الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الزّخرف
سورة الزّخرف كلّها مكّيّة
(1)
،وهي ثلاثة آلاف وأربعمائة حرف، وثمانمائة وثلاث وثلاثون كلمة، وتسع وثمانون آية
(2)
.
قال صلى الله عليه وسلم: [من قرأ الزّخرف كان ممّن يقال له يوم القيامة: يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، أدخلوا الجنّة بغير حساب]
(3)
.
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}
{حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ} (2)؛أقسم الله بالقرآن، المبين: الذي أبان طريق الهدى من طريق الضّلالة، وأبان ما يحتاج إليه من الشّرائع، وجواب:
{إِنّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (3)؛أي إنّا أنزلناه على لغة العرب ليكون أبلغ في الحجّة وأدعى إلى القبول، كي يعقله العرب من غير مترجم.
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (4)؛أي إنّه مذكور مثبت في اللّوح المحفوظ عندنا، كما قال في آية أخرى {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}
(4)
،وسمي اللوح أمّ الكتاب؛ لأنه أصل كلّ كتاب، وتسمّى الوالدة:
أمّا؛ لأنّها أصل الولد.
(1)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 16 ص 61؛ قال القرطبي: (مكيّة بالإجماع. وقال مقاتل: إلاّ قوله وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا).
(2)
في المخطوط: (وسبع وثمانون آية).
(3)
أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه، وذكره الزمخشري أيضا في الكشاف: ج 4 ص 261.
(4)
البروج 21/،22.
وقوله تعالى {(لَدَيْنا)} يريد الذي عندنا نخبر عن فضيلته ومنزلته وشرفه أن كذبتم به يا أهل مكّة، فإنه عندنا شريف رفيع محكم من الباطل. ويقال: ذو حكمة لا يحتمل الزيادة والنّقصان، والتبديل والتغيير.
قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ} (5)؛قال الكلبيّ: (يقول الله لأهل مكّة: أفنترك عنكم الوحي صفحا فلا نأمركم ولا ننهاكم ولا نرسل إليكم رسولا؟ وهذا استفهام معناه الإنكار؛ أي لا نفعل ذلك).
ومعنى الآية: أفنمسك عن إنزال القرآن ونهملكم فلا نعرّفكم ما يجب عليكم من أجل أنّكم أسرفتم في كفركم، وهو قوله تعالى:{(أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ)} ،والمعنى:
لإن كنتم، والكسر في {(أَنْ)} على أنه جزاء استغنى عن جوابه بما تقدّمه، كما تقول:
أنت ظالم إن فعلت كذا، ومثله {لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ} بالفتح والكسر، وقد تقدّم.
ومعنى الآية: أفنضرب عنكم تذكّرنا إيّاكم الواجب ونترككم بلا أمر ولا نهي معرضين عنكم لئن أسرفتم. والصّفح في اللغة: هو الإعراض، يقال: صفح عن دينه أي أعرض عنه، «صفح»
(1)
فلان عنّي بوجهه؛ أي أعرض، وهو في صفات الله بمعنى العفو، يقال: أصفح عن دينه؛ أي أعرض عنه. والإضراب والضّرب في الكلام كلاهما بمعنى الإعراض والعدول.
قوله تعالى: {وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} (7)؛فيه تسلية للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، وبيان أنّ دأب كلّ أمة مع رسولهم التكذيب والاستهزاء به، وإنّ من سنة الله تعالى إهلاك المكذّبين، فحدّث أيها الرسول قومك كي لا يسلكوا طريق من قبلهم فينزل بهم من العذاب ما نزل بمن قبلهم.
(1)
(صفح) سقطت من المخطوط.
وقوله تعالى: {فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً؛} أي أقوى من قومك، يعني الأوّلين الذين هلكوا بتكذيبهم، {وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} (8)؛وسبق فيما أنزلنا إليك تشبيه بتكذيبهم، فعاقبة هؤلاء أيضا الإهلاك.
قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؛} معناه:
ولئن سألت قومك من خلق السّماوات والأرض، {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} (9)،وهذا إخبار عن غاية جهلهم إذ أقرّوا بأنّ الله خلق السموات والأرض، ثم عبدوا معه غيره وأنكروا قدرته على البعث، فهم يقرّون بالله ويشركون به غيره، كما قال تعالى في آية أخرى {وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}
(1)
وتمّ الكلام والإخبار عنهم.
ثم ابتدأ قوله عز وجل فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً؛} هذا ابتداء كلام من الله تعالى على معنى: نعم خلقهنّ العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهادا يمكنكم القرار عليها، {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً؛} أي طرقا، {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (10)؛في الطريق من بلد إلى بلد، وتهتدون بوحدانيّة الله.
قوله تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ؛} يعني المطر بمقدار معلوم يعلمه خازن المطر ليس كما أنزل على قوم نوح بغير قدر حتى أهلكهم، بل هو بقدر يكون معاشا لكم ولأنعامكم، وقوله تعالى:{فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً؛} أي فأحيينا بذلك المطر بلدا ميتا بإخراج الأشجار والزرع، {كَذلِكَ تُخْرَجُونَ} (11)؛من القبور يوم النشور للحساب والجزاء.
قوله تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ} (12)؛معناه والذي خلق الأصناف كلّها والألوان كلّها، ويقال: الذكور والإناث كلّها، وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون عليها في البرّ.
قوله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ؛} الكناية تعود إلى لفظ {(ما)} أي لتستووا على ظهور ما تركبون، {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ؛}
(1)
يوسف 106/.
يعني النعمة بتسخير ذلك المركب في البرّ والبحر، قال مقاتل والكلبي: (وهو أن تقول:
الحمد لله الّذي رزقني هذا وحملني عليه)
(1)
، {وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا؛} المركب وذلّله لنا، وسهّل ركوبه، ولولا تسخيره لنا، {وَما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ} (13)؛أي مطيقين ضابطين، يريد: لا طاقة لنا بالإبل ولا بالفلك ولا بالبحر، لولا أنّ الله تعالى سخّر لنا ذلك.
قال قتادة: (قد علّمكم الله كيف تقولون إذا ركبتم)
(2)
.وعن ابن مسعود أنّه قال: (إذا ركب الرّجل الدّابة فلم يذكر اسم الله، ردفه الشّيطان، فقال له: تغنّ، فإنّ لم يحسن قاله له: ثمن)
(3)
.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أنّه كان إذا استوى على بعيره خارجا في سفر كبّر ثلاثا سبحان الّذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين، وإنّا إلى ربنا لمنقلبون، اللهمّ إنّا نسألك في سفرنا هذا البرّ والتّقوى، والعمل بما ترضى، اللهمّ هوّن علينا سفرنا وأطوعنا بعده، اللهمّ أنت الصّاحب في السّفر، والخليفة في الأهل، اللهمّ إنّي أعوذ بك من وعثاء السّفر وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال].وإذا رجع قال: [آئبون تائبون لربنا حامدون]
(4)
.
