الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذي لم يتسلَّطْ عليه غضبٌ يأمره وينهاه؛ كما سيأتي تقريرُه بعدَ هذا إنْ شاء الله.
وإذا كان الغضبُ هو الناطقَ على لسانِه، الآمرَ النَّاهي له؛ لم يكن ما جَرى على لسانِه في هذه الحال منسوباً إلى اختيارِه ورِضاه؛ فلا [يترتَّبُ]
(1)
عليه أثرُه.
الوجه الخامس: قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} في ثلاثة مواضع مِن القرآن
(2)
. وما يتكلَّمُ به الغضبانُ في حال شدَّةِ غضبِه -مِن طلاقٍ أو شَتْمٍ ونحوه- هو مِنْ نَزَغات الشيطان؛ فإنه يُلْجِئُهُ إلى أن يقول ما لم يكن مختاراً لقوله، فإذا سُرِّيَ عنه؛ عَلِمَ أنَّ ذلك مِن إلقاء الشيطان على لسانِه مما لم يكن برضاه واختيارِه.
والغضبُ مِن الشيطان، وأثرُه منه، كما في «الصحيح» أنَّ رَجُلين اسْتبَّا عند النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى احمرَّ وَجْهُ أحدِهما، وانتفختْ أوداجُه، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنِّي لأَعْلمُ كلمةً، لو قالها لذهبَ عنه ما يجدُ: أعوذُ بالله مِن الشيطان
(1)
في الأصل: «يتم من» ، ولعلَّ الصواب ما أثبتُّه.
(2)
(الأعراف 200)، (فصِّلت 36) فقط!
الرجيم»
(1)
، وفي «السُّنن» أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«إنَّ الغضبَ من الشيطان، وإنَّ الشيطانَ مِن النَّارِ، وإنَّما تُطفأُ النَّارُ بالماءِ، فإذا غَضِبَ أحدُكم فليتوضَّأْ»
(2)
وإذا كان هذا السَّببُ وأثرُه مِن إلجاءِ الشيطان، لم يكن مِن اختيارِ العبد؛ فلا يترتَّبُ عليه حكمُه.
(1)
رواه البخاري (6048)، ومسلم (2610) من حديث سليمان بن صُرَد.
(2)
رواه أحمد (4/ 226)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (7/ 8)، وأبو داود (4784)، وابن حبان في «المجروحين» (2/ 25) جميعهم من طريق: إبراهيم بن خالد، عن أبي وائل الصنعاني، عن عروة بن محمد بن عطية السعدي، عن أبيه، عن جده، به. مرفوعاً.
وهذا إسناد ضعيف فيه ثلاث عِلل:
أبو وائل الصنعاني، قال ابنُ حبان: لا يجوز الاحتجاج به. اهـ. وأوردَ له هذا الحديث في ترجمته كلٌّ مِن ابن حبان والذهبي مما يُشعر أنهما استنكراه عليه.
عروة بن محمد، ذكره ابن حبان في «الثقات» (7/ 287) وقال: يخطئ.
وقال الحافظ في «التقريب» : مقبول.
محمد بن عطية السعدي، لم يروِ عنه سوى ابنه عروة، وذكره ابن حبان في «الثقات» (5/ 359). وقال الذهبي في «الكاشف»:«وثِّق» . وقال الحافظ: صدوق!
وله شاهد من حديث معاوية بن أبي سفيان رواه أبو نعيم (2/ 130) وإسناده ضعيف أيضاً.
فصل
فأما دلالةُ السُّنَّةِ؛ فمِن وجوه
(1)
:
أحدها: حديثُ عائشةَ المتقدِّمُ، وهو قوله: ((لا طَلاقَ ولا
(1)
علَّق القاسمي هنا: «ذَكَر مِن وجوه دلالة السُّنة ثلاثة، وبقي رابع وهو: «الأعمال بالنية» الذي استدلَّ به البخاريُّ على عَدَم وقوع طلاق الغضبان كما تقدم نَقْلُ عبارته وكلام ابن حجر في شرحها، وقد أشار إليه في الوجه التاسع الآتي:
ووجه خامس وهو حديث ابن عباس مرفوعاً: «لا يمين في غضب» أخرجه ابن جرير (2/ 409) والدارقطني (4/ 159) كما حكيناه قبل.
