الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الجاثية
سورة الجاثية مكّيّة، وهي ألفان ومائة وواحد وسبعون حرفا، وأربعمائة وثمان وثمانون كلمة، وسبع وثلاثون آية
(1)
.قال صلى الله عليه وسلم: [من قرأها ستر الله عورته، وسكّن روعته عند الحساب]
(2)
.
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}
{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (2)؛ {(حم)} مبتدأ وخبره {(تَنْزِيلُ)} ،و
قوله تعالى: {إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} (3) أي لدلالات على الحقّ تدلّ بخلقها على أنّ لها خالقا قديما لا أوّل له، ويدلّ تعظيمها وبقاؤها من غير علاقة فوقها ولا عماد تحتها على قادر لا يعجزه شيء. وقوله تعالى {(لَآياتٍ)} في موضع نصب؛ لأنه اسم {(إِنَّ)} ،كما يقال: إنّ في الدار لزيدا.
قوله تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ؛} أي وفي خلقكم حالا بعد حال من نطفة إلى أن يصير إنسانا ثم يصير فيه العقل ثم الحواسّ، وما يبثّ من دابّة على وجه الأرض على اختلاف أجناس الدواب ومنافعها وصورها، وما يقصر من منافعها في ذلك دلالات واضحة على وحدانيّة الله تعالى، {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (4)؛يطلبون علم اليقين، ويوقنون أنّه لا إله غيره.
وقرأ حمزة «(آيات)» {(وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ)} بالكسر على أنّهما منصوبان نسقا على قوله تعالى {(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)} على معنى وإنّ في خلقكم آيات، ومن رفع
(1)
في المخطوط: (تسع وتسعون آية).
(2)
ذكره الزمخشري في الكشاف: ج 4 ص 286.وأخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم إلى أبي بن كعب.
فعلى الاستئناف بعد أن، تقول العرب: إنّ لي عليكم مالا وعلى أخيك مال، ينصبون الثاني ويرفعونه
(1)
.
قوله تعالى: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ؛} أي وفي ذهابهما ومجيئهما، وما يحدث في كلّ واحد منهما من الزيادة والنّقصان من غير أن يكونا جميعا أزيد من أربع وعشرين ساعة، {وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ،} وفيما أنزل الله من السّماء من المطر فأحيا به الأرض بعد يبسها، وفي تقلّب الرياح شمالا وجنوبا وقبولا ودبورا وعذابا ورحمة، {آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (5)؛الدلالة ويتدبّرونها.
قوله تعالى: {تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ؛} أي تلك التي سبق ذكرها دلائل الله لعباده يتلوها عليك جبريل بأمرنا بقصصنا عليك بالحقّ، {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ،} كتاب، {اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ} (6)؛إن لم يؤمنوا بهذا القرآن. ومن قرأ بالتاء فعلى تأويل: قل لهم يا محمّد: فبأيّ حديث تؤمنون.
قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} (8)؛يعني النضر بن الحارث، كان يروي من أحاديث العجم للمشركين فيستملحون حديثه، وكان إذا سمع آيات القرآن استهزأ بها، فجعل الله له العذاب مرّتين، مرّة أليما ومرّة مهينا، وقد ذكرنا تفسير الآية في سورة لقمان.
ومعنى الآية: ويل لكلّ كذاب فاجر كثير الإثم، يسمع القرآن يقرأ عليه ولا يتدبّره، ولا يخشع لاستماعه، بل يقيم على كفره متعظّما عن الإيمان بالله، كأن لم يسمع آيات الله، فخوّفه يا محمّد بعذاب وجيع يخلص وجعه إليه.
قوله تعالى: {وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً؛} أي إذا سمع من آيات القرآن شيئا اتّخذها هزوا، {أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ} (9).
(1)
ينظر: الحجة للقراء السبعة: ج 3 ص 390.
