المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سورة المؤمن (غافر) - تفسير الحداد المطبوع خطأ باسم التفسير الكبير للطبراني - جـ ٥

[أبو بكر الحداد]

الفصل: ‌سورة المؤمن (غافر)

‌سورة المؤمن (غافر)

سورة المؤمن مكّيّة

(1)

،وهي أربعة آلاف وسبعمائة وستّون حرفا

(2)

،وتسع وتسعون كلمة، وخمس وثمانون آية.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من قرأ حم المؤمن، لم يبق روح نبيّ ولا صدّيق إلاّ صلّوا عليه واستغفروا له]

(3)

.قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: [من أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة، فليقرأ الحواميم في صلاة اللّيل]

(4)

،وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:[الحواميم أدباج القرآن]

(5)

.

قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: [الحواميم سبع، وأبواب جهنّم سبع، فيجيء كلّ حم منهنّ يوم القيامة على باب من هذه الأبواب تقول: لا يدخل النّار من كان يقرءوني]

(6)

.

وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: [لكلّ شيء ثمرة، وثمرة القرآن الحواميم، هنّ روضات حسنات مخصبات، فمن أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة فليقرأ الحواميم]

(7)

.وقال ابن مسعود: (إذا وقعت في الحواميم وقعت في روضات أتأنّق فيهنّ)

(8)

.

(1)

في معاني القرآن وإعرابه: ج 4 ص 276؛قال الزجاج: (الحواميم كلها مكية).وتسمى سورة غافر، وسورة الطّول، وهي سورة المؤمن. قاله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 15 ص 288.

(2)

في اللباب في علوم الكتاب: ج 18 ص 3؛قال ابن عادل: (أربعة آلاف وتسعمائة وستون حرفا).

(3)

لم أقف عليه بهذا اللفظ.

(4)

في الدر المنثور: ج 7 ص 269؛ قال السيوطي: (أخرجه ابن الضريس عن إسحاق بن عبد الله).

(5)

في الدر المنثور: ج 7 ص 269؛ قال السيوطي: (أخرجه أبو الشيخ، وأبو نعيم والديلمي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

) وذكره.

(6)

أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: باب في تعظيم القرآن: الحديث (2479)،وقال:(هكذا بلغنا بهذا الإسناد المنقطع).

(7)

تقدم.

(8)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 1134.وفي الدر المنثور: ج 7 ص 268؛ قال السيوطي: (أخرجه أبو عبيد ومحمد بن نصر وابن المنذر عن ابن مسعود).وذكره.

ص: 390

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}

{حم} (1)؛قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [حم، اسم من أسماء الله تعالى، وهي مفتاح خزائن ربك]

(1)

،وقال ابن عباس:[هو اسم الله الأعظم]

(2)

.وعن عكرمة قال: (الر وحم ون حروف الرّحمن مقطّعة)

(3)

،وقيل:(أقسم الله بحملة «عرشه» وملائكته لا يعذّب أحدا عاد إليه يقول: لا إله إلاّ الله مخلصا من قلبه)

(4)

، وقال عطاء الخراسانيّ:(الحاء: افتتاح أسماء الله: حليم وحميد وحيّ وحكيم، والميم: افتتاح أسمائه: ملك ومجيد ومنّان)

(5)

،وقال الضحّاك:(حم قضى ما هو كائن)

(6)

.

قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (2)؛أي هذه تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم بخلقه، وقرأ حم بفتح الميم؛ أي اتل حميم.

قوله تعالى: {غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ؛} أي غافر الذنب لمن قال لا إله إلاّ الله، وهم أولياؤه وأهل طاعته، وقابل التّوب من الشّرك، شديد العقاب لمن مات على الشّرك.

(1)

في جامع البيان: الأثر (23328) عن ابن مسعود موقوفا. وفي الدر المنثور: ج 7 ص 270؛ قال السيوطي: (أخرجه ابن مردويه عن أبي أمامة رضي الله عنه موقوفا. وفي الجامع لأحكام القرآن: ج 15 ص 289،وذكره القرطبي كما عند المصنف رحمه الله، وأشار إلى إسناده عن عكرمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم. فهو مرسل ولم أقف على إسناده.

(2)

ذكره القرطبي أيضا في الجامع لأحكام القرآن: ج 15 ص 289.

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (23327) عن عكرمة عن ابن عباس.

(4)

ذكره الثعلبي عن محمد بن كعب القرظي، كما في الكشف والبيان: ج 8 ص 263.وفي المخطوط: (بحمله) ولعله يريد (بحلمه) وترجح عندي كما أثبتناه.

(5)

عطاء بن أبي مسلم الخراساني، روى عن الصحابة مرسلا، ولد سنة (50) ومات سنة (135) من الهجرة. ترجم له ابن حجر في تهذيب التهذيب: الرقم (3737).ونقل قال: (وقال الطبراني: لم يسمع من أحد من الصحابة إلا من أنس).

(6)

ذكره القرطبي عن الضحاك والكسائي في الجامع لأحكام القرآن: ج 15 ص 289.

ص: 391

والتّوب: جمع التّوبة، ويجوز أن يكون مصدرا من تاب يتوب توبا، قوله تعالى:

{ذِي الطَّوْلِ؛} أي ذي الغنى عمّن لا يوحّده ولا يقول: لا إله إلاّ الله. وقال الكلبيّ: (ذو الفضل على عباده والمانّ عليهم)،وقال مجاهد:(ذو السّعة والغنى).

قوله تعالى: {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ؛} أي لا معبود للخلق سواه، {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (2)؛أي مصير من آمن، ومصير من لم يؤمن، وعن الحسن رضي الله عنه: (أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه سأل عن بعض إخوانه الّذين كانوا بالشّام، فقال: ما فعل أخي فلان؟ وقالوا: ذاك أخو الشّيطان يخالط أهل الأشرفيّة وخالف أصحابه. فقال: إذا خرجتم إلى الشّام فآذنوني. فلمّا أرادوا الخروج أعلموه، فكتب:

من عبد الله عمر بن الخطّاب أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان. بسم الله الرّحمن الرّحيم. سلام عليك؛ فإنّي أحمد إليك الله الّذي لا إله إلاّ هو.

أمّا بعد: فإنّ الله تعالى قال: {(حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ

)} إلى قوله {(إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)} .والسّلام عليك ورحمة الله وبركاته.

فلمّا جاءه الكتاب قالوا له: اقرأ كتابك أيّها الرّجل، فلمّا قرأ {(الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)} قال: عليم بما أصنع، {(غافِرِ الذَّنْبِ)} إن استغفرت غفر لي، و {(قابِلِ التَّوْبِ)} إن أنا تبت ليقبل توبتي، {(شَدِيدِ الْعِقابِ)} إن لم أفعل عاقبني {(ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)}.ثمّ قال: صدق الله ونصح عمر رضي الله عنه، فأقبل بطريقة حسنة إلى أن مات.

فلمّا بلغ عمر أمره، قال: هكذا فاصنعوا؛ إذا رأيتم أخاكم نزل فشدّدوه ووفّقوه، وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشّيطان عليه)

(1)

.

قوله تعالى: {ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا؛} أي ما يخاصم في آيات الله لتكذيبها والطّعن فيها والمراء عليها إلاّ الذين كفروا، {فَلا يَغْرُرْكَ}

(1)

أخرج القصة من وجه آخر ابن أبي حاتم في التفسير الكبير: الأثر (18416 و 18417).وأورد القصة بألفاظ قريبة القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 15 ص 291.

ص: 392

{تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} (4)؛بالتّجارات وسلامتهم في تصرّفاتهم بعد كفرهم، فإنّ عاقبة أمرهم العذاب كعاقبة من قبلهم من الكفّار. وقيل: معناه: فلا يغررك ذهابهم ومجيئهم في الأسفار بالتّجارات، فإنّهم ليسوا على شيء.

قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ؛} أي قبل قومك، {قَوْمُ نُوحٍ؛} وقوله تعالى:{وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ؛} وهم الذين تحزّبوا على أنبيائهم بالتكذيب نحو عاد وثمود؛ أي كذبوا رسلهم كما كذبك قومك، {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ؛} فيقتلوه، {وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ؛} أي وخاصموا الرّسل بالباطل ليبطلوا به الحقّ الذي جاءت به الرسل، {فَأَخَذْتُهُمْ،} بعاقبة الاستئصال، {فَكَيْفَ كانَ عِقابِ} (5)؛لهم.

قوله تعالى: {وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا؛} أي مثل ما حقّ على الأمم المكذّبة حقّت كلمة ربك بالعذاب على الذين كفروا من قومك، {أَنَّهُمْ أَصْحابُ النّارِ} (6)،في الآخرة.

قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ؛} يعني حملة العرش والطائفين به، وهم الكرّوبيّون وهم سادة الملائكة، {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ؛} بأنه واحد لا شريك له، {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا،} ويقولون: {رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً؛} أي وسعت رحمتك كلّ شيء، {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا؛} عن الشّرك والمعصية، {وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ؛} الطريق الذي دعوتهم إليه، {وَقِهِمْ،} وادفع عنهم،

{عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنّاتِ عَدْنٍ؛} أي ربّنا وأدخلهم بساتين إقامة، {الَّتِي وَعَدْتَهُمْ؛} في الكتب على ألسنة الرّسل، وأدخل معهم، {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيّاتِهِمْ؛} ونسائهم وأولادهم، {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ؛} في ملكك وسلطانك، {الْحَكِيمُ} (8)؛في أمرك وقضائك،

{وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ؛} وادفع عنهم عقوبة السّيئات، {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ} ومن يدفع عنه عقوبة السيئات، {فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (9)؛أي النجاة الوافرة.

ص: 393

وانتصب قوله (رحمة وعلما) على التمييز، قال ابن عبّاس:(حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدمه مسيرة خمسمائة عام، ومستقرّ أرجلهم في الأرض السّابعة السّفلى، ورءوسهم تحت العرش، وهم خشوع لا يرفعون أبصارهم، وهم أشدّ خوفا من أهل السّماوات السّبع)

(1)

.

وعن الضحّاك قال: (لمّا خلق الله حملة العرش قال لهم: احملوا عرشي، ولم يطيقوا! فخلق مع كلّ ملك من الأعوان مثل جنود سبع سماوات من الملائكة، وقال لهم: احملوا عرشي، فلم يطيقوا! فخلق مع كلّ واحد من الأعوان مثل جنود سبع سماوات وأرضين من الملائكة، ومثل من في الأرضين من الخلق، وقال لهم:

احملوا عرشي، فلم يطيقوا! فخلق مع كلّ واحد منهم مثل جنود سبع سماوات وجنود سبع أرضين وعدد ما في الرّمل من الحصى والثّرى

(2)

وقال: احملوا عرشي، فلم يطيقوا! فقال: قولوا: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله، فلمّا قالوها حملوا العرش)، وقال صلى الله عليه وسلم:[أذن لي أن أتحدّث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمتي أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام]

(3)

.

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ} (10)؛وذلك أن الكفار لمّا دخلوا النار مقتوا أنفسهم، ومقت بعضهم بعضا لاشتغالهم في الدّنيا بما قادهم إلى النار، فيناديهم مناد:{(لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ)} أي مقت الله إيّاكم في الدّنيا {(إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ)} أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم.

(1)

ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 1135.

(2)

الثّرى: التّراب النّدي.

(3)

أخرجه أبو داود في السنن: كتاب السنة: باب في الجهمية: الحديث (4727) عن جابر بن عبد الله. والطبراني في الأوسط: ج 2 ص 425:الحديث (1730) بلفظ: [مسيرة سبعين عاما]. وفي مجمع الزوائد: ج 1 ص 80؛قال الهيثمي: (رواه أبو داود، ورواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح).

ص: 394

قوله تعالى: {قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ؛} قال بعضهم:

معناه: كنّا نطفا في أصلاب آبائنا أمواتا فخلقت فينا الحياة، ثم أمتّنا بعد ذلك عند انتهاء آجالنا ثم أحييتنا للبعث، وهذا كقوله تعالى {وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}

(1)

.قالوا هكذا لأنّهم كانوا في الدّنيا فكذبوا في البعث، فاعترفوا في النار بما كذبوا به، وهو قوله تعالى:{فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا؛} أي بالتّكذيب.

وقال بعضهم: أراد بالموت الأولى التي تكون عند قبض الأرواح، وبالموت الثانية التي تكون بعد الإحياء في القبر للسّؤال؛ لأنّهم أميتوا في الدّنيا ثم أحيوا في قبورهم فسئلوا، ثم أميتوا في قبورهم، ثم أحيوا في الآخرة للبعث، فيكون المراد بالإحياء الأول الإحياء في القبر، وبالإحياء الثاني الإحياء للبعث. قوله تعالى:

{(فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا)} أي بإنعامك علينا ونفوذ قضائك فينا وتكذيبنا في الدّنيا، {فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ؛} النار، من، {سَبِيلٍ} (11)،طريق فنؤمن بك ونرجع إلى طاعتك؟

فيجابون: ليس إلى خروج من سبيل، يقال لهم:

{ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ؛} أي ذلك العذاب في النار والمقت بأنّكم إذا قيل لكم في الدّنيا: لا إله إلاّ الله، أنكرتم وكفرتم وقلتم أجعل الآلهة إلها واحدا، {وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ؛} بالله، {تُؤْمِنُوا،} صدّقتم، {فَالْحُكْمُ لِلّهِ الْعَلِيِّ؛} في سلطانه، {الْكَبِيرِ} (12)؛في عظمته لا يردّ حكمه.

وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ؛} أي دلائل توحيده ومصنوعاته التي تدلّ على قدرته من السّماء والأرض، والشمس والقمر، والنجوم والسّحاب وغير ذلك، {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً؛} يعني المطر الذي يسبب الأرزاق، {وَما يَتَذَكَّرُ إِلاّ مَنْ يُنِيبُ} (13)؛أي ما يتّعظ بهذه المصنوعات. وقيل:

معناه: وما يتّعظ بالقرآن إلاّ من يرجع إلى دلائل الله فيتدبّرها.

(1)

البقرة 28/.

ص: 395

ثم أمر المؤمنين بتوحيده فقال: {فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ؛} أي مخلصين له الطاعة موحّدين، {وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} (14)؛منكم ذلك.

ثم عظّم تعالى نفسه فقال: {رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ؛} أي رافع درجاتكم، والرفيع بمعنى الرافع، والمعنى: أنه يرفع درجات الأنبياء والأولياء في الجنّة.

قوله تعالى: {(ذُو الْعَرْشِ)} أي خالقه ومالكه، {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ،} أي ينزل الوحي، {عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ؛} أي على من يختصّ بالنبوّة والرسالة، {لِيُنْذِرَ؛} ذلك النبيّ الموحى إليه، {يَوْمَ التَّلاقِ} (15)؛أي يوم القيامة، وسمي يوم التّلاق؛ لأنه يلتقي فيه أهل السموات والأرض، والمؤمنون والكافرون والظالمون والمظلومون، ويلتقي المرء فيه بعمله، وقرأ الحسن:«(لتنذر» بالتاء (يا محمد يوم التلاق) أي لتخوّف فيه)

(1)

،وقرأ العامة بالياء؛ أي لينذر الله.

قوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ؛} أي يوم هم خارجون من مواضعهم من الأرض والبحار وحواصل الطّير وبطون السّباع، {لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ؛} ولا من أعمالهم، {شَيْءٌ؛} ومحلّه رفع بالابتداء، و {(بارِزُونَ)} خبره.

