّ منها بترك التأمّل.

قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنّا لَمُخْرَجُونَ} (67) معناه: وقال كفّار مكّة: إذا صرنا ترابا وآباؤنا أإنّا لمخرجون من القبور أحياء؟

وقوله تعالى: {لَقَدْ وُعِدْنا هذا؛} الذي تخوّفنا به من البعث والنّشور، ووعد آباؤنا من قبل، فما وجدنا لذلك حقيقة، وما هذا الذي يعدنا محمّد إلاّ أكاذيب الأوّلين. وقيل: معناه: لقد وعدنا هذا البعث، {نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ} قبل محمّد وليس ذلك بشيء، {إِنْ هذا إِلاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (68)؛أي أحاديثهم وأكاذيبهم التي كذبوها.

قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ؛} أي قل يا محمّد: {(سِيرُوا)} ؛أي سافروا وتردّدوا في الأرض، {فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} (69)؛ آخر أمر المكذّبين بالرّسل أهلكهم الله بأنواع العقوبات.

قوله تعالى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ؛} أي لا تحزن على تكذيبهم إيّاك ولا إهلاكهم إن لم يؤمنوا، وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان حريصا على إيمانهم ونجاتهم، {وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ} (70)؛أي لا يضيق صدرك يا محمّد بما يمكرونه، وسيظهرك الله عليهم، نزلت هذه الآية في المستهزءين الذين اقتسموا أعقاب مكة، وقد مضت قصّتهم.

قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} (71)؛ أي يقولون على وجه التّكذيب: {(مَتى هذَا الْوَعْدُ)} الذي يعدنا به في الدّنيا والآخرة {(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)} في أنه يكون.

قوله تعالى: {قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} (72) أي قل يا محمّد: {(عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ)} أي دنا لكم وركبكم بعض ما تستعجلون به من العذاب، لا يجوز أن تكون {(عَسى)} في هذا الموضع بمعنى الشّك، إنّما هو بمعنى الإيجاب على وجه التّخويف، قال ابن عبّاس:{(رَدِفَ لَكُمْ} ؛أي قرب

ص: 37

لكم)

(1)

وقيل: حضر لكم.

والمعنى: أنّ الله تعالى أمر نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يقول للذين يستعجلون بالعذاب: قد دنا لكم بعض ما تستعجلون، فكان بعض الذي دنا لهم القتل ببدر، والقحط الذي سلّط عليهم عقيب هذه الآية حتى أكلوا الجيف. والمعنى في {(رَدِفَ لَكُمْ)} أي ردفكم، فأدخل اللاّم فيه كما أدخلها في قوله تعالى:{لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ}

(2)

و {لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ،}

(3)

قال الفرّاء: (اللاّم صلة زائدة، كما يقولون نقدته ونقدت له)

(4)

.

قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ؛} قال مقاتل: (معناه:

لذو فضل على أهل مكّة حتّى لا يعجلهم بالعذاب)

(5)

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} (73)؛وقيل: لذو فضل عليهم بإمهالهم والإنعام عليهم، ولكنّهم لا يشكرون فضله عليهم،

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ؛} أي ما تخفي صدورهم من البغض والعداوة، {وَما يُعْلِنُونَ} (74)؛بألسنتهم من الكفر والتكذيب وعدائه صلى الله عليه وسلم فيجازيهم على ذلك.

قوله تعالى: {وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ} (75)؛ أي وما من جملة غائبة خافية على أهل السّماء والأرض، إلاّ وهو مكتوب في اللّوح المحفوظ بيّن فيه.

قوله تعالى: {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ؛} أي بيّن لبني إسرائيل، {أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (76)؛كاختلاف اليهود والنّصارى في المسيح وفي غيره من الأنبياء، وكاختلافهم في صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم والمبشّر

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (20606).

(2)

الأعراف 154/.

(3)

يوسف 43/.

(4)

في معاني القرآن للفراء: ج 2 ص 299 - 300 بلفظ قريب؛ قال: (كما قال بعض العرب: نفذت لها مائة، وهو يريد: نفذتها مائة).ونقل البغوي قول الفراء كما حكاه الطبراني، ينظر: معالم التنزيل: ص 967.والجامع لأحكام القرآن: ج 13 ص 230.

(5)

قاله مقاتل في التفسير: ج 2 ص 485.

ص: 38

به في التّوراة،

وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (77)؛أي وإنّ القرآن لهدى من الضّلالة ورحمة من العذاب لمن آمن به.

وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ؛} أي يقضي بين المؤمنين والكافرين يوم القيامة بحكمة، {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} (78)؛أي العزيز بالانتقام من الكفّار، العليم بهم وبعقوبتهم، ولا يمكن ردّ قضائه.

وقوله تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ؛} أي ثق بالله يا محمّد، وفوّض أمرك إليه، {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} (79)؛أي على طريق الإسلام، وهذا تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم،

وقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى؛} هذا مثل للكفّار، شبّه الله كفّار مكّة بالأموات، تقول كما لا يسمع الميّت النداء، كذلك لا يسمع الكافر النداء، {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} (80)؛قال قتادة:(إنّ الأصمّ لو ولّى مدبرا وناديته لم يسمع، كذلك الكافر لا يسمع ما يدعى إليه من الإيمان)

(1)

«والمعنى: أنهم لفرط»

(2)

إعراضهم عن ما يدعون إليه من التوحيد كالميّت الذي لا سبيل إلى إسماعه، وكالأصمّ الذي لا يسمع.

قوله تعالى: {وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ؛} أي وما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى وأعمى عن قلبه الإيمان، وقيل: معناه: كما لا يمكن إرشاد الأعمى إلى قصد الطّريق بالأمارات الدالّة على الطريق، كذلك لا يمكن هداية القوم الذين عميت بصائرهم عن آيات الله، وليس على الرّسل عليهم السلام إلاّ الدعاء إلى الله تعالى.

وقرأ حمزة والأعمش: «(وما أنت تهدي العمي)» بالتّاء ونصب الياء على الفعل

(3)

هاهنا وفي الرّوم.

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير: الأثر (16581).

(2)

ما بين (()) غير واضح في المخطوط، وضبطت على عبارة البغوي في معالم التنزيل.

(3)

ينظر: الحجة للقراء السبعة: ج 3 ص 246.

ص: 39

قوله تعالى: {إِنْ تُسْمِعُ إِلاّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا؛} ما سمع سماع إفهام إلاّ من يؤمن بآياتنا ويطلب الحقّ بالنظر في القرآن. وقال مقاتل: (إلاّ من يصدّق بالقرآن أنّه من الله)

(1)

{فَهُمْ مُسْلِمُونَ} (81)؛أي مخلصون بتوحيد الله، والمعنى ما سمع دعوتك سماع القبول إلاّ من يطلب الحقّ بالنظر في آيات الله، فلا بدّ أن يسلم في ظهور الدّلائل.

قوله تعالى: {*وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ؛} معناه: وإذا وجب القول عليهم بالسّخط والعذاب عند قرب السّاعة {(أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ)} ،فقال قتادة:(إذا غضب الله عليهم وأوجب أن ينزل بهم ما قال الله وحكم به من عذابه وسخطه عليهم)

(2)

أي على الكفّار الذين تخرج عليهم الدّابة، وهو قوله تعالى:{(أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ)} وذلك حين لا يؤمر بمعروف ولا ينهى عن منكر. قال مخلّد بن الحسين

(3)

: (لا تخرج الدّابّة حتّى لا يبقى أحد يريد أن يؤمن).قالوا: وتخرج الدّابة من صدع في الصّفا.

وروي أنه تخرج بين الصّفا والمروة، ولا تخرج إلاّ رأسها وعنقها، فيبلغ رأسها السحاب فيراها أهل المشرق والمغرب فيسمعون كلامها باللّسان، فتقول لهم: أيّها الكفّار مصيركم إلى النار، ثم تقبل على المؤمنين فتقول: أيّها المؤمنون مصيركم إلى الجنّة، فتميّز عند ذلك أهل الجنّة من أهل النار.

ويجوز أن يكون قوله {(تُكَلِّمُهُمْ)} من الكلم وهو الجراحة، كما روي في قراءة ابن عبّاس «(تكلمهم)» بنصب التاء وكسر اللام؛ أي تسمهم، تكتب على وجه الكافر:

إنّه كافر، وعلى جبين المؤمن: إنّه مؤمن.

(1)

قاله مقاتل في التفسير: ج 2 ص 484.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (20613 - 20614).