قوله تعالى: {مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ؛} أي لهم من بعد موتهم جهنّم، {وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً؛} ولا ينفعهم ما كسبوا من الأموال والأولاد شيئا، {وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ؛} أربابا في دفع شيء من عذاب الله، {وَلَهُمْ؛} في الآخرة؛ {عَذابٌ عَظِيمٌ} (10)؛كلّ ذلك للنّضر بن الحارث وأمثاله.
وقوله: {هذا هُدىً؛} أي هذا القرآن بيان للحقّ من الباطل في كلّ ما يحتاج إليه من أمر الدّين والدّنيا، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ؛} الله أي جحدوا دلائل الله، {لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} (11)؛أي عذاب من عذاب وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم، وقرئ {(أَلِيمٌ)} بالرفع على نعت العذاب، وبالكسر على نعت الرّجز.
قوله تعالى: {*اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ؛} أي هو الّذي ذلّل لكم البحر بتسهيل السبيل إلى سلوكها باتّخاذ السّفن وإصلاحها، {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (12)،وباقي الآية قد تقدّم تفسيرها.
قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ؛} من شمس وقمر ونجوم ومطر وثلج وبرد، {وَما فِي الْأَرْضِ؛} من دابّة وشجر ونبات وثمار وأنهار، ومعنى سخّره لنا: هو أنّه خلقها لانتفاعنا بها على الوجه الذي يريده. قوله تعالى:
{جَمِيعاً مِنْهُ؛} أي الكلّ رحمة منه وبفضله ومنّه، {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (13)؛في صنع الله وإحسانه، فيوحّدونه.
قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيّامَ اللهِ؛} نزلت في عمر رضي الله عنه: شتمه رجل من بني غفار بمكّة، فهمّ أن يبطش به، فأمره الله بالعفو والتّجاوز
(1)
.والمعنى: قل للّذين آمنوا اغفروا، ولكنه شبّهه بالشرط والجزاء كقوله تعالى:{قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ}
(2)
.
(1)
قاله مقاتل في التفسير: ج 3 ص 212.
(2)
إبراهيم 31/.
وقوله: {(لا يَرْجُونَ أَيّامَ اللهِ)} أي لا يخافون عذاب الله من إيذائكم، فتجاوزوا عنهم ليوفّيهم الله عقاب سيّئاتهم بما عملوا. ويجوز أن يكون المعنى: تجاوزوا عن الذين لا يرجون ثواب الله للمؤمنين، {لِيَجْزِيَ؛} الله، {قَوْماً،} المؤمنين يوم الجزاء، {بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} (14)؛بما كانوا يعملون من الخيرات.
وقيل: إن الآية نزلت في أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، كانوا في أذى شديد من أهل مكّة قبل أن يؤمروا بقتالهم، فأمر الله المؤمنين بترك مكافأتهم، ثم نسخت بقوله تعالى {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}
(1)
.
وقال الحسن: (لم تنسخ هذه الآية، وهي على الاستحباب في العفو ما لم يؤدّوا إلى الإخلال بحقّ الله أو إلى إذلال الدّين).
{مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} (15).
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ؛} يعني التوراة والإنجيل، {وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ؛} أي الفهم في الكتاب وفصل الأمر، وجعلنا فيهم الأنبياء والرّسل، {وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ؛} أي من الحلال ومن لذيذ الأطعمة كالمنّ والسّلوى وغيرهما، {وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ} (16)؛أي على عالمي زمانهم بكثرة النبيّين فيهم، وفضّل الله أمّة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم بكثرة العلماء فيهم، والقائمين بالحقّ منهم كما قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ}
(2)
.
قوله تعالى: {وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ؛} يعني العلم بمبعث النّبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم، وما بيّن لهم من الأمر، {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (17)؛الآية قد تقدّم تفسيرها.
قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها؛} أي ثم أكرمناك يا محمّد بعد اختلافهم فجعلناك على طريقة مستقرّة من الدّين، فاستقم
(1)
الحج 39/. أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (24120) عن مجاهد، و (24121) عن قتادة.
(2)
آل عمران 110/.
عليها وادع الخلق إليها، ولا تعمل بأهواء الذين يخالفونك في أمر الدّين والقبلة، وهو قوله تعالى:{وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (18)،توحيد الله؛ قيل: يعني كفّار قريش.