ويقول الله في ذلك اليوم: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؛} فيقول الخلق كلّهم:

{لِلّهِ الْواحِدِ الْقَهّارِ} (16)؛وقال الحسن: (هو السّائل والمجيب؛ لأنّه يقول ذلك حين لا أحد يجيبه، فيجيب نفسه)

(2)

.

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [الحمد لله الّذي تصرّف بالقدرة وقهر العباد بالموت، نظر الله إليه، ومن ينظر إليه لم يعذّبه، واستغفر له كلّ ملك في السّماء، وكلّ ملك في الأرض]

(3)

.

(1)

في الجامع لأحكام القرآن: ج 15 ص 300؛ قال القرطبي: (وقرأ ابن عباس والحسن وابن السميقع: (لتنذر) بالتاء خطابا للنبي عليه السلام.وينظر: إعراب القرآن للنحاس: ج 4 ص 21.

(2)

ذكره أيضا القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 15 ص 300.

(3)

هكذا ورد النص في المخطوط، وفيه اضطراب من حيث بناء الجملة.

ص: 396

قوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ؛} أي تجزى كلّ نفس بعملها، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ؛} من أحد إلى أحد، {إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ} (17)؛يحاسبهم جميعا في ساعة واحدة، يظنّ كلّ واحد أنه المجاب دون غيره.

قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ؛} أي حذّرهم يوم القيامة؛ والمعنى: يا محمّد أنذر أهل مكّة يوم الآزفة، يعني القيامة، سميت القيامة آزفة من الأزف: وهو الأمر إذا قرب، والقيامة آزفة لسرعة مجيئها. قال الزجّاج:(قيل لها: آزفة لأنّها قريبة وإن استبعدها النّاس، وكلّ آت فهو قريب)

(1)

، {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ؛} أي تزول القلوب من مواضعها من الخوف، فتشخص صدورهم حتى يبلغ حناجرهم في الحلوق، فلا هي تعود إلى أماكنها ولا هي تخرج من أفواههم فيموتوا فيستريحوا.

وذلك أنّ القلب بين فلقتي الرّئة، فإذا انتفخت الرّئة عند الفزع رفعت القلب حتى يبلغ الحنجرة، فيلصق بالحنجرة فلا يقدر صاحبه على أن يردّه إلى مكانه، ولا على أن يلفظ به فيستريح. ونظيره قوله تعالى:{وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ}

(2)

،وقوله تعالى:{فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ}

(3)

وقوله تعالى {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ}

(4)

وقوله تعالى:

{إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ}

(5)

.

وقوله تعالى: {(كاظِمِينَ)} أي مغمومين مكروبين ممتلئين غمّا وخوفا وحزنا، يعني أصحاب القلوب يتردّد حزنهم وحسراتهم في أجوافهم، والكاظم: هو الممتلئ أسفا وغيظا، والكظم تردّد الغيظ والحزن والخوف في القلب حتى يضيق به، نصب {(كاظِمِينَ)} على الحال، قوله تعالى:{ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ} (18)؛أي ما لهم من قريب ينفعهم ولا شفيع يطاع الشفيع فيهم فتقبل شفاعته.

(1)

قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: ج 4 ص 279.

(2)

الاحزاب 10/.

(3)

الواقعة 83/.

(4)

ابراهيم 43/.

(5)

القيامة 26/.

ص: 397

وقوله تعالى: {يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ؛} أي خيانتها وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحلّ، قال ابن عبّاس:({خائِنَةَ الْأَعْيُنِ}:هو الرّجل يكون جالسا مع القوم، فتمرّ المرأة فيسارقهم النّظر إليها)

(1)

.وقال قتادة: (هي همزه بعينه وإغماضه فيما لا يحبّ الله)

(2)

.ويجوز أن يكون المراد به: يعلم العين الخائنة؛ أي يجازي بخائنة الأعين، فكيف بما فوقها، كما قال في آية أخرى {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً}

(3)

.

وفي الحديث: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعليّ رضي الله عنه: [لا تتبع النّظرة، فإنّ لك الأولى وعليك الثّانية]

(4)

،يعني بأنّ الأولى إذا وقع نظر إلى موضع لا يجوز له النظر إليه لا عن تعمّد منه، فإنه لا يكون إثما في ذلك، وإنما يأثم إذا عاد بالنظر ثانية.

وقوله تعالى: {وَما تُخْفِي الصُّدُورُ} (19)؛أي ويعلم ما تضمر الصدور عند خائنة الأعين، ويعلم ما تسرّ القلوب من المعصية.

قوله تعالى: {وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ؛} أي يحكم بالقسط والعدل، لا يمنع أحدا من ثواب عمله، ولا يعاقبه على ذنب لا يكتسبه، بل يجزي بالحسنة والسيئة، قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ؛} معناه: والذين تدعون من دون الله من الأصنام لا ينفعون من أطاعهم، ولا يضرّون من عصاهم ولا يجازون أحدا؛ لأنّهم لا يعلمون ولا يقدرون.

(1)

في الدر المنثور: ج 7 ص 282؛ قال السيوطي: (أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم).وذكره القرطبي بلفظه في الجامع لأحكام القرآن: ج 15 ص 302.

(2)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (23377).

(3)

الاسراء 36/.

(4)

أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط: ج 1 ص 388:الحديث (678) عن علي رضي الله عنه، وأوله: [يا عليّ، إنّ لك في الجنّة كنزا

وليست لك الآخرة].وقال الطبراني: (لا يروى هذا الحديث إلا بهذا الإسناد وتفرد به عن حماد).وأخرجه أبو داود في السنن: كتاب النكاح: باب ما يؤمر به من غض البصر: الحديث (2149) من حديث ابن بريدة عن أبيه. والترمذي في الجامع: أبواب الأدب: باب ما جاء في نظر الفجاءة: الحديث (2777)،وقال: هذا حديث حسن غريب. والحاكم في المستدرك: كتاب النكاح: باب إذا تزوج العبد: الحديث (2842)،وقال: حديث صحيح على شرط مسلم.

ص: 398

قرأ نافع «(والّذين تدعون)» بالتاء، وقرأ الباقون بالياء

(1)

، {إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ؛} لمقالتهم، {الْبَصِيرُ} (20)؛بهم وأعمالهم.

قوله تعالى: {*أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ} (22)؛الآية ظاهرة المعنى. وقوله تعالى: {(وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ)} أي ما كان لهم من عذاب الله من واق يقي العذاب عنهم.

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا؛} يعني الآيات التسع، {وَسُلْطانٍ مُبِينٍ} (23)؛أي حجّة ظاهرة،

{إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذّابٌ} (24)؛أي كثير الكذب، وخصّ فرعون وهامان وقارون بالكذب؛ لأنّهم كانوا هم المتبوعين، وفي ذكر المتبوعين ذكر التابعين.

قوله تعالى: {فَلَمّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ؛} أي استبقوا النساء للخدمة، وذلك أنّ فرعون كان قد أخبر أنه يولد من بني إسرائيل مولود يذهب ملكه على يديه، فأمر بقتل أبنائهم واستبقاء نسائهم، فلمّا جاءهم موسى عليه السلام بالحقّ، أمر بإعادة ذلك القتل عليهم كيلا يبلغ الأبناء فيعينوه عليهم. قوله تعالى:{وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ} (25)؛أي يذهب كيدهم باطلا، ويحيق بهم ما كانوا يكيدون.

قوله تعالى: {وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى؛} وذلك أنّ قوم فرعون قالوا له: أرجئه وأخاه ولا تقتلهما، فإنّك إن قتلتهما قبل ظهور حجّتنا عليهما وقعت للناس الشّبهة في أنّهما كانا على الحقّ، فقال فرعون: دعوني أقتل موسى، {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ؛} حتى يدفع ذلك القتل عنه.