وقوله تعالى: {وَإِنّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ} (14)؛فيه بيان أنه كما يذكر نعمة الله عليه في الدّنيا، فعليه أن يذكر مصيره إلى الآخرة. وينبغي للعاقل إذا ركب دابّة أو سفينة أن يتذكّر آخر مركبه وهي الجنازة، وإذا لبس أن يتذكّر آخر ملبسه وهو الكفن،
(1)
قاله مقاتل في التفسير: ج 3 ص 186.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (23791).
(3)
ذكره المتقي الهندي في كنز العمال: الرقم (24995).وعزاه الديلمي عن ابن عباس. وفي مجمع الزوائد: ج 10 ص 131:كتاب الأذكار: باب ما يقول إذا ركب دابته؛ قال الهيثمي: (رواه الطبراني-عن ابن مسعود-موقوفا، ورجاله رجال الصحيح).
(4)
رواه مسلم في الصحيح: كتاب الحج: باب ما يقول إذا ركب إلى سفر حج وغيره: الحديث (1342/ 425).
وإذا اغتسل أن يتذكّر آخر عهده بالغسل، وإذا نام أن يذكّر الحال التي يوضع فيها على جنبه في اللّحد.
قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً؛} أي جعل الكفار لله تعالى من عباده جزءا؛ لأنّهم قالوا: الملائكة بنات الله، فوصفوا عباد الله بأنّهم جزء من الله، وقد تقدّم أن الذين قالوا هذا القول حيّ من خزاعة، ومعنى الجعل ههنا الحكم بالشيء، والوصف والتسمية كما جعل فلان زيدا من أعلم الناس؛ أي وصفه بذلك، ويقال: إن الجزء في كلام العرب عبارة عن الأنثى كما قال الشاعر
(1)
:
إن أجزأت حرّة يوما فلا عجب
…
قد تجزئ الحرّة المذكار أحيانا
أراد ب (أجزأت):ولدت أنثى. قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} (15)؛أراد بالإنسان الكافر، وقوله تعالى {(لَكَفُورٌ مُبِينٌ)} أي لجحود لنعم الله، {(مُبِينٌ)} ظاهر الكفران.
ثم أنكر عليهم هذا فقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ} (16)؛هذا استفهام توبيخ وإنكار، يقولوا: أتّخذ ربّكم لنفسه البنات وأصفاكم بالبنين وأخلصكم بهم. والمعنى: كيف اختار لنفسه أهون قسمي الولد، واختار لكم أعلى القسمين، والحكمة لا توجب أن يختار الحكيم الأدون لنفسه والأعلى لغيره.
ثم وصف كراهتهم بالبنات، فقال قوله عز وجل:{وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا؛} أي وإذا أخبر أحدهم بما وصف للرحمن من إضافة البنت إليه صار وجهه مسودّا متغيّرا يعرف فيه الحزن. وقوله تعالى: {وَهُوَ كَظِيمٌ} (17)؛أي يتردّد حزنه في جوفه. وقد تقدم تفسيره في سورة النحل.
(1)
نقله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: ج 4 ص 309؛وقال: (لا أدري البيت قديم أو مصنوع).وفي الكشاف: ج 4 ص 234؛ قال الزمخشري: (ومن بدع التفاسير تفسير الجزء بالإناث، وادّعاء أن كلمة الجزء في لغة العرب هو اسم للإناث، وما هو إلا كذب على العرب، ووضع مستحدث منحول).
قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ؛} زيادة في الإنكار عليهم والمذمّة لهم، كأنّه قال: أو يختار لنفسه مع استغنائه عن الخلق كلّهم (من ينشّأ في الحلية) أي من ربي في حلية الذهب والفضّة، {وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ} (18)،وهو في الكلام غير ثابت الحجّة.
قال المبرّد: (تقدير الآية: أو تجعلون له من ينشّأ في الحلية، يعني البنت نبتت)
(1)
. {(وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ)} ؛أي وهو عند المخاصمة غير مبين الحجّة.
قال قتادة: (قلّ ما تكلّمت امرأة بحجّتها إلاّ تكلّمت بحجّتها عليها)
(2)
لضعف رأيها ونقصان عقلها
(3)
.
ويستدلّ من هذه الآية على ثبوت الترخّص للنساء في التزيّن بحلية الذهب والفضّة، كما قال صلى الله عليه وسلم وقد أخذ الذهب بإحدى يديه، والحرير بالأخرى وقال:[هذان محرّمان على ذكور أمّتي، حلّ لإناثهم]
(4)
.
(1)
في تفسير مقاتل بن سليمان: ج 3 ص 187؛ قال: (يعني ينبت في الزينة، يعني الحلي مع النساء، يعني البنات).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (23808).وفي الدر المنثور: ج 7 ص 370؛ قال السيوطي: (أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر) وذكره.
(3)
لا يبدو لي المعنى على هذا الإطلاق، فإن حديث [ناقصات عقل ودين] مبيّن معناه كما في نصه، وهو متعلق التوقيف في الطهارة للعبادة والشهادة في الحدود والجراحات، وليس كما ذهب البعض من العلماء.
ثم إن الأمر بالنسبة للمرأة هو كذلك بالنسبة للرجل بالوصف الإنساني، ولولا الخبرات المتأتية من ممارسة الحياة وأسباب القوة فيه للمرأة غير ما هي للرجل، ثم ما عيّن الشرع لها وأناط بها وعرف بحقها. ويمكن أن يكون الأمر على أحوال معينة، وهي أكثر عموما من تحديد النقص بالمرأة وحصرها بها فقط.
مثال ذلك ما حكاه المبرّد قال: (يقال: لا ينبغي لعاقل أن يشاور واحدا من خمسة: القطّان، والغزّال، والمعلّم، وراعي الضأن، ولا الرجل الكثير المحادثة للنساء) فالقضية ليست على عمومها، وهي مختلفة بحسب تنامي الرأي العام في المجتمع حسب الزمان والمكان. والله أعلم. ينظر: الكامل لأبي العباس محمد بن يزيد المبرد: ج 2 ص 155،دار الفكر العربي.
(4)
أخرجه الطبرا ني في المعجم الكبير: الحديث (10889) وإسناده ضعيف، و (11333) كلاهما-
قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً؛} معناه:
ووصفوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن أنّهم بنات الله، وقرئ «(عبد الرّحمن)» وكلّ صواب، وقد جاء القرآن بالأمرين معا، وذلك قوله {بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ}
(1)
وقوله {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ}
(2)
،وفي قوله تعالى {(عِبادُ الرَّحْمنِ)} دلالة على رفع المنزلة والقربة من الكرامة
(3)
.
وقوله تعالى: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؛} معناه: أحضروا عند خلقهم فعلموا ذلك، والشهادة هاهنا من الحضور، ووبّخهم الله على ما قالوا ما لم يشاهدوه. وقرأ نافع:{(أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ)} بهمزة الاستفهام وتخفيف الهمزة الثانية على معنى أحضروا وعاينوا خلقهم حتى علموا أنّهم إناث، وهكذا كقوله {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ}
(4)
.
