المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الكفارة لا تستلزم التكليف - إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان - ت الحفيان

[ابن القيم]

الفصل: ‌الكفارة لا تستلزم التكليف

وله طُرُقٌ

(1)

.

وَجْهُ الاستدلالِ به: أنَّه صلى الله عليه وسلم ألغى وجوبَ الوفاء بالنَّذْرِ إذا كان في حال الغضبِ، مع أنَّ الله سبحانه وتعالى أثنى على الموفين بالنذور، وأمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الناذرَ لطاعةِ الله بالوفاء بنَذْرِه وقال:«مَنْ نَذَرَ أن يطيعَ الله فَلْيُطِعْهُ، ومَنْ نَذَرَ أن يعصيَه فلا يعصِه»

(2)

؛ فإذا كان النذرُ - الذي أثنى الله على مَن أوفى به، وأَمَرَ رسولُه بالوفاءِ بما كان منه طاعةً - قد أثَّرَ الغضبُ في انعقادِه؛ لكون الغضبان لم يقصدْه، وإنَّما حَمَله عَلَى [بيانه]

(3)

الغضب؛ فالطلاقُ بطريق الأَولى والأَحرى.

فإن قيل: فكيف رتَّبَ عليه كفَّارةَ اليمين؟

قيل: تَرتُّبُ الكفَّارةِ عليه لا يدلُّ على تَرتُّبِ موجَبِهِ ومقتضاه عليه، و‌

‌الكفَّارةُ لا تستلزم التكليفَ

؛ ولهذا تجب في مال الصَّبيِّ

(1)

كذا قال هنا! وفيه نظر ظاهر.

وقال رحمه الله في «تهذيب السُّنن» (4/ 373) له: هذا حديثٌ مُختَلَفٌ في إسناده ومتنِه - كما ذكرنا - لا تقوم الحجةُ بأمثال ذلك، وقد روينا عن محمد بن إسماعيل البخاري أنه قال: محمد بن الزبير الحنظلي منكر الحديث وفيه نظر.

(2)

رواه البخاري (2532) من حديث عائشة.

(3)

في الأصل: «بيان» والمثبت من مطبوعة القاسمي.

ص: 58

والمجنون إذا قتلا صيداً أو غيرَه، وتجبُ على قاتل الصَّيْدِ ناسياً أو مخطئاً، وتجبُ على مَن وَطِئَ في نهار رمضان ناسياً عند الأكثرين؛ فلا يلزم من تَرتُّبِ الكفَّارة اعتبار كلام الغضبان. وهذا هو الذي يسمِّيه الشافعيُّ:«نَذْرَ الغَلَق»

(1)

، ومنصوصه: عدمُ وجوب الوفاء به إذا حَلَفَ به، بل يُخيَّر بينه وبين الكفَّارة. وحُكِيَ له قولٌ آخر: بتعيُّن الكفَّارة عَيناً. وقولٌ آخر: بتعيُّن الوفاء به إذا حَنَث، كما يلزمه الطَّلاقُ والعَتَاقُ. وهذا قولُ مالك

(2)

، وأشهرُ الروايتين عن أبي حنيفة

(3)

.

الثالث: ما ثَبَتَ في «الصحيح» عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبانُ»

(4)

؛ ولولا أنَّ الغضبَ يؤثِّرُ في قَصْدِهِ وعِلْمِهِ لم يَنْهَهُ عن الحُكْمِ حالَ الغضب، وقد اختَلفَ الفقهاءُ في صحَّةِ حُكْمِ الحاكمِ في حال غضبِه على ثلاثة أقوال سنذكرُها بعدُ

(5)

، إن شاء الله.

(1)

انظر: «الأم» (7/ 69)، و «روضة الطالبين» (3/ 294).

(2)

«عقد الجواهر» (1/ 543)، و «حاشية الدسوقي على الشرح الكبير» (2/ 161).

(3)

«حاشية ابن عابدين» (3/ 738، 739)، و «حاشية الطحطاوي» (1/ 456).

(4)

رواه البخاري (7158)، ومسلم (1717) من حديث أبي بكرة.

(5)

انظر ص (96).

ص: 59

فصل

وأما آثارُ الصَّحابة؛ فمِن وجوه:

أحدها: ما ذكرَه البخاريُّ في «صحيحه» عن ابن عباس أنه قال: «الطَّلاقُ عن وَطَرٍ، والعِتقُ ما يُبتغى به وَجْهُ الله»

(1)

، فَحصَرَ الطَّلاقَ فيما كان عن وَطَرٍ، وهو الغَرَضُ المقصودُ، والغضبان لا وَطَرَ له، وهذا في الطَّلاقِ عن ابن عبَّاسٍ نظيرُ قولِه وقولِ أصحابه:

(1)

ذكره البخاري تعليقاً بصيغة الجزم، كتاب الطلاق: باب الطلاق في الإغلاق والكُرْه - انظر ترجمة حديث رقم (5269).

علق القاسمي هنا: «قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» (9/ 393): «أي: أنه لا ينبغي للرجل أن يطلِّق امرأته إلا عند الحاجة كالنشوز، بخلاف العتق؛ فإنه مطلوب دائماً، والوَطَر بفتحتين: الحاجة. قال أهل اللغة: ولا يبنى منها فعل» . اهـ.

وقال المؤلف في «إعلام الموقعين» (3/ 65): «معنى قول ابن عباس: «إنما الطلاق عن وَطَر» أي: عن غرض مِن المطلِّق في وقوعه. قال: وهذا مِن كمال فقهه رضي الله عنه وإجابة دعاء الرسول له؛ إذ الألفاظ إنما يترتب عليها موجَباتها لقصد اللافظ بها؛ ولهذا لم يؤاخذنا الله باللغو في أيماننا،

وكذلك لا يؤاخذ الله باللغو في أيمان الطلاق، كقول الحالف في عُرْض كلامه: عَليَّ الطلاقُ لا أفعلُ، والطلاقُ يلزمني لا أفعلُ، من غير قصد لعقد اليمين، بل إذا كان اسم الربِّ جل جلاله لا ينعقد به يمين اللغو، فيمينُ الطلاق أَولى ألَاّ ينعقد، ولا يكون أعظمَ حُرمةً مِن الحلف بالله، وهذا أحدُ القولين في مذهب أحمد، وهو الصواب». اهـ. (القاسمي).

ص: 60

«لَغْوُ اليمين أنْ تحلِفَ وأنت غضبان»

(1)

.

الوجه الثاني: أنَّ الزُّهرِيَّ روى عن أَبانَ بنِ عُثمان، عن عُثمان؛ أنَّه رَدَّ طلاقَ السَّكْران

(2)

، ولا يُعرفُ له مخالفٌ مِن الصَّحابةِ، وهذا القول هو الصَّحيحُ

(3)

.

وهو الذي رَجَعَ إليه الإمامُ أحمدُ أخيراً:

قال في رواية أبي طالب: والذي لا يأمرُ فيه بالطَّلاقِ؛ فإنما أتى خَصْلةً واحدة، والذي يأمرُ بالطَّلاقِ؛ قد أتى خَصْلتين: حرَّمَها عليه، وأحلَّها لغيره، فهذا خيرٌ مِن هذا، وأنا أتقي جميعاً

(4)

.