(3)

مخلّد بن الحسين الأزديّ المهلّبي البصريّ، ترجم له ابن حجر في التهذيب: الرقم (6798)؛ وقال: (قال العجلي: ثقة رجل صالح، كان من عقلاء الرجال).وقال أبو داود: (كان من أعقل أهل زمانه) مات سنة احدى وتسعين. وله ترجمة في حلية الأولياء: ج 8 ص 266.

ص: 40

قال أبو هريرة: (إنها تخرج ومعها عصا موسى وخاتم سليمان)

(1)

،وعن ابن عمرو بن العاص أنه قال:(تكتب على وجه الكافر نكتة سوداء، فتعثوا في وجهه حتى يسود وجهه، وتكتب على وجه المؤمن نكتة بيضاء، فتعثوا في وجهه حتى يبيض وجهه، فتعرف المؤمن من الكافر عند ذلك)

(2)

.وعن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه أنه قال: (إذا ترك الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان ذلك الوقت وقت أشراط الساعة وخروج الدابة)

(3)

.

قوله تعالى: {أَنَّ النّاسَ؛} قرأ أهل الكوفة ويعقوب {(أَنَّ النّاسَ)} بفتح الألف على وجه الحكاية من قول الدابة وعلى معنى: أخرجنا الدابة بأن الناس {كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ} (82)؛وقرأ الباقون بالكسر على الابتداء.

وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [بئس الشعب جياد -مرتين أو ثلاثا-] قالوا: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال: [تخرج منه الدابة، فتصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين]

(4)

.

وقال بعضهم: كنت مع ابن عباس بمكة، فبينما هو على الصفا إذ قرع الصفا بعصاة وهو محرم وهو يقول: إن الدابة تسمع قرع عصاي هذه، قال ابن عباس:(هي دابة ذات زغب وريش، ولها أربعة قوائم)

(5)

.

(1)

أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 295 مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والترمذي في الجامع: أبواب تفسير القرآن: الحديث (3187).وابن ماجة في السنن: كتاب الفتن: الحديث (4066). والطبري في جامع البيان: الحديث (20624).

(2)

في الدر المنثور: ج 6 ص 379؛ قال السيوطي: (أخرجه عبد بن حميد).

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (20616) عن عطية العوفي عن ابن عمر. وذكره القرطبي من قول أبي سعيد وابن عمرو في الجامع لأحكام القرآن: ج 13 ص 234.

(4)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 970.وفي الدر المنثور: ج 6 ص 382؛ قال السيوطي: (أخرجه ابن مردويه والبيهقي في البعث).

(5)

في الدر المنثور: ج 6 ص 378؛ قال السيوطي: أخرجه عبد بن حميد.

ص: 41

وعن أبي هريرة قال: [تخرج الدابة ومعها عصا موسى وخاتم سليمان، فيجلوا وجه المؤمن بالعصا، وتحطم وجه الكافر بالخاتم]

(1)

والمحاطم هي الأنوف، واحدها محطم بكسر الطاء، وعن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [دابة الأرض طولها ستون ذراعا لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب]

(2)

.

وعن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال: (رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصلين من مفاصلها اثنا عشر ذراعا، معها عصا موسى وخاتم سليمان)

(3)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: [تخرج الدابة من الصفا، فيبلغ صدرها الركن اليماني، ولم يخرج ذنبها بعد، وهي دابة ذات قوائم وبر]

(4)

.وعن ابن عمر أنه قال: (تخرج الدابة من صدع في الصفا، تجري كجري الفرس ثلاثة أيام، وما خرج ثلثها)

(5)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: [بينما عيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون، إذ تضطرب الأرض تحتهم حتى يتحرك القنديل في المسجد، وينشق الصفا مما يلي المسعى، فتخرج الدابة، فأول ما يبدأ منها رأسها، ذات وبر ورأس لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب، تسمي الناس مؤمنا وكافرا، أما المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري، وتكتب بين عينيه: مؤمن، وأما الكافر فتكتب بين عينيه نكتة سوداء، وتكتب بين عينيه: كافر]

(6)

.

(1)

أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 295 مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والترمذي في الجامع: أبواب تفسير القرآن: الحديث (3187).وابن ماجة في السنن: كتاب الفتن: الحديث (4066). والطبري في جامع البيان: الحديث (20624).

(2)

في الجامع لأحكام القرآن: ج 13 ص 235؛ قال القرطبي: (ذكره أبو داود الطيالسي في مسنده عن حذيفة، وحكاه بطوله).وأخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (20620) عن حذيفة ابن أسيد.