(1)

في الحجة للقراء السبعة: ج 3 ص 346؛ قال أبو علي الفارسي: (اختلفوا في الياء والتاء من قوله عز وجل: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ فقرأ نافع وابن عامر: والذين تدعون بالتاء، والقراء الباقون يَدْعُونَ بالياء، وكلهم فتح الياء).

ص: 399

ثم بيّن لأيّ معنى يقتله فقال: {إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ؛} يعني يبدّل عبادتكم إيّاي، {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ} (26)؛وأراد ظهور الهدى وتغيّر أحكام فرعون فجعل ذلك فسادا.

قرأ الكوفيّون ويعقوب: {(أَوْ أَنْ يُظْهِرَ)} بالألف، وقرأ نافع وأبو عمرو:«(ويظهر)» بضمّ الياء وكسر الهاء، ونصب {(الْفَسادَ)} ،وقرأ الباقون بفتح الياء والهاء ورفع «(الفساد)» ،واختار أبو عبيد قراءة نافع وأبو عمرو، ولأنّها أشبه بما قبلها لإسناد الفعل إلى موسى وعطفه على بدله

(1)

.

قوله تعالى: {وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ؛} أي لمّا توعّد موسى بالقتل، قال موسى: إنّي عذت بربي وربكم، {مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ} (27)،متعظّم عن الإيمان

(2)

وعن قبول الحقّ لا يصدّق بيوم القيامة، استعاذ موسى بالله ممّن أراد به سوء.

قوله تعالى: {وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ؛} اختلفوا في هذا المؤمن، فقال بعضهم: كان قبطيّا من آل فرعون، غير إنه كان آمن بموسى وكان يكتم إيمانه من فرعون وقومه خوفا على نفسه.

وقال مقاتل والسديّ: (كان ابن عمّ فرعون)

(3)

،وهو الّذي حكى الله عنه {وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى}

(4)

،وهذا هو الأشير وكان اسمه حزقيل، وقيل: حزبيل

(5)

.وقال بعضهم كان إسرائيليّا، وتقدير الآية: وقال رجل مؤمن يكتم

(1)

ينظر: معاني القرآن للفراء: ج 3 ص 7.وإعراب القرآن لابن النحاس: ج 4 ص 23.والحجة للقراء السبعة: ج 3 ص 349.والجامع لأحكام القرآن: ج 15 ص 305.

(2)

في المخطوط: (من الايمان).

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (23383)،وقاله مقاتل أيضا في التفسير: ج 3 ص 147.

(4)

القصص 20/.

(5)

في الدر المنثور: ج 7 ص 284؛ قال السيوطي: (أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (لم يكن في آل فرعون مؤمن غيره، وغير امرأة فرعون، وغير المؤمن-

ص: 400

إيمانه من آل فرعون.

وقوله تعالى: {(أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ)} أي لأن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبيّنات من ربكم بما يدلّ على صدقه من المعجزات، {وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ؛} لا يضرّكم ذلك، {وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ؛} أي يصبكم كلّ الذي يعدكم من العذاب إن قتلتموه وهو صادق.

والمراد بالبعض الكلّ في هذه الآية، وقال الليث:(بعض ههنا زائدة؛ أي يصبكم الّذي يعدكم)،وقال أهل المعاني: هذا على المظاهرة في الحجاج، كأنه قال لهم: أقلّ ما يكون في صدقه أن يصبكم بعض الذي يعدكم وفي بعض ذلك هلاككم)

(1)

،فذكر البعض ليوجب الكلّ، ويدلّ على ذكر البعض بمعنى الكلّ، قال لبيد:

ترّاك أمكنة إذا لم أرضها

أو يعتلق

(2)

بعض النّفوس حمامها

(3)

أراد كلّ النّفوس، ومثل قول الآخر

(4)

:

قد يدرك المتأنّي بعض حاجته

وقد يكون مع المستعجل الزّلل

وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّابٌ} (28)؛أي لا يهديه في الآخرة إلى جنّته وثوابه. والمسرف: هو المتجاوز عن الحدّ في المعصية.

قوله تعالى: {يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ؛} أي قال لهم الرجل المؤمن على وجه النّصيحة لهم: {(يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ)} أي غالبين مستعلين في أرض مصر، {فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا؛} أي فمن يمنعنا من عذاب الله إن جاءنا، {قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاّ ما أَرى؛} أي ما

(5)

-الّذي أنذر موسى عليه السلام،وقال ابن المنذر:(أخبرت أنّ اسمه حزقيل).

ص: 401

أشير عليكم إلاّ ما أراه حقّا من الصواب في أمر موسى، {وَما أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرَّشادِ} (29)؛أي ما أعرّفكم إلاّ طريق الهدى.

قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ} (30)،معناه: وقال لهم الرجل المؤمن: إنّي أخاف عليكم في قتله وترك الإيمان به أن ينزل بكم من العذاب،

{مِثْلَ دَأْبِ،} مثلما نزل بالأمم الماضية قبلكم حين كذبوا رسلهم، {قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} .

وقوله تعالى: {وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ} (31)؛أي لا يعاقب أحدا بلا جرم.

قوله تعالى: {وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ} (32)؛يعني يوم القيامة ينادى فيه كلّ أناس بإمامهم، وينادي فيه أهل النار أهل الجنة، وأهل الجنة أهل النار، وينادى فيه بسعادة السعداء وشقاوة الأشقياء، وأصله: يوم التّنادي بإثبات الياء كما في التّناجي والتّقاضي، إلاّ أنّ الياء حذفت منه كما حذف من قوله تعالى {يَوْمَ يَدْعُ الدّاعِ}

(1)

وشبه ذلك.

وقيل: سمّي يوم التّنادي؛ لأنّ الكفّار ينادون فيه على أنفسهم بالويل والثّبور، كما قال تعالى {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً}

(2)

،وقيل في معنى ذلك: أنه ينادي المنادي ألا أنّ فلان بن فلان سعد سعادة لا شقاوة بعدها أبدا، وينادي: ألا إنّ فلان بن فلان شقي شقاوة لا سعادة بعدها أبدا.

وقرأ الحسن: «(يوم التّنادي)» بإثبات الياء على الأصل

(3)

.وقرأ ابن عبّاس: «(يوم التّنادّي)» بتشديد الدال على معنى يوم التنافر، وذلك إذا هربوا فندّوا في الأرض كما يندّ الإبل إذا شردت على أصحابها.

قال الضحاك: (إذا سمعوا بزفير النّار نادوا هربا، فلا يأتوه قطرا من الأقطار إلاّ وجدوا ملائكة صفوفا، فيرجعون إلى المكان الّذي كانوا فيه، فذلك قوله تعالى

(1)

القمر 6/.

(2)

الفرقان 14/.

(3)

نقله الفراء في معاني القرآن: ج 3 ص 6.والزجاج في معاني القرآن وإعرابه: ج 4 ص 282.

ص: 402

(يوم التّناد)

(1)

،وقوله تعالى:{إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاّ بِسُلْطانٍ}

(2)

.

وقوله تعالى: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ؛} أي منصرفين عن موقف الحساب إلى النار، {ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ؛} أي مانع يمنعكم من عذابه، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ} (33).

قوله تعالى: {وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ؛} أي جاءكم يوسف بن يعقوب من قبل موسى بالدّلالات ظاهرة على وحدانيّة الله تعالى {أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ}

(3)

.وقيل: معنى قوله {(مِنْ قَبْلُ)} أي من قبل المؤمن.

وقوله تعالى: {فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمّا جاءَكُمْ بِهِ؛} أي في شكّ من عبادة الله وحده، {حَتّى إِذا هَلَكَ،} حتى إذا مات، {قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً؛} يأمرنا وينهانا، {كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ؛} هكذا يهلك الله من هو متجاوز عن الحدّ، {مُرْتابٌ} (34)؛أي شاكّ في توحيد الله وصدق أنبيائه.