وقال في رواية عبد الملك الميموني: قد كنتُ أقولُ: إنَّ طلاقَ السَّكران يجوز، حَتَّى تبيَّنتُه؛ فغلبَ عليَّ أنَّه لا يجوز طلاقه؛ لأنَّه لو أقرَّ لم يلزمه، ولو باع لم يجز بيعُه. قال: وألُزِمُهُ الجنايةَ، وما كان مِن غير ذلك فلا يلزمه

(5)

.

قال أبو بكر

(6)

: وبهذا أقول.

(1)

تقدم تخريجه ص (40).

(2)

ذكره البخاري تعليقاً بصيغة الجزم، انظر الإحالة السابقة.

(3)

انظر: «شفاء العليل» للمصنف (1/ 409).

(4)

انظر: «إعلام الموقعين» (4/ 49).

(5)

انظر: «إعلام الموقعين» (4/ 48).

(6)

هو عبد العزيز؛ غلام الخلال. كما صرَّح به في «زاد المعاد» (5/ 211).

ص: 61

وقال في رواية أبي الحارث: أرفعُ شيءٍ [فيه]

(1)

: حديثُ الزُّهْري، [عن]

(2)

أَبانَ بنِ عُثمان، عن عُثمان: ليس لمجنونٍ ولا سَكرانَ طلاقٌ

(3)

.

وهذا اختيارُ الطَّحاويِّ، وأبي الحسن الكَرْخي

(4)

، وإمامِ الحرمين، وشيخِ الإسلام ابن تيميَّة

(5)

، وأحدُ قولي الشَّافعي

(6)

(7)

.

وإذا كان هؤلاء لا يُوقِعون طلاقَ السَّكْران؛ لأنه غيرُ قاصدٍ

(1)

في الأصل: «في» . والمثبت من «مسائل الإمام أحمد» برواية صالح (674)، ورواية عبد الله (1331).

(2)

في الأصل: «بن» وهو خطأ.

(3)

«مسائل صالح» (674)، و «مسائل عبد الله» (1331).

(4)

«البحر الرائق» لابن نُجيم (3/ 266).

(5)

«مجموع الفتاوى» (33/ 102)، و «الاختيارات» ص (365).

(6)

«مختصر المزني» ص (202)، و «الوسيط» للغزالي (5/ 390).

قلت: وهو مذهب أبي يوسف، وزُفر، والمزني، وابن سُريج، ورجَّحه الغزالي كما في «الوسيط» .

(7)

قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري» (9/ 391): «وذهب إلى عَدَم وقوع طلاق السكران أيضاً - كعثمان -: أبو الشعثاء، وعطاء، وطاوُس، وعكرمة، والقاسم، وعُمر بن عبد العزيز، ذكره ابن أبي شيبة عنهم بأسانيد صحيحة، وبه قال ربيعة، والليث، وإسحاق، والمزني، واختاره الطحاوي» (القاسمي).

ص: 62

للطَّلاق - فمعلومٌ أنَّ الغضبان كثيراً ما يكون أسوأَ حالاً مِن السَّكْران.

والسُّكْرُ نوعان: سُكْرُ طَرَبٍ، وسُكْرُ غَضَبٍ؛ وقد يكون هذا أشدَّ، وقد يكون الآخرُ أشدَّ، فإذا اشتدَّ به الغضبُ حَتَّى صار كالسَّكْرَان، كان أَولى بعدمِ وقوع الطَّلاقِ منه؛ لأنه يُعْذَرُ ما لا يُعذر السَّكران، ويبلُغُ به الغضبُ أشدَّ ما يبلُغُ به السُّكْرُ؛ كما يُشاهَدُ مِن حال السَّكران والغضبان.

ص: 63

فصل

وأما الاعتبارُ وأصولُ الشريعة، فمن وجوه:

الأول: أنَّ المؤاخذةَ إنَّما ترتَّبت على الأقوالِ؛ لكونها أدلَّةَ على ما في القلبِ مِن كَسْبِه وإرادته؛ كما قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]؛ فجعل سببَ المؤاخذةِ كَسْبَ القلبِ، وكسبُه هو إرادتُه وقَصْدُه، ومَن جرى على لسانِه الكلامُ مِن غير قَصْدٍ واختيار، بل لشدَّةِ غضبٍ وسُكْرٍ، أو غير ذلك لم يكن مِن كَسْبِ قلبِه؛ ولهذا لم يؤاخِذِ الله سبحانه الذي اشتدَّ فرحُه بوجودِ راحلتِه بعد الإياس منها، فلمَّا وَجَدَها أخطأ مِن شدَّة الفَرَحِ وقال:«اللَّهُمَّ، أنتَ عبدي، وأنا ربُّكَ»

(1)

؛ فجرى هذا اللفظُ على لسانِه مِن غير قَصْدٍ، فلم يؤاخذه به كما يجري الغلطُ في القرآن على لسانِ القارئ

(2)

.

لكنْ قد يُقال: هذا قَصَدَ الصَّوابَ فأخطأَ فلم يُؤاخَذْ؛ إذْ كان قد قَصَدَ ضِدَّ ما تكلَّم به، بخلاف الغضبان إذا طَلَّقَ؛ فإنَّه قاصدٌ للطَّلاقِ.

(1)

رواه مسلم (2747)؛ من حديث أنس بن مالك.

(2)

انظر: «شفاء العليل» للمصنف (1/ 410).

ص: 64

قيل: لا كلامَ في الغضبان العالمِ بما يقول، القاصدِ المختارِ لحكمِه؛ دفعاً لمكروهِ البقاء مع الزَّوجة؛ وإنَّما الكلامُ في الذي اشتدَّ غضبُه حَتَّى ألجأه الشيطانُ إلى التكلُّمِ بما لم يكنْ مختاراً للتكلُّمِ به؛ كما يُلجِئُه إلى فِعْلِ ما لم يكن - لولا الغضبُ - يفعلُه؛ يوضِّحه:

الوجه الثاني: وهو أنَّ الإرادةَ فيه هو محمولٌ عليها، مُلْجَأٌ إليها كالمُكْرَه، بل المُكْرَهُ أحسنُ حالاً منه؛ فإنَّ له قصداً وإرادةً حقيقة، لكن هو محمولٌ عليه، وهذا ليس له قَصْدٌ في الحقيقةِ، فإذا لم يقعْ طلاقُ المُكْرَه، فطلاقُ هذا أَولى بعَدَمِ الوقوعِ

(1)

؛ يوضِّحه:

الوجه الثالث: وهو أنَّ الأمرَ الحاملَ للمُكْرَهِ على التكلُّمِ بالطَّلاقِ يشبه الحاملَ للغضبان على التكلُّمِ به؛ فإنَّ المتكلِّم مكرَهاً إنما يقصدُ الاستراحةَ مِن توقُّع ما أُكرِه به إنْ لم يباشَرْ به، أو مِن حصوله إنْ كان قد [باشر شيئاً]

(2)

منه، فيتكلَّمُ بالطَّلاقِ قاصداً لراحته مِن أَلَمِ ما أُكرِه به.

وهكذا الغضبان؛ فإنَّه إذا اشتدَّ به الغضبُ، يألم بحمله؛ فيقولُ ما يقول، ويفعل ما يفعل؛ ليدفعَ عن نفسِه حرارةَ الغضب، فيستريحُ بذلك، وكذلك يَلْطِمُ وجهَه، ويصيح صياحاً قوياً، ويشُقُّ ثيابَه،

(1)

انظر: «شفاء العليل» (1/ 410).