قال ابن عبّاس: (يريد: أحضروا وعاينوا خلقهم؟)،قال الكلبيّ:(لمّا قالوا هذه المقالة سألهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: [ما يدريكم أنّهم إناث؟] قالوا: سمعنا من آبائنا ونحن نشهد أنّهم لم يكذبوا أنّهم إناث)
(5)
فقال الله: {سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ} (19)؛عنها في الآخرة.
(4)
-عن ابن عباس إسناده ضعيف. وفي الأوسط: الحديث (3629) عن عمر بن الخطاب بإسناد ضعيف. وأخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 1 ص 96 و 115.وابن ماجة في السنن: كتاب اللباس: باب لبس الحرير: الحديث (3595).وابن حبان في الإحسان: الحديث (5435) عن علي رضي الله عنه، بإسناد حسن إن شاء الله.
(1)
الأنبياء 26/.
قوله تعالى: {وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ؛} يعني بني مليح من خزاعة، كانوا يعبدون الملائكة، {(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ)} أي ما عبدوا الملائكة، وإنما عبدناهم بمشيئة الله تعالى. وإنما كانوا يقولون هذا القول إبلاغا لعذرهم عند سفلتهم، يقول الله تعالى:{ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ؛} بقولهم إنّ الملائكة بنات الله وإنّهم كذبوا في ذلك، وهو قوله تعالى:{إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ} (20)؛ أي ما هم إلا يكذبون فيما قالوا، ولم يتعرّض لقولهم {(لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ)} بشيء؛ لأن هذا القول حقّ، وإن كان من الكفار، وهذا كقوله:{وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}
(1)
أي ولو جعلت قوله {(ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ)} ردّا لقولهم {(لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ)} كان المعنى: أنّهم قالوا: إنّ الله قدّرنا على عبادتهم فلم يعاقبنا لأنه رضي ذلك، وهذا كذب منهم؛ لأنّ الله تعالى وإن قدّر كفر الكافر لا يرضاه، وتقدير الكفر من الكافر لا يكون رضى من الله له.
قوله تعالى: {أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ؛} أي هل أعطيناهم كتابا من قيل القرآن بأن يعبدوا غير الله، {فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} (21)؛أي آخذون بما فيه. ثم أعلم الله أنّهم اتّبعوا آباءهم في الضّلالة فقال تعالى:
{بَلْ قالُوا إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ؛} أي على سنّة وملّة ودين.
ومن قرأ «(على إمّة)» بكسر الهمزة فمعناه: على طريقة؛ أي ليس لهم حجّة إلاّ هذا القول، {وَإِنّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (22)؛أي ليس لهم حجّة إلاّ تقليد آبائهم.
قوله تعالى: {وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها} أي ملوكها وأغنياؤها ورؤساؤها: {إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (23)؛بهم.
فقال الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم: {*قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ؛} معناه: أتتّبعون دين آبائكم وتكفرون مثلهم، ولو جئتكم بأرشد
(1)
النحل 35/.
مما وجدتم عليه آباءكم، فأبوا أن يقبلوا ذلك؛ و {قالُوا إِنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ} (24).
ثم ذكر ما فعل بالأمم المكذّبة تخويفا لهم فقال تعالى: {فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (25)؛يعني ما صنع بقوم نوح وعاد وثمود.
قوله تعالى: {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ} (26) معناه واذكر يا محمّد إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه حين خرج من السّرب وهو ابن سبع عشرة سنة، رأى أباه وقومه يعبدون الأصنام، فقال لهم: إنّي براء مما تعبدون من دون الله تعالى،
{إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} (27)،إلاّ من الذي خلقني فإنه سيحفظني ويرشدني لدينه وطاعته.
وقوله تعالى: {وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ؛} أي وجعل براءته عن عبادة غير الله وهي كلمة التوحيد: لا إله إلاّ الله؛ باقية في عقبه لكي يرجعوا إلى التوحيد، ويدعوا الخلق إليه، فلا يزال في ولده من يوحّد الله تعالى. ومعنى الآية:
وجعلها كلمة باقية في ذريّة إبراهيم ونسله، فلا يزال في ذريّته من يعبد الله ويوحّده، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (28)؛أي لعلّ أهل مكّة يتّبعون هذا الدّين ويرجعون إلى دينك دين إبراهيم، إذ كانوا من ولده. وقال السديّ:(لعلّهم يتوبون ويرجعون عمّا هم عليه إلى عبادة الله تعالى)
(1)
.
ثم ذكر نعمته على قريش فقال: {بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ؛} يعني المشركين متّعتهم بأموالهم وأنفسهم وأنواع النّعم، ولم أعاجلهم بعقوبة كفرهم، بل أمهلتهم زيادة في الحجّة وقطعا للمعذرة، {حَتّى جاءَهُمُ الْحَقُّ؛} أي القرآن، {وَرَسُولٌ مُبِينٌ} (29)؛للحجج وهو النّبيّ صلى الله عليه وسلم بيّن لهم الأحكام والدين.
وكان من حقّ الإنعام أن يطيعوا الرسول بإجابته، فلم يجيبوه وعصوا، وهو قوله:
{وَلَمّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنّا بِهِ كافِرُونَ} (30)؛أي لما جاء هم الرسول والقرآن، نسبوا القرآن إلى السّحر وجحدوا به.
(1)
ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 1167.
قوله تعالى: {وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (31)؛أي قال كفّار مكّة: هلاّ نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين مكّة والطائف، وعنوا بالرّجلين إما الوليد بن المغيرة من مكّة، وإما أبا مسعود الثقفيّ من الطائف
(1)
،ظنّوا بجهلهم أنّ استحقاق النبوّة إنما يكون بشرف الدّنيا مع اعترافهم بأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم من أرفعهم نسبا.
فقال الله تعالى ردّا عليهم وإنكارا لما قالوا: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؛} يعني النبوّة التي هي من أعظم النّعم، وذلك أنّهم اعترضوا على الله بقولهم: لم لم ينزل هذا القرآن على غير محمّد، فبيّن الله تعالى أنه الذي يقسم النبوّة لا غيره.
قال مقاتل: (يقول الله تعالى: أبأيديهم مفاتيح الرّسالة فيضعونها حيث شاءوا).
فبيّن الله تعالى أنه لم يجعل أمر معايشهم مع قلّة خطر ذلك إلى رأيهم، بل رفع بعضهم فوق بعض في الرّزق، وتلقاه شذ على ما توجبه الحكمة
(2)
،فقال تعالى:{نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا؛} أي قسمنا الرزق في المعيشة، وليس لأحد أن يتحكّم في شيء من ذلك، فكيف نجعل أمر النبوّة مع عظم قدره ورفعة شأنه إلى رأيهم، قال قتادة في معنى {(نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ)}:(تلقى الرّجل ضعيف الحيلة عيّ اللّسان وهو مبسوط في الرّزق، وتلقاه شديد الحيلة بسط اللّسان وهو مقتّر عليه)
(3)
.
وقوله تعالى: {وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ؛} يعني الفضل في الغنى والمال {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا؛} أي ليستخدم بعضهم بعضا،
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (23837) عن ابن عباس، قال:(يعني الوليد بن المغيرة القرشي، أو حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي).
