المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الرّوم سورة الرّوم مكّيّة، وهي ثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون - تفسير الحداد المطبوع خطأ باسم التفسير الكبير للطبراني - جـ ٥

[أبو بكر الحداد]

الفصل: ‌ ‌سورة الرّوم سورة الرّوم مكّيّة، وهي ثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون

‌سورة الرّوم

سورة الرّوم مكّيّة، وهي ثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون حرفا، وثمانمائة وتسع عشرة كلمة، وستّون آية.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من قرأ سورة الرّوم كان له من الأجر عشر حسنات، بعدد كلّ ملك يسبح لله بين السّماء والأرض]

(1)

.

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}

{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} (3)؛أي غلبت فارس الروم، ففرح بذلك كفار مكّة وقالوا:

الذين ليس لهم كتاب غلبوا الذين لهم كتاب، وافتخروا بذلك على المسلمين وقالوا لهم: نحن أيضا نغلبكم كما غلبت فارس الروم.

وقصّة ذلك: أن كسرى ملك فارس أرسل شهريار إلى الرّوم، فسار إليهم بأهل فارس ليغزوهم، فظهر على الروم فقتلهم وخرّب مدائنهم، وكان قيصر ملك الروم قد بعث بجيش لمّا سمع بقدوم شهريار، فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي أدنى الشّام إلى أرض العرب والعجم، فغلبت فارس الروم حتى انتزعوا بيت المقدس من الروم، وكان ذلك موضع عبادتهم.

فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكّة فشقّ ذلك عليهم، وكان صلى الله عليه وسلم يكره أن يظهر الأميّون من المجوس على أهل الكتاب من الرّوم، وفرح بذلك كفار مكّة وشمتوا، فلقوا أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنّكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب، وقد ظهر

(1)

ذكره الزمخشري في الكشاف: ج 3 ص 473،وهو من مرويات الثعلبي في تفسيره عن أبي أمامة وأبي بن كعب بإسناد واه ضعيف.

ص: 113

إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الرّوم، وإنّكم إن قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات {(الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ)}

(1)

.

فخرج أبو بكر رضي الله عنه إلى الكفّار وقال: (أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا؟! فلا تفرحوا ولا يقرّ الله أعينكم، فو الله ليظهرنّ الرّوم على فارس، أخبرنا بذلك نبيّنا) فقام إليه أبيّ بن خلف الجمحيّ وقال له: كذبت! فقال له أبو بكر: أنت أكذب يا عدوّ الله) فقال أبيّ بن خلف: كما غلبت عبدة النّيران أهل الكتاب، فكذلك نحن نغلبكم) واستبعد المشركون ظهور الرّوم على فارس لشدّة شوكة أهل فارس.

فقال أبو بكر لأبيّ بن خلف: (أنا أراهنك على أنّ الرّوم تغلب إلى ثلاث سنين) فراهنه أبيّ على خمس من الإبل، وقيل: على عشر من الإبل، (فإن ظهرت الرّوم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس غرمت أنا) ثمّ جاء أبو بكر إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: [زد في الخطر

(2)

وأبعد في الأجل] ففعل ذلك، وجعل الأجل تسع سنين، وكان ذلك قبل تحريم القمار.

روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: [إنّما البضع ما بين الثّلاث إلى التّسع].

قرأ: [زده في الخطر ومادّه في الأجل] فخرج أبو بكر فلقي أبيّا فقال: لعلّك ندمت! فقال: أزيدك في الخطر وأمادّك في الأجل، فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين، قال: قد أخاف فعلت.

فلمّا خشي أبيّ بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكّة، أتاه فلزمه وقال أبيّ: إن تخرج من مكّة فأقرّ لي كفيلا، فكفل له ابنه عبد الله بن أبي بكر، فلمّا أراد أبيّ بن خلف أن يخرج إلى أحد، أتاه عبد الله بن أبي بكر فلزمه وقال: لا والله لا أدعك حتّى تعطيني كفيلا، فأعطاه كفيلا ومضى إلى أحد، ثمّ رجع فمات بمكّة من جراحته

(1)

ذكره الواحدي في أسباب النزول: ص 231 - 232.

(2)

الخطر: الرّهان والعوض.

ص: 114

الّتي جرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بارزه، وظهرت الرّوم على فارس يوم الحديبية وذلك على رأس تسع سنين من مراهنتهم، وهذا قول أكثر المفسّرين

(1)

.

وقال أبو سعيد الخدريّ ومقاتل: (لمّا كان يوم بدر قتلت المسلمون كفّار مكّة، وأتاهم الخبر أنّ الرّوم قد غلبت فارس، ففرح المسلمون بذلك، وغلب أبو بكر رضي الله عنه أبيّا وأخذ مال الخطر من ورثته، وجاء به إلى النّبي صلى الله عليه وسلم فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم:

[تصدّق به]

(2)

.