(2)

في الأصل: «شبه شيء»

ص: 65

ويلقي ما في يدِه؛ دفعاً لألم الغضب، وإلقاءً لحمله عنه، وكذلك يدعو على نفسِه وأحبِّ النَّاسِ إليه، فهو يتكلَّمُ بصيغةِ الطَّلَبِ والاستدعاءِ والدُّعاء، وهو غيرُ طالب لذلك في الحقيقة، فكذلك يتكلَّمُ بصيغة الإنشاءِ وهو غيرُ قاصدٍ لمعناها.

ولهذا يأمر الملوكُ وغيرُهم عند الغضب بأمورٍ يَعلمُ خواصُّهم أنَّهم تكلَّموا بها دفعاً لحرارة الغضب، وأنَّهم لا يريدون مقتضاها، فلا يمتثله خواصُّهم، بل يؤخِّرونه، فَيَحْمَدُونهم على ذلك إذا سَكَنَ غضبُهم.

وكذلك الرَّجُلُ - وقتَ شدَّةِ الغضبِ - يقومُ ليبطش بولده، أو صديقه، فيحولُ غيرُه بينه وبين ذلك، فيحمدهم بعد ذلك، كما يحمد السَّكرانُ والمحمومُ ونحوهما مَن يحول بينه وبين ما يَهُمُّ بفعلِه في تلك الحال.

الوجه الرابع: أنَّ العاقلَ لا يستدعي الغضبَ، ولا يريده، بل هو أكرَهُ شيء إليه، وهو كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«جَمْرةٌ في قلبِ ابنِ آدَمَ؛ أَمَا رأيتُمْ مِنِ احمرارِ عَيْنِهِ وانتفاخِ أودَاجِه»

(1)

.

(1)

رواه أحمد (3/ 7، 19، 61، 70)، والترمذي (2191)، وابن ماجه (2873، 4000، 4007)، والحاكم (4/ 505)، والبيهقي (7/ 91) من طريق: علي بن زيد بن جُدعان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، به، مرفوعاً في حديث طويل بليغ.

قلتُ: علي بن زيد بن جُدعان - على ضعفه - يكتب حديثه في المتابعات والشواهد، وقد تُوبع على جميع جُمَلِ هذا الحديث، وتفرَّد في سياقه بطوله مجموعاً.

قال الترمذي: هذا حديث حسن - وزاد في بعض النسخ: صحيح.

قال ابن حجر: هذا حديث حسن،

وعلي بن زيد وإنْ كان فيه ضَعْف لاختلاطه؛ لكن سياقه لهذا الحديث بطوله يدلُّ عَلَى أنَّه ضَبَطَه .... «الأمالي المطلقة» ص (164، 170).

ص: 66

والعاقلُ لا يقصدُ إلقاء الجمرةِ في قلبِه، فهو ناشئٌ فيه بغير اختيارِه، فإذا كان هو السببَ الحاملَ على التكلُّمِ بالطلاقِ وغيره؛ لم يكنْ ذلك أيضاً مضافاً إلى اختيارِه وإرادته، وهذا كما أنَّ إرادةَ السبب إرادةٌ للمسبَّبِ، فكراهةُ السببِ وبغضُه كراهةٌ للمسبَّبِ؛ يوضِّحه:

الوجه الخامس: وهو أنك تقول للغضبان - إذا اشتدَّ غضبُه؛ ففعل ما لم يكن يفعلُه؛ أو تكلَّمَ بما لم يكن يتكلَّمُ به قبل الغضب -: هل أردتَّ ذلك أو قصدتَّه؟ فَيحلِفُ أنَّه ما أرادَهُ، ولا قصَدَه، ولا كان له باختيارٍ، ويَحْلِفُ أنَّه وقع بغير اختيار. ولا تنكرْ هذا؛ فإنك تجده مِن نفسِك.

وتحقيقُ الأمر: أنَّ له فيه إرادةً هو محمولٌ عليها، حَمَلَه عليها الغضبُ، فهي كإرادة المُكْرَهِ، بل المُكْرَهُ أدخلُ في الإرادة كما تقدَّم، وهذا يدلُّ على أنَّ الغضبان أَولى بعدم الوقوع مِن المُكْرَه، يوضِّحه:

ص: 67

الوجه السادس: وهو أنَّ الخوفَ في قَلْبِ المُكْره كالغضبِ في قَلْبِ الغضبان، لكن؛ المُكْره مقهورٌ بغيرِه مِن خارج، والغضبان مقهورٌ بغضبه الداخلِ فيه، وقَهْرُ الإكراه يُبطل حُكْمَ الأقوال التي أُكره عليها، ويجعلها بمنزلة كلام النَّائمِ والمجنون، دون حُكْم الأفعال، فإنه يُقتل إذا قَتَلَ، ويَضمنُ إذا أَتلفَ. فكذلك قَهْرُ الغضبِ، يُبطل حكمَ أقوال الغضبان، دون أفعالِه، حَتَّى لو قَتَلَ في هذه الحال قُتِلَ، أو أتلفَ شيئاً ضمِنه. هذا كلُّه في الغضبان الذي يكره ما قاله حقيقةً، فأما مَن هو مريدٌ له على تقدير عَدَمِ غضبه؛ لاقتضاء سبب

(1)

ذلك فليس مِن هذا الباب، كمن زَنَتِ امرأتُه؛ فغضبَ؛ فطلَّقها؛ لأنه لا يرى المقام مع زانية، فلم يقصدْ بالطلاق إطفاءَ نارِ الغضب، بل التخلُّص مِن المقام مع زانية، فهذا يقع طلاقُه.

فتأمَّلْ هذا الفَرْقَ؛ فإنَّه حرف

(2)

المسألة ونكتتُها، وهذا بخلاف مَن خاصمتُه امرأتُه، وهو يعلمُ مِن نفسِه إرادةَ المقام معها على

(1)

في مطبوعة القاسمي: «السبب» .

(2)

«حرف» كذا بالأصل، ولعل صوابه:«سر» . (قاسمي).

قلتُ: الحرف مِن كلِّ شيءٍ: طَرَفه وشَفيره وحدّه .. وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج: 11] أي: وجه واحد. «القاموس المحيط» مادة (حرف).

ص: 68

الخصومة وسوءِ الخُلُقِ، ولكن حَمله الغضبُ على أنْ شَفَى نفسَه بالتكلُّم بالطَّلاقِ وكَسْراً لها، وإطفاءً لنارِ غضبِهِ؛ يوضِّحه:

الوجه السابع: وهو أنَّ الغضبانَ يفعلُ أموراً مِن شَقِّ الثياب، وإتلافِ المال، وغيرِ ذلك مما لو أُكره به حَتَّى يتكلَّم بالطلاق لم ينفذ طلاقُه ولَغتْ أقوالُه، فإذا فَعَلَ هو هذه الأمور عُلم أنَّ الذي ألجأه إليها أعظمُ مِن الإكراه، فإنَّ المُكره لو أُكره بها لم يفعلها، وهذا قد فَعَلها، فعُلم أنَّ المقتضي لفعلِها فيه أَولى مِن اقتضاء الإكراه لفعلِها، والمُكْره لو فعل به ذلك كان مكرهاً، فالغضبان كذلك، وهذا واضحٌ جداً.