قوله تعالى: {الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ؛} قال الزجّاج: (هذا تفسير المسرف المرتاب) على معنى هم الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان بالإبطال والتكذيب والطّعن بغير حجّة أتتهم، {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا؛} أي عظم جدالهم بغضا وسخطا عند الله وعند الذين آمنوا، {كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ؛} أي هكذا يختم الله بالكفر، {عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ؛} عن الإيمان، {جَبّارٍ} (35)؛للناس على «ما»

(4)

يريد.

(1)

نقله الفراء عن الضحاك في معاني القرآن: ج 3 ص 8.وأصله أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (23393).

(2)

الرحمن 33/.

(3)

يوسف 39/.

(4)

(ما) سقطت من المخطوط.

ص: 403

قال ابن عبّاس: (يختم على قلوبهم فلا يسمعون الهدى ولا يعقلون الرّشاد) وقرئ «(على كلّ قلب)» بالتنوين، وقال الزجاج:(الوجه الإضافة لأنّ المتكبر هو الإنسان)

(1)

.

قوله تعالى: {وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً؛} أي قال لوزيره هامان: ابن لي قصرا منيفا مشيّدا بالآجرّ

(2)

،قال في موضع آخر:{فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً}

(3)

وكان هامان هو أوّل من استعمل الآجرّ لبناء الصّرح، ولكن كره بناء القبور بالآجرّ.

قوله تعالى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ} ؛الطريق للسّموات، والسّبب في الحقيقة: كلّ ما يوصلك إلى الشيء، ولذلك سمي الجبل سببا.

وقال بعضهم: أسباب السّماوات طبقاتها.

قوله تعالى: {فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى؛} ظنّ فرعون بجهله أنّ إله موسى مما يرقى إليه، قوله تعالى:{وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً،} أي إني لأظن موسى كاذبا فيما يقول إنّ له ربّا في السّماء، ولما قال موسى: ربّ السّماوات، فظنّ فرعون بجهله واعتقاده الباطل أنه لمّا لم ير في الأرض أنه في السماء، فرام الصعود إلى السّماء لرؤية إله موسى. وقيل: معناه: وإني لأظنّ موسى كاذبا فيما يقول أنّ له ربّا غيري أرسله إلينا.

وقرأ الأعرج

(4)

{(فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى)} بنصب العين على جواب {(لَعَلِّي)} بالفاء على معنى إنّي إذا بلغت اطّلعت، وقرأه العامة «(فأطّلع)» عطفا على قوله تعالى:

(1)

قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه: ج 4 ص 283.

(2)

الآجر: الذي يبنى به. وأصله فارسي معرّب. مختار الصحاح: ص 7.

(3)

القصص 38/.

(4)

هو حميد بن أبي حكيم المروزي الأعرج، من أهل مرو، روى عني يحيى بن يعمر-تابعي روى عن عثمان وعلي وغيرهما من الصحابة-وثقة ابن حبان في (الثقات):ج 3 ص 285:الرقم (842).وترجم له ابن حجر في تهذيب التهذيب: الرقم (1600).

ص: 404

{وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ؛} أي كذا حسّن له قبح عمله، زيّن له الشيطان جهله، ومن قرأ «(زيّن)» بفتح الزاي على أنّ المعاصي يدعو بعضها إلى بعض.

وقوله تعالى: {وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ؛} أي صدّ غيره عن الهدى، ويحتمل أنه صدّ عن السبيل بنفسه، و {(صُدَّ)} بضم الصاد أي منع عن سبيل الحقّ، {وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاّ فِي تَبابٍ} (37)؛أي في خسار وهلاك.

قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ} (38)؛أي قال الرجل المؤمن من آل فرعون: يا قوم اتّبعوني على ديني أحملكم على طريق السّداد والهدى،

{يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ؛} أي مشقّة يسيرة تنقطع، {وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ} (39)؛فلا تزول؛ أي هي المحلّ الذي يقع فيه الاستقرار.

قوله: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً،} يعني الشّرك، {فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها؛} فلا يجزى إلاّ مثلها في العظم، معنى النار، {وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً؛} أي طاعة، {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ؛} مخلص، قال ابن عبّاس:(يعني قول لا إله إلاّ الله)

(1)

{فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ} (40)؛ أي بما لا يعرف له مقدار.

قوله تعالى: {*وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النّارِ} (41)؛أي قال لهم الرجل المؤمن: يا قوم ما لي أدعوكم إلى سبب النّجاة،

{تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ،} وتدعونني إلى عمل أهل النّار وهو الشّرك. وقوله تعالى: {وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ؛} أي من لا أعرف له ربوبيّته، {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ؛} أي الغالب المنتقم ممن عصاه، {الْغَفّارِ} (42)؛لمن تاب وآمن.

قوله تعالى: {لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ؛} يعني قوله {(لا جَرَمَ)} أي حقّا أنّ ما تدعونني إليه من المعبودين دون الله

(1)

نقله القرطبي أيضا في الجامع لأحكام القرآن: ج 15 ص 317.

ص: 405

ليس له دعوة في الدّنيا ولا في الآخرة، قال السديّ:(معناه: لا يستجيب لأحد في الدّنيا ولا في الآخرة)

(1)

،والتقدير: ليس له استجابة دعوة. قوله تعالى: {وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ؛} أي وإنّ مرجعنا إليه في الآخرة، يفصل بين المحقّ والمبطل، {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ؛} أي وإنّ المتجاوزين عن الحدّ في الكفر وسفك الدماء بغير الحقّ، {هُمْ أَصْحابُ النّارِ} (43).

قوله تعالى: {فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ؛} أي فستذكرون هذا الذي أقول لكم في الدّنيا من النّصيحة إذا نزل بكم العذاب في الآخرة، في حين لا ينفعكم الذّكر عليه، {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ؛} أي وأترك أمر نفسي إلى الله فأثق به ولا أشتغل بكم، {إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ} (44)؛أي بأوليائه وأعدائه.

قوله تعالى: {فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا؛} وذلك أنّ فرعون أراد أن يقتله فهرب منهم، فلم يقدروا عليه، ودفع الله عنه غائلة مكرهم، {وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ} (45)؛أي نزل بفرعون وقومه أشدّ العذاب، قال الكلبيّ:

(غرقوا في البحر ودخلوا النّار) والمعنى: وحاق بآل فرعون سوء العذاب، في الدّنيا الغرق، وفي الآخرة النار، فذلك

قوله تعالى: {النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا؛} ارتفاع {(النّارُ)} على البدل من {(سُوءُ الْعَذابِ)} .

قوله تعالى: {(يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا)} أي صباحا ومساء، يقال لهم: يا آل فرعون هذه منازلكم، توبيخا ونقمة، قال ابن مسعود:(إنّ أرواح آل فرعون في أجواف طير سود يعرضون على النّار كلّ يوم مرّتين)

(2)

،وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ، إن كان من أهل الجنّة

(1)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (23416) عن السدي، وأسقطه الناسخ هناك، وأثبته ابن كثير في التفسير: ج 4 ص 82: (قال السدي: لا يجيب داعية لا في الدنيا ولا في الآخرة).

(2)

في الدر المنثور: ج 7 ص 291؛ قال السيوطي: (أخرجه عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن ابن مسعود رضي الله عنه وذكره. وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير الكبير: الأثر (18435).

ص: 406

فمن «أهل» الجنّة، وإن كان من أهل النّار فمن «أهل» النّار، يقال: هذا مقعدك حتّى يبعثك الله يوم القيامة]

(1)

.

وقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ} (46) قرأ نافع والكوفيّون بقطع الألف وكسر الخاء؛ أي يقال للملائكة: أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب، وهو الدّرك الأسفل من النار، وقرأ الباقون بضمّ الخاء ووصل الألف على الأمر لهم بالدخول.