ومعنى الآية: {(غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ)} يعني الجزيرة؛ وهي أقرب أرض الرّوم إلى فارس، وقال عكرمة:(يعني أدرعات وكسكر).وقوله {(وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ)} يعني الروم من بعد غلبة فارس إيّاهم سيغلبون فارس

{فِي بِضْعِ سِنِينَ؛} وهو ما بين الثلاث إلى العشر، فالتقى الروم وفارس في السّنة السابعة من غلبة فارس إيّاهم، فغلبتهم الروم، فجاء جبريل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بهزيمة فارس وظهور الرّوم عليهم، ووافق ذلك يوم بدر.

قوله تعالى: {لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ؛} أي قبل أن غلبت الروم ومن بعد ما غلبت، يعني أنّ غلبة أحد الفريقين الآخر، أيّهما كان الغالب والمغلوب؛ فإنّ ذلك كان بأمر الله تعالى وإرادته وقضائه وقدره.

وقوله تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} (4)؛يعني بغلب الروم فارس، يفرح المؤمنون،

{بِنَصْرِ اللهِ؛} الروم على فارس، ويكون فرح المؤمنين يومئذ لظهور معجزة النبيّ صلى الله عليه وسلم وإهلاك بعض الكفّار بعضا كما يفرح الصّالحون بقتل الظّالمين بعضهم بعضا.

(1)

ينظر: جامع البيان: الأثر (21229 و 21223).وتفسير مقاتل: ج 3 ص 3 - 5.

(2)

حديث أبي سعيد أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (21233).وذكره مقاتل في التفسير: ج 3 ص 6 بلفظ: [هذا سحت، تصدّق به].وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير: الحديث (17458) عن البراء بن عازب رضي الله عنه.

ص: 115

وقوله تعالى: {يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ؛} أي ينصر محمدا صلى الله عليه وسلم على أعدائه، {وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (5)؛أي هو العزيز بالنّقمة ممن عصاه، الرّحيم بأوليائه وهم المؤمنون.

قوله تعالى: {وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ؛} نصب على المصدر؛ أي وعد الله ذلك وعدا وهو راجع إلى قوله {(سَيَغْلِبُونَ)} أي وعد الله ذلك لا يخلف الله وعده بظهور الروم على فارس، {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (6)؛إنّ الله لا يخلف وعده؛ لأن أكثرهم كفّار.

وقوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا؛} يعني معايشهم وما يصلحهم

(1)

.قال الحسن: (يعلمون متى زرعهم ومتى حصادهم، ويعلمون وجوه الاكتساب من التّجارة والزّراعة والحراثة والغراسة، وما يحتاجون إليه في الشّتاء والصّيف) قال الحسن: (بلغ والله من علم أحدهم في الدّنيا أنّه ينقر الدّراهم بيده فيخبرك بوزنه ولا يحسن يصلّي!)

(2)

.

وقوله تعالى: {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ} (7)؛أي هم مع علمهم بأمور الدّنيا لا يعلمون ما طريقة الدليل من أمر الآخرة، وما يكون فيها من البعث والثواب والعقاب، فهم غافلون عمّا هو أولى بهم، وعما يلزمهم من الاستعداد لذلك.

قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ،} أي في خلق الله إيّاهم، {ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ،} فتعلمون أنّ الله لم يخلق السّماوات والأرض، {وَما بَيْنَهُما إِلاّ بِالْحَقِّ؛} إلاّ بالحقّ؛ أي إلاّ الحقّ، {وَأَجَلٍ مُسَمًّى،} ومعنى الآية:

أو لم يتفكّر أهل مكّة بقلوبهم فيعلمون أنّ الله ما خلق السّماوات والأرض، وما فيهما

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (21239) عن إبراهيم، و (21241) عن عكرمة. وابن أبي حاتم في التفسير الكبير: الأثر (17466).

(2)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 1003.وفي الدر المنثور: ج 6 ص 484؛ قال السيوطي: (أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن رضي الله عنه وأوله (ليبلغ من جذق أحدهم

).أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير: الأثر (17467).

ص: 116

من العجائب والبدائع إلاّ ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل، ويجزي كلّ عامل بما عمل عند انقضاء الأجل المسمّى الذي جعله الله لانقضاء أمر السّماوات والأرض وهو يوم القيامة. وقوله تعالى:{وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النّاسِ؛} يعني كفّار مكّة، {بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ} (8).

وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ؛} أي أولم يسافروا في الأرض، {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ؛} صار أمر، {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؛} من الأمم السالفة حين كذبوا الرّسل إلى الهلاك بتكذيبهم فيعتبروا. ثم وصف تلك الأمم فقال:

{كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ؛} أي حرثوها وقلبوها للزراعة والغرس، {وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمّا عَمَرُوها؛} كفّار مكّة لأنّهم كانوا أطول عمرا وأكثر عددا، {وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ،} فلم يبق منهم ولا من عمارتهم أثر، فكذلك يكون حال هؤلاء.

قوله تعالى: {فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ؛} بإهلاكهم، {وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (9)؛بالكفر والتكذيب.

قوله تعالى: {ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ} (10)؛أي ثم صار آخر أمر الذين أساءوا بالكفر والمعاصي السّوء، يعني العذاب والنار بسبب تكذيبهم واستهزائهم بآيات الله. قال الفرّاء والزجّاج:(السّوأى ضدّ الحسنى وهي الجنّة، وضدّها النّار)،وقال ابن قتيبة:

(السّوء جهنّم، والحسنى الجنّة، وإنّما سمّيت سوءى؛ لأنّها تسوء صاحبها).

قوله تعالى: {اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ؛} أي يخلقه من النطفة ثم يحييه بعد ما أماته {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (11)؛ثم إلى موضع حسابه وجزائه يرجعون فيجزيهم بأعمالهم.

قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} (12)؛أي ييأس المجرمون من رحمة الله، ومن كلّ خير حين عاينوا العذاب.

ص: 117

وقال الفرّاء: (ينقطع كلامهم وحجّتهم)،وقيل: معنى {(يُبْلِسُ)} أي يفتضح، وقيل: معناه: يندمون، وقيل: المبلس الساكت المنقطع عن حجّته الآيس من أن يهتدي إليها، قال الشاعر

(1)

:

يا صاح هل تعرف رسما مكرسا

قال: نعم أعرفه وأبلسا

والمجرمون هم المشركون.

قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ؛} أي لم يكن للكفار ممّن أشركوه في العبادة شفعاء يشفعوا لهم إلى الله، {وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ} (13)؛أي يتبرّءون منها ويتبرّءون منهم.

قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} (14)؛أي واذكر {(يَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ)} الخلائق في طريق الجنّة، وطريق النّار. وقيل: معناه:

يوم القيامة يتفرّقون بعد الحساب إلى الجنّة والنار فلا يجتمعون أبدا.

وقال الحسن: (إن كانوا اجتمعوا في الدّنيا ليفترقنّ يوم القيامة؛ هؤلاء في علّيّين، وهؤلاء في أسفل سافلين)

(2)

،وهو

قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} (15)؛أي في الجنّة ينعّمون ويكرمون بالتحف ويسرّون.

والحبرة السّرور. وقيل: الحبرة كلّ نعمة حسنة، والتّحبير التحسين. وسمّي العالم حبرا لتخلّقه بأحسن أخلاق المؤمنين، ويسمّى المداد حبرا لأنه تحسن به الأوراق، وقيل: معنى الآية: فهم في رياض الجنّة يتلذذون.

قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ،} وكذبوا بالبعث بعد الموت، {فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ} (16)؛أي يحضرون في العذاب، ويحبسون.

(1)

الشاعر هو العجاج، ومعنى المكرس: الذي صار فيه الكرس، وهو الأبوال والأبعار المكان الذي قد بعرت فيه الإبل وبولت، فركب بعضه بعضا. وينظر: معاني القرآن للفراء: ج 2 ص 323.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير: الأثر (17475) بأسانيد.

ص: 118

قوله تعالى: {فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (18)؛

أي فصلّوا لله، على تأويل:

فسبحوا لله، قال ابن عبّاس:(جمعت هذه الآية الصّلوات الخمس ومواقيتها، فوقت المساء يصلّى فيه المغرب والعشاء، {(وَحِينَ تُصْبِحُونَ)}:صلاة الفجر، {(وَعَشِيًّا)}:

العصر، {(وَحِينَ تُظْهِرُونَ)} الظّهر)

(1)

.

وقوله تعالى: {(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)} أي يحمده أهل السّماوات وأهل الأرض، ويصلّون له ويسجدون. وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من قال: {(فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ

)} إلى قوله تعالى: {(وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ)} وآخر سورة الصّافّات دبر كلّ صلاة، كتب الله من الحسنات عدد نجوم السّماء، وقطر المطر، وعدد ورق الشّجر، وعدد نبات الأرض.

وإذا مات أجرى الله له بكلّ حسنة عشر حسنات في قبره]

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: [من سرّه أن يكتال له بالقفيز الأوفى فليقل: {(فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ

)} إلى قوله تعالى: {(وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ،} {سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ

)} إلى آخر السّورة]

(3)

.

قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ؛} أي الإنسان الحيّ من النّطفة الميتة، {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ،} ويخرج النطفة وهي ميتة من الإنسان الحيّ، ويقال: يخرج الفرخ من البيضة، والبيضة من الفرخ، {وَيُحْيِ الْأَرْضَ،} بإخراج الزّروع منها، {بَعْدَ مَوْتِها؛} أي بعد أن كانت لا تنبت، {وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ} (19)،من قبوركم يوم القيامة إلى المحشر، فإنّ بعثكم بمنزلة ابتداء خلقكم، وهما في قدرة الله تستويان. قرأ حمزة:«(تخرجون)» بفتح التّاء.

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (21261).

(2)

أخرجه الثعلبي في الكشف والبيان: ج 7 ص 298 بإسناد ضعيف.

(3)

أخرجه الثعلبي في الكشف والبيان: ج 7 ص 298، عن أنس، وفي إسناده بشر بن الحسين، وهو ساقط).

ص: 119

قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ؛} أي من دلائل قدرته وعلامات توحيده أن خلق أصلكم من تراب، يعني آدم، {ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} (20)؛أي ثمّ إذا أنتم من لحم ودم تنتشرون؛ أي تتفرّقون في حوائجكم، وتنبسطون في الأرض،

{وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها؛} أي من علامات توحيده وقدرته أن خلق لكم من جنسكم نساء لتطمئنّوا إليها، ولم يجعلهنّ من الجنّ، {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً؛} أي جعل بين الزّوجين مودّة ورحمة، فيما يتراحمان ويتوادّان، وما من شيء

(1)

أحبّ إلى أحدهما من الآخر من غير رحم بينهما، حتى أنّ كثيرا من الناس يهجر عشيرته بسبب زوجته، وكذلك من النّساء من تهجر عشيرتها بسبب زوجها.

والمعنى: من دلالة توحيد الله وقدرته أن خلق من نطفة الرّجال ذكورا وإناثا؛ ليسكن الذكور إلى الإناث، والنّطف عن صفة واحدة، {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (21)؛في عظمة الله وقدرته.

قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ،} أي ومن علامات توحيده خلق السّماوات والأرض بما فيهما من العجائب، {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ،} أي لغاتكم وأصواتكم وصوركم وألوانكم، لأنّ الخلق بين عربيّ وعجميّ وأسود وأحمر وأبيض، وهم ولد رجل واحد وامرأة واحدة، {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ} (22)؛أي للبرّ والفاجر والإنس والجنّ.

قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ؛} أي ومن آياته كيفيّة نومكم، وكيف يغلب عليكم، وأين يأتيكم، وكيف يزول عنكم فتطلبون معيشتكم، وقوله تعالى:{وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ؛} تقدير (وابتغاؤكم من فضله بالنّهار) يعني تصرّفكم في طلب المعيشة بالنّهار، {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} (23) القرآن؛ سماع الاستدلال، والاعتبار، والتدبّر.

(1)

في المخطوط: (شرع) بدل (شيء) وهو تصحيف.

ص: 120

قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً؛} أي خوفا للمسافر من الصّواعق، وطمعا للمقيم في المطر وسقي الزّرع، {فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها؛} أي في البرق، وإنزال المطر وإحياء الأرض بعد قحطها، {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (24).

قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ؛} يعني من غير عمد تحتهما، ولا علاقة فوقهما بقدرة الله وتسكينه، قوله تعالى:{ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ؛} أي ثم إذا دعاكم من القبور عند النفخة الثّانية يدعو إسرافيل بأمره من صخرة بيت المقدس: أيّتها الأجساد البالية والعروق المتمزّقة والشّعور المتمرّطة، {إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} (25)؛من قبوركم مهطعين إلى الدّاعي.

قوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؛} أي هم عبيدا وملكا، {كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ} (26)،أي كلّ له مطيعون في الحياة والبقاء والموت والبعث، وإنّ عصوا في العبادة فهم منقادون لله عز وجل لا يقدرون على الامتناع من شيء يراد بهم من صحّة ومرض وغنّى وفقر وحياة وموت.

قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ؛} أي هو الذي يبدأ الخلق من النطفة ثم يميته فيصير ترابا كما كان، ثم يبعثه في الآخرة. وقوله تعالى:

{وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ؛} أي الإعادة هيّنة عليه، وما شيء عليه بعسير، وقد يذكر لفظ (يفعل) بمعنى (فعيل) كقوله (الله أكبر) بمعنى كبير، وكذلك أهون عليه أو هيّن عليه. قال الفرزدق

(1)

:

لعمرك ما أدري وإنّي لأوجل

على أيّنا تعدو المنيّة أوّل

(1)

هكذا في المخطوط، ولعل الوهم من الناسخ، وإلاّ ف القائل: هو معن بن أوس المزني. كما في ذيل الأمالي لأبي علي القالي: ص 218.وشرح البيت وإعرابه في خزانة الأدب الكبرى للبغدادي: ج 3 ص 505 - 506.وينظر: جامع البيان: مج 11 ج 20 ص 44.