فإنْ قيل: المكرَهُ إذا تكلَّم بما أُكرِهَ عليه، دُفع عنه الضَّررُ، والغضبانُ لا يُدفع عنه بهذا القولِ ضررٌ

(1)

؛ فليس كالمُكْرَه.

قيل: لا ريبَ أنهما يفترقان في هذا الوجه، ولكن لا يوجب ذلك أن يكون الغضبان مختاراً مريداً لما قاله أو فَعَله، بل أكرهُ شيء إليه، وهذا أمرٌ لا يمكن دَفْعُه.

فإن قيل: فما الحاملُ له على فِعْلِ ما يكرهه ويؤذيه مِن غير أن يَتَوَصَّلَ به إلى ما هو أحبُّ إليه منه؟

قيل: لما كان الغضبُ عدوَّ العقلِ، وهو له كالذئب للشَّاة،

(1)

في الأصل: «ضرراً» .

ص: 69

قلَّما يتمكَّن منه إلا اغتال عقلَه، فقصد إزالةَ الغضبِ وإطفاءَ ناره. وهذا مقصودٌ صحيحٌ في نفسِه. لكن؛ لمَّا غابَ عنه عقلُه قَصَدَ إزالةَ ذلك مما فيه ضررٌ عليه؛ ليخفِّفَ عن نفسِه ما هو فيه مِن البلاءِ، ولولا ذلك لم يفعلْ ما لا يفعلُه في الرِّضا، ولا تكلَّم بما لم يكن يتكلَّمُ به، فهو قَصَدَ أنْ يستريحَ ويسكنَ ويبردَ غضبه بتلك الأقوال والأفعال، وإنْ لم يَدفع ذلك عنه جملته

(1)

تلك الشدَّة، فإنها تخففُ وتضعف، فاقتضت رحمةُ الشَّارعِ به أن ألغى أقوالَه في هذه الحال

(2)

إذ يمكن ألَّا يترتَّب عليها أثرها، وتكون كأقوال المُبَرْسَم والمجنون الهاجر

(3)

ونحوهما، وأما الأفعال فلا يمكن إلغاءُ أثرها فرتَّب عليه موجب فِعْله.

فإن قيل: فيلزمكم على هذا: أنَّه لو حَلَفَ في هذه الحال، ألَاّ تنعقد يمينُه.

قيل: قد قال بذلك جماعةٌ مِن السَّلف والخلف، واختاره مَنْ لا يُرتاب في إمامته وجلالته، وكان يُقْرَنُ بالأئمة الكِبار: إسماعيلُ بنُ إسحاقَ القاضي.

فإن قيل: لكنِ المنقولُ عن الصحابة وجمهور التابعين والأئمة

(1)

«جملته» في مطبوعة القاسمي: «بجملته» .

(2)

«الحال» في الأصل: «للحال» .

(3)

أي: المتكلِّم بالهُجْرِ بالضم، وهو القبيح من الكلام. (قاسمي).

ص: 70

الأربعة: اعتبارُ نَذْر اللَّجَاج والغضب

(1)

، وإن تنازعوا في موجَبِهِ:

فأوجب مالكٌ، وأهلُ العراق: الوفاءَ به؛ كنذر التبرُّر

(2)

، وخيَّر الليثُ بن سعد، والشافعيُّ، وأحمد بن حنبل: بين فِعْله وبين كفَّارة اليمين.

ولم يقل أحدٌ منهم: إنه لا ينعقدُ، وإنه لغو، وقد ذكَر الله تعالى الكفَّارة في الأيمان كلِّها ولم يُحصِّلْ

(3)

منها يمينَ الغضب دون يمين الرِّضا.

(1)

نَذْر اللَّجَاج والغضب: هو أن يَمْنَع نفسه مِن فعل، أو يحثَّها عليه، بتعليق التزام قُربة بالفعل، أو بالترك، ويقال فيه: يمين اللَّجَاج والغضب والغَلَق. انظر: «المجموع» للنووي (8/ 356).

(2)

نذر التبرُّر نوعان: أحدهما: نذر المجازاة، وهو أن يلتزم قُربة في مقابلة حدوث نعمة، أو اندفاع بَلَيَّة، كقوله:«إن شفى الله مريضي فله عليَّ إعتاق» فإذا حصل المعلَّق عليه لزمه الوفاء بما التزم. النوع الثاني: أن يلتزمه ابتداء من غير تعليق على شيء، فيقول:«لله عليَّ أن أصلي»

انظر: «المجموع» (8/ 355).

والفرق بين نذر اللَّجَاج والتبرُّر: أن نذر اللَّجَاج فيه تعليق بمرغوب عنه في الجملة بالنسبة للمنع فقط. ونذر التبرُّر: يكون التعليق بمرغوب فيه.

(3)

أي: يميز؛ ومنه آية: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات: 10]. (قاسمي).

قلت: هذا إن لم تكن «يحصّل» مصحفة عن: «يجعل» .

ص: 71

قيل: نعم؛ هذا حقٌّ، ولكنَّ اليمين لما قَصَدَ صاحبُها الحضَّ أو المَنْعَ، كانت الكفَّارةُ رافعةً لما حصل بها مِن الضَّرر؛ بخلافِ الطلَاّق والعَتَاق: فإنهما إتلافٌ محضٌ لملك البُضْعِ والرَّقبة، ولا كَفَّارةَ فيهما؛ فالضَّررُ الحاصلُ بوقوعهما لا يندفعُ بكفَّارةٍ ولا غيرِها.

وكما أنَّه يُفَرَّقُ في الإكراه بين نوعٍ ونوعٍ:

فالإكراهُ يُبيح الأقوالَ عندنا وعند الجمهورِ، وكلُّ قولٍ أُكره عليه بغير حَقٍّ، فإنَّه باطلٌ، ، وأبو حنيفة يُفرِّقُ بين نوعٍ ونوعٍ.

والإكراهُ على الأفعال ثلاثةُ أنواع:

1 -

نوعٌ لا يُباح بالإكراه؛ كقتل المعصوم، وإتلاف أطرافِه.

2 -

ونوعٌ يبيحه الإكراه بشرط الضَّمان؛ كإتلاف مال المعصوم.

3 -

ونوعٌ مختَلَفٌ فيه؛ كالزنا والشُّرْب والسرقة، وفيه روايتان عن الإمام أحمد.

فما أمكن تلافيه، أُبيح بالإكراه؛ كالأقوال والأموال.

وما كان ضررُه كضررِ الإكراه، لم يُبَحْ به؛ كالقتل: فإنه ليس قَتْلُ المعصوم بحياة المُكْرَه أَولى مِن العكس.

وأما الأفعال: فالقرآنُ يدلُّ على رَفْعِ الإثم فيها؛ كقوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ

ص: 72

يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النُّور: 33]

(1)

.

الوجه الثامن: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم شَرَعَ للغضبان أن يقولَ: «أعوذُ بالله مِن الشيطانِ الرَّجيم»

(2)

، وأن يتوضَّأَ، وأن يتحوَّل عن حالتِه؛ فإنْ كان قائماً فليقعدْ، وإذا كان قاعداً فليضطجعْ

(3)

،

(1)

روى ابن جرير (18/ 133)، عن ابن عباس في الآية قال: كانوا في الجاهلية يُكْرهون إماءَهُمْ على الزنا، يأخذون أجورهنّ، فقال الله: لا تكرهوهن على الزنا مِن أجل المَنَالَةِ في الدنيا، ومن يكرههنَّ فإنَّ الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهنَّ، يعني: إذا أكرهْنَ. وعن مجاهد قال: كانوا يأمرون ولائدهم يُبَاغِين، يفعلن ذلك. فيصبن فيأتينهم بكسبهنّ، فكانت لعبد الله بن أُبَيِّ بنِ سَلُول جاريةٌ، فكانت تباغي، فكرهَتْ وحلفَتْ ألَاّ تفعله، فأكرَهَها أهلها، فانطلقت فباغت ببُرْدٍ أخضر فأتتهم به، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية.

وقوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} ليس لتخصيص النهي به وإخراج ما عداه، بل لخروجه مَخْرَجَ الأغلب، أو مخرَجَ المبالغة في الزجر، والتنبيهِ على أن المولى أحقُّ بإرادته، أو لعدم شرط التكليف إذا تخلَّف؛ لأنهنَّ إذا لم يُردن التحصُّن لم يَكْرَهن البغاء، فلا يمكنُ الإكراه عليه. أفاده الفَنَاريُّ في «فصول البدائع» (2/ 194).

وإيثار كلمة «إنْ» على «إذا» للإيذان بوجوب الانتهاء عن الإكراه عند كون إرادة التحصُّن في حيز التردُّد والشك، فكيف إذا كانت محقَّقة الوقوع. (القاسمي).

(2)

متفق عليه، وقد تقدم تخريجه ص (49).

(3)

رواه هنَّاد في «الزهد» (1309)، وأبو داود (4782)، ومن طريقه: البيهقي في «شعب الإيمان» (14/ 394) رقم (7932)، والبغوي في «شرح السُّنة» (13/ 162)، ورواه أيضاً ابن حبان (5688) كلهم من طريق أبي معاوية، حدثنا داود بن أبي هند، عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن أبي ذرٍّ قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا غضب أحدكم وهو قائمٌ فَلْيجلسْ، فإن ذهب عنه الغضب، وإلا فَلْيضطجعْ» .

قال الدارقطني: الصحيح حديث حرب بن أبي الأسود -المرسل- عن أبي ذرٍّ. «العلل» (6/ 277) رقم (1135).

قال ابن حجر: هذا حديث حسن! «الأمالي المطلقة» (ص/ 183).

قلت: وفي تحسينه نظر، قال المزيُّ:«لا يُحفظ له [أي: أبي حرب] سماع من أبي ذرٍّ» . «تحفة الأشراف» (12001) والحديث مرسل كما قال الدارقطني.

ورواه أحمد (5/ 152) عن أبي حرب بن أبي الأسود، عن أبي الأسود، عن أبي ذرٍّ، به.

أي: زاد: أبا الأسود.

قال ابن حجر: وهي زيادة غير محفوظة «الأمالي المطلقة» (ص/ 183).

فائدة: نقل الحافظ ابن حجر في «الأمالي المطلقة» نقلاً مهماً عن «العلل» للدارالقطني في ترجيح الوجه الأول، وقد سقط من المطبوع!

ورواه أبو داود (4783) ومن طريقه البيهقي في «شعب الإيمان» عن داود بن أبي هند، عن بكر، أن النبي صلى الله عليه وسلم، به. مرسلاً.

قال أبو داود: وهذا أصح الحديثين (يعني: المرسل).

ص: 73

محمولٌ عليه مِن غيرِه، وأنَّ الشيطانَ يُغضِبه ليحمِلَه بغضبه على فِعْلِ ما يحبُّه الشيطان، وعلى التكلُّمِ به.

وما يُضاف إلى الشيطان مما يكرهه العبدُ ولا يحبُّه فلا يؤاخذُ به الإنسان؛ كالوسوسة، والنِّسْيان، كما قال فتى موسى لموسى:{وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63]؛ فالله تعالى لا يؤاخذُ بالوسوسة ولا بالنسيان؛ إذْ هما مِن أَثَرِ فِعْلِ الشيطان في القلب، وقد أخبرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ الغضبَ مِن الشيطان، فيكون أثرُه مضافاً إليه أيضاً، فلا يؤاخذُ به العبدُ كأثرِ النسيان؛ فإنَّه لو حَلَفَ ألَّا يتكلَّمَ بكذا، فتكلَّم به ناسياً - لم يحنث؛ لعدم قَصْدِه وإرادته لمخالفةِ ما عَقَدَ يمينَه عليه، وإنْ كان قاصداً للكلام، فإنَّه لم يقع منه إلا بقصده وإرادته، وهذه حال الغضبان؛ فإنه لم يقصدْ حقيقةَ ما تكلَّم به وموجَبَهُ، بل جرى على لسانِه كما جرى كلامُ النَّاسي على لسانِه، بل قَصْدُ النَّاسي للتكلُّم أظهرُ مِن قَصْدِ الغضبان؛ ولهذا يقول النَّاسي:«قصدتُّ أنْ أقول كذا وكذا» ، والغضبانُ يحلِفُ أنَّه لم يقصدْ.

الوجه التاسع: أنَّ القُصُودَ في العقود معتبرةٌ في عَقْدِها كلِّها

(1)

،

(1)

قال المؤلف في «إعلام الموقِّعين» (3/ 66): إيَّاكَ أنْ تُهمل قصدَ المتكلم ونيته وعُرفه؛ فتجني عليه وعلى الشريعة، وتنسب إليها ما هي بريئةٌ منه،

وتلزم الحالف والمقر والناذر والعاقد ما لم يُلْزِمه الله ورسوله به، ففقيه النفس يقول: ما أردتَّ، ونصف الفقيه يقول: ما قلتَ، فاللغو في الأقوال نظير الخطأ والنسيان في الأفعال، وقد رَفَع الله المؤاخذة بها، وهذا كما قال المؤمنون:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البَقَرَة: 286]؛ فقال ربهم تبارك وتعالى: قد فعلتُ. اهـ. (القاسمي).

ص: 75

والغضبان ليس له قَصْدٌ معتَبَرٌ في حَلِّ عُقدة النِّكاح، كما ليس له قَصْدٌ في قَتْلِ نفسِه ووَلدِه وإتلافِ ماله؛ فإنَّه يفعلُ - في الغضب - هذا، ويقول هذا، فإذا لم يكن له قَصْدٌ معتبرٌ، لم يصحَّ طلاقُه.

فإنْ قيل: فهذا ينتقضُ عليكم بالهازل؛ فإنَّه يصحُّ طلاقُه

(1)

، وإنْ لم يكن له فيه قَصْدٌ.

قيل: الفَرْقُ بينهما أنَّ الهازلَ قَصَدَ التكلُّمَ باللفظ وأرَادَه رِضاً واختياراً منه، لم يُحملْ على التلفُّظِ به، وغايتُه: أنَّه لم يُرِدْ حكمَه وموجَبَه؛ وذلك إلى الشارع ليس إليه، فالسببُ الذي إليه قد أتى به اختياراً وقَصْداً مع عِلمه به: لم يُحْمَلْ عليه، والسبب الذي إلى المُشرِّعِ ليس إليه؛ فلا يصحُّ اعتبارُ أحدِهما بالآخر، وكيف يُقاسُ الغضبان على المُتَّخِذِ آياتِ الله هزؤاً؟ ! وهذا مِن أفسدِ القياس!