قوله تعالى: {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً؛} أي لن يدفعوا عنك من عذاب الله شيئا إن اتّبعت أهواءهم، {وَإِنَّ الظّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ،} يعني المشركين أنصار بعضهم بعضا، {وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} (19)؛أي ناصر المؤمنين المتّقين الشرك وهم أمة محمّد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {هذا بَصائِرُ لِلنّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ؛} أي هذا القرآن عظات للناس وعبرة وبيان لهم من الضّلالة ونجاة من العذاب، {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (20)؛أنه من الله تعالى.
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ؛} قيل: إنّ هذه الآية نزلت في ثلاث نفر من المشركين؛ وهم عتبة وشيبة والوليد بن عتبة، بارزوا عليّا وحمزة وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم يوم بدر، كانوا يقولون لهم: لئن كان محمّد حقّا في الآخرة لتفضّل عليكم في الآخرة كما فضّلنا عليكم في الدّنيا
(1)
.
ومعنى الآية: أحسب الذين {(اجْتَرَحُوا)} اكتسبوا {(السَّيِّئاتِ)} المعاصي {(أَنْ نَجْعَلَهُمْ)} في الآخرة {(كَالَّذِينَ آمَنُوا)} بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن {(وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ)} من الصّلاة والزكاة.
وتمّ الكلام، ثم قال:{سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ،} ارتفع «(سواء)» على أنه خبر مبتدأ مقدّم، تقديره: محياهم ومماتهم سواء، والضمير فيهما يعود إلى القبيلتين المؤمنين والكافرين، يقول المؤمن مؤمن في محياه ومؤمن في مماته، والكافر كافر في حياته ومماته. والمعنى: إنّ المؤمن يموت على إيمانه ويبعث عليه، والكافر يموت على كفره ويبعث عليه، يريد محيا القبيلتين ومماتهم سواء.
(1)
ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 16 ص 165.
ومن قرأ {(سَواءً)} بالنصب جعله مفعولا ثانيا، فجعله على تقدير: فجعل محياهم ومماتهم سواء، يعني أحسبوا أنّ حياتهم وموتهم كحياة المؤمنين وموتهم؛ كلاّ، وقوله تعالى:{ساءَ ما يَحْكُمُونَ} (21)؛أي بئس ما يقضون حين يرون أنّ لهم في الآخرة ما للمؤمنين،
قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ؛} وذلك أنّ أهل مكّة كانوا يعبدون الحجر والخشب، فإذا رأوا ما هو أحسن منه، رموا بالأوّل وعبدوا الثاني، فهم يعبدون ما تهواه أنفسهم، قال قتادة:(هو الكافر لا يهوى ما شاء إلاّ ركبه، يبنون العبادة على الهوى لا على الحجّة، فأنزل الله هذه الآية: {(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ))}.قال الحسن: (اتّخذ إلهه هواه لا يعرف إلهه بعقله وإنّما يعرفه بهواه).
وقوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ؛} أي خذله على ما سبق في عمله أنه ضالّ قبل أن يخلقه، {وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ؛} فلم يسمع الهدى؛ وعلى {وَقَلْبِهِ؛} فلم يعقل الهدى، {وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً؛} أي ظلمة فهو لا يبصر الهدى به. قوله تعالى:{فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ؛} أي من يهديه من بعد إضلال الله له، {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (23)؛فتعرفوا قدرته على ما يشاء.
قوله تعالى: {وَقالُوا ما هِيَ إِلاّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا؛} أي نموت نحن ويحيى آخرون ممّن يأتون بعدنا، وقال الزجّاج:(معناه نحيي ونميت، والواو للاجتماع)
(1)
والقائلون بهذا زنادقة قريش.
قوله تعالى: {وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ؛} أي إلاّ طول العمر واختلاف الليل والنهار، {وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ؛} أي لم يقولوه على علم علموه، بل قالوا ضلاّلا شاكّين.
(1)
قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: ج 4 ص 330.
قوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ} (24)؛وكان هذا القول من زنادقتهم الذين كانوا ينكرون الصانع الحكيم، ويزعمون أنّ الزمان ومضيّ الأوقات هو الذي يحدث هذه الحوادث، يموت قوم ويحيا قوم.
قوله تعالى: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} (27)؛فيه بيان أنّهم كانوا يتعلّقون بالحجج الباطلة، ولو تأمّلوا لعلموا أنّ دلائل معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم أوكد مما كانوا يطلبون.
قوله تعالى: {وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً؛} أي وترى أهل كلّ دين باركة على الرّكب متهيّئة للحساب والجزاء، مترقبة لما يصنع بها، كما ينحني بين يدي الحاكم ينتظر القضاء، {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا؛} أي إلى صحائف أعمالها، يقال لهم:{الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (28)؛في دار الدّنيا من الخير والشرّ.
قوله تعالى: {هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (29)؛يعني كتاب الحفظ يقرءونه فيدلّهم على ما عملوا، فكأنّه ينطق كما يقال: نطق الكتاب بتحريم الخمر، وقوله {(بِالْحَقِّ)} أي بالعدل، فيه حسناتهم وسيّئاتهم، وقوله تعالى {(إِنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ)} أي نأمر الملائكة بنسخ ما عملتم وتبيينه بيانا شافيا وتثبيته عليكم.
وما بعدها هذا ظاهر المعنى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ} (31).
قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ؛} لبعث، {وَالسّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها؛} أي القيامة كائنة من غير شكّ، {قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السّاعَةُ؛} أنكرتموهم وأظهرتم الشكّ فقلتم:{إِنْ نَظُنُّ إِلاّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} (32)؛ومن قرأ «(والسّاعة)» بالنصب فهو عطف على {(وَعْدَ)}
{وَبَدا لَهُمْ؛} في الآخرة، {سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} (33)؛في الدّنيا؛ أي ظهر لهم قبائح أعمالهم حين عاينوا ذلك في كتابهم الذي أحصى عليهم كلّ قليل وكثير.
قوله تعالى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ} (34)؛أي نترككم في النار، ونترك مراعاتكم وحفظكم، ولا نحفظكم من العذاب كما لم تحفظوا حقّ الله، وتركتم الإيمان والعمل بلقاء هذا اليوم.
والنسيان ضدّ الحفظ، وقد يكون للتّرك.
قوله تعالى: {ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً؛} أي ذلك العذاب عليكم بسبب أنّكم اتّخذتم كتاب الله ورسوله استهزاء، {وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا؛} حتى قلتم لا بعث ولا حساب، {فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} (35) أي لا يطلب رضاهم، ولا يقالون؛ لأنه لا يقبل في ذلك اليوم استقالة
(1)
وقد انقطعت المعاينة فلا يجابون، ولا يقبل لهم في «ذلك» اليوم عذر ولا توبة.
قوله تعالى: {فَلِلّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ} (36)؛أي لله الشّكر على عظيم نعمائه على الخلائق كلّهم،
{وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؛} وهو المختصّ بالكبرياء في السّماوات والأرض، وله العظمة والجبروت فيهما، {وَهُوَ الْعَزِيزُ؛} في ملكه وسلطانه، {الْحَكِيمُ} (37)؛في قضائه وأمره
(2)
له وحده في أعلى مراتب التّعظيم لأنه سبحانه لا يجوز عليه صفة النقص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[يقول الله: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني واحدة منها ألقيته في جهنّم]
(3)
.
آخر تفسير سورة (الجاثية) والحمد لله رب العالمين.
آخر المجلد الخامس
من التفسير الكبير للإمام الطبراني
(1)
في المخطوط: (أن ذلك استقالوا).
(2)
أدرج الناسخ عبارة: «قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم» في المتن، وهو غير مناسب.
(3)
في الدر المنثور: ج 7 ص 432؛ قال السيوطي: (أخرجه ابن أبي شيبة ومسلم وأبو داود وابن ماجة وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة رضي الله عنه وذكره.