(2)
المعنى كما جاء في حديث قتادة، قال:(قال الله تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فتلقاه ضعيف الحيلة، عيّ اللسان، وهو مبسوط له في الرزق، وتلقاه شديد الحيلة، سليط اللسان، وهو مقتور عليه).أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (23844).
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (23844).
فيسخّر الأغنياء بأموالهم الفقراء ليلتئم قوام أمر العالم، وقال قتادة:(ليملك بعضهم بعضا فيتّخذونهم عبيدا ومماليك)
(1)
.والسّخريّ بالكسر من الاستهزاء، وبالضمّ من التسخير.
وقوله تعالى: {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ} (32)؛أي وما خصّك الله به من النبوّة خير لك مما يجمعون من المال. وقيل: معناه: ورحمة ربك يعني الجنّة للمؤمنين خير مما يجمع الكفّار من الأموال.
قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ} (33)؛معناه: ولولا أن تميل بالناس الدّنيا فيصير الخلق كلّهم كفّارا لأعطى الله الكافر في الدّنيا غاية ما يتمنّى فيها لهوانها وقلّتها عند الله تعالى، ولكنّه لم يفعل ذلك لعلمه بأن الغالب على الخلق حبّ العاجلة.
وقوله «(سقفا)» من قرأه بالوحدان فهو على معنى جعلنا لكلّ بيت سقفا من فضّة. ومن قرأ {(سُقُفاً)} بضمّتين فهو جمع سقف، مثل رهن ورهن
(2)
.ومن قرأه «(سقفا)» بضمّ السين وجزم القاف فعلى تخفيف سقف مثل رهن
(3)
.قوله تعالى:
{(وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ)} يعني الدّرج عليها يرتفعون ويعلون، واحدها معرج، ويقال معراج ومعاريج ومعارج، مثل مفاتيح ومفاتح في جمع مفتاح، والمعنى: وكذلك جعلنا لهم معارج من فضّة عليها يصعدون.
قوله تعالى: {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ} (34)؛أي ولبيوتهم أبوابا من فضّة وسررا من فضّة، على سرر الفضّة يجلسون ويتّكئون، وقوله تعالى:
{وَزُخْرُفاً؛} الزّخرف هو الذهب، كأنّه قال: وجعلنا أمتعتهم من الذهب.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (23848).
(2)
في جامع البيان: مج 13 ج 25 ص 89؛ قال الطبري: (وعامة قراءة الكوفة سُقُفاً بضم السين والقاف، ووجهوها إلى أنها جمع سقيفة أو سقوف. وإذا وجهت إلى أنها جمع سقوف كانت جمع الجمع؛ لأن السقوف جمع سقف، ثم تجمع السقوف سقفا). ينظر: معاني القرآن للفراء: ج 3 ص 32.
(3)
في المخطوط: (زهر). ينظر: الحجة للقراء السبعة: ج 3 ص 375.
هكذا في التفاسير أنّ المراد بالزّخرف الذهب، إلاّ أنّه في اللغة الزّخرف: كمال الزّينة
(1)
،كما قال تعالى {حَتّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها}
(2)
،ويجوز أن يكون قوله {(وَزُخْرُفاً)} عطفا على قوله {(مِنْ فِضَّةٍ)} كأنّه قال: من فضّة وزخرفا، إلاّ أنه لمّا قال حذف {(لِمَنْ)} جعل نصبا
(3)
،وهذا إنما يكون على قول الكوفيّين.
قوله تعالى: {وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا؛} من قرأ {(لَمّا)} بالتشديد فالمعنى: ما كلّ ذلك إلاّ متاع الحياة الدّنيا، ومن قرأ بالتخفيف ف (ما) صلة زائدة، والمعنى: وإن كلّ لما متاع الحياة الدنيا، يتمتّع به إلى حين ثم يفنى، وثواب {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} (35)؛الكفر والفواحش، والذي قرأ {(لَمّا)} بالتشديد حمزة جعله في معنى إلاّ، وحكي عن سيبويه: نشدتك لمّا فعلت، بمعنى إلاّ فعلت.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [لولا أن يجزع عبدي المؤمن لعصبت الكافر بعصابة من حديد، ولصبّيت الدّنيا عليه صبّا]
(4)
.قال
(5)
:ومصداق ذلك قوله تعالى:
(1)
نقله الزجاج عن زيد بن أسلم، كما في معاني القرآن وإعرابه: ج 4 ص 313.
(2)
يونس 24/.
(3)
العبارة هكذا رسمت في المخطوط، وفي معاني القرآن: ج 3 ص 32؛ قال الفراء: (وجاء في التفسير: نجعلها لهم من فضة ومن زخرف، فإذا ألقيت (لِمَنْ) الزخرف، نصبته على الفعل توقعه عليه، أي وزخرفا، تجعل ذلك لهم منه).
(4)
في الدر المنثور: ج 7 ص 376؛ قال السيوطي: (أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
) وذكره. وفي الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 88؛ قال القرطبي: (وقال كعب: إني أجد في كتب الله المنزلة: (لولا أن يحزن عبدي المؤمن لكلّلت رأس عبدي الكافر بالإكليل لا يتصدع منه عرق بوجع).
(5)
القائل ابن عباس رضي الله عنهما؛ كما في الدر المنثور: ج 7 ص 376؛ قال: (قد أنزل الله شبه ذلك في كتابه).
قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً؛} أي من يعرض عن ذكر الرّحمن نسبب له شيطانا يضلّه، يجعل ذلك جزاؤه، {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (36)؛لا يفارقه في الدّنيا والآخرة، يقال: عشي إلى النار باللّيل إذا تنوّرها فقصدها، وعشي عنها إذا أعرض عنها قاصدا لغيرها، ونظير هذا مال إليه ومال عنه، قال الشاعر
(1)
:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
…
تجد خير نار عندها خير موقد
ومن قرأ «(يعش)» بفتح الشين وهو من عشى يعشى إذا لم يبصر بالليل، والمعنى:
ومن يعم عن ذكر الرّحمن.
قال الزجّاج: (معنى الآية: ومن يعرض عن القرآن وما فيه من الحكمة إلى أباطيل المضلّين، نعاقبه بشيطان نقيّضه له حتّى يضلّه ويلازمه قرينا له فلا يهتدي، مجازاة له حين آثر الباطل على الحقّ المبين)
(2)
.
وقوله تعالى: {(فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)} أي صاحب يزيّن له العمى، ويخيّل إليه أنّه على الهدى وهو على الضّلالة، وذلك
قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ؛} معناه: وإنّ الشياطين ليمنعونهم عن سبيل الهدى، {وَيَحْسَبُونَ؛} الكفار، {أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (37).
قوله تعالى: {حَتّى إِذا جاءَنا؛} يعني الكافر إذا جاء يوم القيامة {قالَ،} لقرينه وهو الشيطان الذي يجعل معه في سلسلة واحدة: {يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ؛} المشرق والمغرب إذ كنّا في الدّنيا فلم أرك ولم ترني، {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} (38)؛كنت لي.