(3)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 969.

(4)

في الدر المنثور: ج 6 ص 382؛ قال السيوطي: (أخرجه ابن مردويه والبيهقي في البعث).

(5)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (20618).

(6)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (20623).والبغوي في معالم التنزيل: ص 969.

ص: 42

وعن الحسن: (أن موسى سأل ربه أن يريه الدابة، فخرجت ثلاثة أيام ولياليهن تذهب في السماء ولم تخرج رجلاها، فنظر منها منظرا فظيعا؛ فقال: رب ردها، فردها).

قوله تعالى: {(تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ)} قال مقاتل: (تكلمهم بالعربية، فتقول: إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، تخبر أن أهل مكة لم يؤمنوا بالقرآن والبعث والثواب والعقاب)

(1)

.

قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا؛} الفوج: الجماعة من الناس كالزمرة والجماعة، وإنما يحشر الرؤساء والمتبوعين، والمعنى: يوم يجمع من كل أمة جماعة من المكذبين بالرسول، وقوله تعالى:{فَهُمْ يُوزَعُونَ} (82)؛أي يحبسون، يتلاحقون فيساقون إلى الموقف لإقامة الحجة عليهم. وقيل: يحشر أولهم على آخرهم ليجتمعوا ثم يساقوا إلى النار، وقال ابن عباس:({يُوزَعُونَ} أي يدفعون)

(2)

.

قوله تعالى: {حَتّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً؛} أي حتى إذا جاءوا إلى موقف الحساب، قال الله لهم:{(أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي)} استفهام بمعنى الإنكار عليهم، والوعيد لهم، قال ابن عباس:(معناه: أكذبتم أنبيائي وجحدتم فرائضي وحدودي) ولم تحيطوا بها علما؛ أي ولم تخبروا حتى تفقهوا وتسمعوا.

وقيل: معناه: {(وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً)} أنها باطل. والمعنى: أكذبتم بآياتي غير عالمين بها ولم تتفكروا في صحتها، بل كذبتم بها جهلا بغير علم. وقوله تعالى:{أَمّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (84)؛حين لم تبحثوا عنها، ولم تتفكروا فيها، وهذا توبيخ لهم وإن كان بلفظ السؤال.

قوله تعالى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا؛} أي وجب العذاب عليهم بما أشركوا، {فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ} (85)؛بحجة عن أنفسهم، بل يختم على أفواههم. ونظيره قوله تعالى:{هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}

(3)

.

(1)

قاله مقاتل في التفسير: ج 2 ص 485.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (20632).

(3)

المرسلات 35/-36.

ص: 43

قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً؛} أي مضيئا لطلب المعاش، قوله تعالى:{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (86)؛ أي إن فيما ذكرنا من اختلاف الليل والنهار لدلالات للمؤمنين والكافرين، ولكنه خص المؤمنين لأنهم هم الذين ينتفعون بالذكر.

قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ؛} قال ابن عباس: (يعني النفخة الأولى؛ وهي نفخة الصعق){فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ)؛} أي ماتوا من شدة الخوف كقوله تعالى {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}

(1)

، والمعنى: بلغ منهم الفزع إلى أن يموتوا.

وقوله: {إِلاّ مَنْ شاءَ اللهُ؛} قال ابن عباس: (يريد الشهداء وهم أحياء عند ربهم يرزقون،) وقال الكلبي ومقاتل: (يعني جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت).وقوله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ} (87)؛أي كل الخلائق يأتون إلى موضع الجزاء أذلاء صاغرين.

وأما النفخة الثانية فتسمى نفخة البعث، وبينهما أربعون سنة. ويقال: ينفخ في الصور ثلاث نفخات؛ الأولى: نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق وهو الموت، والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين.

وعن عبد الله بن عمر قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الصور، فقال:[هو قرن ينفخ فيه]

(2)

.وقال مجاهد: (هو كهيئة البوق)

(3)

.

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لما فرغ الله من السماوات والأرض، خلق الصور، فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه شاخص يبصر نحو العرش، ينظر متى يؤمر] قال: قلت يا رسول الله! وما الصور؟ قال: [هو قرن]

(1)

الزمر 68/.

(2)

رواه الإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 162.وأبو داود في السنن: كتاب السنة: الحديث (4742).والترمذي في الجامع: أبواب صفة القيامة الحديث (2430).

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (20635).