ووجه سادس وهو حديث: «كلُّ طلاق جائز؛ إلا طلاق المعتوه والمغلوب على عقله» رواه الترمذي (1191) عن أبي هُريرة مرفوعاً وقال: غريب ضعيف. والمغلوب على عقله - وإنْ فُسِّرَ بالسَّكران - إلا أنه يتناول الغضبان أيضاً، بل هو أَولى كما سنراه للمصنف موضحاً في الوجه الثاني مِن ترجمة (فصل وأما آثار الصحابة)». انتهى كلام القاسمي.
قلت: أما حديث ابن عباس: «لا يمين في غضبٍ» فرواه أيضاً الطبراني في «الأوسط» (2029) ومداره على سليمان بن أبي سليمان، قال يحيى بن معين: ليس بشيء. قال البخاري: منكر الحديث. قال المِزيُّ وابنُ عبد الهادي: وهو متفق على ضعفه. والحديث ضعّفه: عبد الحق، وابن القطان، وابن عبد الهادي، وابن حجر.
انظر: «تنقيح التحقيق» (3/ 508)، «نصب الراية» (3/ 278)، «فتح الباري» (11/ 565).
وأما حديث أبي هريرة فنصُّ كلامِ الترمذيِّ: «هذا حديث لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث عطاء بن عجلان، وعطاء بن عجلان ضعيف، ذاهب الحديث» .
عَتَاقَ في إغلاق»
(1)
.
وقد اختُلِفَ في الإغلاق:
فقال أهلُ الحجاز: هو الإكراه.
وقال أهلُ العراق: هو الغَضَبُ.
وقالت طائفةٌ: هو جَمْعُ الثلاثِ بكلمةٍ واحدةٍ.
حَكَى الأقوالَ الثلاثةَ صاحبُ كتابِ «مطالع الأنوار»
(2)
.
وكأنَّ الذي فسَّره بجمْعِ الثَّلاث أخذه مِن «التَّغليق» ، وهو أنَّ المطلِّقَ غَلَّق طلاقَه، كما يغلِّقُ صاحبُ الدَّيْنِ ما عليه، وهو مِن:«غَلَّق البابَ» ، فكأنه أغلقَ على نفسِه بابَ الرحمةِ بجمعِهِ الثلاثَ،
(1)
تقدم تخريجه ص (34).
(2)
واسم الكتاب كاملاً: «مطالع الأنوار، على صحاح الآثار في فتح ما استغلق من كتاب الموطأ ومسلم والبخاري وإيضاح مبهم لغاتها» تأليف: إبراهيم بن يوسف بن قرقول المُتوفَّى سنة (569) هجرية. وكتابه هذا اختصار واستدراك وتتبع لكتاب القاضي عياض «مشارق الأنوار» انظر: «كشف الظنون» (2/ 1715).
فلم يجعلْ له الشَّارعُ ذلك، ولم يُمَلِّكْهُ إيَّاه؛ رحمةً به، إنما ملَّكه طلاقاً يملك فيه الرَّجعةَ بعد الدُّخول، وحَجَرَ عليه في: وَقْتِهِ، ووضْعِه، وقَدْره:
فلم يُمَلِّكْهُ إيَّاه في وَقْتِ الحيض، ولا في وَقْتِ طُهْرٍ جامعها فيه.
ولم يُمَلِّكْهُ أنْ يُبِينَها بغير عِوضٍ
(1)
بعد الدُّخول، فيكون قد غيَّر صفةَ الكلام. وهذا عند الجمهور، فلو قال لها:«أنت طالقٌ طلقةً لا رجعةَ لي فيها، أو طلقةً بائنةً» . لغا ذلك، وثبت له الرجعة.
وكذلك لم يُمَلِّكْهُ جَمْعَ الثلاث في مرَّةٍ واحدةٍ،
بل حَجَرَ عليه في هذا وهذا وهذا، وكان ذلك مِن حُجَّة مَن لم يوقع الطَّلاقَ المحرَّم، ولا الثلاثَ بكلمة واحدة؛ لأنَّه طلاقٌ محجورٌ على صاحبه شرعاً، وحَجْرُ الشَّارعِ يمنعُ نفوذَ التصرُّفِ وصحتَه، كما يمنعُ نفوذَ التصرُّفِ في العقودِ الماليَّة، فهذه حُجَّةٌ مِن أكثرَ مِن ثلاثين حُجَّةً؛ ذكروها عَلَى كلام وقوع الطلاقِ المحجورِ على المطلِّق فيه.