وإنما سمّي المشرق والمغرب باسم الواحد للازدواج، كما يقال للشّمس والقمر: القمران، وفي تثنية أبي بكر وعمر: العمرين، قال الشاعر
(3)
:
(1)
الحطيئة يمدح بغيض بن عامر التميمي.
(2)
لم أجده في معاني القرآن وإعرابه للزجاج، ولعلّ المصنّف نقله سماعا.
(3)
الفرزدق من قصيدة له يفتخر بآبائه ويهجو جريرا. من شواهد الزجاج في معاني القرآن-
أخذنا بآفاق السّماء عليكم
…
لنا قمراها والنّجوم الطّوالع
وقرئ: {(حَتّى إِذا جاءَنا)} يعني الكافر وشيطانه يبعثان يوم القيامة في سلسلة واحدة، كما روي أنّ الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره أخذ بيده شيطانه فلم يفارقه حتى يصيّرهما الله إلى النار، فلذلك حيث يقول:{(يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ)} ،ويقول الله في ذلك اليوم للكافرين «و»
(1)
أنت أيها الشيطان:
{وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ؛} أي إذا أشركتم في الدّنيا، {أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ} (39)؛قال المفسّرون: لا يخفّف عنهم الإشراك شيئا من العذاب، لأنّ لكلّ واحد منهم الحظّ الأوفر من العذاب، ولا يستأنس بعضهم ببعض.
قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ؛} أي أفأنت تسمع الكفار الذين يتصاممون عن الحقّ ويتعامون عنه، {وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (40)؛أي بيّن قد ظهرت ضلالته.
وقوله تعالى: {فَإِمّا نَذْهَبَنَّ بِكَ؛} أي نميتك قبل أن نريك النّقمة في كفار مكّة، {فَإِنّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} (41)؛بالقتل بعدك،
{أَوْ نُرِيَنَّكَ؛} في حياتك ما، {الَّذِي وَعَدْناهُمْ؛} من الذّلّ، {فَإِنّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} (42).بيّن الله تعالى أنه قادر على عقوبتهم في حال حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته.
والأصل في (إما): (إن ما) فحذف الشرط (ان وما) صلة ومتى دخلت (ما) في الشرط للتوكيد دخلت النون الثّقيلة المؤكّدة في الفعل المذكور بعدها.
ومعنى الآية: أنّ الله تعالى «قال»
(2)
مطيّبا لقلب نبيّه صلى الله عليه وسلم: إن ذهبنا بك انتقمنا لك ممّن كذبك بعدك أو نرينّك في حياتك ما وعدناهم من العذاب، فإنّا قادرون عليهم متى شئنا عذبناهم ثم أري ذلك يوم بدر.
(3)
-وإعرابه: ج 4 ص 314.وقال: (يريد الشمس والقمر، وكما قالوا: سنّة العمرين، يراد سنة أبي بكر وعمر رحمة الله عليهما).
(1)
(و) سقطت من المخطوط.
(2)
(قال) ليس في المخطوط، وهو مقتضى السياق.
قوله تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ؛} أي استمسك بالقرآن، {إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ؛} أي القرآن شرف لك ولهم، {وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ} (44)؛عن شكر هذه النّعمة، يعني ما أعطاه الله من الحكمة وقومه المؤمنين من الهدى بالقرآن إلى إدراك الحقّ، وقال مجاهد:(القوم هاهنا العرب، والقرآن لهم شرف إذ نزل بلغتهم)
(1)
.
قوله تعالى: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (45)؛وذلك أنه لمّا أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم بعث الله آدم وجميع المرسلين وأذن جبريل ثم أقام، وقال: يا محمّد تقدّم فصلّ بهم، فلمّا فرغ من الصّلاة قال جبريل: سل يا محمّد من أرسلنا من قبلك، هل أرسلنا عليهم جواز عبادة غير الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم:[لا أسأل قد اكتفيت]
(2)
.
وقيل: معناه: اسأل أمم من أرسلنا قبلك، يعني مؤمني أهل الكتاب سلهم هل جاءتهم الرّسل إلاّ بالتوحيد، فلم يشكّ ولم يسأل، (ومعنى الأمر بالسّؤال لتقرير مشركي قريش أنه لم يأت رسول ولا كتاب بعبادة غير الله تعالى)
(3)
.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ} (47)؛أي يهزءون ويضحكون منها جهلا وغفلة.
وقوله تعالى: {وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها؛} يعني ما نرادف عليهم من الطّوفان والجراد والقمّل والضفادع والدّم والطّمس، وكانت كلّ آية من هذه الآيات أكبر من التي قبلها، وهي العذاب المذكور في قوله تعالى:{وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (48)؛لأنّهم عذّبوا بهذه الآيات.
(1)
ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 1169.
(2)
في معالم التنزيل: ص 1169؛ قال البغوي: (قال عطاء عن ابن عباس) وذكره، ثم قال:(وهذا قول الزهري وسعيد بن جبير وابن زيد).وأخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (23888) عن ابن زيد. ونقله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: ج 4 ص 315.
(3)
نقله البغوي العبارة ولم يعزها إلى الطبراني، ينظر: معالم التنزيل: ص 1169.
قوله تعالى: {وَقالُوا يا أَيُّهَا السّاحِرُ؛} قال الكلبيّ: (يا أيّها العالم، وكان السّاحر فيهم عظيما يعظّمونه، ولم يكن «السّحر» صفة ذمّ، وكان علماؤهم في ذلك الوقت السّحرة، فكانوا يوقّرونه بهذا القول، ولم يريدوا شتمه)
(1)
.
وقوله تعالى: {اُدْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ؛} أي سل ربّك بما عهد عندك فيمن آمن بك ليكشف العذاب عنّا، والمعنى: بما عهد فيمن آمن به من كشف العذاب عنه، {إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ} (49)؛مؤمنون بك.
فدعا موسى ربّه فكشف عنهم فلم يؤمنوا، فذلك
قوله تعالى: {فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ} (50)؛العهد الذي عاهدوا موسى، معناه: إذا هم ينقضون عهودهم.
قوله تعالى: {وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ؛} إلى قوله: {قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} (51)؛يعني أنهار النّيل تجري من تحتي؛ أي من تحت قصوري وفي بساتيني، وقال الحسن:(بأمري)
(2)
فعلى هذا معناه: من تحت أمري، أفلا تبصرون عظمتي وشدّة ملكي وفضلي على موسى.
قوله تعالى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ؛} أي بل أنا خير من هذا الذي هو ضعيف حقير، يعني موسى؛ وإنما وصفه بهذا لأنه كان يقوم بأمر نفسه، ولم يكن أحد يقوم بأمره، ومن ذلك المهنة، وقوله تعالى:{وَلا يَكادُ يُبِينُ} (52)؛أي لا يكاد يبين الكلام، يعني أنه كان بلسانه لثغة من أثر العقدة التي كانت، وكان مع ذلك بليغا مبينا.
قوله تعالى: {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ؛} معناه: قال فرعون: هلاّ ألقي على موسى أسورة من ذهب إن كان رسولا كما يسوّر الملوك رسلهم تعظيما لهم، وكان آل فرعون يلبسون الأساور، والأسورة جمع السّوار، والأساور جمع الأسورة.