ص: 44

قلت: كيف هو؟ قال: [عظيم، والذي بعثني بالحق إن عظم دائرة فيه كعظم السماوات والأرض. فينفخ ثلاث نفخات؛ النفخة الأولى نفخة الفزع، والنفخة الثانية نفخة الصعق، والنفخة الثالثة نفخة القيام لرب العالمين.

فيأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى، فيقول له: انفخ نفخة الفزع، فيفزع منها أهل السماوات وأهل الأرض إلا من شاء الله، ويأمره أن يمدها ويطيلها وهو الذي يقول الله {وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ}

(1)

،ويسير الله الجبال فتمر مر السحاب فتكون سرابا، وترج الأرض بأهلها رجا، فتكون كالسفينة الموثقة في البحر، تضربها الأمواج وتلقيها الرياح، وكالقنديل المعلق ترجه الرياح، وهو قوله تعالى {يَوْمَ تَرْجُفُ الرّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرّادِفَةُ، قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ}

(2)

فتميد الأرض بالناس على ظهرها، فتذهل المراضع؛ وتضع الحوامل؛ ويشيب الأطفال، وتطير الشياطين هاربة من الفزع، حتى تأتي الأقطار فتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها فترجع، وتولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا وهو قوله تعالى {يَوْمَ التَّنادِ، يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ}

(3)

.فبينما هم كذلك؛ إذ تصدعت الأرض، وتصير السماء كالمهل، وتنشق الأرض وتنشر نجومها وتكسف شمسها وقمرها. ثم يأمر الله إسرافيل أن ينفخ نفخة الصعق، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله]

(4)

.

وقوله تعالى: {(وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ)} ،قرأ الأعمش وحمزة وخلف {(أَتَوْهُ)} مقصورا على الفعل بمعنى جاءوه. وقرأ الباقون بالمد وضم التاء

(5)

،قوله تعالى:{(داخِرِينَ)} أي صاغرين.

قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ؛} أي تحسبها يا محمد واقفة مستقرة فكأنها وتظنها ساكنة لا تتحرك في رأي العين، وهي

(1)

ص 15/.

(2)

النازعات 6/-8.

(3)

غافر 32/-33.

(4)

أخرجه الطبري بطوله في جامع البيان: مج 11 ص 23 - 24.

(5)

ينظر: الحجة للقراء السبعة: ج 3 ص 246.

ص: 45

تسير في الهواء سيرا سريعا، وترى السفينة تحسبها واقفة وهي سائرة، وقوله تعالى:

{(وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ)} تسير سير السحاب حتى تقع على الأرض فتستوي بها.

قوله تعالى: {صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ؛} نصب على المصدر؛ كأنه قال: صنع الله ذلك صنعا على الإتقان والإحكام. وقيل: على الإغراء؛ أي أبصروا صنع الله الذي أتقن كل شيء؛ أي أحكم وأبرم ما خلق. ومعنى الإتقان في اللغة:

الإحكام للأشياء.

وقوله تعالى: {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ} (88)؛قرأ نافع وابن عامر والكوفيون بالتاء

(1)

،والباقون بالياء، والمعنى: إنه خبير بما يفعله أعداؤه من المعصية والكفر، وبما يفعله أولياؤه من الطاعة.

قوله تعالى: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها؛} معناه: من وا في عرصات القيامة بالحسنات، فله ثواب آجر وأنفع منها. وقيل: معناه: من جاء بالإيمان. قال أبو معشر: (كان إبراهيم يحلف ما ينثني: أن الحسنة لا إله إلا الله)

(2)

.وقتادة: (الحسنة هي الإخلاص)

(3)

.والمعنى: من جاء بكلمة الإخلاص بشهادة أن لا إله إلا الله يوم القيامة؛ أي من وافى يوم القيامة بالإيمان فله خير منها. قال ابن عباس: (فمنها يصل الخير إليه)

(4)

أي له من تلك الحسنة خير يوم القيامة، وهو الثواب والأمن من العذاب. و {(خَيْرٌ)} هاهنا اسم من غير تفضيل؛ لأنه ليس خير من لا إله إلا الله، ولكنه منها خير.