(1)
كذا في الأصل! ولعلَّ الصواب: «عَوْدٍ» والله أعلم. وانظر «مسألة الطلاق بعِوض» في: «مجموع الفتاوى» (32/ 313)، و «المغني» (10/ 278)، و «حاشية ابن عابدين» (4/ 440 - 441)، و «مواهب الجليل» (4/ 18 - 19)، و «أسنى المطالب» (3/ 257).
والمقصود ههنا: أنَّ هؤلاء فسَّروا «الإغلاقَ» بجَمْعِ الثَّلاثِ؛ لكونه أَغلقَ على نفسِه بابَ الرَّحمة؛ الذي لم يغلقْهُ الله عليه إلا في المرَّة الثالثة.
وأما الآخرون؛ فقالوا: «الإغلاقُ» مأخوذٌ مِن «إغلاق الباب» ، وهو إرتاجُه وإطباقُه، فالأمرُ المغلَقُ ضِدُّ الأمرِ المنفرِجِ، والذي أُغلِقَ عليه الأمرُ ضِدُّ الذي فُرِجَ له وفُتِحَ عليه، فالمكرَهُ - الذي أُكرِهَ على أمْرٍ إنْ لم يفعلْه وإلا حَصَلَ له مِن الضَّرر ما أُكرِهَ إليه - قد أُغلِقَ عليه بابُ القصدِ والإرادةِ لما أُكرِهَ عليه، فالإغلاقُ في حَقِّه بمعنى إغلاقِ أبواب القَصْدِ والإرادة له، فلم يكن قلبُه منفتحاً لإرادة القول والفِعل الذي أُكرِهَ عليه، ولا لاختيارهما، فليس مُطْلَقَ
(1)
الإرادةِ والاختيارِ، بحيث إنْ شاءَ طلَّقَ، وإنْ شاءَ لم يطلِّقْ، وإنْ شاءَ تكلَّمَ، وإنْ شاءَ لم يتكلَّمْ، بل أُغلقَ عليه بابُ الإرادة إلا للذي قد أُكرِه عليه.
ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا يقلْ أحدُكم: اللَّهُمَّ اغفِرْ لي إنْ شئتَ، اللَّهُمَّ ارْحمني إنْ شئتَ. ولكنْ؛ ليعزمِ المسألةَ، فإنَّ الله لا مُكرِهَ له»
(2)
؛ فبيَّن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ الله لا يفعل إلا إذا شاءَ؛ بخلاف المُكْرَه الذي يفعلُ ما لا يشاؤه،
(1)
«مطلق» خبر ليس (قاسمي)، والتقدير: ليس هو مطلقَ.
(2)
رواه البخاري (7477)، ومسلم (2679) من حديث أبي هريرة.
فإنَّه لا يُقال: «يفعلُ ما يشاء» إلا إذا كان مطلقَ الدَّواعي، وهو المختار، فأما مَن أُلزِمَ بفعلٍ معيَّنٍ؛ فلا، ولهذا يُقال: المُكْرَه غير مختار، ويُجعل قَسيمَ المختارِ؛ لا قِسماً منه.
ومَن سمَّاه مختاراً، فإنَّه يعني: أنَّ له إرادةً واختياراً بالقصد الثاني؛ فإنَّه يريد الخلاصَ مِن الشَّرِّ، ولا خلاصَ له إلا بفعلِ ما أُكرِه عليه، فصار مريداً له بالقصدِ الثاني، لا بالقصدِ الأولِ.
والغضبان الذي يمنعُهُ الغضبُ مِن معرفةِ ما يقول وقَصْدِه، فهذا مِن أعظم الإغلاق، وهو في هذا الحال بمنزلة المُبَرْسَمِ والمجنون والسَّكْران، بل أسوَأُ حالاً مِن السَّكران؛ لأنَّ السَّكران لا يقتُلُ نفسَه، ولا يُلقي ولدَه مِن عُلُوٍّ، والغضبانُ يفعلُ ذلك، وهذا لا يتوجَّه فيه نِزاعٌ أنَّه لا يقعُ طلاقُه، والحديث يتناول هذا القسمَ قطعاً؛ وحينئذٍ فنقول: الغضبُ ثلاثةُ أقسامٍ
(1)
(2)
:
(1)
هذا التقسيم لشيخ الإسلام ابن تيمية كما صرَّح به المصنف نفسه في غير هذا الموضع، انظر:«إعلام الموقعين» (4/ 50)، و «زاد المعاد» (5/ 215).