ص: 121

يريد بقوله: لأوجل؛ أي وجل، وقال أيضا

(1)

:

إنّ الّذي سمك السّماء بنى لنا

بيتا قوائمه أعزّ وأطول

أي عزيزة طويلة. وإنّما قيل على هذا التأويل؛ لأنه لا يجوز أن يكون بعض الأشياء على الله أهون من بعض.

قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؛} أي له الصّفة العليا وهي القدرة التي لا يجري عليها العجز، {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (27)؛أي القاهر لكلّ شيء، الحكيم في جميع أفعاله.

قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ؛} أي وصف لكم أيّها المشركون مثلا من أنفسكم، وبيّن لكم ذلك المثل من أنفسكم، ثم بيّنه فقال:{هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ،} أي هل لكم من عبيدكم وإمائكم من شركاء فيما رزقناكم من الأموال؛ أي هل يشاركونكم في أموالكم فتكونوا أنتم مع عبيدكم سواء فيما أعطيناكم، {فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ،} أي تخافون عبيدكم أن يقاسموكم في مالكم كما تخافون نساءكم وأقاربكم أن يورثوكم بعدكم، أو تخافوا لائمة عبيدكم إذا لم تعطوهم حقّهم، كما تخافون لائمة بعضكم بعضا من الأقارب والشّركاء إذا لم يؤدّوا حقّهم إليهم.

قالوا: لا! فقال: أفترضون لله تعالى ما لا ترضون لأنفسكم، تشركون عبيد الله في ملكه، وقد خلقهم، ولا تشركون عبيدكم فيما رزقكم الله وأنتم لم تخلقوهم، وتجعلون الخوف من عبيد الله كالخوف من الله إذ تعبدونهم كعبادة الله تعالى، {كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (28)؛أي هكذا يبيّن الآيات واحدة بعد واحدة ليكون ذلك أقرب إلى الفهم وواقع في القلب.

ومعنى {(أَنْفُسِكُمْ)} هاهنا: أمثالكم من الأحرار، كقوله {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}

(2)

.ومعنى الآية: كيف رضيتم أن تكون آلهتكم التي تعبدونها لي شركاء

(1)

البيت للفرزدق كما في جامع البيان: مج 11 ج 20 ص 45.وينظر: الديوان، طبعة القاهرة: ص 714.

(2)

الحجرات 11/.

ص: 122

وأنتم عبيدي وأنا مالكهم جميعا، فكما لا يجوز استواء المملوك مع سيّده، كذلك لا يجوز استواء المخلوق مع خالقه.

قوله تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ؛} أي ليس لهم في الإشراك شبهة من حيث الحجة، ولكنّهم يشركون بالله بناء على الجهل وهوى النفس، {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ؛} أي لا هادي لمن أضلّه الله، {وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ} (29)؛أي ما لهم من مانعين من عذاب الله.

قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً؛} أي فأقم يا محمّد على دين الإسلام، وقوله {(حَنِيفاً)} أي مائلا عن كلّ دين إلاّ الإسلام، وقوله تعالى:{فِطْرَتَ اللهِ؛} أي اتّبع دين الله، والفطرة: الملّة؛ وهي الإسلام والتوحيد، {الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها؛} أي خلق الله المؤمنين عليها، وقد ورد في الحديث:[كلّ مولود يولد على الفطرة] إلى آخر الحديث

(1)

.

وانتصب قوله {(فِطْرَتَ اللهِ)} على الإغراء، وقيل: على معنى: اتّبع فطرة الله.

وقوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ؛} أي لا تغيير لدين الله الذي أمر الناس بالثّبات عليه، وهو نفي معناه النهي؛ أي لا تبدّلوا دين الله الذي هو التوحيد بالشّرك. وقوله تعالى:{ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} يعني التوحيد هو الدين المستقيم، {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ؛} يعني كفّار مكّة، {لا يَعْلَمُونَ} (30)؛ توحيد الله ودين الإسلام هو الحقّ.

قوله تعالى: {*مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ؛} أي أقيموا وجوهكم راجعين إلى الله في كلّ ما أمركم به، لا تخرجون عن شيء من أوامره، وهذا لأنّ الخطاب في أوّل هذه الآيات للنبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله {(فَأَقِمْ وَجْهَكَ)} ،والمراد به أمته، كما في قوله {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ}

(2)

فكأنّه قال: أقيموا وجوهكم منيبين؛ أي راجعين إلى أوامره، وقوله تعالى {(وَاتَّقُوهُ)} أي اتّقوا مخالفته، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ}

(1)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 1 ص 284:الحديث (826 - 835) بأسانيد وألفاظ.