قوله تعالى: {وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنّا كُنّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّا نَصِيباً مِنَ النّارِ} (47)؛أي واذكر يا محمّد لقومك: إذ يختصم أهل النار في النار، وباقي الآية مفسّر في سورة إبراهيم عليه السلام.

وقوله تعالى: {قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنّا كُلٌّ فِيها؛} أي إنا نحن وأنتم قد استوينا في العذاب، {إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ} (48)؛أي قضى بهذا علينا وعليكم وحكم أن لا يتحمل أحد عذاب أحد.

فلما رأوا شدّة العذاب، {وَقالَ الَّذِينَ فِي النّارِ،} قالوا، {لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ} (49)؛أي يهوّن عنّا العذاب قدر يوم من أيّام الدّنيا،

{قالُوا،} فيقول الزبانية: {(أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ؛} أي بالدّلالات الظاهرة على وحدانيّة الله، {قالُوا بَلى،} فيقولون: بلى قد أتتنا الرسل، {قالُوا،} فتقول لهم الزبانية:

{فَادْعُوا،} أنتم فإنّ الله تعالى لم يأذن لنا في الدّنيا، {وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ} (50)؛أي في ضياع لا ينفعهم.

قوله تعالى: {إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا؛} أي إنا لنعين الرسل والمؤمنين على أعدائهم في الدّنيا بالاستعلاء عليهم بالحجّة

(1)

أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الجنائز: باب الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي: الحديث (1379).ومسلم في الصحيح: كتاب الجنة وصفة نعيمها: الحديث (2866/ 65).

ص: 407

وبالغلبة عليهم في المحاربة، ونعينهم، {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ} (51)؛بإعلاء كلمتهم وإظهار منزلتهم، والمعنى: ويوم القيامة تقوم الحفظة من الملائكة يشهدون للرّسل بالتبليغ، وعلى الكفّار بالتكذيب.

وواحد الأشهاد: شاهد، مثل صاحب وأصحاب، وطائر وأطيار، والمراد من الأشهاد الأنبياء والملائكة والمؤمنون والجوارح والمكان والزمان، يشهدون بالحقّ لأهله، وعلى المبطل بفعله،

{يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ؛} أي إن اعتذروا من كفرهم لم يقبل منهم، وإن تابوا لم تنفعهم التوبة، {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ؛} أي البعد من الرحمة، {وَلَهُمْ سُوءُ الدّارِ} (52)؛يعني جهنّم سوء المنقلب.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى؛} من الضّلالة يعني التوبة، وقيل: معناه: ولقد أعطينا موسى الدّين المستقيم، {وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ} (53)،ونزّلنا على بني إسرائيل التوراة والإنجيل والزّبور

{هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ} (54)؛هدى من الضّلالة وعظة لذوي العقول،

{فَاصْبِرْ،} يا محمّد على أذى الكفّار كما صبر الرسل قبلك، {إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ،} في نصرتك وإظهار دينك صدق كائن، {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ؛} يعني الصغائر؛ لأن أحدا من البشر لا يخلو من الصغائر وإن عصم من الكبائر.

وقيل: معناه: واستغفر لذنوب أمّتك، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ؛} أي نزّهه عن كلّ صفة لا تليق به، واحمده على كلّ نعمة. ويجوز أن يكون المراد بالتسبيح في الآية من قوله:{بِالْعَشِيِّ؛} الصّلوات الخمس وقت ما بعد الزّوال إلى وقت العشاء الآخرة، ومن قوله:{وَالْإِبْكارِ} (55)؛صلاة الفجر. والمعنى:

صلّ لربك شاكرا لربك بالعشيّ والإبكار.

قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ؛} وذلك أن اليهود كانوا يجادلون في النبيّ صلى الله عليه وسلم في رفع القرآن، وكانوا يقولون له: صاحبنا المسيح بن داود، يعنون الدجّال يخرج في آخر الزمان فيبلغ سلطان البرّ والبحر، ويردّ الملك إلينا وتسير معه الأنهار، وهو آية من آيات الله! ويعظّمون أمر الدجّال، فأنزل الله هذه الآية.

ص: 408

ومعناه: إنّ الذين يخاصمون بغير حجّة أتتهم، {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ؛} أي ما في قلوبهم إلاّ عظمة عن قبول الحقّ لحسدهم، ما هم ببالغي تلك العظمة التي في قلوبهم لأنّ الله تعالى مذلّهم، فلا يصلون إلى دفع من آيات الله.

قال ابن عبّاس: (والمعنى: ما يحملهم على تكذيبك إلاّ ما في صدورهم من العظمة ما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر لأنّ الله مذلّهم)

(1)

.وقال ابن قتيبة: (إنّ في صدورهم إلاّ تكبّر على محمّد، وطمع أن يصلوه وما هم ببالغي ذلك، فاستعذ بالله يا محمّد من الكبر ومن شرّ اليهود ومن شرّ الدّجّال ومن كلّ ما تجب الاستعاذة منه)

(2)

،وقوله تعالى:{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (56)؛بهم وبأعمالهم.

وقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ؛} أي هذا أكبر من خلق بغير عمد وجريان الأفلاك بالكواكب فيه أعظم في النفس وأهول في الصدر من خلق الناس، {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ؛} الكفار، {لا يَعْلَمُونَ} (57)؛حين لا يستدلّون بذلك على توحيد خالقهما وقدرته على ما هو أعظم من خلق الدجّال، وعلى أن يمنع المسلمين من غلبته عليهم.

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إنّ قبل خروج الدّجّال ثلاث سنين، أوّل سنة تمسك السّماء ثلث قطرها والأرض ثلث نباتها، والثّانية تمسك ثلثي قطرها والأرض ثلثي نباتها، وفي السّنة الثّالثة تمسك السّماء ما فيها والأرض وما فيها، ويهلك كلّ ذات ظلف وضرس]

(3)

.

وعن أبي أمامة الباهليّ قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فكان أكثر خطبته أن يحدّثنا عن الدّجّال ويحذّرنا، فكان من قوله: [أيّها النّاس؛ إنّه لم تكن فتنة في الأرض أعظم من فتنة الدّجّال، إنّ الله تعالى لم يبعث نبيّا إلاّ حذر أمّته منه، وأنا

(1)

نقله البغوي أيضا في معالم التنزيل: ص 1142.

(2)

نقله عنه البغوي أيضا في معالم التنزيل: ص 1142.

(3)

أخرجه البغوي في معالم التنزيل: ص 1142 بإسناده عن أسماء بنت يزيد الأنصارية.

ص: 409

آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة، فإن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيج كلّ مسلم، وإن يخرج بعدي فكلّ امرئ حجيج نفسه، والله تعالى خليفتي على كلّ مسلم.

أنّه يخرج بين جبلين بين العراق والشّام يعيث يمينا ويعيث شمالا، فيا عباد الله اثبتوا، فإنّه يبدأ فيقول: أنا نبيّ ولا نبيّ بعدي! ثمّ يثني ويقول: أنا ربّكم! ولن تروا ربّكم حتّى تموتوا، وإنّه أعور وليس ربّكم بأعور، وإنّه مكتوب بين عينيه: كافر، يقرؤه كلّ مؤمن، فمن لقيه منكم فليتفل في وجهه.

وإنّ من فتنته أنّ معه جنّة ونار، فناره جنّة وجنّته نار، فمن ابتلي بناره فليقرأ فواتح سورة الكهف ويستغيث بالله، فتكون عليه بردا وسلاما، وإنّ من فتنته أنّ معه شياطين يتمثّل كلّ واحد منهم على صورة إنسان، فيأتي الأعرابيّ فيقول له: إذا بعثت أباك وأمّك وأهلك تشهد أنّي ربّك؟ فيقول: نعم، فيتمثّل له شياطينه على صوت أبيه وأمّه، فيقولان له: يا بنيّ اتّبعه فإنّه ربّك، ومن فتنته أن يسلّط على نفس فيقتلها، ثمّ يحييها الله بعد ذلك، فيقول الدّجّال: انظروا إلى عبدي هذا، فإنّي بعثته الآن ويزعم أنّ له ربّا غيري])

(1)

.