(1)

أي: على ما قاله الشافعية والحنفية، وقولٍ في مذهب أحمد، وخالف غيرهم، كما سيأتي بيانه في الوجه الثامن عشر؛ فصحة طلاقه ليس مجمعاً عليها. اهـ. (القاسمي).

ص: 76

الوجه العاشر: أنَّ الغضبَ مرضٌ مِن الأمراض، وداءٌ مِن الأدواء، فهو في أمراض القلوب نظير الحُمَّى والوسواس والصَّرَعِ في أمراض الأبدان، فالغضبانُ المغلوبُ في غضبِه كالمريضِ، والمحمومِ، والمصروعِ المغلوبِ في مرضِه، والمُبَرْسمِ المغلوبِ في بِرْسَامه. وهذا قياسٌ صحيحٌ في الغضبان الذي قد اشتدَّ به الغضبُ حَتَّى لا يعلم ما يقول، وأما إذا كان يعلم ما يقول، ولكن يتكلَّم به حَرَجاً وضيقاً وغَلَقاً، لا قَصْداً للوقوع؛ فهو يشبه المُبَرْسم والهاجر مِن الحُمَّى مِن وَجْهٍ، ويشبه المُكْره القاصد للتكلُّم مِن وَجْهٍ، ويشبه المختار القاصد للطلاق مِن وَجْهٍ، فهو متردِّد بين هذا وهذا وهذا، ولكن جهة الاختيار والقصد فيه ضعيف، فإنه يعلم مِن نفسِه أنه لم يكن مختاراً لما صَدَرَ منه مِن خراب بيته وفِراق حبيبه، وكونه يراه في يَدِ غيره، فإنْ كان عاقلاً لا يختار هذا إلا ليدفع به ما هو أكرهُ إليه منه، أو ليحصِّلَ به ما هو أحبُّ إليه، فإذا انتفى هذا وهذا لم يكن مختاراً لذلك، وهذا أمرٌ يعلمه كلُّ إنسان مِن نفسِه، فصار تردُّده بين المريضِ المغلوبِ، والمُكْرهِ، والمحمولِ على الطَّلاق، وأيُّهما كان فإنَّه لا ينفذُ طلاقُه.

فإن قيل: الفَرْقُ بينهما: أنَّ المريضَ المغلوبَ لا يملك نفسَه في الحال، والمُكْره - وإنْ مَلَكَ نفسَه - لكنه لا يملك دَفْعَ المكروه عنه، وأما الغضبان فإنه يُمكنه أنْ يملكَ نفسَه كما قال النَّبيُّ

ص: 77

صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «ليس الشَّديدُ بالصُّرَعَةِ، ولكنَّه الذي يَملِكُ نفسَه عند الغَضَبِ»

(1)

.

قيل: مِن الغضبِ ما يمكن صاحبه أنْ يملِك نفسَه عنده، وهو الغضب في مبادِئه، فإذا استحكم وتمكَّن منه لم يملك نفسَه عند ذلك، وكذلك الحزنُ الحاملُ على الجزعِ يمكن صاحبه أنْ يملِكَ نفسَه في أوَّلِه، فإذا استحكمَ وقهر لم يملك نفسَه. وكذلك الغضبُ، يمكن صاحبُه أنْ يملكَ نفسَه في أوَّلِه، فإذا تمكَّن واستولى سلطانُه على القلب؛ لم يملك صاحبُه قلبَه، فهو اختياري في أوَّلِه؛ اضطراري في نهايته، كما قال القائل:

يا عاذلي والأمرُ في يَدِهِ

هلا عَذلتَ وفي يدي الأَمْرُ

وهكذا السَّكران: سببُ السُّكر مقدورٌ له، يمكنه فِعْلُه وتَرْكُه، فإذا أتى بالسبب، خَرَجَ الأمرُ عن يدِه، ولم يملك نفسَه عند السُّكْر. فإذا كان السُّكْر الذي هو مفرِّطٌ بتعاطي أسبابه، ويقدِرُ على مَلْكِ نفسِه باجتنابها، قد عَذَرَ الصحابةُ وغيرُهم مِن الفقهاء صاحبَه إذا طلَّق في هذه الحال، مع كونه غيرَ معذورٍ في تعاطي سببه - فَلَأَنْ يُعذَرَ سكرانُ الغضبِ الذي لم يُفرِّطْ مع شِدَّةِ سُكْرِه على سُكْرِ الخمر أَولى وأَحرى.

(1)

رواه البخاري (6114)، ومسلم (2609) من حديث أبي هريرة.

قال ابن الأثير في «النهاية» (3/ 23): «الصُّرَعة - بضم الصاد وفتح الراء - المبالغ في الصِّراع الذي لا يُغلب، فنقله إلى الذي يَغلبُ نفسه عند الغضب ويقهرها» . (قاسمي).

ص: 78

الوجه الحاديْ عشَرَ: وهو أنَّ مِن النَّاسِ مَن إذا لم يُنفذْ غضبَه قَتَلَه غضبُه ومات، أو مرِضَ، أو غُشي عليه، كما يُذكرُ عن بعض العرب: أنَّ رَجُلاً سَبَّه؛ فأراد أنْ يَردَّ [على السَّابّ]

(1)

فأمسكَ جليسٌ له بيده على فَمِهِ، ثم رَفَعَ يدَه لما ظَنَّ أنَّ غضبَه قد سَكَنَ، فقال:«قتلتني! رَدَدتَ غضبي في جوفي»

(2)

. ومات مِن ساعتِه. فإذا نفذ مثل هذا غضبه بقَتْل أو ظُلم لغيره لم يُعذَرْ بذلك كالسَّكران، وأما إذا نَفذَ بقولٍ فإنَّه يمكن إهدار قوله، وألَاّ يترتَّب أثره عليه، كما أهدر الله سبحانه دعاءَه ولم يرتِّبْ أثرَه عليه، ولم يستجبه له.

ولهذا ذهب بعضُ الفقهاءِ إلى أنه لا يجلد بالقذف في حال الخصومة والغضب، وإنما يُجلد به إذا أتى به اختياراً وقَصْداً لقذفِه. وهو قولٌ قويٌ جداً، ويدلُّ عليه: أنَّ الخصم لا يُعذر

(3)

بجَرْحِه

(1)

في الأصل: «عن السباب» ، ولعل الأرجح ما أثبته كما في مطبوعة القاسمي.

(2)

أورد القصة بتمامها: المصعب الزبيري في «نسب قريش» ص (162)، ورواها ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (57/ 310) - ترجمة مروان بن عبد الملك بن مروان - ونصُّها: فأمَّا مروان، فإنَّه حجَّ مع الوليد بن عبد الملك؛ فلما كان بوادي القُرَى، جرى بينه وبين أخيه الوليد بن عبد الملك محاورةٌ، والوليدُ يومئذٍ خلفيةٌ؛ فغضب الوليد، فأَمصَّهُ؛ فتَفَوَّهَ مروان بالردِّ عليه؛ فأَمسك عمرُ بن عبد العزيز على فيهِ، فمنعه من ذلك؛ فقال لعمر:«قتلتَني! رَدَدْتَ غيظي في جوفي! » فما راحُوا من وادي القُرَى حَتَّى دفنوه.

(3)

كذا في الأصل: «لا يعذر» ثم علَّق الشيخ محمد بن مانع رحمه الله بخطه ما صورته: لعله «يعذر» و «لا» زائدة.