(2)

الطلاق 1/.

ص: 123

{الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} ؛أي زايلوا دينهم الذي أمروا بالثبات عليه.

ومن قرأ {(فَرَّقُوا دِينَهُمْ)} فمعناه: صاروا فرقا، وذلك معنى قوله:{وَكانُوا شِيَعاً،} أي صاروا جماعة، {كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (32)،أي كلّ جماعة اختارت دينا مثل اليهود والنّصارى وسائر الملل، كلّ أهل دين يفرحون بما عندهم من الدّين.

قوله تعالى: {وَإِذا مَسَّ النّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ؛} أي إذا أصاب الناس شدّة وبليّة وقحط وغلاء يعني كفّار مكّة، دعوا ربّهم لدفع الشّدة، {(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ؛} أي راجعين إليه، منقطعين من الخلق، لا يلجئون في شدائدهم إلى أوثانهم، {ثُمَّ إِذا؛} أذهب عنهم تلك الشدّة و {أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً؛} أي أعطاهم من عنده المطر، {إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} (33)؛أي يعودون إلى الشّرك

{لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ؛} فيبدّلوا الشّكر كفرا، {فَتَمَتَّعُوا؛} أي تلذذوا في الدّنيا، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (34)،ماذا ينزل بكم.

قوله تعالى: {أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً،} أي أم أنزلنا على هؤلاء حجّة وبرهانا وكتابا من السّماء، {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} (35)،يشهد وينطق بأنّ الله أمرهم بما يفعلون. وهنا استفهام إنكار؛ أي ليس الأمر على هذا.

قوله تعالى: {وَإِذا أَذَقْنَا النّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها؛} أي إذا أذقناهم نعمة استبشروا بها، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ؛} شدّة ومحنة وبليّة، {بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ؛} في الشّرك من المعاصي {إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ} (36)؛أي إذا هم ييأسون من رحمة الله.

قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ؛} أي ويضيّق، {إِنَّ فِي ذلِكَ؛} أي في البسط والتّقتير، {لَآياتٍ؛} دالّة على التوحيد، {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (37).

ص: 124

قوله تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ؛} أي أعط ذا القربى في الرّحم حقّه من الصّلة والبرّ، وأعط {وَالْمِسْكِينَ؛} الذي يطوف على الأبواب حقّه أيضا، وهو التّصدّق عليه، وأعط {وَابْنَ السَّبِيلِ؛} النازل بك حقّه؛ أي ضيافته، يعني أكرم الضّيف النازل بك، {ذلِكَ خَيْرٌ؛} أي الذي ذكرت من الصّلة والإعطاء والضّيافة خير، {لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ؛} يعني رضا الله؛ أي إعطاء الحرّ أفضل من الإمساك {وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (38)؛أي الفائزون السّعداء الباقون في الجنّة، ومن أعطى أحدا لا يريد به وجه الله ذهب ماله من غير أن يحصل على شيء، فلذلك قال:{(يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ)} .

قوله تعالى: {وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ؛} أي ما تعاطيتم من عقد الرّبا رجاء أن تزيدوا أموالكم فلا يزيد في حكم الله، وعلى الآخذ أن يردّه على المأخوذ منه، قال الله تعالى:{يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا}

(1)

.

قرأ ابن كثير «(أتيتم)» مقصورا غير ممدود. وقوله تعالى {(لِيَرْبُوَا)} ،قرأ الحسن ونافع:«(لتربو)» بتاء مضمومة وجزم الواو على الخطاب؛ أي لتربو أنتم، وقرأ الباقون {(لِيَرْبُوَا)} بياء مفتوحة ونصب الواو، وجعلوا الفعل للرّبا

(2)

.

وقوله تعالى: {وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ؛} أي ما أعطيتم من صدقة تريدون بها رضا الله، {فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} (39)؛الذين يضاعف لهم في العاجل والآجل، يقال: رجل مضعف؛ أي ذو أضعاف كما يقال: رجل مقوّي ذو قوّة، وموسر؛ أي صاحب يسار.

وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى {(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً)} : (الرّبا هاهنا هو هبة الرّجل لصاحبه يريد أن يثاب أفضل منه)

(3)

.وقال السديّ: (هو الهديّة يهديها الرّجل لأخيه يطلب المجازاة

(4)

،فإنّ ذلك لا يربو عند الله، ولا يؤجر عليه

(1)

البقرة 276/.