(2)
بهذا التقسيم يُرَدُّ على ابن المرابط حيث قال: الإغلاق حرج النفس، وليس كل مَن وَقَعَ له فارق عقله، ولو جاز عدم وقوع طلاق الغضبان لكان لكل أحد أن يقول فيما جناه: كنت غضباناً. نقله الحافظ في: «فتح الباري» (9/ 389) ووجه الرد: أنَّ الغضب ليس على إطلاقه كما فهمه، والمرء يُديَّن في ذَلِكَ كما حققه المؤلِّفُ في الوجه الحادي عشر والرابع عشر ومواضع أخر. (القاسمي).
أحدها: أنْ يحصُلَ للإنسان مبادِئُهُ وأوائِلُهُ؛ بحيث لا يتغيَّرُ عليه عقلُه ولا ذهنُه، ويعلمُ ما يقولُ، ويَقصِدُه؛ فهذا لا إشكالَ في وقوعِ طلاقِهِ، وعتقِهِ، وصحَّةِ عقودِه، ولا سيَّما إذا وقَعَ منه ذلك بعد تردُّدِ فِكْرِه.
القسم الثاني: أنْ يبلغَ به الغضبُ نهايتَه؛ بحيث ينغلقُ عليه بابُ العِلمِ والإرادة، فلا يعلمُ ما يقولُ، ولا يريدُه؛ فهذا لا يتوجَّه خِلافٌ في عدمِ وقوعِ طلاقِه كما تقدَّم، والغضبُ غُولُ العقلِ، فإذا اغتالَ الغضبُ عقلَه، حَتَّى لم يعلمْ ما يقولُ؛ فلا ريبَ أنه لا ينفُذُ شيءٌ مِن أقوالِه في هذه الحالةِ؛ فإنَّ أقوال المكلَّفِ إنما تَنفذُ مع:
1 -
عِلْم القائلِ بصدورِها منه.
2 -
ومعناها.
3 -
وإرادته للتكلُّم
(1)
بها.
فالأول: يُخرِج النائمَ، والمجنونَ، والمُبَرْسَمَ، والسَّكْرانَ، وهذا
(2)
الغضبان.
والثاني: يُخرِجُ مَن تكلَّم باللفظِ وهو لا يعلمُ معناه ألبتَّةَ؛ فإنَّه لا يُلزَمُ مقتضاه.
(1)
«للتكلم» كذا في «مطالب أُولى النُّهى» ومطبوعة القاسمي. وفي الأصل: «للمتكلم» .
(2)
«والسكران وهذا» ساقطة من «مطالب أولي النُّهى» والعبارة فيه (5/ 323): «والمبرسم والغضبان» .
والثالث: يُخرِجُ مَن تكلَّم به مُكْرهاً؛ وإنْ كان عالماً بمعناه.
القسم الثالث: مَن توسَّط في الغضبِ بين المرتبتين، فتعدَّى مبادئَه، ولم يَنْتَهِ إلى آخرِه؛ بحيث صار كالمجنون؛ فهذا موضعُ الخِلاف، ومحلُّ النَّظرِ. والأدلَّةُ الشرعيةُ تدلُّ على عَدَمِ نفوذِ طلاقِهِ، وعِتقِه، وعقودِه التي يُعتبرُ فيها الاختيار والرِّضا، وهو فَرْعٌ مِن الإغلاق كما فسَّره به الأئمةُ، وقد ذَكرْنا دلالة الكتابِ على ذلك مِن وجوه.
وأما دلالةُ السُّنَّةِ؛ فمن وجوه:
أحدها: حديثُ عائشةَ، وقد تقدَّمَ ذِكْرُ وَجْهِ دلالته
(1)
.
الثاني: ما رواه أحمدُ والحاكمُ في «مستدركه» مِن حديث عِمران بن حُصين قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا نَذْرَ في غَضَبٍ، وكفَّارتُه كفَّارةُ يمين»
(2)
؛ وهو حديثٌ صحيحٌ،
(1)
ص (36، 37، 38، 52).
(2)
رواه أحمد (4/ 433، 439، 440) واللفظ له، والحاكم (4/ 305) ولفظه: «لا نذر في معصية
…
» ومداره على محمد بن الزُّبير الحنظلي، وهو متروك كما في «التقريب» .
وقد اختُلف عليه في متنه وإسناده.
انظر: «إرواء الغليل» (2587).