(1)
ينظر نقولات القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 16 ص 97.
(2)
ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 1170.
وقوله تعالى: {أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} (53)؛أي متتابعين يعينونه على أمره الذي بعث له، ويشهدون له بصدقه. والمعنى: أنّ فرعون قال: هلاّ جاء معه الملائكة متعاونين يمشون معه فيدلّون على صدقه بنبوّته.
قوله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ؛} أي استخفّ فرعون عقول قومه القبط فوجدهم خفاف العقول فأطاعوه على تكذيب موسى، {إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ} (54)؛أي خارجين عن أمرنا.
وقوله تعالى: {فَلَمّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ؛} أي فلمّا أغضبونا انتقمنا منهم، وجازيناهم على معاصيهم، {فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ} (55).والآسف:
الغضب في هذه الآية، وأصله في اللغة: الحزن، إلاّ أن الحزن لا يجوز في صفات الله.
وقوله تعالى: {فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً؛} أي متقدّمين، وقيل: سلفا إلى النار، {وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ} (56)؛يتمثّل بهم في الهلاك إلى آخر الدّهر.
وقرأ حمزة «(سلفا)» بالضمّ في السين واللام: جمع سليف وهو الماضي مأخوذ من سلف بضمّ اللام يسلف؛ أي تقدّم فهو سليف. ومن قرأ «(سلفا)» بضمّ السين وفتح اللام فهو جمع سلفة وهي الفرقة التي قد مضت.
قوله تعالى: {*وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} (57)؛قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: (لمّا نزل قوله تعالى {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ .. }. الآية، قرأها النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال ابن الزّبعرى: أخاصّ هذا أم عامّ؟ فقال: [عامّ] فقال ابن الزّبعرى: فإنّ عيسى تعبده النّصارى، فهو والنّصارى في النّار، وعزير تعبده اليهود، وخزاعة تعبد الملائكة، فإن كان هؤلاء في النّار فآلهتنا خيرا منهم، فأنزل الله تعالى {(وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً))}
(1)
.
(1)
في معالم التنزيل: ص 1170؛ قال البغوي: (قال ابن عباس وأكثر المفسرين: إن الآية نزلت في مجادلة عبد الله بن الزبعرى مع النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى).وحكاه مقاتل في التفسير: ج 3 ص 193 - 194.والقصة أخرجها ابن هشام في السيرة النبوية: ج 1 ص 385.
والمعنى: لمّا شبّهوه بآلهتهم {(إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ)} يعني قومه الكفار كانوا يضجّون ضجيج المجادلة، حيث خاصموه وقالوا: رضينا أن تكون آلهتنا، وهو قولهم:
{وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ؛} أي ليست آلهتنا خيرا من عيسى، فإن كان عيسى في النار بأنه يعبد من دون الله فآلهتنا في النار.
قرئ {(يَصِدُّونَ)} بكسر الصاد وضمّها، قال الفرّاء والزجّاج والأخفش والكسائيّ:(هما لغتان، معناهما: يضجّون)
(1)
.وقيل: يصدّون: يعرضون. ومن قرأ بكسر الصاد فمعناه: يضحكون.
قوله تعالى: {ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاً؛} أي ما ذكروا لك وصف عيسى إلاّ ليجادلوك به؛ لأنّهم قد علموا أن المراد بحصب جهنّم ما اتخذوه من الموات.
ثم ذكر أنّهم أصحاب خصومات فقال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (58)؛ أي جدلون بالباطل، وعن أبي أمامة الباهليّ أنه قال: (ما ضلّ قوم إلاّ أوتوا الجدل.
ثمّ قرأ هذه الآية)
(2)
.
قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ؛} فيه بيان أنّ عيسى عليه السلام عبد مثلهم فضّله بالنبوّة والرسالة، والمعنى: أنعمنا عليه بالنبوّة، {وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ} (59)؛أي جعلنا خلقه بغير الأب آية تدلّهم على وحدانيّة الله تعالى وقدرته على ما يريد.
ثم خاطب كفار مكّة فقال تعالى: {وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً؛} أي لو نشاء أهلكناكم وجعلنا بدلا منكم ملائكة، {فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} (60)؛كم يكون خلفا منكم.
(1)
في معاني القرآن: ج 3 ص 36 - 37 ذكرهما الفراء وقال: (العرب تقول يصدّ ويصدّ).وفي معاني القرآن وإعرابه: ج 4 ص 317؛قال الزجاج: (يقرأ يصدّون بضمّ الصاد والكسر أكثر). وقاله الأخفش في معاني القرآن: ج 2 ص 690.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (23928).والطبراني في المعجم الكبير: ج 8 ص 277:الحديث (8067).والترمذي في الجامع: أبواب التفسير: الحديث (3235)،وقال: حسن صحيح. وابن ماجة في السنن: المقدمة: الحديث (48).والحاكم في المستدرك: كتاب التفسير: الحديث (3726)،وقال: صحيح الإسناد.
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسّاعَةِ؛} يعني نزول عيسى من أشراط السّاعة نعلم به، {فَلا تَمْتَرُنَّ بِها؛} أي لا تشكّنّ في القيامة إنّها كائنة، ولا تكذّبوا، و؛ قل لهم:{وَاتَّبِعُونِ؛} على التوحيد، و {هذا؛} الذي أنا عليه، {صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ} (61)؛أي دين قائم لا عوج فيه،
{وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ؛} أي لا يصرفنّكم عن هذا الدين، {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (62)؛أي ظاهر العداوة.
قوله تعالى: {وَلَمّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ؛} أي بالمعجزات، وقال قتادة:
(يعني الإنجيل)
(1)
،وقوله تعالى:{قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ؛} أي بالإنجيل، وقيل: بالنبوّة، و؛ جئتكم {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ؛} فيما بينكم، قال مجاهد:(من أحكام التّوراة)
(2)
.
فإن قيل: فهلاّ بيّن لهم جميع ما اختلفوا فيه وقد أرسل إليهم؟ قلنا: قد اختلفوا فيه؛ قال بعضهم: إنّ الذي جاء به عيسى في الإنجيل إنما هو بعض الذي اختلفوا فيه، وقد بيّن لهم من غير الإنجيل ما احتاجوا إليه.
وقال بعضهم: معناه: لأبيّن لكم بعض الكتاب الذي تختلفون فيه، إذ كانوا مختلفين في بعض التّوراة. وقال بعضهم معناه: لأبيّن لكم أمر دينكم لأنّهم كانوا مختلفين في أمر دينهم ودنياهم، والمقصود من إرسال الرسل بيان الدين، فكان ذلك بعض ما اختلفوا فيه، وقد يذكر البعض أيضا بمعنى الكلّ، كما قال الشاعر
(3)
:
قد يدرك المتأنّي بعض حاجته
…
وقد يكون مع المستعجل الزّلل
وأراد بالبعض الكلّ، لأن المستعجل أيضا قد يدرك البعض،
(1)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 16 ص 107 - 108؛ قال القرطبي: (وقال قتادة: البينات هنا الانجيل).وقاله مقاتل أيضا في التفسير: ج 3 ص 195.وأخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (23944) عن قتادة.