ص: 79

لخصمه وطَعْنِه فيه حال الخصومة بقوله: هو فاجرٌ، ظالمٌ، غاشمٌ، يحلفُ على الكذب. ونحو ذلك، ومَن يحدُّه في هذه الحال يفرِّقُ بين قَذْفِه وطلاقِه بأنَّ القذفَ حقٌّ لآدميٍّ، وانتهاكٌ لعِرضِه، أو قدحه في نفسِه، فيجري مجرى إتلاف نفسه وماله، فلا يُعذر فيه بالغضب؛ لا سيما ولو عُذر فيه بذلك لأمكن كلُّ قاذفٍ أنْ يقول: قذفتُه في حال الغضب. فيسقط الحَدُّ. بخلاف الطلاق؛ فإنه يمكن أنْ يُديَّن

(1)

فيما بينه وبين الله

(2)

، والحقُّ لا يعدوه.

والمقصودُ: أنه إذا تكلَّم بالطلاقِ دواءً لهذا المرض، وشِفاءً له بإخراج هذه الكلمة مِن صدره؛ وتنفُّسِه [بها؛ فمِن]

(3)

كمال هذه الشريعة ومحاسِنها وما اشتملت عليه مِن الرحمة والحِكمة والمصلحة ألّا يؤاخذَ بها؛ ويلزمَ بموجبها، وهو لم يلزمه

(4)

.

الوجهُ الثانيْ عشَرَ: أنَّ قاعدةَ الشَّريعة: أنَّ العوارضَ النفسيَّةَ لها تأثيرٌ في القول؛ إهداراً واعتباراً، وإعمالاً وإلغاءً، وهذا كعارضِ النسيان والخطأِ، والإكراهِ والسُّكرِ، والجنونِ والخوفِ، والحُزنِ

(1)

ديَّنته - بالتثقيل - وكلته إلى دينه، وتركته وما يدين، لم أعترض عليه. «المصباح المنير» (ص 279).

(2)

علق الشيخ محمد بن مانع ما صورته: «لكن يمكن أن يقول كل مطلق فاجر: طلقتُ حال الغضب! » .

تعقبه تلميذه الشيخ زهير الشاويش: «ليس أمامنا في مثل هذه الحال إلا تصديق القائل؛ ولو كان فاجراً. وقول شيخنا ابن مانع رحمه الله هو من التزامه الدائم التوقف عند المُفْتَى به من متأخري علماء المذهب» .

(3)

في الأصل: «بما في» والمثبت من مطبوعة القاسمي.

(4)

«يلزمه» كذا في الأصل، وفي مطبوعة القاسمي:«يلتزمه» .

ص: 80

و [الغفلةِ]

(1)

والذهولِ، ولهذا يحتمل مِن الواحد مِن هؤلاء مِن القول ما لا يحتمل مِن غيره، ويُعذر بما لا يُعذر به غيره؛ لعدم تجرُّدِ القَصْدِ والإرادة، ووجود الحامل على القول، ولهذا كان الصَّحابةُ يسألُ أحدُهم النَّاذرَ:«أفي رِضاً قلتَ ذلك أم في غضبٍ؟ »

(2)

فإن كان في غَضَبٍ أمره بكفَّارة يمين؛ لأنهم استدلوا بالغضب على أنَّ مقصودَه الحضُّ والمنعُ كالحالف، لا التقرُّب، وقد قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النِّساء: 43] فجعل عارضَ السُّكْرِ مانعاً مِن اعتبارِ قِراءة السَّكران وذِكْرِه وصلاته، كما جَعَله النبيُّ صلى الله عليه وسلم مانعاً مِن صحَّة إقرارِه لمَّا أمر باستنكاه

(3)

مَن أقرَّ بين يديه بالزنا

(4)

، وجَعَله

(1)

«الغفلة» في الأصل: «الغفاء» .

(2)

قال الأثرم: حَدَّثَنَا عبد الله بن رجاء، أنبأنا عمران، عن قتادة، عن زُرارة بن أبي أوفى، أنَّ امرأة سألت ابنَ عباس: أنَّ امرأة جعلت بُردها عليها هدياً إنْ لبسته؟ فقال ابن عباس: «في غضبٍ أم في رِضا؟ » قالوا: في غضب. قال: إنَّ الله تبارك وتعالى لا يُتقرب إليه بالغضب، لتكفِّر عن يمينها. «الفتاوى الكبرى» لابن تيمية (3/ 509).

(3)

أي: شمّ ريح فَمِهِ ليعلم أشاربٌ هو [للخمر] فيدرأ عنه حدّ الزِّنا. (قاسمي).

(4)

رواه مسلم (1695) من حديث بُريدة بن الحُصيب في قِصَّة رَجْمِ ماعز بن مالك الأسلمي.

ص: 81

مانعاً مِن تكفير مَن قال له ولأصحابهِ: «هل أنتم إلا عبيدٌ [لآبائي]

(1)

»

(2)

وجعل الله سبحانه الغضبَ مانعاً مِن إجابة الدَّاعي على نفسِه وأهله، وجعل سبحانه الإكراه مانعاً مِن كُفْرِ المتكلِّمِ بكلمة الكُفر، وجعل الخطأ والنسيانَ مانعاً مِن المؤاخذة بالقول والفعل. وعارضُ الغضب قد يكون أقوى مِن كثيرٍ مِن هذه العوارض، فإذا كان الواحد مِن هؤلاء لا يترتَّبُ على كلامِه مقتضاه؛ لعدم القصد، فالغضبانُ الذي لم يقصدْ ذلك إنْ لم يكن أَولى بالعُذر منهم لم يكن دونهم؛ يوضِّحه:

الوجهُ الثالثَ عشَرَ: أنَّ الطَّلاقَ في حالِ الغضب له ثلاثُ صُور:

أحدها: أنْ يبلغه عن امرأتِه أمرٌ يشتدُّ غضبُه لأجله، ويظنُّ أنه حقٌّ فيطلِّقُها لأجله، ثم يتبين أنَّها بريئةٌ منه، فهذا في وقوع الطَّلاقِ به وجهان، أصحهما: أنه لا يقع طلاقُه؛ لأنه إنما طلَّقها لهذا السبب، والعِلَّةُ والسبب كالشرط، فكأنه قال: إنْ كانت فعلتْ ذلك فهي طالقٌ، فإذا لم تفعله لم يوجد الشرطُ، وقد ذَكَرَ المسألةَ بعينها

(1)

في الأصل: «لأناس» ثم صُححت في الحاشية بقلم مغاير إلى: «لأبي» ولعله قلم القاسمي. والمثبت من الصحيح.

(2)

رواه البخاري (2375)، ومسلم (1979) من حديث علي بن أبي طالب.

ص: 82

أبو الوفاء ابن عَقيل. وذَكَرَ الشريفُ

(1)

ابن أبي موسى في «إرشاده»

(2)

فيما إذا قال: أنت طالق أَنْ دَخلتِ الدَّار - بفتح الهمزة - مراراً، وهو يعرف العربيةَ، ثم تبيَّن أنَّها لم تدخلْ، لم تطلق

(3)

. ولا يُقال: هو ههُنا قد صرَّحَ بالتعليل، بخلاف ما إذا لم يصرِّحْ به، فإنَّ هذا لا تأثيرَ له، فإنه قد أوقعَ الطَّلاقَ لَعِلَّةٍ، فإذا انتفتِ العِلَّةُ تبيَّنَّا أنه لم يكن مريداً لوقوعه بدونها، سواء صرَّحَ بالعِلَّةِ أو لم يصرح بها، وغايةُ الأمر أن تكون العلَّةُ بمنزلة الشرطِ، وهو لو قال: أنت طالقٌ، وقال: أردتُ «إنْ فعلت كذا وكذا» ، دُيّنَ فيما بينه وبين الله تعالى.