قال مقاتل: (إنّ الرّجل الّذي يسلّط عليه الدّجّال رجل من جشعم، فيقتله ثمّ يبعثه الله تعالى، فيقول له الدّجّال: من ربّك؟ فيقول: الله ربي وإنّك الدّجّال عدوّ الله).

[وإنّ من فتنته يقول للأعرابيّ: أرأيت إن بعثت لك أبيك وأمّك أتشهد أنّي ربّك؟ فيقول: نعم، فيتمثّل له شياطينه على صورة أبيه وأمّه. وإنّ أيّامه أربعين يوما،

(1)

الحديث لم أقف عليه عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، وهو حديث مشهور بألفاظ عديدة وأسانيد عديدة. وأصله عن أبي هريرة وجابر وأبي سعيد وغيرهم كثير رضي الله عنهم جميعا. ومن هذه الأسانيد، أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الجائز: الحديث (1354 و 1355)،وكتاب الأنبياء: الحديث (3337)،وكتاب الجهاد: الحديث (3055).ومسلم في الصحيح: كتاب الفتن وأشراط الساعة: الحديث (2938/ 112).

ص: 410

فيوم كالسّنة، ويوم دون ذلك، ويوم كالشّهر، ويوم دون ذلك، ويوم كالجمعة، ويوم دون ذلك، وآخر أيّامه كالشّرفة، فيصبح الرّجل بباب المدينة فلا يبلغ بابها حتّى تغرب الشّمس].

قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نصلّي في تلك الأيّام القصار؟ قال:

[تقدرون فيها كما تقدرون في هذه الأيّام الطّوال، فلا يبقى شيء من الأرض إلاّ وطئه الرّجل وغلب عليه، إلاّ مكّة والمدينة فإنّه لا يأتيهما، ويكون إمام النّاس يومئذ بالمدينة رجلا صالحا، فيقال له: صلّ الصّبح، فإذا كبّر ودخل في الصّلاة ونزل عيسى عليه السلام، فإذا رآه ذلك الرّجل عرفه فيتأخّر ليتقدّم عيسى، فيضع عيسى يده بين كتفيه ويقول له: صلّ قائما، أقيمت لك الصّلاة.

فيصلّي عيسى وراءه ثمّ يقول: افتحوا الباب، فيفتح باب المدينة، ومع الدّجّال يومئذ سبعون ألف يهوديّ كلّهم ذوو سلاح وسيف محلا، فإذا نظر الدّجّال إلى عيسى ذاب كما ذاب الرّصاص من النّار والملح في الماء، فيقول له عيسى: إنّ لي فيك ضربة لن تفوتني بها، فيدركه عند باب كذا الشّرقيّ وهو باب قتيلة، فلا يبقى شيء ممّا خلق الله يتوارى به يهوديّ إلاّ أنطق الله ذلك الشّيء، فلا شجر ولا حجر ولا دابّة إلاّ قالت: يا عبد الله المسلم هذا كافر فاقتله.

ويكون عيسى عليه السلام حكما عدلا وإماما مقسطا، فيدقّ الصّليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، وترفع الشّحناء والتّباغض، وترفع حمة

(1)

كلّ دابّة حتّى يدخل الصّبيّ يده فم الحنش

(2)

فلا يضرّه، ويلقى الإنسان الأسد فلا يضرّه، ويكون الأسد في الإبل كأنّه كلبها، ويكون الذّئب في الغنم كأنّه كلبها، ويملأ الأرض إسلاما

(3)

، ويسلب الكفّار ملكهم، ولا يكون الملك إلاّ للمسلمين، ويبارك في الأرزاق حتّى أنّ

(1)

حمة العقرب: سمّها وضرّها.

(2)

الحنش: كلّ ما يصاد من الطّير والهوام، والجمع (الأحناش).والحنش أيضا: الحيّة، وقيل: الأفعى.

(3)

هكذا في المخطوط: (إسلاما).

ص: 411

النّفر يجتمعون على رمّانة واحدة، ويكون الفرس بدرهمين]

(1)

وبالله التّوفيق).

قوله تعالى: {وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ؛} أي فكما لا يستويان فكذلك لا يستوي المؤمن والكافر في الآخرة في الجزاء بالعذاب والنّعيم، وباقي الآيتين:{قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} (59) ظاهر المعنى.

قوله تعالى: {وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ؛} ادعوني ووحّدوني في الدّنيا أقبل منكم وأستمع دعاءكم، {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي؛} إنّ الذين يتعظّمون عن طاعتي وعن المسألة مني، {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} (60)؛أي صاغرون ذليلون، والدّاخر: هو الذليل الصّاغر، قال حسّان:

قتلنا من وجدنا يوم بدر

وجئنا بالأسارى داخرا

قرأ ابن كثير «(سيدخلون)» بضمّ الياء وفتح الخاء

(2)

.

قوله تعالى: {اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً؛} أي تبصرون فيه لطلب المعاش، {إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَشْكُرُونَ} (61)؛نعم الله،

{ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ؛} ومبتدعه، لا معبود سواه، فلا ينبغي لأحد أن يدعو مخلوقا مثله، {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ} (62)؛وقد تقدّم تفسير ذلك،

{كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} (63)؛أي هكذا كان لمصرف القوم الذين كانوا بدلائل الله يجحدون.

(1)

أخرجه أبو داود مختصرا في السنن: كتاب الملاحم: باب خروج الجدال: الحديث (4322). وابن ماجة في السنن: كتاب الفتن: باب فتنة الدجال: الحديث (4077).وفي الدر المنثور: ج 2 ص 739 - 742؛ قال السيوطي: (أخرجه أبو داود وابن ماجة عن أبي أمامة الباهلي) وذكره.

(2)

في الجامع لأحكام القرآن: ج 15 ص 328؛ قال القرطبي: (وقرأ ابن كثير وابن محيصين ورويس عن يعقوب وعياش عن أبي عمرو وأبو المفضل عن عاصم) وذكرها وقال: (على ما لم يسمّ فاعله).

ص: 412

قوله تعالى: {اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً؛} أي مستقرّا للأحياء والأموات، كما قال {فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ}

(1)

{وَالسَّماءَ بِناءً؛} أي وجعل السّماء سقفا مرفوعا فوق كلّ شيء، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ؛} أي خلقكم فأحسن خلقكم.

قال ابن عبّاس: (خلق الله ابن آدم قائما معتدلا يأكل بيده ويتناول بيده، وكلّ ما خلق الله يتناول بفيه)

(2)

.وقال الزجّاج: (خلقكم أحسن الحيوان كلّه)، {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ؛} أي من لذيذ الأطعمة وكريم الأغذية.

وقوله تعالى: {ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ؛} أي الذي فعل ذلك كلّه هو ربّكم فاشكروه، {فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} (64)؛أي فتعالى الله دائم الوجود لم يزل ولا يزال ربّ كلّ ذي روح من الجنّ والإنس وغيرها،

{هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ؛} بلا أوّل ولا آخر، لم يزل، كان حيّا ولا يزال حيّا، منزّه عن كلّ آفات، وليس أحد غيره من الأحياء بهذه الصّفات، لا مستحقّ للإلهيّة غيره، {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} (65)،فوحّدوه مخلصين له الدّين؛ أي الطاعة، واشكروه على معرفة التوحيد. قال ابن عبّاس رضي الله عنه:(إذا قال أحدكم: لا إله إلاّ الله فيقل في إثرها: الحمد لله رب العالمين)

(3)

.