(2)
قاله الطبري في جامع البيان: وأورد قول مجاهد في الأثر (23946) وقال: (من تبديل التوراة).
(3)
في معاني القرآن وإعرابه: ج 4 ص 318؛قال الزجاج: (واستشهدوا أيضا بقول القطامي) وذكره.
قوله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ؛} يعني اليهود والنصارى، وقيل: المراد به فرق النصارى على ما تقدّم ذكره من الاختلاف فيما بينهم في عيسى عليه السلام، وقوله تعالى:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} (65)؛أي هل ينظرون إلاّ القيامة أن تأتيهم فجأة على غرّة منهم، «من» غير تأهّب ولا استعداد، {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (66)؛ وقت مجيئها.
فإن قيل: كيف تسمّى القيامة الساعة وهي تشتمل على خمسين ألف سنة؟ قلنا:
إنما سمّيت ساعة لسرعة مجيئها، ولأنّها في جنب ما وراءها ساعة، وهي سريعة الانقضاء على المؤمنين.
قوله تعالى: {الْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} (67)؛ يعني الأخلاّء في يومئذ؛ أي يوم تأتي الساعة {(بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)} يعني إذا كانت الخلّة على المعصية والكفر صارت عداوة يوم القيامة، {(إِلاَّ الْمُتَّقِينَ)} يعني المؤمنين الذين يخالل بعضهم بعضا على الإيمان والتقوى، فإنّ خلّتهم لا تصير عداوة.
وفي الحديث: [أنّ الأخلاّء أربعة: مؤمنان وكافران، فإذا سئل المؤمن عن خليله، قال: ما علمته إلاّ أمّارا بالمعروف نهّاء عن المنكر، ويسأل المؤمن الثّاني عن خليله، فيقول مثل ذلك، ويثني كلّ واحد منهما على صاحبه خيرا، فتزداد مخاللتهما في الآخرة على الّتي كانت في الدّنيا. ثمّ يسأل أحد الكافرين عن خليله، فيقول: بئس الأخ؛ ما علمته إلاّ أمّارا بالمنكر، نهّاء عن المعروف، اللهمّ أضلله كما أضلّني، ويقول الآخر مثل ذلك، ويثني كلّ واحد منهما على صاحبه شرّا وتنقلب مخاللتهما عداوة، لأنّها لم تكن في ذات الله تعالى]
(1)
.
(1)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 16 ص 109؛ قال القرطبي: (ذكره الثعلبي رضي الله عنه في هذه الآية).وفي الدر المنثور: ج 7 ص 388؛ قال السيوطي: (أخرجه عبد بن حميد عن قتادة) وذكره بمعناه ولفظ قريب منه. وص 389 قال: (أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وحميد بن زنجويه في ترغيبه، وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وذكره في لفظ قريب منه. وأخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (23952).
قوله تعالى: {يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ} (69)؛أي يقال للمتّقين: يا عبادي لا خوف عليكم من أهوال القيامة وما بعدها، ولا أنتم تحزنون إذا حزن الناس، فقوله:
{(الَّذِينَ)} موضع نصب على النعت لعبادي، لأن عبادي منادى مضاف.
وقوله تعالى: {(وَكانُوا مُسْلِمِينَ)} أي خاضعين منقادين، يقال لهم:
{اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ} (70)؛أي لأنتم وحلائلكم المؤمنات تكرمون غاية الإكرام بالتّحف والهدايا. ويقال: معنى: تحبرون: تسرّون، والحبور السّرور.
قوله تعالى: {يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ؛} أي يطوف عليهم خدمهم بقصاع من ذهب فيها من أنواع الأطعمة اللّذيذة الشّهيّة، وواحد الصّحاف:
صحفة؛ وهي القصعة الواسعة العريضة، وقوله تعالى:{وَأَكْوابٍ؛} أي وأكواب من ذهب، والأكواب جمع الكوب، وهو إناء مستدير مدوّر الرأس لا عروة له. وقيل:
الأكواب هي الأباريق التي لا خراطيم لها ولا أذن.
قوله تعالى: {وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ؛} أي في الجنّة ما تتمنّى الأنفس وتستحسنه الأعين، {وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (72)؛من الأعمال الصالحة،
{لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ؛} ألوان الفاكهة الكثيرة، {مِنْها تَأْكُلُونَ} (73).
قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ} (74)؛أي إنّ المجرمين في عذاب جهنّم دائمون،
{لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ؛} أي يرفّه عنهم ولا يهوّن عليهم، {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} (75)؛أي آيسون من الرّوح والرّاحة.
والإبلاس هو: اليأس من الخير، والمبلس هو الساكت المنقطع ليأسه من الفرح،
{وَما ظَلَمْناهُمْ؛} بهذا العذاب، {وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمِينَ} (76) لأنفسهم بالكفر والمعاصي.
وفي قراءة ابن مسعود «(الظّالمون)» بالرفع على لغة تميم يعملون المضمر قبله، وأما على القراءة التي ليست في المصحف (فهم) زيادة وفصل لا موضع لها من
الإعراب بمنزلة (ما) في قوله {فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ}
(1)
.
قوله تعالى: {وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ؛} وذلك أنّه إذا اشتدّ عليهم العذاب وقد صيّرهم، تمنّوا الموت، فنادوا مالكا خازن جهنّم: يا مالك ادع لنا ربّك يقضي علينا بالموت فنستريح من العذاب بعد أربعين سنة، {قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ} (77)؛مقيمون دائمون، وعن ابن عبّاس:(أنّهم ينادون مالكا ألف سنة فيجيبهم: إنّكم ماكثون في العذاب)
(2)
،وقرأ عليّ وابن مسعود
(3)
: «(يا مال)» بالترخيم
(4)
.
قوله تعالى: {لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ؛} أي لقد أرسلنا إليكم يا معشر قريش محمّدا رسولنا بالحقّ، {وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ} (78).
(1)
آل عمران 159/. في معاني القرآن وإعرابه: ج 4 ص 320؛قال الزجاج: (ويجوز: ولكن كانوا هم الظالمون، في غير القرآن-أي فيما يتخاطب به الناس-ولكن لا نقرأ بها لأنها تخالف المصحف).والسبب في القراءة على ما نقله النحاس في إعراب القرآن: ج 4 ص 80؛ قال: (قال أبو جعفر: وعلى هذا يكون (ظَلَمْناهُمْ) في موضع رفع بالابتداء، و (الظّالمون) خبر الابتداء، وخبره خبر كان، كما تقول: كان زيد أبوه خارج).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (23968).