(2)

ينظر: الحجة للقراء السبعة: ج 3 ص 269.

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (21320).

(4)

في المخطوط: (المساقاة) والمناسب ما أثبتناه.

ص: 125

صاحبه ولا إثم عليه)،وقال الزجّاج:(هو دفع الإنسان الشّيء ليعوّض ما هو أكبر منه، وذلك ليس بحرام ولكنّه لا ثواب فيه؛ لأنّ الّذي يهديه يستدعي ما هو أكثر منه، وإنّما يربو عند الله هو العطيّة الّتي لا يطلب بها المكافأة، ولا يراد بها إلاّ رضا وجه الله).

قوله تعالى: {اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ؛} أي خلقكم في بطون أمّهاتكم ثم أخرجكم، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ؛} بعد انقضاء آجالكم، {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ؛} بعد الموت، {هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ} (40).

قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ؛} أي قحط المطر ونقصت الغلاّت وذهبت البركة في البرّ والبحر؛ أي أجدب البرّ وانقطعت مادّة البحر، {بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ؛} أي بشؤم ذنوبهم ومعاصيهم، الناس كفّار مكّة، {لِيُذِيقَهُمْ؛} الله بالجوع في السّنين السبع، يعني {بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا؛} أي جزاؤه ليكون عقوبة معجّلة، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (41)؛من الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة، فيكشف الله عنهم الشدّة. وفي هذا تنبيه على أنّ الله تعالى إنّما يقضي بالجدوبة ونقص الثّمرات والنبات لطفا منه في رجوع الخلق عن المعصية.

قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ؛} أي قل لأهل مكّة سافروا في الأرض، {فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ،} أي كيف صار إجرام، {الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} (42)؛أي انظروا إلى ديار عاد وثمود وقوم لوط ليدلّكم ذلك على أنه لا ينبغي لأحد أن يكفر بالله تعالى.

قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ؛} أي أقم قصدك وعملك، واجعل جهتك اتّباع الدّين القيّم وهو الإسلام المستقيم الذي لا عوج فيه، واعمل به أنت ومن تبعك، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ؛} يعني يوم القيامة، {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} (43)؛أي يوم القيامة يتفرّقون بعد الحساب إلى الجنّة والنار.

قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ؛} أي ضرر كفره، {وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} (44)؛أي يطئون لأنفسهم منازلهم في الجنة، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ

ص: 126

آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ ثوابهم، ثم يزيدهم {مِنْ فَضْلِهِ؛} أي يثيبهم أكثر من أعمالهم، {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ} (45)؛أي لا يكرمهم ولا يثيبهم ولا يرضى عنهم.

قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ؛} أي من علامات توحيده إرساله الرياح للبشارة بالمطر، {وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ؛} يعني الغيث والخصب، {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ؛} أي السفن تجري في البحر بتلك الرّياح، {بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ؛} أي ولتسلكوا في البحر على السّفن للتجارة وطلب الرزق بهذه الرياح، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (46)؛هذه النّعم فتوحّدونه.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ؛} أي بالدّلالات الواضحات فكذبوا بها، {فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا؛} أي عذبنا الذين كذبوهم، {وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (47)؛أي كان واجبا علينا إنجاء المؤمنين مع الرّسل من عذاب الأمم، وفي هذا تبشير للنّبيّ صلى الله عليه وسلم بالظّفر والنصر على من كذب به.

قوله تعالى: {اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً؛} أي تزعجه من حيث هو، وذلك أنّ الله يحدث السّحاب عقيب الرياح فترفعه الرياح في الهواء، {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً} أي قطعا بعضها فوق بعض، {فَتَرَى الْوَدْقَ} يعني المطر، {يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ؛} أي من وسطه إلى قوم دون قوم، {فَإِذا أَصابَ بِهِ؛} بذلك المطر، {مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (48)؛يفرحون بالمطر،

{وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ؛} المطر {مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} (49)؛أي يائسين من ذلك، كرّره للتأكيد

(1)

، والمبلس هو الآيس القانط.

(1)

أي أعاد قوله: مِنْ قَبْلِهِ تأكيدا. وفي معالم التنزيل: ص 1009؛ قال البغوي: (وقيل: الأولى ترجع إلى إنزال المطر، والثانية إلى إنشاء السحاب).

ص: 127

قوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها،} الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وغيره. وآثار الرحمة هي أنواع النّبات الذي ينبت من المطر من بين أخضر وأحمر وغير ذلك من الألوان.

وقوله {(كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها)} ،كيف يجعل الأرض مخضرّة بعد يبسها، {إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى،} أي الذي فعل ذلك هو الذي يحيي الموتى للنّشور، فإنه كما يعيد الشجر الذي ظهر يبسه، ويعيد فيه الخضرة والنور والثمرة، كذلك يحيي الموتى، {وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (50)؛من الموت والبعث قدير.

قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا،} ولئن أرسلنا ريحا حارّة أو باردة فأيبست زروعهم، ورأوا الزرع مصفرّا بعد خضرته، {لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} (51)،لصاروا بعد اصفرار النّبت يجحدون ما سلف من النعمة، يعني أنّهم يفرحون عند الخصب، وإذا استبطئوا الخصب والرزق جزعوا فكفروا بالنّعم.

قوله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى؛} يعني الكفار لا يسمع، والأعمال الذي لا يبصرون، ولذلك قال:{وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ؛} أي لا تقدر أن تجبرهم على الهدى، وإنّما بعثت داعيا ومبلّغا. قوله تعالى:{إِنْ تُسْمِعُ إِلاّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا؛} أي إلاّ من يصدّق بكتابنا، {فَهُمْ مُسْلِمُونَ} (53)؛أي هم الذين يستبدلون به فهم مخلصون منقادون لأمر الله.

قوله تعالى: {*اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ؛} أي من نطفة ضعيفة في بطون الأمّهات، ثم أطفالا لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرّا، {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً،} ثم جعلكم أقوياء بما أعطاكم من العقل والاستطاعة والهداية والتصرّف في اختلاف المنافع ودفع المضارّ، {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ؛} قوّة الشّباب، {ضَعْفاً؛} عند الكبر والهرم، {وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ؛} من ضعف وقوة وشيبة وشباب، {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (54)؛أي العليم بخلقه القادر على تحويلهم من حال إلى حال.

ص: 128

قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ؛} أي تقوم السّاعة، يحلف المشركون ما لبثوا في القبور غير ساعة واحدة. وقيل: ما لبثوا في الدّنيا غير ساعة يستقلّون في جنب أيّام الآخرة، {كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ} (55)؛أي هكذا كانوا يكذبون في الدّنيا بجهلهم وغفلتهم كما كذبوا في الآخرة.

قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ؛} أراد بالذين أوتوا العلم: الملائكة والأنبياء والمؤمنون، يقولون للكفّار بعد ما أقسموا: لقد لبثتم فيما كتب الله لكم من اللّبث إلى يوم البعث، وقيل: في حكم الله، وقيل: فيه تقديم وتأخير؛ تقديره: وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله، وهم الذين يعلمون كتاب الله. وقوله:{فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ؛} أي يوم الذي كنتم تنكرونه في الدّنيا، وتكذّبون به، {وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (56)؛وقوعه في الدّنيا فلا ينفعكم العلم به الآن.

قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ؛} أي اعتذارهم من الذّنوب إن اعتذروا، {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} (57)؛أي لا يجابون إلى ما يطلبون من الرّجعة إلى الدّنيا، فإنّهم يقولون:{رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً}

(1)

.قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: (لا يقبل من الّذين أشركوا عذر ولا عتاب ولا توبة في ذلك اليوم).

قوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ؛} أي بيّنّا لهم في القرآن من كلّ صفة، {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ؛} مثل العصا واليد وبكلّ حجّة، {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ مُبْطِلُونَ} (58)؛أي ما أنتم إلاّ على الباطل يا محمّد وأصحابك!.

(1)

السجدة 12/.

ص: 129

قوله تعالى: {كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (59)؛ أي يختم على قلوب الذين لا يعلمون توحيد الله، فكلّ من لا يعلم توحيد الله فذلك لأجل ما طبع الله على قلبه.

قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ؛} أي اصبر يا محمّد على تبليغ الرّسالة والوحي، وعلى ما يلحقك من أذيّة الكفّار، فإنّ ما وعد الله من النّصر وإظهار دين الإسلام صدق كائن يأتيك في حينه. والمعنى:{(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ)} بنصر دينك وإظهارك على عدوّك حقّ فلا يحملنّك تكذيب الكفار الذين لا يستيقنون بأمر الله على الحقّ، وكن حليما صبورا.

وقوله: {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} (60)،لا تعجل بالدّعاء عليهم فيما يستعجلون من العذاب لقولهم:{اِئْتِنا بِعَذابِ اللهِ}

(1)

،و {مَتى هذَا الْوَعْدُ}

(2)

،و {عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ}

(3)

.ومعنى الآية: (ولا يستخفن) رأيك وحلمك يا محمّد {(الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)} ؛بالبعث والحساب.

آخر تفسير سورة (الروم) والحمد لله رب العالمين

(1)

العنكبوت 29/.

(2)

سبأ 29/،وغيرها.

(3)

ص 16/.

ص: 130