وقال بعضهم: دخلت على علي بن أبي طالب رضى الله عنه فقال لي: (ألا أنبئك بالحسنة التي من جاء بها أدخله الله الجنة، والسيئة التي من جاء بها أدخله الله النار، ولم يقبل منه عملا؟) قلت: بلى، قال:(الحسنة حبنا، والسيئة بغضنا)

(5)

.ومعنى {(خَيْرٌ مِنْها)} :رضوان الله. وقيل: الأضعاف بعطية الله بالواحدة عشرا فصاعدا.

(1)

في الحجة للقراء السبعة: ج 3 ص 247؛ قال: (وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي: بالتاء) وقال: (فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بالياء).

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (20651).

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (20655).

(4)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (20660).

(5)

لم أقف عليه.

ص: 46

قوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} (89)؛قرأ أهل الكوفة {(فَزَعٍ)} منونا بنصب الميم، وقرأ الباقون بالإضافة، واختاره أبو عبيد لأنه أعم ويكون شاملا لجميع فزع ذلك اليوم، وإذا كان منونا كان الفزع دون فزع.

وقال أبو علي الفارسي: (إذا نون يجوز أن يكون الفزع واحدا، ويجوز أن يعني به الكثرة لأنه مصدر، والمصادر تدل على الكثرة وإن كانت مفردة الألفاظ كقوله سبحانه:{إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}

(1)

)

(2)

.قال الكلبي: (إذا أطبقت النار على أهلها فزعوا فزعة لم يفزعوا مثلها أبدا، وأهل الجنة آمنون من ذلك الفزع).

قوله تعالى: {وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النّارِ؛} أي من وافى بالشرك والكبائر {(فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النّارِ)} أي ألقوا على وجوههم في النار، ويقول لهم خزنة جهنم:{هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (90)؛في الدنيا من الشرك.

قوله تعالى: {إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها؛} أي قل يا محمد للمشركين: {(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ)} يعني مكة {(الَّذِي حَرَّمَها)} أي الذي حرم فيها ما أحل في غيرها من الاصطياد؛ والاختلاء؛ والقتل؛ والسبي؛ والظلم، وأن لا يهاج فيها أحد حتى يخرج منها، فلا يصاد صيدها ولا يختلى خلالها.

وقيل: معنى {(حَرَّمَها)} أي عظم حرمتها، فجعل لها من الأمن ما لم يجعل لغيرها. وقوله تعالى:{وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ؛} لأنّه خالقه ومالكه. وقرأ ابن عبّاس «(الّتي

(3)

» حرّمها) أشار إلى البلدة.

(1)

لقمان 19/.

(2)

قاله في الحجة للقراء السبعة: ج 3 ص 247 - 248.

(3)

(التي) سقطت من المخطوط، وضبطت كما في معاني القرآن وإعرابه للزجاج: ج 4 ص 98.

ص: 47

وقوله تعالى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (91)؛أي وأمرت أن أكون من المسلمين المخلصين لله بالتّوحيد،

{وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ؛} عليكم يا أهل مكّة، يريد تلاوة الدّعوة إلى الإيمان. وفي الآية تعظيم لأمر الإسلام وتلاوة القرآن.

قوله تعالى: {فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ؛} أي من اهتدى فإنّما منفعة اهتدائه راجعة إلى نفسه، {وَمَنْ ضَلَّ؛} أي ومن ضلّ عن الإيمان والقرآن وأخطأ طريق الهدى، {فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (92)؛أي من المخوّفين، فليس عليّ إلاّ البلاغ، فإنّي لم اؤمر بالإجبار على الهدى، وليس عليّ إلاّ الإنذار، وكان هذا قبل الأمر بالقتال.

قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ؛} أي قل الحمد لله على نعمه، {سَيُرِيكُمْ آياتِهِ؛} يعني العذاب في الدّنيا، والقتل ببدر، {فَتَعْرِفُونَها؛} حين تشاهدونها، ثم أراهم ذلك، وضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم وعجّلهم الله إلى النار، {وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ} (93)؛من المنكر والكفر والفساد، وهذا وعيد لهم بالجزاء على أعمالهم.

وعن أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: [من قرأ سورة النّمل كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من كذب وصدّق بموسى وهود وشعيب وصالح ولوط وإبراهيم واسحاق ويعقوب وسليمان عليهم السلام، وخرج من قبره وهو ينادي: لا إله إلاّ الله]

(1)

.

آخر تفسير سورة (النمل) والحمد لله رب العالمين

(1)

أخرجه الثعلبي في الكشف والبيان: ج 7 ص 188.وذكره الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 377،وإسناده واه.

ص: 48