وقوله تعالى: {*قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} (66)؛أي أمرت أن أستقيم على الإسلام.

قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ؛} أي خلق أصلكم من تراب، {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ؛} لآبائكم، {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ،} ثم نقلكم إلى العلقة وهو الدم الغليظ، {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ؛} من بطون أمّهاتكم أطفالا واحدا واحدا لذلك

(1)

الأعراف 25/.

(2)

نقله أيضا البغوي في معالم التنزيل: ص 1144.

(3)

أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (23442).

ص: 413

قوله: {طِفْلاً؛} وقال {بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً}

(1)

لأن الواحد يكون أعمال

(2)

.

وقوله تعالى: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ؛} أي بنقلكم إلى حال اجتماع القوّة والكمال، {ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً؛} أي تصيروا شيوخا بعد الأشدّ، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّى مِنْ قَبْلُ؛} من قبل البلوغ ومن قبل الشّيخوخة، {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى؛} يريد أجل الحياة إلى الموت، ولكلّ أجل لحياته ينتهي إليه، ويقال: لتبلغوا أجلا مسمّى؛ أي لتوافوا القيامة للجزاء والحساب، {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (67)،ولكي يعقلوا وحدانية الله تعالى وتمام قدرته، وتصدقوا بالبعث بعد الموت.

قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ؛} أي يحيي الأموات ويميت الأحياء، {فَإِذا قَضى أَمْراً؛} من الإحياء والإماتة، {فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ،} يريده، {كُنْ فَيَكُونُ} (68)،ويحدثه.

وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ؛} أي يخاصمون في القرآن بالردّ والتكذيب، وهم المشركون، {أَنّى يُصْرَفُونَ} (69)، كيف يصرفون إلى الكذب بعد وضوح الدلالة،

{الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ؛} الذين كذبوا بالقرآن، {وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا،} من الشّرائع والأحكام والتوحيد، {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (70)،عاقبة أمرهم،

{إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} (71)،حين تجعل الأغلال الحديد مع السّلاسل في أعناقهم، يسحبون في الحبال على وجوههم، يلقون،

{فِي الْحَمِيمِ،} في نار عظيمة، {ثُمَّ فِي النّارِ يُسْجَرُونَ} (72)؛قال مجاهد:(توقد بهم النّار فصاروا وقودها).

قوله تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ،} ثم تقول لهم الزّبانية: {أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ} (73)،أين الآلهة التي كنتم تعبدونها، وترجون منافعها، وتدعونها،

(1)

الكهف 103/.

(2)

في الجامع لأحكام القرآن: ج 12 ص 11؛ قال القرطبي: (أي أطفالا، فهو اسم جنس، وأيضا فإن العرب قد تسمي الجمع باسم الواحد).

ص: 414

{مِنْ دُونِ اللهِ،} فيؤلمون قلوبهم بمثل هذا التوبيخ كما يؤلمون أبدانهم بالتعذيب، {قالُوا؛} فيقول الكفار:{ضَلُّوا عَنّا،} أي ضلّت آلهتنا عنّا؛ أي ضاعت فلا نراها، ثم يجحدون عبادة الأصنام فيقولون:{بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً،} إن لم نكن نعبد من قبل هذا شيئا، ويجوز أن يكون هذا كالرّجل يعمل عملا لا ينتفع به، فيقال له: إيش تعمل؟ فيقول: لا شيء.

وقوله تعالى: {كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ} (74)؛أي هكذا يهلكهم ذلك العذاب الذي نزل بكم،

{ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ؛} بالباطل، {وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) اُدْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} (76)؛قال مقاتل:(يعني البطر والخيلاء).

والغلّ: هو ما يجعل في العنق للإذلال والإهانة. والطّوق: هو ما يجعل للإجلال والكرامة. وقرأ ابن عبّاس: «(والسّلاسل)» بفتح اللام، و «(يسحبون)» بفتح الياء؛ معناه: ويسحبون السلاسل

(1)

.

قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ؛} بنصرك والانتقام منهم، {فَإِمّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ} (77)؛معناه:

فإن انتقمنا منهم وأنت حيّ فبشرى لك، وإن نتوفّاك قبل «أن» نريك ذلك فإلينا مرجع الكلّ منهم للمجازاة، وسيصل إليهم موعدهم.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ؛} أي منهم من قصصنا عليك خبرهم في القرآن، ومنهم من لم نقصص عليك خبرهم، {وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ؛} في الآية إبلاغ عذر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يأتيهم به من الآيات التي كانوا يقترحونها عليه، وليس علينا حصر عدد الرّسل، ولكنا نؤمن بجملتهم.

(1)

في إعراب القرآن للنحاس: ج 4 ص 31؛ قال: (وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس أنه قرأ والسلاسل بالنصب يسحبون والتقدير في قراءته: ويسحبون السلاسل).

ص: 415

وقوله تعالى: {فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ؛} أي إذا جاء قضاؤه بين أنبيائه وأممهم، {قُضِيَ بِالْحَقِّ،} لم يظلموا إذا عذّبوا {وَخَسِرَ هُنالِكَ؛} عند ذلك، {الْمُبْطِلُونَ} (78)،المكذّبون.

قوله تعالى: {اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ} (79)؛الله الذي خلق لكم الإبل والبقر والغنم لتركبوا بعضها وتأكلوا لحم بعضها،

{وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ؛} من ألبانها وأصوافها وأوبارها وأشعارها، {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ؛} أي لتبلغوا عليها في ركوبها حاجة في قلوبكم لا تبلغونها إلاّ بها، قال مجاهد:(تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد، وتبلغوا عليها حاجاتكم في البلاد ممّا كانت)، {وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} (80)؛أي وعلى ظهورها في البرّ وعلى السّفن في البحر تحملون في كسبكم وحجّكم وتجاراتكم.

قوله تعالى: {وَيُرِيكُمْ آياتِهِ؛} أي يريكم الله دلائل قدرته من الشمس والقمر والنّجوم والليل والنهار والجبال والبحار، وتسخّر الأنعام لمنافع العباد، كلّها من آيات الله، {فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ} (81)،فأيّ آية من آيات الله تجهلون أنّها ليست من الله تعالى؟

قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؛} من الأمم كيف أهلكهم الله بتكذيبهم الرسل، {كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ؛} من أهل مكّة بالعدد، {وَأَشَدَّ قُوَّةً؛} في البلدان، وأظهر؛ {وَآثاراً فِي الْأَرْضِ؛} في الأبنية العظيمة، والقصور المشيدة، والعيون المستخرجة، {فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ} (82)،فلم ينفعهم من عذاب الله كثرة عددهم وشدّة قوّتهم وجمعهم الأموال،

{فَلَمّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} (83)؛بالجهل الذي عندهم أنه علم، وقالوا: نحن أعلم منهم، لن نبعث ولن نعذب، فمعنى قوله:{(فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)} أي رضوا بما عندهم من العلم وهو في الحقيقة جهل وإن زعموه علما.

ص: 416

قوله تعالى: {فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا،} فلمّا رأوا عذابنا آمنوا، {بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا؛} ولا ينفع الإيمان عند ذلك.

وقوله تعالى: {سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ؛} أي هذا قضائي في خلقي أنّ من كذب أنبيائي وجحد ربوبتي؛ أي سنّ الله هذه السّنة في الأمم كلّها أن لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب، وسنة الله هي حكم الله الذي مضى في عباده في بعث الرّسل إليهم، ودعائهم إلى الحقّ وترك المعاجلة بالعقوبة، وأنّ الإيمان وقت البأس لا ينفع.

ونصب قوله {(سُنَّتَ اللهِ)} على التحذير أو على المصدر، وقوله تعالى:{وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ} (85)؛أي هلك عند ذلك المكذّبون.

آخر تفسير سورة (غافر) والحمد لله رب العالمين.

ص: 417