(3)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب بدء الخلق: باب إذا قال أحدكم (آمين):الحديث (3230) عن صفوان بن يعلى عن أبيه قال: [سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر: (ونادوا يا مال)] قال سفيان: (من قراءة عبد الله: (ونادوا يا مال).وفي فتح الباري شرح صحيح البخاري: ج 8 ص 730؛قال ابن حجر: (يذكر عن بعض السلف أنه لما سمعها قال: (ما أشغل أهل النار عن اسم الترخيم؟) قال ابن حجر: (وأجيب باحتمال أنهم يقتطعون بعض الاسم لضعفهم وشدة ما هم فيه).وفي الجامع لأحكام القرآن: ج 16 ص 117؛ قال القرطبي: (قال أبو بكر: لا يعمل على هذا الحديث لأنه مقطوع لا يقبل مثله في الرواية عن رسول الله عليه السلام، وكتاب الله أحق أن يحتاط له وينفى عنه الباطل).
(4)
في معاني القرآن وإعرابه: ج 4 ص 320؛قال الزجاج: (ورويت: يا مال-بغير الكاف، وبكسر اللام-وهذا يسميه النحويون الترخيم، وهو كثير في الشعر في مالك وعامر، ولكني أكرههما لمخالفتهما المصحف).
وقوله تعالى: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنّا مُبْرِمُونَ} (79)؛أي بل احكموا عند نفوسهم أمرا في كيد محمّد صلى الله عليه وسلم والمكر به، فإنّا محكمون أمرا في مجازاتهم شرّا بشرّ.
قوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} (80)؛السّرّ ما يعقده الإنسان في نفسه ويضمره بقلبه، والنّجوى ما يحدّث به غيره في الخفية، وقوله تعالى {(بَلى)} أي نسمع سرّهم ونجواهم، ورسلنا هم الحفظة عندهم، يكتبون عليهم ذلك.
ويقال: إنّ هذه الآية نزلت في ثلاثة نفر من المشركين، وهم صفوان بن أمية، وربيعة بن عمرو وأخوه حبيب بن عمرو، وكانوا يمكرون في قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا:
أخبرنا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: إنّ الله يعلم السرّ يكون بين الاثنين، أفترونه يعلم ما نقول؟ قال ربيعة: أراه يعلم بعض ما نقول ولا يعلم بعضا، فقال صفوان: ولا كلمة واحدة، ولو علم بعضه لعلمه كلّه، فأنزل الله تعالى هذه الآية
(1)
.
قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ} (81)؛وذلك أنّ المشركين لمّا قالوا: لله ولد! ولم يرجعوا عن مقالتهم، أنزل الله هذه الآية، والمعنى: قل لهم يا محمّد: {(إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ)} في زعمكم {(فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ)} من عبد الله وحده وكذبكم بما تقولون، هكذا روي عن مجاهد
(2)
.
وقال قتادة والحسن: (معناه: ما كان للرّحمن ولد، وأنا أوّل من عبد الله من أهل هذا الزّمان)
(3)
.وقيل: معناه: إن كان للرّحمن ولد كما تزعمون فأنا أوّل من غضب للرحمن، فعلى هذا القول العابد من العبد بمعنى الغضب. وقال الفرّاء: (عبد
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (23977) من غير ذكر الأسماء. وفي الدر المنثور: ج 7 ص 394؛ عزاه السيوطي للطبري فقط.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (23981).وفي الدر المنثور: ج 7 ص 395؛ قال السيوطي: (أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير).
(3)
في الدر المنثور: ج 7 ص 395؛ قال السيوطي: (أخرجه عبد بن حميد عن الحسن والقتادة) بلفظ: (فأنا أول من عبد الله من هذه الأمة).
عليه أي غضب عليه).وقيل: معناه: فأنا أوّل الآنفين، يقال: عبد يعبد؛ إذا أنف وغضب.
قوله تعالى: {سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؛} نزّه الله تعالى نفسه مما يقول المشركون؛ أي تنزيها لخالق السّماوات والأرض، {رَبِّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ} (82)؛يضيفون إليه من الولد.
وقوله تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} (83)؛أمر بتركهم على وجه التوبيخ؛ أي اترك يا محمّد كفار مكّة يخوضوا في أباطيلهم، ويلعبوا في دنياهم بمقالتهم حتى يعاينوا يوم القيامة.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ؛} أي هو معبود من في السّماوات ومن في الأرض، لا معبود غيره ولا إله إلاّ هو، {وَهُوَ الْحَكِيمُ؛} في أمره وقضائه، {الْعَلِيمُ} (84)؛بخلقه وتدبيرهم.
وقوله تعالى: {وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما؛} أي تعالى ودام الذي بيده خزائن السموات والأرض وما بينهما، {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ؛} أي علم قيام الساعة، لا يعلم وقتها أحد غيره، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (85)؛في الآخرة.
قوله تعالى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ؛} أي لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة، ثم استثنى عيسى والعزير والملائكة فقال:
{إِلاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ؛} أي من شهد أنّه لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (86)؛بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم. والمعنى: إلاّ من شهد بكلمة التوحيد، وعلم بقلبه أنّها حقّ.
وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنّى يُؤْفَكُونَ} (87)؛ أي ولئن سألت هؤلاء الذين عبدوا غير الله: من خلقهم وخلق معبودهم؟ ليقولنّ:
الله خلقهم، فمن أين يصرفون عن عبادة الله مع معرفتهم بأنه الخالق، والخالق أولى بالعبادة من المخلوق؟
قوله تعالى: {وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} (88)؛من قرأ بنصب اللام؛ فمعناه: يعلم قيام الساعة، ويعلم «(قيله)» محمد يا ربّ؛ لأن معنى {(وَعِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ)} ويعلم قيام الساعة. وقيل: انتصب عطفا على قوله {(سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ)} كأنه قال: أم يحسبون أنا لا نسمع سرّهم ونجواهم، {(وَقِيلِهِ)} يا ربّ في شكوى منهم إلى ربه. قال المبرّد:(العطف على المنصوب حسن وإن تباعد المعطوف على المعطوف عليه).
ومن قرأ {(وَقِيلِهِ)} بكسر اللام فهو على معنى: وعنده علم الساعة وعلم قيله.
والقيل مصدر كالقول، يقال: قلت قولا وقيلا وقالا. ولو قرئ «(وقيله)» بالرفع على معنى: وقيل محمّد صلى الله عليه وسلم، هذا كان جائزا في الكلام
(1)
.
قوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ؛} أي أعرض عنهم إلى أن تؤمر فيهم بشيء، {وَقُلْ سَلامٌ،} قال عطاء: (يريد مداراة حتّى ينزل حكمي)،ومعناه: المتاركة؛ أي سلام هجران وترك لا سلام تحيّة، {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (89)؛عاقبة كفرهم، وماذا ينزل بهم فيندمون حين لا ينفعهم الندم.
ومن قرأ «(تعلمون)» فعلى الأمر للنبيّ صلى الله عليه وسلم بأن يخاطبهم بهذا، قال مقاتل:(نسخ السّيف الإعراض والسّلام)
(2)
.
آخر تفسير سورة (الزخرف) والحمد لله رب العالمين.
(1)
ينظر: معاني القرآن للفراء: ج 3 ص 38.ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج: ج 4 ص 321.
وإعراب القرآن للنحاس: ج 4 ص 81 - 82.
(2)
قاله مقاتل في التفسير: ج 3 ص 200: (فنسخ السيف الإعراض والسّلام).