وقد ذَكَرَ أصحابُ الشافعيِّ

(4)

وأحمدَ

(5)

فيما إذا كاتب عبدَه على عِوَضٍ فأدَّاه إليه، فقال: أنت حُرٌّ، ثم تبيَّن أنَّ العِوض مستحقٌّ؛ لم يُعتق مع تصريحه بالحريَّة، فالطلاقُ أَولى بعدم الوقوعِ

(1)

هو محمد بن أحمد بن أبي موسى، أبو علي، الهاشمي، القاضي الحنبلي، صَنَّفَ «الإرشاد» في المذهب وغيره، وكان له مكانة عالية عند الإمامين: القادر بالله والقائم بأمر الله. تُوفِّي سنة ثمان وعشرين وأربع مِئة. «طبقات الحنابلة» (3/ 335).

(2)

ص (299).

(3)

لأنَّ هذه الصيغة للماضي من الفعل دون المستقبل، والمعنى: إنْ كنتِ دخلتِ الدارَ فأنتِ طالق.

(4)

«روضة الطالبين» (12/ 210).

(5)

«كشاف القناع» (4/ 566).

ص: 83

في هذه الصُّورة.

الصورة الثانية: أن يكون قد غَضِبَ عليها لأمرٍ قد عَلِمَ وقوعَه منها، فتكلَّم بكلمةِ الطلاقِ قاصداً للطلاقِ؛ عالماً بما يقول؛ عقوبةً لها على ذلك. فهذا يقعُ طلاقُه، إذ لو لم يقعْ هذا الطلاقُ لم يقعْ أكثرُ الطلاقِ، فإنَّه غالباً لا يقعُ مع الرضا

(1)

(2)

.

الصورة الثالثة: ألَّا يقصدَ أمراً بعينه، ولكن الغضب حَمَلَه على ذلك، وغيَّر عقلَه، ومَنَعَه كمالَ التصوُّرِ والقصدِ، فكان بمنزلة الذي فيه نوعٌ مِن السُّكر والجنون، فليس هو غائبَ العقل؛ بحيث لا يفهم ما يقول بالكلية، ولا هو حاضرَ العقل؛ بحيث يكون قصدُه معتبراً، فهذا لا يقعُ به الطلاقُ أيضاً، كما لا يقع بالمُبَرْسَم والمجنون؛ يوضِّحه:

الوجهُ الرابعَ عشَرَ: أنَّ المجنونَ والمُبَرْسَمَ والموسوَسَ والهاجرَ

(1)

«مع الرضا» في الأصل: «إلا مع الرضا» ثم ضُرب على «إلا» .

(2)

بهذا التفصيل والتحرير يُعلم سقوط ما قاله الفارسيُّ في «مجمع الغرائب» حيث رَدَّ على مَن قال: «الإغلاقُ: الغضب» . وغلَّطه في ذلك، وقال:«إن طلاق النَّاس غالباً إنما هو في حال الغضب» كما نَقَله عنه في «فتح الباري» (9/ 389).

ووجه السقوط: أن الغضب المراد من الحديث ليس علي إطلاقه، بل المراد نوع منه، كما يدلُّ التعبير عنه بالإغلاق، وتقدم لنا ص (55) مناقشة ابن المرابط بمثله. (القاسمي).

ص: 84

قد يشعُرُ أحدُهم بما قاله، ويستحي منه، وكذلك السَّكران؛ ولهذا لم يشرطْ أكثرُ الفقهاء - في كونه سكران - أنْ يُعْدَمَ تمييزُهُ بالكلية، بل قد قال الإمام أحمد وغيره: إنه الذي يخلِّطُ في كلامِه، ولا يَعرف رِداءَه مِن رِداءِ غيره، وفِعْلَه مِن فِعلِ غيره

(1)

. والسُّنةُ الصَّريحة الصحيحةُ تدلُّ عليه، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمرَ أنْ يُسْتَنْكه

(2)

مَنْ أقرَّ بالزنا

(3)

، مع أنه حاضرُ العقلِ والذِّهنِ، يتكلَّمُ بكلامٍ مفهومٍ ومنتظمٍ، صحيحُ الحركة، ومع هذا فجوَّزَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يكون به سُكْرٌ يحول بينه وبين كمال عقلِه وعلمه، فأمر باستنكَاهِهِ

(4)

.

والمقصودُ: أنَّ هؤلاء ليسوا مسلوبي التمييز بالكليَّةِ، وليسوا كالعقلاء الذين لهم قَصْدٌ صحيحٌ، فإنَّ ما عَرَضَ لهم أوجب تَغيُّرَ العقلِ الذي مَنَعَ صحةَ القصد، فلم يبقَ أحدُهم يقصِدُ قَصْدَ العقلاءِ الذي مرادُه جَلْبُ ما ينفع، ودَفْعُ ما يضرُّ، فلم يتصور أحدُهم لوازمَ ما تكلَّم به ولا غابَ عقلُه عن الشعور به، بل هو ناقص التصور؛ ضعيف القصد، والغضبانُ في حال غضبه قد يكون أسوأ حالاً مِن

(1)

«المغني» (7/ 290).

(2)

في الأصل: «يستكنه» .

(3)

تقدم تخريجه ص (81).

(4)

«باستنكاهه» في الأصل: «باستنكاه» والمثبت من مطبوعة القاسمي.

ص: 85

هؤلاء، وأشبه بالمجانين، ولهذا يقول ويفعل ما لا يقوله المجنون ولا يفعله.

فإنْ قيل: فهل يُحْجَرُ عليه في هذا الحال؛ كما يُحجر على المجنون؟

قيل: لا، والفَرْقُ بينهما: أنَّ هذه الحال

(1)

لا تدوم، فهو كالذي يجنُّ أحياناً نادراً، ثم يفيق، فإنَّه لا يُحجر عليه. نعم، لو صَدَرَ منه في تلك الحال قولٌ عن غير قَصْدٍ منه؛ كان مثل القول الصَّادر عن المجنون في عدم ترتُّبِ أثره عليه، ولا ريب أنَّه قد يحصُل للغضبان إغماءٌ وغشي - وهو في هذه الحال غير مكلَّف قطعاً - كما يحصُل ذلك للمريض فيزيلُ تكليفَه حالَ الإغماء، حَتَّى إن بعض الفقهاء لا يوجبُ عليه قضاء الصَّلاةِ في هذه الحال إلحاقاً بالمجنون؛ كما يقوله الشافعيُّ

(2)

.

وأحمدُ يوجب عليه القضاء إلحاقاً له بالنائم

(3)

.

(1)

«الحال» كذا في الأصل، في هذا الموضع وفي المواضع التالية لاحقاً. في حين جعلها القاسمي في مطبوعته:«الحالة» .

(2)

«المجموع» للنووي (3/ 6، 7) وهو اختيار شيخنا محمد بن صالح العثيمين رحمه الله انظر: «الشرح الممتع» (2/ 19).

(3)

«المغني» (2/ 50، 51).

ص: 86